القول في نسبة الاشتقاق والرد على من أنكره
قال أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (ت: 337هـ) :( اعلم أن للناس في الاشتقاق ثلاثة أقوال: فأما الخليل وسيبويه وأبو عمرو بن العلاء وأبو الخطاب وعيسى بن عمر والأصمعي وأبو زيد وأبو عبيدة والجرمي وقطرب والمازني والمبرد والزجاج وسائر من لم نسمه من البصريين من أهل اللغة فإنهم يقولون: بعض الكلام مشتق وبعضه غير مشتق، وبعضه غير مشتق، لأنه محال أن يكون كله مشتقًا إذا كان لا بد للمشتق من أصل ينتهي إليه غير مشتق لأنه لو كان كل مشتق له أصل آخر اشتق منه إلى ما لا نهاية لوجب من ذلك وجود ما لا يتناهى موقوفًا عند آخره بوجود الكلمة التي يقال إنها مشتقة وهذا محال.
وجميع ما ذكرنا من أهل اللغة قد تكلم في الاشتقاق أما في كتاب له مفرد بالاشتقاق أو في عرض كلامه في اللغات والتصاريف والأبنية والجموع وما ينصرف وما لا ينصرف والمقصور والممدود والمهموز وسائر ذلك مما لا بد لهم فيه من المقايسة وذكر
الأصول والزوائد والملحق وغير الملحق وما أشبه ذلك.
وزعمت طائفة من متأخري أهل اللغة أن الكلام كله مشتق، وليس هؤلاء من الأولين ولا يقوم بأعيانهم مشهورين ولا في ذلك كتاب مصنف، ولا هو قول إمام متقدم وإنما قول المتعسفين من متأخري أهل اللغة. وفساده بين واضح كما ذكرنا.
وقد زعم جماعة أن أبا إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج كان يعتضد هذا المذهب ويقول: الكلام كله مشتق ويشنعون بذلك عليه ويضعون عليه حكايات باطلة ومعاذ الله من ذلك. وكلامه في ذلك واضح بين في كتابه الكبير في الاشتقاق، وذلك أنه يبتدئ بالباب في مسألة ويجعلها أصلاً ويرد إشكالها إليها ويلحق نظائرها بها. فلو كان عنده أن الكلام كله مشتق ما جاز أن يعقد له أصلاً يرد إليه غيره إذا كان ذلك الأصل أيضًا عنده مشتقًا.
وإنما قال ذلك القول على الزجاج من زعمه لأنه قصد أشياء كثيرة هي عند غيره غير مشتقة فاعتقد أنها مشتقة من غيرها وتكلم فيها وأراهم كيف وجه اشتقاقها بالمقاييس التي يوافقونه عليها. فأما أن يكون عنده الكلام كله مشتق فمحال ولم يقوله.
وزعم بعضهم أن سيبويه كان ممن يرى أن الكلام كله مشتق وتعلق بكلام له في كتابه في قوله إن مثل النجم والسماك والدبران وابن الصعق وما أشبه ذلك صفات لأسماء غلبت عليها لأسباب حدثت [و] اشتق لها منها هذه الأسماء ثم نقلت فإن ورد علينا ما نعرفه ولا يعرف اشتقاقه فإنما ذلك لأنه قد ذهب من كان يعرف معانيها أو لأن الأول الواضع كان عنده من العلم بذلك ما لم يصل إلينا، فقالت هذه الطائفة: الكلام كله مشتق وإن ورد علينا ما لا نعرف اشتقاقه فالسبب فيه
ما قال سيبويه وادعوا عليه أنه كان يقصد مذهبهم بهذا الكلام الذي قدمنا ذكره عنه.
وهذا لا يدل على أن سيبويه كان يعتقد ما ذهبوا إليه لأنه إنما تكلم عن جنس من الأسماء مشتقة بان له اشتقاقها ووضح وتكلم عليه ثم قال: فقد وضح بما ذكرنا أن هذا الجنس من الأسماء إنما وقع في كلامهم معرفًا بالألف واللام نعتًا مشتقًا وإنه إن ورد من هذا الجنس ما لا يعرف اشتقاقه فللعلة التي ذكرها ولا يوجب أن يحكم عليه أنه كان يعتقد أن الكلام كله مشتق.
ونظير هذا من مذهبه قوله: كل اسم في أوله همزة وهو بها على أربعة أحرف فإنه يحكم على الهمزة بالزيادة نحو: أحمر وأصفر وأخضر. قال: وإنما حكمنا عليها بالزيادة إلا أن يجيء أمر يوضح أنها أصلية من اشتقاق أو تصريف لكثرة ما وجدناها زائدة أولاً. ولم يمنعه هذا من أن يوجد اسم في أوله همزة أصلية وهو على أربعة أحرف نحو: أفكل، وأيدع، وأرطى في أحد القولين بدليل قام له على ذلك من اشتقاق وغيره.
وكذلك يقول في الميم إذا كانت أولاً فيما عدته بها أربعة أحرف نحو: مضرب ومدخل وما أشبه ذلك، يحكم عليها أبدًا بالزيادة حتى يقوم دليل على أنها أصلية كما بان له ذلك في «مهدد» و«مأجج» وما أشبه ذلك.
وذهب قوم من أهل النظر إلى أن الكلام كله أصل وليس منه شيء اشتق من غيره. وليس أحد من أهل اللغة الأعلام المشهورين يقول بذلك، ولا من النحويين الأئمة فيما انتهى إلينا من مذاهبهم، ورويناه من كتبهم، والحكايات عنهم، وفيما شاهدنا من يخبر عنهم ينكر أن يكون في كلام العرب اشتقاق ما وإن بعضه يرد إلى أصول منه تفرعت، وبعضه غير مشتق ولا مأخوذ من غيره، وإنما يدفع الاشتقاق قوم من أهل الجدل كما ذكرت لك ولم يذهبوا في ردهم ذلك مذاهب أهل اللغة، ولا قال القائلون بالاشتقاق من جهة الرادين لذلك، ولا زعموا ما ادعوه عليهم ولا مذهبهم فيه المذهب الذي أفسدوا منه صحة الاشتقاق، وذلك أن الرادين
للاشتقاق استدلوا على بطلانه بأن قالوا: إن العرب تتكلم بطباعها ولم تعرف الاشتقاق ولا الإعراب، ولو كان العربي يشتق الكلام ويتعمل الإعراب مستدلاً ومستنبطًا لاحتاج إلى موقف على ذلك، واحتاج الذي قبله إلى آخر إلى ما لا نهاية، وهذا محال فكل واحد منهم إنما يتكلم بطبعه لولا ذلك ما كان حجة يلزم قبول قوله، فهذه حجة من دفع الاشتقاق وأنكره.
والقول في ذلك أنا لا نقول: إن العرب قالت لبعض الكلام هذا مشتق من هذا، وهذا غير مشتق لبعضه كما إنها لم تقل: إن بعض الكلام مستحق للرفع لعلة ما فنحن نرفعه لذلك، وبعضه مستحق للخفض وبعضه للنصب وبعضه للجزم، ولا عرفت هذه الألقاب، ولا ما يجر مما يرفع، ولا سائر تلك الوجوه. ولو قيل لبعض الأعراب الأقحاح: ما حرف الخفض؟ وكم الحروف الناصبة للأفعال والجازمة لها؟ ما دري ماذا يقال له، ولا عن أي شيء يسأل. ولو سئل عن حكمة لتكلم بها مصيبًا فيها جهة إعرابها غير مخطئ.
وكذلك أيضًا لو قيل له: أتقول إن بعض كلامكم مشتق وبعضه غير مشتق؟ لما درى عن أي شيء يسأل. وقد قيل لبعضهم: كيف يقولون: «إنا من المجرمون منتقمين»؟ وغير له الإعراب فقال: كما قلت: «إنا من المجرمين منتقمون». فتكلم بالصواب ولم يقع له أن الملقن له تكلم بالصواب. وسمع آخر رجلاً يقول: «على فلان لعنة الله» بالنصب. فقال: ويحه أما يكفيه واحدة؟ ظن أن القائل ثنى اللعنة فقال: «عليه لعنتا الله» واللفظ بذلك يستوي لهذاب ألفين في وصل الكلام، فهذا غير مدفوع ولا معترض عليه.
ولكنا نقول: إن المتكلمين بهذه اللغة – أعني لغة العرب – على ثلاثة أصناف فصنف منهم يتكلمونها غير عارفين بأوضاعها وأسبابها وحكمتها سوى النطق بها عادة فقط، وآخرون أضافوا إلى النطق بها ومشاركة الأولين في اعتياد النطق بها ضربًا من العلم بها والفحص والكشف عنها، وحفظ غرائبها وشاذها. والدليل على صحة ما قلنا
إنهم لو كانوا كلهم شرعًا واحدًا في باب النطق، ولم يكن هناك من ضم إلى نطقه علمًا، لكانوا كلهم متساوين في المعرفة بها لأن ما يدرك طبعًا لا يقع فيه تفاضل، في هذه اللغة بضرب لا يعم الجميع ويختص بعضهم بما هو غير عام في جميعها من الآخر، وأن الكلمة من الغريب قد ترد على من لا يعرفها منهم، وقد ترد على من يعرفها. وقد كان منهم من يرجع إليه ويسأل عنه، فلولا أن عند المرجوع إليه في ذلك علمًا من جهة الحفظ والاستنباط لتساووا كلهم فيه. وكذلك أيضًا نجد منهم من يقول الشعر ويرجز ويسجع، وليس ذلك في جميعهم. وقد علمنا أن من قال منهم ذلك فإنما قاله طبعًا وعادة لا تكلفًا إلا إنه لم يشركه في ذلك الجميع فقد بان لنا أنهم يتفاضلون في هذه اللغة بضرب لا يعم الجميع ويختص بعضهم بما هو غير عام في جميعها.
وصنف ثالث ممن تكلم بهذه اللغة تعليمًا وأخذًا واتباعًا للأولين طلبوا مقاييسها لأنهم لم يمكنهم ضبطها وحصرها حفظًا، ولا كان ذلك متيسرًا أن يؤخذ كل لفظ عنهم سماعًا فبعضها عرفوه بالاعتياد والعرف والنشوء عليه صغارًا وكبارًا حتى صاروا فيه كالمطبوعين المعتادين لأنهم لم يتكلموا بغير هذا اللسان قط. وبعض عرفوه بالاستدلال والمقاييس من رفع الفاعل ونصب المفعول والخفض بالحروف الخافضة والجزم بالجازمة وما أشبه ذلك مما أدرك من كلامها استنباطًا وتعلمًا لأنه لم يسمع أحد من العرب اسم كل فاعل ومفعول، ولا بناء كل مصدر وجمع وإنما سمع بعضًا وقاس بعضًا فأصاب، ولم يخرج عن أوضاعهم، وشهد بصحة ذلك موافقته لما جاء في أشعارهم وأراجيزهم وأسجاعهم، وما جاء في القرآن العربي المبين. وهذه الطائفة هم علماء هذه اللغة الذي عنوا بحفظها وجمعها ونقلها وتتبعها والفحص عن أسرارها فصاروا أئمة في هذا العلم قدوة يحتج بقولهم فيها كما يحتج بقول الأولين المطبوعين، وواجب الرجوع إليهم فيها، كما أن لكل علم علماء وأعلامًا ينتهي إليهم فيه ويقبل عنهم، فكذلك هؤلاء لما تدبروا هذه اللغة وعرفوا حقائقها وما خصها الله به من الفضلية على كل لغة ميزوا بين بعض الكلام وبعض، فقالوا: إن منه أصولاً أسماء للأشخاص والأعيان الأول واقعة أولاً للفصل بين بعضها وبعض نحو: رجل، وفرس، وثوب، وعين، وقدر، وما أشبه ذلك.
ومنها أسماء وضعت أعلامًا اتفاقًا يدل كل اسم منها على شخص بعينه نحو: زيد وجعفر وبكر وما أشبه ذلك. ولم يجب أن تقع فيها مشاركة، فلما طال الزمان وقعت المشاركة اتساعًا، ووقع الفصل بالنعوت.
ومنها أسماء مبهمة ومضمرة وفصلوا سائر أنواع الأسماء.
ومنها أسماء مشتقة مأخوذة من الأفعال نحو أسماء الفاعلين والمفعولين مثل: ضارب، ومضروب، وراكب، ومركوب، ومتضرب، ومستضرب، ومتضارب وما أشبه ذلك مما يدل على أنه مأخوذ من فعل مشتق وبني عليه.
ومنها الجموع والتثنية التي استدلوا على كونها ثواني للآحاد بما في دليل العقول على ذلك.
ومنها أسماء رأوا فيها حروفًا تسقط في حال وتثبت في حال أخرى فعلموا أن لها أصلاً لا زائد فيه منه أخذت. ثم نظروا في الأسماء الأعلام فعلموا أنها ثواني بعض النكرات فرأوا أكثرها من الأسماء قد سبقتها في التنكير فنقلت إلى التعريف فدلت عقولهم على أن التنكير قبل التعريف فتكلموا فيه في اشتقاق ما عرفوه من تلك الأسماء.
ومنها أسماء تحدث في أوان لأسباب موجبة فرأوا لها أسماء مشتقة من معان قد تقدمتها، وهذا في الشريعة والدين والقرآن موجود. منها: الدين فإن العرب لم تكن تعرفه قبل الإسلام أنه على ما أتت به الشريعة، وقد كانت تعرف للدين وجوهًا منها: أنها تعرف أن الدين الطاعة، والدين الجزاء، والدين العبادة، والدين الملك فعلموا إن الدين [الذي] يطالبون باعتقاده والعمل به هو الانقياد لأمر الله لأنه أحد تلك الأوجه التي قد عرفوها فعقلوا ما خوطبوا به وإن كان فيه فضل معنى عرفوه بعد ذلك بأن وافقوا عليه.
وكذلك الصلاة إنما كانت تعرفها [العرب] الدعاء فقط ثم قيل لهم: سموا هذا النوع من الفعل صلاة. وليس لأحد أن يزعم أن العرب كانت تفعل الصلاة على ما تدين به اليوم، فلما وقفت على ذلك سميت صلاة. فهذا اسم موضوع لمعنى أوجبه على أصل من أصولهم قد تقدمه فليس باسم لم يزالوا به عارفين، فهذا تأويل الاشتقاق.
وكذلك الزكاة إنما كانت تعرفه العرب التكثير للشيء فتقول: زكا الشيء: إذا كثر وزاد ثم تعبدوا بأن قيل لهم سموا ما يرصد من أموالكم طاعة لله زكاة لأنكم إذا فعلتم ذلك زاد الله في أموالكم وبارك فيها وكثرها، فسميت زكاة لما يكون بعقبها من الزيادة والنماء في المال. فهذا هو معنى الاشتقاق من أن يوضع شيء مستأنفًا على أصل سابق له. وكيف يكون في الاشتقاق شيء أوضح من هذا.
وكذلك الصيام: كانت العرب تعرف كل ممسك عن فعل ما صائمًا ثم قيل لهم سموا الإمساك عن المأكول والمشروب نهارًا صيامًا وخصوه به لأنهم قد عرفوا أن الصيام إمساك ما. وصار هذا الاختصاص الثاني موضوعًا على الأول. ولو تعبدوا بالإمساك عن ذلك ليلاً لكان أيضًا يقال له صيام لأنه إمساك. ولذلك صارت الزكاة والصلاة وما أشبه ذلك مخصوصة بما وصفت له مطلقة، فإذا نقلت منه قرنت بغيره.
وكذلك الكفر كانت العرب تعرفه تغطية الشيء وستره فقيل لهم: سموا من خالف أمر الله ونبيه ولم يؤمن بهذه الشريعة خاصة كافرًا، فعقلوا ما خوطبوا به من معنى الكفر لأن الكفر إذا كان عندهم الستر فمعقول إنه مراد به أن الكافر ساتر نعم الله عليه أو ما عرفه من توحيد.
وكذلك المشرك والفاسق والمجرم والظالم والمؤمن والمسلم كل هذه أسماء مشتقة في الإسلام موضوعة على أصول متقدمة لها قد عرفها من خوطب بها.
وكذلك القرآن ليس لأحد أن يزعم أن العرب كانت تعرفه اسمًا لهذا الكتاب، بل كانت تعرف معنى القرء الذي منه أخذ القرآن فقيل لهم: هذا هو القرآن فعرفوه.
فقرآن: اسم لهذا الكتاب خاصة موضوع على معنى قد عرفه العرب من لفظة كانت تستعملها قبله. فقد بان أنها لفظة مشتقة من أصل متقدم.
وكذلك الوضوء للصلاة أصله النظافة، والتيمم أصله التعمد، والتغوط أصله إتيان الغائط: وهو المكان الغامض المطمئن من الأرض. والحش أصله البستان، والكنيف أصله الساتر ومثل هذا كثير جدًا نظر فيه وفي أمثاله العلماء باللغة فعرفوا أصوله واشتقاقه وتكلموا عليه لا أن العرب كانت تتعمد في كلامهم تعلم الإعراب وتصريف الاشتقاق وإنما نقول: إن العرب كانت تتكلم بهذا الكلام طبعًا على جهة العادة الجارية مجرى الطبع لأن المطبوع على الشيء لا يمكنه الانتقال عنه، ولكن قد يقال لبعض العادات طبع لأنها تجري مجراه في أكثر أحوالها. ألا ترى أن العربي القح لو نزل بعض بلاد العجم وأقام فيه سنتين لتعلم من كلامهم وتكلم به افتراه انتقل طبعه؟ بل تغيرت عادته. ألا ترى أبا مهدية – وكان أعرابيًا يأخذ منه أبو عمرو بن العلاء وأمثاله بالبصرة – لما سمع كلام العجم [قال].
يقولون لي شنبذ ولست مشنبذًا = طوال الليالي ما أقام ثبير
ولا قائلاً زوذًا لا عجل صاحبي = وبستان في صدري علي كبير
فقد تكلم بكلام العجم كما تراه حاكيًا له.
وقد جاءت ألفاظ من كلام العجم في أشعار الفصحاء من العرب نحو الأعشى والعجاج ورؤبة وغيرهم. ولهذه العلة فسدت لغات من خالط من الأعراب أهل الحضر لأنهم سمعوا كلام غيرهم فاختلط عليهم كلامهم. ولو كانوا مخلوقين على النطق
بكلامهم خلقة لما أمكنهم الانتقال عنه، ولكن في طبع الإنسان النطق وأن يتكلم بكلام ما فهو يتكلم بكلام من نشأ بينهم ويعتاده حتى يصير كالمنطبع عليه. فإن انتقل إلى قوم آخرين كان جائزًا أن يتكلم بكلامهم كما ترى الواحد منا يتكلم بألسنة كثيرة، وهذا بين واضح.
ولا بد لمن نظر في العربية من معرفة الاشتقاق والقول به ضرورة في ما ينصرف وما لا ينصرف، وفي التصاريف والجموع والمصادر، مثال ذلك: أن يقال لمنكر الاشتقاق القائل بالعربية والمدعي العلم بها، والملتزم مذاهب العلماء بها في ذلك أن يقول: إن واو مضروب وميمه وألف ضارب زوائد أم أصول؟ فإن قال هي أصول ولا زوائد في هذين الاسمين خالف جميع النحويين وأهل اللغة، وخرج إلى طريقة من لا يكلم لأنه غير سالك مذاهب القوم، ولكنا نقوده ضرورة إلى أن يقر بزيادتها فنقول له: فما وزن مضرون وضارب عندك إن كانت حروفهما كلها أصولاً فمثله بما يكون أصلاً؟ ولن يجد سبيلاً إلى تمثيل ذلك لأنه ليس في كلام العرب اسم على وزن ضارب ومضروب وحروفه أصول كلها فيمكنه إلحاقها به.
وإن قال: أقول إن واو مضروب وميمه زائدتان وألف ضارب زائدة. قيل له: أفتقول إن الزائد قبل الأصلي أو الأصلي قبل الزائد؟ ولا سبيل له إلى إدعاء سبق الزائد للأصلي، فيلزمه أن يقول: الأصلي سابق للزائد. فقد بان أن ضاربًا ومضروبًا مشتقان من شيء سابق لهما لا زائدة فيه، وهو الذي اشتقا منه.
ونسأله مثل ذلك في ظريف وعجوز ومستضرب ومتضارب وضراب ومضراب وكريم وما أشبه ذلك من الصفات المشتقة من الأفعال. ونقول له أيضًا في مثل: حسان، وتبان، وشيطان، ودهقان أتصرفه أم لا؟ فإن قال: ما أصرف هذه الأسماء كلها. قيل له: خالفت العرب والنحويين أجمعين لأنهم قد أجمعوا على أن هذه الأسماء إن أخذت من الحس، والتب، والتشيط، والدهق كانت غير مصروفة في المعرفة لزيادة الألف والنون فيها، وإن أخذت من التبن، والحسن، والشيطنة، والدهقنة كانت مصروفة في النكرة والمعرفة لأن النون فيها أصلية.
وإن قال: لا أصرفها. قيل له: فقد فعلت بها العرب والعلماء خلاف ذلك. وأعدنا عليه الكلام. وهذا إجماع العرب على ما سمع منهم ونقل عنهم، ولا خلاف فيه بين العلماء أجمعين. وإنما يسأل عن هذه المسائل من كان من أهل العربية واعتقد أحد المذهبين وتكلم عليه. وكذلك نسأله عن مثل ذلك في عريان، وسكران، وسلمان، وعلياء، وخرباء، وحمراء، وبيضاء، وخضراء، ورمان، ومران وما أشبه ذلك. ونقول له: كيف تعمل فيها أتصرف كلها؟ فيكون مخالفًا للعرب أجمعين أو يترك صرفها كلها فيكون أيضًا مخالفًا. فإن تكلم في أصولها وبين ما ينصرف منها على كل حال وما ينصرف في حال دون حال، وما لا ينصرف على حال لم يمكنه ذلك إلا بالاشتقاق وردها إلى أصولها وتصريفها ليبين له ذلك.
وكذلك نسأله عن جمع سلطان، وسرحان، وسكران، ومصران، وعثمان وما أشبه ذلك. وهل يجمع بينها أو يفرق؟ فإن جمع بينها خالف العرب أجمعين والنحويين كلهم. وإن فرق بينها طولب بعلة فرقان، ولن يجد السبيل إلى ذلك إلا بالاشتقاق.
فإن قال: أرجع في ذلك إلى المسموع من العرب لم يمكنه ذلك لأنه ليس كل هذا النوع من الجموع وما جرى مجراها مسموعًا من العرب منقولاً كلمة كلمة حتى لا يغادر منه شيء، وإنما سمع بعضه فقيس الباقي عليه. فإن ادعى رواية ذلك حرفًا حرفًا وكلمة كلمة طولب بالكتاب الذي يوجد فيه ذلك، وبالناقل له والراوي، ولن يجد إلى ذلك سبيلاً لأنه أكثر من أن يؤتي عليه حرفًا وكلمة كلمة، وما ادعى هذا أحد قط.
ونسأله أيضًا عن وزن درية وسرية والنبي وما أشبه ذلك. فإن تكلم فيه قال بالاشتقاق لأن لكل واحد من هذه الأسماء وجوهًا وضروبًا يمكن رده إليها وليس يمكنه القطع على بعضها دون بعض إلا باشتقاق يليق به، وإن لم يتكلم في شيء من ذلك سقط كلامه لأنا إنما نخاطب على الاشتقاق والتصاريف وعللها على صحة الاشتقاق أنه قد عرف بعض العرب الاشتقاق وعقله وجاء [في] أشعارهم.
من ذلك قول حسان بن ثابت الأنصاري في النبي صلى الله عليه وسلم:
وشق له من اسمه ليعزه = فذو العرش محمود وهذا محمد
نبي أتانا بعد يأس وفترة = من الرسل والأوثان في الأرض تعبد
فأرسله فينا سراجًا وهاديًا = يلوح كما لاح الحسام المهند
فأخبرنا أن الفضائل والتقى = وما طاب من شيء إلى الله يصعد
وأنذرنا نارًا وبشر جنة = وعلمنا الإسلام فالله نحمد
فأنت إله الخلق ربي وخالقي = بذلك ما عمرت في الناس أشهد
تعاليت رب الناس عن قول من دعا = سواك إلاهًا أنت أعلى وأمجد
لك الخلق والنعماء والأمر كله = فإياك نستهدي وإياك نعبد
لأن ثواب الله كل موحد = جنان من الفردوس فيها يخلد
فقال حسان: شق له من اسمه محمدًا: فاخبر أن اسمًا مشتق من آخر وصرح به، وأنشده النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب والصحابة فلم ينكره النبي عليه السلام، ولا قال له أحد: ما معنى الاشتقاق فإنا لا نعرفه ولا نفعله؟ بل تقلوه بالقبول فدل ذلك على أن من العرب من كان يعرف الاشتقاق، كما أن فيهم من عرف الأقواء والإبطاء والسناد في الشعر ومنهم من لم يكن يعرفه. وذلك معروف فيها في خبر الذبياني وبشر بن أبي خازم وما كان منهما في إنكار الإقواء حتى وقفا عليه. وقد قال بعضهم:
وسميت غياظًا ولست بغائظ = عدوًا ولكن الصديق تغيظ
فأخبر أن غياظًا وغائظًا من الغيظ. وقد قال بعضهم: «إنما سميت هانئًا لتهنأ».
وقد نقل هذا المعنى في الاشتقاق المحدثون من الشعراء وإن كانوا ليس بحجة إلا أن فعلهم لذلك دليل على أنهم اتبعوا ما وجدوا للعرب فيه مسلكًا، كما أنهم سلكوا في أوزان الشعر ورسومه مذاهبهم حتى ولدوا من ذلك المطابقة في الشعر وهي في أشعار المتقدمين قليلة إلا أنهم لما وجدوا لها رسمًا متقدمًا تبعوه.
وقد كان من العرب من إذا ضرب امرأته المخاض خرج على وجهه فإذا استقبله شيء سمى ولده به فلذلك تسموا بالنمر والأسد والكلب وما أشبه ذلك. وقد كانوا أيضًا يسمون أولادهم بالأسماء البشعة ومماليكهم بالأسماء الحسنة، ويقولون: أسماء أولادنا لأعدائنا وأسماء مماليكنا لنا. وقد ذكر أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد في كتابه الكبير في الاشتقاق من هذه الأسماء ما يكثر تعداده ويدل جميع هذا على أنها قد كانت تسمى في بعض الأحوال بأسماء سابقة [لها] أصول تنقلها وتسمى بها. ومن ذلك في الإسلام تسمية أبي بكر بالصديق وعمر بالفاروق. ولا يمكن لأحد أن يدعي أن هذا غير مشتق لأن أبا الصديق سمي بذلك لكثرة تصديقه النبي صلى الله عليه وسلم. و«فعيل» من أبنية المبالغة، وكذلك عمر سمي بالفاروق لأنه فرق الله بإسلامه بين الكفر والإسلام وكان الإسلام قبل إسلامه ضعيفًا والمسلمون يعبدون الله سرًا، فقال عمر: لا يعبد الله سرًا. وجاهر المشركين بذلك. فهذا معنى الاشتقاق في القرآن والشريعة والدين والآثار، وهو المذهب الذي نحاه أهل العربية وقاسوا عليه، كما طلبوا مقاييس النحو والعروض والقوافي وغير ذلك من علوم العرب.
وأما إنكار نفطويه للاشتقاق [فقد] مضى من القول في ذلك عليه وعلى غيره ما فيه كفاية، ولكنا نقول لنفطويه خاصة إنه قد ناقض وقال بالاشتقاق هو نفسه ضرورة. فإن كان قال برد الاشتقاق ثم رجع عنه فذاك، وغلا فقد ناقض وكفى بمناقضته دليلاً على بطلان ما ذهب إليه من ذلك، وذلك أنه في كتابه «في أمثال القرآن» تكلم في الاشتقاق ورد كثيرًا من الكلام إلى أصل واحد فقال في قوله: {لا يذوقون فيها بردًا ولا شرابًا} قال الفراء: البرد: النوم، وحكى: منع البرد البرد، يعني: «منع البرد النوم». ثم قال نفطويه: والبرد عند العرب: الراحة، فالمعنى: لا يذوقون فيها راحة ولا شرابًا، والنوم: الراحة، أفلا تراه كيف رد النوم إلى معنى الراحة وجعلها الأصل؟ فهذا هو الاشتقاق. وقال نفطويه في هذا الكتاب أيضًا – أعني كتاب الأمثال – في قوله عز وجل: {لن يجدوا من دونه موئلا} أي: ملجأ يقال: «وأل الرجل يئل» أي: لجأ. وبها سمي الرجل وائلاً. قال القطامي:
من صالحوه رأي في عيشه دعة = ولا ترى من أرادوا ضره يئل
أي: ينجو. فما تكون مناقضة أعجب من هذا ألا تراه كيف قال: وبهذا سمي الرجل وائلاً. فكيف يضم إلى هذا نفي الاشتقاق؟ وقال في هذا الكتاب أيضًا في قوله عز وجل: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} أي: من ضيق. وروى أن عمر بن الخطاب – رحمه الله – قرأ عنده قارئ: {ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجا} فقال: ايتوني باعرابي بدوي، فأتي بغلام قال له: ما الحرج فيكم؟ فقال: الشجر الملتف لا تصل إليه الشمس. فقال عمر: كذلك قلب الكافر ضيق لا يصل إليه شيء من الخير. فأي شيء في الاشتقاق يكون أبين من هذا؟ وتشبه عمر قلب الكافر بالحرج وجعله ذلك هو الأصل. فهذا اشتقاق في القرآن عن عمر رضوان الله تعالى عليه في حكاية نفطويه عنه. ولو أن ذلك الغلام الأعرابي سمع صفة القلب ضيقًا حرجًا لفهمه للأصل المتقدم عندئذ لم يستنكره، ولا احتاج إلى السؤال إلى معناه كما احتاج إليه عمر رضي الله عنه. ويجوز أن يكون عمر عالمًا بذلك فأراد زيادة بيان علمه، ويجوز أن يكون غير عالم به فقد قال للنبي صلى الله عليه وسلم في أشياء من اللغة لم يعرفها ففسرها له.
وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما علمت معنى فاطر السموات حتى اختصم أعرابيان في بئر فقال أحدهما: أنا والله فطرتها.
وقال نفطويه أيضًا في قوله عز وجل: {فإن للذين ظلموا ذنوبًا مثل ذنوب أصحابهم} أي: لهم نصيب من الحياة كما كان لمن قبلهم فلا يستعجلون. فإن لهم أمدًا وغاية ينتهون إليها.
قال نفطويه: والذنوب: النصيب عند العرب، ولذلك قيل للدلو ذنوب لأن فيها حظًا من الماء ونصيبًا، وهذا هو الاشتقاق كما ترى.
وقال أيضًا في قوله عز وجل: {من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ} قال: الكيد: الحيلة والاجتهاد وبهذا قيل للحرب كيد لأن فيها الحيلة والاجتهاد. ويقال: «تركته يجود بنفسه ويكيد بنفسه». وهذا اشتقاق متعسف فيه أيضًا وما أظن كثيرًا من أصحاب الاشتقاق يتعسفون فيه هذا التعسف. فكيف يكون القائل بهذا القول منكرًا للاشتقاق؟ وهذا كتاب له في القرآن كبير مشهور، وهو الموضع الذي سبيل الكلام فيه أن يكون بالحقائق، وبما يعتقد صحته دينًا ومذهبًا وسماعًا، فقد تكلم فيه من أوله إلى آخره بالاشتقاق في المواضع التي ساغ له فيها الاشتقاق.
وقال أيضًا في قوله عز وجل: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} الخطف: الأخذ في استلاب وسرعة، ومنه {يكاد البرق يخطف أبصارهم} وأنشد لزهير:
يركض عند الذنابي وهي جاهدة = يكاد يخطفها طورًا وتهتلك
فجعل الأخذ باستلاب في الخطف أصلاً، وجعل خطف البرق مردودًا إليه كما ترى.
وقال أيضًا في قوله عز وجل: {إن تتبعون إلا رجلاً مسحورًا} تأويله: قد غلب عليه السحر. وقال ابن الأعرابي: يقال أرض مسحورة: إذا أفسدها المطر فكأنه قيل: رجل مفسد بالسحر، وقيل: مسحور: له سحر. وهي الرئة أي هي مخلوقة كخلقكم. وقال الفراء: المسحر: المعلل، وأنشد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا = عصافير من هذا الأنام المسحر
يعني: الذين يعللون بالطعام والشراب. كما قال امرؤ القيس:
أرانا موضعين لأمر حتم = ونسحر بالطعام وبالشراب
وهذا كله اشتقاق كما ترى.
وقال في قوله عز وجل: {نسوق الماء إلى الأرض الجرز} قال: الأرض الجرز: التي لا تنبت شيئًا، ومنه سيف جراز: يأتي على كل شيء ورجل جرز: كثير الأكل يأتي على كل شيء، فجعل كما ترى الأصل الأرض الجرز ورد عليها ما سواها من لفظها ومعناها، وهو قول الاشتقاق.
وقال في قوله عز وجل: {فاصدع بما تؤمر} أي: افرق بين الحق والباطل. ومن ذلك قوله عز وجل: {يومئذ يصدعون} أي: يفترقون. وقال جرير:
أعاذل مالي لا أرى الحي ودعوا = وبانوا على نياتهم وتصدعوا
ألا تراه جعل الأصل قوله: {فاصدع بما تؤمر} أي افرق، ثم رد عليه قوله: {يومئذ يصدعون} بقوله: ومن ذلك قوله: {يومئذ يصدعون}.
وقال في قوله عز وجل: {مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا} قال: الأسفار: الكتب واحدها سفر، سمي بذلك لأنه يسفر عما في نفس كاتبه أي: يكشفه ويبينه، ومن ذلك قيل: «سفرت المكان»: أي كشفته بالتنظيف له. وبهذا سمي المسافر لأنه يفارق المسكن والبيت ويظهر للبادية والطروق. ويقال للرسول بين القوم سفير وسافر لأنه يظهر ويكشف لبعضهم عن بعض. فهذا هو الاشتقاق، ورد بعض الكلام إلى بعض.
وهذا الكتاب – أعني كتاب الأمثال لنفطويه في القرآن – مشهور معروف، وفيه هذا الذي ذكرته لك، وأكثره على هذا، ولولا كراهة الإطالة لبينت كل ما فيه من هذا النوع، ولكن من نظر فيه وقف على ما ينبه عليه. وأما ما روي عنه من قوله برد الاشتقاق فيما يصح مع هذا إلا أن يكون قد رجع عنه أو ناقض كما ترى.
ومن دفع الاشتقاق فقد خرج عن مذاهب أهل اللغة في الجموع، والمصادر، وما ينصرف وما لا ينصرف، والتصريف، وأزال عن نفسه مرونة النعت في تحصيل هذه الأشياء ومعرفة حقائقها المحتاج فيها إلى الاشتقاق).
[اشتقاق أسماء الله: 277-292]