التمكين والتوشيح والإيغال والتصدير
قالَ مُحَمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ بَهَادرَ الزَّرْكَشِيُّ (ت: 794هـ): (السادس: اعلم أن من المواضع التي يتأكد فيها إيقاع المناسبة مقاطع الكلام وأواخره وإيقاع الشيء فيها بما يشاكله فلا بد أن تكون مناسبة للمعنى المذكور أولا وإلا خرج بعض الكلام عن بعض.
وفواصل القرآن العظيم لا تخرج عن ذلك لكن منه ما يظهر ومنه ما يستخرج بالتأمل للبيب.
وهي منحصرة في أربعة أشياء:
1-التمكين.
2-والتوشيح.
3-والإيغال.
4-والتصدير.
والفرق بينها: أنه إن كان تقدم لفظها بعينه في أول الآية سمي تصديرا وإن كان في أثناء الصدر سمي توشيحا وإن أفادت معنى زائدا بعد تمام معنى الكلام سمي إيغالا وربما اختلط التوشيح بالتصدير لكون كل منهما صدره يدل على عجزه والفرق بينهما أن دلالة التصدير لفظية ودلالة التوشيح معنوية.
الأول التمكين: وهو أن تمهد قبلها تمهيدا تأتي به الفاصلة ممكنة في مكانها مستقرة في قرارها مطمئنة في موضعها غير نافذة ولا قلقة متعلقا معناها بمعنى الكلام كله تعلقا تاما بحيث لو طرحت اختل المعنى واضطرب الفهم.
وهذا الباب يطلعك على سر عظيم من أسرار القرآن فاشدد يديك به.
ومن أمثلته:
1- قوله تعالى {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً}، فإن الكلام لو اقتصر فيه على قوله: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} لأوهم ذلك بعض الضعفاء موافقة الكفار في اعتقادهم أن الريح التي حدثت كانت سبب رجوعهم ولم يبلغوا ما أرادوا وأن ذلك أمر اتفاقي فأخبر سبحانه في فاصلة الآية عن نفسه بالقوة والعزة ليعلم المؤمنين ويزيدهم يقينا وإيمانا على أنه الغالب الممتنع وأن حزبه كذلك وأن تلك الريح التي هبت ليست اتفاقا بل هي من إرساله سبحانه على أعدائه كعادته وأنه ينوع النصر للمؤمنين ليزيدهم إيمانا وينصرهم مرة بالقتال كيوم بدر وتارة بالريح كيوم الأحزاب وتارة بالرعب كبني النضير وطورا ينصر عليهم كيوم أحد تعريفا لهم أن الكثرة لا تغني شيئا وأن النصر من عنده كيوم حنين
2- ومنه قوله تعالى {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ} فانظر إلى قوله في صدر الآية التي الموعظة فيها سمعية {أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} ولم يقل أولم يروا وقال بعد ذكر الموعظة: {أَفَلا يَسْمَعُونَ} لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع أو أخبار القرون وهو كما يسمع وكيف قال في صدر الآية التي موعظتها مرئية: {أَوَلَمْ يَرَوْا} وقال بعدها أفلا يبصرون لأن سوق الماء إلى الأرض الجرز مرئي.
3- ومنهقوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}
فإنه لما تقدم ذكر العبادة والتصرف في الأموال كان ذلك تمهيدا تاما لذكر الحلم والرشد لأن الحلم الذي يصح به التكليف والرشد حسن التصرف في الأموال فكان آخر الآية مناسبا لأولها مناسبة معنوية ويسميه بعضهم ملاءمة.
4- ومنه قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
فإنه سبحانه لما قدم نفي إدراك الأبصار له عطف على ذلك قوله: {وَهُوَ اللَّطِيفُ} خطابا للسامع بما يفهم إذ العادة أن كل لطيف لا تدركه الأبصار ألا ترى أن حاسة البصر إنما تدرك اللون من كل متلون والكون من كل متكون فإدراكها إنما هو للمركبات دون المفردات ولذلك لما قال {وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ} عطف عليه قوله الخبير مخصصا لذاته سبحانه بصفة الكمال لأنه ليس كل من أدرك شيئا كان خبيرا بذلك الشيء لأن المدرك للشيء قد يدركه ليخبره ولما كان الأمر كذلك أخبر سبحانه وتعالى أنه يدرك كل شيء مع الخبرة به وإنما خص الإبصار بإدراكه ليزيد في الكلام ضربا من المحاسن يسمى التعطف ولو كان الكلام لا تبصره الأبصار وهو يبصر الأبصار لم تكن لفظتا {اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} مناسبتين لما قبلهما.
5- ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} إلى قوله {لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} إنما فصل الأولى بـ {لطيف خبير} لأن ذلك في موضع الرحمة لخلقه بإنزال الغيث وإخراج النبات من الأرض ولأنه خبير بنفعهم وإنما فصل الثانية بـ {غني حميد} لأنه قال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي لا لحاجة بل هو غني عنهما جواد بهما لأنه ليس غنى نافعا غناه إلا إذا جاد به وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليه واستحق عليه الحمد فذكر الحمد على أنه الغني النافع بغناه خلقه وإنما فصل الثالثة بـ{رؤوف رحيم} لأنه لما عدد للناس ما أنعم به عليهم من تسخير ما في الأرض لهم وإجراء الفلك في البحر لهم وتسييرهم في ذلك الهول العظيم وجعله السماء فوقهم وإمساكه إياها عن الوقوع حسن ختامه بالرأفة والرحمة.
ونظير هذه الثلاث فواصل مع اختلافها:
1-قوله تعالى في سورة الأنعام {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ } الآيات.
2-وقوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فقال الغني الحميد لينبه على أن ما له ليس لحاجة بل هو غني عنه جواد به وإذا جاد به حمده المنعم عليه إذ حميد كثير المحامد الموجبة تنزيهه عن الحاجة والبخل وسائر النقائض فيكون غنيا مفسرا بالغنى المطلق لا يحتاج فيه لتقدير غني عنه.
3-ومنه قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} لما كان سبحانه هو الجاعل الأشياء على الحقيقة وأضاف إلى نفسه جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة صار الليل كأنه سرمد بهذا التقدير وظرف الليل ظرف مظلم لا ينفذ فيه البصر لاسيما وقد أضاف الإتيان بالضياء الذي تنفذ فيه الأبصار إلى غيره وغيره ليس بفاعل على الحقيقة فصار النهار كأنه معدوم إذ نسب وجوده إلى غير موجد والليل كأنه لا موجود سواه إذ جعل سرمدا منسوبا إليه سبحانه فاقتضت البلاغة أن يقول {أَفَلا تَسْمَعُونَ} لمناسبة ما بين السماع والظرف الليلي الذي يصلح للاستماع ولا يصلح للإبصار.
وكذلك قال في الآية التي تليها: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ} لأنه لما أضاف جعل النهار سرمدا إليه صار النهار كأنه سرمد وهو ظرف مضيء تنور فيه الأبصار وأضاف الإتيان بالليل إلى غيره وغيره ليس بفاعل على الحقيقة فصار الليل كأنه معدوم إذ نسب وجوده إلى غير موجد والنهار كأنه لا موجود سواه إذ جعل وجوده سرمدا منسوبا إليه فاقتضت البلاغة أن يقول {أَفَلا تُبْصِرُونَ} إذ الظرف مضيء صالح للإبصار وهذا من دقيق المناسبة المعنوية.
4-ومنه قوله تعالى في أول سورة الجاثية: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإن البلاغة تقتضي أن تكون فاصلة الآية الأولى للمؤمنين لأنه سبحانه ذكر العالم بجملته حيث قال {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ومعرفة الصانع من الآيات الدالة على أن المخترع له قادر عليم حكيم وإن دل على وجود صانع مختار لدلالتها على صفاته مرتبة على دلالتها على ذاته فلا بد أولا من التصديق بذاته حتى تكون هذه الآيات دالة على صفاته لتقدم الموصوف وجودا واعتقادا على الصفات.
وكذلك قوله في الآية الثانية {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإن سر الإنسان وتدبر خلقة الحيوان أقرب إليه من الأول وتفكره في ذلك مما يزيده يقينا في معتقده الأول
وكذلك معرفة جزئيات العالم من اختلاف الليل والنهار وإنزال الرزق من السماء وإحياء الأرض بعد موتها وتصريف الرياح يقتضي رجاحة العقل ورصانته لنعلم أن من صنع هذه الجزئيات هو الذي صنع العالم الكلى التي هي أجرامه وعوارض عنه ولا يجوز أن يكون بعضها صنع بعضا فقد قام البرهان على أن للعالم الكلى صانعا مختارا فلذلك اقتضت البلاغة أن تكون فاصلة الآية الثالثة {لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وإن احتيج إلى العقل في الجميع إلا أن ذكره هاهنا أنسب بالمعنى الأول إذ بعض من يعتقد صانع العالم ربما قال إن بعض هذه الآثار يصنع بعضا فلا بد إذا من التدبر بدقيق الفكر وراجح العقل
5-ومنه قوله تعالى حكاية عن لقمان: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.
6-ومنه قوله تعالى: {أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
والمناسبة فيه قوية لأن من دل عدوه على عورة نفسه وأعطاه سلاحه ليقتله به فهو جدير بأن يكون مقلوب العقل فلهذا ختمها بقوله {أَفَلا تَعْقِلُونَ}
وهذه الفاصلة لا تقع إلا في سياق إنكار فعل غير مناسب في العقل نحو قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ}،لأن فاعل غير المناسب ليس بعاقل.
وقوله تعالى: {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} ختم بصفة العلم إشارة إلى الإحاطة بأحوالنا وأحوالكم وما نحن عليه من الحق وما أنتم عليه من الباطل وإذا كان عالما بذلك فنسأله القضاء علينا وعليكم بما يعلم منا ومنكم.
فصل:
وقد تجتمع فواصل في موضع واحد ويخالف بينها، وذلك في مواضع:
1-منها في أوائل النحل، وذلك أنه سبحانه بدأ فيها بذكر الأفلاك فقال {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} ثم ذكر خلق الإنسان فقال: {مِنْ نُطْفَةٍ}. وأشار إلى عجائب الحيوان فقال: {وَالأَنْعَامِ} ثم عجائب النبات فقال {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
فجعل مقطع هذه الآية التفكر لأنه استدلال بحدوث الأنواع المختلفة من النبات على وجود الإله القادر المختار.
وفيه جواب عن سؤال مقدر وهو أنه لم لا يجوز أن يكون المؤثر فيه طبائع الفصول وحركات الشمس والقمر؟ ولما كان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال لا جرم كان مجال التفكر والنظر والتأمل باقيا إنه تعالى أجاب عن هذا السؤال من وجهين:
أحدهما : أن تغيرات العالم الأسفل مربوطة بأحوال حركات الأفلاك فتلك الحركات حيث حصلت فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم التسلسل وإن كان من الخالق الحكيم فذلك الإقرار بوجود الإله تعالى وهذا هو المراد بقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، فجعل مقطع هذه الآية العقل والتقدير كأنه قيل إن كنت عاقلا فاعلم أن التسلسل باطل فوجب انتهاء الحركات إلى حركة يكون موجدها غير متحرك وهو الإله القادر المختار.
والثاني : أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة واحدة ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد أحد وجهيها في غاية الحمرة والآخر في غاية السواد فلو كان المؤثر موجبا بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت في الآثار فعلمنا أن المؤثر قادر مختار وهذا هو المراد من قوله: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ}.
كأنه قيل: قد ذكرنا ما يرسخ في عقلك أن الموجب بالذات والطبع لا يختلف تأثيره فإذا نظرت إلى حصول هذا الاختلاف علمت أن المؤثر ليس هو الطبائع بل الفاعل المختار فلهذا جعل مقطع الآية التذكر.
تنبيه:
من بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدث عنه واحد لنكتة لطيفة وذلك قوله تعالى في سورة إبراهيم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
ثم قال في سورة النحل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
قال القاضي ناصر الدين بن المنير في تفسيره الكبير كأنه يقول إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها فحصل لك عند أخذها وصفان كونك ظلوما وكونك كفارا ولي عند إعطائها وصفان وهما أني غفور رحيم أقابل ظلمك بغفراني وكفرك برحمتي فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوفير ولا أجازي جفاءك إلا بالوفاء. انتهى
وهو حسن لكن بقي سؤال آخر وهو، ما الحكمة في تخصيص آية النحل بوصف المنعم وآية إبراهيم بوصف المنعم عليه؟
والجواب: أن سياق الآية في سورة إبراهيم في وصف الإنسان وما جبل عليه فناسب ذكر ذلك عقيب أوصافه وأما آية النحل فسيقت في وصف الله تعالى وإثبات ألوهيته وتحقيق صفاته فناسب ذكر وصفه سبحانه فتأمل هذه التراكيب ما أرقاها في درجة البلاغة.
ونظيره: قوله تعالى في سورة الجاثية: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}
وفى فصلت: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}
وحكمة فاصلة الأولى أن قبلها: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فناسب الختام بفاصلة البعث لأن قبله وصفهم بإنكاره وأما الأخرى فالختام بها مناسب أي لأنه لا يضيع عملا صالحا ولا يزيد على من عمل شيئا.
ونظيره: قوله في سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} ختم الآية مرة بقوله: {فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} ومرة بقوله: {ضَلالاً بَعِيداً} لأن الأول نزل في اليهود وهم الذين افتروا على الله ما ليس في كتابه والثاني نزل في الكفار ولم يكن لهم كتاب وكان ضلاهم أشد
وقوله في المائدة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ذكرها ثلاث مرات وختم الأولى بالكافرين والثانية بالظالمين والثالثة بالفاسقين فقيل لأن الأولى نزلت في أحكام المسلمين والثانية نزلت في أحكام اليهود والثالثة نزلت في أحكام النصارى.
وقيل: ومن لم يحكم بما أنزل الله إنكارا له فهو كافر ومن لم يحكم بالحق مع اعتقاد الحق وحكم بضده فهو ظالم ومن لم يحكم بالحق جهلا وحكم بضده فهو فاسق.
وقيل الكافر والظالم والفاسق كلها بمعنى واحد وهو الكفر عبر عنه بألفاظ مختلفة لزيادة الفائدة واجتناب صورة التكرار ، وقيل غير ذلك.
تنبيه:
عكس هذا اتفاق الفاصلتين والمحدث عنه مختلف كقوله تعالى في سورة النور {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إلى قوله {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
ثم قال: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
قال ابن عبد السلام في تفسيره في الأولى عليم بمصالح عباده حكيم في بيان مراده وقال في الثانية عليم بمصالح الأنام حكيم ببيان الأحكام ولم يتعرض للجواب عن حكمة التكرار.
تنبيه:
حق الفاصلة في هذا القسم تمكين المعنى المسوق إليه كما بينا ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
ووجه مناسبته أن بعث الرسول تولية والتولية لا تكون إلا من عزيز غالب على ما يريد وتعليم الرسول الحكمة لقومه إنما يكون مستندا إلى حكمة مرسله لأن الرسول واسطة بين المرسل والمرسل إليه فلا بد وأن يكون حكيما فلا جرم كان اقترانهما مناسبا.
وقوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
وجه المناسبة في الحكم محمول على قول مجاهد: إن من حضر الموصي فرأى منه جنفا على الورثة في وصيته مع فقرهم فوعظه في ذلك وأصلح بينه وبينهم حتى رضوا فلا إثم عليه وهو غفور للموصي إذا ارتدع بقول من وعظه فرجع عما هم به وغفرانه لهذا برحمته لا خفاء به والإثم المرفوع عن القائل يحتمل أن يكون إثم التبديل السابق في الآية قبلها في قوله تعالى {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ} يعني من الموصي أي لا يكون هذا المبدل داخلا تحت وعيد من بدل على العموم لأن تبديل هذا تضمن مصلحة راجحة فلا يكون كغيره .
وقد أشكل على ذلك مواضع:
1-منها قوله تعالى: {إنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
فإن قوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ} يوهم أن الفاصلة الغفور الرحيم وكذا نقلت عن مصحف أُبَيّ رضي الله عنه وبها قرأ ابن شنبوذ ولكن إذا أمعن النظر علم أنه يجب أن يكون ما عليه التلاوة لأنه لا يغفر لمن يستحق العذاب إلا من ليس فوقه أحد يرد عليه حكمه فهو العزيز لأن العزيز في صفات الله هو الغالب من قولهم عزه يعزه عزا إذا غلبه ووجب أن يوصف بالحكيم أيضا لأن الحكيم من يضع الشيء في محله فالله تعالى كذلك إلا أنه قد يخفى وجه الحكمة في بعض أفعاله فيتوهم الضعفاء أنه خارج عن الحكمة فكان في الوصف بالحكيم احتراس حسن أي وإن تغفر لهم مع استحقاقهم العذاب فلا معترض عليك لأحد في ذلك والحكمة فيما فعلته.
قيل: وقيل لا يجوز الغفور الرحيم لأن الله تعالى قطع لهم بالعذاب في قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ}.
وقيل لأنه مقام تبر فلم يذكر الصفة المقتضية استمطار العفو لهم وذكر صفة العدل في ذلك بأنه العزيز الغالب.
وقوله: {الْحَكِيمُ} الذي يضع الأشياء مواضعها فلا يعترض عليه إن عفا عمن يستحق العقوبة.
وقيل: ليس هو على مسألة الغفران وإنما هو على معنى تسليم الأمر إلى من هو أملك لهم.
ولو قيل فإنك أنت الغفور الرحيم لأوهم الدعاء بالمغفرة ولا يسوغ الدعاء بالمغفرة لمن مات على شركه لا لنبي ولا لغيره وأما قوله {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وهم عباده عذبهم أو لم يعذبهم فلأن المعنى إن تعذبهم تعذب من العادة أن تحكم عليه وذكر العبودية التي هي سبب القدرة كقول رؤبة:
يا رب إن أخطأت أو نسيت ..... فأنت لا تنسى ولا تموت
والله لا يضل ولا ينسى ولا يموت أخطأ رؤبة أو أصاب فكأنه قال إن أخطأت تجاوزت لضعفي وقوتك ونقصي وكمالك.
ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة براءة: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
والجواب ما ذكرناه.
ومثله قوله تعالى في سورة الممتحنة: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
ومثله في سورة غافر في قول السادة الملائكة: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
ومنه قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} فإن الذي يظهر في أول النظر أن الفاصلة تواب رحيم لأن الرحمة مناسبة للتوبة وخصوصا من هذا الذنب العظيم ولكن هاهنا معنى دقيق من أجله قال: {حَكِيمٌ} وهو أن ينبه على فائدة مشروعية اللعان وهى الستر عن هذه الفاحشة العظيمة وذلك من عظيم الحكم فلهذا كان حكيم بليغا في هذا المقام دون رحيم.
ومن خفي هذا الضرب قوله تعالى في سورة البقرة: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
وقوله في آل عمران: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإن المتبادر إلى الذهن في آية البقرة الختم بالقدرة وفى آية آل عمران الختم بالعلم لكن إذا أمعن النظر علم أنه يجب أن يكون ما عليه التلاوة في الآيتين .
وكذلك قوله تعالى: {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } مع أن ظاهر الخطاب ذو عقوبة شديدة وإنما قال ذلك نفيا للاغترار بسعة رحمة الله تعالى في الاجتراء على معصيته وذلك أبلغ في التهديد ومعناه لا تغتروا بسعة رحمة الله تعالى في الاجتراء على معصيته فإنه مع ذلك لا يرد عذابه عنكم.
وقريب منه: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً}
وأما قوله تعالى:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فمناسبة الجزاء للشرط أنه لما أقدم المؤمنون وهم ثلاثمائة وبضعة عشر على قتال المشركين وهم زهاء ألف متوكلين على الله تعالى وقال المنافقون: {غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ} حتى أقدموا على ثلاثة أمثالهم عددا أو أكثرهم قال الله تعالى ردا على المنافقين وتثبيتا للمؤمنين: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في جميع أفعاله.
وأما قوله تعالى{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً}
فإن قيل: ما وجه الختام بالحلم والمغفرة عقيب تسابيح الأشياء وتنزيهها أجاب صاحب الفنون بثلاثة أوجه:
أحدها: إن فسرنا التسبيح على ما درج في الأشياء من العبر وأنها مسبحات بمعنى مودعات من دلائل العبر ودقائق الإنعامات والحكم ما يوجب تسبيح المعتبر المتأمل فكأنه سبحانه يقول إنه كان من كبير إغفالكم النظر في دلائل العبر مع امتلاء الأشياء بذلك وموضع العتب قوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} كذلك موضع المعتبة قوله: {وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وقد كان ينبغي أن يعرفوا بالتأمل ما يوجب القربة لله مما أودع مخلوقاته بما يوجب تنزيهه فهذا موضع حلم وغفران عما جرى في ذلك من الإفراط والإهمال.
الثاني : إن جعلنا التسبيح حقيقة في الحيوانات بلغاتها فمعناه الأشياء كلها تسبحه وتحمده ولا عصيان في حقها وأنتم تعصون فالحلم والغفران للتقدير في الآية وهو العصيان وفي الحديث: ((لولا بهائم رتع وشيوخ ركع وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صبا)).
الثالث: أنه سبحانه قال في أولها: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} ، أي أنه كان لتسابيح المسبحين حليما عن تفريطهم غفورا لذنوبهم ألا تراه قال في موضع آخر: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} وكأنها اشتملت على ثلاثة معان إما العفو عن ترك البحث المؤدي إلى الفهم لما في الأشياء من العبر وأنتم على العصيان أو يريد بها الأشياء كلها تسبحه ومنها ما يعصيه ويخالفه فيغفر عصيانهم بتسابيحهم.
تنبيه:
قد تكون الفاصلة لا نظير لها في القرآن كقوله تعالى عقب الأمر بالغض في سورة النور: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} وقوله عقب الأمر بطلب الدعاء والإجابة: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} وقيل فيه تعريض بليلة القدر أي لعلهم يرشدون إلى معرفتها.
وإنما يحتاجون للإرشاد إلى ما لا يعلمون فإن هذه الآية الكريمة ذكرت عقب الأمر بالصوم وتعظيم رمضان وتعليمهم الدعاء فيه وأن أرجى أوقات الإجابة فيه ليلة القدر.
الثاني التصدير: كقوله تعالى: {لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى}
وقوله: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً}
وقوله: {خُلِقَ الأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ}
وقوله: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ}
وقوله: {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}
وقوله: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}
وقوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} فجعل لفاصلة: {يَزِرُونَ} لجناس: {أَوْزَارَهُمْ} وإنما قال: {عَلَى ظُهُورِهِمْ} ولم يقل على رءوسهم لأن الظهر أقوى للحمل فأشار إلى ثقل الأوزار.
وقوله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً}
وقوله: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ}
وقوله: {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً}
وقوله: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}
الثالث: التوشيح: ويسمى به لكون نفس الكلام يدل على آخره نزل المعنى منزلة الوشاح ونزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يجول عليهما الوشاح ولهذا قيل فيه إن الفاصلة تعلم قبل ذكرها.
وسماه ابن وكيع المطمع لأن صدره مطمع في عجزه كقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} فإن معنى اصطفاء المذكورين يعلم منه الفاصلة إذ المذكورون نوع من جنس العالمين.
وقوله: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} فإنه من كان حافظا لهذه السورة متيقظا إلى أن مقاطع فواصلها النون المردفة وسمع في صدر هذه الآية: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} علم أن الفاصلة مظلمون فإن من انسلخ النهار عن ليلة أظلم ما دامت تلك الحال.
وقوله {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} فإن قوله: {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} يدل على التقسيم.
وقوله: {أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
الرابع الإيغال: وسمى به لأن المتكلم قد تجاوز المعنى الذي هو آخذ فيه وبلغ إلى زيادة على الحد يقال أوغل في الأرض الفلانية إذا بلغ منتهاها فهكذا المتكلم إذا تم معناه ثم تعداه بزيادة فيه فقد أوغل كقوله تعالى أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون فإن الكلام تم بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} ثم احتاج إلى فاصلة تناسب القرينة الأولى فلما أتى بها أفاد معنى زائدا.
وكقوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} فإن المعنى قد تم بقوله: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ} ثم أراد أن يعلم تمام الكلام بالفاصلة فقال: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}
فإن قيل: ما معنى: {مُدْبِرِينَ} وقد أغنى عنها: {وَلَّوْا} قلت لا يغني عنها: {وَلَّوْا} فإن التولي قد يكون بجانب دون جانب بدليل قوله: {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} وإن كان ذكر الجانب هنا مجازا ولا شك أنه سبحانه لما أخبر عنهم أنهم صم لا يسمعون أراد تتميم المعنى بذكر توليهم في حال الخطاب لينفى عنهم الفهم الذي يحصل من الإشارة فإن الأصم يفهم بالإشارة ما يفهم السميع بالعبارة ثم إن التولي قد يكون بجانب مع لحاظه بالجانب الآخر فيحصل له إدراك بعض الإشارة فجعل الفاصلة: {مُدْبِرِينَ} ليعلم أن التولي كان بجميع الجوانب بحيث صار ما كان مستقبلا مستدبرا فاحتجب المخاطب عن المخاطب، أو صار من ورائه فخفيت عن عينه الإشارة كما صم أذناه عن العبارة فحصلت المبالغة من عدم الإسماع بالكلية وهذا الكلام وإن بولغ فيه بنفي الإسماع البتة فهو من إيغال الاحتياط الذي أدمجت فيه المبالغة في نفي الإسماع.
وقد يأتي الاحتياط في غير المقاطع من مجموع جمل متفرقة في ضروب من الكلام شتى يحملها معنى واحد كقوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} الآية.
وقوله: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}
وقوله فأتوا بعشر سور مثله كما يقول الرجل لمن يجحد ما يستحق علي درهما ولا دانقا ولا حبة ولا كثيرا ولا قليلا ولو قال ما يستحق علي شيئا لأغنى في الظاهر لكن التفصيل أدل على الاحتياط وعلى شدة الاستبعاد في الإنكار.
ومنه قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ} فإن المعنى تم بقوله: {أَجْراً} ثم زاد الفاصلة لمناسبة رءوس الآي فأوغل بها كما ترى حتى أتى بها تفيد معنى زائدا على معنى الكلام). [البرهان في علوم القرآن:؟؟]
التمكين والتصدير والتوشيح والإيغال
قالَ جلالُ الدينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أبي بكرِ السيوطيُّ (ت: 911هـ): (فصل
قال ابن أبي الإصبع لا تخرج فواصل القرآن عن أحد أربعة أشياء التمكين والتصدير والتوشيح والإيغال
فالتمكين: ويسمى ائتلاف القافية أن يمهد الناثر للقرينة أو الشاعر للقافية تمهيدا تأتي به القافية أو القرينة متمكنة في مكانها مستقرة في قرارها مطمئنة في موضعها غير نافرة ولا قلقة متعلقا معناها بمعنى الكلام كله تعلقا تاما بحيث لو طرحت لاختل المعنى واضطرب الفهم وبحيث لو سكت عنها كمله السامع بطبعه
ومن أمثلة ذلك: {يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك} الآية فإنه لما تقدم في الآية ذكر العبادة وتلاه ذكر التصرف في الأموال اقتضى ذلك ذكر الحلم والرشد على الترتيب لأن الحلم يناسب العبادات والرشد يناسب الأموال
وقوله: {أو لم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون أو لم يروا أنا نسوق الماء} إلى قوله: {أفلا يبصرون} فأتى في الآية الأولى بـ {يهد لهم}
وختمها بـ{يسمعون} لأنه الموعظة فيها مسموعة وهي أخبار القرون وفي الثانية بـ{يروا} وختمها بـ{يبصرون} لأنها مرئية
وقوله: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} فإن اللطف يناسب ما لا يدرك بالبصر والخبر يناسب ما يدركه
وقوله: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} إلى قوله: {فتبارك الله أحسن الخالقين} فإن في هذه الفاصلة التمكين التام المناسب لما قبلها.
وقد بادر بعض الصحابة حين نزل أول الآية إلى ختمها بها قبل أن يسمع آخرها فأخرج ابن أبي حاتم من طريق الشعبي عن زيد بن ثابت قال: أملى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين} إلى قوله: {خلقا آخر} قال معاذ بن جبل: فتبارك الله أحسن الخالقين فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له معاذ: مم ضحكت يا رسول الله؟ قال: ((بها ختمت))
وحكي أن أعرابيا سمع قارئا يقرأ: (فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله غفور رحيم) ولم يكن يقرأ القرآن فقال إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا، ومر بهما رجل؛ فقال: كيف تقرأ هذه الآية؟
فقال الرجل: {فاعلموا أن الله عزيز حكيم}
فقال: هكذا ينبغي، الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه.
تنبيهات
الأول قد تجتمع فواصل في موضع واحد ويخالف بينها كأوائل النحل فإنه تعالى بدأ يذكر الأفلاك قال: {خلق السموات والأرض بالحق} ثم ذكر خلق الإنسان من نطفة ثم خلق الأنعام ثم عجائب النبات فقال: {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون} فجعل مقطع هذه الآية التفكر لأنه استدلال بحدوث الأنواع المختلفة من النبات على وجود الإله القادر المختار ولما كان هنا مظنة سؤال وهو أنه لم لا يجوز أن يكون المؤثر فيه طبائع الفصول وحركات الشمس والقمر وكان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال كان مجال التفكر والنظر والتأمل باقيا.
فأجاب تعالى عنه عن وجهين:
أحدهما: أن تغيرات العالم السفلى مربوطة بأحوال حركات الأفلاك فتلك الحركات كيف حصلت فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم التسلسل وإن كان من الخالق الحكيم فذاك إقرار بوجود الإله تعالى وهذا هو المراد بقوله: {وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} فجعل مقطع هذه الآية العقل وكأنه قيل إن كنت عاقلا فاعلم أن التسلسل باطل فوجب انتهاء الحركات إلى حركة يكون موجدها غير متحرك وهو الإله القادر المختار
والثاني: أن نسبة الكواكب والطبائع إلى أجزاء الورقة الواحدة والحبة الواحدة واحدة ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد أحد وجهيها في غاية الحمرة والآخر في غاية السواد فلو كان المؤثر بالذات موجبا لامتنع حصول هذا التفاوت في الآثار فعلمنا أن المؤثر قادر مختار وهذا هو المراد من قوله: {وما ذرأ لكم في الأرض مختلفا ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون} كأنه قيل اذكر ما ترسخ في عقلك أن الواجب بالذات والطبع لا يختلف تأثيره فإذا نظرت حصول هذا الاختلاف علمت أن المؤثر ليس هو الطبائع بل الفاعل المختار فلهذا جعل مقطع الآية التذكر.
ومن ذلك قوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} الآيات فإن الأولى ختمت بقوله: {لعلكم تعقلون} والثانية بقوله: {لعلكم تذكرون} والثالثة بقوله: {لعلكم تتقون} لأن الوصايا التي في الآية:
الأولى: إنما يحمل على تركها عدم العقل الغالب على الهوى لأن الإشراك بالله لعدم استكمال العقل الدال على توحيده وعظمته
وكذلك عقوق الوالدين لا يقتضيه العقل لسبق إحسانهما إلى الولد بكل طريق
وكذلك قتل الأولاد بالوأد من الإملاق مع وجود الرازق الحي الكريم
وكذلك إتيان الفواحش لا يقتضيه عقل وكذا قتل النفس لغيظ أو غضب في القاتل فحسن بعد ذلك تعقلون
وأما الثانية: فلتعلقها بالحقوق المالية والقولية فإن من علم أن له أيتاما يخلفهم من بعده لا يليق به أن يعامل أيتام غيره إلا بما يحب أن يعامل به أيتامه.
ومن يكيل أو يزن أو يشهد لغيره لو كان ذلك الأمر له لم يحب أن يكون فيه خيانة ولا بخس وكذا من وعد لو وعد لم يحب أن يخلف ومن أحب ذلك عامل الناس به ليعاملوه بمثله فترك ذلك إنما يكون لغفلة عن تدبر ذلك وتأمله فلذلك ناسب الختم بقوله: {لعلكم تذكرون}.
وأما الثالثة: فلأن ترك اتباع شرائع الله الدينية مؤد إلى غضبه وإلى عقابه فحسن: {لعلكم تتقون} أي عقاب الله بسببه
ومن ذلك قوله في الأنعام أيضا: {وهو الذي جعل لكم النجوم} الآيات
فإنه ختم الأولى بقوله: {لقوم يعلمون}
والثانية بقوله: {لقوم يفقهون}
والثالثة بقوله: {يؤمنون} وذلك لأن حساب النجوم والاهتداء بها يختص بالعلماء بذلك فناسب ختمه بـ{يعلمون} وإنشاء الخلائق من نفس واحدة ونقلهم من صلب إلى رحم ثم إلى الدنيا ثم إلى حياة وموت والنظر في ذلك والفكر فيه أدق فناسب ختمه بـ{يفقهون} لأن الفقه فهم الأشياء الدقيقة ولما ذكر ما أنعم به على عباده من سعة الأرزاق والأقوات والثمار وأنواع ذلك ناسب ختمه بالإيمان الداعي إلى شكره تعالى على نعمه
ومن ذلك قوله تعالى: {وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون} حيث ختم الأولى بـ{تؤمنون} والثانية بـ{تذكرون} ووجهه أن مخالفة القرآن لنظم الشعر ظاهرة واضحة لا تخفى على أحد فقول من قال شعر كفر وعناد محض فناسب ختمه بقوله: {قليلا ما تؤمنون} وأما مخالفته لنظم الكهان وألفاظ السجع فتحتاج إل تذكر وتدبر لأن كلا منهما نثر فليست مخالفته له في وضوحها لكل أحد كمخالفته الشعر وإنما تظهر بتدبر ما في القرآن من الفصاحة والبلاغة والبدائع والمعاني الأنيقة فحسن ختمه بقوله: {قليلا ما تذكرون}
ومن بديع هذا النوع اختلاف الفاصلتين في موضعين والمحدث عنه واحد لنكتة لطيفة كقوله تعالى في سورة إبراهيم: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} ثم قال في سورة النحل: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم} قال ابن المنير كأنه يقول إذا حصلت النعم الكثيرة فأنت آخذها وأنا معطيها فحصل لك عند أخذها وصفان كونك ظلوما وكونك كفارا يعني لعدم وفائك بشكرها
ولي عند إعطائها وصفان وهما إني غفور رحيم أقابل ظلمك بغفراني وكفرك برحمتي فلا أقابل تقصيرك إلا بالتوقير ولا أجازي جفاك إلا بالوفاء.
وقال غيره إنما خص سورة إبراهيم بوصف المنعم عليه وسورة النحل بوصف المنعم لأنه في سورة إبراهيم في مساق وصف الإنسان وفي سورة النحل في مساق صفات الله وإثبات لألوهيته
ونظيره قوله تعالى في سورة الجاثية: {من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون} وفي فصلت ختم بقوله: {وما ربك بظلام للعبيد} ونكتة ذلك أن قبل الآية الأولى {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ليجزي قوما بما كانوا يكسبون} فناسب الختام بفاصلة البعث لأن قبله وصفهم بإنكاره وأما الثانية فالختام فيها مناسب لأنه لا يضيع عملا صالحا ولا يزيد على من عمل سيئا
وقال في سورة النساء: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما} ثم أعادها وختم بقوله: {ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا} ونكتة ذلك أن:
الأولى نزلت في اليهود وهم الذين افتروا على الله ما ليس في كتابه
والثانية نزلت في المشركين ولا كتاب لهم وضلالهم أشد
ونظيره قوله في المائدة: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} ثم أعادها فقال: {فأولئك هم الظالمون} ثم قال في الثالثة: {فأولئك هم الفاسقون} ونكتته أن الأولى نزلت في أحكام المسلمين والثانية في اليهود والثالثة في النصارى
وقيل الأولى فيمن جحد ما أنزل الله والثانية فيمن خالفه مع علمه ولم ينكره والثالثة فيمن خالفه جاهلا
وقيل الكافر والظالم والفاسق كلها بمعنى واحد وهو الكفر عبر عنه بألفاظ مختلفة لزيادة الفائدة واجتناب صورة التكرار
وعكس هذا اتفاق الفاصلتين والمحدث عنه مختلف كقوله في سورة النور: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم} إلى قوله: {كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم} ثم قال: {وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم} ). [الإتقان في علوم القرآن: 5/؟؟]
قالَ جلالُ الدينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ أبي بكرِ السيوطيُّ (ت: 911هـ): (وأما التصدير فهو أن تكون تلك اللفظة بعينها تقدمت في أول الآية وتسمى أيضا رد العجز على الصدر
وقال ابن المعتز هو ثلاثة أقسام
الأول: أن يوافق آخر الفاصلة آخر كلمة في الصدر نحو: {أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا}
والثاني: أن يوافق أول كلمة منه نحو: {وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} {قال إني لعملكم من القالين}
الثالث: أن يوافق بعض كلماته نحو: {ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون} {انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا} {قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا} إلى قوله: {وقد خاب من افترى} {فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا}.
وأما التوشيح فهو أن يكون في أول الكلام ما يستلزم القافية
والفرق بينه وبين التصدير: أن هذا دلالته معنوية وذاك لفظية كقوله تعالى: {إن الله اصطفى آدم} الآية فإن اصطفى لا يدل على أن الفاصلة العالمين باللفظ لأن لفظ العالمين غير لفظ اصطفى ولكن بالمعنى لأنه يعلم أن من لوازم اصطفاء شيء أن يكون مختارا على جنسه وجنس هؤلاء المصطفين العالمون
وكقوله: {وآية لهم الليل نسلخ} الآية
قال ابن أبي الإصبع فإن من كان حافظا لهذه السورة متفطنا إلى أن مقاطع آيها النون المردفة وسمع في صدر الآية انسلاخ النهار من الليل علم أن الفاصلة مظلمون لأن من انسلخ النهار عن ليله أظلم أي دخل في الظلمة ولذلك سمى توشيحا لأن الكلام لما دل أوله على آخره نزل المعنى منزلة الوشاح ونزل أول الكلام وآخره منزلة العاتق والكشح اللذين يحوط عليها الوشاح
وأما الإيغال فتقدم في نوع الإطناب). [الإتقان في علوم القرآن: 5/؟؟]