قوله تعالى{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا(116)}
قَالَ مَكِّيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ) : (سورة النساء)وقوله تعالى: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} يدلّ على جواز توبة القاتل وجواز غفران الله له.
ولا يحسن أن يكون هذا ناسخًا لقوله: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا} [النساء: 93]. الآية لأنه خبر والأخبار لا تنسخ.
وكذلك لا يحسن أن يكون قوله: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به} منسوخًا بقوله: {ومن يقتل مؤمنًا متعمّدًا} الآية لأنه أيضًا خبر وفي نسخه نقض عفوه المسلمين، ولم يدّعه أحدٌ، ولا يحلّ القول به.
قال أبو محمد: والذي يوجبه النّظر وعليه أكثر أهل العلم أن الثلاث الآيات محكماتٌ لا نسخ في شيءٍ منها:
فقوله: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به} الآية محكمٌ غير منسوخ؛ لأن الشّرك لا يغفر لمن مات عليه بإجماع ولأنّه خبرٌ لا ينسخ.
وقوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} معارضٌ لقوله: {ومن يقتل
مؤمنًا متعمّدًا} الآية فلا بدّ من أن يكون أحدهما ناسخًا للآخر. أو يكونا محكمين:
فغير جائز أن ينسخ أحدهما الآخر؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما خبرٌ من الله لنا بأحكامه فينا يوم القيامة، وإخبار الله لنا بذلك لا يجوز أن ينسخ؛ لأن في نسخه إبطال الأخبار كلّها.
وإذا لم يجز أن ينسخ أحدهما الآخر، وجب أن يكونا محكمين، ولا يكونان محكمين مع تعارض أحدهما الآخر في ظاهر اللّفظ إلاّ (بحمل) آية القتل على أحد المعاني الثلاثة التي ذكرنا. وإذا حملت على أحدها لم يبق تعارضٌ بين الحكمين وصارا إلى الاتفاق ولم (يحتج) إلى تأويل نسخ.
وكذلك إذا حملت آية القتل في النساء على أحد المعاني الثّلاثة لم تعارض آية الفرقان بنسخٍ ولا باختلاف حكم.
فالثلاث الآيات محكماتٌ لا نسخ في شيء منهن.
وإذا كانت كذلك فتوبة القاتل متعمدًا جائزة.
ومما يدلّ على جواز قبول توبة القاتل متعمّدًا:
قوله تعالى: {إنّ الذين كفروا وصدّوا عن سبيل الله ثمّ ماتوا وهم كفّارٌ فلن يغفر الله لهم} [محمد: 34] فالمفهوم من هذا أن من مات غير كافرٍ، في مشيئة الله يغفر ذنوبه، إن شاء الله. والآية مدنية. ولو كان من مات من أهل الكبائر غير كافر لا يجوز أن يغفر الله ذنوبه لم يكن بينه وبين الكافر يموت على كفره فرق.
ويدلّ على ذلك أيضًا قوله تعالى عن عيسى عليه السلام: {إنّه من يشرك بالله فقد حرّم الله عليه الجنّة} [المائدة 72]، فدلّ على أنه من مات ولم يشرك بالله لا يقطع عليه بتحريم الجنة، وهو في مشيئة الله.
وقد قال تعالى ذكره: {وإنّي لغفّارٌ لمن تاب وآمن وعمل صالحًا}[طه: 82] الآية فهذا عام.
وقال: {إنّ الله يغفر الذّنوب جميعًا} [الزمر: 53]، يعني للمؤمن. فهذا أيضًا عام.
خصّصه: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به}.
وقال تعالى: {وهو الّذي يقبل التّوبة عن عباده ويعفو عن السّيّئات} [الشورى: 25]. فعمّ.
وقال: {فمن يعمل من الصّالحات وهو مؤمنٌ فلا كفران لسعيه} [الأنبياء: 94] فعمّ.
وقال: {ومن يعمل مثقال ذرّةٍ خيرًا يره} [الزلزلة: 7] فعمّ.
وهي كلها أخبارٌ عامة لا يجوز نسخها، فلا بدّ من وقوعها على ما وصفها الله به.
وقد قال تعالى: {إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة} [النساء: 40].
فكيف يحبط توحيد القاتل، والتوحيد أعظم الأعمال وأصلها.
ولم يخبر الله أن شيئًا من الأعمال السيئة تحبط الإيمان إلا الشّرك، بقوله: {لئن أشركت ليحبطنّ عملك} [الزمر: 65].
وقد قال الله جلّ ذكره: {إنّ الحسنات يذهبن السّيّئات} [هود: 114] ولا حسنة بعد التوحيد أعظم من التوبة.
وقد أعلمنا الله جلّ ذكره أنه رحم القاتل متعمدًا وخفف عنه إذ أجاز له أن يبدل الدّية عن قتله، فقال: {ذلك تخفيفٌ من ربّكم ورحمةٌ} [البقرة: 178]، فهل يرحم الله ويخفّف عنه ما لزمه إلاّ من يجوز قبول التوبة له.
وقد قال الله جلّ ذكره: {فمن عفي له من أخيه شيءٌ}[البقرة: 178]، فجعل الله القاتل عمدًا ووليّ المقتول أخوين في الدّين، ولم يجعل
القاتل عمدًا كافرًا، بل جعله مؤمنًا إذ آخى بينه وبين الوليّ المؤمن.
وقد قال النبي عليه السلام: ((اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)). والقتل عمدًا من الكبائر.
وقال أنس بن مالك: قلنا يا رسول الله، لمن تشفع؟ قال: ((لأهل الكبائر وأهل العظائم وأهل الدماء)).
وأيضًا فإن الله جلّ ذكره لم يذكر مع جزاء القاتل تخليد الأبد، إنما أفرد ذكر التخليد بغير أبد. فدلّ على أنه وإن دخل النار غير مؤبّدٍ فيها.
وقد سئل مالكٌ عن رجلٍ قتل أخته متعمّدًا لحدثٍ أحدثته فقال: يعتق رقبةً ويصوم شهرين متتابعين ويتقرّب إلى الله بما استطاع من خير ويكثر الاستغفار.
فلو كان عنده غير مقبول التوبة ما أمره بهذا.
وقد روى مسروق عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي عليه السلام قال: ((من لقي الله لم يشرك به شيئًا لم يضره معه خطيئة، ومن لقيه يشرك به شيئًا لم ينفعه معه حسنة)).
وقال جماعةٌ من العلماء: يؤمر التائب من القتل أن يكثر الجهاد ويبذل نفسه فيه لله. وروي مثله عن مالك.
فهذا يدلّ على الرجاء له وأنه لا يؤيس من عفو الله.
ومن زعم أن القاتل عمدًا لا توبة له جعل هذه الآيات كلّها منسوخات. وهي كلّها أخبار.
وفي نسخها إبطال الديانات كلّها؛ لأنّ من جعل أن القاتل لا توبة له وأنه مؤبد في النار، فقد أوجب أن إيمانه وسعيه وتوبته محبط كلّه مع قوله: {فلا كفران لسعيه} [الأنبياء: 94]، ومع قوله: {فلا تظلم نفسٌ شيئًا} [الأنبياء: 47].
وممّا يبيّن قبول توبة القاتل أن الله جلّ ذكره قد قال في الفارّ من الزحف: {ومن يولّهم ... فقد باء بغضبٍ من الله ومأواه جهنّم} [الأنفال: 16] ولم يختلف أحدٌ من أهل القبلة أن توبة الفارّ من الزحف جائزةٌ وأنه داخلٌ تحت قوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48].
وقد قال شيخنا أبو محمد عبد الله بن أبي زيد رحمة الله عليه: أن مما اجتمعت عليه الأمة من أمور الديانة، ومن السّنن التي خلافها بدعة
وضلالة {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، فقد دخل تحت هذا الإجماع الذنوب كلّها من القتل وغيره.
وأيضًا فقد أجمع أهل السنّة أنه لا تخليد على مؤمنٍ، وأنه لا يزيل الإيمان إلا الكفر، ورفع الصوت على صوت النبي صلى الله عليه وسلم متعمدًا.
وأيضًا فإن جواز توبة القاتل عمدًا غير مستحلٍّ للقتل قول ابن عمر وزيد بن ثابت ومجاهد وجماعة معهم.
وقد أجمع المسلمون أن الشرك والارتداد أعظم من القتل متعمّدًا. وأن المؤمن إذا ارتدّ ثم تاب قبلت توبته وأنه إذا ارتدّ وقتل مؤمنًا متعمّدًا مستحلاً لقتله ثم آمن وتاب أنه مقبول التّوبة، لقوله تعالى: {قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38]، ولقوله: {إنّ الله يغفر الذّنوب جميعًا} [الزمر: 53] فكذلك إذا قتل وهو مؤمن وتاب قبلت توبته، في ما بينه وبين الله، وحقّ المقتول يفعل الله فيه ما يشاء.
وقد روي عن ابن عباس أنه قال - في الآية التي في الفرقان - نزلت في أهل الشرك ولا توبة للقاتل متعمّدًا.
وكان الطبريّ يقول: جزاء القاتل جهنم حقًا، ولكنّ الله يغفر ويتفضّل على أهل الإيمان به وبرسوله فلا يجازيهم بالخلود فيها، إما أن يغفر فلا يدخلهم جهنم، وإما أن يدخلهم النار، ثم يخرجهم بفضل
رحمته لقوله: {إنّ الله يغفر الذّنوب جميعًا}. وهذا خبر عام فيه تخصيص الشرك، ولا يجوز نسخه.
فإن قيل: هلاّ جعلت آية القتل مخصّصةً لقوله: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به} كأنها مستثناة منها؟.
قيل: لو جاز هذا لجاز أن تكون آية الزحف والفرار منه مخصّصة أيضًا مستثناة منها. وآية أكل مال اليتيم مخصصة مستثناة منها. وآية الربا مخصصة مستثناة منها. فيدخلن تحت ترك المغفرة وترك قبول التوبة من ذلك كله. وهذا لا يقوله أحد.
قد أجمع الناس على قبول التوبة من ذلك كلّه.
وإذا لم تكن هذه الأشياء مخصّصةً مستثناة من قوله: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به} لم تكن آية القتل مخصّصة مستثناة.
وأيضًا فإن قوله: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به} متلوٌّ بعد آية القتل في سورة واحدة ولم يقع في القرآن أوّلٌ خصصّ آخرًا في سورة واحدة فيكون هذا مثله.
وحديث النبي عليه السلام المتواتر النقل: ((اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)).
مما يرجي القاتل ويطمعه لأنه من أهل الكبائر، وقد عمّ في قوله: (لأهل الكبائر من أمتي ولم يخصّ صنفًا منهم من صنف.
ومما يؤيد أن القاتل يرجى له التوبة ما ذكره ابن شعبان مما روى عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: إن الآية محكمةٌ إلا أنه قال تعالى ذكره: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا} [النساء: 110]، قال: فلو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال، يريد لجاز أن يغفرها الله.
قال ابن عباس: وقد دعا الله إلى مغفرته من زعم أن عزيرًا ابن الله، ومن زعم أن الله فقير، ومن زعم أنّ يد الله مغلولة، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة يقول الله لهؤلاء: {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفورٌ رحيم} [المائدة 74].
قال ابن عباس: وقد دعا الله إلى توبته من هو أعظم جرمًا من
هؤلاء، من قال: {أنا ربّكم الأعلى} [النازعات: 24] وقد قال: ما {علمت لكم من إلهٍ غيري} [القصص: 38] قال: ومن أيأس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله، ومن تاب إلى الله تاب الله عليه، قال الله: {ثمّ تاب عليهم ليتوبوا} [التوبة: 118].
قال ابن عباس: وكما لا ينفع مع الشّرك إحسان كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين. قال ابن عباس: مع قول النبي عليه السلام: ((لو وضعت لا إله إلاّ الله في كفة الميزان ووضعت السموات والأرض وما فيهنّ في كفة أخرى لرجحت بهن)).
وقد قال ابن عمر: كنّا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نشك في قاتل المؤمن وأكل مال اليتيم وشاهد الزور وقاطع الرحم، يعني: لا نشك في الشهادة لهم بالنار. قال ابن عمر: حتى نزلت: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
فأمسكنا عن الشهادة لهم، يعني بالنار.
وقد قال جماعة: إن آية القاتل منسوخة بقوله: {ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثمّ يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا}، فعمّ جميع الذنوب المكتسبة، وأخبر أن الله يغفر للمستغفر ومنها ويتوب الله على التائب.
قال أبو محمد: وقد روي في قتل النفس من الشّدة وترك المغفرة والخلود في نار جهنم أخبارٌ كثيرة - الله أعلم بصحتها -:
روي عن معاوية أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كلّ ذنبٍ عسى الله أن يغفره إلا من مات كافرًا، أو قتل مؤمنًا متعمّدًا)).
وقد سأل رجلٌ ابن عمر فقال إني قتلت نفسًا فهل لي عند الله من توبة؟ فقال له ابن عمر: أكثر من شرب الماء البارد. قال مالك: يريد أنه من أهل النار رواه ابن القاسم عن مالك.
وقد روي أن رجلاً سأل أبا هريرة وابن عمر وابن عباس عن رجل قتل رجلاً مؤمنًا متعمدًا: هل له توبة؟ فكلّهم يقول: هل يستطيع أن يحييه؟! هل يستطيع أن يبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء؟!! يريدون بذلك التشديد عليه.
قال أبو محمد: وقد أجمع المسلمون على أن من كفر بالمواريث ثم تاب أن توبته مقبولة مع قوله تعالى: {ومن يعص الله ورسوله ويتعدّ حدوده يدخله نارًا خالدًا فيها وله عذابٌ مهين} [النساء: 14].
وقد سأل ابن عباس عمرو بن العاص، فقال له: أيّ آيةٍ في كتاب الله أرجى؟ فقال له عمرو: قوله: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به} الآية فقال ابن عباس: إنّ هذه لمرجوّة، ولكن غيرها أرجى منها: قوله عزّ
وجلّ: {وإن ربّك لذو مغفرةٍ للنّاس على ظلمهم} ولم يقل على إحسانهم.
وقال جعفر بن محمد: أرجى آيةٍ في القرآن: {ولسوف يعطيك ربّك فترضى} وهو صلى الله عليه وسلم لا يرضى أن يكون أحد من أمته مقيمًا في النار.
قال أبو محمد: والذي نعتقده أن كل من مات مؤمنًا غير كافر بالله ولا برسله ولا بكتبه، فهو في مشيئة الله، تاب من كبائره قبل موته أو لم يتب، بدلالة قوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقوله: {وماتوا وهم كفارٌ فلن يغفر الله لهم}. ولهذا نظائر كثيرة في القرآن يدل على صحة ما قلناه ويوضّحه.
وقد روى جابر بن عبد الله أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الموجبتان؟ فقال: ((من مات لا يشرك بالله شيئًا وجبت له الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئًا وجبت له النار)) الحديث بطوله.
قوله تعالى: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 116].
قال ابن عمر: لما أنزلت: {قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم} [الزمر: 53] إلى قوله: {إنّ الله يغفر الذّنوب جميعًا} [الزمر: 53] قام رجل إلى النبي فقال: والشرك يا رسول الله؟ فنزلت: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به} الآية قال مالك: فكان قوله: يغفر الذنوب جميعًا: إنه ما دون الشرك، قلت: فدخل قتل المؤمن المؤمن تحت هذا العموم.
وروي عن ابن عباس أنه تلا هذه الآية، وتلا قبلها: {وليست التوبة للّذين يعملون السيّئات} [النساء: 18] الآية فتأوّل عليه: أنّ هذا منسوخٌ بقوله: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به}، وأن من تاب قبل موته قبلت توبته.
قال أبو محمد: وهذا إنما يجوز على قول من قال: إن قوله: {حتى إذا حضر أحدهم الموت} [النساء: 18] الآية في المؤمنين، فالتوبة منهم جائزةٌ ما لم يقع الموت، لقوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
قال أبو محمد: وهذا خبر لا يحسن فيه النّسخ، والآية في الكفار، لا تنفعهم التوبة من الكفر عند معاينة الموت، كما أعلمنا الله أنه لم يقبل إيمان فرعون عند معاينته الغرق، وأعلمنا الله أنه لم يقبل إيمان الكفار عند معاينة العذاب، فقال: {فلم يك ينفعهم إيمانهم لمّا رأوا بأسنا} [غافر: 85] فهي محكمة.
وقد تقدم ذكر هذه الآية وقول من قال إنها عامة في المؤمن والكافر وأن المؤمن نسخ منها بقوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}، قال ابن عمر: الحضور: السّوق.
وعن النبي عليه السلام أنه قال: ((يقبل الله توبة عبده ما لم يغرغر نفسه)).
وقوله بعد ذلك: {ولا الّذين يموتون وهم كفّار} [النساء: 18] يدلّ على أن الأول في الكفار.
وأيضًا أخبرنا الله أنه من تاب من كفره عند المعاينة والسّوق لا يقبل الله توبته، ولا من مات وهو كافر لم يتب.
وقد روي عن ابن عباس إطلاق اسم النسخ في قوله: {حتّى إذا حضر أحدهم الموت} [النساء: 18] الآية بقوله: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} الآية وقال: حرّم الله المغفرة على من مات وهو كافر، يريد بقوله: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به}. قال وأرجأ أهل التوحيد إلى مشيئته، ولم يؤيسهم من مغفرته، يريد بقوله: {ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء}.
وهذا يدل على جواز توبة القاتل عمدًا غير مستحلٍّ لأنه من أهل التوحيد.
قال أبو محمد: والذي أقوله في هذه الآية وفي التي قبلها: إن الذنوب المكتسبة على نوعين:
نوع هو ما بين العبد وبين ربه خاصّة.
ونوع ثانٍ يقع بين العبد وبين الآدميين، ولله أيضًا فيه حقّ عقوبة مخالفته.
فما كان بين العبد وبين ربّه من الذنوب، فهو موقوفٌ على قوله تعالى: {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فأعلمنا - تبارك وتعالى - أنه يغفر الذنوب كلّها التي بينه وبين العباد لمن يشاء منهم إلا الشّرك به فإنه لا يغفره لأحد.
وأعلمنا أن من قتل مؤمنًا متعمدًا أنه من المخلدين في النار وعليه الغضب واللّعنة وهو من الذنوب التي بين بعض العباد وبعض، ولله فيه حقّ عقوبة المخالفة له.
فالآيتان مختلفتان في الحكم، نزلتا في صنفين من الذنوب لا تنسخ إحداهما الأخرى.)[الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه: 207-253]
قالَ عَلَمُ الدِّينِ عليُّ بنُ محمَّدٍ السَّخَاوِيُّ (ت:643هـ): (سورة النساء)قوله عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} الآية [النساء: 48، 116]، ذهب قوم إلى أنها منسوخة بقوله عز وجل: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} الآية [النساء: 393]، ورووا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في قوله عز وجل في سورة "الفرقان": ({ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا* إلا من تاب وآمن} الآية [الفرقان: 68-70]، أن هذا لأهل الشرك إذا أسلموا، ولا توبة للقاتل متعمدا).
وروي أن رجلا سأل أبا هريرة وابن عمر وابن عباس عن قتل العمد، فكلهم قالوا: (هل يستطيع أن يجيبه؟). والصحيح أن هذا ليس من الناسخ والمنسوخ في شيء؛ لأن هذا إخبار من الله عز وجل، وإخبار الله تعالى صدق لا يدخله نسخ، وآية الفرقان وآيات النساء محكمات، وقد قال الله عز وجل في سورة النساء: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} الآية [النساء: 48، 116]، ثم قال عز وجل: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} الآية [النساء: 93]، ثم قال بعد ذلك أيضا: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} الآية [النساء: 48، 116]، فإن قيل: إن قلت إن هذه أخبار، والنسخ لا يدخل الأخبار، فما تقول في تعارضها؟ قلت: قوله عز وجل: {فجزاؤه جهنم خالدا فيها} الآية [النساء: 93]، قد روى ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الآية: ((هو جزاؤه إن جازاه)).
وقال الطبري: جزاء القاتل جهنم حقا ولكن الله تعالى يغفر ويتفضل على من آمن بالله وبرسوله فلا يجازيهم بالخلود فيها، فإما أن يغفر فلا يدخلهم، وإما أن يدخلهم ثم يخرجهم بفضل رحمته، وهذا خبر عام ولا يجوز نسخه. وكذلك روي عن إبراهيم التيمي ومجاهد.
وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كاف، وإنما أذكر هؤلاء لأن ذكرهم كالشهادة لصحة الحديث.
فإن قيل: فما تقول فيما تقدم ذكره عن ابن عباس؟ قلت: قد روى عاصم ابن أبي النجود عن ابن جبير عن ابن عباس رحمه الله أنه قال: (هو جزاؤه إن جازاه).
وروي عن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل: ({ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} الآية [النساء: 110]، فلو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال لجاز أن يغفرها الله تعالى).
قال ابن عباس: (وقد دعا الله عز وجل إلى مغفرته من قال: {عزير ابن الله} الآية [التوبة: 30]، ومن زعم أن {الله فقير} الآية [آل عمران: 181] ومن زعم أن {يد الله مغلولة} الآية [المائدة: 64] ومن زعم أن {الله ثالث ثلاثة} الآية [المائدة: 73]، فقال الله عز وجل: {أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم} الآية [المائدة: 74]).
قال ابن عباس: (وقد دعا الله عز وجل إلى التوبة من هو أعظم جرما من هؤلاء: من قال: {أنا ربكم الأعلى} الآية [النازعات: 24] و{ما علمت لكم من إله غيري} الآية [القصص: 38]).
وقال: (ومن أيأس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله، ومن تاب إلى الله تاب الله عليه).
قال: (وكما لا ينفع مع الشرك إحسان، كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين).
قال ابن عباس مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو وضعت لا إله إلا الله في كفة، ووضعت السموات والأرض وما بينهن وما فيهن في كفة لرجحت لا إله إلا الله)) وهذا هو الصحيح عن ابن عباس إن شاء الله، إذ أجمع المسلمون على صحة توبة قاتل العمد، وكيف لا تصح توبته وتصح توبة الكافر وتوبة من ارتد عن الإسلام ثم قتل المؤمنين متعمدا ثم رجع إلى الإسلام.
قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: (كنا – معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم – لا نشك في قاتل المؤمن، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرحم، يعني: لا نشك في الشهادة لهم بالنار حتى نزلت: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} الآية [النساء: 48، 81] فأمسكنا عن الشهادة لهم).
فإن قيل: فما تقول في قولهم: هل تستطيع أن تجيبه؟ قلت: ذلك على وجه تعظيم أمر القتل والزجر، أو يكون ذلك قبل أن ينزل {إن الله لا يغفر أن يشرك به} الآية [النساء: 48، 116] على قول ابن عمر.
ومن زعم أن القاتل عمدا لا توبة له جعل الغفران لما دون الشرك في آية الفرقان منسوخا.
قالوا: ونزلت آية الفرقان فيما روى زيد بن ثابت قبل آية النساء بستة أشهر. وقد قدمت أن النسخ لا يدخل الأخبار، فلا نسخ في جميع هذه الآية، وكلها محكمة.)