جمهرة العلوم

جمهرة العلوم (http://jamharah.net/index.php)
-   منتدى جمهرة علوم القرآن الكريم (http://jamharah.net/forumdisplay.php?f=661)
-   -   مسائل كتاب جمع القرآن (http://jamharah.net/showthread.php?t=26370)

جمهرة علوم القرآن 12 محرم 1439هـ/2-10-2017م 11:07 PM

مسائل كتاب جمع القرآن
 
مسائل كتاب جمع القرآن
[اضغط على المسألة لتطّلِع على شرحها]
عناصر الكتاب:
الباب الأوّل: مقدمات في جمع القرآن
- تمهيد
- بيان تكفل الله بجمع القرآن وحفظه
- أنواع جمع القرآن
- عناية العلماء المتقدمين ببيان مراحل جع القرآن
- عناية علماء القرن الرابع عشر الهجري بتاريخ جمع القرآن
- عناية علماء العصر بتاريخ جمع القرآن
- مقاصد التأليف في جمع القرآن
- مباحث جمع القرآن
-الباب الثاني: جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
- جمع النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن في صدره
- ذِكْرُ قُرّاء الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ جمع القرآن منهم
- كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
- تأليف القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
- الباب الثالث: التعريف ببعض كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم
- عناية بعض العلماء بتتبّع أسماء كٌتاب النبي صلى الله عليه سلم
- التعريف ببعض كُتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم
- الباب الرابع: معارضة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والعرضة الأخيرة
- معارضة جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن
- معارضة أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم له بالقرآن
- العرضة الأخيرة
- المراد بالعرضة الأخيرة
- معنى شهود العرضة الأخيرة
- الباب الخامس: جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
- جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
- أسباب جمع أبي بكر رضى الله عنه للقرآن
- أسباب اختيار زيد بن ثابت لكتابة المصحف
- كيف كان جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه؟
- تفسير العُسبِ واللِّخَافِ والرّقاعِ والأكتافِ والأقتابِ
- الغرض من جمع أبي بكر
- موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع أبي بكر الصديق للقرآن
- مصير مصحف أبي بكر
- تنبيه
- تسمية المصحف (معنى المصحف)
- مبدأ تسمية المصحف
- أسماء أجزاء المصحف وملحقاته
- الباب السادس: جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
- تمهيد
- أسباب جمع عثمان رضي الله عنه للقرآن
- تأريخ جمع عثمان
- موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع عثمان
- وكذلك كان موقف كبار التابعين وقرائهم
- موقف ابن مسعود من جمع عثمان رضي الله عنهما
- الباب السابع: كتابة المصاحف العثمانية

-كتابة المصاحف العثمانية
- عدد المصاحف العثمانية
- مصير مصحف عثمان
- أسماء كتبة المصاحف العثمانية
- الجمع العثماني والأحرف السبعة
- أمثلة لما تُرك من الأحرف السبعة
- الباب الثامن: الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما
- الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما
- المسألة الأولى: هل كان جمع أبي بكر الصديق في مُصحَف أو صحف غير مرتبة السور؟
- المسألة الثانية: هل كان مصحف أبي بكر جامعاً للأحرف السبعة؟
- المسألة الثالثة: هل كلّ ما خالف المصاحف العثمانية منسوخ بالعرضة الأخيرة؟
- المسألة الرابعة: هل كان المصحف الذي جمعه عثمان نسخةً مطابقةً لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف؟
- المسألة الخامسة: الخلاصة في بيان الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما.
- الباب التاسع: ترتيب السور والآيات في المصاحف
- ترتيب السور والآيات في المصاحف
- المسألة الأولى: معنى تأليف القرآن
- المسألة الثانية: ترتيب الآيات في السورة الواحدة
- المسألة الثالثة: ترتيب السور في المصحف
- المسألة الرابعة: الكلام على حديث يزيد الفارسي عن ابن عباس في شأن سورتي الأنفال وبراءة
- المسألة الخامسة: الجواب عن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة
- المسألة السادسة: الفصل بين السور بالبسملة
- المسألة السابعة: سبب ترك كتابة البسملة في أول براءة
- الباب العاشر: مصاحف الصحابة رضي الله عنهم
- مصاحف الصحابة رضي الله عنهم
- هل كتب أحد من الصحابة مصحفاً على ترتيب النزول؟
- هل ثبت أن الصحابة علّقوا على مصاحفهم شيئاً من التفسير؟
- مصحف سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه
- مصحف أبي بكر رضي الله عنه
- مصحف عمر بن الخطاب رضي الله عنه
- مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه
- مصحف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
- مصحف أبيّ بن كعب رضي الله عنه
- مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
- مصحف أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها
- مصحف أمّ المؤمنين حفصة رضي الله عنها
- مصحف أمّ المؤمنين أمّ سلمة رضي الله عنها
- مصحف عبد الله بن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما
- مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
- مصحف عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
- مصحف عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه
- مصحف عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه
- الباب الحادي عشر: جواب ما أشكل من الروايات والمسائل في شأن جمع القرآن
- ما يثار من الأسئلة في جمع القرآن على نوعين
- السؤال الأول: ما سبب عدم جمع القرآن الكريم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟
- السؤال الثاني: كيف يوثق بأنّ ما جُمع من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال قد تمّ به جمع القرآن؛ وما ضمانة عدم الزيادة عليه؟
- السؤال الثالث: كيف لم توجد آخر براءة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري؟
- السؤال الرابع: ما الجواب عما روي عن عثمان رضي الله عنه مما يفهم منه الاجتهاد في ترتيب الآيات؟
- السؤال الخامس: ما الجواب عن الخبر المروي عن زيد بن ثابت أنه قال في آخر آيتين من سورة التوبة: (لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة)؟
- السؤال السادس: ما جواب ما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها»؟
- السؤال السابع: ما جواب ما روي عن عائشة رضي الله عنها في تلحين كتَّاب المصاحف وتخطئتهم؟
- السؤال الثامن: ما جواب ما روي عن ابن عبّاس في تخطئة بعض كتّاب المصاحف؟


حفظ نسخة من الكتاب ( PDF ) من هنا


جمهرة علوم القرآن 12 محرم 1439هـ/2-10-2017م 11:20 PM

الباب الأول: مقدمات في جمع القرآن

تمهيد:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري:
( تمهيد:

الحمد لله الذي أنزل القرآن وجعل فيه الهدى والنور، وحَفِظَه للمسلمين في الصدور وفي السطور، يُتلى على مَرِّ الأزمانِ، وتباعُدِ البلدانِ، لا يُخرَم منه حرف، ولا تُغيّر منه كلمة؛ قد تكفّل الله بجمعه وحفظه، وتيسيره وتبيينه، فهو قريب من طالبه، مُيسَّر لتاليه، لم تفلح محاولات أعداء الله في تحريفه، والطعن في ثبوته وحفظه، على شدّة عداوتهم، ونَهَمِهم في التشغيب والتشكيك، فكانوا كلما صالوا صولة لقصد التشكيك في جمعه، والطعن في ثبوته، ومحاولة تحريف شيء منه؛ عادوا خائبين بحسرتهم، لم يزيدوا على أن قدّموا أدلّة جديدة على حفظ الله لكتابه من طعن الطاعنين، وتحريف المحرّفين.
وتلك آية بيّنة تدلّ اللبيبَ الموفّق على أنَّ هذا القرآن العظيم محفوظ بحفظ الله، لا يبلغ كيد كائد مهما عَظُم كيدُه أن يسقط منه كلمة، أو يحرّف فيه شيئاً.

وإنّ من مهمّات ما ينبغي لطالب علم التفسير أن يعتني به معرفة مسائل جمع القرآن، وتاريخ تدوين المصاحف، وما يتّصل بذلك من المباحث، وأسباب عناية العلماء بها.

وسأوجز الحديث في هذا الباب عن مقدمات بين يدي دراسة مسائل جمع القرآن تعرّف بمعنى جمع القرآن، وأنواعه، ومراحله، وأوجه عناية العلماء بهذا العلم الشريف.
وأسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل بقبوله الحسن، وأن ينفع به، ويبارك فيه، إنه حميد مجيد

مقدمات في دراسة جمع القرآن
1. بيان تكفّل الله تعالى بجمع القرآن وحفظه
2. بيان أنواع جمع القرآن
3. عناية العلماء المتقدّمين ببيان مراحل جمع القرآن

4. عناية علماء القرن الرابع عشر الهجري بتاريخ جمع القرآن
5. عناية علماء العصر بتاريخ جمع القرآن
6. مقاصد التأليف في جمع القرآن
7. مباحث جمع القرآن
). [جمع القرآن:5 - 6]

جمهرة علوم القرآن 12 محرم 1439هـ/2-10-2017م 11:42 PM

1. بيان تكفل الله تعالى بجمع القرآن وحفظه:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري:
(
1. بيان تكفل الله تعالى بجمع القرآن وحفظه:
قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) }

والمراد بالذكر هنا القرآن، من غير خلاف بين المفسرين.
- قال عبد الرحمن بن زيد: (الذكر القرآن، وقرأ: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}). رواه ابن جرير.
- وقال ابن الجوزي في تفسير هذه الآية : (والذكر القرآن في قول جميع المفسّرين).

واختلف في مرجع الضمير في قوله تعالى: {وإنا له لحافظون} على قولين:
أحدهما: القرآن لأنّه أقرب مذكور، وهو قول مجاهد وقتادة وثابت وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال به أكثر المفسّرين.
والآخر: محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول مقاتل بن سليمان، وذكره الفراء وابن جرير من غير نسبة، واستدلّ له الزمخشري والبغوي وغيرهما بقول الله تعالى: {والله يعصمك من الناس}.
وهذا القول ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن سورة الحجر مكية، وسورة المائدة مدنية.
والآخر: أن الأصل أن يرجع الضمير إلى أقرب مذكور ما لم يصرفه صارف؛ ولا صارف هنا.
قال محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (بيّن تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي نزل القرآن العظيم، وأنه حافظ له من أن يزاد فيه أو ينقص أو يتغير منه شيء أو يبدل، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيمٍ حميدٍ } وقوله: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} إلى قوله: {ثم إن علينا بيانه } وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية أن الضمير في قوله: {وإنا له لحافظون} راجع إلى الذكر الذي هو القرآن.
وقيل: الضمير راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {والله يعصمك من الناس} والأول هو الحق كما يتبادر من ظاهر السياق)ا.هـ.

وفي المراد بحفظ القرآن هنا أقوال:
- فقال مجاهد: ({وإنا له لحافظون} أي عندنا) يريد في اللوح المحفوظ. رواه ابن جرير
- وقال قتادة وثابت: (حفظه الله من أن يزيد فيه الشيطان باطلاً أو يبطل منه حقا). رواه عبد الرزاق.
- وقال الزجاج: ( نحفظه من أن يقع فيه زيادة أو نقصان).
- وقال ابن عاشور: (وشمل حفظه الحفظ من التلاشي، والحفظ من الزيادة والنقصان، بأن يسّر تواتره وأسباب ذلك، وسلّمه من التبديل والتغيير حتى حفظته الأمّة عن ظهور قلوبها من حياة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقرّ بين الأمّة بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وصار حفّاظه بالغين عدد التواتر في كلّ مصر)ا.هـ.

والمقصود أن الله تعالى قد تكفّل بحفظ القرآن، ومن حفظه أن هيَّأ الله أسباب جمعه، وتدوينه، وروايته بتواتر قطعي الثبوت؛ فلا يمكن لأحد مهما بلغ كيده أن يغيّر منه شيئاً أو يحرّف فيه.

وقال تعالى: {إنَّ علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه . ثمّ إنَّ علينا بيانه}
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث موسى بن أبي عائشة، قال: حدثنا سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} ، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدةً، وكان مما يحرك شفتيه - فقال ابن عباسٍ: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، وقال سعيدٌ: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباسٍ يحركهما فحرك شفتيه- فأنزل الله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه}
قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} قال: فاستمع له وأنصت، {ثم إن علينا بيانه} ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه).

ففسَّر ابن عباس قوله تعالى: {جمعه وقرآنه} بقوله: (جمعه لك في صدرك، وتقرأه).
- وقال الفرّاء: ( {إنّ علينا جمعه} في قلبك {وقرآنه} وقراءته، أي أنّ جبريل سيعيده عليك).
- وقال البخاري في كتاب التفسير: ( {إن علينا جمعه وقرآنه} تأليف بعضه إلى بعض {فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه} فإذا جمعناه وألّفناه فاتّبع - قرآنه أي: ما جمع فيه فاعمل بما أمرك الله وانته عمّا نهاك الله).
والمقصود بالجمع في هذه الآية جمعه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم فيحفظه مجموعاً لا يُنسى منه شيء، ولا يتفلَّت منه شيء إلا ما شاء الله أن ينسخه منه.
- {وقرآنه} مصدر بمعنى قراءته؛ يقال: قرأ يقرأ قرآنا وقراءة.

واختلف في سبب تحريك النبي صلى الله عليه وسلم لسانه على قولين:
أحدهما: أنه يريد تعجّل حفظه؛ كما في رواية الترمذي (يحرك به لسانه يريد أن يحفظه) وفي رواية النسائي (يعجل بقراءته ليحفظه).
- وفي رواية عند ابن أبي حاتم: (يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره).
والقول الآخر: أنه من شدّة حبّه إيَّاه، كما قال الشعبي: (كان إذا نزل عليه عجل يتكلم به من حبّه إياه). رواه ابن جرير.
وهذه الروايات ذكرها ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ثم قال: (وكلا الأمرين مراد ولا تنافي بين محبته إياه والشدة التي تلحقه في ذلك؛ فأمر بأن ينصت حتى يقضى إليه وحيه ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره ونحوه قوله تعالى: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} أي بالقراءة)ا.هـ). [جمع القرآن: 7 - 11]

جمهرة علوم القرآن 12 محرم 1439هـ/2-10-2017م 11:58 PM

2. أنواع جمع القرآن:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (
2. أنواع جمع القرآن:
جمع القرآن على أنواع:

النوع الأول: جمعه حفظاً في الصدور، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في صدره، وجمعه حملة القرآن من الصحابة في عهده صلى الله عليه وسلم منهم: أبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وسالم مولى أبي حذيفة، وثابت بن قيس، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
النوع الثاني: جمعه كتابةً في مصحف واحد، وهو الجمع الذي تولاه أبو بكر بإشارة من عمر بن الخطّاب لمّا استحرّ القتل في القراء في وقعة اليمامة.
النوع الثالث: جمعه على رَسْمٍ واحدٍ، ولغةٍ واحدةٍ هي لغة قريش، وهو الجمع الذي تولاه عثمان رضي الله عنه لما رأى اختلاف الناس في القراءات وخشي أن تحدث فتنة بسبب ذلك الاختلاف.

ومن أهل العلم من يضيف نوعين قبل هذه الأنواع:
أحدهما: جمعه في اللوح المحفوظ.
والثاني: جمعه في بيت العزّة في السماء الدنيا قبل نزوله منجماً على النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن الكلام في هذين النوعين داخل في علم نزول القرآن، ولا يكاد يذكرهما أهل العلم في مسائل جمع القرآن، وإنما غالب مباحث هذا العلم متعلقة بتدوين المصاحف).
[جمع القرآن: 11 - 12]

جمهرة علوم القرآن 13 محرم 1439هـ/3-10-2017م 09:26 AM

3. عناية العلماء المتقدمين ببيان مراحل جمع القرآن:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري:
(
3. عناية العلماء المتقدمين ببيان مراحل جمع القرآن:
اعتنى أهل العلم ببيان تاريخ جمع القرآن وكتابته وما يتصل بذلك من مسائل كلّ بحسب ما انتهى إليه:

- فروى أهل الحديث في صحاحهم وسننهم ومسانيدهم مرويات كثيرة من الأحاديث والآثار في شأن جمع القرآن.
- وتكلّم شرّاح الأحاديث في بيان معاني هذه الأحاديث والآثار وجمع رواياتها وتخريجها؛ كالطحاوي والخطابي وابن عبد البر والمازري وابن العربي والقاضي عياض والنووي وابن حجر والعيني والقسطلاني وغيرهم، وهؤلاء من أكثر من فصّل القول في هذه المسائل.
- ولبعض المفسّرين عناية ببيان مسائل جمع القرآن في مقدمات تفاسيرهم كما فعل القرطبي، والخازن، وابن جزي، وابن كثير، والألوسي، وابن عاشور.
- ولعلماء رسم المصاحف عناية بمسائل جمع القرآن وكتابته وتدوينه؛ فأخرج أبو عبيد في كتابه فضائل القرآن آثاراً في جمع القرآن، ثم كتب ابن أبي داوود السجستاني في كتابه "المصاحف" وأبو عمرو الداني في مقدمة كتابه "المقنع في رسم مصاحف الأمصار" في هذا الباب فصولاً مهمة.
- وروى عمر بن شبّة في كتابه "تاريخ المدينة" آثاراً كثيرة في جمع القرآن، وذلك لأنّ جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما كانا في المدينة النبوية، وقد اعتنى في كتابه هذا بجمع وتصنيف الآثار المروية في ما وقع في المدينة النبوية من الوقائع والأحداث.

- ولبعض العلماء المتقدمين كتب مفقودة في عصرنا، نقل منها بعض أهل العلم في القرون الماضية نقولاً مهمة في هذا الباب، ومن تلك الكتب "كتاب القراءات" لأبي عبيد القاسم بن سلام، وهو أوّل كتاب صُنّفَ في القراءات، وكتاب "المصاحف" لأبي بكر ابن أشته تلميذ ابن مجاهد صاحب كتاب "السبعة في القراءات" وهو أوّل من اختار السبعة واقتصر عليهم.
- ولما ظهر التأليف الجامع لعلوم القرآن كان هذا الباب من أهم الأبواب التي عني بها العلماء الذين صنّفوا في هذا النوع، كما فعل علم الدين السخاوي (ت:643هـ) في كتابه "جمال القراء" إذ أفرد فيه مبحث "تأليف القرآن" وأراد به جمعَه وتدوينه، وبعده تلميذه أبو شامة المقدسي (ت:665هـ) في كتابه "المرشد الوجيز" ثم بدر الدين الزركشي (ت:795هـ) في كتابه "البرهان في علوم القرآن" ثم جلال الدين السيوطي (ت: 911هـ) في كتابه الكبير (الإتقان في علوم القرآن)). [جمع القرآن:12 - 13]

جمهرة علوم القرآن 13 محرم 1439هـ/3-10-2017م 09:49 AM

4. عناية علماء القرن الرابع عشر الهجري بتاريخ جمع القرآن:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (4. عناية علماء القرن الرابع عشر الهجري بتاريخ جمع القرآن:
وفي القرن الماضي كثرت محاولات الطاعنين في القرآن من المستشرقين والمنافقين، وبثوا ما استطاعوا من الشُّبَه والأضاليل؛ فظهر التأليف المفرد والتفصيل المطوّل في هذا الباب، وكان من أهمّ ما ألّف في ذلك القرن من الكتب في جمع القرآن:

- كتاب "تاريخ القرآن" للمفسّر الهندي عبد الحميد الفراهي (ت:1347هـ).
- وكتاب "تاريخ القرآن الكريم" لمحمد طاهر الكردي.
- ومن العلماء المؤلفين في علوم القرآن مَن أسهب في هذا الباب وزاده تفصيلاً وتحريراً كما فعل الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني (ت:1367هـ) في كتابه "مناهل العرفان" فإنَّه توسّع في هذا الباب ثم قال: (ولعلك أيها القارئ الكريم لا تستكثر منا هذا المجهود الطويل في حديث أنس السابق فإن بعض الملاحدة قد اتخذ منه مثاراً للطعن في تواتر القرآن، ومِن وظيفتنا أن نردَّ المَطَاعِنَ ونُفْحِمَ الطَّاعِن؛ فأردنا أن نشبع الكلام في هذا الموضوع عند هذه المناسبة أداء للواجب من ناحية، ولنستغني عن إيراده في الشبهات الآتية من ناحية أخرى. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ})ا.هـ). [جمع القرآن:14]

جمهرة علوم القرآن 13 محرم 1439هـ/3-10-2017م 01:37 PM

5. عناية علماء العصر بتاريخ جمع القرآن:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( 5. عناية علماء العصر بتاريخ جمع القرآن:
وما يزال التأليف في هذا الباب يتسّع وتزداد مباحثه؛ وتتنوع أوجه العناية به، ولعلماء هذا العصر عناية حسنة بهذا الباب جمعاً وتقريباً، وشرحاً وتحريراً؛ فكان هذا الباب من الأبواب المهمّة في علوم القرآن يدرسها طلاب التفسير في المقررات الدراسية في كثير من المعاهد والكليات والجامعات والدروس العلمية في المساجد والمراكز التعليمية وغيرها.

وممن كتب في هذا الباب فأحسن:
- الشيخ غانم قدوري الحمد في محاضراته في علوم القرآن.
- والشيخ فهد الرومي في كتابه "دراسات في علوم القرآن"
- والشيخ عبد الله الجديع في كتابه "المقدمات الأساسية في علوم القرآن"
- والشيخ مساعد الطيار في كتابه "المحرر في علوم القرآن"

وأفرد بعض الأساتذة الأفاضل كتباً في هذا الموضوع من أجمعها وأجودها:
1. كتاب "جمع القرآن حفظاً وكتابة"، للدكتور علي العبيد، نشره مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
2. وكتاب "جمع القرآن في عهد الخلفاء الراشدين" للدكتور فهد بن سليمان الرومي.
3. وكتاب " جمع القرآن في عهد الخلفاء الراشدين"، للدكتور عبد القيوم السندي، نشره مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
4. وكتاب " جمع القرآن دراسة تحليلية لمروياته"، للدكتور أكرم الدليمي، وهو رسالة علمية في جامعة بغداد.
5. وكتاب "جمع القرآن في مراحله التاريخية من العصر النبوي إلى العصر الحديث" للأستاذ: محمد شرعي أبو زيد، وهو رسالة علمية في جامعة الكويت). [جمع القرآن:15 - 16]







جمهرة علوم القرآن 13 محرم 1439هـ/3-10-2017م 01:44 PM

6. مقاصد التأليف في جمع القرآن:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( 6. مقاصد التأليف في جمع القرآن:
يمكن إجمال مقاصد التأليف في ثلاثة مقاصد عظيمة النفع:

أولها: تبصير طلاب العلم بتاريخ جمع القرآن ومراحل تدوينه، وتقريب هذه المسائل وتلخيصها لهم.
وثانيها: دراسة المرويات في هذا الباب من الأحاديث والآثار وتخريجها وبيان أحكامها، والجواب عما يشكل من ذلك.
وثالثها:الردّ على شبهات الطاعنين في جمع القرآن وثبوته ألفاظه.

وهذه المعارف من أهمّ ما ينبغي أن يعتني به طالب علم التفسير، ولذلك حرصت على إقامة هذه الدورة العلمية رجاء تحقيق هذه المقاصد، والله الموفّق والمعين). [جمع القرآن:16]




جمهرة علوم القرآن 13 محرم 1439هـ/3-10-2017م 01:51 PM

7. مباحث جمع القرآن:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري:
(
7. مباحث جمع القرآن:
كلام أهل العلم في جمع القرآن مُجْمَلٌ في المباحث التالية:

1. مقدمات في جمع القرآن.
2. جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
3. كتابة الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، والتعريف بك
ُتّاب الوحي.
4. معارضة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والعرضة الأخيرة.

5. جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
6. جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
7. كتابة المصاحف العثمانية.
8. الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما.
9. ترتيب السور والآيات في المصاحف.
10. مصاحف الصحابة رضي الله عنهم.
11. جواب ما أشكل من الروايات والمسائل في شأن جمع القرآن.

وفي كلّ مبحث من هذه المباحث تفصيل وإجابات على ما قد يشكل على بعض الدارسين، وردّ على شبهات الطاعنين في جمع القرآن، وقد بنيت هذا الكتاب على هذه المباحث، وأسأل الله تعالى العون والتسديد، والعفو عن الخطأ والتقصير، لا إله إلا هو، ولا حول ولا قوة إلا به). [جمع القرآن:17]


جمهرة علوم القرآن 14 محرم 1439هـ/4-10-2017م 12:11 AM

الباب الثاني: جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

جمع النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن في صدره

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( جمع النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن في صدره

تكفّل الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم بجمع القرآن في صدره وأن يقرأه كما أنزل الله، قال الله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه}.
قال ابن عباس: (جمعه لك في صدرك وتقرأه).
وقال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
وقال تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله}

فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ ما أنزل الله إليه من القرآن ولا ينسى منه إلا ما شاء الله مما اقتضت حكمته أن تُنسخ تلاوته.
وهذه أُولى مراتب جمع القرآن، وأصلها، وهي جمعه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم، جمعاً تاماً محفوظاً بضمان الله تعالى لا يتفلَّت ولا يختلف، ولا يخشى عليه ضياعاً ولا نسياناً). [جمع القرآن:19]

جمهرة علوم القرآن 14 محرم 1439هـ/4-10-2017م 02:15 PM

ذِكْرُ قُرّاء الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ جَمَعَ القرآن منهم:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( ذِكْرُ قُرّاء الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ جَمَعَ القرآن منهم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقرئ أصحابه القرآن، فيحفظ كلّ واحد منهم ما شاء الله أن يحفظ، وكانوا أهل حفظ وضبطٍ، وقيام بآيات الله آناء الليل وأطراف النهار؛ وكان ربما أمر بعض من يريد القراءة عليه بالقراءة على بعض قرّاء أصحابه أولاً.
- قال عبد الله بن مسعود: جاء معاذٌ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله أقرئني! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يا عبد الله أقرئه )) فأقرأتُه ما كان معي، ثمّ اختلفتُ أنا وهو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقرأه معاذٌ، وكان معلّمًا من المعلّمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه ابن أبي شيبة من عبد الله بن إدريس عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود.
- وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خذوا القرآن من أربعةٍ من عبد الله بن مسعودٍ، وسالمٍ، ومعاذ بن جبلٍ، وأبي بن كعبٍ» رواه البخاري من طريق عمرو بن مرة عن إبراهيم النخعي عن مسروق عن عبد الله بن عمرو.
- وقال أنس بن مالك: (جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد أحد عمومتي) متفق عليه من حديث شعبة عن قتادة عن أنس.
وهذا القول من أنس رضي الله عنه وإن كان خاصاً بذكر من جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس على سبيل الحصر؛ فإنه قد ثبت جمع غيرهم للقرآن كابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد يكون إنما ذكر ما بلغه من ذلك.
- وقال عامر بن شراحيل الشعبي وكان لقي نحو خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قرؤوا القرآن في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أبيٌّ، ومعاذٌ، وزيدٌ، وأبو زيدٍ، وأبو الدّرداء، وسعيد بن عبيدٍ، ولم يقرأه أحدٌ من الخلفاء من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ عثمان، وقرأه مجمّع ابن جارية إلاّ سورةً أو سورتين). رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن إدريس عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي.

ثمّ بلغ الذين جمعوا القرآن من الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم عددا كبيراً يصعب حصرهم.
قال أبو شامة المقدسي في كتابه "المرشد الوجير": (
وقد سمَّى الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام أهلَ القرآن من الصحابة في أول "كتاب القراءات" له
- فذكر من المهاجرين: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وطلحة، وسعداً، وابن مسعود، وسالماً مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعمرو بن العاص، وأبا هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن السائب قارئ مكة.

- ومن الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبا الدرداء، وزيد بن ثابت، ومجمع بن جارية، وأنس بن مالك.
- ومن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: عائشة، وحفصة، وأم سلمة.
قال: وبعض ما ذكرنا أكثر في القراءة وأعلى من بعض، وإنما خصصنا بالتسمية كل من وصف بالقراءة، وحكي عنه منها شيء)ا.هـ.
وكتاب القراءات لأبي عبيد مفقود، ويضاف إلى من ذكرهم على وصفه: ثابت بن قيس بن شماس، وأسيد بن الحضير، وأبو اليسر الأنصاري، وعثمان بن أبي العاص، وعقبة بن عامر، وشريح الحضرمي رضي الله عنهم أجمعين.
وقتلى بئر معونة من الصحابة رضي الله عنهم عامّتهم من القراء وكانوا سبعين رجلاً.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (ما رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وجدَ على سريَّة ما وجد على السبعين الذين أصيبوا يوم بئر معونة، كانوا يُدعون القُرَّاء؛ فمكث شهراً يدعو على قتلتهم). رواه مسلم من حديث سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أنس.
وهؤلاء كانوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري وغيره من حديث ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده؛ قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن..) فذكر الحديث.
وهذا مما يدلّ على كثرة القرّاء من الصحابة لأنهم يبلغون أن يكونوا جيشاً يقاتل الأعداء ولهم شوكة.
قال الحافظ ابن حجر: (وهذا يدلّ على أن كثيراً ممن قُتل في وقعة اليمامة كان قد حفظ القرآن، لكن يمكن أن يكون المراد أنَّ مجموعهم جمعه لا أن كلَّ فرد جمعه)ا.هـ.

والمقصود أنّ القرآن كان مجموعاً في صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على نوعين من الجمع:
النوع الأول: الجمع الفردي؛ والمراد به أن يجمعه الفرد من أوّله إلى آخره في صدره حفظاً واستظهاراً، وقد جمعه بهذا المعنى جماعة من قرّاء الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم: عثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وأبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء،
وأبو زيد النجاري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجمع بن جارية، وغيرهم.

والنوع الثاني: الجمع العام، وهو أن تكون كلّ آية من القرآن محفوظة في صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لا تبقى آية غير محفوظة في صدورهم، وهذا النوع مظاهر للنوع الأول؛ فإنّ الذين يحفظون بالمعنى الثاني عدد كثير يصعب حصرهم، وتحصل الطمأنينة بحفظهم وضبطهم.
قال بدر الدين الزركشي: (
كل قطعة منه كان يحفظها جماعة كثيرة أقلُّهم بالغون حدَّ التواتر)). [جمع القرآن:19 - 23]

جمهرة علوم القرآن 14 محرم 1439هـ/4-10-2017م 02:23 PM

كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه شيء من القرآن يأمرُ بعض الكُتّاب من أصحابه أن يكتبوا له، وكان من أؤلئك الكُتّاب: خالد بن سعيد بن العاص، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وشرحبيل بن حسنة، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وحنظلة بن الربيع، وأبان بن سعيد بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين.

وكانت الآيات تكتب في الرِّقَاع واللِّخَافِ والعُسُب والأكتاف والألواح، ونحو ذلك.
- روى البخاري في صحيحه من طريق إسرائيل بن يونس عن جدّه أبى إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (لما نزلت {لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فى سبيل الله} قال النبى صلى الله عليه وسلم: « ادع لى زيداً وليجئ باللوح والدواة والكتف
» - أو الكتف والدواة - ثم قال « اكتب: {لا يستوى القاعدون} » وخلف ظهر النبيّ صلى الله عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم الأعمى، قال: يا رسول الله؛ فما تأمرنى؛ فإنى رجلٌ ضريرُ البصر؛ فنزلت مكانها: [لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله غير أولي الضرر]). هكذا ترتيب الآية في هذه الررواية، ولعلها - إن كانت محفوظة - حرفاً من الأحرف السبعة التي نسخت بما أُثبتَ في الجمع العثماني كما هو مشهور في المصاحف اليوم.
قال ابن حجر: (هكذا وقع بتأخير لفظ {غير أولي الضرر} والذي في التلاوة {غير أولى الضرر} قبل {والمجاهدون في سبيل الله} وقد تقدم على الصواب من وجه آخر عن إسرائيل)ا.هـ.
وفي رواية عند الإمام أحمد وغيره من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت أنه قال: (فألحقتُها؛ فوالله لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدعٍ كانَ في الكتف).

وكان من الصحابة من يَكتب لنفسه، فمستقلّ ومستكثر، ومنهم من يحفظ ولا يكتب، لكن ثبت في الصحيح أنه وجد مكتوباً تاماً من مجموع ما عند الصحابة رضي الله عنهم). [جمع القرآن:23 - 24]

جمهرة علوم القرآن 14 محرم 1439هـ/4-10-2017م 02:25 PM

تأليف القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تأليف القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كُتَّاب الوحي بتأليف القرآن أي جمع آيات كلّ سورة منه ووضع الآيات في مواضعها التي أرادها الله، ولم يكن الوحي قد انقطع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أوحي إليه بشيء من القرآن بعث إلى بعض الكتّاب من أصحابه فكتبوا له وعيّن لهم مواضع الآيات من كلّ سورة .

ومما رُوي في ذلك حديث عوف بن أبي جميلة عن يزيد الفارسي عن ابن عباس عن عثمان بن عفان أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا أنزل عليه الشىء دعا بعض من يكتب له فيقول: (( ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا )) ، وإذا أنزلت عليه الآيات قال: (( ضعوا هذه الآيات فى السورة التي يذكر فيها كذا وكذا )) ، وإذا أنزلت عليه الآية قال: (( ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)) ). رواه الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي وغيرهم في خبر طويل، ومداره على يزيد الفارسي، وقد اختلف فيه؛ فقال أبو حاتم الرازي لا بأس به، وقال ابن حجر: مقبول، وهو تابعي من أهل البصرة، قليل الرواية، لم يرو عنه غير عوف بن أبي جميلة الأعرابي في قول يحيى بن معين.
وسيأتي الحديث عن تمام الخبر إن شاء الله، لكن هذا القدر منه مما لا نكارة فيه.
وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال: (( طوبى للشام ))
قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟
قال: (( إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها )). رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والترمذي وابن حبان والبيهقي وغيرهم من طريق يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عن زيد بن ثابت.
قال أبو بكر البيهقي رحمه الله: (وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانت مثبتة في الصدور مكتوبة في الرقاع واللخاف والعسب)أ.ه.
والمقصود أن آيات السور ذوات العدد الكثير من الآيات قد يتراخى نزولها فيستتم بعد سنوات وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد كتّاب الوحي إلى موضع كلّ آية في السورة التي يعيّنها لهم؛ فيكتبونها كما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال النووي رحمه الله: (اعلم أن القرآن العزيز كان مؤلَّفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو في المصاحف اليوم، ولكن لم يكن مجموعاً في مصحف، بل كان محفوظاً في صدور الرجال؛ فكان طوائف من الصحابة يحفظونه كلَّه، وطوائف يحفظون أبعاضاً منه)ا.هـ.

قلت: وهو كما هو محفوظ في الصدور؛ فهو محفوظ في السطور، لكنّه كان متفرّقاً في صحائف الصحابة رضي الله عنهم، وقد تتبعه زيد بن ثابت بأمر أبي بكر رضي الله عنه حتى وجده مكتوباً تاماً على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.

ولم يجمع القرآن في مصحف واحد بين دفّتين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف بين أهل العلم.
قال الديرعاقولي: حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد، عن زيد بن ثابت قال: « قُبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء ». ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح.
وقال ابن جرير الطبري: حدثني سعيد بن الربيع، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال:
« قُبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جُمع، وإنما كان في الكرانيف والعسب »
وذلك أنّ
النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً من أن ينسى شيئاً من القرآن؛ فكانت حياته ضماناً لحفظ القرآن وإن لم يُكتَب، ولأنَّ القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان يزاد فيه وينسخ منه ؛ فكان جمعه في مصحف واحد في عهده مظنة لاختلاف المصاحف، وفي ذلك مشقة بالغة.
قال النووي: (وإنما لم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم في مصحف واحد لما كان يتوقع من زيادته ونسخ بعض المتلو، ولم يزل ذلك التوقع إلى وفاته صلى الله عليه وسلم)ا.هـ). [جمع القرآن:25 - 27]

جمهرة علوم القرآن 14 محرم 1439هـ/4-10-2017م 11:07 PM

الباب الثالث: التعريف ببعض كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم

عناية بعض العلماء بتتبّع أسماء كٌتاب النبي صلى الله عليه سلم

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (عناية بعض العلماء بتتبّع أسماء كٌتاب النبي صلى الله عليه سلم
كتبَ للنبي صلى الله عليه وسلم جماعةٌ من أصحابِه رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد اختلفت الأقوال في عَدَدِهم وتَعْدَادهم؛ وأقدم ما وصلنا من أخبار تعدادهم أثر عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وذلك فيما رواه
محمد بن حميد الرازي قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر [بن الزبير] عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب عبد الله بن الأرقم؛ فكان يكتب إلى الملوك فبلغ من أمانته عنده أنه كان يكتب إلى بعض الملوك، فيكتب ثم يأمره أن يطبقه ثم يختم لا يقرأه لأمانته عنده، واستكتب أيضا زيد بن ثابت، فكان يكتب الوحي، ويكتب إلى الملوك أيضا، وكان إذا غاب عبد الله بن الأرقم وزيد بن ثابت، فاحتاج أن يكتب إلى بعض أمراء الأجناد والملوك، ويكتب لإنسان كتابا يقطعه أمر من حضر أن يكتب، وقد كتب له عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية بن أبي سفيان، وخالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنهم وغيرهم ممن قد سمي من العرب» أخرجه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة، والطبراني في الكبير، والبيهقي في السنن الكبرى، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وقد تصحّف اسم "محمد بن جعفر" في المطبوع من معجم الطبراني إلى "محمد بن جعفر بن عبد الله بن الزبير"، ومحمد بن جعفر ثقة من رجال الصحيحين إلا أن روايته عن عمّه عبد الله بن الزبير مرسلة.


وعُني جماعة من العلماء بتتبّع أسماء كُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأفرد في ذلك عمر بن شبّة النميري (ت:262هـ) مصنّفاً مفرداً سمّاه (الكُتَّاب) وذكر منهم ثلاثة وعشرين كاتباً مما جمعه من الروايات التي فيها ذِكْرٌ لكتابة أحد من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم.

وكتاب عمر بن شبَّة مفقود، لكنَّه كان متداولاً عند العلماء السابقين، وقد لخَّص أبو القاسم السهيلي (ت:581هـ) في كتابه "الروض الأنف" أسماء أؤلئك الكُتَّاب الذين ذكرهم عمر بن شبّة؛ فقال بعد خبر كتابة صلح الحديبية: (وقد كتب له [صلى الله عليه وسلم] عدة من أصحابه منهم: عبد الله بن الأرقم، وخالد بن سعيد، وأخوه أبان، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، وأبي بن كعب القارئ، وقد كتب له أيضا في بعض الأوقات أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وكتب له كثيراً معاوية بن أبي سفيان بعد عام الفتح، وكتب له أيضا الزبير بن العوام، ومعيقيب بن أبي فاطمة، والمغيرة بن شعبة، وشرحبيل بن حسنة وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وجُهيم بن الصلت، وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وحنظلة الأسيدي وهو حنظلة بن الربيع وفيه يقول الشاعر بعد موته:
إنَّ سواد العين أودى به ... حزن على حنظلة الكاتب
والعلاء بن الحضرمي، ذكرهم عمر بن شبة في كتاب "الكُتَّابِ" له)ا.هـ.
وهؤلاء الكتاب منهم من كان مكثراً معروفاً بالكتابة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يُعثر في خبرٍ أو خبرين على أنه كتب للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولذلك اقتصر علي بن الحسين المسعودي (ت:346هـ) في تعدادهم على ستة عشر كاتباً في كتابه "التنبيه والإشراف" ثم قال: (وإنما ذكرنا من أسماء كُتَّابِه صلّى الله عليه وسلّم من ثبت على كتابته واتصلت أيامه فيها وطالت مدته وصحت الرواية على ذلك من أمره دون من كتب الكتاب والكتابين والثلاثة إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتباً ويضاف إلى جملة كتابه)ا.هـ.
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي (ت:600هـ) في مختصره في السيرة: (كتب له صلّى اللّه عليه وسلّم: أبو بكرٍ الصّدّيق، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالبٍ، وعامر بن فهيرة، وعبد اللّه بن الأرقم الزّهريّ، وأبيّ بن كعبٍ، وثابت بن قيس بن شمّاسٍ، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسديّ، وزيد بن ثابتٍ، ومعاوية بن أبي سفيان، وشرحبيل ابن حسنة.
وكان معاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابتٍ ألزمهم لذلك، وأخصّهم به)ا.هـ.

فهؤلاء ثلاثة عشر كاتباً ذكرهم في مختصره في السيرة، وفي مقدّمة كتابه (الكمال في أسماء الرجال) ، ولم يزد عليه الحافظ المزّي في تهذيبه للكمال غيرَهم.

ثمّ أتى الحافظ ابن كثير (ت:774هـ) فعقد فصلاً طويلاً في البداية والنهاية للتعريف بكُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر منهم ستة وعشرين كاتباً وذكر بعض أخبارهم وشيئاً من تراجمهم.


ثمَّ تتبَّعهم الحافظ زين الدين العراقي (ت:806هـ) وذكر كلَّ من وقف على خبر له أنه كتب للنبي صلى الله عليه وسلم حتى أوصلهم إلى اثنين وأربعين كاتباً، ونظم أسماءهم في ألفيته في السيرة النبوية، وقد شرحها الحافظ المُناوي (ت:1031هـ) في كتاب له سمَّاه (العجالة السنيّة على ألفيّة السيرة النبوية).
قال العراقيّ في ألفيّته بعد أن نظم أسماء الذين ذكرهم الحافظان عبد الغني المقدسي وأبو الحجاج المِزي:
واقتصر المزيّ مع عبد الغنيّ ... منهم على ذا العدد المبيَّنِ
وزِدتُ من مفترقاتِ السِّيَرِ ... جمعاً كثيراً فاضبطنْهُ واحصُرِ

وقبله كتب أبو عبد الله محمد بن علي ابن حُديدة الأنصاري (ت:783هـ) كتاباً مفرداً في هذا الباب سمَّاه (المصباح المضيء في كُتَّاب النبيّ الأميّ ورسله إلى ملوك الأرض من عربيّ وعجميّ) وأوصلهم إلى أربعة وأربعين كاتباً، وكتابه مطبوع.
ثم في هذا العصر ألَّف الدكتور محمد مصطفى الأعظمي كتاباً سمّاه (كُتَّاب النبيّ صلى الله عليه وسلم) وأوصلهم إلى ثمانية وأربعين كاتباً.
وفي بعض الأسماء المضافة في هذه الكتب نظر، وتتبُّعُ أسمائهم يُحتاج فيه إلى مزيد دراسة وتحقيق للمرويات.

وهذا في عموم الكُتَّاب الذين رُوي أنّهم كتبوا للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أمر بكتابته وإن كان من غير القرآن، وأكثر الآثار المروية في هذا الباب هي في كتابة غير القرآن من العهود والرسائل، وكُتُب الأمان، والصلح، والحقوق، والديات، والأعطيات، والصدقات، وخَرْصِ الثمارِ، والمكتَتبين في الغزوات، وغير ذلك من أغراض الكتابة، وفي المروي من ذلك الصحيح والضعيف.
والذي يعنينا في هذا الباب هو أسماء الذين كتبوا القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أنّهم جماعة، وأنَّ الكتابة كانت على سنوات متعاقبة). [جمع القرآن:29 - 33]

جمهرة علوم القرآن 14 محرم 1439هـ/4-10-2017م 11:12 PM

التعريف ببعض كُتَّاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلَّم

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( التعريف ببعض كُتَّاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلَّم
كتبَ الوحي للنبي صلى الله عليه وسم جماعة من قراء أصحابه رضي الله عنهم، ومنهم: خالد بن سعيد بن العاص، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وشرحبيل بن حسنة، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وحنظلة بن الربيع،
وأبان بن سعيد بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان.
وكتب له أيضاً: عبد الله بن سعد بن أبي السرح، ورجلٌ من بني النجار.
قال المقريزي في "إمتاع الأسماع" : (وكان كتاب الوحي: عثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فإن غابا كتب أبى بن كعب، وزيد بن ثابت، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وكان أبىّ ممن كتب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، الوحي قبل زيد بن ثابت، وكتب معه أيضا.
وكان زيد ألزم الصحابة لكتابة الوحي، وكان زيد وأبىّ يكتبان الوحي بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإن لم يحضر أحد من هؤلاء الأربعة، كتب من حضر من الكتاب، وهم: معاوية بن أبى سفيان، وخالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، والعلاء بن الحضرميّ، وحنظلة بن الربيع، وكتب عبد اللَّه بن سعد بن أبى سرح الوحي، ثم ارتد)ا.هـ.

1. خالد بن سعيد بن العاص بن أمية القرشيّ، من السابقين الأولين إلى الإسلام أسلم بعد أبي بكر، وهو شابّ حديث عهد بزواج، وأوذي في الله فصبر مع من صبر، ثمّ أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة؛ فهاجر مع جعفر بن أبي طالب، وقدم معه عام خيبر، ولزم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وشهد معه المشاهد، وكان فصيحاً جميلاً شجاعاً أميناً حصيفاً، وهو الذي ولي عقد نكاح أمّ المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ إذ كان أقرب أوليائها من المسلمين حينئذ.
واستعمله النبيّ صلى الله عليه وسلم على صدقات اليمن، وكان من كتّابه، ووهبه صمصامة عمرو بن معدي كرب الزبيدي المذكورة، وهو صاحب أوّل لواء عقده أبو بكر لحرب المرتدين، وقاتل الروم في الشام تحت إمرة خالد بن الوليد، واستشهد في وقعة مرج الصفر سنة ثلاث عشرة للهجرة.
وكان من وصيّة أبي بكر لشرحبيل بن حسنة: (فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقى الناصح فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وليك خالد بن سعيد ثالثاً؛ فإنك واجد عندهم نصحا وخيرا، وإياك واستبداد الرأي عنهم أو تطوي عنهم بعض الخبر). رواه ابن سعد في الطبقات.
قالت ابنته أم خالد وهي صحابية رضي الله عنها: (كان أبي خامساً في الإسلام، وهاجر إلى أرض الحبشة، وأقام بها بضع عشرة سنة، وولدت أنا بها). ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام.
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: وروى إبراهيم بن عقبة، عن أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص، قالت: (أبي أوَّل من كتب بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).
فإن ثبت هذا فهو أوّل من كتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم بمكّة.

2. عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية القرشي، ذو النورين، وثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنّة، بشَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة، وكان كثير التلاوة ربما قرأ القرآن في ليلة، وفضائله كثيرة معروفة.
كان يحسن الكتابة، وقد كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد رُوي أنّه أوّل من كتب المفصّل.
- روى محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: لما قدم المصريون دخلوا على عثمان رضي الله عنه؛ فضرب ضربة على يده بالسيف، فقطر من دم يده على المصحف وهو بين يديه يقرأ فيه على {فسيكفيكهم الله}
قال: وشدَّ يده وقال: «إنها لأول يد خطَّت المفصل» ). رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة.
- وروى ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (لما ضَرب الرَّجلُ يدَ عثمان قال:
« إنها لأول يد خطت المفصل »). رواه الطبراني وابن أبي عاصم.
- وذكر عمر بن شبّة في تاريخ المدينة وابن كثير في البداية والنهاية في خبر مقتله أنه ضُرب بالسيف وهو ناشر المصحف بين يديه، فاتّقى الضربة بيده فقُطعت يده؛ فقال: والله إنها أول يدٍ كتبتِ المفصَّل، فكان أوَّل قطرة دم منها سقطت على هذه الآية {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم}.

وكان استشهاده يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين للهجرة.
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية عن المدائني عن أشياخه أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جعل الخلافة من بعده شورى بين الستة قال: (ما أظن الناس يعدلون بعثمان وعلي أحداً، إنهما كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينزل به جبريل عليه)ا.هـ.

3. علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رابع الخلفاء الراشدين، من السابقين الأولين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، من قراء الصحابة وفقهائهم ومن أعلمهم بالتفسير ونزول القرآن، وفضائله كثيرة معروفة.
قال أبو الطفيل عامر بن واثلة: شهدت عليا وهو يخطب ويقول: (سلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار وأم في سهل، أم في جبل). رواه عبد الرزاق في تفسيره.
كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي وغيره، وهو الذي كتب صلح الحديبية.

4. شرحبيل بن حسنة، وهو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع الكندي، وحَسَنةُ أمُّه، تزوجها رجل من قريش بعد أبيه، وتبنّى ابنها في الجاهلية، ولذلك نشأ في قريش وهو كنديّ، ثم حالف بني زهرة في خلافة عمر بعد موت أخويه لأمّه.
وشرحبيل بن حسنة من السابقين الأولين إلى الإسلام، أسلم قديماً بمكة، وهاجر إلى الحبشة، وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد أمراء الجيوش الذين أمَّرهم أبو بكر في فتوح الشام، مات في طاعون عمواس سنة 18هـ وهو ابن سبع وستين.
قال ابن حُديدة الأنصاري(ت:783هـ): (وهو أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم).

5. أبو المنذر أبيّ بن كعب بن قيس النجاري الخزرجي الأنصاري، شهد بيعة العقبة الثانية، وبدراً وما بعدها، وكان من علماء الصحابة وقرائهم الكبار.
قال ابن سعد في الطبقات: (وكان أبيّ يكتب في الجاهلية قبل الإسلام وكانت الكتابة في العرب قليلة، وكان يكتب في الإسلام الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال ابن عبد البر: (وكان أبيّ بن كعب ممن كتب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي قبل زيد بن ثابت ومعه أيضًا، وكان زيد ألزم الصحابة لكتابه الوحي، وكان يكتب كثيرًا من الرسائل).
وقال أحمد بن يحيى البلاذري(ت:279هـ) في كتابه "فتوح البلدان": (وحدثني الوليد ومحمد بن سعد عن الواقدي عن أشياخه قالوا: أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مَقْدَمَهُ المدينةَ أبيُّ بن كعب الأنصاري، وهو أول من كتب في آخر الكتاب: "وكتب فلان"؛ فكان إذا لم يحضر دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت الأنصاري؛ فكتب له؛ فكان أبيّ وزيد يكتبان الوحي بين يديه).
وقال أحمد بن زهير ابن أبي خيثمة (ت:279هـ): ( كان أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب؛ فكان إذا لم يحضر دعا زيد بن ثابت؛ فكانا يكتبان له الوحي ويكتبان إلى من كاتبه من الناس، وكان يكتب له عثمان بن عفان، وخالد بن سعيد، وأبان بن سعيد كتبه إلى من يكاتب من الناس وما يُقْطِع وغير ذلك). رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.

قوله: (أول من كتب..) يريد بالمدينة.

6: زيد بن ثابت بن الضحاك النجاري الأنصاري، من أشهر كتّاب الوحي،
قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهو ابن إحدى عشرة سنة، وكان غلاماً ذكيا فَهماً فطناً، حسن التعلم، ماهراً بالكتابة؛ فكان النبي صلى الله عليه السلام يعلّمه القرآن، ويأمره بكتابة الوحي؛ وكان جاراً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلزمه وتعلّم منه، وشاهد نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه القرآن مراراً.
- روى الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: اكتب: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فجاء عبد الله ابن أم مكتوم ، وقال: يا رسول الله «إني أحب الجهاد في سبيل الله , ولكن فيَّ من الزمانة ما قد ترى، وذهب بصري»
قال زيد: «فثقلت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي؛ حتى حسبت أن يرضها» ثم قال: " اكتب: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله} ). رواه عبد الرزاق.
ولمّا عزم أبو بكر على جمع القرآن قال له: « إنك رجل شاب عاقل، ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه». رواه البخاري.
- قال ابن شهاب الزهري: حدثني سعيد بن سليمان، عن أبيه سليمان، عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان «إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقا شديدا مثل الجمان، ثم سري عنه» ، فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة، فأكتب وهو يملي علي، فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القرآن، وحتى أقول: لا أمشي على رجلي أبدا، فإذا فرغت قال: «اقرأه» ، فأقرؤه، فإن كان فيه سقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس). رواه الطبراني في الكبير والأوسط.
وقال الليث بن سعد: حدثني أبو عثمان الوليد بن أبي الوليد عن سليمان بن خارجة عن خارجة بن زيد بن ثابت قال: «دخل نفر على زيد بن ثابت؛ فقالوا له حدّثنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ماذا أحدّثكم؟ كنت جاره فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّ فكتبته له، فكنّا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطّعام ذكره معنا، فكلّ هذا أحدّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم». رواه الترمذي في الشمائل المحمدية، وأبو الشيخ الأصبهاني، والطبراني في الأوسط والكبير والبيهقي في السنن الكبرى ودلائل النبوة وغيرهم، وحسّنه الهيثمي في مجمع الزوائد.
الوليد بن أبي الوليد روى له البخاري في الأدب المفرد، ووثّقه أبو زرعة الرازي، وذكره ابن حبان في الثقات وقال ربما خالف على قلة روايته، ولذلك قال ابن حجر في التقريب: ليّن الحديث، وفي هذا الحكم نظر، فقد وثّقه يحيى بن معين والعجلي وأبو داوود، وروى له مسلم في صحيحه؛ فالرجل ثقة إن شاء الله، لكن عبارة ابن حبان يمكن أن يعلّ بها إذا خالف مَن هو أوثق منه، وهذا المتن ليس فيه نكارة ولا مخالفة؛ فهو حديث حسن الإسناد إن شاء الله تعالى.


7. حنظلة بن الربيع بن صيفي التميمي المعروف بحنظلة الكاتب، وهو ابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن يا حنظلة ساعة وساعة).
وقال قيس بن زهير: انطلقنا مع حنظلة بن الربيع إلى مسجد فرات بن حيان فحضرت الصلاة فقال له: تقدَّم، فقال له: ما كنت لأتقدَّمَك وأنت أكبر مني سنا، وأقدم هجرة، والمسجد مسجدك.
فقال فرات: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيك شيئا لا أتقدَّمك أبداً.
قال: (أشهدته يوم أتيته بالطائف فبعثني عينا؟)
قال: نعم.
فتقدَّم حنظلة فصلى بهم.
فقال فرات: يا بني عجلان إنما قدَّمت هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه عينا إلى الطائف، فجاء فأخبره الخبر، فقال: صدقت ارجع إلى منزلك فإنك قد شهدت الليلة، فلما ولى قال لنا: «ائتموا بهذا وأشباهه» رواه الطبراني في الكبير.
قال البخاري في تاريخه الكبير: (حنظلة كاتب النبي صلى الله عليم وسلم).
وقَال أَحْمَد بن عَبد اللَّهِ بن البرقي: (إنما سمي الكاتب لأنه كتب للنبي صلى الله عليم وسلم الوحي، وكان بالكوفة فلما شُتِمَ عثمان انتقل إلى قرقيسيا، وَقَال: لا أقيم ببلد يشتم فيه عثمان، وتوفي بعد علي، وكان معتزلا للفتنة حتى مات). ذكره المزي في تهذيب الكمال.

شهد القادسية، ومات في خلافة معاوية، وقيل في رثائه:

تعجَّـب الدهر لمحــــــــــزونـــــــــــة ... تبكي على ذي شيبة شاحب
إنْ تسألـــــيني اليوم ما شفني ... أخبرك أني لســـــــت بالكـــاذب
إنَّ ســـــــــــــــواد العين أودى به ... حــــــــــــزني على حنظلة الكاتب

8. أبان بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي، أخو خالد وعمرو ، وكانا قد سبقاه إلى الإسلام وهاجرا إلى الحبشة؛ فلما عادا من الحبشة كتبا إليه فقدم مسلماً، وهو الذي أجار عثمان لما دخل مكة زمن الحديبية، وكان إسلامه بعدها، وكان كاتباً فصيح اللسان، حسن البيان، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض السرايا، واستعمله على البحرين، وبقي أميراً عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدم على أبي بكر، وسار إلى الشام فقاتل حتى استشهد يوم أجنادين سنة 13هـ.

9. معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية القرشي، أوَّل ملوك المسلمين، وخال المؤمنين، أسلم في عمرة القضاء، وأظهر إسلامه يوم الفتح، وكان شابا فهماً حصيفاً يحسن الكتابة.
وقال أبو مسهر: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: (( اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب)).


قال الذهبي: (وقد صح عن ابن عباس قال: كنت ألعب، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " ادع لي معاوية"، وكان يكتب الوحي).
وأصل الحديث في صحيح مسلم من غير هذه الزيادة، وفي مسند الإمام أحمد من طريق أبي عوانة عن أبي حمزة قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت غلاما أسعى مع الغلمان، فالتفتُّ فإذا أنا بنبي الله صلى الله عليه وسلم خلفي مقبلاً، فقلت: ما جاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلا إليَّ.
قال: فسعيتُ حتى أختبئَ وراء باب دار.
قال: فلم أشعر حتى تناولني، فأخذ بقفاي فَحَطَأَني حَطْأَة؛ فقال: ((اذهب فادع لي معاوية))
قال: وكان كاتبه، فسعيت فأتيت معاوية، فقلت: (أجب نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه على حاجة).

الحَطْءُ هو الضرب باليد المبسوطة.

وكان معاوية حليماً حكيماً، عالماً فقيهاً، ذا سياسة وكياسة، وكان داهية من دهاة العرب المعدودين؛ وكان عمر إذا نظر إليه قال: (هذا كسرى العرب).
قال همام بن منبه: سمعت ابن عباس يقول: (ما رأيت رجلا كان أخلق للملك من معاوية، كان الناس يَرِدُون منه على أرجاءِ وادٍ رَحْب). رواه عبد الرزاق.
وقال قبيصة بن جابر: (صحبت معاوية، فما رأيت رجلا أثقل حلماً، ولا أبطأ جهلاً، ولا أبعد أناةً منه) رواه ابن عساكر.
ولَّاه عمر إمارةَ دمشق، ثم جمع له عثمان الشامَ كلَّه؛ فكانت مدّة إمارته عشرين سنة، ولما قتل عثمان قام بطلب دمه؛ فحصل من الفتنة ما حصل، ثم استوسق له الأمرُ عام الجماعة؛ وبويع بالخلافة؛ على بلاد المسلمين كافة؛ فبقي خليفة عشرين سنة حتى مات سنة 60هـ.

10. عبد الله بن سعد بن أبي السرح العامري القرشي، أخو عثمان بن عفان من الرضاعة.
أسلم قديماً بمكة، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: (وأول من كتب له من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح)
ثم إنّه أدركته فتنة فارتدّ ولحق بالمشركين؛ فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وأمر بقتله عام الفتح؛ ثم شفع فيه عثمان وعفا عنه النبي صلى الله وعليه وسلم، وحسن إسلامه بعد ذلك، واشتغل بالجهاد وكان شجاعاً مذكوراً وقائداً من قادات الجيوش وهو الذي فتح أفريقية وكان قائد الجيش في غزوة ذات الصواري، ولاه عثمان إمرة مصر؛ فكان محمود السيرة، واعتزل الفتنة بعد مقتل عثمان، ومات بعسقلان سنة 36هـ.
قال الذهبي: (لما احتضر قال: اللهم اجعل آخر عملي صلاة الصبح، فلما طلع الفجر توضأ وصلى، فلما ذهب يسلّم عن يساره فاضت نفسه).

قال ابن عباس: كان عبد الله بن سعد بن أبي السَّرْح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزلَّه الشيطان، فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقتَل يومَ الفتح؛ فاستجار له عثمان بن عفان، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه أبو داوود من طريق علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس.
وقال سعد بن أبي وقاص: (لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه، ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ " فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك؟ ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين). رواه أبو داوود والنسائي من طريق أسباط بن نصر عن مصعب بن سعد عن أبيه.

قال الواقدي: (قالوا: وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد أسلم قديما، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فربما أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {سميع عليم} فكتب «عليم حكيم» فيقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «كذلك الله» ويقرّه. فافتتن عبد الله بن سعد وقال: ما يدري محمد ما يقول، إني لأكتب له ما شئت، هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد. وخرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا).
وهذا الذي قاله خطأ، وهو خلط بين خبرين، ولم يثبت أنّه كان يغيّر، ولم أقف على خبر صحيح لكتابته الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم بعد توبته.


11. وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي رجل من بني النجار ثم فتن فارتدّ ومات كافراً، وهو الذي ذُكرت عنه دعوى التغيير.
قال أنس بن مالك: ( كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فرفعوه، قالوا: هذا قد كان يكتب لمحمد فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له، فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له، فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذا). رواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس.
ورواه الإمام أحمد من طريق يزيد بن هارون قال: أخبرنا حميد، عن أنس، أن رجلا كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان قرأ: البقرة، وآل عمران، وكان الرجل إذا قرأ: البقرة، وآل عمران، جدَّ فينا - يعني عَظُم -، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، يملي عليه غفوراً رحيماً، فيكتب عليماً حكيماً، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب كذا وكذا، اكتب كيف شئت) ويملي عليه عليما حكيما، فيقول: أكتب سميعا بصيرا؟ فيقول: " اكتب كيف شئت ". فارتد ذلك الرجل عن الإسلام، فلحق بالمشركين، وقال: أنا أعلمكم بمحمد إن كنت لأكتب كيفما شئت، فمات ذلك الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إن الأرض لم تقبله ))
وقال أنس: فحدثني أبو طلحة: أنه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل، فوجده منبوذا، فقال أبو طلحة: ما شأن هذا الرجل؟
قالوا: قد دفنَّاه مرارا فلم تقبله الأرض).
ولعل ما ذكر من أمر التغيير الذي فتن به هذا الرجل هو مما نزل من الأحرف السبعة؛ كما في مسند الإمام أحمد وغيره من حديث سليمان بن صرد، عن أبي بن كعب، قال: قرأت آية، وقرأ ابن مسعود خلافها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟
قال: "بلى "
فقال ابن مسعود: ألم تقرئنيها كذا وكذا؟
فقال: "بلى، كلاكما محسن مجمل "
قال: فقلت له: فضرب صدري، فقال: "يا أبي بن كعب، إني أقرئت القرآن، فقلت: على حرفين، فقال: على حرفين، أو ثلاثة؟ فقال الملك الذي معي: على ثلاثة، فقلت: على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: {غفورا رحيما}، أو قلت: {سميعا عليما}، أو {عليما سميعا} فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب).
وفي رواية في مسند الإمام أحمد: (
قال: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده في صدري، ثم قال: "اللهم أذهب عن أبيٍّ الشكَّ " ففضت عرقا، وامتلأ جوفي فرقا..) ثمّ ذكر الحديث بنحوه.

وهذه فتنة قدّرها الله على علمٍ فَضَلَّ بها من لم يكن موقناً بكلام الله تعالى، ولا بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصم الله من أراد له الهداية، والثبات على الدين.

ومما يدل على صحّة هذا المحمل ما رواه ابن جرير في مقدمة تفسيره عند حديثه عن الأحرف السبعة بإسناده عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب أن الذي ذكر الله تعالى ذكره {إنما يعلمه بشر} إنما افتتن أنه كان يكتب الوحي، فكان يملي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: سميع عليم، أو عزيز حكيم، أو غير ذلك من خواتم الآي، ثم يشتغل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الوحي، فيستفهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيقول: أعزيز حكيم، أو سميع عليم أو عزيز عليم؟
فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي ذلك كتبت فهو كذلك)). ففتنه ذلك، فقال: (إن محمدا وكل ذلك إلي، فأكتب ما شئت).
وهو الذي ذكر لي سعيد بن المسيب من الحروف السبعة)ا.ه.

قال أبو بكر البيهقي: (وأمّا الأخبار الّتي وردت في إجازة قراءة: {غفورٌ رحيمٌ} بدل {عليمٌ حكيمٌ}؛ فلأنّ جميع ذلك ممّا نزل به الوحي، فإذا قرأ ذلك في غير موضعه ما لم يختم به آية عذابٍ بآية رحمةٍ أو رحمةٍ بعذابٍ؛ فكأنّه قرأ آيةً من سورةٍ، وآيةً من سورةٍ أخرى؛ فلا يأثم بقراءتها كذلك، والأصل ما استقرّت عليه القراءة في السّنة الّتي توفّي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما عارضه به جبرائيل عليه السّلام في تلك السّنة مرّتين، ثمّ اجتمعت الصّحابة على إثباته بين الدّفّتين)ا.هـ.
قلت: هكذا قال، والأرجح حمل هذا الحديث على اختلاف الأحرف السبعة). [جمع القرآن:33 - 48]

جمهرة علوم القرآن 14 محرم 1439هـ/4-10-2017م 11:23 PM

الباب الرابع: معارضة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والعرضة الأخيرة

معارضة جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن


قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معارضة جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن
كان جبريل عليه السلام يُعارِضُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان من كلّ عام، حتى كان العام الذي توفّي فيه النبي صلى الله عليه وسلم فعارضه به مرتين، وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك دنوّ أجله.

فكان يعارضه في كلّ عام بما نزل من القرآن إلى ذلك الوقت على الترتيب الذي أراده الله للآيات في كلّ سورة مما لم تُنسخ تلاوته.
قال داود بن أبي هند: قلت للشعبي: قوله {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن..} أما نزل عليه القرآن في سائر السنة، إلا في شهر رمضان؟
قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمدا صلى الله عليه وسلم بما ينزل في سائر السنة في شهر رمضان). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن
ورواه أيضاً ابن الضريس ولفظه: قال: «كان الله تعالى ينزل القرآن السنة كلها، فإذا كان شهر رمضان عارضَهُ جبريلُ عليه السلام بالقرآن، فينسخ ما ينسخ، ويثبت ما يثبت، ويحكم ما يحكم، وينسئ ما ينسئ».
قال ابن كثير رحمه الله: (والمراد من معارضته له بالقرآن كل سنةٍ: مقابلته على ما أوحاه إليه عن الله تعالى، ليبقي ما بقي، ويذهب ما نسخ توكيدًا، أو استثباتًا وحفظًا؛ ولهذا عرضه في السنة الأخيرة من عمره، عليه السلام، على جبريل مرتين، وعارضه به جبريل كذلك؛ ولهذا فهم، عليه السلام، اقتراب أجله)ا.هـ.

وقد دلَّ على ثبوت معارضة القرآن أحاديث صحيحة منها:
1. حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة» متفق عليه من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس.
وفي رواية في صحيح البخاري: «فيدارسُه القرآن»
2. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «كان يُعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه» رواه أحمد والبخاري والدارمي وأبو داوود وابن ماجه والنسائي كلهم من طريق أبي حصين عثمان بن عاصم الأسدي عن أبي صالح السمَّان، عن أبي هريرة.
3. وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعا، لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة عليها السلام تمشي، لا والله ما تخطى مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فلما رآها رحَّب قال: «مرحبا بابنتي» ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارَّها، فبكت بكاء شديدا، فلما رأى حزنها سارَّها الثانية، فإذا هي تضحك، فقلت لها أنا من بين نسائه: خصَّكِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالسرِّ من بيننا، ثم أنت تبكين؟!!
فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتُها: عمَّا سارَّك؟
قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سرَّه.
فلما توفي قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني، قالت: أما الآن فنعم، فأخبرتني، قالت: أما حين سارَّني في الأمر الأول، فإنَّه أخبرني: «أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نِعْمَ السلَفُ أنا لك».
قالت: فبكيت بكائي الذي رأيتِ، فلما رأى جزعي سارَّني الثانية، قال: «يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين [أو سيدة نساء هذه الأمة]» متفق عليه من حديث الشعبيّ عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها.

والأحاديث المروية في معارضة القرآن رويت بألفاظ:
- منها: ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يعرض القرآن على جبريل.
- ومنها: ما يفيد أن جبريل عليه السلام كان هو الذي يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم.
- ومنها: ما هو نصّ على المعارضة التي تفيد المفاعلة من الطرفين.
- ومنها: لفظ المدارسة كما في رواية في الصحيحين (وهو أعمّ من المعارضة؛ إذ المعارضة مختصة بالألفاظ، والمدارسة تشمل الألفاظ والمعاني.
والمتوجّه الجمع بين هذه الألفاظ إذْ صحّت بها الرواية، وهي صحيحة المعنى لا تعارض بينها.
قال ابن حجر رحمه الله في شرحه على صحيح البخاري: (قوله: "يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن" هذا عكس ما وقع في الترجمة لأنَّ فيها أن جبريل كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض على جبريل، وتقدم في بدء الوحي بلفظ: "وكان يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن" فيحمل على أن كلا منهما كان يعرض على الآخر)ا.هـ). [جمع القرآن:49 - 52]

جمهرة علوم القرآن 14 محرم 1439هـ/4-10-2017م 11:29 PM

معارضة أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم له بالقرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معارضة أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم له بالقرآن
وكان قراء الصحابة يعرضون قراءتهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فيقوّمهم ويجيزهم بالإقراء والتعليم،
وربما عرَضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن أو بعضه أو عرضوا عليه فحفظوا عنه.
- وقد روى الإمام أحمد وابن أبي شيبة وغيرهما من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: سمعت أبي بن كعب، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرتُ أن أعرض عليك القرآن»، قلت: سماني لك، قال: «نعم»، فقال أبيّ: {بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}).
- وروى البخاري ومسلم من طريق همام عن قتادة، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأبي: «إنَّ الله أمرني أن أقرأ عليك»، قال: آلله سماني لك؟ قال: «الله سماك لي»، قال: فجعل أبيّ يبكي.
لكن حديث أنس ليس فيه لفظ العرض، ولعله مختصر من خبر قراءة سورة البيّنة، لكن المعوَّل في الاستدلال على رواية ابن أبزى عن أبيّ.
- وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعارَض بالقرآن في كلّ رمضان، وإني عَرضْتُ في العام الذي قبض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن). رواه الإمام أحمد وسيأتي بطوله إن شاء الله). [جمع القرآن:52 - 53]

جمهرة علوم القرآن 14 محرم 1439هـ/4-10-2017م 11:33 PM

العرضة الأخيرة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (العرضة الأخيرة
- قال محمد بن سيرين: (كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في كل شهر رمضان؛ فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين).

قال: (فيرجى أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة). رواه سعيد بن منصور عن هشيم عن منصور بن زاذان عن ابن سيرين وهذا إسناد صحيح إلى ابن سيرين.

- وأخرج ابن شبّة في تاريخ المدينة عن عبد الأعلى عن هشام عن ابن سيرين في قصة جمع عثمان وفيه أن محمد بن سيرين قال: فحدثني كثير بن أفلح: أنه كان فيمن يكتب لهم، فكانوا كلما اختلفوا في شيء أخَّروه.
قلت: لم أخروه؟
قال: لا أدري.
قال محمد: فظننت أنا فيه ظنا، ولا تجعلوه أنتم يقينا، ظننت أنهم كانوا إذا اختلفوا في الشيء أخروه حتى ينظروا آخرهم عهداً بالعرضة الأخيرة فكتبوه على قوله).
قال ابن شبّة: حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا هشام بنحوه، وزاد: قال محمد: (فأرجو أن تكون قراءتنا هذه آخرتها عهدا بالعرضة الأخيرة).

وهذا الذي قاله ابن سيرين باجتهاده هو المتوجّه؛ لأن ما اتفقوا عليه فلا إشكال فيه؛ فتكون كتابتهم له موافقة للعرضة الأخيرة بإجماعهم، وما اختلفوا فيه فإنَّ تأخيره لأجل أن يجتمعوا له ليكتبوه على وجهه الصحيح وهو ما اقتضته العرضة الأخيرة ولا بدّ، إذ لو كان فيه ما نسخ أو بُدّل لم يكن لهم أن يكتبوه على خلاف العرضة الأخيرة وهم حينئذ متوافرون يشهد بعضهم بصدق بعض.
وإنما كان اختلافهم اختلاف تأريخ واختلاف أحرف لا اختلاف ضبط؛ فاختلاف التاريخ لا بدَّ أن يكون مُعتمدهم فيه ما اقتضته العرضة الأخيرة، وأما اختلاف الأحرف التي يجزئ بعضها عن بعض؛ فقد وقع إجماعهم على ما احتمله رسم المصاحف العثمانية، وترك ما سواها.

- قال البغوي في شرح السنة: (وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: "كانت قراءة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه".
وكان على طول أيامه يقرأ مصحف عثمان، ويتخذه إماما)ا.ه.
- وقال: (قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين.
وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كَتَبَةَ المصاحف رضي الله عنهم أجمعين).
وهذا الأثر عن أبي عبد الرحمن السلمي لم أجده مسنداً، ولعل قوله: (وإنما سميت...) إلخ من كلام البغوي.

- وروى شعبة عن عبد الرحمن بن عابس النخعي أنه قال: حدثنا رجل من همدان من أصحاب عبد الله، وما سماه لنا، قال: لما أراد عبد الله أن يأتي المدينة جمع أصحابه، فقال: (والله إني لأرجو أن يكون قد أصبح اليوم فيكم مِن أفضلِ ما أصبح في أجنادِ المسلمين من الدين والفقهِ والعلمِ بالقرآن، إنَّ هذا القرآنَ أُنزلَ على حُروف، والله إن كان الرجلان ليختصمان أشدَّ ما اختصما في شيء قط، فإذا قال القارئ: هذا أقرأني، قال: "أحسنت"
وإذا قال الآخر، قال: "كلاكما محسن"، فأقرأنا: [إن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار]، واعتبروا ذلك بقول أحدكم لصاحبه: كذب وفجر، وبقوله إذا صدقه: صدقت وبررت.
إن هذا القرآن لا يختلف ولا يستشِنُّ ولا يَتْفَهُ لكثرة الرد، فمن قرأه على حرف فلا يدعْه رغبةً عنه، ومن قرأه على شيء من تلك الحروف التي علم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدعه رغبة عنه، فإنه من يجحد بآية منه يجحد به كله، فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه: اعجل، وحيَّ هلا، والله لو أعلم رجلا أعلم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم مني لطلبته، حتى أزداد علمه إلى علمي، إنه سيكون قوم يميتون الصلاة، فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعارَض بالقرآن في كلّ رمضان، وإني عرضت في العام الذي قبض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن، وقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة). رواه أحمد وابن الضريس ورجاله ثقات معروفون إلا الهمداني الذي أبهمه ابن عابس؛ ورواه عمر بن شبة والبيهقي في شعب الإيمان من طريق محمد بن طلحة بن مصرف عن زبيد بن الحارث اليامي عن عبد الرحمن بن عابس به.
وقد صحب ابنَ مسعود جماعة من الهمدانيين منهم مسروق بن الأجدع ومرة الطيب وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل، وهؤلاء من الأئمة الثقات ومن خاصة أصحاب ابن مسعود؛ وقد يكون المبهم من غيرهم؛ فلا يجزم بحاله، وإن كان قوله بأنه من أصحاب ابن مسعود يشعر بشيء من التزكية مع قرينة كونه من الخاصة الذين جمعهم ابن مسعود، وأكثر ما تضمنه هذا الأثر عن ابن مسعود له شواهد صحيحة.
وقد رواه ابن جرير من طريق عليّ بن أبي عليّ عن علقمة عن ابن مسعود؛ هكذا موصولاً، لكن عليّ بن أبي عليّ هو اللَّهبي القرشي من ولد أبي لهب منكر الحديث.
والشاهد فيه قوله: (وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعارَض بالقرآن في كلّ رمضان، وإني عرضت في العام الذي قبض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن).
وهذه الزيادة لها شواهد:
- منها ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام من طريق أيوب، عن ابن سيرين، قال: نبئت أن ابن مسعود، قال: «لو أعلم أنَّ أحدا تبلغنيه الإبل أحدث عهدا بالعرضة الأخيرة مني لأتيته، أو لتكلفت أن آتيه».
- ومنها: ما رواه الإمام أحمد والبخاري في خلق أفعال العباد والنسائي في الكبرى والحاكم وغيرهم من طريق الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: أيّ القراءتين تعدون أول؟
قالوا: قراءة عبد الله.
قال: لا، بل هي الآخرة، كان يعرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عام مرة؛ فلما كان العام الذي قبض فيه عرض عليه مرتين، فشهد عبد الله؛ فعلم ما نُسخ وما بُدِّل).
وقد صححه الحاكم وابن حجر، وأعلّه بعضهم بعنعة الأعمش وقد وصف بالتدليس، ولا أرى لهذا الإعلال موجباً؛ إذ لا نكارة في المتن ولا مخالفة توجب المصير إلى إعلاله بهذه العلة، والأعمش من القراء الكبار، وقوله في هذا الباب حجة.
وهذه الآثار متوافقة غير مختلفة يقوّي بعضها بعضاً.
وتفسيرها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد كلّ عرضة يعارضه بها جبريل القرآن يعارض قرّاء أصحابه فيثبتون ما اقتضاه ذلك العرض من الترتيب والإثبات.
فلما كان في العام الذي قبض فيه كان ابن مسعود ممن عارضه النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن.

وقد توهَّم أناسٌ أن العرضة الأخيرة على قراءة زيد وأن قراءة ابن مسعود هي القراءة الأولى وشبهتهم في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث ابن مسعود إلى العراق معلّماً فكان في العراق بقية خلافة عمر وشطر خلافة عثمان وقد توفي سنة 32هـ وأن زيد بن ثابت كان في المدينة وهو الذي ولاه عثمان كتابة المصاحف وقد علموا أن عثمان جمع الناس على حرف واحد فظنوا أن قراءة ابن مسعود هي القراءة الأولى وأن قراءة زيد هي القراءة الثانية.
وهذا الوهم قديم وقد ردّه ابن عباس رضي الله عنهما كما تقدّم من رواية أبي ظبيان.
- وقال مسدد بن مسرهد – كما في المطالب العالية وإتحاف الخيرة-: ثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم أن ابن عباس سمع رجلا يقول: الحرف الأول؛ فقال ابن عباس: ما الحرف الأول؟!
فقال له الرجل: يا ابن عباس، إن عمر بعث ابن مسعود معلماً إلى أهل الكوفة، فحفظوا من قراءته فغيَّر عثمان القراءة فهم يدعونه: "الحرف الأول".
فقال ابن عباس: إن جبريل كان يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم عند كل رمضان مرة، وإنه عارضه في السنة التي قبض فيها مرتين، وإنه لآخر حرف عرض به النبي صلى الله عليه وسلم جبريل".
- وروى إبراهيم بن مهاجر البجلي عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أي القراءتين كانت أخيرا، قراءة عبد الله أو قراءة زيد؟
قال: قلنا: قراءة زيد
قال: لا، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يعرض القرآن على جبرائيل كل عام مرة، فلما كان في العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين، وكانت آخر القراءة قراءة عبد الله). رواه أحمد والبزار والطحاوي والحاكم.
وإبراهيم بن مهاجر ليّن الحديث لا يحتجّ به إذا تفرّد أو خالف لكنَّه معتبر الحديث في الشواهد والمتابعات، وروايته هنا موافقة لما روي في هذا الباب.

قال أبو جعفر الطحاوي: (والاختلاف في هاتين القراءتين في هذا الحرف من أيسر الاختلاف ; لأنا إذا صححنا ما روي في العين التي تغرب فيها الشمس استحق بذلك الحمأ والحرارة جميعا فكانتا من صفاتها وكان من قرأ حامية وصفها بإحدى صفاتها ومن قرأ حمئة وصفها بصفتها الأخرى , وذلك واسع غير ضيق على أحد ممن روى قراءة من هاتين القراءتين).
وقد تقدّم قول ابن مسعود: (فمن قرأه على حرف فلا يدعْه رغبةً عنه، ومن قرأه على شيء من تلك الحروف التي علم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدعه رغبة عنه، فإنه من يجحد بآية منه يجحد به كله، فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه: اعجل، وحيَّ هلا).
وأبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله الذي ترجع إليه أكثر أسانيد القراءات أخذ القراءة على أبيّ وعثمان وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت.
وأقرأَ الناس في المسجد الأعظم في الكوفة أربعين سنة، فكانت قراءتهم واحدة ليس فيها من الخلاف إلا نحو ما هو معروف اليوم لدى القراء.
وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عيينة، عن ابن جريج وعن ابن سيرين [هكذا بالعطف] عن عَبيدة قال: «القراءة التي عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه هي القراءة التي يقرؤها الناس اليوم فيه».

قال ابن الجزري: (القراءات التي تواترت عندنا عن عثمان وعنه [أي عن عليّ بن أبي طالب] وعن ابن مسعود وأبيّ وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم لم يكن بينهم فيها إلا الخلاف اليسير المحفوظ بين القراء)ا.هـ.

وقد تقدّم قوله: (كانت قراءة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه)ا.ه.
وهو القائل: (حدثني الذين كانوا يقرءوننا عثمان وابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزنها إلى عشر أخرى، حتى يتعلموا ما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل جميعا)ا.هـ.

وقال الذهبي في معرفة القراء الكبار: (وقال عبد الواحد بن أبي هاشم: حدثنا محمد بن عبيد الله المقرئ، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن، حدثنا أبي حدثنا حفص بن عمر عن عاصم بن بهدلة وعطاء بن السائب، ومحمد بن أبي أيوب الثقفي، وعبد الله بن عيسى بن أبي ليلى، أنهم قرءوا على أبي عبد الرحمن، وذكروا أنه أخبرهم أنه قرأ على عثمان رضي الله عنه عامَّة القرآن، وكان يسأله عن القرآن وكان وليَ الأمرَ فشقَّ عليه، وكان يسأله عن القرآن فيقول: إنك تشغلني عن أمر الناس؛ فعليك بزيد بن ثابت؛ فإنه يجلس للناس ويتفرَّغ لهم ولست أخالفه في شيء من القرآن)ا.هـ.
وروى حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال: « عُرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضات؛ فيقولون: إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة». رواه البزار والروياني والحاكم واللفظ له وصححه ووافقه الذهبي، وحسَّن الحافظ ابن حجر إسناده.


والمقصود أن قراءة زيد وقراءة ابن مسعود وقراءات غيرهما من الذين أخذت عنهم القراءة واشتهرت من قراء الصحابة رضي الله عنهم كانت على العرضة الأخيرة وأن الخلاف بينهما خلاف أحرف فقط؛ فإنَّ العرضة الأخيرة لم تنسخ الأحرف.
ومن قراء الصحابة من كان يقرأ على حرف، ومنهم من يقرأ على أكثر من ذلك؛ كما دلّ عليه قول ابن مسعود المتقدم.
ومما يدلّ على ذلك أيضاً ما رواه البخاري في صحيحه من حديث حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال عمر: « أُبيّ أقرؤنا، وإنا لندع من لحن أبيّ، وأبيّ يقول: أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أتركه لشيء ».
ولحن أبيّ لُغَته وطريقته في القراءة؛ وهي بعض الأحرف التي قرأ بها مما علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما ساغ لعمر أن يدع من لحن أبيّ لأنَّ هذه الأحرف يجزئ بعضها عن بعض كما تقدّم بيانه، ومن أظهر الأمثلة على ذلك اختلاف قراءة زيد بن ثابت ومن معه في (التابوت) فكان زيد يقرؤها (التابوه) وقرّاء المهاجرين القرشيين يقرؤونها (التابوت)؛ فرفع اختلافهم إلى عثمان رضوان الله عليه، فقال: «اكتبوه التابوت، فإنه لسان قريش» ؛ فكتبوها بالتاء اختياراً لا ردّا لقراءة زيد.

وقد فُسّر قول عمر (وإنا لندع من لحن أبيّ) أي مما يقرأ به مما نسخت تلاوته، وهو معنى صحيح يوافق ما تقدّم ولا يخالفه؛ لأنَّ قول عمر (وإنا لندع) يشعر بأنَّ عمل قراء الصحابة على ترك القراءة بما نسخت تلاوته وأنهم لم يتابعوا أبيَّ بن كعب في قراءته لما نُسخت تلاوته، وأنَّ ما عليه عمر وجماعة القراء هو السنة المتَّبعة الموافقة للعرضة الأخيرة). [جمع القرآن:53 - 62]

جمهرة علوم القرآن 14 محرم 1439هـ/4-10-2017م 11:36 PM

المراد بالعرضة الأخيرة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المراد بالعرضة الأخيرة
الذي يظهر من تأمّل الآثار الواردة في هذا الباب أن لفظ "العرضة الأخيرة" يطلق على معنيين:

أحدهما: ما عرضه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان شهده النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه العرضة قد نزل بعدها باتّفاق آيات من القرآن؛ كما ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّ قول الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا..} نزل يوم عرفة من حجة الوداع، ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا نحو ثلاثة أشهر.

والمعنى الثاني: ما عرضه الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم آخر الأمر، فيدخل في ذلك ما نزل بعد رمضان من السنة العاشرة؛ فيكون بهذا الاعتبار كلّ من عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بعد رمضان من السنة العاشرة للهجرة، فيكون لكلّ قارئ منهم عرضة أخيرة له عرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقع التفاضل في وصف الآخرية باعتبار تعدد العرض، وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم نحو ستة أشهر كانت مدة كافية لأن يعرض عليه قراء أصحابه قراءاتهم مع ما عرف من شدة عنايتهم بالقرآن وحرصهم على مدارسته.

وهذا المعنى يدلّ عليه مفهوم قول ابن مسعود رضي الله عنه: (وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعارَض بالقرآن في كلّ رمضان، وإني عَرضْتُ في العام الذي قبض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن). رواه الإمام أحمد وسيأتي بطوله إن شاء الله.
مع قوله: «لو أعلم أنَّ أحدا تبلغنيه الإبل أحدث عهدا بالعرضة الأخيرة مني لأتيته، أو لتكلفت أن آتيه».
وهذا شبه الصريح بأنه لا يعلم أحداً أحدث عرضاً للقرآن منه، إذ لو كان المراد هنا بالعرضة الأخيرة ما كان في رمضان لم يكن للمفاضلة معنى.
ويدلّ على هذا المعنى أيضاً قول ابن سيرين: (إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الآخرة فيكتبونها على قوله)). [جمع القرآن:62 - 63]

جمهرة علوم القرآن 14 محرم 1439هـ/4-10-2017م 11:39 PM

معنى شهود العرضة الأخيرة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( معنى شهود العرضة الأخيرة
- قال ابن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قُبض فيه فإنه عُرض عليه مرتين بحضرة عبد الله فشهد ما نسخ منه وما بدل.

- وقال البغوي في شرح السنة: (قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين، وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف رضي الله عنهم أجمعين)ا.هـ.

وشهود العرضة هنا يحمل على واحد من ثلاثة معانٍ كلها صحيحة:
المعنى الأول: أن يكون حاضراً في المجلس الذي نزل فيه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من الصحابة من يشهد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في غير ما حديث، وقد تقدّم قول زيد بن ثابت في نزول قول الله تعالى: {غير أولي الضرر..}
وهذا لا يلزم منه أن يسمعوا قراءة جبريل عليه السلام ولا أن يروه، ولا أن يكون حضورهم مستغرقاً لجميع آيات القرآن.

والمعنى الثاني: أن يراد به أن يكون حاضراً في ذلك الوقت في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم حضور القارئ المعتني بمعرفة ما نُسخ وما أُثبت من القرآن، وإن لم يحضر مجلس العرض؛ فيصدق عليه أنه شهد العرضة الأخيرة لمعرفته بما تضمنته من نسخ وتغيير؛ لكونه حاضراً آنذاك غير مسافر ولا منقطع عن مجالس النبي صلى الله عليه وسلم وإقرائه القرآن.

والمعنى الثالث: أن تكون هذه اللفظ قد رويت بالمعنى وأنَّ المراد بها عرض الصحابي قراءته على النبي صلى الله عليه وسلم بعد العرضة الأخيرة.
وهذا الأمر محتمل فإنَّ الأثر الأول قد روي بألفاظ متعددة، والأثر الثاني لا أعلم له إسناداً وهو مشتهر في كتب القراءات وعلوم القرآن، وفي بعض الألفاظ ما يفيد التفاضل ولا يقع التفاضل في الآخرية إلا أن يكون المراد به عرض الصحابي قراءته على النبي صلى الله عليه وسلم عرضاً يطمئنّ به إلى ثبوت حفظه على ما أراد الله أن يستقرّ عليه ترتيب آيات القرآن وإحكام ما أراد الله أن تبقى تلاوته ولا تنسخ.

وعلى جميع هذه المعاني لا يختلف تقرير أن القرآن قد نقل متواتراً على ما اقتضته العرضة الأخيرة بإجماع من قرّاء الصحابة رضي الله عنهم، واتّفاقهم على ذلك اتفاقاً تقوم به الحجة وتنتفي به الشبهة). [جمع القرآن:64 - 65]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 09:25 AM

الباب الخامس: جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه

جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
كان جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه للقرآن في مصحف واحد رحمةً للأمّة، وسبباً لحفظ القرآن، ورفعة عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه.

- قال عبد خير بن يزيد الهمداني: سألت عليا رضي الله عنه عن أوَّل مَن جمع القرآن في المصحف؛ فكان أوَّلَ ما استقبلني به قال: (رحم الله أبا بكر! كان أعظم الناس أجراً في القرآن، هو أول من جمعه بين اللوحين). رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة، وابن أبي داوود في المصاحف.
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه والقطيعي في زياداته على فضائل الصحابة للإمام أحمد بلفظ مقارب.
قال ابن كثير رحمه الله: (وهذا من أحسنِ وأجلِّ وأعظمِ ما فعله الصديق رضي الله عنه).
- وروى البخاري في صحيحه من طريق ابن شهاب الزهري، عن عبيد بن السباق، أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده.
قال أبو بكر رضي الله عنه: « إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن».
قلتُ لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال عمر: «هذا والله خير» فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: « إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه »
فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن.
قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: « هو والله خير »
فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للَّذي شرَحَ له صدرَ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُبِ واللخافِ وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه)). [جمع القرآن:67 - 68]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 09:28 AM

أسباب جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( أسباب جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن:
مما يُستخلص من الأثر السابق أن جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن كان بإشارة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى كثرة من قُتِل من القراء في وقعة اليمامة، وقد انقطع الوحي وزال السبب المانع من جمعه في مصحف واحد.

وقد روى ابن أبي داوود في كتاب "المصاحف" من طريق المبارك بن فضالة عن الحسن (أن عمر بن الخطاب سألَ عن آيةٍ من كتاب الله؛ فقيل كانت مع فلان فقُتِل يوم اليمامة؛ فقال: «إنا لله
» ، وأمر بالقرآن فجُمِع، وكان أوَّلَ من جمعه في المصحف).
وهو منقطع لأن الحسن لم يدرك السماع من عمر، وهو محمول على أنّه أوّل من أشار بجمعه.
وقد اختلف في عدد القراء الذين قتلوا يوم اليمامة؛ فذكر ابن كثير أنهم نحو خمسمائة، وقيل أكثر من ذلك.
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث معاذ بن هشام الدستوائي قال: حدثني أبي، عن قتادة قال: (ما نعلم حيّاً من أحياء العرب أكثر شهيداً أعزَّ يوم القيامة من الأنصار)
قال قتادة: وحدثنا أنس بن مالك أنه قُتِلَ منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون، قال: « وكان بئر معونة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوم اليمامة على عهد أبي بكر، يوم مسيلمة الكذاب ».
فهذا فيه أنَّ قتلى الأنصار يوم اليمامة سبعون، فإذا أضيف إليهم قتلى المهاجرين، ومن أسلم بعد الفتح من قبائل العرب؛ ربما قاربوا هذا العدد.
وقد روى أهل السير أن القراء قاتلوا يوم اليمامة قتال الأبطال وثبتوا ثباتاً عظيماً بعدما انكشف الناس، وكان عدّتهم بعد انكشاف عامة الجيش نحو ثلاثة آلاف، وعدة أصحاب مسيلمة أضعاف عددهم؛ فثبتوا واستبسلوا حتى فتح الله عليهم ونصرهم.
روى أنس بن مالك أن ثابت بن قيس جاء يوم اليمامة وقد تحنَّطَ ولبس أكفانه، وقد انهزم أصحابه، وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، فبئس ما عوَّدتم أقرانكم، خلُّوا بيننا وبين أقراننا ساعة، ثم حَمَل فقاتل ساعة فقُتل). رواه الحاكم في المستدرك وأصله في صحيح البخاري مختصراً.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: قالَ أنس بن مالك: (لما انكشف الناس يوم اليمامة قلت لثابت بن قيس ابن شماس: ألا ترى يا عمّ، ووجدته قد حسر عن فخذيه وهو يتحنط، فقال:
« ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، بئس ما عودتم أقرانكم. وبئس ما عودتم أنفسكم، اللَّهمّ إني أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء » ثم قاتل حتى قُتل رضي الله عنه).
وكان من أشهر الذين قتلوا يوم اليمامة من القرّاء: سالم مولى أبي حذيفة، وكان من كبار حملة القرآن، وممن أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنهم، وكان يؤمّ المسلمين في المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها.
وقُتِلَ معه يوم اليمامة: مولاه أبو حذيفة بن عتبة، وثابت بن قيس بن شماس، وشجاع بن أبي وهب الأسدي وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام ممن هاجر إلى الحبشة وشهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن مخرمة العامري كذلك، وعباد بن بشر الأنصاري، وأبو دجانة سماك بن خرشة بن لوذان الخزرجي الأنصاري، وابن عمّه
سعد بن حارثة بن لوذان، وعبد الله بن عتيك الأنصاري، وأبو مرثد الغنوي، وأبو عقيل البلوي، ومخرمة بن شريح الحضرمي، وبشير بن سعد أبو النعمان، ومعن بن عدي ابن العجلان أخو عاصم حَمِيّ الدبر، ويزيد بن ثابت الأنصاري أخو زيد بن ثابت، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وعبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول، وإياس بن ودفة من بني سالم بن عوف، وثابت بن هزال من بني عمرو بن عوف، وثابت بن خالد من بني النجار، والحارث بن أبي صعصعة من بني النجار، وزيد بن الخطاب العدوي أخو عمر، والسائب بن العوام الأسدي أخو الزبير، وجنادة بن عبد الله المطّلبي، وجبير بن بحينة الأنصاري، ورافع بن سهل بن رافع الأنصاري، وجرول بن العباس الأوسي، وجَزْء بن العباس حليف بني جحجبى، وحاجب بن يزيد الأشهلي، وحبيب بن أسيد الثقفي، وحييّ بن حارثة الثقفي، وحكيم بن حزن المخزومي عمّ سعيد بن المسيّب بن حزن، وقيس بن الحارث بن عديّ الأنصاري عمّ البراء بن عازب، والسائب بن عثمان بن مظعون، والوليد بن عبد شمس المخزومي ابن عمّ خالد بن الوليد، وسعد بن حمار بن مالك الأنصاري، وسلمة بن مسعود بن سنان الأنصاري، وسهيل بن عديّ الأزدي، وعامر بن بكيل الليثي، وعباد بن الحارث ابن جحجبى المعروف بفارس ذي الخرق، وضمرة بن عياض الجهني، وضرار بن الأزور الأسدي وقد ذُكر أنه قاتل قتالاً شديداً حتى قطعت ساقاه كلتاهما؛ فجعل يحبو ويقاتل حتى وطئته الخيل.
وتَتَبُّعُ أسمائهم يطول به المقام، وهؤلاء أكثرهم بدريون من أفاضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجنوده الذين كانوا يقاتلون معه، ومنهم من شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أصحاب بيعة الرضوان، وعامّتهم من القرّاء، وكانوا كتيبةَ صِدْقٍ ثبتوا حتى نصرهم الله على عدوّهم، وأعزّ بهم الدين.
وذكر ابن عبد البرّ في الاستيعاب عن نافع عن ابن عمر أن زيد بن ثابت شهد وقعة اليمامة وأصابه سهم فلم يضرّه.
وكثيرٌ من هؤلاء إنما لم يشتهر ذكرهم في القرَّاء لتقدّم وفاتهم، وقلّة الرواية عنهم، مع أنَّ لبعضهم من الفضل في القراءة ما ثبتت به بعض الأحاديث الصحيحة ؛ كما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل سالم مولى أبي حذيفة، وقوله صلى الله عليه وسلم في مخرمة بن شريح: (( ذاك رجل لا يتوسّد القرآن )) أي لا ينام عنه.
ويكفيهم وصف أبي بكر وعمر لهم بالقرَّاء، واشتهار تلقيبهم بذلك لدى الصحابة رضي الله عنهم، وإن كان عددهم غير معروف على وجه التقريب لكنَّهم جماعة كثيرة من القرّاء). [جمع القرآن:69 - 72]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 09:33 AM

أسباب اختيار زيد بن ثابت لكتابة المصحف:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أسباب اختيار زيد بن ثابت لكتابة المصحف:
وكان اختيار أبي بكر رضي الله عنه لزيد بن ثابت دون غيره لكتابة المصحف لأسباب منها:

1. أنه رجل شابّ، وذلك مظنّة قوّته واجتهاده وقدرته على تتبّع القرآن وتحصيل ما كتبه الصحابة رضي الله عنهم وما حفظوه من القرآن.
2. وأنه رجل عاقل، وذلك دليل على رشده وحسن تصرّفه في تعامله مع الرجال واستنساخ ما كتبوه.
3. وأنه أمين غير متّهم، فيُطمئنّ إلى كتابته وجمعه.
4. وأنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عارف بطريقة كتابة القرآن، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم راضٍ عن كتابته، وتلك منقبة عظيمة، وهذا السبب أَجَلُّ الأسباب، ولعله إنما أخَّر ذكرَه للبدء بالأسباب المتعلقة بشخصه قبل عمله.
والمتأمّل في هذه الأسباب يدرك حكمة أبي بكر رضي الله عنه في إسناد الأمر إلى أهله، واختيار الرجل الأنسب للمهمّة الجليلة). [جمع القرآن:73]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 09:37 AM

كيف كان جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( كيف كان جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه؟
دَلَّت الآثار المروية في هذا الباب على أنَّ الذي تولَّى هذا الأمر زيد بن ثابت رضي الله عنه، وأنه كان القائم الأوَّل بأمر الكتابة والجمع بتكليف من أبي بكر رضي الله عنه؛ لكنَّه لم يكن وحده في ذلك الأمر، بل شاركه جماعة من قرّاء الصحابة رضي الله عنهم، فكان تنظيم العمل فيه متقناً، وتعاون قُرَّاءِ الصحابة في جمعه تعاوناً حسناً تحصل الطمأنينة بحجيته وكفايته.

ومن تلك الدلائل:
1- أنَّ الكاتب زيد بن ثابت وهو ممن جمع القرآن حفظاً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقد عُرف بذكائه وحفظه وفقهه.
2- وأن أبا بكر كلَّف زيداً وعمر بن الخطاب بالقعود عند باب المسجد، وأمر من كان عنده شيء من القرآن مكتوباً أن يأتي به، وأن يقيم شاهدين على صِحَّةِ ما كتب.
3- وأنَّهم حصّلوا من مجموع ما نَسَخَه الصحابةُ رضي الله عنهم مفرَّقاً نُسْخَةً تامة من القرآن بشهادة رجلين على الأقل في كلِّ آية، مع حفظ الحفاظ منهم للقرآن في صدورهم، وتصديقهم لصحة ما كُتب.
4- وأنَّ أبيَّ بن كعب رضي الله عنه وجماعة من قراء الصحابة كانوا يراجعون المكتوب، ويعرضونه على حفظهم.
5- وأن الصحابة لم يقع بينهم خلاف في جمعهم هذا، وإجماعهم حجّة قاطعة بصواب ما كتبوه.
فهذا الأوجه مما يحصل بها الطمأنينة بصحة ذلك الجمع، وتقوم الحجة به.

ومن الآثار المروية في هذا الباب:
1. ما رواه الزهري عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت أنه قال: (فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره، {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} حتى خاتمة براءة). رواه البخاري في صحيحه.
2. وقال ابن وهب: أخبرني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: لما استحر القتل بالقراء يومئذ فَرَق أبو بكر على القرآن أن يضيعَ فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت: «اقعدوا على باب المسجد فمن جاءَكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه». رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
3. وقال أبو جعفر الرازي: حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون}؛ فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن، فقال لهم أبي بن كعب: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} إلى {وهو رب العرش العظيم}). رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه وابن أبي داوود في كتاب المصاحف والضياء في المختارة.
4. وقال ابن شهاب الزهري: (لما أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر وخاف أن يهلك من القراء طائفة فأقبل الناس بما كان معهم وعندهم حتى جمع على عهد أبي بكر في الورق فكان أبو بكر أول من جمع القرآن في الصحف). رواه موسى بن عقبة في مغازيه كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري.


وهذه الآثار تدلّ دلالة بيّنة على
أنَّ أبا بكر رضي الله عنه قد احتاط في جمع المصحف احتياطاً كبيراً؛ واجتهد في التوثّق من جمعه ومراجعته، وأنَّ زيد بن ثابت رضي الله عنه لم يتفرّد بمراجعة هذا الجمع، بل شاركه فيه بعض قراء الصحابة ومنهم أبيّ بن كعب؛ كما دلّ على ذلك قصة أبي خزيمة الأنصاري رضي الله عنه). [جمع القرآن:73 - 76]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 09:42 AM

تفسير العُسُبِ واللِّخَافِ والرّقاعِ والأكتافِ والأقتابِ

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (قال السيوطي: ( تفسير العُسُبِ واللِّخَافِ والرّقاعِ والأكتافِ والأقتابِ
العُسُب:
جمع "عسيب" وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض.

واللخاف: بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة آخره فاء جمع "لخفة" بفتح اللام وسكون الخاء وهي الحجارة الدقاق،
وقال الخطابي: صفائح الحجارة.
والرقاع: جمع "رقعة" وقد تكون من جلد أو رَقٍّ أو كاغد.
والأكتاف: جمع "كَتِف" وهو العظم الذي للبعير أو الشاة كانوا إذا جف كتبوا عليه،
والأقتاب: جمع "قَتَب" هو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه)ا.هـ). [جمع القرآن:76]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 09:45 AM

الغرض من جمع أبي بكر

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الغرض من جمع أبي بكر
كان الغرض من جمع أبي بكر أن يجمع القرآن كله في مصحف واحد، مع بقاء قراءات الصحابة كلٌّ يقرأ كما عُلّم.

وكانت الآياتُ والسور قبل جمع أبي بكر متفرقة في العسب واللخاف وصدور الرجال، وكانت العمدة على الرواية المحفوظة في الصدور، وإنما جمع المُصحف للتوثيق.
قال الحارث المحاسبي: (كتابة القرآن ليست محدثة فإنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب).
وقال: (وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشر فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء)ا.هـ). [جمع القرآن:76 - 77]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 09:54 AM

موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع أبي بكر الصديق للقرآن:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع أبي بكر الصديق للقرآن:

لم يقع بين الصحابة رضي الله عنهم خلافٌ في جمع أبي بكر للمصحف، وهم متوافرون في المدينة؛ فكان محلّ إجماع.
- قال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن السدي، عن عبد خير، عن علي، قال: «رحم الله أبا بكر، كان أول من جمع القرآن».
- وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا قبيصة قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن عبد خير قال: سمعت علياً يقول: «أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع بين اللوحين» رواه ابن أبي داوود في كتاب "المصاحف" والقطيعي في زياداته على فضائل الصحابة للإمام أحمد). [جمع القرآن:77]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 09:58 AM

مصير مصحف أبي بكر:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( مصير مصحف أبي بكر:

- قال ابن وهبٍ: أخبرني مالكٌ، عن ابن شهابٍ، عن سالمٍ وخارجة (أنّ أبا بكرٍ الصّدّيق كان جمع القرآن في قراطيس، وكان قد سأل زيد بن ثابتٍ النّظر في ذلك، فأبى حتّى استعان عليه بعمر ففعل، وكانت تلك الكتب عند أبي بكرٍ حتّى توفّي، ثمّ عند عمر حتّى توفّي، ثمّ كانت عند حفصة زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ فأرسل إليها عثمان؛ فأبت أن تدفعها إليه حتّى عاهدها ليردّنّها إليها، فبعثت بها إليه؛ فنسخها عثمان في هذه المصاحف، ثمّ ردّها إليها ؛فلم تزل عندها حتّى أرسل مروان فأخذها فحرّقها) رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
- وقال ابن شهاب الزهري: حدثني أنس رضي الله عنه قال: (لما كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها عن المصاحف ليمزّقها وخشي أن يخالف الكتاب بعضه بعضا، فمنعتها إياه).
قال الزهري: فحدثني سالم قال: (لما توفيت حفصة أرسل مروان إلى ابن عمر رضي الله عنهما بعزيمة ليرسلن بها، فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها ابن عمر رضي الله عنهما، فشققها ومزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف لما نسخ عثمان رضي الله عنه). رواه ابن شبة في تاريخ المدينة، وأبو عبيد في فضائل القرآن، وابن حبان في صحيحه.

قال أبو عبيد: (لم يسمع في شيء من الحديث أن مروان هو الذي مَزَّقَ الصحف إلا في هذا الحديث).
- ورواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق أبي اليمان قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سالم بن عبد الله: أن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التي كتب منها القرآن، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها قال سالم: فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها، أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر ليرسلن إليه بتلك الصحف، فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر، فأمر بها مروان فشققت، فقال مروان: «إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب، أو يقول إنه قد كان شيء منها لم يكتب».
ورواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة من طريق حفص بن عمر الدوري قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عمارة بن غزية، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «لما ماتت حفصة أرسل مروان إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بعزيمة، فأعطاه إياها، فغسلها غسلا»). [جمع القرآن:78 - 79]


جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:02 AM

تنبيه:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تنبيه:
- قال ابن وهبٍ: أخبرني عمر بن طلحة اللّيثيّ، عن محمّد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرّحمن بن حاطبٍ قال: أراد عمر بن الخطّاب أن يجمع القرآن، فقام في النّاس فقال: (من كان تلقّى من رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم شيئًا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصّحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحدٍ شيئًا حتّى يشهد شهيدان)
فقُتِل وهو يجمع ذلك إليه فقام عثمان بن عفّان فقال: (من كان عنده من كتاب اللّه شيءٌ فليأتنا به وكان لا يقبل من ذلك شيئًا حتّى يشهد عليه شهيدان)
فجاء خزيمة بن ثابتٍ فقال: إنّي قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما.
قالوا: وما هما؟
قال: تلقّيت من رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ} إلى آخر السّورة.
قال عثمان: (فأنا أشهد أنّهما من عند اللّه فأين ترى أن نجعلهما؟).
قال: اختم بها آخر ما نزل من القرآن؛ فختُمت بها براءة ). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.

وهذا الخبر ضعيف الإسناد منكر المتن؛ فيه محمد بن عمرو بن علقمة الليثي ليس بالقوي، ويحيى بن عبد الرحمن لم يدرك عمر، ومتنه منكر لمخالفته ما ثبت من أن الجمع كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وأن المصحف قد تمّ جمعه في حياة أبي بكر رضي الله عنه، وبقي عنده حتى مات.
وكذلك خبر آخر آيتين من سورة التوبة كان في زمن أبي بكر، وكانتا قد وجدتا عند أبي خزيمة وليس خزيمة بن ثابت، ولعله التبس عليه خبر جمع القرآن بعزيمة عمر على جمع السنة ثم عدوله عن ذلك). [جمع القرآن:79 - 80]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:11 AM

تسمية المصحف

معنى المصحف:


قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( معنى المصحف:
الأصل في لفظ "المُصحف" ضَمُّ الميمِ لأنه مصدرٌ من أُصْحِفَ؛ فهو مُصحَفٌ، أي جُعل في صحائف مضمومة إلى بعضها، مجموعة بين دفَّتين.

قال الخليل بن أحمد: (وسُمِّيَ المُصْحَفُ مُصْحَفاً لأنَّه أُصْحِفَ، أي جُعِلَ جامعاً للصُحُف المكتوبة بين الدَّفَّتَيْن).
وقال أبو منصور الأزهري وجماعة من اللغويين بنحو هذا القول؛ فهو شبه اتّفاق على مأخذ التسمية.
ثمَّ حُكي فيه كسر الميم وهي لغة تميم، وحكي فيه فتح الميم وهي لغة غير مشتهرة، ذكرها أبو جعفر النحاس.
قال الفراء: (يُقَال: مُصحفٌ ومِصْحَف، كَمَا يُقَال: مُطرَفٌ ومِطرَفٌ، وَقَوله: "مُصحفٌ" مِن أُصْحِفَ، أَي جُمِعت فِيهِ الصُّحُف، وأُطرِف: جُعل فِي طرَفيْه العَلَمان).
قَالَ: (فاستثقلت العربُ الضمة فِي حُرُوفٍ فَكسرتِ الْمِيم، وَأَصلُهَا الضَّم، فَمن ضَمّ جَاءَ بِهِ على أَصلِهِ، وَمن كَسَرَهُ فلاستثقالِه الضمة)ا.هـ). [جمع القرآن:81]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:14 AM

مبدأ تسمية المصحف:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مبدأ تسمية المصحف:

كانت العربُ أُمّةً أُميَّةً، لا تقرأ ولا تكتب، وأوَّل كتاب باللسان العربي هو القرآن ، ولم يكن للعرب قبل ذلك كتاب معروف بلسانهم، وكانت الكتابة فيهم قليلة جداً، وإنما يكتبون ما يحتاجون إليه من الرسائل والعهود والمواثيق في صحائف متفرقة لا تبلغ أن تكون كتاباً.
وقد اشتهرت بعض صحائفهم، ولها ذكر في أشعارهم، كصحيفة المتلمس، وصحيفة لقيط، والصحيفة الظالمة التي قاطعت فيها بطونُ قريش بني هاشم.
قال المتلمّس في خبر صحيفته:
مَنْ مُبلِغُ الشّعراءِ عن أخَوَيْهِمُ ... خَبَراً، فَتَصْدُقَهُم بذاكَ الأنفُسُ
أودى الذي عَلِقَ الصّحيفَةَ منهما ... ونَجَا حِذارَ حِبائِهِ المُتَلَمّس
ويقصد بالذي عَلِقَ الصحيفة طرفةَ بن العبد البكري؛ فإنَّه ظنَّ أن الملك عمرو بن هند قد كتب له فيها إلى عامل البحرين أن يُجِيزَه ويُحْسِنَ إليه، فإذا هي أَمْرٌ بقَتْلِه وصَلْبِه، وفيها يقول:
أبا منذرٍ كانت غُروراً صحيفتي ... ولم أُعْطِكم في الطَّوْعِ مالي ولا عِرْضي

وقال الممزّق العَبدي يخاطب الملك عمرو بن هند:
أكلفتني أدواء قوم تركتهم ... وإلا تداركني من البحر أغرق
فإن يُتْهِموا أُنجِدْ خِلافاً عليهم ... وإن يُعْمِنوا مُستحقِبي الحربِ أُعْرِق
فلا أنا مولاهم ولا في صحيفةٍ ... كَفَلْتُ عليهم والكفالة تعتق
(يُتهموا): أي يحلّوا بأرض تهامة، و(أُنجد): أي أرحل إلى نجد، و(يُعمنوا) يحلّوا بأرض عُمان، و(أُعرِق) أرحل إلى العِرَاق.

وقال لقيط بن معمر الإيادي في أبيات له بعث بها في صحيفة إلى قومه ينذرهم غزو كسرى:
سلام فى الصّحيفة من لقيط ... إلى مَن بالجزيرةِ من إِيادِ
بأنّ الّليث كسرى قد أتاكم ... فلا يَشْغَلكم سَوْقُ النِّقَادِ
النِّقَاد: صِغَار الغنم.

و"الصحيفة" تُجمع على صُحُف وصَحَائف إذا كانت متفرقة غير مضمومة، فإذا ضُمَّت سُميت مُصحفاً؛ فإذا تعدَّدَتْ أجزاء الكتاب سمّيت تلك الأجزاء "مصاحف".
ولذلك كانت العرب تسمّى كُتُبَ أهلِ الكتابِ "مصاحف"، كما قال امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفانِ ... ورسمٍ عَفَتْ آياتُه منذُ أزْمانِ
أتت حِجج بعدي عليها فأصبحت ... كَخَطِّ زَبورٍ في مَصاحفِ رُهبان
وقال أبو مصعب الزهري راوية الموطأ: حدثنا مالك، عن زيد بن أسلم، أنه قال: (جاء كعب الأحبار إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقام بين يديه، فاستخرج من تحت يده مُصْحَفاً، قد تشرَّمَت حواشيه، فقال: يا أمير المؤمنين، في هذه التوراة فأقرؤها؟
فقال عمر: "إن كنت تعلم أنها التوراة التي أُنزلَت على موسى، يومَ طور سَيناء، فاقرأها آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، وإلا فلا" فراجعه كعب، فلم يزده على ذلك).

وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه)
ثمّ ذكرت خبر احتيال قريش بهداياها إلى النجاشي ليسلّمهم إليها في خبر طويل، وفيه أن النجاشي دعا أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله.
وفيه أن جعفر بن أبي طالب كلَّمَه وقرأ عليه سورة مريم، قالت: (فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مَصَاحِفَهم حين سمعوا ما تلا عليهم). رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد أقلّ درجاته الحسن، رجاله ثقات رجال الصحيحين غير محمد بن إسحاق وقد صرّح بالتحديث، ومن أهل العلم من يصححه أحاديثه في السير.
ومصاحفهم إنما هي كتبهم التي جمعوا صحائفها وضموا بعضها إلى بعض.

ولم أقف على خبر صحيح في أوّل من سمَّى القرآن المكتوب مُصحفاً؛ إلا أنَّ تسميته بهذا الاسم جارية على الأصل في تسمية الصحفِ المجموعة إلى بعضها بين دفتين مصحفاً، ولأجل أنَّ المسلمين لم يكن لهم كتاب غيره اشتهرت تسميته بالمصحف حتى جُعلت علماً عليه.
وهذا نظير أسماء القرآن الأخرى كالكتاب والذكر والفرقان؛ فإنها إذا أطلقت انصرفت إلى القرآن لأجل العهد الذهني في التعريف، وإذا وردت في سياق يراد به غيرها تقيدت به.
وبقي استعمال المصحف للصحف المضمومة بين دفتين بعد ذلك بزمن، حتى قال الجاحظ في كتاب "البيان والتبيين" : (كانت العادة في كتاب الحيوان أن أجعل في كل مصحف من مصاحفها عشر ورقات من مقطّعات الأعراب، ونوادر الأشعار)ا.هـ.

وقد قيل إن تسمية ما كتب من القرآن بالمصحف كانت معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وروي في ذلك أحاديث وآثار لكنها معلولة، ومنها:
1: حديث محمد بن إسحق عن نافع عن ابن عمر: (سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم ينهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو). رواه الإمام أحمد والبخاري في خلق أفعال العباد بهذا اللفظ.
وقد رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو).
ومالك أثبت من ابن إسحاق.
وقد روى هذا الحديث عن نافع كلّ من: الليث بن سعد وعبيد الله العمري وأيوب السختياني وجويرية بن أسماء وعبد الله بن دينار، كلهم رووه بلفظ "القرآن" وتفرد محمد بن إسحاق بلفظ "المصحف" فدلّ ذلك على أنه أخطأ في الرواية.

2: وحديث مرزوق بن أبي الهذيل قال: حدثني الزهري قال: حدثني أبو عبد الله الأغر، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته» رواه ابن ماجه وابن خزيمة.
ومداره على مرزوق بن أبي الهذيل الثقفي قال فيه البخاري: (تعرف وتنكر).
فهو مما لا يحتجّ به إذا تفرّد.
وله شاهد رواه ابن خزيمة والبزار والبيهقي في شعب الإيمان من حديث محمد بن عبيد الله العرزمي عن قتادة عن أنس، لكنه مما لا يفرح به فالعرزمي متروك الحديث.
وأعلّ بأنّ المحفوظ في هذا الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه ما رواه العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، مرفوعاً: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). رواه مسلم.
وله علَّة في متنه وهي أنَّ صحف القرآن لم تكُن قد أُصحفت في مُصحف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير خلاف بين أهل العلم.

3: وحديث عنبسة بن عبد الرحمن الكوفي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا أعينكم حظها من العبادة» ، قيل: يا رسول الله، ما حظها من العبادة؟، قال: «النظر في المصحف، والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه» رواه أبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان، وهو ضعيف جداً، بل حكم عليه الألباني بأنه موضوع، من أجل عنبسة الكوفي قال فيه أبو حاتم الرازي: كان يضع الحديث.

وقد روي في منشأ تسمية المصحف آثار واهية لا تصحّ:
منها ما ذكره السيوطي في الإتقان عن ابن أشته أنه أخرج في كتاب المصاحف من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب أنه قال: لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال: أبو بكر التمسوا له اسما فقال بعضهم السفر وقال بعضهم: المصحف فإن الحبشة يسمونه المصحف وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه المصحف).
وقال السيوطي في موضع آخر: ومن غريب ما ورد في أول من جمعه ما أخرجه ابن أشته في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال: "أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة، أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه ثم ائتمروا ما يسمونه. فقال بعضهم: سموه السفر. قال: ذلك اسم تسميه اليهود، فكرهوه، فقال: رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف".
إسناده منقطع أيضا وهو محمول على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر).
قلت: لا يصحّ هذا المحمل لأنَّ سالماً قُتل يوم اليمامة قبل الأمر بجمع القرآن.
وقال الزركشي: ذكر المظفري في تاريخه لما جمع أبو بكر القرآن قال سموه فقال بعضهم:
سموه إنجيلا فكرهوه وقال بعضهم سموه السفر فكرهوه من يهود فقال ابن مسعود رأيت للحبشة كتابا يدعونه المصحف فسموه به).
وهذه الأخبار واهية من جهة الإسناد لا يُعوَّل عليها). [جمع القرآن:81 - 87]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 10:16 AM

أسماء أجزاء المصحف وملحقاته:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أسماء أجزاء المصحف وملحقاته:

ولأجزاء المصحف وملحقاته أسماء يحسن بطالب العلم معرفتها
- فدفّتا المصحف ضمامتاه من جانبيه، قاله الخليل بن أحمد.
- والشَّرَج: عُرى المصاحف.
- والرَّصيع: زرّ عروة المصحف.
- والرَّبعة: الصندوق الذي يوضع فيه المصحف.
وكانت أوراق المصاحف من أُدم رِقَاق). [جمع القرآن:88]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 12:22 PM

الباب السادس: جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه

جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه

كان الناس قبل جمع عثمان كلٌّ يقرأ كما تعلَّم من وجوه القراءات وأحرفها؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ بعض الصحابة بأحرف وأقرأ بعضهم بأحرف أخرى، وكان الرجل منهم ربما أنكر على صاحبه وربما اختصما فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم الاختلاف في القرآن ونهاهم عنه نهياً شديداً، فتأدَّب الصحابة رضي الله عنهم بما أدَّبهم به النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كلّ يقرأ كما عُلّم لا ينكر على أخيه ما صحّ من قراءته، ولا يترك الحرف الذي يقرأ به رغبة عنه.


وقد صحّ في هذا الباب أحاديث كثيرة منها:

1. ما رواه ابن شهاب الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير، أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القاري، حدثاه أنهما سمعا عمر بن الخطاب، يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام، يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسله، اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت»، ثم قال: «اقرأ يا عمر» فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه» رواه البخاري وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم.
وهشام بن حكيم بن حزام من مسلمة الفتح ، وهذا مما يدلّ أنَّ نزول الأحرف السبعة كان بعد فتح مكة؛ إذ لو كان قبل ذلك لعرف واشتهر، وسورة الفرقان مكية في الأصل، لكن نزول الأحرف الأخرى فيها مما تأخر عن نزول أصلها.

2. وقال شعبة بن الحجاج: حدثنا عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النزال بن سبرة الهلالي، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت رجلا قرأ آية وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها؛ فجئت به النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفتُ في وجهه الكراهية، وقال: «كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» رواه البخاري في صحيحه، ورواه أحمد وابن أبي شيبة والنسائي في السنن الكبرى وغيرهم.
وفي رواية عند ابن أبي شيبة أن ابن مسعود قال: (فعرفت الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وفي رواية عند أحمد: (فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم).

3. وقال إسماعيل بن أبي خالد: حدثني عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن جده، عن أبيّ بن كعب، قال: كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرآ، فحسَّن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما، فسَقَطَ في نفسِي من التكذيبِ ولا إذ كنت في الجاهلية، فلمَّا رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضربَ في صدري، ففضتُ عَرَقاً وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقاً، فقال لي: « يا أبي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين، فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم، حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم ». رواه أحمد ومسلم وابن حبان.

4. وقال همّام بن يحيى: حدثنا قتادة، عن يحيى بن يعمر، عن سليمان بن صرد، عن أبيّ بن كعب، قال: قرأت آية وقرأ ابن مسعود خلافها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟
قال: "بلى "
فقال ابن مسعود: ألم تقرئنيها كذا وكذا؟
فقال: "بلى، كلاكما محسن مجمل "
قال: فقلت له: فضرب صدري،
فقال: "يا أبي بن كعب، إني أقرئت القرآن،
فقلت: على حرفين،
فقال: على حرفين، أو ثلاثة؟
فقال الملك الذي معي: على ثلاثة
فقلت: على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: غفورا رحيما، أو قلت: سميعا عليما، أو عليما سميعا فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب). رواه أحمد
- وهذا الحديث رواه إسرائيل بن يونس، عن جدّه أبي إسحاق السبيعي ، عن سقير العبدي، عن سليمان بن صرد، عن أبي بن كعب، قال: سمعت رجلا يقرأ، فقلت: من أقرأك؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: انطلق إليه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: استقرئ هذا، فقال: "اقرأ " فقرأ، فقال: "أحسنت " فقلت له: أولم تقرئني كذا وكذا؟ قال: "بلى، وأنت قد أحسنت " فقلت بيدي: قد أحسنت مرتين، قال: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده في صدري، ثم قال: "اللهم أذهب عن أبي الشكَّ " ففضت عرقا، وامتلأ جوفي فرقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبي، إن ملكين أتياني، فقال أحدهما: اقرأ على حرف، فقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأ على حرفين، فقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأ على ثلاثة، فقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأ على أربعة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال: اقرأ على خمسة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال: اقرأ على ستة، قال الآخر: زده، قال: اقرأ على سبعة أحرف، فالقرآن أنزل على سبعة أحرف). رواه أحمد.

5: وفي حديث شعبة عن عبد الرحمن بن عابس النخعي عن رجل من همدان من أصحاب عبد الله بن مسعود أن ابن مسعود جمعهم وقال: (إن هذا القرآن أنزل على حروف، والله إن كان الرجلان ليختصمان أشد ما اختصما في شيء قط، فإذا قال القارئ: هذا أقرأني، قال: "أحسنت"، وإذا قال الآخر، قال: "كلاكما محسن"). رواه أحمد وغيره وقد تقدم.

وهذه الأحاديث والآثار تدلّ دلالةً بيّنة على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن الهدى لأصحابه في شأن هذه الأحرف وما يصنع أحدهم إذا سمع قراءة غير التي يقرأ بها.

وقد فقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر أحسن الفقه، وتأدبوا به أحسن الأدب، وعلّموه أصحابهم من التابعين لهم بإحسان.
قال شعيب بن الحبحاب: كان أبو العالية الرياحي إذا قرأ عنده رجل لم يقل: ليس كما تقرأ، ويقول: أما أنا فأقرأ كذا وكذا.
قال شعيب: فذكرت ذلك لإبراهيم [النخعي]؛ فقال: (أرى صاحبك قد سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله). رواه أبو عبيد وابن جرير.
وأبو العالية الرياحي من كبار التابعين أسلم في خلافة أبي بكر، وقرأ على عمر وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، وتفقه بهم، وكان ابن عباس يحبّه ويكرمه ويرفع من شأنه.
والمقصود أنَّ الصحابة رضي الله عنهم وفقهاء التابعين لم يكن بينهم اختلاف ولا تنازع في القراءات بسبب ما عرفوه من الهدى في هذا الباب.

وكان الصحابة رضي الله عنهم يكتبون القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده، وكان كلٌّ يكتب كما أُقرئ؛
ولما استخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجمع القرآن في مصحف لم يمنع الناس من كتابة المصاحف؛ فكانت المصاحف تُكتب في عهد أبي بكر وعمر وصدر خلافة عثمان على نحو ما يقرأ كلّ قارئ؛ فكثرت المصاحف وتعددّت، ولم يكن بين الصحابة رضي الله عنهم خلاف ولا تخاصم فيما تختلف فيه مصاحفهم؛ فكان اختلافهم في هذا الباب مأمونا لما أدّبهم به النبي صلى الله عليه وسلم، ولما عقلوا من نهيه عن الاختلاف في القرآن، وأن يقرأ كل واحد منهم كما عُلّم، وقد ورد في ذلك في الأحاديث المتقدّم ذكرها.
وكان المعوَّل في قراءة القرآن وإقرائه على السماع والتلقّي، وإنما يستعان بالكتابة على تذكّر ما قد ينساه القارئ من حفظه). [جمع القرآن:89 - 94]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 12:24 PM

أسباب جمع عثمان رضي الله عنه للقرآن:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أسباب جمع عثمان رضي الله عنه للقرآن:
لما كثرت الفتوحات في زمن عمر ثم زمن عثمان واتّسعت بلاد المسلمين، وأقبل الناس على قراءة القرآن وحفظه ظهر الخلاف والتخاصم في القراءات؛ حتى اشتدّ الخلاف في بعض البلدان، وكفَّر بعض الجهّال بعض من قرأ غير قراءتهم، وكادت أن تكون بينهم فتنة بسبب ذلك.

فكان بعض الصحابة يلحظ ذلك وينكره، ويبلغ عثمان أنواع من الخلاف والتنازع؛ فلما تفاقم الأمر، وجاء حذيفة بخبر الفتنة التي حصلت بسبب هذا الاختلاف؛ خطب عثمان في الناس، واستشار فقهاء الصحابة وقراءهم، واجتمعت كلمتهم على جَمْعِ مصحفٍ إمامٍ تستنسخ منه المصاحف، ويلغى ما خالفه.

وقد روى أهل الحديث آثاراً كثيرة تدلّ على تعدّدِ الأسباب التي حملت عثمان رضي الله عنه على الأمر بجمع المصاحف، ومن ذلك:
1. خبر إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثنا ابن شهاب [الزهري] عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان - وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق - فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة؛ فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان؛ فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف). رواه البخاري والترمذي والنسائي في الكبرى.
- وروى يونس وابن وهب عن ابن شهاب أنه قال: (حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه اجتمع لغزوة أرمينية وأذربيجان أهل الشام وأهل العراق، فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.

2. وروى أبو إسحاق السبيعي عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قام عثمان فخطب الناس فقال: " أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن، وتقولون قراءة أبيّ وقراءة عبد الله، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به...) رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة وابن أبي داوود في كتاب المصاحف.

3. وروى علقمة بن مرثد الحضرمي، عن العيزار بن جرول الحضرمي عن سويد بن غفلة الجعفي قال: والله لا أحدثكم إلا بشيء سمعته من علي: سمعته يقول: " اتقوا الله في عثمان ولا تغلوا فيه، ولا تقولوا حراق المصاحف، فوالله ما فعل إلا عن ملأ منا أصحاب محمد، دعانا فقال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضكم يقول: قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا، وإنكم إن اختلفتم اليوم كان لمن بعدكم أشد اختلافا "،
قلنا: فما ترى؟ قال: «أن أجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف» ، قلنا: فنعم ما رأيت، قال: «فأي الناس أقرأ؟» قالوا: زيد بن ثابت،
قال: «فأي الناس أفصح وأعرب؟»
قالوا: سعيد بن العاص، قال: «فليكتب سعيد وليمل زيد» ، قال: فكانت مصاحف بعث بها إلى الأمصار، قال علي: «والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل» رواه عمر بن شبة.

4. وقال يحيى بن عبد الرحمن الأرحبي: حدثني عبد الله بن عبد الملك الحر، عن إياد بن لقيط، عن يزيد بن معاوية النخعي قال: إني لفي المسجد زمن الوليد بن عقبة في حلقة فيها حذيفة قال: وليس إذ ذاك حَجَزَةٌ ولا جَلاوزة، إذ هتف هاتف: من كان يقرأ على قراءة أبي موسى؛ فليأت الزاوية التي عند أبواب كندة، ومن كان يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود فليأت هذه الزاوية التي عند دار عبد الله، واختلفا في آية من سورة البقرة قرأ هذا (وأتموا الحج والعمرة للبيت) وقرأ هذا: {وأتموا الحج والعمرة لله}
فغضب حذيفة واحمرَّت عيناه، ثم قام ففزر قميصه في حجزته وهو في المسجد وذاك في زمن عثمان فقال: إما أن يركب إليَّ أمير المؤمنين وإما أن أركب، فهكذا كان من قبلكم، ثم أقبل فجلس فقال: «إن الله بعث محمدا فقاتل بمن أقبل من أدبر حتى أظهر دينه، ثم إن الله قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواد ثم إن الله استخلف أبا بكر فكان ما شاء الله، ثم إن الله قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواد، ثم إن الله استخلف عمر فنزل وسط الإسلام، ثم إن الله قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواد، ثم إن الله استخلف عثمان وايم الله ليوشكن أن يطعنوا فيه طعنة تخلفونه كله» رواه ابن أبي داوود.

5. وقال حفص بن عمر الدوري المقرئ: حدثنا إسماعيل بن جعفر أبو إبراهيم المديني، عن عمارة بن غزية، عن ابن شهاب الزهري، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت: أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم من غزوة غزاها بفرج أرمينية فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود، ويأتون بما لم يسمع أهل الشام، ويقرأ أهل الشام، بقراءة أبي بن كعب، ويأتون بما لم يسمع أهل العراق، فيكفرهم أهل العراق، قال: «فأمرني عثمان رضي الله عنه أن أكتب له مصحفا» فكتبته، فلما فرغت منه عرضه). رواه عمر بن شبة.

6. وقال عبد الله بن وهب: حدثني عمرو بن الحارث أن بكيرا، حدثه: (أن ناساً كانوا بالعراق يسأل أحدهم عن الآية، فإذا قرأها قال: "فإني أكفر بهذه"، ففشا ذلك في الناس، واختلفوا في القراءة، فكُلِّمَ عثمانُ بن عفان رضي الله عنه في ذلك، فأمر بجمع المصاحف فأحرقها، وكتب مصاحف ثم بثَّها في الأجناد). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.

7. وروى هشام بن حسان عن محمد بن سيرين أنه قال: (كان الرجل يقرأ فيقول له صاحبه: "كفرت بما تقول"، فرُفِعَ ذلك إلى ابن عفان فتعاظم في نفسه، فجمع اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، منهم أبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأرسل إلى الرَّبْعَةِ التي كانت في بيت عمر رضي الله عنه، فيها القرآن "
قال: «وكان يتعاهدهم».

قال ابن سيرين: فحدثني كثير بن أفلح: أنه كان فيمن يكتب لهم، فكانوا كلما اختلفوا في شيء أخَّرُوه.
قلت: لم أخَّرُوه؟
قال: لا أدري
قال محمد: فظننت أنا فيه ظنا، ولا تجعلوه أنتم يقينا، ظننت أنهم كانوا إذا اختلفوا في الشيء أخروه حتى ينظروا آخرهم عهدا بالعرضة الأخيرة فكتبوه على قوله). رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة وابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
تصحفت "الرَّبعة" في المطبوع من تاريخ المدينة لابن شبة إلى (الرقعة)، و"الربعة" الصندوق الذي توضع فيه أجزاء المصحف.

8: وقال يحيى بن آدم: حدثنا عمرو بن ثابت قال: حدثنا حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الشعثاء قال: (كنا جلوسا في المسجد وعبد الله يقرأ فجاء حذيفة فقال: " قراءة ابن أم عبد وقراءة أبي موسى الأشعري، والله إن بقيت حتى آتي أمير المؤمنين، يعني عثمان، لأمرته بجعلها قراءة واحدة قال: فغضب عبد الله فقال لحذيفة كلمة شديدة قال فسكت حذيفة). رواه عمر بن شبة.
وهذا مما يدلّ على أنَّ حذيفة كان يكره هذا الاختلاف من قبل لكنَّه لم يكلّم فيه عثمان حتى رأى بوادر الفتنة.


9. وقال إسماعيل بن عليّة: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين.
قال أيوب: لا أعلمه إلا قال: حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبا فقال: «أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافاً، وأشد لحناً، اجتمعوا يا أصحاب محمد واكتبوا للناس إماماً» رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف، وهو منقطع.

وهذه الآثار تدلّ على أن هذه الأسباب اجتمعت وتظافرت؛ وأنَّ جمع القرآن كان عن إجماع من الصحابة رضي الله عنهم لما رأوه من الاختلاف فجمعوا الناس على مصحف واحد نصحاً للأمّة ودرءا للاختلاف والتنازع في كتاب الله تعالى، وما كان من خلاف ابن مسعود في أوّل الأمر فإنّه رجع عنه، وسيأتي بيانه إن شاء الله.

قال البغوي في شرح السنة: (إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرءون القرآن بعده على الأحرف السبعة التي أقرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله عز وجل، إلى أن وقع الاختلاف بين القراء في زمن عثمان، وعظم الأمر فيه، وكتب الناس بذلك من الأمصار إلى عثمان، وناشدوه الله تعالى في جمع الكلمة، وتدارك الناس قبل تفاقم الأمر، وقدم حذيفة بن اليمان من غزوة أرمينية، فشافهه بذلك، فجمع عثمان عند ذلك المهاجرين والأنصار، وشاورهم في جمع القرآن في المصاحف على حرف واحد، ليزول بذلك الخلاف، وتتفق الكلمة، واستصوبوا رأيه، وحضوه عليه، ورأوا أنه من أحوط الأمور للقرآن، فحينئذ أرسل عثمان إلى حفصة، أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، فأرسلت إليه، فأمر زيد بن ثابت، والرهط القرشيين الثلاثة فنسخوها في المصاحف، وبعث بها إلى الأمصار)ا.هـ


تنبيه:
- قال إسماعيل بن عياش الحمصي: حدثنا حبان بن يحيى البهراني، عن أبي محمد القرشي: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب إلى الأمصار: (أما بعد، فإن نفراً من أهل الأمصار اجتمعوا عندي فتدارسوا القرآن، فاختلفوا اختلافا شديدا، فقال بعضهم: قرأت على أبي الدرداء، وقال بعضهم: قرأت على حرف عبد الله بن مسعود، وقال بعضهم: قرأت على حرف عبد الله بن قيس، فلما سمعت اختلافهم في القرآن - والعهد برسول الله صلى الله عليه وسلم حديث - ورأيت أمرا منكراً فأشفقت على هذه الأمة من اختلافهم في القرآن، وخشيت أن يختلفوا في دينهم بعد ذهاب من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قرأوا القرآن على عهده وسمعوه من فيه، كما اختلفت النصارى في الإنجيل بعد ذهاب عيسى ابن مريم، وأحببت أن ندارك من ذلك، فأرسلت إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن ترسل إلي بالأُدُم الذي فيه القرآن، الذي كُتب عن فَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوحاه الله إلى جبريل، وأوحاه جبريل إلى محمد، وأنزله عليه، وإذ القرآن غض، فأمرت زيد بن ثابت أن يقوم على ذلك، ولم أفرغ لذلك من أجل أمور الناس والقضاء بين الناس، وكان زيد بن ثابت أحفظنا للقرآن، ثم دعوت نفرا من كُتَّاب أهل المدينة وذوي عقولهم، منهم نافع بن طريف، وعبد الله بن الوليد الخزاعي، وعبد الرحمن بن أبي لبابة؛ فأمرتهم أن ينسخوا من ذلك الأُدُم أربعةَ مصاحفَ وأن يتحفظوا ). رواه عمر بن شبة، وهو خبر لا يصحّ، إسناده مظلم، ومتنه منكر، وإنما أوردته ليُعلم حاله، وليتبيّن ضعف الأقوال التي كان مستندها هذا الأثر). [جمع القرآن:
94 - 101]


جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 12:29 PM

تأريخ جمع عثمان:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تأريخ جمع عثمان:
روى إسرائيل وزيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق السبيعي عن مصعب بن سعد قال: : جلس عثمان بن عفان رضي الله عنه على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ( إنما عهدكم بنبيكم صلى الله عليه وسلم منذ ثلاث عشرة سنة..). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.

وخالفهما غيلان بن جامع المحاربي فروى عن أبي إسحاق عن مصعب أنه قال: سمع عثمان قراءة أبي وعبد الله ومعاذ، فخطب الناس ثم قال: ( إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة، وقد اختلفتم في القرآن..). رواه ابن أبي داوود.
قال الحافظ ابن حجر: (وكانت هذه القصة في سنة خمس وعشرين في السنة الثالثة أو الثانية من خلافة عثمان وقد أخرج بن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: خطب عثمان فقال: "يا أيها الناس إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة وقد اختلفتم في القراءة.." الحديثَ في جمع القرآن، وكانت خلافة عثمان بعد قتل عمر، وكان قتل عمر في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة إلا ثلاثة أشهر؛ فإن كان قوله: "خمس عشرة سنة" أي كاملة فيكون ذلك بعد مضي سنتين وثلاثة أشهر من خلافته، لكن وقع في رواية أخرى له "منذ ثلاث عشرة سنة" فيجمع بينهما بإلغاء الكسر في هذه وجبره في الأولى؛ فيكون ذلك بعد مضي سنة واحدة من خلافته فيكون ذلك في أواخر سنة أربع وعشرين، وأوائل سنة خمس وعشرين، وهو الوقت الذي ذكر أهل التاريخ أن أرمينية فتحت فيه، وذلك في أوَّل ولاية الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط على الكوفة من قِبَل عثمان، وغفل بعض من أدركناه فزعم أن ذلك كان في حدود سنة ثلاثين، ولم يذكر لذلك مستنداً)ا.هـ). [جمع القرآن:101 - 102]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 12:32 PM

موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع عثمان

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع عثمان
أجمع الصحابة رضي الله عنهم على استحسان ما فعله عثمان رضي الله عنه من جمع الناس على مصحف إمام، ولم يخالفه منهم أحد على أمر الجمع سوى ما ذكر عن ابن مسعود في أول الأمر وكان لمعارضته أسباب تخصّه يأتي بيانها إن شاء الله، ثم إنه رجع عن المعارضة إلى موافقة ما أجمع عليه الصحابة، واستقرّ إجماع المسلمين على القراءة بما تضمنته المصاحف العثمانية وترك القراءة بما سواها.


1. قال سويد بن غَفَلة: والله لا أحدثكم إلا شيئاً سمعته من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، سمعته يقول: (يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرا في المصاحف وإحراق المصاحف؛ فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منّا [جميعاً] أصحابَ محمد، دعانا فقال: « ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضكم يقول: قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا، وإنكم إن اختلفتم اليوم كان لمن بعدكم أشد اختلافا »
قلنا: فما ترى؟
قال: «أن أجمع الناس على مصحف واحد؛ فلا تكون فرقة ولا اختلاف»
قلنا: فَنِعْمَ ما رأيت).
قال علي: « والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل».
رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة وابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق علقمة بن مرثد، عن العيزار بن جرول عن سويد به.
2. وقال أبو إسحاق السبيعي: سمعت مصعب بن سعد يقول: «أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرين فما رأيت أحداً منهم عاب ما صنع عثمان رضي الله عنه في المصاحف» رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وعمر بن شبة واللفظ له وابن أبي داوود.
وفي وراية عند ابن شبة من طريق السدي قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحمن، عن زيد بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق، عن مصعب بن سعد قال: (سمعت رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: لقد أحسن).
3. وروى الأعمش، عن شقيق، قال: (لمَّا شق عثمان رضي الله عنه المصاحف بلغ ذلك عبد الله فقال: «قد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته» ).
قال أبو وائل: (فقعدت إلى الخلق لأسمع ما يقولون؛ فما سمعت أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عابَ ذلك عليه). رواه عمر بن شبة). [جمع القرآن:102 - 104]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 12:36 PM

وكذلك كان موقف كبار التابعين وقرائهم:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وكذلك كان موقف كبار التابعين وقرائهم:

- قال ثابت بن عمارة الحنفي: سمعت غنيم بن قيس المازني قال: (قرأت القرآن على الحرفين جميعاً، والله ما يسرّني أن عُثمان لم يكتب المصحف وأنه ولد لكل مسلم كلما أصبح غلاماً؛ فأصبح له مثل ما له.
قال: قلنا له: يا أبا العنبر لم؟
قال: (لو لم يكتب عثمان المصحف لطفق الناس يقرؤون الشعر). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
وغنيم بن قيس من كبار التابعين وفقهائهم أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، وقرأ على كبار الصحابة رضي الله عنهم.
- وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثني عمران بن حدير، عن أبي مجلز قال: «لولا أن عثمان كتب القرآن لألفيت الناس يقرؤون الشعر» رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.

وقد طعن بعض أهل الأهواء على عثمان في شأن المصاحف وحرقه ما سوى المصاحف التي جمع الناس عليها، وكانت أوّل فتنة ظهرت في هذا فرقة من أهل مصر في زمن عثمان أتوا ناقمين على عثمان حتى إذا نزلوا بالجحفة أرسل إليهم عليّ بن أبي طالب ، فقال لهم عليّ: ما الذي نقمتم؟
قالوا: نقمنا أنه محا كتاب الله عز وجل.. وذكروا سائر ما نقموا عليه.
فبيّن لهم الحقّ في كلّ ما نقموا عليه من ذلك، وطفئت تلك الفتنة، ثم ظهرت فتن أخرى.
وفي زمن عليّ بن أبي طالب ظهرت طائفة في عسكره غلوا في تفضيل عليّ على عثمان حتى تناولوا عثمان وذمّوه بحرق المصاحف حتى لقّبه بعضهم (حَرَّاق المصاحف) فخطب فيهم علي بن أبي طالب، وأنكر عليهم غلوَّهم، وبيّن لهم أنه لم يحرق المصاحف إلا عن إجماع من الصحابة رضي الله عنهم لما رأوا من اختلاف الناس في القرآن.
قال عبد الرحمن بن مهدي: حدثنا يزيد بن زريع، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، قال: « عابوا على عثمان رضي الله عنه تشقيق المصاحف، وقد آمنوا بما كتب لهم، انظر إلى حمقهم» رواه عمر بن شبة.
ورواه أبو عبيد ولفظه: « ألا تعجب من حمقهم؛ كان مما عابوا على عثمان تمزيقه المصاحف، ثم قبلوا ما نسخ »). [جمع القرآن:104 - 105]


جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 12:39 PM

موقف ابن مسعود من جمع عثمان رضي الله عنهما:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (موقف ابن مسعود من جمع عثمان رضي الله عنهما:
كان ابن مسعود رضي الله عنه من كبار قرّاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، أخذ من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وكان من معلّمي القرآن على زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم.


قال مسروق: كنا نأتي عبد الله بن عمرو، فنتحدث إليه؛ فذكرنا يوما عبد الله بن مسعود؛ فقال: لقد ذكرتم رجلاً لا أزال أحبّه بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد - فبدأ به - ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة ». رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد وابن ماجه والنسائي في السنن الكبرى وغيرهم من طرق عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل؛ فليقرأه على قراءة ابن مسعود »
وعن عيسى بن دينار الخزاعي عن أبي عن عمرو بن الحارث بن المصطلق رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن يقرأ القرآن غضّاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
وكان الصحابة يعرفون لابن مسعود إمامته وفضله وحسن قراءته، وسابقته في الدين.
قال عبد الرحمن بن يزيد: سألنا حذيفة عن رجلٍ قريب السَّمْتِ والهَدْيِ من النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتى نأخذَ عنه، فقال: « ما أعرفُ أحداً أقربَ سمتاً وهدياً ودلاً بالنبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من ابن أمِّ عبْدٍ » رواه البخاري.
وبعثه عمر بن الخطاب إلى الكوفة معلّماً ووزيراً؛ فكان يقرئ الناس في الكوفة مدة خلافة عمر وصدر خلافة عثمان؛ ونفع الله به به نفعاً مباركاً؛ وكان يقرئهم كما أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو موسى الأشعري يقرئ أهل البصرة، وكان من قرّاء الصحابة رضي الله عنه.
روى أبو الضحى، عن مسروق قال: كان عبد الله وحذيفة وأبو موسى في منزل أبي موسى، فقال حذيفة: (أما أنت يا عبد الله بن قيس فبُعثتَ إلى أهل البصرة أميرا ومعلما، وأخذوا من أدبك ولغتك ومن قراءتك، وأما أنت يا عبد الله بن مسعود فبُعثت إلى أهل الكوفة معلما؛ فأخذوا من أدبك ولغتك ومن قراءتك؛ فقال عبد الله: أما إني إذا لم أضلَّهم، وما من كتاب الله آية إلا أعلم حيث نزلت، وفيم نزلت، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني، تبلغنيه الإبل لرحلت إليه). رواه ابن أبي داوود.
وفي رواية عند عمر بن شبّة أن حذيفة قال لهما: «أما إنكما إن شئتما أقمتما هذا الكتاب على حرف واحد، فإني قد خشيت أن يتهوَّن الناس فيه تهوُّنَ أهل الكتاب»

فكان حذيفة يرى اختلاف الناس في القراءة وتنازعهم، ويخشى أن تقع بينهم فتنة وتفرّق بسبب اختلافهم وتنازعهم، وكان شديد التوقي من الفتن، عظيم النصح للأمّة، مسموع الكلمة عند الخلفاء الراشدين، ولعله رأى تكرر الاختلاف فعاود النصيحة.
قال أبو الشعثاء: كنا جلوسا في المسجدِ وعبد الله يقرأ؛ فجاء حذيفة فقال: (قراءة ابن أم عبْد وقراءة أبي موسى الأشعري!! والله إن بقيت حتى آتي أمير المؤمنين، يعني عثمان، لأمرته بجعلها قراءة واحدة.
قال: فغضب عبد الله؛ فقال لحذيفة كلمة شديدة.
قال: فسكت حذيفة). رواه ابن أبي داوود في المصاحف.

فلما تفاقم الأمر ووقعت الخصومة وكادت أن تحدث فتنة واختلاف؛ لم يجد حذيفة بدّا من رفع الأمر إلى عثمان؛ كما سبق ذكره.
قال ابن فضيل: حدثنا حصين، عن مرة قال: ذُكر لي أن عبد الله وحذيفة وأبا موسى فوق بيت أبي موسى فأتيتهم، فقال عبد الله لحذيفة: (أما إنه قد بلغني أنك صاحب الحديث قال: أجل، كرهت أن يقال: قراءة فلان وقراءة فلان؛ فيختلفون كما اختلف أهل الكتاب.
قال: وأقيمت الصلاة، فقيل لعبد الله: تقدم صلّ، فأبى، فقيل لحذيفة: تقدم، فأبى، فقيل لأبي موسى: تقدم فإنَّك رب البيت). رواه ابن أبي داوود.

وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يأمر المتعلّمين أن يقرأ كلٌّ منهم كما عُلّم، وأن لا ينكر على من قرأ قراءة صحيحة؛ بل ربما اشتدّ على من يسأل عن الأحرف مخافة أن يضرب السائل بعض القراءات ببعض، ويصرف نظره إلى التدبّر والتفكر والعمل.
قال أبو وائل شقيق بن سلمة: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله، فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف؟ ألفا تجده أم ياء {من ماء غير أسن}، أو [من ماء غير ياسن]؟
قال: فقال عبد الله: وكلَّ القرآن قد أحصيتَ غير هذا؟!!
قال: إني لأقرأ المفصَّلَ في ركعة!
فقال عبد الله: «هذّا كهذّ الشِّعر! إنَّ أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع »رواه مسلم.
وكان يسير في تعليم الناس القرآن على الطريقة التي تعلّمها من النبي صلى الله عليه وسلم.
لكنَّ أمر الخلاف تفاقم، ولم يسع الصحابة رضي الله عنهم إلا جمع الناس على مصحف واحد.
فلما اجتمع رأيهم على ذلك بالمدينة، وكان ابن مسعود نائياً في العراق، وكان عثمان قد اختار زيد بن ثابت لعلمه بالكتابة والخطّ، وكان أكتبَ الناسِ في زمانه، وجعل معه من جعل من القراء والكتبة والمملين، ولم يجعل ابن مسعود منهم شقّ ذلك على ابن مسعود لأنَّ ذلك يفضي إلى ترك بعض الأحرف التي قرأ بها وتلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يختار القراءة التي جمع عثمان عليها الناس، ولم يكن غضبُه لمجرّد أنه لم يوكل إليه جمع القرآن كما يغضب المرء على فوات منصب أو نهزة شرف، كما توهَّمه من لم يقدر فضل ابن مسعود وعلمه وزهده في المنصب وما يحرص عليه أهل الدنيا.
لكنَّه رأى أنه لو جُعل مع النفر الذين أوكل إليهم جمع القرآن وتوحيد رسمه لكان أدعى لحفظ الحروف التي يقرأ بها مما تلقّاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغضب أن تُرك مع أنه كان من المعلّمين على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الزمان، وهو نحو ثلاثين سنة أو تزيد، وكان مقدَّما في إقراء القرآن وتعليمه، فلمّا اجتمع الناس لكتابة المصاحف لم يكن ممن يُستدعى لهذا الأمر الجلل، ويؤخذ من علمه فيه.
وقد سبق ذكر الحديث الذي فيه اختلاف بعض الأحرف التي قرأ بها ابن مسعود عن الأحرف التي قرأ بها أبيّ.
وكان أبيّ ممن يَرجع إليه النفر الذين كلّفهم عثمان كتابة المصاحف، وكان من ضرورة التنظيم الذي رسمه عثمان رضي الله عنه أن يختلف اختيار أولئك القراء في بعض الأحرف عما يقرأ به ابن مسعود، وأن تجتمع كلمة المسلمين على ذلك الاختيار، ولذلك شقّ هذا الأمر جداً على ابن مسعود رضي الله عنه، ولم يشقّ على أبيّ؛ فإنَّ أُبيّا دفع مصحفه الذي كتبه بخطّ يده إلى عثمان طيبة به نفسه لما اطمأنّ إلى صحة الجمع وجودة مراجعته؛ فأحرقه عثمان فيما أحرق من المصاحف.
وأمّا ابن مسعود فقام في الناس خطيباً واستنكر هذا الجمع أوّل الأمر لمّا بلغه، ثمّ إنه لمّا تبيّن له أن المصير إليه هو الحقّ رضي ما رضيه عثمان وسائر الصحابة واجتمعت عليه كلمة المسلمين.
- قال عبدة بن سليمان: حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله أنه قال: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة }، ثم قال: (على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟!! فلقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أنَّ أحداً أعلم مني لرحلتُ إليه).
قال شقيق: (فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه ولا يعيبه). رواه مسلم
- ورواه النسائي من طريق أبي شهاب الحناط، قال: حدثنا الأعمش، عن أبي وائل قال: خطبنا ابن مسعود فقال: «كيف تأمروني أقرأ على قراءة زيد بن ثابت بعد ما قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، وإن زيدا مع الغلمان له ذؤابتان».
- ورواه ابن أبي داوود من هذا الطريق بسياق أتمّ
عن أبي وائل أنه قال: خطبنا ابن مسعود على المنبر فقال: « {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} غُلُّوا مصاحفكم، وكيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، وإن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان، والله ما أنزل من القرآن إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل، ما أحد أعلم بكتاب الله مني، وما أنا بخيركم، ولو أعلم مكانا تبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته».
قال أبو وائل: (فلما نزل عن المنبر جلست في الحلق فما أحد ينكر ما قال).
- وروى أبو الضحى، عن مسروق أنه قال: قال عبد الله حين صُنِعَ بالمصاحف ما صنع: «والذي لا إله غيره ما أنزلت من سورة إلا أعلم حيث أنزلت، وما من آية إلا أعلم فيما أنزلت، ولو أني أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته» رواه ابن أبي داوود.
- روى إسرائيل، عن جدّه أبي إسحاق السبيعي، عن خُمَير بن مالك قال: ( لما أمر بالمصاحف تغير ساء ذلك عبد الله بن مسعود؛ فقال: (من استطاع منكم أن يغلَّ مصحفه فليغله، فإن من غلَّ شيئاً جاء به يوم القيامة)
ثم قال: (قرأتُ من فمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة [وزيد صبي]؛ أفأترك ما أخذتُ من في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟). رواه أحمد وعمر بن شبة والطبراني وابن أبي داوود، وما بين المعكوفين عندهم ما عدا أحمد، ورواه أبو داوود الطيالسي من طريق عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق السبيعي به.
- وقال عبد الله بن عون: حدثني عمرو بن قيس، عن عمرو بن شرحبيل أبي ميسرة الهمداني، قال: أتى عليَّ رجل وأنا أصلي، فقال: (ألا أراك تصلي وقد أمر بكتاب الله أن يُمزَّق)
قال: فتجوَّزت في صلاتي وكنت لا أُحبَس، فدخلتُ الدَّار ولم أُحبس، ورَقَيت فلم أُحبَس، فإذا أنا بالأشعري، وإذا حذيفة وابن مسعود يتقاولان، وحذيفة يقول لابن مسعود:
« ادفع إليهم المصحف »
فقال: « والله لا أدفعه ».
فقال: « ادفعه إليهم، فإنَّهم لا يألون أمة محمد إلا خيراً »
قال: « والله لا أدفعه إليهم، أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة وأدفعه إليهم؟!! والله لا أدفعه إليهم » رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك.

ثمّ إنّ موقفه هذا قد كرهه جماعة من كبار الصحابة وقرائهم وأنكروه.
- قال ابن شهاب الزهري: (بلغني أن كَرِهَ من مقالة ابن مسعود رجال أفاضل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، والترمذي في سننه، وأبو يعلى في مسنده.
- وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة أنه قال: قدمت الشام فلقيت أبا الدرداء فقال: «كُنَّا نَعُدّ عبدَ الله حَنَّانا فما بالُه يواثِبُ الأمراء» رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق.

ثمّ إنّ ابن مسعود رضي الله عنه قد رجع عن موقفه هذا إلى موافقة ما اجتمعت عليه كلمة الصحابة رضي الله عنهم.
قال كثير بن هشام الكلابي: حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا عبد الأعلى بن الحكم الكلابي: أتيت دار أبي موسى الأشعري، فإذا حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري فوق إجَّار لهم، فقلت: هؤلاء والله الذين أريد فأخذت أرتقي إليهم، فإذا غلام على الدرجة فمنعني فنازعته فالتفت إليَّ بعضهم قال: خلِّ عن الرجل فأتيتهم حتى جلستُ إليهم، فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان، وأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه؛ فقال أبو موسى: (ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه)
فقال حذيفة: كيف بما صنعنا؟!! والله ما أحد من أهل هذا البلد يرغب عن قراءة هذا الشيخ، يعني ابن مسعود، ولا أحد من أهل اليمن يرغب عن قراءة هذا الشيخ، يعني أبا موسى الأشعري).
قال عبد الأعلى: (وكان حذيفة هو الذي أشار على عثمان رضي الله عنه بجمع المصاحف على مصحف واحد، ثم إن الصلاة حضرت؛ فقالوا لأبي موسى الأشعري: تقدم فإنا في دارك، فقال: لا أتقدم بين يدي ابن مسعود، فتنازعوا ساعة، وكان ابن مسعود بين حذيفة وأبي موسى فدفعاه حتى تقدَّم فصلَّى بهم). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.

وكان ابن مسعود بعد ذلك يسكّن الناسَ في أمر الاختلاف في القراءات، ويخبرهم أن اختلاف الأحرف ليس باختلاف في معاني القرآن، وأنّ كلّ حرف منها كافٍ شافٍ، وأنّ من قرأ على قراءة فليثبت عليها ولا يشكنّ فيها ولا يدعنّها رغبة عنها.

قال فلفلة الجعفي: فَزعتُ فيمن فزع إلى عبد الله في المصاحف، فدخلنا عليه، فقال رجل من القوم: إنا لم نأتك زائرين، ولكنا جئنا حين راعنا هذا الخبر، فقال: «إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب على سبعة أحرف، وإن الكتاب قبلكم كان ينزل من باب واحد على حرف واحد، معناهما واحد». رواه ابن أبي داوود.
- روى الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (قد سمعت القراء، فوجدتهم مقاربين، فاقرأوا كما علمتم، وإياكم والتنطع والاختلاف، فإنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال). رواه عمر بن شبة.
- وروى عبد الرحمن بن عابس النخعي عن رجل من همدان من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه أنه اجتمع إلى ابن مسعود ناسٌ من أهل الكوفة فقرأ عليهم السلام، وأمرهم بتقوى الله، وألا يختلفوا في القرآن ولا يتنازعوا فيه فإنه لا يختلف ولا يتشانّ ولا يَتْفَه لكثرة الردّ..
وقال لهم: (ألا ترون أن شريعة الإسلام فيه واحدة حدودها وفرائضها وأَمْرَ اللهِ فيها، فلو كان شيء من الحرفين يأمر بشيء وينهى عنه الآخر كان ذلك الاختلاف، ولكنه جامع ذلك كله). رواه عمر بن شبة.
وفي رواية عند أحمد: (إن هذا القرآن لا يختلف ولا يستشنّ ولا يتفه لكثرة الرد، فمن قرأه على حرف فلا يدعه رغبة عنه، ومن قرأه على شيء من تلك الحروف التي علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يدعه رغبة عنه، فإنه من يجحد بآية منه يجحد به كله، فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه: اعجل، وحيَّ هلا).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده، بل قد يكون معناها متفقا أو متقاربا كما قال عبد الله بن مسعود: "إنما هو كقول أحدكم: أقبل، وهلم، وتعال".
وقد يكون معنى أحدها ليس هو معنى الآخر، لكن كلا المعنيين حق، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض)ا.هـ). [جمع القرآن:106 - 115]

جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 01:36 PM

الباب السابع: كتابة المصاحف العثمانية

كتابة المصاحف العثمانية
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (كتابة المصاحف العثمانية
روى أهل الحديث والأثر في شأن كتابة المصاحف التي أمر الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه بكتابتها جملة من الآثار الصحيحة والحسنة، ورويت روايات أخرى في بعضها نكارة.

والذي تلخص لي من مجموع الروايات المقبولة في هذه القضية ما يلي:

- أن عثمان رضي الله عنه لما عزم على جمع الناس على مصحفٍ إمامٍ قام في الناس خطيباً؛ فذكر لهم ما رآه وما بلغه من اختلاف الناس في شأن القراءات، وما يحذره على الأمّة من الفتنة والخصومة والتفرق؛ فاجتمعت كلمتهم على ما رآه عثمان وما أُشيرَ به عليه.
- فعزم عثمان على كلّ من بيده صحيفة أو مصحف كُتب فيه قرآن أن يأتي به؛ فاستجابوا له كلُّهم، ولم يُذكر عن أحد منهم أنه امتنع إلا ما كان من ابنِ مسعود في أوّل الأمر ولم يكن بالمدينة في ذلك الوقت، ثم إنه قد رجع عن رأيه.
- طلب عثمان البيّنة على كلّ واحد بصحّة كتابته وأنها من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.
- أرسل عثمان إلى حفصة لِتُرسل إليه المصحف الذي كُتب على عهد أبي بكر رضي الله عنه.
- أخذ الصحفَ التي قامت البيّنة بصحتها، والمصحفَ الذي جُمع على عهد أبي بكر، ووكّل زيد بن ثابت ومن معه بجمع تلك الصحف في مُصحف واحد.
- تولّى زيد بن ثابت عملَ الجمعِ، وكان الذي يُملي عليه سعيد بن العاص، وكان معه كَتَبَةٌ آخرون اختلف في عددهم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
- ما اتّفق من تلك الصُّحف كتبوه على الاتفاق، وما كان فيها من اختلاف أخَّروه، حتى يُرفع إلى عثمان.
- اجتهد عثمان ومن معه من قرّاء الصحابة في الاختيار بين الأحرف المختلفة بما يوافق لسان قريش والعرضة الأخيرة.
- لما فرغوا من المصحف الإمام عُرض مرة أخرى على عثمان، وكان ربما بعث إلى أبيّ بن كعب يسأله عن بعض الأحرف فيكتب له ما يختار منها.
- كان عثمان يتعاهدهم في جميع مراحل عملهم، وهو الذي نظّم لهم العمل ورسم لهم طريقته.
- لما تمّ جمع النسخة الأولى من المصحف من مجموع تلك الصحف عُرض مرّة أخرى على عثمان فلم يجدوا فيه شيئاً من الاختلاف لم يحسم أمره، وكانوا قبل ذلك قد اختلفوا في (التابوت) فكان قراء الأنصار يقرؤونها (التابوه) وقراء المهاجرين يقرؤونها (التابوت).
- لما طابت نفسُ عثمان بصحة ما جمع في نسخة الأصل، أمر بنسخ مصاحف أخرى من المصحف الإمام، واختلف في عددها على ما سيأتي بيانه.
- لما تمّ نسخ المصاحف أمر عثمان بإعادة مصحف أبي بكر إلى حفصة، ثم أمر ببقية المصاحف أن تُحرّق، وكان ذلك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.

والملخص السابق مستفاد من مجموع الآثار التي ترجّح لي صحتها أو حسنها، وقد وقع في بعضها إجمال وفي بعضها تفصيل، ومن تلك الآثار:
1. ما رواه الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه أنه قال: (فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان؛ فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمانُ للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفقٍ بمصحفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق). رواه البخاري والترمذي والنسائي في الكبرى وابن حبان والبيهقي.

2. وما رواه الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه رضي الله عنه أنه قال:
(نسخت الصحف في المصاحف، ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين» وهو قوله: {من المؤمنين، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} فألحقناها في سورتها في المصحف). رواه البخاري في صحيحه.
ورواه الترمذي وابن حبان والبيهقي وزادوا: (
قال الزهري: فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه، فقال القرشيون: التابوت، وقال زيد: التابوه، فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه التابوت؛ فإنه نزل بلسان قريش).
ورواية الزهري ههنا في الخلاف في التابوت مرسلة، ورواها الطحاوي في شرح مشكل الآثار موصولة بسياق آخر فقال: حدثنا يونس قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه فذكر الحديث، وفيه:
قال زيد: (فأمرني عثمان أن أكتب له مصحفا، وقال: إني جاعل معك رجلا لبيبا فصيحا، فما اجتمعتما فيه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إلي؛ فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص فلما بلغ: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت}
قال زيد: فقلت أنا: التابوه، وقال أبان: {التابوت}، فرفعنا ذلك إلى عثمان فكتب: التابوت، ثم عرضته، يعني المصحف، عرضة أخرى فلم أجد فيه شيئا، وأرسل عثمان إلى حفصة أن تعطيه الصحيفة وحلف لها ليردنها إليها، فأعطته؛ فعرضت المصحف عليها فلم يختلفا في شيء؛ فردها عليها وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا المصاحف).
ونعيم بن حماد ثقة يخطئ كثيراً، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي ثقة من رجال مسلم لكنه انتُقد فيما يحدّث به من حفظه، ولذلك فما في هذا الأثر مما يخالف ما صحّ من الآثار فلا يقبل.

3. وفي رواية زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق السبيعي ، عن مصعب بن سعد، أنَّ عثمان عزم على كل من كان عنده شيء من القرآن إلا جاء به، قال: فجاء الناس بما عندهم، فجعل يسألهم عليه البينة أنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه عمر بن شبة.

4. وفي رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مصعب بن سعد أن عثمان قال في خطبته: (فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به) وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرةً، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً رجلاً فناشدهم لسمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك؟
فيقول: نعم، فلما فرغ من ذلك عثمان قال: (من أَكْتَبُ الناسِ؟)
قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت.
قال: (فأيّ الناسِ أعرب؟)
قالوا: سعيد بن العاص.
قال عثمان: (فليملَّ سعيدٌ وليكتب زيد) فكتب زيد، وكتب مصاحف ففرقها في الناس، فسمعت بعض أصحاب محمد يقول: قد أحسن). رواه ابن أبي داوود.

5. وروى علقمة بن مرثد عن العيزار بن جرول عن سويد بن غفلة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن عثمان قال في خبر جمع المصاحف: «فأي الناس أقرأ؟»
قالوا: زيد بن ثابت.
قال: «فأي الناس أفصح وأعرب؟»
قالوا: سعيد بن العاص.
قال: «فليكتب سعيد وليمل زيد»
قال: فكانت مصاحف بعث بها إلى الأمصار، قال علي: «والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل» رواه عمر بن شبة.
وهذا قَلْبٌ من الرواي أو خطأ من الناسخ، والصواب: (فليكتب زيد، وليملّ سعيد).

6. وروى ابن شهاب الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه قال: «فأمرني عثمان رضي الله عنه أن أكتب له مصحفا؛ فكتبته، فلما فرغت منه عرضه ». رواه عمر بن شبة.

7. وروى هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن كثير بن أفلح أنه قال: (لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف، جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، فيهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت قال فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر، فجيء بها.
قال: وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه.
قال محمد: فقلت لكثير - وكان فيهم فيمن يكتب -: هل تدرون: لم كانوا يؤخرونه؟
قال: لا

قال محمد: فظننت ظناً، إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الآخرة فيكتبونها على قوله). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف واللفظ له، وعمر بن شبة في تاريخ المدينة.

8. قال عبد الله بن المبارك: حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن، عن هانئ البربري مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب، فيها «لم يتسن» ، وفيها «لا تبديل للخلق» ، وفيها «فأمهل الكافرين» .
قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب {لخلق الله}، ومحا «فأمهل»، وكتب {فمهّل}، وكتب {لم يتسنَّه} ألحق فيها الهاء). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، وابن جرير الطبري.
وأبو وائل هو عبد الله بن بحير بن ريسان المرادي قاصّ أهل صنعاء، وثّقه يحيى بن معين وابن حبان.
وقال علي ابن المديني: سمعتُ هشام بن يوسف وسئل عن عبد الله بن بحير القاصّ الذي روى عن هانئ مولى عثمان، فقال: (كان يُتقن ما سمع)


تنبيه:
قول أنس بن مالك فيما رواه البخاري: ((فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان؛ فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف).
يشعر أن مصحف أبي بكر جُعل أصلاً لتنسخ منه المصاحف، وهو أثر صحيح الإسناد.
وقول زيد بن ثابت فيما رواه الطحاوي: (وأرسل عثمان إلى حفصة أن تعطيه الصحيفة وحلف لها ليردنها إليها، فأعطته؛ فعرضت المصحف عليها فلم يختلفا في شيء؛ فردها عليها وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا المصاحف).
يشعر أن زيد بن ثابت ومن معه كتبوا المصحف الأصل أولاً ثم عرضوه على ما كتب في عهد أبي بكر، ولو صحّ عن زيد لكان مقدماً على قول أنس لأن زيداً هو صاحب الشأن وأدرى بتفصيله، لكن الإسناد إليه لا يعتمد عليه مع ما فيه من المخالفة.

تنبيه آخر:
قال إبراهيم بن يوسف السعدي: حدثني أبو المحياة، عن بعض أهل طلحة بن مصرف قال: (دفن عثمان المصاحفَ بين القبر والمنبر) رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
وهذا الخبر ضعيف الإسناد لجهالة شيخ أبي المحياة.
والصحيح الثابت أنه أحرقها كما تقدم من غير وجه، ولو صحّ هذا الخبر لأمكن أن يُحمل على دفنها بعد حرقها). [جمع القرآن:
117 - 124]


جمهرة علوم القرآن 15 محرم 1439هـ/5-10-2017م 01:44 PM

عدد المصاحف العثمانية

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (عدد المصاحف العثمانية
اختلف العلماء في عدد المصاحف التي أمر عثمان بكتابتها، وأصحّ ما روي في هذا الباب ما رواه البخاري في صحيحه من طريق الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ عثمان "أرسل إلى كل أفقٍ بمصحفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق".
وهذا مشعر بالكثرة من غير تحديد، ولا يلزم منه أن يكون الإرسال دُفعةً واحدةً.

وأقلّ ما قيل في عددها أنها كانت أربعة مصاحف: أبقى واحداً منها في المدينة، وبعث إلى الشام مصحفاً وإلى الكوفة والبصرة مصحفاً مصحفاً.
- وروى ابن أبي داوود عن عبد الأعلى بن الحكم الكلابي أنه دخل على حذيفة وابن مسعود وأبي موسى الأشعري؛ فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان وأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه).
والذي يظهر أنّ اجتماعهم كان في البصرة لما ذُكر في الأثر أنهم لما حضرتهم الصلاة قدّموا أبا موسى ليصلي بهم لأنهم في داره، وكان أبو موسى أمير البصرة.
- وقال إبراهيم النخعي: (قال رجل من أهل الشام: مصحفنا ومصحف أهل البصرة أحفظ من مصحف أهل الكوفة). فذكر الخبر، وهو في كتاب المصاحف لابن أبي داوود من طريق جرير عن مغيرة عن إبراهيم.
- وروى إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه قال: «إنَّ أول مَن جمع القرآن في مصحف وكتبه عثمانُ بن عفان، ثم وضعه في المسجد فأمر به يُقرأ كلَّ غداة» رواه عمر بن شبة.
وفي الصحيحين من حديث يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف.
فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة!
قال: « فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها».

وهذه الأسطوانة كانت تسمّى أسطوانة المهاجرين لأنهم كانوا يجلسون إليها ويتحدثون عندها.
وذكر ابنُ رجب في شرحه على صحيح البخاري أنها متوسطة في الروضة الشريفة؛ فهي الأسطوانة الثالثة من القبر الشريف، والثالثة من المنبر، والثالثة من القبلة.
وقال ابن حجر: (قوله: (التي عند المصحف) هذا دالٌّ على أنه كان للمصحف موضع خاص به، ووقع عند مسلم بلفظ "يصلي وراءَ الصندوق" وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه)ا.هـ.
قلت: وهذا الصندوق كان يُسمَّى "الرَّبْعة".

والمقصود أن هذه الآثار أفادت الخبر عن أربعة مصاحف: مصحف المسجد النبوي بالمدينة، ومصحف الشام، ومصحف الكوفة، ومصحف البصرة.

- قال حمزة الزيات القارئ: (كتب عثمان أربعةَ مصاحف، فبعث بمصحف منها إلى الكوفة، فوُضِعَ عند رجل من مُراد، فبقي حتى كتبتُ مصحفي عليه). رواه ابن أبي داوود.
- وقال ابن حجر في فتح الباري: (واختلفوا في عدة المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق فالمشهور أنها خمسة).
فيكون خامسها المصحف الذي أمسكه لنفسه، وهو الذي يُدعى المصحف الإمام.
- وقال ابن أبي داوود: سمعت أبا حاتم السجستاني قال: (لما كتب عثمان المصاحف حين جمع القرآن، كتب سبعة مصاحف، فبعث واحدا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا).
- وقال أبو عمرو الداني: (أكثر العلماء على أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما كتب المصحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة منهن؛ فوجّه إلى الكوفة إحداهن، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة، وأمسك عند نفسه واحدة، وقد قيل إنه جعله سبع نسخ، ووجّهَ من ذلك أيضاً نسخة إلى مكة، ونسخة إلى اليمن، ونسخة إلى البحرين، والأوَّلُ أصحّ وعليه الأئمة)ا.هـ.
- وقال ابن الجزري في النشر: (فكتب منها عدة مصاحف، فوجه بمصحف إلى البصرةِ، ومصحف إلى الكوفةِ، ومصحف إلى الشامِ، وترك مصحفاً بالمدينة، وأمسك لنفسه مصحفاً الذي يقال له: "الإمام"، ووجَّهَ بمصحف إلى مكة، وبمصحف إلى اليمن، وبمصحف إلى البحرين)ا.هـ.
فهذه ثمانية مصاحف.

وأيَّا ما كان عدد تلك المصاحف التي كُتبت في أوَّل الأمر؛ فإنّ القراء في كلّ أُفُقٍ قد استنتسخوا منها نسخاً كثيرة، وأقبلَ الناس على كتابة المصاحفِ حتى كثر عددها، وانتشرت في البلدان.
وقد روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث بن يعقوب عن بكير بن عبد الله بن الأشج(ت:117هـ): أنَّ عثمان رضي الله عنه أمر بجمع المصاحف فأحرقها ثم بثَّ في الأجناد التي كتب.
وهذا الأثرُ وإن كان منقطعاً من جهة أنَّ بكيراً لم يدرك عثمان إلا أنَّ هذا الخبر مما استفاض العلمُ به لديهم، وغير بعيد أن يكون بكيرٌ قد أدرك بعض الكَتبةِ، وبكير بن الأشج من العلماء الأثبات، قال فيه علي بن المديني: (لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم من ابن شهاب، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وبكير بن عبد الله بن الأشج)). [جمع القرآن:125 - 128]


الساعة الآن 03:45 AM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة