جمهرة العلوم

جمهرة العلوم (http://jamharah.net/index.php)
-   تفسير سورة البقرة (http://jamharah.net/forumdisplay.php?f=810)
-   -   تفسير سورة البقرة [من الآية (89) إلى الآية (91) ] (http://jamharah.net/showthread.php?t=19943)

إشراق المطيري 9 ربيع الثاني 1434هـ/19-02-2013م 05:29 PM

تفسير سورة البقرة [من الآية (89) إلى الآية (91) ]
 
تفسير سورة البقرة
[من الآية (89) إلى الآية (91) ]

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}

إشراق المطيري 17 ربيع الثاني 1434هـ/27-02-2013م 09:02 PM

جمهرة تفاسير السلف
 
تفسير السلف

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا معمر، عن قتادة، في قوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} قال: كانوا يقولون: وإنه سيأتي نبي،
{فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}»). [تفسير عبد الرزاق: 1 /52]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم}: ولمّا جاء اليهود من بني إسرائيل الّذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم {كتابٌ من عند اللّه} يعني بالكتاب: القرآن الّذي أنزله اللّه على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، {مصدّقٌ لما معهم} يعني مصدّقٌ للّذي معهم من الكتب الّتي أنزلها اللّه من قبل القرآن.
- كما حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: «{ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم} وهو القرآن الّذي أنزل على محمّدٍ {مصدّقٌ لما معهم} أى: للتّوراة والإنجيل».
- حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: في قوله: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم}: «وهو القرآن الّذي أنزل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم {مصدّقٌ لما معهم} من التّوراة والإنجيل»). [جامع البيان: 2/ 235-236]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} أي: وكان هؤلاء اليهود، الّذين لمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم من الكتب الّتي أنزلها اللّه قبل الفرقان، كفروا به، يستفتحون بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، ومعنى الاستفتاح: الاستنصار، يستنصرون اللّه به على مشركي العرب من قبل مبعثه وذلك قوله: {من قبل}؛ أي: من قبل أن يبعث.
- كما حدّثني ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاريّ، عن أشياخٍ منهم قالوا: «فينا واللّه وفيهم -يعني في الأنصار وفي اليهود الّذين كانوا جيرانهم- نزلت هذه القصّة -يعني: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا}-»،

قالوا: «كنّا قد علوناهم دهرًا في الجاهليّة، ونحن أهل الشّرك، وهم أهل الكتاب، فكانوا يقولون: إنّ نبيًّا يبعث الآن نتبعه قد أظلّ زمانه، نقتلكم معه قتل عادٍ وإرم. فلمّا بعث اللّه تعالى ذكره رسوله من قريشٍ واتّبعناه كفروا به. يقول اللّه: {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به}».
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني ابن إسحاق، قال: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى آل زيد بن ثابتٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة مولى ابن عبّاسٍ، عن ابن عبّاسٍ:«أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قبل مبعثه. فلمّا بعثه اللّه من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبلٍ وبشر بن البراء بن معرورٍ أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتّقوا اللّه وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم ونحن أهل شركٍ، وتخبروننا أنّه مبعوثٌ، وتصفونه لنا بصفته. فقال سلاّم بن مشكمٍ أخو بني النّضير: ما جاءنا بشيءٍ نعرفه، وما هو بالّذي كنّا نذكر لكم. فأنزل اللّه جلّ ثناؤه في ذلك من قوله: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}».
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا يونس بن بكيرٍ، قال: حدّثنا ابن إسحاق، قال: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ مولى آل زيد بن ثابتٍ، قال: حدّثني سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ، مثله.
- حدّثني محمّد بن سعدٍ، قال: حدّثني أبي، قال: حدّثني عمّي، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، عن ابن عبّاسٍ: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} يقول: «يستنصرون بخروج محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم على مشركي العرب -يعني بذلك أهل الكتاب-، فلمّا بعث اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه».
- وحدّثنا محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثني عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن عليٍّ الأزديّ: في قول اللّه: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} قال:«اليهود، كانوا يقولون: اللّهمّ ابعث لنا هذا النّبيّ يحكم بيننا وبين النّاس؛ {يستفتحون} يستنصرون به على النّاس».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن عليٍّ الأزديّ، وهو البارقيّ: في قول اللّه جلّ ثناؤه: {وكانوا من قبل يستفتحون}، فذكر مثله سواء.
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: «قوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} كانت اليهود تستفتح بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم على كفّار العرب من قبل، وقالوا: اللّهمّ ابعث هذا النّبيّ الّذي نجده في التّوراة يعذّبهم ويقتلهم. فلمّا بعث اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم فرأوا أنّه بعث من غيرهم كفروا به حسدًا للعرب، وهم يعلمون أنّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرزاق، قال أخبرنا معمر، عن قتادة: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} قال: «كانوا يقولون: إنه سيأتى نبي {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به}».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، قال: «كانت اليهود تستنصر بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم على مشركي العرب، يقولون: اللّهمّ ابعث هذا النّبيّ الّذي نجده مكتوبًا عندنا حتّى يعذّب المشركين ويقتلهم. فلمّا بعث اللّه محمّدًا ورأوا أنّه من غيرهم كفروا به حسدًا للعرب، وهم يعلمون أنّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم؛ فقال اللّه: {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}».
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به} قال: «كانت العرب تمرّ باليهود فيؤذونهم، وكانوا يجدون محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم في التّوراة، فيسألون اللّه أن يبعثه فيقاتلوا معه العرب؛ فلمّا جاءهم محمّدٌ كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قلت لعطاءٍ: قوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} قال: «كانوا يستفتحون على كفّار العرب بخروج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، ويرجون أن يكون منهم. فلمّا خرج ورأوه ليس منهم كفروا، وقد عرفوا أنّه الحقّ وأنّه النّبيّ، قال: {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}».
- قال: ابن جريجٍ، وقال مجاهدٌ: «يستفتحون بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، تقول إنّه يخرج، {فلمّا جاءهم ما عرفوا} وكان من غيرهم {كفروا به}».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، قال: قال ابن جريجٍ: وقال ابن عبّاسٍ: «كانوا يستفتحون على كفّار العرب».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثني الحمّانيّ، قال: حدّثني شريكٌ، عن أبي الجحاف، عن مسلمٍ البطين، عن سعيد بن جبيرٍ: قوله: {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به} قال:«هم اليهود عرفوا محمّدًا أنّه نبيٌّ، وكفروا به».
- حدّثت عن المنجاب، قال: حدّثنا بشرٌ، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ: في قوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} قال: «كانوا يستظهرون يقولون: نحن نعين محمّدًا عليهم، وليسوا كذلك؛ يكذبون».
- حدّثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهبٍ، قال: سألت ابن زيدٍ عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به} قال: «كانت يهود يستفتحون على كفّار العرب يقولون: أما واللّه لو قد جاء النّبيّ الّذي بشّر به موسى وعيسى أحمد لكان لنا عليكم. وكانوا يظنّون أنّه منهم وكانوا بالمدينه والعرب حولهم، وكانوا يستفتحون عليهم به ويستنصرون به فلمّا كان من غيرهم أبوا أن يؤمنوا به وحسدوه».وقرأ قول اللّه جلّ ثناؤه: {كفّارًا حسدًا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحقّ}، قال: «قد تبيّن لهم أنّه رسولٌ، فمن هنالك نفع اللّه الأوس والخزرج بما كانوا يسمعون منهم أنّ نبيًّا خارجٌ».
فإن قال لنا قائلٌ: فأين جواب قوله: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم}؟

قيل: قد اختلف أهل العربيّة في جوابه؛
- فقال بعضهم: هو ممّا ترك جوابه استغناءً بمعرفة المخاطبين به بمعناه وبما قد ذكر من أمثاله في سائر القرآن. وقد تفعل العرب ذلك إذا طال الكلام، فتأتي بأشياء لها أجوبةٌ فتحذف أجوبتها لاستغناء سامعيها بمعرفتهم بمعناها عن ذكر الأجوبة، كما قال جلّ ثناؤه: {ولو أنّ قرآنًا سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى بل للّه الأمر جميعًا} فترك جوابه. والمعنى: ولو أنّ قرآنًا سوى هذا القرآن سيّرت به الجبال لسيّرت بهذا القرآن، فترك قوله: لسيرت بهذا القران استغناءً بعلم السّامعين بمعناه. قالوا: فكذلك قوله: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم}.
- وقال آخرون: جواب قوله: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه} في الفاء الّتي في قوله: {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به} وجواب الجزاءين في {كفروا به} كقولك: لمّا قمت فلمّا جئتنا أحسنت، بمعنى: لمّا جئتنا إذ قمت أحسنت). [جامع البيان: 2/ 236-242]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فلعنة اللّه على الكافرين}.
قد دلّلنا فيما مضى على معنى اللّعنة وعلى معنى الكفر بما فيه الكفاية.
فمعنى الآية: فخزي اللّه وإبعاده على الجاحدين ما قد عرفوا من الحقّ عليهم للّه ولأنبيائه المنكرين، لما قد ثبت عندهم صحّته من نبوّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم. ففي إخبار اللّه عزّ وجلّ عن اليهود بما أخبر اللّه عنهم بقوله: {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به} البيان الواضح أنّهم تعمّدوا الكفر بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم بعد قيام الحجّة بنبوّته عليهم وقطع اللّه عذرهم بأنّه رسوله إليهم). [جامع البيان: 2/ 242-243]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين (89)}
قوله: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه}
- أخبرنا محمّد بن عبيد اللّه بن المنادي فيما كتب إليّ، ثنا يونس بن محمّدٍ، ثنا شيبان النّحويّ، عن قتادة: قوله: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه} قال: «هو الفرقان الّذي أنزل اللّه على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم».

قال أبو محمّدٍ: وروي عن الرّبيع نحو ذلك). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 171]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {مصدّقٌ لما معهم}
- حدّثنا أبي، ثنا أحمد بن عبد الرّحمن السّعديّ، ثنا عبد اللّه بن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع بن أنسٍ: «{مصدّقٌ لما معهم} من التّوراة والإنجيل»، وكذا فسّره قتادة). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 171]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا}
[الوجه الأول]
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا منجابٌ، أنبأ بشرٌ بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} قال: «يستظهرون يقولون: نحن نعين محمّدًا عليهم، وليسوا كذلك، يكذبون».
- وروي عن أبي العالية، والرّبيع بن أنسٍ: «يستنصرون به على النّاس».
والوجه الثّاني:
- حدّثنا الحسن بن أبي الرّبيع، أنبأ عبد الرّزّاق، أنبأ معمرٌ، عن قتادة، في
قوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} قال: «كانوا يقولون إنّه سيأتي نبيٌّ،{فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به}»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 171]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا محمّد بن عبد اللّه بن نميرٍ، ثنا يونس بن بكيرٍ الحازميّ، ثنا ابن إسحاق، حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «أنّ اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- قبل مبعثه، فلمّا بعثه اللّه من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبلٍ، وبشر بن البراء، وداود بن سلمة: يا معشر ؟ اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفحون علينا بمحمّدٍ ونحن أهل شركٍ، وتخبرونا بأنّه مبعوث وتصفونه، فقال سلام بن مشكمٍ أخو بني النّضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنّا نذكر لكم. فأنزل اللّه عزّ وجلّ في ذلك من قولهم: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}».
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، قال: «كانت اليهود تستنصر بمحمّدٍ -صلّى اللّه عليه وسلّم- على مشركي العرب، يقولون: اللّهمّ ابعث هذا النّبيّ الّذي نجده مكتوبًا عندنا حتّى يعذّب المشركين ونقتلهم، فلمّا بعث اللّه محمّدًا، ورأوا أنّه من غيرهم كفروا به حسدًا للعربٍ، وهم يعلمون أنّه رسول اللّه، فقال اللّه: {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}».
- حدّثنا الحسين بن الحسن، ثنا إبراهيم بن عبد اللّه الهرويّ، ثنا حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: «{فلمّا جاءهم ما عرفوا} فكان من غيرهم {كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 172]
قال محمدُ بنُ عبدِ اللهِ الحاكمُ النَّيْسابوريُّ (ت: 405هـ): (أخبرني الشّيخ أبو بكرٍ بن إسحاق، أنبأ محمّد بن أيّوب، ثنا يوسف بن موسى، ثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن جدّه، عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما، قال: «كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلّما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدّعاء: اللّهمّ إنّا نسألك بحقّ محمّدٍ النّبيّ الأمّيّ الّذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزّمان، إلّا نصرتنا عليهم».

قال: «فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدّعاء، فهزموا غطفان، فلمّا بعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم كفروا به، فأنزل اللّه: {وكانوا من قبل يستفتحون} بك يا محمّد على الكافرين».«....» أدّت الضّرورة إلى إخراجه في التّفسير وهو غريبٌ من حديثه). [المستدرك: 2/ 289]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين}.
- أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة، في قوله: {ولما جاءهم كتاب من عند الله} قال: «هو القرآن»، {مصدق لما معهم} قال: «من التوراة والإنجيل»). [الدر المنثور: 1/ 465]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (وأمّا قوله تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون} الآية.
- أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل، من طريق عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، حدثني
أشياخ منا قالوا: «لم يكن أحد من العرب أعلم بشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منا، كان معنا يهود وكانوا أهل كتاب وكنا أصحاب وثن، وكنا إذا بلغنا منهم ما يكرهون قالوا: إن نبيا يبعث الآن قد أظل زمانه نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله اتبعناه وكفروه به، ففينا -والله- وفيهم أنزل الله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} الآية كلها».
- وأخرج البيهقي في الدلائل، من طريق السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة، عن ابن مسعود وناس من الصحابة، في الآية، قال: «كانت العرب تمر باليهود فيؤذونهم، وكانوا يجدون محمدا في التوراة، فيسألون الله أن يبعثه نبيا فيقاتلون معه العرب، فلما جاءهم محمد كفروا به حين لم يكن من بني إسرائيل».
- وأخرج أبو نعيم في الدلائل، من طريق عطاء والضحاك، عن ابن عباس قال: «كانت يهود بني قريظة والنضير من قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يستفتحون الله يدعون على الذين كفروا، ويقولون: اللهم إنا نستنصرك بحق النّبيّ الأمي إلا نصرتنا عليهم فينصرون، {فلما جاءهم ما عرفوا} يريد محمدا، ولم يشكوا فيه {كفروا به}».
- وأخرج أبو نعيم في الدلائل، من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: «كان يهود أهل المدينة قبل قدوم النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا قاتلوا من يليهم من مشركي العرب من أسد وغطفان وجهينة وعذرة يستفتحون عليهم، ويستنصرون يدعون عليهم باسم نبي الله، فيقولون: اللهم ربنا انصرنا عليهم باسم نبيك، وبكتابك الذي تنزل عليه الذي وعدتنا إنك باعثه في آخر الزمان».
- وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير وأبو نعيم، عن قتادة، قال: «كانت اليهود تستفتح بمحمد على كفار العرب، يقولون: اللهم ابعث النّبيّ الذي نجده في التوراة يعذبهم ويقتلهم، فلما بعث الله محمداً كفروا به حين رأوه بعث من غيرهم، حسدا للعرب وهم يعلمون أنه رسول الله».
- وأخرج الحاكم والبيهقي في الدلائل بسند ضعيف، عن ابن عباس قال: «كانت يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود، فعاذت بهذا الدعاء: اللهم إنا نسألك بحق محمد النّبيّ الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلا نصرتنا عليهم، فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا فهزموا غطفان، فلما بعث النّبيّ صلى الله عليه وسلم كفروا به، فأنزل الله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} يعني: وقد كانوا يستفتحون بك يا محمد، إلى قوله: {فلعنة الله على الكافرين}».
- وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الدلائل، عن ابن عباس:«أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء وداود بن سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك، وتخبرونا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال سلام بن مشكم أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله: {ولما جاءهم كتاب من عند الله} الآية».
- وأخرج أحمد، وابن قانع والطبراني والحاكم وصححه، وأبو نعيم كلاهما في الدلائل، عن سلمة بن سلامة ؟ وقش، وكان من أهل بدر، قال: «كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يوما من بيته قبل مبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيسير، حتى وقف على مجلس بني الأشهل»،
قال سلمة: «وأنا يومئذ أحدث من فيه سنا علي بردة مضطجعا فيها بفناء أهلي، فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، قال ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم، فقال: نعم والذي يحلف به، يود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطيونه عليه وإن ينجو من تلك النار غدا، قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن، فقالوا: ومتى نراه؟ قال -فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا-: أن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه»،

قال سلمة: «فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا، فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى، وليس به».
- وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس: {وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} يقول: «يستنصرون بخروج محمد على مشركي العرب -يعني بذلك أهل الكتاب-، فلما بعث الله محمدا ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه».
- وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن سعيد بن جبير في قوله: {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} قال: «نزلت في اليهود، عرفوا محمدا أنه نبي وكفروا به»). [الدر المنثور: 1/ 465-470]

تفسير قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
قالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْنُ هَمَّامٍ الصَّنْعَانِيُّ (ت: 211هـ): (نا الثوري، عن أبي بكر، عن عكرمة، في قوله: {فباءوا بغضب على غضب} قال:
«كفرهم بعيسى، وكفرهم بمحمد»). [تفسير عبد الرزاق: 1/ 51]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيًا}.
ومعنى قوله جلّ ثناؤه: {بئسما اشتروا به أنفسهم}: ساء ما اشتروا به أنفسهم.
وأصل بِئْسَ: بَئِسَ من البؤس، سكّنت همزتها ثمّ نقلت حركتها إلى الباء، كما قيل في ظللت: ظلت، وكما قيل للكَبِدِ: كِبْدٌ، فنقلت حركة الباء إلى الكاف لمّا سكنت الباء.

وقد يحتمل أن تكون بئس وإن كان أصلها بَئِسَ من لغة الّذين ينقلون حركة العين من فَعِل إلى الفاء إذا كانت عين الفعل أحدٍ حروف الحلق السّتّة، كما قالوا من لَعِبَ: لِعْبَ، ومن سَئم: سِئْمَ، وذلك -فيما يقال- لغةٌ فاشيةٌ في تميمٍ، ثمّ جعلت دالّةً على الذّمّ والتّوبيخ ووصلت بـ(ما).
ثم واختلف أهل العربيّة في معنى (ما) الّتي مع (بئسما)،

- فقال بعض نحويّي البصرة: هي وحدها اسمٌ، و(أن يكفروا) تفسيرٌ له، نحو: نعم رجلاً زيدٌ، و(أن ينزّل اللّه) بدل من (أنزل اللّه).
- وقال بعض نحويّي الكوفة: معنى ذلك: بئس الشّيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، فـ(ما) اسم بئس، وأن يكفروا الاسم الثّاني.

وزعم أنّ قوله: {أن يكفروا} إن شئت جعلت (أن) في موضع رفعٍ، وإن شئت في موضع خفضٍ. أمّا الرّفع: فبئس الشّيء هذا إن فعلوه؛ وأمّا الخفض: فبئس الشّيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيًا.
قال: وقوله: {لبئس ما قدّمت لهم أنفسهم أن سخط اللّه عليهم} كمثل ذلك.
قال: والعرب تجعل (ما) وحدها في هذا الباب بمنزلة الاسم التّامّ كقوله: {فنعمّا هي} وبئسما أنت.
واستشهد لقوله ذلك برجز لبعض الرّجّاز:
لا تعجلا في السّير وادلواها ....... لبئسما بطءٌ ولا نرعاها
والعرب تقول: لبئسما تزويجٌ ولا مهرٌ، فيجعلون (ما) وحدها اسمًا بغير صلةٍ.
قال أبو جعفرٍ: وقائل هذه المقالة لا يجيز أن يكون الّذي يلي بئس معرفةً مؤقّتةً وخبره معرفةً مؤقّتةً. وقد زعم أنّ بئسما بمعنى: بئس الشّيء اشتروا به أنفسهم، فقد صارت (ما) بصلتها اسمًا موقّتًا؛ لأنّ (اشتروا) فعلٌ ماضٍ من صلة (ما) في قول قائل هذه المقالة، وإذا وصلت بماضٍ من الفعل كانت معرفةً موقّتةً معلومةً؛ فيصير تأويل الكلام حينئذٍ: بئس شراؤهم كفرهم، وذلك عنده غير جائزٍ، فقد تبيّن فساد هذا القول.
وكان آخر منهم يزعم أنّ (أن) في موضع خفضٍ إن شئت، ورفعٍ إن شئت، فأمّا الخفض فأن تردّه على الهاء الّتي في (به) على التّكرير على كلامين، كأنّك قلت: اشتروا أنفسهم بالكفر. وأمّا الرّفع فأن يكون مكرّرًا على موضع ما الّتي تلي بئس.

قال: ولا يجوز أن يكون رفعًا على قولك: بئس الرّجل عبد اللّه.
- وقال بعضهم: (بئسما) شيءٌ واحدٌ يعرب بما بعده، كما حكي عن العرب: بئسما تزويجٌ ولا مهرٌ، فرافع تزويجٍ بئسما، كما يقال: بئسما زيدٌ، ونعما عمرٌو، فيكون بئسما رفعًا بما عاد عليها من الهاء، كأنّك قلت: شيءٌ بئس الشّيء اشتروا به أنفسهم، وتكون (أن) مترجمةً عن بئسما.

- وأولى هذه الأقوال بالصّواب قول من جعل (بئسما) مرفوعًا بالرّاجع من الهاء في قوله: {اشتروا به}، كما رفعوا ذلك بعبد الله إذ قالوا: بئسما عبد الله، وجعلوا {أن يكفروا} مترجمةً عن (بئسما)، فيكون معنى الكلام حينئذٍ: بئس الشّيء باع اليهود به أنفسهم كفرهم بما أنزل الله بغيًا وحسدًا أن ينزّل الله من فضله، وتكون أن الّتي في قوله: {أن ينزّل الله} في موضع نصبٍ لأنّه يعني به أن يكفروا بما أنزل الله من أجل أن ينزّل الله منفصلةً على من يشاء من عباده وموضعه (أن) جزاء، وكان بعض أهل العربيّة من الكوفيّين يزعم أنّ (أن) في موضع خفضٍ بنيّة الباء، وإنّما اخترنا فيها النّصب لتمنّي الخبر بعدها ولا خافض معها يخفضها والحرف الخافض لا يخفض مضمرًا.
وأمّا قوله: {اشتروا به أنفسهم} فإنّه يعني به: باعوا أنفسهم،
كما حدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {بئسما اشتروا به أنفسهم} يقول:«باعوا به أنفسهم{أن يكفروا بما أنزل اللّه}».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ:«{بئسما اشتروا به أنفسهم}يهود شروا الحقّ بالباطل، وكتمان ما جاء به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يبيّنوه».
والعرب تقول: شريت الشىء بمعنى بعته، و(اشتروا) في هذا الموضع افتعلوا من شريت. وأكثر كلام العرب فيما بلغنا أن يقولوا: شريت بمعنى بعت، واشتريت بمعنى ابتعت. وقيل: إنّما سمّي الشّاري شاريًا لأنّه باع نفسه ودنياه بآخرته. ومن ذلك قول يزيد بن مفرّغٍ الحميريّ:

وشريت بردًا ليتني ....... من قبل بردٍ كنت هامه
ومنه قول المسيّب بن علسٍ:
يعطى بها ثمنًا فيمنعها ....... ويقول صاحبها ألا تشري
يعني به: بعت بردًا.

وربّما استعمل اشتريت فى معنى بعت، وشريت في معنى ابتعت، والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت.
وأمّا معنى قوله: {بغيًا} فإنّه يعني به: تعدّيًا وحسدًا.
- كما حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: {بغيًا} قال: «أي: حسدًا، وهم اليهود».
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {بغيًا} قال: «بغوا على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وحسدوه، وقالوا: إنّما كانت الرّسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل. فحسدوه أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: «{بغيًا} يعني حسدًا أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده، وهم اليهود كفروا بما أنزل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم».
- حدّثت عن عمّار بن الحسن، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع مثله.
فمعنى الآية: بئس الشّيء باعوا به أنفسهم الكفر بالّذي أنزل اللّه في كتابه على موسى من نبوّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم والأمر بتصديقه واتّباعه، من أجل أن أنزل اللّه من فضله، وفضله حكمته وآياته ونبوّته على من يشاء من عباده، يعني به على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، بغيًا وحسدًا لمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، من أجل أنّه كان من ولد إسماعيل، ولم يكن من بني إسرائيل.
فإن قال قائلٌ: وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر فقيل: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه} وهل يشترى بالكفر شيءٌ؟
قيل: إنّ معنى الشّراء والبيع عند العرب: هو إزالة مالكٍ ملكه إلى غيره بعوضٍ يعتاضه منه، ثمّ تستعمل العرب ذلك في كلّ معتاضٍ من عمله عوضًا شرًّا أو خيرًا، فتقول: نعم ما باع به فلانٌ نفسه، وبئس ما باع به فلانٌ نفسه، بمعنى: نعم الكسب أكسبها وبئس الكسب أكسبها إذا أورثها بسعيه عليها خيرًا أو شرًّا.

فكذلك معنى قوله جلّ ثناؤه: {بئسما اشتروا به أنفسهم} لمّا أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم فأهلكوها، خاطبهم اللّه والعرب بالّذي يعرفونه في كلامهم فقال: {بئسما اشتروا به أنفسهم} يعني بذلك: بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم، وبئس العوض اعتاضوا من كفرهم باللّه في تكذيبهم محمّدًا، إذ كانوا قد رضوا عوضًا من ثواب اللّه وما أعدّ لهم، لو كانوا آمنوا باللّه وما أنزل على أنبيائه، بالنّار، وما أعدّ لهم بكفرهم بذلك.
وهذه الآية وما أخبر اللّه فيها عن حسد اليهود محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم وقومه من العرب، من أجل أنّ اللّه جعل النّبوّة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل، حتّى دعاهم ذلك إلى الكفر به مع علمهم بصدقه، وأنّه نبيٌّ للّه مبعوثٌ ورسولٌ مرسلٌ؛ نظيره الآية الأخرى في سورة النّساء، وذلك قوله، {ألم تر إلى الّذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطّاغوت ويقولون للّذين كفروا هؤلاء أهدى من الّذين آمنوا سبيلاً * أولئك الّذين لعنهم اللّه ومن يلعن اللّه فلن تجد له نصيرًا * أم لهم نصيبٌ من الملك فإذًا لا يؤتون النّاس نقيرًا * أم يحسدون النّاس على ما آتاهم اللّه من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا}). [جامع البيان: 2/ 243-249]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده}
قد ذكرنا تأويل ذلك وبيّنّا معناه، ولكنّا نذكر الرّواية بتصحيح ما قلنا فيه.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثني ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاريّ، عن أشياخٍ منهم: «قوله: {بغيًا أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده} أي: أنّ اللّه تعالى جعله في غيرهم».
- حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة، قال: «هم اليهود، ولمّا بعث اللّه نبيّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم فرأوا أنّه بعث من غيرهم، كفروا به حسدًا للعرب، وهم يعلمون أنّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يجدونه مكتوبًا عندهم في التّوراة».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، مثله.
- حدّثت عن عمّارٍ، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع، مثله.
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: «قالوا: إنّما كانت الرّسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل».
- حدّثني محمّد بن عمرٍو، قال: حدّثنا أبو عاصمٍ، قال: حدّثنا عيسى، عن ابن أبي نجيحٍ، عن عليٍّ الأزديّ، قال: «نزلت في اليهود»). [جامع البيان: 2/ 250]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ}.
يعني بقوله: {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ} فرجعت اليهود من بني إسرائيل، بعد الّذي كانوا عليه من الاستنصار بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم والاستفتاح به، وبعد الّذي كانوا يخبرون به النّاس من قبل مبعثه أنّه نبيٌّ مبعوثٌ، مرتدّين على أعقابهم حين بعثه اللّه نبيًّا مرسلاً، وانصرفت بغضبٍ من اللّه، استحقّوه منه بكفرهم بمحمّدٍ حين بعثه، وجحودهم نبوّته، وإنكارهم إيّاه أن يكون هو الّذي يجدون صفته في كتابهم عنادًا منهم له وبغيًا وحسدًا له وللعرب {على غضبٍ} سالفٍ كان من اللّه عليهم قبل ذلك سابقٍ غضبه الثّاني لكفرهم كان قبل ذلك بعيسى ابن مريم، أو لعبادتهم العجل، أو لغير ذلك من ذنوبٍ كانت لهم سلفت استحقّوا بها الغضب من اللّه.
- كما حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، قال: حدّثني ابن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، فيما يرى أبو جعفر الطبرى عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «{فباءوا بغضبٍ على غضبٍ} فالغضب على الغضب غضبه عليهم فيما كانوا ضيّعوا من التّوراة وهي معهم، وغضبٌ بكفرهم بهذا النّبيّ الّذي أحدث اللّه إليهم».
- حدّثنا ابن بشّارٍ، قال: حدّثنا يحيى بن سعيدٍ، وعبد الرّحمن، قالا: حدّثنا سفيان، عن أبي بكرٍ، عن عكرمة: {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ} قال: «كفرٌ بعيسى، وكفرٌ بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم».
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا يحيى بن يمانٍ، قال: حدّثنا سفيان، عن أبي بكرٍ، عن عكرمة: {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ} قال: «كفرهم بعيسى ومحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم».
- حدّثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزّاق، قال: أخبرنا الثّوريّ، عن أبي بكرٍ، عن عكرمة مثله.
- حدّثنا ابن حميدٍ، قال: حدّثنا جريرٌ، عن مغيرة، عن الشّعبيّ، قال: «النّاس يوم القيامة على أربعة منازل: رجلٌ كان مؤمنًا بعيسى وآمن بمحمّدٍ صلّى اللّه عليهما فله أجران. ورجلٌ كان كافرًا بعيسى فآمن بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم فله أجرٌ. ورجلٌ كان كافرًا بعيسى فكفر بمحمّدٍ، فباء بغضبٍ على غضبٍ. ورجلٌ كان كافرًا بعيسى من مشركي العرب، فمات بكفره قبل محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم فباء بغضبٍ».
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: «قوله: {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ} غضب اللّه عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا أبو حذيفة، قال: حدّثنا شبلٌ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: «{فباءوا بغضبٍ} اليهود، غضب بما كان من تبديلهم التّوراة قبل خروج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم، {على غضبٍ} جحودهم النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وكفرهم بما جاء به».
- حدّثنا المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ} يقول:«غضب اللّه عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثمّ غضب عليهم بكفرهم بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وبالقرآن».
- حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ:«{فباءوا بغضبٍ على غضبٍ}أمّا الغضب الأوّل: فهو حين غضب اللّه عليهم في العجل، وأمّا الغضب الثّاني: فغضب عليهم حين كفروا بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم».
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، عن عطاءٍ، وعبيد بن عميرٍ: قوله: {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ} قال: «غضب اللّه عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم من تبديلهم وكفرهم، ثمّ غضب عليهم في محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم إذ خرج فكفروا به».
وقد بيّنّا معنى الغضب من اللّه على من غضب عليه من خلقه، واختلاف المختلفين في صفته فيما مضى من كتابنا هذا بما أغنى عن إعادته). [جامع البيان: 2/ 250-253]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وللكافرين عذابٌ مهينٌ}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وللكافرين عذابٌ مهينٌ} وللجاحدين نبوّة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم من النّاس كلّهم عذابٌ من اللّه إمّا في الآخرة، وإمّا في الدّنيا والآخرة {مهينٌ} هو المذلّ صاحبه المخزي الملبسه هوانًا وذلّةً.
فإن قال قائلٌ: أيّ عذابٍ هو غير مهينٍ صاحبه فيكون للكافرين المهين منه؟
قيل: إنّ المهين هو الّذي قد بيّنّا أنّه المورث صاحبه ذلّةً وهوانًا الّذي يخلد فيه صاحبه لا ينتقل من هوانه إلى عزٍّ وكرامةٍ أبدًا، وهو الّذي خصّ اللّه به أهل الكفر به وبرسله؛ وأمّا الّذي هو غير مهينٍ صاحبه: فهو ما كان تمحيصًا لصاحبه، وذلك كالسّارق من أهل الإسلام يسرق ما يجب عليه به القطع فتقطع يده، والزّاني منهم يزني فيقام عليه الحدّ، وما أشبه ذلك من العذاب، والنّكال الّذي جعله اللّه كفّاراتٍ للذّنوب الّتي عذّب بها أهلها، وكأهل الكبائر من أهل الإسلام الّذين يعذّبون في الآخرة بمقادير أجرامهم الّتي ارتكبوها ليمحّصوا من ذنوبهم ثمّ يدخلون الجنّة. فإنّ كلّ ذلك وإن كان عذابًا فغير مهينٍ من عذّب به، إذ كان تعذيب اللّه له به ليمحّصه به من آثامه ثمّ يورده معدن العزّ والكرامة ويخلّده في نعيم الجنان). [جامع البيان: 2/ 254]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيًا أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضبٍ على غضبٍ وللكافرين عذابٌ مهينٌ (90)}
قوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ بن طلحة، ثنا أسباط بن نصرٍ، عن السّدّيّ: {بئسما اشتروا به أنفسهم} قال: «باعوا به أنفسهم».
- حدّثنا الحسن بن الحسن، ثنا إبراهيم بن عبد اللّه الهرويّ، ثنا الحجّاج بن محمّدٍ، عن ابن جريجٍ، عن مجاهدٍ: «{بئسما اشتروا به أنفسهم} يهود شروا الحقّ بالباطل، وكتمان ما جاء به محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم بأن بينوه»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 172]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {أن يكفروا بما أنزل اللّه}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ؟ أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: {أن يكفروا بما أنزل اللّه} قال: «اليهود كفروا بما أنزل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم»). [تفسير القرآن العظيم: 1 /173]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {بما أنزل اللّه بغيًا}
- به، عن أبي العالية: {بما أنزل اللّه} قال: «هم اليهود، قال لنبيّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيًا} يعني: حسدًا»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 173]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده}
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة، قال: قال محمّد بن إسحاق، حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «يقول اللّه: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيًا أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده} أي: أنّ اللّه جعله في غيرهم»). [تفسير القرآن العظيم: 1 /173]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فباؤوا}
- حدثنا أبو زرعة، ثنا نحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني ابن لهيعة، عن عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول الله: {
فباءوا بغضب على غضب} يقول: «استوجبوا».
قوله: {
فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين}
[الوجه الأوّل]
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية، قال: «يقول الله: {
فباءوا بغضبٍ على غضبٍ} يقول: غضب اللّه عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى. ثمّ غضب عليهم بكفرهم بمحمّدٍ وبالقرآن».
- حدّثنا محمّد بن يحيى، أنبأ أبو غسّان، ثنا سلمة، قال: قال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن سعيد بن جبيرٍ أو عكرمة، عن ابن عبّاسٍ: «{
فباءوا بغضبٍ على غضبٍ} فالغضب على غضبٍ بغضبه عليهم فيما كانوا ضيّعوا من التّوراة وهي معهم، وغضبٌ بكفرهم بهذا النّبيّ الّذي أحدث الله إليهم».
- وروي عن عكرمة ومجاهدٍ وعطاءٍ وقتادة وابن أبي خالدٍ نحو ذلك.
الوجه الثاني:
- حدثنا أبو زرعة، ثنا نحيى بن عبد اللّه بن بكيرٍ، حدّثني عبد اللّه بن لهيعة، حدّثني عطاء بن دينارٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، في قول اللّه: {
فباءوا بغضبٍ على غضبٍ} يقول: «استوجبوا سخطاً على سخطٍ».
الوجه الثّالث:
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: «{
فباءوا بغضبٍ على غضبٍ} أمّا الغضب الأوّل: فهو حين غضب عليهم في العجل. وأمّا الغضب الثّاني: فغضب عليهم حين كفروا بمحمّدٍ -صلّى اللّه عليه وسلّم-»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 173-174]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ولهم عذابٌ مهينٌ}
- قرأت على محمّد بن الفضل، ثنا محمّد بن عليٍّ، ثنا محمّد بن مزاحمٍ، عن بكير بن معروفٍ، عن مقاتل بن حيّان: «قوله: {عذابٌ مهينٌ} يعني بالمهين: الهوان»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 174]
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ الحَسَنِ الهَمَذَانِيُّ (ت: 352هـ): (ثنا إبراهيم، قال: ثنا آدم، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي، قال: «كانت اليهود تقول: اللهم ابعث لنا هذا النبي يحكم بيننا وبين الناس، يستفتحون به أي: يستنصرون به على الناس، فقال الله عز جل: {بئسما اشتروا به أنفسهم} إلى قوله: {كأنهم لا يعلمون}، فهذا كله في اليهود»). [تفسير مجاهد: 83-84]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده
فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين}.
- أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة، في قوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم} الآية، قال: «هم اليهود كفروا بما أنزل الله وبمحمد صلى الله عليه وسلم بغيا وحسدا للعرب»، {فباؤوا بغضب على غضب} قال: «غضب الله عليهم مرتين بكفرهم بالإنجيل وبعيسى وبكفرهم بالقرآن وبمحمد».
- وأخرج الطستي في مسائله، عن ابن عباس، أن نافع بن الأزرق قال له: أخبرني عن قوله عز وجل: {بئسما اشتروا به أنفسهم}. قال: «بئس ما باعوا به أنفسهم حيث باعوا نصيبهم من الآخرة بطمع يسير من الدنيا»، قال: وهل تعرف ذلك؟ قال: «نعم أما سمعت الشاعر وهو يقول:

يعطى بها ثمنا فيمنعها ....... ويقول صاحبها ألا تشرى
».
- وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {بغيا أن ينزل الله}: «أي: أن الله جعله من غيرهم {فباؤوا بغضب} بكفرهم بهذا النّبيّ {على غضب} كان عليهم فيما ضيعوه من التوراة».
- وأخرج ابن جرير، عن عكرمة: {فباؤوا بغضب على غضب} قال: «كفرهم بعيسى وكفرهم بمحمد».
- وأخرج ابن جرير، عن مجاهد: «{فباؤوا بغضب} اليهود غضب بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النّبيّ صلى الله عليه وسلم، {على غضب} جحودهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم وكفرهم بما جاء به»). [الدر المنثور: 1/ 470-471]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أنزل علينا}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وإذا قيل لهم} وإذا قيل لليهود من بني إسرائيل للّذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: {آمنوا} أي: صدّقوا {بما أنزل اللّه} يعني بما أنزل اللّه من القرآن على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم {قالوا نؤمن} أي: نصدّق {بما أنزل علينا} يعني بالتّوراة الّتي أنزلها اللّه على موسى). [جامع البيان: 2/ 254-255]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ويكفرون بما وراءه}.
يعني جلّ ثناؤه بقوله: {ويكفرون بما وراءه} ويجحدون بما وراءه، يعني بما وراء التّوراة.
وتأويل وراءه في هذا الموضع سوى، كما يقال للرّجل المتكلّم بالحسن: ما وراء هذا الكلام شيءٌ، يراد به ليس عند المتكلّم به شيءٌ سوى ذلك الكلام؛ فكذلك معنى قوله: {ويكفرون بما وراءه} أي: بما سوى التّوراة وبما بعده من كتب اللّه الّتي أنزلها إلى رسله.
- كما حدّثنا بشرٌ، قال: حدّثنا يزيد، قال: حدّثنا سعيدٌ، عن قتادة: قوله: {ويكفرون بما وراءه} يقول:«بما بعده».
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا آدم، قال: حدّثنا أبو جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: «{ويكفرون بما وراءه} أي: بما بعده»، يعني: بما بعد التّوراة.
- حدّثني المثنّى، قال: حدّثنا إسحاق، قال: حدّثنا ابن أبي جعفرٍ، عن أبيه، عن الرّبيع: {ويكفرون بما وراءه} يقول:«بما بعده»). [جامع البيان: 2/ 255]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {وهو الحقّ مصدّقًا لما معهم}.
يعني بقوله جلّ ثناؤه: {وهو الحقّ مصدّقًا} أي: ما وراء الكتاب الّذي أنزل عليهم من الكتب الّتي أنزلها اللّه إلى أنبيائه الحقّ. وإنّما يعني بذلك تعالى ذكره القرآن الّذي أنزله إلى محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم.
- كما حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: «{وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه} وهو القرآن، يقول اللّه جلّ ثناؤه: {وهو الحقّ مصدّقًا لما معهم}».
وإنّما قال جلّ ثناؤه: {مصدّقًا لما معهم} لأنّ كتب اللّه يصدّق بعضها بعضًا؛ ففي الإنجيل والقرآن من الأمر باتّباع محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم والإيمان به وبما جاء به، مثل الّذي من ذلك في توراة موسى عليه السّلام؛ فلذلك قال جلّ ثناؤه لليهود إذ خبّرهم عمّا وراء كتابهم الّذي أنزله على موسى صلوات اللّه عليه من الكتب الّتي أنزلها إلى أنبيائه: إنّه الحقّ مصدّقًا للكتاب الّذي معهم، يعني أنّه له موافقٌ فيما اليهود به مكذّبون. وذلك خبرٌ من اللّه أنّهم من التّكذيب بالتّوراة على مثل الّذي هم عليه من التّكذيب بالإنجيل والفرقان، عنادًا للّه وخلافًا لأمره وبغيًا على رسله صلوات اللّه عليهم). [جامع البيان: 2/ 255-256]
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين}.
يعني جلّ ذكره بقوله: {قل فلم تقتلون أنبياء اللّه} قل يا محمّد ليهود بني إسرائيل الّذين إذا قلت لهم: آمنوا بما أنزل اللّه، قالوا: نؤمن بما أنزل علينا: لم تقتلون إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل اللّه عليكم أنبياءه، وقد حرّم اللّه في الكتاب الّذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم فيه باتّباعهم وطاعتهم وتصديقهم. وذلك من اللّه جلّ ثناؤه تكذيبٌ لهم في قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} وتعييرٌ لهم.
- كما حدّثني موسى، قال: حدّثنا عمرٌو، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، قال: «قال اللّه تعالى ذكره وهو يعيّرهم -يعني اليهود-: {فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين}».
فإن قال قائلٌ: وكيف قيل: {فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل} فابتدأ الخبر على لفظ المستقبل، ثمّ أخبر أنّه قد مضى؟
قيل: إنّ أهل العربيّة مختلفون في تأويل ذلك؛

- فقال بعض البصريّين: معنى ذلك: فلم قتلتم أنبياء اللّه من قبل؟ كما قال جلّ ثناؤه: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين} أي: ما تلت، وكما قال الشّاعر:
ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني ....... فمضيت عنه وقلت لا يعنيني
يريد بقوله: (ولقد أمرّ): ولقد مررت.
واستدلّ على أنّ ذلك كذلك بقوله: (فمضيت عنه)، ولم يقل: فأمضي عنه.
وزعم أنّ فعل ويفعل قد تشترك في معنى واحدٍ، واستشهد على ذلك بقول الشّاعر:
وإنّي لآتيكم تشكّر ما مضى ....... من الأمر واستيجاب ما كان في غد
يعني بذلك: ما يكون في غدٍ. وبقول الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربّه ....... أنّ الوليد أحقّ بالعذر
يعني: يشهد. وكما قال الآخر:
فما أضحي ولا أمسيت إلاّ ....... أراني منكم في كوّفان
فقال: أضحي، ثمّ قال: ولا أمسيت.
- وقال بعض نحويّي الكوفيّين: إنّما قيل: {فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل} فخاطبهم بالمستقبل من الفعل ومعناه الماضي، كما يعنّف الرّجل الرّجل على ما سلف منه من فعلٍ، فيقول له: ويحك لم تكذب ولم تبغّض نفسك إلى النّاس؟ كما قال الشّاعر:

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمةٌ ....... ولم تجدي من أن تقرّي بها بدًّا
فالجزاء للمستقبل، والولادة كلّها قد مضت؛ وذلك أنّ المعنى معروفٌ، فجاز ذلك.
قال: ومثله في الكلام إذا نظرت في سيرة عمر لم يسيء، المعنى: لم تجده أساء، فلمّا كان أمر عمر لا يشكّ في مضيّه لم يقع في الوهم أنّه مستقبلٌ، فلذلك صلحت من قبل مع قوله: {فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل}.
قال: وليس الّذين خوطبوا بالقتل هم القتلة، إنّما قتل الأنبياء أسلافهم الّذين مضوا، فتولّوهم على ذلك ورضوا فنسب القتل إليهم.
- والصّواب فيه من القول عندنا أنّ اللّه خاطب الّذين أدركوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من يهود بني إسرائيل، بما خاطبهم به في سورة البقرة وغيرها من سائر السّور، بما سلف من إحسانه إلى أسلافهم، وما سلف من كفران أسلافهم نعمه، وارتكابهم معاصيه، واجترائهم عليه وعلى أنبيائه، فأضاف ذلك إلى المخاطبين به؛ نظير قول العرب بعضها لبعضٍ: فعلنا بكم يوم كذا وكذا، وفعلتم بنا يوم كذا وكذا، على نحو ما قد بيّنّاه في غير موضعٍ من كتابنا هذا؛ يعنون بذلك أنّ أسلافنا فعلوا ذلك بأسلافكم وأنّ أوائلنا فعلوا ذلك بأوائلكم. فكذلك ذلك في قوله: {فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل} وما أشبهه،

فإذ كان ذلك معناه، وكان قوله: {فلم تقتلون أنبياء اللّه} وإن كان قد خرج على لفظ الخبر عن المخاطبين به خبرًا من اللّه تعالى ذكره عن فعل السّالفين منهم على نحو الّذي بيّنّا، جاز أن يقال {من قبل} إذ كان معناه: قل فلم يقتل أسلافكم أنبياء اللّه من قبل؟ وكان معلومًا بأنّ قوله: {فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل} إنّما هو خبرٌ عن فعل سلفهم.
وتأويل قوله: {من قبل} أي: من قبل اليوم.
أمّا قوله: {إن كنتم مؤمنين} فإنّه يعني إن كنتم مؤمنين بما أنزل اللّه عليكم كما تزعمون. وإنّما يعني بذلك اليهود الّذين أدركوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم وأسلافهم، إن كانوا وكنتم كما تزعمون أيّها اليهود مؤمنين. وإنّما عيّرهم جلّ ثناؤه بقتل أوائلهم أنبياءه عند قولهم حين قيل لهم: {آمنوا بما أنزل اللّه} قالوا: {نؤمن بما أنزل علينا} لأنّهم كانوا لأوائلهم الّذين تولّوا قتل أنبياء اللّه مع قيلهم: {نؤمن بما أنزل علينا} متولّين، وبفعلهم راضين، فقال لهم: إن كنتم كما تزعمون مؤمنين بما أنزل عليكم، فلم تتولّون قتلة أنبيائى أي: ترضون أفعالهم). [جامع البيان: 2/ 256-260]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ مصدّقًا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين (91)}
قوله: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه}
- حدّثنا عليّ بن الحسين، ثنا محمّد بن العلاء أبو كريبٍ، ثنا عثمان بن سعيدٍ الزّيّات، ثنا بشر بن عمارة، عن أبي روقٍ، عن الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وإذا قيل لهم آمنوا} يقول: «وإذا قيل لهم صدّقوا»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 174]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {قالوا نؤمن بما أنزل علينا}
- به، عن ابن عبّاسٍ: «{قالوا نؤمن} يقولون: نقول»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 174]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {ويكفرون بما وراءه}
- حدّثنا عصام بن روّادٍ، ثنا آدم، عن أبي جعفرٍ، عن الرّبيع، عن أبي العالية: «{ويكفرون بما وراءه} أي: بما بعده» يعني: ما بعد التّوراة، وروي عن قتادة، والرّبيع نحو ذلك.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: «{وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه} وهو القرآن. يقول اللّه: {وهو الحقّ مصدّقًا لما معهم}»). [تفسير القرآن العظيم: 1 /174]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {وهو الحق}
- حدّثنا أبي، ثنا سهل بن عثمان، ثنا ابن السّمّاك، عن أبي بكرٍ، عن الحسن: قوله: {الحقّ} قال:«القرآن كلّه»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 175]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ:«{وهو الحقّ مصدّقًا لما معهم} فقال اللّه وهو يعيّرهم: {قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين}»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 175]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {إن كنتم مؤمنين}
- حدّثنا محمود بن آدم المرّوذيّ فيما كتب إليّ، قال: سمعت النّضر بن شميلٍ يقول:«تفسير المؤمن أنّه آمنٌ من عذاب اللّه عزّ وجلّ».
- حدّثنا محمّد بن العبّاس، ثنا محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة، قال: قال محمّد بن إسحاق: «{إن كنتم مؤمنين} إن كنتم صدّقتم نبيّي بما جاءكم به عنّي»). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 175]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين * ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون}.
- أخرج ابن جرير، عن أبي العالية، في قوله: {ويكفرون بما وراءه} قال:«بما بعده».
- وأخرج ابن جرير، عن السدي، في قوله: {ويكفرون بما وراءه} قال: «القرآن»). [الدر المنثور: 1/ 471]

إشراق المطيري 26 ربيع الثاني 1434هـ/8-03-2013م 09:11 PM

التفسير اللغوي

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {ولمّا جاءهم كتابٌ مّن عند اللّه مصدّقٌ...}

[إن شئت] رفعت الـ"مصدّق" ونويت أن يكون نعتاً للكتاب لأنّه نكرةٌ، ولو نصبته على أن تجعل الـ"مصدّق" فعلا للكتاب لكان صوابا، وفي قراءة عبد الله في آل عمران: "ثمّ جاءكم رسولٌ مصدّقاً" فجعله فعلا، وإذا كانت النكرة قد وصلت بشيء سوى نعتها ثم جاء النّعت، فالنّصب على الفعل أمكن منه إذا كانت نكرة غير موصولةٍ، وذلك لأنّ صلة النكرة تصير كالموقّتة لها، ألا ترى أنك إذا قلت: مررت برجل في دارك، أو بعبدٍ لك في دارك، فكأنّك قلت: بعبدك أو بسايس دابّتك، فقس على هذا؛ وقد قال بعض الشعراء:
لو كان حيّ ناجياً لنجـا ....... من يومه المزلّم الأعصم
فنصب ولم يصل النّكرة بشيء وهو جائزٌ.
فأما قوله: {وهذا كتابٌ مصدّقٌ لساناً عربيّاً} فإنّ نصب "الّلسان" على وجهين:
أحدهما: أن تضمر شيئا يقع عليه الـ"مصدّق"، كأنك قلت: وهذا يصدّق التوراة والإنجيل لساناً عربيّاً لأنّ التوراة والإنجيل لم يكونا عربيّين فصار اللسان العربيّ مفسّرا.
وأما الوجه الآخر: فعلى ما فسّرت لك لما وصلت الـ"كتاب" بالـ"مصدّق" أخرجت "لساناً" ممّا في "مصدّق" من الرّاجع من ذكره،
ولو كان "الّلسان" مرفوعا لكان صواباً؛ على أنه نعتٌ وإن طال). [معاني القرآن: 1/ 55-56]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {فلمّا جاءهم مّا عرفوا كفروا به...} وقبلها " ولمّا"، وليس للأولى جوابٌ، فإن الأولى صار جوابها كأنه في الفاء التي في الثانية، وصارت {كفروا به} كافية من جوابهما جميعا.
ومثله في الكلام: ما هو إلاّ أن أتاني عبد الله فلما قعد أوسعت له وأكرمته، ومثله قوله: {فإمّا يأتينّكم منّي هدىً فمن تبع هداي} في البقرة، {فمن اتّبع هداي} في "طه"، اكتفى بجوابٍ واحد لهما جميعا {فلا خوفٌ عليهم} في البقرة، {فلا يضلّ ولا يشقى} في "طه"، وصارت الفاء في قوله: {فمن تبع} كأنها جواب لـ"إمّا"، ألا ترى أنّ الواو لا تصلح في موضع الفاء، فذلك دليلٌ على أن الفاء جواب وليست بنسقٍ). [معاني القرآن: 1 /59]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({يستفتحون}: يستنصرون). [مجاز القرآن: 1/ 47]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت:215هـ): ({ولمّا جاءهم كتابٌ مّن عند اللّه مصدّقٌ لّما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم مّا عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}
قال: {ولمّا جاءهم كتابٌ مّن عند اللّه مصدّقٌ لّما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم مّا عرفوا كفروا به}
فإن قيل: فأين جواب {ولمّا جاءهم كتابٌ مّن عند اللّه مصدّقٌ لّما معهم}؟
قلت: جوابه في القرآن كثير، [و] استغني عنه في هذا الموضع إذ عرف معناه، كذلك جميع الكلام إذا طال تجيء فيه أشياء ليس لها أجوبة في ذلك الموضع ويكون المعنى مستغنى به نحو قول الله عز وجل: {ولو أنّ قرآناً سيّرت به الجبال أو قطّعت به الأرض أو كلّم به الموتى بل للّه الأمر جميعاً} فيذكرون [أن] تفسيره: "لو سيّرت الجبال بقرآنٍ غير هذا لكان هذا القرآن ستسيّر به الجبال" فاستغني عن اللّفظ بالجواب إذ عرف المعنى، وقال: {لا تحسبنّ الّذين يفرحون بما أتوا وّيحبّون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنّهم بمفازةٍ مّن العذاب} ولم يجئ لـ{تحسبنّ} الأول بجواب وترك للاستغناء بما في القرآن من الأجوبة، وقال: {ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيراً لّهم} معناه: "لا يحسبنّه خيراً لهم" وحذف ذلك الكلام وكان فيما بقي دليل على المعنى، ومثله {وإذا قيل لهم اتّقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلّكم ترحمون} ثم قال: {وما تأتيهم مّن آيةٍ} من قبل أن يجيء بقوله "فعلوا كذا وكذا" لأن ذلك في القرآن كثير، استغني به، وكان في قوله: {وما تأتيهم مّن آيةٍ مّن آيات ربّهم إلاّ كانوا عنها معرضين} دليل على أنّهم أعرضوا فاستغني بهذا وكذلك جميع ما جاز فيه نحو هذا، وقال: {فإذا جاء وعد الآخرة ليسوءوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرّةٍ وليتبّروا ما علوا تتبيراً} وقال: {ليتبرّوا} على معنى: "خلّيناهم وإيّاكم لم نمنعكم منهم بذنوبكم"، وقال: {ليسوءوا وجوهكم} ولم يذكر أنه خلاهم وإياهم على وجه الترك في حال الابتلاء بما أسلفوا ثم لم يمنعهم من أعدائهم أن يسلطوا عليهم بظلمهم، وقال: {ولو ترى إذ الظّالمون في غمرات الموت} فليس لهذا جواب، وقال: {ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب} فجواب هذا إنما هو في المعنى، وهذا كثير، وسنفسر كل ما مررنا به إن شاء الله، وزعموا أن هذا البيت ليس له جواب:
ودوّيّــــــــــةٍ قـــــفـــــرٍ تـــمـــشّــــى نــعـــامـــهـــا ....... كمشي النّصارى في خفاف الأرندج
يريد: "وربّ دوّيّةٍ" ثم لم يأت له بجواب، وقال:
حتـى إذا أسلكـوه فــي قتـائـدةٍ ....... شلاًّ كما تطرد الجمالة الشردا
فهذا ليس له جواب إلا في المعنى، وزعم بعضهم أنّ هذا البيت:
فإذا وذلك يا كبيشة لم يكن ....... إلاّ كــلــمّـــة حـــالــــمٍ بــخـــيـــال
قالوا: الواو فيه ليست بزائدة ولكن الخبر مضمر). [معاني القرآن: 1/ 103-105]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وقوله "مصدقا لما معهم" بتحريك العين وإسكان لغتان: كنت معكم، ومعكم، ومع زيد ومع زيد، وكنت مع القوم، على الأصل يفتحونها، لأنها مفتوحة.
وقال بعضهم: كنت مع القوم، فكسر؛ شبه ذلك بما يكسره لالتقاء الساكنين نحو: اضرب الرجل، وخذ المال.
وقالوا: حيث أفردوها: كنا معًا؛ فزعم يونس: أنها مثل ألف قفا جعلها أصلية؛ وحكي عن الخليل بن أحمد أنه كان يقول: هي ألف الإعراب مثل: صببت دمًا؛ قال أبو علي: وقول الخليل
[معاني القرآن لقطرب: 323]
أحسن عندنا، لأنه لم يردد الأصل في الإضافة، فكيف يردون في الإفراد وهم مما يردون في الإضافة ولا يردون في الإفراد؛ وذلك مثل: أخ وأب، ثم يقولون: أخوك وأبوك فيردون في الإضافة.
وقال متمم بن نويرة:
غيرني ما غال زيدا ومالكا = وعمرا وحزما بالمشقر المعا
فزعم الذي قبلناه عنه: أنه أراد معًا، فأدخل عليه الألف واللام؛ فهذا يقويه ويمكنه أيضًا، وقد قطع الألف ألف التعريف؛ وهذا بعيد شاذ فافهم.
قال أبو علي: وقد سمعناه هكذا.
وقالوا أيضًا: أخذته من معه؛ فأعربوه لما أضافوه.
وقال الراجز - فأسكن هذه العين -:
نحن نصرنا الله مع محمد = ومع سرافيل الرسول المهتدي
وقوله {يستفتحون} فقالوا: فيها يستنصرون، وقالوا: يستبصرون به؛ من بصرني به، وقال ابن عباس {واستفتحوا} قال: دعوا.
وقال ابن عباس {استفتحوا}: استنصروا عليه، فقالوا اللهم أينا كان أحب إليك فانصره.
قال الفرزدق:
[معاني القرآن لقطرب: 324]
ما لقوم عدي الله قائدهم = يستفتحون إذا لاقوا بهميانا
اسم رجل.
وقالوا أيضًا: يتحاكمون، وقالوا أيضًا: فاتحت الرجل مفاتحة؛ أي حاكمته؛ وقالوا: هي الفتاحة الاسم؛ و{يفتح بيننا} من ذلك.
قال: وأنشدنا الثقة لرجل من جعفي:
ألا أبلغ بني عمرو رسولا = بأني عن فتاحتكم غني
فكسر الفاء.
قال: وأنشدنا بعضهم: "عن فتاحتكم"، فضم الفاء.
وحكي عن ابن عباس أنه قال: ما كنت أدري ما قوله {افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين} حتى سمعت بنت ذي يزن وهي تقول لي: هلم أفاتحك؛ أي أقاضيك.
وقال ابن عباس: وقوله {ويقولون متى هذا الفتح} و{الفتاح العليم} و{إذا جاء نصر الله والفتح}؛ والفتاح الحكام). [معاني القرآن لقطرب: 325]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت:237هـ): ({يستفتحون على الذين كفروا}: يستنصرون بتمنيهم أن يبعث الله عز وجل محمدا -صلى الله عليه وسلم-). [غريب القرآن وتفسيره:75-76]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ قُتَيْبَةَ الدِّينَوَرِيُّ (ت:276هـ): ({وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} يقول: كانت اليهود إذا قاتلت أهل الشرك استفتحوا عليهم، أي: استنصروا اللّه عليهم، فقالوا: اللهم انصرنا بالنّبي المبعوث إلينا، فلما جاءهم النبي -صلّى اللّه عليه وسلم- وعرفوه كفروا به، و"الاستفتاح": الاستنصار). [تفسير غريب القرآن: 58]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت:311هـ): (وقوله: {ولمّا جاءهم كتاب من عند اللّه مصدّق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}
تقرأ {جاءهم} بفتح الجيم والتفخيم، وهي لغة أهل الحجاز، وهي اللغة العليا القدمى،
والإمالة إلى الكسر لغة بني تميم وكثير من العرب، ووجهها أنها الأصل من ذوات الياء فأميلت لتدل على ذلك.
ومعنى {كتاب اللّه} ههنا: القرآن، واشتقاقه من "الكتب" وهي جمع "كتبة" وهي: الخرزة، وكل ما ضممت بعضه إلى بعض على جهة التقارب والاجتماع فقد كتبته، و"الكتيبة": الفرقة التي تحارب، من هذا اشتقاقها لأن بعضها منضم إلى بعض، وسمى كلام الله -عزّ وجلّ- الذي أنزل على نبيه "كتابا" و"قرآنا" و"فرقانا"، فقد فسرنا معنى "كتاب". ومعنى "قرآن" معنى الجمع، يقال: ما قرأت هذه الناقة سلّى قط، أي: لم يضطمّ رحمها على ولد قط، قال الشاعر:
هجان اللّون لم تقرأ جنينا
قال أكثر النّاس: لم تجتمع جنينا، أي: لم تضم رحمها على الجنين.
وقال قطرب في "قرآن" قولين:
أحدهما هذا، وهو المعروف الذي عليه أكثر الناس،
والقول الآخر ليس بخارج من الصّحّة، وهو حسن، قال: "لم تقرأ جنينا": لم تلقه مجموعا.
وقال: يجوز أن يكون معنى قرأت: لفظت به مجموعا، كما أن لفظت من اللفظ، اشتقاقه من لفظت كذا وكذا، إذا ألقيته، فكأن قرأت القرآن لفظت به مجموعا.
وقوله عزّ وجلّ: {مصدق لما معهم} أي: يصدق بالتوراة والإنجيل ويخبرهم بما في كتبهم مما لا يعلم إلا بوحي أو قراءة كتب، وقد علموا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان أميا لا يكتب.
وقوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} ضم {قبل} لأنها غاية، كان يدخلها بحق الإعراب الكسر والفتح، فلما عدلت عن بابها بنيت على الضم، فبنيت على ما لم يكن يدخلها بحق الإعراب، وإنما عدلت عن بابها لأن أصلها الإضافة فجعلت مفردة تنبئ عن الإضافة، المعنى: وكانوا من قبل هذا.
ومعنى: {يستفتحون على الّذين كفروا} فيه قولان:
قال بعضهم: كانوا يخبرون بصحة أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وقيل: "وكانوا يستفتحون على الذين كفروا": يستنصرون بذكر النبي -صلى الله عليه وسلم-، "فلما جاءهم ما عرفوا" أي: ما كانوا يستنصرون وبصحته يخبرون، "كفروا" وهم يوقنون أنهم معتمدون للشقاق عداوة للّه.
وقوله عزّ وجلّ: {فلعنة اللّه على الكافرين} قد فسرنا اللعنة، وجواب {ولمّا جاءهم كتاب} محذوف؛ لأن معناه معروف دلّ عليه {فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به}). [معاني القرآن: 1/ 170-171]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت:437هـ): ({وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا} أي: كانوا يستنصرون الله إذا قاتلوا الشرك، بأن يقولوا: انصرنا عليهم بالنبي المبعوث إلينا، فلما جاءهم ذلك النبي وعرفوه كفروا به، وهو محمد صلى الله عليه وسلم).
[تفسير المشكل من غريب القرآن: 31]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({يَسْتَفْتِحُونَ}: يستنصرون). [العمدة في غريب القرآن: 80]

تفسير قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت:207هـ): (وقوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم...} معناه -والله أعلم-: باعوا به أنفسهم.
وللعرب في "شروا" و"اشتروا" مذهبان:
فالأكثر منهما أن يكون "شروا": باعوا، و"اشتروا": ابتاعوا،
وربمّا جعلوهما جميعا في معنى: باعوا،
وكذلك البيع؛ يقال: بعت الثوب، على معنى أخرجته من يدي، وبعته: اشتريته، وهذه اللّغة في تميم وربيعة، سمعت أبا ثروان يقول لرجل: بع لي تمرا بدرهم، يريد اشتر لي؛ وأنشدني بعض ربيعة:
ويأتيك بالأخبار من لـم تبـع لـه ....... بتاتاً ولم تضرب له وقت موعد
على معنى: لم تشتر له بتاتا؛ قال الفرّاء: والبتات: الزاد.
وقوله: {بئسما اشتروا به أنفسهم}
{أن يكفروا} في موضع خفض ورفع؛ فأما الخفض فأن تردّه على الهاء التي في {به} على التكرير على كلامين كأنّك قلت: اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما الرفع فأن يكون مكرورا أيضا على موضع "ما" التي تلي {بئس}.
ولا يجوز أن يكون رفعاً على قولك: بئس الرجل عبد الله، وكان الكسائيّ يقول ذلك.
قال الفراء: و"بئس" لا يليها مرفوعٌ موقّت ولا منصوبٌ موقّت، ولها وجهان؛ فإذا وصلتها بنكرة قد تكون معرفةً بحدوث ألفٍ ولام فيها نصبت تلك النكرة، كقولك: بئس رجلاً عمرو، ونعم رجلاً عمرو، وإذا أوليتها معرفة فلتكن غير موقّتة، في سبيل النكرة، ألا ترى أنك ترفع فتقول: نعم الرجل عمرو، وبئس الرجل عمرو، فإن أضفت النكرة إلى نكرة رفعت ونصبت، كقولك: نعم غلام سفر زيدٌ، وغلام سفر زيدٌ، وإن أضفت إلى المعرفة شيئا رفعت، فقلت: نعم سائس الخيل زيدٌ، ولا يجوز النّصب إلا أن يضطرّ إليه شاعرٌ، لأنهم حين أضافوا إلى النكرة رفعوا، فهم إذا أضافوا إلى المعرفة أحرى ألاّ ينصبوا.
وإذا أوليت "نعم" و"بئس" من النكرات مالا يكون معرفةً مثل "مثل" و"أي" كان الكلام فاسدا؛ خطأٌ أن تقول: نعم مثلك زيدٌ، ونعم أي رجل زيد؛ لأن هذين لا يكونان مفسّرين، ألا ترى أنك لا تقول: [لله] درّك من أي رجل، كما تقول: للّه درّك من رجل.
ولا يصلح أن تولي نعم وبئس "الذي" ولا "من" ولا "ما" إلا أن تنوي بهما الاكتفاء دون أن يأتي بعد ذلك اسمٌ مرفوع. من ذلك قولك: بئسما صنعت، فهذه مكتفية، وساء ما صنعت، ولا يجوز ساء ما صنيعك، وقد أجازه الكسائي في كتابه على هذا المذهب.
قال الفراء: ولا نعرف ما جهته، وقال: أرادت العرب أن تجعل "ما" بمنزلة الرجل حرفا تامّاً، ثم أضمروا لصنعت "ما" كأنّه قال: بئسما ما صنعت، فهذا قوله وأنا أجيزه.
فإذا جعلت "نعم" صلة لـ"ما" بمنزلة قولك "كلّما" و"إنّما" كانت بمنزلة "حبّذا" فرفعت بها الأسماء؛ من ذلك قول الله عز وجل: {إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي} رفعت "هي" بـ"نعمّا" ولا تأنيث في "نعم" ولا تثنية إذا جعلت "ما" صلة لها فتصير "ما" مع "نعم" بمنزلة "ذا" من "حبّذا" ألا ترى أنّ "حبذا" لا يدخلها تأنيث ولا جمعٌ.
ولو جعلت "ما" على جهة الحشو كما تقول: عما قليلٍ آتيك، جاز فيه التأنيث والجمع، فقلت: بئسما رجلين أنتما، وبئست ما جاريةً جاريتك. وسمعت العرب تقول في "نعم" المكتفية بـ"ما": بئسما تزويجٌ ولا مهر، فيرفعون التزويج بـ"بئسما"). [معاني القرآن: 1/ 56-58]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {بغياً أن ينزّل اللّه من فضله...} موضع "أن" جزاءٌ، وكان الكسائي يقول في "أن": هي في موضع خفض، وإنما هي جزاءٌ.
إذا كان الجزاء لم يقع عليه شيء قبله وكان ينوي بها الاستقبال كسرت "إن" وجزمت بها فقلت: أكرمك إن تأتني، فإن كانت ماضية قلت: أكرمك أن تأتيني، وأبين من ذلك أن تقول: أكرمك أنْ أتيتني؛ كذلك قال الشاعر:
أتجزع أن بان الخليط المودّع ....... وحبل الصّفا من عزّة المتقطّع
يريد أتجزع بأن، أو لأن كان ذلك.
ولو أراد الاستقبال ومحض الجزاء لكسر "إن" وجزم بها، كقول الله جلّ ثناؤه: {فلعلّك باخعٌ نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا} فقرأها القرّاء بالكسر، ولو قرئت بفتح "أن" على معنى [إذ لم يؤمنوا] ولأن لم يؤمنوا، ومن أن لم يؤمنوا [لكان صوابا] وتأويل "أن" في موضع نصب، لأنها إنما كانت أداة بمنزلة "إذ" فهي في موضع نصب إذا ألقيت الخافض وتمّ ما قبلها، فإذا جعلت لها الفعل أو أوقعته عليها أو أحدثت لها خافضا فهي في موضع ما يصيبها من الرفع والنصب والخفض). [معاني القرآن: 1/ 58-59]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ...}
لا يكون {باءوا} مفردةً حتى توصل بالباء، فيقال: باء بإثم يبوء بوءاً.
وقوله: {بغضبٍ على غضبٍ} أن الله غضب على اليهود في قولهم: {يد اللّه مغلولةٌ غلّت أيديهم}، ثم غضب عليهم في تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة، فذلك قوله: {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ}).[معاني القرآن: 1/ 60]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغياً أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضبٍ على غضبٍ وللكافرين عذابٌ مّهينٌ}
قال: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغياً أن ينزّل اللّه من فضله} فـ{ما} وحدها اسم، و{أن يكفروا} تفسير له نحو: "نعم رجلاً زيدٌ" و{أن ينزّل} بدلٌ من {بما أنزل اللّه}). [معاني القرآن: 1/ 105-106]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله {بئسما اشتروا به أنفسهم}، وقوله عز وجل {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء} المعنى: يبيع نفسه؛ وقالوا: شريت الشيء، أشريه شراء وشرى
[معاني القرآن لقطرب: 325]
بالمد والقصر؛ والمعنى فيه: بعته، وشريت الشيء: بعته، لغة لغاضرة من بني أسد، وقالوا أيضًا: شريته أيضًا اشتريته.
وقال المسيب بن علس - على بعته -:
يعطي بها ثمنا فيمنعها = ويقول صاحبه ألا تشري
أي: ألا تبيع.
وقال النمر بن تولب:
وإني لأستحيي الخليل وأتقي = تقاي وأشري من تلادي بالحمد
المعنى: أبيع.
وقالوا أيضًا: بعت الشيء؛ اشتريته، وبع ذا لي: اشتره.
وقال أبو ذؤيب الهذلي.
فإن تزعميني كنت أجهل فيكم = فإني شريت الحلم بعدك بالجهل
المعنى: اشتريت.
وقال الأسود بن يعفر:
فآليت لا أشريه حتى يلمني = وآليت لا أملاه حتى يفارقا
أملاه: أمله، أبدل اللام ألفًا.
[معاني القرآن لقطرب: 326]
المعنى هاهنا: لا أبيعه). [معاني القرآن لقطرب: 327]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({بئس ما اشتروا به أنفسهم} معناه: باعوا.
وللعرب في "شروا" و"اشتروا" مذهبان:
الأكثر أن يكونوا بـ"شروا": باعوا، و"اشتروا": ابتاعوا.
وربما جعلوهما جميعا في معنى: باعوا.
وكذلك البيع: يقال بعت الثوب، أي: أخرجته من يدي، وبعته: اشتريته، وحكي عن بعض العرب أنه قال: بع لي تمرا بدرهم، أي: اشتر، وقال الشاعر:
ويأتيك بالأخبار من لم تبع له ....... بتاتا ولم تضرب له رأس موعد
وقال الراجز:
إذا الثريا طلعت عشايا ....... فبع لراعي غنم كسايا
أي: اشتر). [غريب القرآن وتفسيره: 76]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيا أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين}
"بئس" إذا وقعت على "ما" جعلت معها بمنزلة اسم منكور، وإنما ذلك في "نعم" و"بئس" لأنهما لا يعملان في اسم علم، إنما يعملان في اسم منكور دال على جنس، أو اسم فيه ألف ولام يدل على جنس، وإنما كانتا كذلك لأن "نعم" مستوفية لجميع المدح، و"بئس" مستوفية لجميع الذم، فإذا قلت: نعم الرجل زيد، فقد استحق زيد المدح الذي يكون في سائر جنسه.
قال أبو إسحاق: وفي (نعم الرجل زيد) أربع لغات:
نَعِم الرجل زيد، ونِعِمَ الرجل زيد، ونِعْم الرجل زيد، ونَعْمَ الرجل زيد.
وكذلك إذا قلت: بئس الرجل، دللت على أنه استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه، فلم يجز إذ كان يستوفى مدح الأجناس أن يعمل في غير لفظ جنس، فإذا كان معها اسم جنس بغير ألف ولام فهو نصب أبدا، وإذا كانت فيه الألف واللام فهو رفع أبدا، وذلك كقولك: نعم رجلا زيد، ونعم الرجل زيد، فلما نصب "رجل" فعلى التمييز، وفي "نعم" اسم مضمر على شريطة التفسير، و"زيد" مبين من هذا الممدوح، لأنك إذا قلت: "نعم الرجل" لم يعلم من تعني، فقولك "زيد" تريد به: هذا الممدوح هو زيد.
وقال سيبويه والخليل جميع ما قلنا في "نعم" و"بئس"، وقالا: إن شئت رفعت "زيدا" لأنه ابتداء مؤخّر، كأنك قلت -حين قلت (نعم رجلا زيد)-: نعم زيد نعم الرجل، وكذلك كانت "ما" في "نعم" بغير صلة لأن الصلة توضح وتخصص، والقصد في "نعم" أن يليها اسم منكور أو جنس، فقوله {بئسما اشتروا به أنفسهم}: بئس شيئا اشتروا به أنفسهم.
وقوله عزّ وجلّ: {أن يكفروا بما أنزل اللّه} موضعه رفع: المعنى ذلك الشيء المذموم أن يكفروا بما أنزل اللّه.
وقوله عزّ وجلّ: {فنعمّا هي} كأنه قال: فنعم شيئا هي،
وقال قوم: إنّ "نعم" مع "ما" بمنزلة "حبّ" مع "ذا"، تقول: حبّذا زيد، وحبذا هي، ونعما هي،
والقول الأول هو مذهب النحويين وروى جميع النحويين (بئسما تزويج ولا مهر) والمعنى فيه: بئس شيئا تزويج ولا مهر.
وقوله عزّ وجلّ: {أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيا أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده} معناه: أنهم كفروا بغيا وعداوة للنبي -صلى الله عليه وسلم- لأنهم لم يشكّوا في نبوته -صلى الله عليه وسلم- وإنما حسدوه على ما أعطاه الله من الفضل،
المعنى: كفروا بغيا لأن نزّل اللّه الفضل على النبي -صلى الله عليه وسلم-،
ونصب {بغيا} مفعولا له، كما تقول: فعلت ذلك حذر الشر، أي: لحذر الشر، كأنك قلت: حذرت حذرا، ومثله من الشعر قول الشاعر وهو حاتم الطائي:
وأغـفـر عــوراء الكـريـم ادّخــاره ....... وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
المعنى: أغفر عوراء الكريم لادّخاره، وأعرض عن شتم اللئيم للتكرم.
وكأنه قال: أدخر الكريم ادخارا، وأتكرم على الكريم تكرما، لأن قوله (أغفر عوراء الكريم) معناه: أدخر الكريم، وقوله (وأعرض عن شتم اللئيم تكرما) معناه: أتكرم على اللئيم،
وموضع {أن} الثانية نصب، المعنى: أن يكفروا بما أنزل اللّه لأن ينزل اللّه، أي: كفروا لهذه العلّة، فشرحه كهذا الذي شرحناه.
وقوله عزّ وجلّ: {فباءوا بغضب على غضب}
معنى {باءوا} في اللغة: احتملوا، يقال: قد بؤت بهذا الذنب، أي: تحملته.
ومعنى {بغضب على غضب} فيه قولان:
قال بعضهم: {بغضب} من أجل الكفر بالنبي -صلى الله عليه وسلم- {على غضب} على الكفر بعيسى -صلى الله عليه وسلم-، يعني بهم اليهود.
وقيل: {فباءوا بغضب على غضب} أي: بإثم استحقوا به النار، على إثم تقدم أي: استحقوا به أيضا النّار). [معاني القرآن: 1/ 172-174]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ): (و"باءوا" أي: رجعوا). [ياقوتة الصراط: 173]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({اشْتَرَوْاْ}: ابتاعوا). [العمدة في غريب القرآن: 80]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {ويكفرون بما وراءه...} يريد: سواه، وذلك كثيرٌ في العربية أن يتكلّم الرجل بالكلام الحسن فيقول السّامع: ليس وراء هذا الكلام شيء، أي ليس عنده شيء سواه).[معاني القرآن: 1/ 60]
قالَ يَحْيَى بْنُ زِيَادٍ الفَرَّاءُ (ت: 207هـ): (وقوله: {فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل...}
يقول القائل: إنما "تقتلون" للمستقبل فكيف قال: "من قبل"؟ ونحن لا نجيز في الكلام أنا أضربك أمس.
وذلك جائز إذا أردت بـ"تفعلون" الماضي، ألا ترى أنّك تعنّف الرجل بما سلف من فعله فتقول: ويحك لم تكذب! لم تبغّض نفسك إلى الناس! ومثله قول الله: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} ولم يقل: ما تلت الشياطين، وذلك عربيّ كثير في الكلام؛ أنشدني بعض العرب:
إذا مـا انتسبـنـا لــم تلـدنـي لئيـمـةٌ....... ولم تجدي من أن تقرّي بها بدّا
فالجزاء للمستقبل، والولادة كلها قد مضت، وذلك أن المعنى معروفٌ؛
ومثله في الكلام: إذا نظرت في سير عمر -رحمه الله- لم يسئ؛ المعنى: لم تجده أساء؛ فلما كان أمر عمر لا يشك في مضيّه لم يقع في الوهم أنه مستقبل؛
فلذلك صلحت "من قبل" مع قوله: {فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل} وليس الذين خوطبوا بالقتل هم القتلة، إنما قتل الأنبياء أسلافهم الذين مضوا فتولّوهم على ذلك ورضوا به فنسب القتل إليهم).[معاني القرآن: 1 /60-61]
قالَ أَبُو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بْنُ الْمُثَنَّى التَّيْمِيُّ (ت:210هـ): ({ويكفرون بما وراءه} أي: بما بعده). [مجاز القرآن: 1/ 47]
قالَ الأَخْفَشُ سَعِيدُ بْنُ مَسْعَدَةَ الْبَلْخِيُّ (ت: 215هـ): ({وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ مصدّقاً لّما معهم قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مّؤمنين}
قال: {وهو الحقّ مصدّقاً لّما معهم قل فلم تقتلون أنبياء اللّه} فنصب {مصدّقاً} لأنه خبر معرفة.
و{تقتلون} في معنى "قتلتم"، كما قال الشاعر:
ولقـد أمـرّ عـلـى اللّئـيـم يسبّـنـي ....... فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني
يريد: "لقد مررت" بقوله "أمرّ"). [معاني القرآن: 1/ 106]
قال قطرب محمد بن المستنير البصري (ت: 220هـ تقريباً) : (وأما قوله عز وجل {فلم تقتلون أنبياء الله} فحرك هذه الميم، و{عم يتساءلون}؛ و{فيم أنت من ذكراها} و{بم يرجع المرسلون} حذفت، وإنما هي: "فلما تقتلون"، و"فيما أنت من ذكراها" هذا الأصل؛ لأنها "ما" حذفوا لما اتصل بها حرف جر لا ينفرد منها - نحو الباء ومن وفي واللام، وشبه ذلك -
[معاني القرآن لقطرب: 419]
وكانت استفهامًا؛ فجعلوا حرف الخفض عوضًا مما حذفوا؛ وليدلوا على الاستفهام من الخبر، إذا قال: لما ركبت ركبت، وفيما كنت كنت.
وقد أسكن هذا قوم، فقالوا: لم فعلت ذلك؛ وهي لغة تميم، وهي شاذة.
وقال آخرون: فيما ذهبت، فأثبتوا الألف وأتموا؛ فهذا أشذها وأقلها عندنا؛ وزعم يونس أنه لا يعرف ذلك إلا في شعر.
وقال الشاعر عليه - وأظنه الزبرقان بن بدر -:
فيما تعيرني الثراء وأنت آثم كل آثم
وقال ابن مقبل في الإسكان:
من دون حمير أبوال البغال به = فلم تسديت بينا ذلك البينا
ويروى: وهنا؛ والبين: الناحية.
وقال الراجز:
فلم قتلتم رجلا تعبدا = مد سنة وخمسون عددا
وقال بعض ولد حسان بن ثابت:
يا فقعسي لم أكلته لمه = لو خافك الله عليه حرمه
[معاني القرآن لقطرب: 420]
وقال آخر:
فلم رميتم بعبد الله في جدث = وقد تروحتم ولم تروحونا
فأسكن.
وقال ابن مقبل:
أاءخطل لم ذكرت نساء قيس = فما روعن منك ولا سبينا
فأسكن.
وقال الراجز:
على ما قم يشتمني لئيم = كخنزير تمرغ في رماد
فأتم.
وقال آخر:
إنا قتلنا بقتلانا سراتكم = أهل اللواء فيما يكثر القيل
فأتم.
وأما ما لم يعمل فيه شيء، فالألف فيه ظاهرة، مثل قول الله عز وجل {آلله خير أما يشركون} وقوله عز وجل {أما اشتملت عليه أرحام الانثيين}؛ لأنه ليس هاهنا عوض من الحذف.
وقال علقمة:
وما القلب أم ما ذكره ربعية = يخط لها من ثرمداء قليب
فأتم.
[معاني القرآن لقطرب: 421]
[وزاد العبدي]:
وسمعنا هذا الشعر:
قد وردت من أمكنه
ومن هنا ومن هنه
إن لم أدوها فمه
أدوها: أعلوها؛ يقال: دوا الطائر: إذا علا؛ وأسفه: إذا قرب من الأرض؛ ويروى: أروها بالراء.
وقال أبو النجم فحذف فيما يكون منفصلاً:
من بعدما وبعدما وبعد مه
وطال ما وطال ما وطال مه
رام الصناديد لأمر معجمه
والكلام أيضًا خبر فهو أبعد.
قال قطرب: وقال بعض العرب: فم يكون؛ فحذف الألف، ولم يعمل في "ما" شيء، والتمام أجود.
وقال بعض طيء:
ألام يقول العاذلان ألامه = ألا يا انعيا ميت الأسى والكرامه
فحذف.
وقد حكى لنا بشار الناقط عن العرب: مهو قال ذاك؛ يريد: ما هو قال ذاك؛ وهذه "ما" النفي، إلا أن اللفظ واحد.
[معاني القرآن لقطرب: 422]
وأما قوله عز وجل {فلم تقتلون أنبياء الله من قبل} فضم ولم يخفض بـ"منط، وكذلك {لله الأمر من قبل ومن بعد} وقوله {ومن حيث خرجت فول وجهك} فضم، وفي قراءة ابن يعمر "إن كان قميصه قد من قبل" و"من دبر" مضمومتان، مثل: قبل وبعد؛ ومثله قولهم: أخذته من عل، بالضم؛ ومثله قول الشاعر:
يرمي بها من فوق فوق وماؤه = من تحت تحت سرية يتغلغل
وقال الآخر:
إذا أنا لم أومن عليك ولم يكن = لقاؤك إلا من وارء وراء
[وزاد العبدي]:
وقال الآخر:
لا يحمل الفارس إلا الملبون = المخض من أمامه ومن دون
فضم أيضًا.
وقال المحاربي:
حبوت بها بني سعد بن عوف = على ما كان قبل من عتاب
فنون وأبقى الضمى؛ وهذا في الشعر.
فأما في الكلام فإذا نون خفض وأعرب.
قال قطرب: وهذا كثير، وإنما ذكرنا ما في القرآن منه لنخبر عن علته؛ والعلة فيه: أنه لما كان يتمكن فيجري فيه الإعراب، كقولهم: أخذته قبلا وبعدًا، وزيد فوقًا وتحتًا؛ وقد قالوا: فوق وتحت
[معاني القرآن لقطرب: 423]
يا هذا، نصب بغير تنوين؛ وقالوا: ومن حيث خرجت، ورأيته حيث كنت، فأجروا فيه الإعراب؛ وأضافوها فقالوا: قبلك وبعدك؛ فقويت وتمكنت، فلما تركوا الإعراب حركوها؛ لأنها قد كانت تمكنت في لغة من أعرب ونون، فكانت أقوى من: من وكم وإذ وقط، التي لم يجر فيها التمكن فأسكنوها، ولم يقولوا أيضًا: منك ولا كمك فيضيفوا بهذه الإضافة.
وحركوا قبل وبعد، كما حركوا: من عل يا هذا؛ لأنهم يقولون: من عل؛ فيمكنونه بالإعراب والتنوين، ومن وكم ليس فيهما تمكن فأسكنا، وصارا كحروف المعاني، مثل: نعم وأجل، وحرك قبل وبعد، كما حركوا "فعل" مثل: ضرب وقتل، لما أشبه يضرب ويقتل وضارعه، وإنما أدخلوا الضمة في: قبل وبعد، دون غيرها؛ لأنها ظروف يغلب عليها النصب في الإعراب بالظرف، فكرهوا: "لله الأمر من قبل ومن بعد"؛ فتصير كأنها معربة بغلبة النصبة عليها في الظرف.
وكرهوا "من قبل ومن بعد" فتصير كالمضاف الذي حكيناه بغير ياء، فأدخلوا الضمة التي لا تكون للظرف؛ ليدلوا على أنهم لا يريدون الإعراب، كما قالوا: اضرب الرجل فكسروا، والكسر لا يدخل الفعل للإعراب كما يدخل الاسم؛ فأرادوا أن يدلوا على أن الحركة هاهنا لالتقاء الساكنين لا للإعراب؛ إذ كان الخفض لا يدخل الفعل). [معاني القرآن لقطرب: 424]
قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ يَحْيَى بْنِ المُبَارَكِ اليَزِيدِيُّ (ت: 237هـ): ({ويكفرون بما وراءه}: بما بعده). [غريب القرآن وتفسيره: 77]
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ السَّرِيِّ الزَّجَّاجُ (ت: 311هـ): (وقوله عزّ وجلّ: {وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ مصدّقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين} أي: بالقرآن الذي أنزل اللّه على النبي -صلى الله عليه وسلم-.
{قالوا نؤمن بما أنزل علينا} وقد بين الله أنهم غير مؤمنين بما أنزل عليهم، وقد بيّنّا ذلك فيما مضى.
وقوله تعالى: {ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ} معناه: ويكفرون بما بعده، أي: بما بعد الذي أنزل عليهم، {وهو الحقّ مصدّقا لما معهم} فهذا يدل على أنهم قد كفروا بما معهم إذ كفروا بما يصدّق ما معهم، نصب {مصدقا} على الحال، وهذه حال مؤكدة،
زعم سيبويه والخليل وجميع النحويين الموثوق بعلمهم أن قولك "هو زيد قائما" خطأ، لأن قولك "هو زيد" كناية عن اسم متقدم فليس في الحال فائدة، لأن الحال توجب ههنا إنّه إذا كان قائما فهو زيد، فإذا ترك القيام فليس بزيد، وهذا خطأ.
فأما قولك "هو زيد معروفا"، و"هو الحق مصدقا"، ففي الحال فائدة، كأنك قلت: انتبه له معروفا، وكأنه بمنزلة قولك "هو زيد حقا"، فـ"معروفا" حال لأنه إنما يكون زيدا لأنه يعرف بزيد، وكذلك "الحق"، القرآن هو الحق إذ كان مصدقا لكتب الرسل.
أكذبهم اللّه في قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} فقال: {قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين} أي: أيّ كتاب جوّز فيه قتل نبي؟ وأي دين وإيمان جوز فيه ذلك؟
فإن قال قائل: فلم قيل لهم فلم تقتلون أنبياء الله من قبل، وهؤلاء لم يقتلوا نبيا قط؟
قيل له: قال أهل اللغة في هذا قولين:
أحدهما: إن الخطاب لمن شوهد من أهل مكة ومن غاب خطاب واحد، فإذا قتل أسلافهم الأنبياء وهم مقيمون على ذلك المذهب فقد شركوهم في قتلهم.
وقيل أيضا: لم رضيتم بذلك الفعل، وهذا القول الثاني يرجع إلى معنى الأول.
وإنما جاز أن يذكر هنا لفظ الاستقبال والمعنى المضي لقوله {من قبل} ودليل ذلك قوله {قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبيّنات وبالّذي قلتم فلم قتلتموهم} فقوله {فلم تقتلون} بمنزلة (فلم قتلتم).
وقيل في قوله: {إن كنتم مؤمنين} قولان:
أحدهما: ما كنتم مؤمنين،
وقيل: إنّ إيمانكم ليس بإيمان، و"الإيمان" ههنا واقع على أصل العقد والدين، فقيل لهم: ليس إيمان إيمانا إذا كان يدعو إلى قتل الأنبياء). [معاني القرآن: 1/ 174-175]
قَالَ غُلاَمُ ثَعْلَبٍ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ الوَاحِدِ البَغْدَادِيُّ (ت:345 هـ):{وراءه}: سواه، و"الوراء" -أيضاً-: الخلف، والوراء -أيضاً-: القدام، والوراء -أيضاً-: ابن الابن). [ياقوتة الصراط: 176]
قَالَ مَكِّيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ القَيْسِيُّ (ت: 437هـ): ({وَرَاءهُ}: ما بعده). [العمدة في غريب القرآن: 80]

إشراق المطيري 1 جمادى الآخرة 1434هـ/11-04-2013م 09:16 PM

التفسير اللغوي المجموع
[ما استخلص من كتب علماء اللغة مما له صلة بهذا الدرس]

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}
قالَ المبرِّدُ محمَّدُ بنُ يزيدَ الثُّمَالِيُّ (ت: 285هـ): (وروي عن أبي عبيدة من غير وجه، أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس، فقال: أرأيت نبي الله سليما صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مع ما خوله الله وأعطاه، كيف عني بالهدهد على قلته وضؤولته?
فقال له ابن عباس: «إنه احتاج إلى الماء، والهدهد قناء، والأرض له كالزجاجة، يرى باطنها من ظاهرها، فسأل عنه لذلك»،
قال ابن الأزرق: قف يا وقاف، كيف يبصر ما تحت الأرض، والفخ يغطى له بمقدار إصبع من تراب فلا يبصره حتى يقع فيه!
فقال ابن عباس: «ويحك يا ابن الأزرق! أما علمت أنه إذا جاء القدر عشي البصر».
ومما سأله عنه: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ}، فقال ابن عباس:«تأويله: هذا القرآن». هكذا جاء، ولا أحفظ عليه شاهدًا عن ابن عباس، وأنا أحسبه أنه لم يقبله إلا بشاهد، وتقديره عند النحويين: إذا قال: "ذلك الكتاب" أنهم قد كانوا وعدوا كتابًا؛ هكذا التفسير، كما قال جل ثناؤه: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}؛ ويعني بذلك اليهود، وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، فمعناه: هذا الكتاب الذي كنتم تتوقعونه.
وبيت خفاف بن ندبة على ذلك يصح معناه. وكان من خبره أنه غزا مع معاوية بن عمرو -أخي الخنساء- مرة وفزارة، فعمد ابنا حرملة: دريد وهاشم المريان عمد معاوية، فاستطرد له أحدهما، فحمل عليه معاوية، فطعنه، وحمل الآخر على معاوية فطعنه متمكنًا، وكان صميم الخيل، فلما تنادوا معاوية: قال خفاف بن ندبة -وهي أمه، وكانت حبشية، وأبوه عمير، وهو أحد بني سليم بن منصور-: قتلني الله إن رمت حتى أثأر به، فحمل على مالك بن حمار -وه سيد بن شمخ بن فزارة- فطعنه فقتله، فقال خفاف بن ندبة:
وإن تك خيلي قد أصيب صميمها ....... فعـمـدًا عـلـى عيـنـي تيمـمـت هالـكـا
وقفت له علوى وقد خـام صحبتـي ....... لأبـــنـــي مـــجـــدًا أو لأثــــــأر هــالــكـــا
أقــــــول لــــــه والـــرمـــح يـــأطـــر مــتــنــه ....... تـــأمـــل خــفــافًــا إنـــنـــي أنـــــــا ذلـــكــــا
يريد: أنا ذلك الذي سمعت به. هذا تأويل هذا.
وقوله: "يأطر متنه" أي: يثني. يقال: أطرت القوس آطرها أطرًا، وهي مأطورة. وعلوى: فرسه.
ومما سأله عنه قوله عز وجل: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}، فقال ابن عباس: «غير مقطوع»، فقال: هل تعرف ذلك العرب? فقال:«قد عرفه أخو بني يشكر حيث يقول:

وترى خلفهن من سرعة الرجــ....... ـع مــنــيـــنًـــا كـــــأنـــــه إهـــــبــــــاء
».
قال أبو العباس: منين، يعني الغبار، وذلك أنها تقطعه قطعًا وراءها.
والمنين: الضعيف المؤذن بانقطاع، أنشدني التوزي عن أبي زيد:
يـا ريهـا إن سلـمـت يميـنـي ....... وسلم الساقي الذي يليني
ولم تخني عقد المنين
يريد الحبل الضعيف، فهذا هو المعروف.
ويقال: منين وممنون، كقتيل ومقتول، وجريح ومجروح. وذكر التوزي في كتاب الأضداد أن المنين يكون القوي، فجعله "فعيلا" من "المنة"، والمعروف هو الأول.
وقال غير ابن عباس: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} لا يمن عليهم فيكدر عندهم). [الكامل: 3/ 1149-1152] (م)
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): ({فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أي: من علم محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا يكتمونه. ومثله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}، وهو محمد صلى الله عليه وسلم). [مجالس ثعلب: 174-175] (م)

تفسير قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
قَالَ سِيبَوَيْهِ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قُنْبُرٍ (ت: 180هـ): (وتقول: لا يلبث أن يأتيك، أي: لا يلبث عن إتيانك، وقال تعالى: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا} فـ(أن) محمولة على كان، كأنه قال: فما كان جواب قومه إلا قول كذا وكذا، وإن شئت رفعت الجواب فكانت (أن) منصوبةً.
وتقول: ما منعك أن تأتينا، أراد: من إتياننا، فهذا على حذف حرف الجر.
وفيه ما يجيء محمولاً على ما يرفع وينصب من الأفعال، تقول: قد خفت أن تفعل، وسمعت عربياً يقول: أنعم أن تشده، أي: بالغ في أن يكون ذلك، هذا المعنى، و(أن) محمولة على (أنعم)، وقال جل ذكره: {بئسما اشتروا به أنفسهم} ثم قال: {أن يكفروا} على التفسير، كأنه قيل له: ما هو؟ فقال: هو أن يكفروا). [الكتاب: 3/ 155] (م)

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ الهَرَوِيُّ (ت: 224 هـ) : (وراء يكون خلف وقدام). [الغريب المصنف: 2/ 629] (م)
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): (وفي قوله عز وجل: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} فإنه قال: إذا جاء بعد المجهول مؤنث ذكر وأنث، إنه قام هند وإنه قامت هند؛ لأن الفعل يؤنث ويذكر. وقوله:
مثل الفراخ نتقت حواصله، مثل: الأقصرين أمازره.
وقوله عز وجل: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} قال: وصف فعل آبائهم وما تقدم منهم، فتابعوهم هؤلاء على ما كانوا عليه، كما تقول: قتلنا بني فلان. وأنت لم تقتلهم، إنما قتلهم آباؤك من قبل.
قال: إذا أسقطت الإضافة ضم وترك تنوين ما كان منونًا، فقيل: من قبل ومن قبل. فمن كسر كانت الإضافة قائمة، ومن ضم جعله بدلا من الإضافة). [مجالس ثعلب: 102-103] (م)
قالَ أبو العبَّاسِ أَحمدُ بنُ يَحْيَى الشَّيبانِيُّ - ثَعْلَبُ - (ت:291هـ): ( {قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} قال: تابعوا هؤلاء أولئك فنسب القتل إليهم). [مجالس ثعلب: 401]
قالَ محمَّدُ بنُ القاسمِ بنِ بَشَّارٍ الأَنْبَارِيُّ: (ت: 328 هـ): (ووراء من الأضداد. يقال للرجل: وراءك أي: خلفك، ووراءك أي: أمامك، قال الله عز وجل: {من ورائهم جهنم}، فمعناه: (من أمامهم). وقال تعالى: {وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا}، فمعناه: (وكان أمامهم). وقال الشاعر:
ليس على طول الحياة ندم ....... ومـــن وراء الـمــرء مـــا يـعـلـم
أي: من أمامه، وقال الآخر:
أترجو بنوا مروان سمعي وطاعتي ....... وقــومـــي تـمــيــم والــفـــلاة ورائـــيـــا
أراد: قدامي. وقال الآخر:
ألـيـس ورائــي إن تـراخــت منـيـتـي ....... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
وقال الآخر:
أليس ورائي أن أدب على العصا ....... فيـأمـن أعـدائـي ويسـأمـنـي أهـلــي
والوراء: ولد الولد، قال حيان بن أبجر: كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل من هذيل، فقال له: ما فعل فلان؟ لرجل منهم، فقال: «مات وترك كذا وكذا من الولد، وثلاثة من الوراء»؛ يريد: من ولد الولد.
وحكى الفراء عن بعض المشيخة، قال: أقبل الشعبي ومعه ابن ابن له، فقيل له: أهذا ابنك؟ فقال:«هذا ابني من الوراء»، يريد من ولد الولد.
وقال الله عز وجل: {ومن وراء إسحاق يعقوب} يريد: من ولد ولده.
والورى مقصور: الخلق، يقال: ما أدري أي الورى هو؟ يراد: أي الناس هو؟ قال ذو الرمة:
وكائن ذعرنا من مهاة ورامح ....... بلاد الـورى ليسـت لـه ببـلاد
والورى: داء يفسد الجوف، من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا»، أي: حتى يفسد جوفه منه، قال الشاعر:

هـلــم إلـــى أمـيــة إن فـيـهـا....... شفاء الواريات من الغليل
وقال الآخر:
وراهـن ربـي مثـل مـا قـد وريننـي ....... وأحمي على أكبادهن المكاويا
وقال آخر:
قـالــت لـــه وريـــا إذا تـنـحـنـح ....... يا ليته يسقى على الذرحرح
الذرحرح: واحد الذراريح.
ويقال في دعاء للعرب: به الورى، وحمى خيبري، وشر ما يرى، فإنه خيسرى.
وقال أبو العباس: الورى: المصدر، بتسكين الراء، والورى -بفتح الراء- الاسم، وأنشد قطرب للنابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة....... وليس وراء الله للمـرء مذهـب
أراد: وليس قدامه، ويقال: معناه: وليس سواء الله؛ كما قال جل اسمه: {ويكفرون بما وراءه} أي: بما سواءه، ويقال للرجل إذا تكلم: ليس وراء هذا الكلام شيء، أي: ليس يحسن سواءه. وأنشد قطرب أيضا:
أتـوعـدنــي وراء بــنــي ريــــاح ....... كذبت لتقصرن بذاك عني
). [كتاب الأضداد: 68-71] (م)

محمد أبو زيد 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م 12:52 PM

تفاسير القرن الثالث الهجري


.....

محمد أبو زيد 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م 12:52 PM

تفاسير القرن الرابع الهجري


.....

محمد أبو زيد 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م 12:53 PM

تفاسير القرن الخامس الهجري


.....

محمد أبو زيد 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م 12:53 PM

تفاسير القرن السادس الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين (89) بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغياً أن ينزّل اللّه من فضله على من يشاء من عباده فباؤ بغضبٍ على غضبٍ وللكافرين عذابٌ مهينٌ (90) وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ مصدّقاً لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين (91)}
- الكتاب: القرآن،
- و(مصدّقٌ لما معهم) يعني التوراة، وروي أن في مصحف أبي بن كعب «مصدقا» بالنصب.
- و(يستفتحون) معناه أن بني إسرائيل كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم قد علموا خروجه بما عندهم من صفته وذكر وقته، وظنوا أنه منهم، فكانوا إذا حاربوا الأوس والخزرج فغلبتهم العرب قالوا لهم: لو قد خرج النبي الذي قد أظل وقته لقاتلناكم معه واستنصرنا عليكم به، و(يستفتحون) معناه: يستنصرون، وفي الحديث: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفتح بصعاليك المهاجرين»، وروي أن قريظة والنضير وجميع يهود الحجاز في ذلك الوقت كانوا يستفتحون على سائر العرب، وبسبب خروج النبي المنتظر كانت نقلتهم إلى الحجاز وسكناهم به، فإنهم كانوا علموا صقع المبعث، وما عرفوا أنه محمد عليه السلام وشرعه، ويظهر من هذه الآيات العناد منهم، وأن كفرهم كان مع معرفة ومعاندة،
- و«لعنة الله» معناه: إبعاده لهم وخزيهم لذلك.
واختلفت النحاة في جواب (لمّا) و(لمّا) الثانية في هذه الآية؛
- فقال أبو العباس المبرد: جوابهما في قوله: {كفروا}، وأعيدت (لما) الثانية لطول الكلام، ويفيد ذلك تقريرا للذنب، وتأكيدا له،
- وقال الزجاج: (لمّا) الأولى لا جواب لها للاستغناء عن ذلك بدلالة الظاهر من الكلام عليه. قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فكأنه محذوف،
- وقال الفراء: جواب (لمّا) الأولى في الفاء وما بعدها، وجواب (لما) الثانية: (كفروا) ). [المحرر الوجيز: 1/ 280-281]

تفسير قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : («وبيس» أصله «بئس» سهلت الهمزة ونقلت إلى الباء حركتها، ويقال في «بئس»: «بيس» إتباعا للكسرة، وهي مستوفية للذم كما (نعم) مستوفية للمدح،
واختلف النحويون في (بئسما) في هذا الموضع؛
- فمذهب سيبوية أن «ما» فاعلة بـ(بئس)، ودخلت عليها (بيس) كما تدخل على أسماء الأجناس والنكرات لما أشبهتها «ما» في الإبهام، فالتقدير على هذا القول: بيس الذي اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، كقولك: بيس الرجل زيد، و«ما» في هذا القول موصولة،
- وقال الأخفش: «ما» في موضع نصب على التمييز، كقولك: «بيس رجلا زيد»، فالتقدير: «بيس شيئا أن يكفروا»، و(اشتروا به أنفسهم) في هذا القول صفة «ما»،
- وقال الفراء: «بئسما بجملته شيء واحد ركب كحبذا»، وفي هذا القول اعتراض لأنه فعل يبقى بلا فاعل، و«ما» إنما تكف أبدا حروفا،
- وقال الكسائي: «ما» و(اشتروا) بمنزلة اسم واحد قائم بنفسه، فالتقدير: بيس اشتراؤهم أنفسهم أن يكفروا، وهذا أيضا معترض لأن «بيس» لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى الضمير،
وقال الكسائي أيضا: إن «ما» في موضع نصب على التفسير وثم «ما» أخرى مضمرة، فالتقدير: بيس شيئا ما اشتروا به أنفسهم، و(أن يكفروا) في هذا القول بدل من «ما» المضمرة،
- ويصح في بعض الأقوال المتقدمة أن يكون (أن يكفروا) في موضع خفض بدلا من الضمير في (به)، وأما في القولين الأولين فـ(أن يكفروا) ابتداء وخبره فيما قبله،
و(اشتروا) بمعنى باعوا، يقال: شرى واشترى بمعنى باع، وبمعنى ابتاع،
و(بما أنزل اللّه) يعني به القرآن،
- ويحتمل أن يراد به التوراة لأنهم إذ كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام فقد كفروا بالتوراة،
- ويحتمل أن يراد به الجميع من توراة وإنجيل وقرآن، لأن الكفر بالبعض يلزم الكفر بالكل،
و(بغياً) مفعول من أجله، وقيل: نصب على المصدر،
و(أن ينزّل) نصب على المفعول من أجله أو في موضع خفض بتقدير: بأن ينزل.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير «أن ينزل» بالتخفيف في النون والزاي،
و(من فضله) يعني من النبوة والرسالة.
و(من يشاء) يعني به محمدا صلى الله عليه وسلم لأنهم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب. ويدخل في المعنى عيسى عليه السلام لأنهم قد كفروا به بغيا، والله قد تفضل عليه،
و«باؤوا» معناه: مضوا متحملين لما يذكر أنهم باؤوا به،
و(بغضبٍ) معناه من الله تعالى لكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم على غضب متقدم من الله تعالى عليهم،
- قيل: لعبادتهم العجل،
- وقيل: لقولهم عزير ابن الله،
- وقيل: لكفرهم بعيسى عليه السلام.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: فالمعنى: على غضب قد باء به أسلافهم حظ هؤلاء منه وافر بسبب رضاهم بتلك الأفعال وتصويبهم لها.
- وقال قوم: المراد بقوله: {بغضبٍ على غضبٍ} التأكيد وتشديد الحال عليهم لا أنه أراد غضبين معللين بقصتين،
و(مهينٌ) مأخوذ من الهوان، وهو ما اقتضى الخلود في النار، لأن من لا يخلد من عصاة المسلمين إنما عذابه كعذاب الذي يقام عليه الحد، لا هوان فيه بل هو تطهير له). [المحرر الوجيز: 1/ 281-283]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم} يعني: اليهود أنهم إذا قيل لهم: آمنوا بالقرآن الذي أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا: نؤمن بما أنزل علينا يعنون التوراة وما وراءه.
- قال قتادة: «أي: ما بعده»،
- وقال الفراء: أي: ما سواه ويعني به القرآن، وإذا تكلم رجل أو فعل فعلا فأجاد يقال له: ما وراء ما أتيت به شيء، أي: ليس يأتي بعده.
ووصف الله تعالى القرآن بأنه الحق، و(مصدّقاً) حال مؤكدة عند سيبويه، وهي غير منتقلة، وقد تقدم معناها في الكلام ولم يبق لها هي إلا معنى التأكيد، وأنشد سيبويه على الحال المؤكدة:
أنا ابن دارة معروفا بها حسبي ....... وهل لدارة يا للنّاس من عار
و(لما معهم) يريد به التوراة.
وقوله تعالى: {قل فلم تقتلون} الآية، رد من الله تعالى عليهم في أنهم آمنوا بما أنزل عليهم، وتكذيب منه لهم في ذلك، واحتجاج عليهم.
ولا يجوز الوقف على (فلم) لنقصان الحرف الواحد إلا أن البزي وقف عليه بالهاء، وسائر القراء بسكون الميم.
وخاطب الله من حضر محمدا صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل بأنهم قتلوا الأنبياء لما كان ذلك من فعل أسلافهم.
وجاء (تقتلون) بلفظ الاستقبال وهو بمعنى المضي لما ارتفع الإشكال بقوله (من قبل)، وإذا لم يشكل فجائز سوق الماضي بمعنى المستقبل، وسوق المستقبل بمعنى الماضي. قال الحطيئة:
شهد الحطيئة يوم يلقى ربه ....... أن الوليد أحق بالعذر
وفائدة سوق الماضي في موضع المستقبل، الإشارة إلى أنه في الثبوت كالماضي الذي قد وقع.
وفائدة سوق المستقبل في معنى الماضي الإعلام بأن الأمر مستمر. ألا ترى أن حاضري محمد صلى الله عليه وسلم لما كانوا راضين بفعل أسلافهم بقي لهم من قتل الأنبياء جزء،
و(إن كنتم) شرط والجواب متقدم، وقالت فرقة: (إن) نافية بمعنى (ما) ). [المحرر الوجيز: 1/ 283-285]

محمد أبو زيد 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م 12:53 PM

تفاسير القرن السابع الهجري


.....

محمد أبو زيد 28 جمادى الأولى 1435هـ/29-03-2014م 12:53 PM

تفاسير القرن الثامن الهجري

تفسير قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين (89)}
يقول تعالى: {ولمّا جاءهم} يعني اليهود {كتابٌ من عند اللّه} وهو: القرآن الذي أنزل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم {مصدّقٌ لما معهم} يعني: من التّوراة، وقوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} أي: وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرّسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، يقولون: إنّه سيبعث نبيٌّ في آخر الزّمان نقتلكم معه قتل عادٍ وإرم، كما قال محمّد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر عن قتادة الأنصاريّ، عن أشياخٍ منهم قال: قالوا:«فينا واللّه وفيهم -يعني في الأنصار وفي اليهود الّذين كانوا جيرانهم- نزلت هذه القصّة -يعني: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به}-»،
قالوا: «كنّا قد علوناهم دهرًا في الجاهليّة، ونحن أهل شركٍ وهم أهل كتابٍ، فكانوا يقولون: إنّ نبيًّا من [الأنبياء] يبعث الآن نتبعه، قد أظلّ زمانه، نقتلكم معه قتل عادٍ وإرم. فلمّا بعث اللّه رسوله من قريشٍ [واتّبعناه] كفروا به. يقول اللّه تعالى: {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين} [النّساء: 155]».
- وقال الضّحّاك، عن ابن عبّاسٍ، في قوله: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} قال: «يستظهرون يقولون: نحن نعين محمّدًا عليهم، وليسوا كذلك، يكذبون».
- وقال محمّد بن إسحاق: أخبرني محمّد بن أبي محمّدٍ، أخبرني عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «أنّ يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم- قبل مبعثه. فلمّا بعثه اللّه من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه. فقال لهم معاذ بن جبلٍ، وبشر بن البراء بن معرور أخو بني سلمة: يا معشر يهود، اتّقوا اللّه وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم ونحن أهل شركٍ، وتخبروننا بأنّه مبعوثٌ، وتصفونه لنا بصفته. فقال سلام بن مشكم أخو بني النّضير: ما جاءنا بشيءٍ نعرفه، وما هو بالذي كنّا نذكر لكم فأنزل اللّه في ذلك من قولهم: {ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه مصدّقٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}».
- وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} يقول: «يستنصرون بخروج محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم على مشركي العرب -يعني بذلك أهل الكتاب-، فلمّا بعث محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم ورأوه من غيرهم كفروا به وحسدوه».
- وقال أبو العالية: «كانت اليهود تستنصر بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم على مشركي العرب، يقولون: اللّهمّ ابعث هذا النّبيّ الذي نجده مكتوبًا عندنا حتّى نعذّب المشركين ونقتلهم. فلمّا بعث اللّه محمّدًا صلّى اللّه عليه وسلّم، ورأوا أنّه من غيرهم، كفروا به حسدًا للعرب، وهم يعلمون أنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اللّه: {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}».
- وقال قتادة: {وكانوا من قبل يستفتحون على الّذين كفروا} قال: «كانوا يقولون: إنّه سيأتي نبيٌّ. {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به}».
- وقال مجاهدٌ: {فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين} قال: «هم اليهود».
- وقال الإمام أحمد: حدّثنا يعقوب، حدّثنا أبي، عن ابن إسحاق، حدّثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرّحمن بن عوفٍ، عن محمود بن لبيدٍ أخي بني عبد الأشهل، عن سلمة بن سلامة بن وقشٍ وكان من أهل بدرٍ، قال: «كان لنا جارٌ يهوديٌّ في بني عبد الأشهل»، قال: «فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بيسيرٍ، حتّى وقف على مجلس بني عبد الأشهل».
قال سلمة:«وأنا يومئذٍ أحدث من فيهم سنًّا على بردةٍ مضطجعًا فيها بفناءٍ أصلي. فذكر البعث والقيامة والحسنات والميزان والجنّة والنّار. قال ذلك لأهل شركٍ أصحاب أوثانٍ لا يرون بعثًا كائنًا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنًا أنّ النّاس يبعثون بعد موتهم إلى دارٍ فيها جنّةٌ ونارٌ، يجزون فيها بأعمالهم؟ فقال: نعم، والذي يحلف به، لودّ أنّ له بحظّه من تلك النّار أعظم تنّورٍ في الدّنيا يحمونه ثمّ يدخلونه إيّاه فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النّار غدًا. قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبيٌّ يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكّة واليمن. قالوا: ومتى نراه؟»،
قال: «فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنًّا، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه».
قال سلمة: «فواللّه ما ذهب اللّيل والنّهار حتّى بعث اللّه رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم وهو بين أظهرنا، فآمنّا به وكفر به بغيًا وحسدًا. فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى وليس به». تفرّد به أحمد.
- وحكى القرطبيّ وغيره، عن ابن عبّاسٍ رضي اللّه عنهما:«أنّ يهود خيبر اقتتلوا في زمان الجاهليّة مع غطفان فهزمتهم غطفان، فدعا اليهود عند ذلك، فقالوا: اللّهمّ إنّا نسألك بحقّ النّبيّ الأمّيّ الذي وعدتنا بإخراجه في آخر الزّمان، إلّا نصرتنا عليهم».
قال:«فنصروا عليهم».
قال: «وكذلك كانوا يصنعون يدعون اللّه فينصرون على أعدائهم ومن نازلهم. قال اللّه تعالى: {فلمّا جاءهم ما عرفوا} أي: من الحقّ وصفة محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم {كفروا به فلعنة اللّه على الكافرين}»). [تفسير ابن كثير: 1/ 325-327]

تفسير قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيًا أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضبٍ على غضبٍ وللكافرين عذابٌ مهينٌ (90)}
- قال مجاهدٌ: «{بئسما اشتروا به أنفسهم} يهود شروا الحقّ بالباطل، وكتمان ما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم بأن يبيّنوه».
- وقال السّدّيّ: «{بئسما اشتروا به أنفسهم} يقول: باعوا به أنفسهم»، يعني: بئسما اعتاضوا لأنفسهم ورضوا به [وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل اللّه على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم إلى تصديقه ومؤازرته ونصرته]. وإنّما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية {أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده} ولا حسد أعظم من هذا.
- قال ابن إسحاق عن محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيدٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه بغيًا أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده} أي: إنّ اللّه جعله من غيرهم»، {فباءوا بغضبٍ على غضبٍ} قال ابن عبّاسٍ: «فالغضب على الغضب، فغضبه عليهم فيما كانوا ضيّعوا من التّوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النّبيّ الذي أحدث اللّه إليهم».
قلت: ومعنى {باءوا} استوجبوا، واستحقّوا، واستقرّوا بغضبٍ على غضبٍ.
- وقال أبو العالية: «غضب اللّه عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثمّ غضب عليهم بكفرهم بمحمّدٍ، وبالقرآن عليهما السّلام»، [وعن عكرمة وقتادة مثله].
- قال السّدّيّ: «أمّا الغضب الأوّل فهو حين غضب عليهم في العجل، وأمّا الغضب الثّاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم»، [وعن ابن عبّاسٍ مثله].
وقوله: {وللكافرين عذابٌ مهينٌ} لمّا كان كفرهم سببه البغي والحسد، ومنشأ ذلك التّكبّر، قوبلوا بالإهانة والصّغار في الدّنيا والآخرة، كما قال تعالى: {إنّ الّذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنّم داخرين} [غافر: 60]، [أي: صاغرين حقيرين ذليلين راغمين].
- وقد قال الإمام أحمد: حدّثنا يحيى، حدّثنا ابن عجلان، عن عمرو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدّه، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «يحشر المتكبّرون يوم القيامة أمثال الذّرّ في صور النّاس، يعلوهم كلّ شيءٍ من الصّغار حتّى يدخلوا سجنًا في جهنّم، يقال له: بولس فيعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال: عصارة أهل النّار»). [تفسير ابن كثير: 1/ 327-328]

تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللّه قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ مصدّقًا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين (91) ولقد جاءكم موسى بالبيّنات ثمّ اتّخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون (92)}
يقول تعالى: {وإذا قيل لهم} أي: لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب {آمنوا بما أنزل اللّه} [أي]: على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم وصدّقوه واتّبعوه {قالوا نؤمن بما أنزل علينا} أي: يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التّوراة والإنجيل ولا نقرّ إلّا بذلك، {ويكفرون بما وراءه} يعني: بما بعده {وهو الحقّ مصدّقًا لما معهم} أي: وهم يعلمون أنّ ما أنزل على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم الحقّ {مصدّقًا} منصوبٌ على الحال، أي: في حال تصديقه لما معهم من التّوراة والإنجيل، فالحجّة قائمةٌ عليهم بذلك، كما قال تعالى: {الّذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم} [البقرة: 146] ثمّ قال تعالى: {[قل] فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين} أي: إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاؤوكم بتصديق التّوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها، وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغيًا [وحسدًا] وعنادًا واستكبارًا على رسل اللّه، فلستم تتّبعون إلّا مجرّد الأهواء، والآراء والتّشهّي كما قال تعالى {أفكلّما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقًا كذّبتم وفريقًا تقتلون} [البقرة: 87].
- وقال السّدّيّ في هذه الآية: «يعيّرهم اللّه تعالى: {قل فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين}».
- وقال أبو جعفر بن جريرٍ: قل يا محمّد ليهود بني إسرائيل -[الّذين] إذا قلت لهم: آمنوا بما أنزل اللّه، قالوا: {نؤمن بما أنزل علينا}-: لم تقتلون -إن كنتم يا معشر اليهود مؤمنين بما أنزل اللّه عليكم- أنبياءه، وقد حرّم اللّه في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم، بل أمركم فيه باتّباعهم وطاعتهم وتصديقهم، وذلك من اللّه تكذيبٌ لهم في قولهم: {نؤمن بما أنزل علينا} وتعييرٌ لهم). [تفسير ابن كثير: 1/ 328-329]


الساعة الآن 09:56 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة