تمهيد
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تمهيد الحمد لله الذي أنزل إلينا كتابه الكريم، المبارك العظيم، وجعله أفضل الكتب وأعظمها، وأكثرها بركة وأكرمها، وأرسل إلينا أفضل رسله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أكرم الناس نسباً، وأزكاهم نفساً، وأطهرهم قلباً، وأحسنهم خلقاً، وأفصحهم بيانا، وجعل شريعته أحسن الشرائع وأكملها وأعظمها، وجعل أمَّته خير أمّة أخرجت للناس، وأكرمها على ربّها، وأنزل إليه كتابه الكريم في خير ليلة، وأشرف بقعة؛ وبواسطة أشرف ملائكته؛ فاختار لكتابه الكريم من كلّ شيء أحسنه وأشرفه وأكرمه؛ فاجتمعت له محاسن الفضائل، وأشرف الخصائل. أما بعد: فهذا كتابٌ موجز البيان عن فضائل القرآن، أسأل الله تعالى أن يتقبّله بقبوله الحسن وأن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره، وأن يرزقنا حسن تلاوة كتابه وصدق الإيمان به، وأن يدخلنا مع أهل القرآن الذين هم أهله وخاصّته إنّه كريم وهّاب. وقد كان أصل هذا الكتاب دورة علمية ألقيتها في معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد على قسمين: كان القسم الأول منها في جمادى الأولى عام 1437 هـ. والقسم الثاني في رجب من العام نفسه. ثمّ أعدت النظر في مادّة هذه الدورة مراجعة وتهذيباً لتخرج في هذا الكتاب في شهر رمضان المبارك، والله الموفّق والهادي إلى سواء السبيل). [بيان فضل القرآن:5] |
الباب الأول: مقدمات فـي فضائل القرآن المقدمة الأولى: التعريف بطرق بيان فضل القرآن قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدمة الأولى: التعريف بطرق بيان فضل القرآن فضل القرآن الكريم يتبيّن من طرق متنوّعة متظافرة: فأولها: أنه كلام الله جل وعلا ، وكلام الله صفة من صفاته، وصفات الله تعالى لها آثارها التي لا تتخلّف عنها؛ فهو العليم الذي وسع علمه كلّ شيء؛ والقدير الذي لا يعجزه شيء، وهو العزيز الحكيم، والرحمن الرحيم، والعليّ العظيم، والحميد المجيد، والواسع المحيط، والحقّ المبين، إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي من تفكّر فيها وآمن بها أدرك أن لها آثاراً تتجلّى في كلامه جلّ وعلا، وأن كلامه – تعالى – لا يمكن أن يكون فيه ما هو خلاف مقتضى أسمائه وصفاته، وأن هذا القرآن العظيم لا يمكن أن يكون من قول البشر، ولا من قول الشياطين {وما ينبغي لهم وما يستطيعون}. وقد قال جماعة من السلف: (فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه) وروي مرفوعاً من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ولا يصح. لكنّه دالّ على معنى صحيح في نفسه، وهو أنّ صفات كل موصوف بحسبه، فكلام البشر يكون مبلغهم فيه مبلغ علمهم وقدرتهم وبيانهم، ويكون فيه من النقص والضعف والخطأ ما يناسب صفاتهم. وكلام الله تعالى كلام عن علم تامّ وقدرة لا يعجزها شيء، وإحاطة بكلّ شيء، وحكمة بالغة، ورحمة سابغة، وحقّ لا يعتريه باطل، وبيان لا اختلاف فيه، إلى غير ذلك من صفاته جلّ وعلا التي لها آثارها ومقتضياتها، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}. ولذلك قال ابن عطية رحمه الله في مقدّمة تفسيره: (كتاب الله لو نُزِعَت منه لفظةٌ ثم أديرَ لسانُ العربِ في أن يوجدَ أحسنَ منها لم يوجد). وهذا مبناه – كما تقدّم - على سَعَة علم الله عزّ وجلّ وإحاطته بكلّ الألفاظ ودلالاتها وأوجه استعمالاتها، وعلى عظيم قدرته جلّ وعلا، وأنّه لا يعجزه شيء؛ فإذا اجتمع العلم المحيط بكل شيء، مع القدرة على كلّ شيء؛ فلا يُمكن أن يأتي أحد بتعبير أحسن من تعبير القرآن؛ لأنه ما من لفظة يدركها علم المخلوق إلا والله تعالى أعلم بها منه من قبل أن يُخلق. وثانيها: أن الله تعالى وصف القرآن العظيم بصفات جليلة ذات معانٍ عظيمة وآثار مباركة لا تتخلّف عنها؛ وهي أوصاف من عليم خبير، تتضمّن مع إفادة الوصف وبيان الفضل وعوداً كريمة، وشروطاً من قام بتحقيقها ظفر بموعوده بها، ولذلك كان التفكّر فيما وصف الله به كتابه من تلك الصفات الجليلة، وتأمّل آثارها ودلائلها من أخصّ أبواب الانتفاع بالقرآن. وهذه الصفات التي وصف الله بها كتابه الكريم من أعظم دلائل فضله. وثالثها: أن الله تعالى يحبّه، وتلك المحبّة لها آثارها ودلائلها المباركة، وما أودع الله تعالى فيه من البركات والخير العظيم، وما جعل له من شأنٍ عظيمٍ في الدنيا والآخرة هو من دلائل محبّة الله تعالى له. ورابعها: أنّ الله تعالى أخبر عنه بأخبار كثيرة تبيّن فضله وشرفه في الدنيا والآخرة، وبيّن من مقاصده وآثاره ما يدلّ دلالة بيّنة على فضله. وخامسها: أنَّ الله تعالى أقسم به في مواضع كثيرة من كتابه، فقال تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}، وقال: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، وقال: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}، وقال: { وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}، وفي الإقسام به دلالة بينة على تشريفه وتكريمه ورفعة مقامه، وأقسم الله تعالى – أيضاً – على ما يبيّن به فضله وشرفه ورفعته وكرمه؛ فقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)} وسادسها: أنّ الله تعالى جعل له أحكاماً كثيرة في الشريعة ترعى حرمته، وتبيّن فضله، ومن ذلك أن جعل الإيمان به من أصول الإيمان التي لا يصح إلا بها، وأوجب تلاوة آياته في كلّ ركعة من الصلوات، حتى جعل للمصحف الذي يُكتب فيه أحكاماً كثيرة، وحرمة عظيمة في الشريعة. وسابعها: أن الله تعالى رغّب في تلاوته ورتّب عليها أجوراً عظيمة مضاعفة أضعافاً كثيرة، وكثرة ثواب تلاوته وتنوّعها من أظهر دلائل فضله، حتى انصرفت همّة كثير من المصنّفين في فضائل القرآن إلى تتبع ما روي في ثواب تلاوته. وثامنها: أنّ الله تعالى رفع شأن أهل القرآن؛ حتى جعلهم أهله وخاصّته، وجعل خير هذه الأمّة من تعلّم القرآن وعلّمه، وقدّمهم على غيرهم في الإمامة في الصلاة، وفي التقدّم إليه عند تزاحمهم في الإدخال في القبر، وجعل إجلالهم من إجلاله، ومحبّتهم من آثار محبّته، إلى غير ذلك مما شرّفهم به ورفعهم به من الخصال التي لم يبلغوها إلا بفضل هذا القرآن؛ فكان تكريمهم وتشريفهم ورفعتهم بالقرآن من الدلائل البيّنة على فضل القرآن).[بيان فضل القرآن :7 - 10] |
المقدمة الثانية: بيان ثمرات معرفة فضائل القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدمة الثانية: بيان ثمرات معرفة فضائل القرآن ومعرفة فضائل القرآن لها ثمرات جليلة، ومن أعظم ثمراتها: 1. أنها تبصّر المؤمن بأوجه فضائل القرآن وعظمة شأنه؛ فيعظّمه ويعظّم هداه ويرعى حرمته ويعرف قدره، وهذا أصل مهم في توقير القرآن وتعظيمه. 2. أنها تكسب المؤمن اليقين بصحّة منهجه، لأنّه مبنيّ على هدى القرآن، وقد تعرّف من دلائله ما يزيده طمأنينة بالحقّ الذي معه، ففي بصائر القرآن وهداياته ونوره ما يضيئ الطريق للسالكين، ويكشف شبهات المضلّين، ويفنّد مزاعم المفسدين، ويجعل لصاحبه فرقاناً يميّز به الحق من الباطل، والهدى من الضلالة، وأولياء الرحمن من أولياء الشيطان؛ فيجد في القرآن من أنواع التبصير والتثبيت ما يطمئنّ به، كما قال الله تعالى: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)}، وقال: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)} 3. أنها ترغّب المؤمن في مصاحبة القرآن؛ بالإيمان به واتّباع هداه والاستكثار من تلاوته والتفقّه فيه، والدعوة إليه، وتعليمه. 4. أنّها تدحض كيد الشيطان في التثبيط عن تلاوته والانتفاع به؛ فكلما ضعفت النفس، ووهن عزمها؛ ذكّرها بفضائل القرآن فاشتدت العزيمة، وعلت الهمّة، وشمّر تشمير المجتهدين؛ ليدرك نصيبه من الفضل العظيم. 5. أنها تحصّن المؤمن من طلب منهل للعلم والمعرفة يخالف منهج القرآن؛ ولا سيّما إذا عرف معاني صفات القرآن، وأدرك حقائقها وآثارها؛ فإنّه يتبيّن خسارة صفقة من استبدل به غيره، وحرمان من اشتغل بغيره. 6. أنها سبب لنجاة المؤمن من مضلات الفتن؛ فإنّ من أدرك تلك الفضائل ورسخت معرفتها في قلبه، عرف أنه لا بدّ أن يصدر في كل شأن من شؤونه عن هدى القرآن الذي من اعتصم به عُصم من الضلالة. 7. أنّها تفيده علماً شريفاً من أشرف العلوم، وأعظمها بركة، فالتفقّه في فضائل القرآن على طريقة أهل العلم من أعظم أوجه إعداد العدّة للدعوة إلى الله تعالى، والترغيب في تلاوة كتابه واتّباع هداه؛ فإنّه يجتمع للدارس في هذا العلم من تفسير الآيات المتعلّقة بفضائل القرآن، ومعرفة دلالاتها على أوجه فضائله، ومعرفة الأحاديث والآثار المروية في هذا العلم الجليل، وما ينتخبه من أقوال العلماء في بيان فضله؛ ما يستعدّ به للدعوة إلى الله على بصيرة، ولا يزال يضيف إلى ما جمعه ما يجد من الفوائد واللطائف والقصص والأخبار الصحيحة المنبّهة على فضائل القرآن، ويزكّي علمه شيئاً فشئياً بالدعوة والتعليم حتى يجد من بركات ما تعلّمه شيئاً كثيراً مباركاً؛ فقد يكون بكلمة واحدة سبباً في إقبال قلب مسلم على تلاوة القرآن وحفظه، وسبباً في ازدياد آخرين من تلاوته، وسبباً في عناية آخرين بهذا العلم وتعلّمه وتعليمه والدعوة به إلى الله؛ بل ربّما كان سبباً في إسلام أناس كانوا على الكفر؛ فخرجوا من الظلمات إلى النور بحسن ترغيبه وتعريفه بكتاب ربّه جلّ وعلا، فيكتسب – بفضل الله تعالى – من أنواع الأجور العظيمة ما لم يكن يخطر له على بال. ولذلك اعتنى كثير من العلماء بالتأليف في فضائل القرآن). [بيان فضل القرآن:10 - 12] |
المقدّمة الثالثة: ذكر المؤلّفات في فضائل القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدّمة الثالثة: ذكر المؤلّفات في فضائل القرآن اعتنى العلماء بالتأليف في فضائل القرآن لما يرجى فيه من الثواب العظيم؛ فقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» رواه مسلم من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا». وقد نشأ التأليف في فضائل القرآن في عهد مبكّر، وما يزال التأليف فيه إلى عصرنا الحاضر، ومن أهمّ الكتب المطبوعة في فضائل القرآن وأشهرها: 1. فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، وهو من أجلّ كتب الفضائل. 2. فضائل القرآن لسعيد بن منصور الخراساني، وهو كتاب كبير من سننه. 3. وكتاب فضائل القرآن من مصنّف ابن أبي شيبة. 4. وكتاب فضائل القرآن من صحيح البخاري. 5. وأبواب فضائل القرآن من صحيح مسلم. 6. وكتاب فضائل القرآن من جامع الترمذي. 7. كتاب فضائل القرآن لابن الضُّرَيس. 8. وكتاب فضائل القرآن لأبي بكر الفريابي. 9. كتاب فضائل القرآن لأبي عبد الرحمن النسائي. 10. وكتاب فضائل القرآن للحافظ المستغفري. 11. وكتاب فضائل القرآن وتلاوته لأبي الفضل الرازي. 12. وفضائل القرآن لضياء الدين المقدسي. 13. وكتاب "الإجلال والتعظيم في فضائل القرآن الكريم" لِعَلَمِ الدين السخاوي، وهو جزء من كتابه الكبير "جمال القرّاء وكمال الإقراء". 14. وكتاب لمحات الأنوار ونفحات الأزهار وري الظمآن لمعرفة ما ورد من الآثار في ثواب قارئ القرآن لأبي القاسم محمد بن عبد الواحد الغافقي، وهو من أكبر الكتب المصنّفة في فضائل القرآن لكنّه لم ينقّحه فوقع فيه غثّ كثير. 15. والوجيز في فضائل الكتاب العزيز للقرطبي. 16. وقاعدة في فضائل القرآن لابن تيمية. 17. وفضائل القرآن لابن كثير، وهو جزء من مقدّمة تفسيره. 18. ومورد الظمآن إلى معرفة فضائل القرآن لابن رجب الحنبلي. 19. وهبة الرحمن الرحيم من جنة النعيم في فضائل القرآن الكريم لمحمد هاشم السندي 20. وكتاب فضائل القرآن لمحمّد بن عبد الوهاب. 21. وموسوعة فضائل سور وآيات القرآن لمحمد بن رزق الطرهوني. وبعض هذه المصنّفات أجزاء من كتب الحديث، وقد اعتنى بها شرّاح الأحاديث فيما يشرحون من كتبه، ومنهم من يتوسّع في شرحه ومنهم من يختصر، ولذلك تجد لكتاب فضائل القرآن من صحيح البخاري شروحاً كثيرة لو جُمعت وأفردت في مؤلف لكان في مجلَّدات. وللمفسّرين عناية ببيان فضائل القرآن في مقدّمات تفاسيرهم، وفيما يفسّرون من الآيات الدالّة على فضل القرآن. ومن العلماء من أفرد فضائل بعض السور والآيات بمصنفات مستقلة). [بيان فضل القرآن:12 - 14] |
المقدّمة الرابعة: التعريف بطرق العلماء في التأليف في فضائل القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدّمة الرابعة: التعريف بطرق العلماء في التأليف في فضائل القرآن كان بيان فضائل القرآن في أوّل الأمر قائماً على تفسير الآيات الدالة على فضل القرآن، ورواية الأحاديث والآثار الواردة في ذلك. ثم لمّا بدأ عصر التدوين اعتنى بعض العلماء بتدوين ما روي في فضائل القرآن؛ وكان التأليف فيه على أنواع: النوع الأول: رواية الأحاديث والآثار الواردة في فضائل القرآن بالأسانيد وضمّها إلى دواوين السنة؛ كما فعل البخاري ومسلم وابن أبي شيبة والترمذي. والنوع الثاني: إفراد فضائل القرآن بالتأليف المستقلّ؛ ورواية ما ورد فيه من الأحاديث والآثار بالأسانيد؛ كما فعل أبو عبيد القاسم بن سلام والنسائي وابن الضريس والفريابي وأبو الفضل الرازي. والنوع الثالث: جمع ما رواه الأئمة وتصنيفه على الأبواب، وحذف الأسانيد اختصاراً كما فعل ابن الأثير في جامع الأصول، وابن حجر في المطالب العالية، والغافقي في كتابه الكبير في فضائل القرآن. والنوع الرابع: التصنيف المقتصر على بعض الأبواب المهمّة وترجمتها بما يبيّن مقاصدها وفقهها، كما فعل شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهاب في تأليفه المختصر في ذلك. والنوع الخامس: التنبيه على بعض مباحث فضائل القرآن كما فعل كثير من المفسّرين في مقدّمات تفاسيرهم، وكما أفرد ابن تيمية رسالة لبيان قاعدة في فضائل القرآن. والنوع السادس: إفراد فضائل بعض الآيات والسور بالتأليف كما أفرد أبو محمد الخلال جزءاً في فضائل سورة الإخلاص. والنوع السابع: شرح معاني الآيات والأحاديث والآثار الواردة في فضائل القرآن كما فعل كثير من شرّاح الأحاديث. والنوع الثامن: عقد فصول في بعض الكتب لبيان بعض فضائل القرآن، كما فعل ابن تيمية في عدد من رسائله، وابن القيّم في كتاب الفوائد وطريق الهجرتين ومدارج السالكين، وابن رجب، والسيوطي، وغيرهم من العلماء). [بيان فضل القرآن:14 - 15] |
المقدّمة الخامسة: مباحث علم فضائل القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدّمة الخامسة: مباحث علم فضائل القرآن كلام العلماء في فضائل القرآن يمكن تصنيفه إلى أنواع يحصل بجمعها تكامل حسن للمادّة العلمية في هذا العلم الجليل، ومن تلك الأنواع: 1. بيان معاني أسماء القرآن وصفاته الواردة في القرآن، وهذا النوع إذا أحسن جمع مادّته وتحرير القول فيه من أحسن المداخل لبيان فضائل القرآن لأنّه مبني على تدبّر ما وصف الله به كتابه، وتأمّل معاني تلك الصفات وآثارها ومقتضياتها. 2. جمع الأحاديث والآثار المروية في فضائل القرآن. 3. بيان فضل تلاوة القرآن وفضل اتّباع هداه. 4. بيان فضل أهل القرآن، وهو فرع عن فضل القرآن؛ لأنّهم إنما شرفوا بسببه. 5. بيان فضل تعلّم القرآن وتعليمه. 6. فضائل بعض الآيات والسور. 7. تفاضل آيات القرآن وسوره. 8. بيان خواصّ القرآن). [بيان فضل القرآن:16] |
المقدّمة السادسة: بيان سبب كثرة الأحاديث الضعيفة في فضائل القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدّمة السادسة: بيان سبب كثرة الأحاديث الضعيفة في فضائل القرآن مما ينبغي التنبّه له ما شاع من مرويات ضعيفة في فضائل القرآن، حتى ربما كان رواجها أشهر لدى كثير من العامة من بعض ما صحّ من الأحاديث والآثار. وكان من أسباب شيوع تلك المرويات الضعيفة والواهية تهاون بعض القُصّاص والوعّاظ في الرواية في هذا الباب، ورواية بعضهم بالمعنى بتصرّف مخلّ، وتساهل في الرواية عن بعض المتّهمين وشديدي الضعف، وغالب تلك المرويات مما يكون معناه مقبولا عند العامة؛ فيروج لمحبّتهم للقرآن، ورغبتهم في الأجر بنشر ما يحثّ على العناية به؛ حتى وصل الأمر ببعضهم إلى إشاعة الموضوعات في هذا الباب من غير تمييز. ولأجل شهرة بعض القصّاص وعنايتهم برواية الأحاديث بالأسانيد أخذ عنهم بعض من لم يشترط الصحّة من المصنّفين من غير تمييز ولا بيان لضعف حالهم، بل ربّما ظنّه بعضهم صحيحاً. وقد اختلفت مقامات العلماء المصنّفين وأوجه عنايتهم في التأليف في فضائل القرآن؛ فكان منهم من يشترط الصحّة فيما يرويه؛ كالبخاري ومسلم فيما رويا من أحاديث فضائل القرآن في صحيحيهما؛ فهؤلاء قد اتّقوا تلك المرويات وصانوا كتبهم عنها. وكان منهم من يروي ما فيه ضعف محتمل كالنسائي وابن أبي شيبة والترمذي على تفاوت بينهم في ذلك. وكان منهم من انصرفت همّته لجمع ما روي في هذا الباب فوقع في مصنّفاته مرويات واهية كما في فضائل القرآن لابن الضريس والفريابي، وكما في كتاب الغافقي الذي جمع فيه فأكثر ولم يميّز الغثّ من السمين. وسنفرد باباً بإذن الله تعالى للتنبيه على بعض ما شاع من المرويات الضعيفة في فضائل القرآن). [بيان فضل القرآن:16 - 17] |
المقدّمة السابعة: بيان درجات المرويات الضعيفة في فضائل القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدّمة السابعة: بيان درجات المرويات الضعيفة في فضائل القرآن والمرويّات الضعيفة في فضائل القرآن على درجات: الدرجة الأولى: المرويات التي يكون الضعف فيها محتملاً للتقوية، لعدم وجود راوٍ متّهم أو شديد الضعف في إسنادها، أو لكونها من المراسيل الجياد، أو الانقطاع فيها مظنون، ويكون معناها غير منكر في نفسه ولا مخالف للأحاديث الصحيحة؛ فمرويات هذه الدرجة قد رأى بعض العلماء روايتها والتحديث بها، بل رأى بعضهم العمل بها. والدرجة الثانية: المرويات التي في إسنادها ضعف شديد، وليس في معناها ما ينكر من حيث الأصل، وربّما كان في بعضها ما يتوقّف فيه؛ فهذا النوع قد تساهل فيه بعض المصنّفين، وهو أكثر المرويات الضعيفة في هذا الباب. والدرجة الثالثة: المرويات الضعيفة التي في معناها ما ينكر؛ إما لتضمّنها خطأ في نفسها أو لمخالفتها للأحاديث الصحيحة الثابتة، سواء أكان الإسناد شديد الضعف أو كان ضعفه مقارباً؛ لأنّ النكارة علّة كافية في ردّ المرويات. والدرجة الرابعة: الأخبار الموضوعة التي تلوح عليها أمارات الوضع). [بيان فضل القرآن:18] |
المقدّمة الثامنة: بيان الحاجة إلى تجديد وسائل النشر لعلم فضائل القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدّمة الثامنة: بيان الحاجة إلى تجديد وسائل النشر لعلم فضائل القرآن علم فضائل القرآن من العلوم التي تمسّ الحاجة إلى تحرير القول فيها وإحسان بيانها، والدعوة إلى الله تعالى ببيان فضائل كتابه من أعظم مجالات الدعوة نفعاً، وأحسنها أثراً، إذا أحسن الداعية طريقة بيان فضل القرآن، وأحسن الدعوة إلى تلاوته وتدبّره واتّباع هداه. وكم أسلم من كافر كان عنيداً شديد العداوة للإسلام بعد قراءته ما عرّفه فضل القرآن، ومنهم من يُترجم له بعض ذلك فيقرأ ويتأثر ويسلم بسببه، وكم من غافل ذُكّر بفضل القرآن فتذكّر وأقبل على تلاوته وتدبّره فنفعه الله به. وإن كان العلماء السابقين قد بذلوا في عصورهم ما أمكنهم من الوسائل لبيان فضائل القرآن والدعوة إليه تأليفاً وتدريساً ورواية وموعظة؛ فالحاجة في هذا العصر الذي يشهد توسّعا مذهلاً في وسائل النشر تقتضي من طلاب العلم الصادقين العناية بهذا الأمر، والإسهام بما يستطيعون بنشر ما أمكنهم في وسائل التواصل الاجتماعي وقوائم البريد الإلكترونية وفي المواقع والمنتديات، وطباعة الكتاب والرسائل والمطويات، وإنتاج المقاطع الصوتية والمرئية، وترجمة المقالات والكلمات إلى لغات متعددة، ونشرها بالوسائل المتاحة، وكلّ ذلك من أبواب الخير العظيمة التي ينبغي لكلّ طالب علم أن يكون له إسهام فيها. لكن يجب أن يُتنبّه إلى العناية بأمرين مهمّين: أحدهما: التوثّق من صحّة ما ينشر، وأن لا يعجل بنشر شيء قبل أن يطمئنّ لصحّته. والأمر الآخر: مراعاة الحكمة وحسن الأسلوب في التحرير والنشر. وذلك لأجل أن يكون ما ينشره صحيحاً متقناً، والله تعالى قد كتب الإحسان في كلّ شيء، فما بالكم بأمر الإحسان في بيان فضل كتابه العظيم. والناس يتفاوتون فيما يفتح الله به عليهم وما يمكّنهم منه وما يهبهم من القدرات والملكات؛ فمنهم من يحسن التأليف والتحرير، ومنهم من يحسن الترجمة، ومنهم من يحسن الإخراج والتصميم، ومنهم من يحسن النشر، ولو قام كلّ واحد بما يحسن وأفاد أهل لسانه؛ لأثمر ذلك - بإذن الله تعالى - دعوة مباركة طيّبة إلى كتاب الله تعالى، وتعريف أمم الأرض به، وبيان محاسنه وفضائله لهم). [بيان فضل القرآن:19 - 20] |
الباب الثاني: شرح معاني أسماء القرآن وصفاته شرح معاني أسماء القرآن وصفاته قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (شرح معاني أسماء القرآن وصفاته من دلائل فضل القرآن الكريم تعدّد أسمائه وصفاته، وتلك الأسماء والصفات دالة على معانٍ جليلة وآثار عظيمة مباركة يتبيّن للمتأمّل فيها دلائل فضل القرآن العظيم، وعظم شأنه. فأمّا أسماؤه فهي أسماء متضمّنة لصفات لها آثارها التي لا تتخلف عنها، فليست أعلاماً محضة موضوعة للتعريف المجرّد، وإنما هي أعلام ذات أوصاف مقصودة، ودلائل بيّنة). [بيان فضل القرآن:21] |
أسماء القرآن:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أسماء القرآن: وهي أربعة أسماء: القرآن والفرقان والكتاب والذكر. - قال ابن جرير الطبري: (إن الله عز وجل سمى تنزيله الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أسماء أربعة). ثم ذكر الأسماء المتقدمة بأدلتها. - وقال أبو إسحاق الزجاج: (يُسمَّى كلام الله الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم كتابا، وقرآنا، وفرقانا، وذكراً). - وقال ابن عطية في مقدمة تفسيره: (باب في تفسير أسماء القرآن وذكر السورة والآية، هو القرآن وهو الكتاب وهو الفرقان وهو الذكر). وأما صفات القرآن فكثيرة جليلة جامعة لمعان عظيمة؛ فوصفه الله بأنه عليٌّ حكيم، ومجيد وكريم، وعزيز وعظيم، ومبارك وقيم، وأنه ذِكْرٌ وذكرى، وهدى وبشرى، وتذكرة وموعظة، وبصائر ورحمة، ونور وبيان، وشفاء وفرقان إلى غير ذلك من صفاته الجليلة العظيمة). [بيان فضل القآن:21 - 22] |
الفرق بين الإسم والصفة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الفرق بين الإسم والصفة والفرق بين الاسم والصفة: أن الاسم يصح أن يطلق مفرداً معرّفاً كما قال الله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} ، وقال: {تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده}، وقال: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} وقال: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز}. وأما الصفات فهي لازمة للموصوف الظاهر أو المقدّر؛ فلا تدلّ الصفة بمجرّدها على الموصوف إلا أن يكون مذكوراً ظاهراً أو معروفاً مقدّراً: - فالظاهر كقوله تعالى: {إنه لقرآن كريم}، {والقرآن المجيد}؛ فإذا أفردت الصفة عن الموصوف؛ فقلت: "الكريم" و"المجيد" انصرف المعنى إلى ما هو أقرب إلى الذهن. - والمقدّر نحو قوله تعالى: {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} على القول بأن مرجع اسم الإشارة إلى القرآن وهو أحد القولين في هذه الآية. ومن الفروق بين الاسم والصفة أن الصفة غير المختصة تحتاج إلى تعريف لتتضح دلالتها على الموصوف بخلاف الأسماء التي جعلت أعلاماً على المراد. فقوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا} وصف النور بما يدلّ على أنّ المراد به القرآن، ولو أفرد لفظ "النور" وعزل عن هذا السياق إلى سياق آخر لانصرف المعنى إلى ما هو أقرب إلى الذهن. وقد توسّع بعض العلماء في تعداد أسماء القرآن؛ فعدّوا صفاته من أسمائه، واشتقّوا له أسماء من بعض ما أخبر الله به عنه، وهو خطأ بيّن. قال الزركشي: (وقد صنف في ذلك الحرالي جزءا وأنهى أساميه إلى نيف وتسعين وقال القاضي أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك رحمه الله اعلم أن الله تعالى سمى القرآن بخمسة وخمسين اسماً). وزعم الفيروزآبادي أن للقرآن مائة اسم وعدّ نيّفا وتسعين اسما منها، وفي كثير منها تكلّف لا يصحّ؛ حتى عدّ في أسمائه: النجوم والنعمة والثقيل والمثبّت والمرتَّل والتفسير. وأكابر العلماء يفرّقون بين الأسماء والصفات والأخبار. والأسماء المتضمّنة للصفات يصحّ اعتبارها أسماء ويصح اعتبارها أوصافاً؛ فتقول: إن الفرقان من أسماء القرآن، وتقول: إن من صفات القرآن أنه فرقان. والتفكر في معاني أسماء القرآن وصفاته، وتأمّل دلائلها العظيمة، وآثارها المباركة يفتح للمؤمن أبواباً من اليقين النافع الذي يجد أثره في قلبه ونفسه، ويعرّفه بفضله وعُلُوِّ قَدْرِهِ وَعِظَمِ شأنه، ويرغّبه في تلاوته وتدبّره واتّباع هداه). [بيان فضل القرآن:22 - 23] |
فصل في شرح معاني أسماء القرآن معنى اسم "القرآن"قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى اسم "القرآن" فمن أسمائه القرآن، وهو أصل أسمائه وأشهرها، وسمّي قرآناً لأنّه الكتاب الذي اتّخذ للقراءة الكثيرة التي لا يبلغها كتاب غيره. وقد اختلف العلماء في اشتقاق لفظ "القرآن" على قولين: القول الأول: أنه علم جامد غير مشتق، وهو قول الشافعي وجماعة من العلماء، وكان الشافعي ينطق اسم القرآن بغير همز "القُران" وهي قراءة ابن كثير المكّي. وقد روى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه كان يقول: (القُرَان اسم وليس بمهموز، ولم يؤخذ من قرأت، ولكنه اسم لكتاب الله، مثل التوراة والإنجيل). والقول الثاني: أنه مشتق، واختلف في أصل اشتقاقه على ثلاثة أقوال: - أحدها: أنه مشتق من القراءة التي هي بمعنى التلاوة، تقول: قرأت قراءة وقرآنا، قال الله تعالى: {فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه}. وقال حسان بن ثابت في رثاء عثمان بن عفان: ضحّوا بأشمط عنوان السجود به .. يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا أي قراءة، وهذا القول قال به ابن جرير الطبري، وأسند معناه إلى ابن عباس، ورجّحه ابن عطية. وعلى هذا القول يكون القرآن بمعنى المقروء، تسمية للمفعول بمصدره. - والقول الثاني: أنه مشتقّ من الجمْعِ، وهو مروي عن قتادة، وقال به أبو عبيدة والزجاج وجماعة من العلماء، واحتجوا بقول عمرو بن كلثوم: ذراعي عيطل أدماء بكر .. هجان اللون لم تقرأ جنينا قالوا: أي: لم تضمّ في رحمها ولداً. قال أبو عبيدة: (وإنما سمّى قرآنا لأنه يجمع السور فيضمها). - والقول الثالث: أنه مشتق من الإظهار والبيان، وأن القراءة إنما سمّيت قراءة لما فيها من إظهار الحروف، وبيان ما في الكتاب، وقد قال بهذا القول قطرب، وفسّر قول عمرو بن كلثوم: (لم تقرأ جنينا) بالولادة؛ أي لم تُلْقِ من رحمها ولداً، وأرجع المعنى إلى أصل الإظهار والبيان. قال قطرب فيما ذكره عنه أبو منصور الأزهري في الزاهر: (إنما سُمي القرآن قرآناً، لأن القارئ يُظهره ويبيّنه، ويلقيه من فيه). وأرجح الأقوال أنه مشتق من القراءة، وأنه سمّي قرآنا لأنّه كتابٌ اتُّخذَ للقراءة الكثيرة التي لا يبلغها كتاب غيره، ويدلّ على ذلك بناء الاسم على صيغة "فُعْلان" التي تدلّ على بلوغ الغاية، كسُبحان وحُسبان وغُفران وشُكران، مع ما دلّ عليه قول الله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)} وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}. والقُرآن والقُرَان بمعنى واحد، وإنما هما لغتان إحداهما بالهمز، والأخرى بالنقل والتسهيل. قال ابن عاشور: (اتفق أكثر القراء على قراءة لفظ "قرآن" مهموزاً حيثما وقع في التنزيل، ولم يخالفهم إلا ابن كثير قرأه بفتح الراء بعدها ألف على لغة تخفيف المهموز، وهي لغة حجازية، والأصل توافق القراءات في مدلول اللفظ المختلف في قراءته). وذهب علم الدين السخاوي إلى أنّ "قُران" مشتقّ من "قَرَنْتُ" بمعنى الجمع، وذهب بعضهم إلى أنّه اسم جمع، والصواب ما تقدّم). [بيان فضل القرآن:24 - 26] |
معنى اسم "الكتاب"
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى اسم "الكتاب" وأما تسميته بالكتاب؛ فلأنّه مكتوب، أي مجموع في صحف، قال الله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه}، وقال تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم . نزّل عليك الكتاب بالحق}، وقال: {حم والكتاب المبين}. واللام في هذه المواضع للعهد الذهني الذي يجعل القرآن أولى به مما سواه عند الإطلاق. ويطلق لفظ "الكتاب" أحيانا على كلّ ما أنزله الله من الكتب، فيكون التعريف فيه للجنس المخصوص؛ كما قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)} وقال تعالى: { هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ..} ويطلق أحيانا على التوراة والإنجيل خاصّة؛ كما في قول الله تعالى: { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} وقوله: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ}. وله إطلاقات أخرى بحسب السياق. والكتاب "فِعال" بمعنى "مفعول" أي "مكتوب"؛ واشتقاقه من الجمع والضم على قول كثير من العلماء. قال بعضهم: إن الكتاب سمّي كتاباً لجمعه الأحرف وضمّها؛ كما سمّيت الكتيبة كتيبة لضمّها الجنود المقاتلين. وهذا في تسمية جنس الكتب بذلك. وأمّا تسمية القرآن بالكتاب؛ فالأظهر أنه سمّي بذلك للدلالة على جمعه ما يُحتاج فيه إلى بيان الهدى في جميع شؤون العباد؛ فجمع الأحكام والحكمة والآداب والبصائر والمواعظ والهدى وما تقوم به مصالح دينهم ودنياهم. ومما يدلّ على هذا المعنى أنّ الله تعالى وصفه بالكتاب المبين، وحذف متعلّق البيان لإفادة العموم). [بيان فضل القرآن:26 - 27] |
معنى اسم"الفرقان"
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى اسم"الفرقان" وأما تسميته بالفرقان؛ فلأنّه فرقان بين الحقّ والباطل؛ وبين سبيل المؤمنين وسبل الفاسقين من الكفار والمنافقين. والفُرْقَان مصدر مفخّم للدلالة على بلوغ الغاية في التفريق وبيان الفَرْق، وأوجه التفريق القرآني كثيرة متنوّعة. قال ابن جرير الطبري: (وأصل "الفرقان" عندنا: الفرق بين الشيئين والفصل بينهما. وقد يكون ذلك بقضاء، واستنقاذ، وإظهار حجة، ونصر وغير ذلك من المعاني المفرّقة بين المحق والمبطل؛ فقد تبين بذلك أن القرآن سمي "فرقانا"، لفصله -بحججه وأدلته وحدود فرائضه وسائر معاني حكمه- بين المحق والمبطل. وفرقانه بينهما: بنصره المحق، وتخذيله المبطل، حكما وقضاء)ا.هـ. وفرقان القرآن عامّ في الدنيا والآخرة: فهو في الدنيا فرقان بين الحق والباطل؛ يعرّف بالحقّ ويبيّن أدلته، وصفات أهله، وآدابهم وأحكامهم وجزاءهم، ويعرّف بالباطل ويبيّن سبله ويبيّن بطلانه، ويعرّف بصفات أهله وعلاماتهم وجزاءهم في الدنيا والآخرة. وهو فرقان للمؤمن المتّقي يكشف له ما يلتبس عليه في أمور دينه ودنياه، فقد يشتبه على المرء أمران ويعتلجان في صدره لاشتباههما والتباس بعضهما ببعض؛ فلا يطمئنّ حتى يتبصّر بالتفريق بينهما؛ ويكون على بيّنة من أمره؛ كما قال مسكين بن عامر الدارمي: يا رُبَّ أمرين قد فرّقت بينهما .. من بعد ما اشتبها في الصدر واعتلجا أُديم ودي لمن دامت مودّته .. وأمزج الودَّ أحياناً لمن مزجا والمقصود أنّ القرآن فيه فرقان للمؤمن في تلك الأمور التي تعتلج في الصدر وتشتبه في ظاهر الأمر. وهو فرقان لأنّه يفرق صاحبه بما يرشده به إلى صراط الله المستقيم عن مشابهة المغضوب عليهم والضالين في أعمالهم وأقوالهم وأحوالهم وعاقبتهم؛ فيهدي صاحبه إلى الهدى الأقوم الذي يصلح به شانه، وينال به الكفاية من ربّه، وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة. وهو في الآخرة فرقان مبين يفرّق بين أتباعه ومخالفيه؛ فيشفع لمن آمن به واتّبع هداه ويحاجّ عنه ويظلّه في الموقف العظيم، ويمحل بمن كفر به وخالف هداه واشترى به ثمناً قليلاً). [بيان فضل القرآن:27 - 29] |
معنى اسم "الذكر"
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى اسم "الذكر" وأما تسميته بالذكر وذي الذكر؛ فقد وردت في مواضع من القرآن منها قول الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم ولعلهم يتفكرون} ، وقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}. ونسبه إليه نسبة تشريف وتعظيم فقال: {بل هم في شكّ من ذكري}. وسمّاه بذي الذكر في قوله تعالى: {ص . والقرآن ذي الذكر}. وللذكر هنا معنيان: أحدهما: بمعنى التذكير. والآخر: بمعنى المذكور. فأما المعنى الأول: فالدلالة عليه ظاهرة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم؛ بل هو من أعظم مقاصد إنزاله كما قال الله تعالى: {طه . ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . إلا تذكرة لمن يخشى} وقال: {كلا إنّه تذكرة} فسمّي بالذكر على هذا المعنى لكثرة تذكيره وحسنه؛ فهو يذكّر العبد بربّه جلّ وعلا، ويذكّره بسبيل سعادته وفوزه برضوان ربّه تعالى وعظيم فضله وثوابه، ويذكّره بما يجب عليه أن يتجنّبه ليتّقي سخطه وعقابه؛ ويذكّره بما ينفعه في دينه دنياه وآخرته من أنواع الذكرى الكثيرة والمتنوّعة والمحكمة. وقد وصف الله تذكيره بالإحكام والدلالة على الحكمة؛ كما قال الله تعالى: {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم}؛ فهو ذِكْرٌ حكيمٌ مَن اتّبعه هداه إلى الصراط المستقيم؛ كما قال الله تعالى: { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)} ومن أعرض عنه فقد خسر وغُبن، إذ فاته الفضل العظيم والثواب الكريم، وباء بالخسران والحرمان، والذلّ والهوان، والعذاب الأليم والخزي العظيم؛ كما بيّن الله ذلك بقوله: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)} وقال تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)} والمعنى الثاني: الذكر بمعنى المذكور أي الذي له الذكر الحسن، والشرف الرفيع، والمكانة العالية. قال الله تعالى: {وإنّه لذكر لك ولقومك}، وقال تعالى: {والقرآن ذي الذكر}. قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما: ذي الشَّرَف. ومن آثار هذا المعنى أن القرآن يرفع أصحابه ويجعل لهم ذكراً؛ فإنّ تشرّفهم به ورفعتهم به أثر من آثار شرفه هو ورفعته). [بيان فضل القرآن:29 - 30] |
فصل في شرح معاني صفات القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فصل في شرح معاني صفات القرآن وأما صفات القرآن التي وصفه الله بها في كتابه العظيم فهي صفات جليلة بديعة جامعة لمعانٍ عظيمة من تأمّلها حقّ التأمّل أيقن بعظمة هذا القرآن، وعظمة صفاته وآثاره في الدنيا والآخرة. وسأوجز الحديث في بيان معانيها وسعة دلائلها وجلالة آثارها ليستدلّ الموفّق اللبيب بما ذُكِرَ على عظمة ما لم يُذكر، ويعذرَ المتحدّثَ في تقصيره وقصوره عن بلوغ ما يستحقّه هذا القرآن العظيم من حسن التعريف بصفاته وبيان عظم شأنها وعلوّ قدرها ولطائف إشاراتها). [بيان فضل القرآن:31] |
وصفه بأنه عليٌّ
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أما وصفه بأنه عليٌّ فقد ورد في قول الله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}وهذا الوصف يشمل علوَّ قدره ومنزلته، وعلو صفاته، وتنزهه عن الباطل والاختلاف والتناقض والضعف وسائر ما لا يليق بكلام الله تعالى من أوصاف النقص، وهذا الوصف له ما يقتضيه كما قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}، قال: بَـيَّنَ شرفَه في الملأ الأعلى، ليشرِّفَه ويعظِّمَه ويطيعَه أهلُ الأرض)). [بيان فضل القرآن:31] |
وصفه بأنه حكيم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنه حكيم وأما وصفه بأنه حكيم؛ فيتضمن ثلاثة معانٍ: أحدها:أنه مُحكم لا اختلاف فيه ولا تناقض كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}. والثاني:أنه حكيم بمعنى حاكم على الناس في جميع شؤونهم شاؤوا أم أبوا، أما المنقادون لحكمه الشرعي فيجدون فيه بيان الحق فيما اختلفوا فيه، وأما المعرضون ففيه بيان ما يصيبهم من الجزاء النافذ فيهم في الدنيا والآخرة. وهو -كذلك - حاكم على ما قبله من الكتب ومهيمن عليها وناسخ لها وشاهد بصدق ما أنزل الله فيها كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} وهو حاكم فيما اختلف فيه أهل الكتاب قبلنا كما قال تعالى: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، وقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. والمعنى الثالث:أنه ذو الحكمة البالغة، كما قال تعالى: {ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}، وقد جمع الله فيه من جوامع الكلم المبينة لأصول الدين وفروضه وآدابه ومحاسن الأخلاق والمواعظ والحقوق والواجبات والأمثال والقصص الحكيمة ما لا يوجد في كتاب غيره فمن أخذها وعمل بها فقد أخذ الحكمة من أعظم مصادرها وأقربها وأيسرها، وفي تفسير قول الله تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} قال أبو الدرداء في تفسير الحكمة: (قراءة القرآن والفكرة فيه) رواه ابن ابي حاتم. وقال ابن عباس: (يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. وقال قتادة: (الحكمة: الفقه في القرآن). رواه ابن جرير وروي نحوه عن مجاهد وأبي العالية الرياحي ومقاتل بن حيان. وروي عن غيرهم أوجهاً أخرى في تفسير الحكمة لا تعارض ما سبق لأن أصل الحكمة ومجامعها في القرآن الحكيم ). [بيان فضل القرآن:32 - 33] |
وصفه بأنه مجيد
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنه مجيد وأما وصفه بأنه مجيد؛ فيتضمن معنيين: -أحدهما:أنه المُمَجَّد أي الذي له صفات المجد والعظمة والجلال التي لا يدانيها أي كلام ، المتنزه عما يقوله الجاهلون مما لا يليق به كدعوى بعض الكفار أنه سحر أو شعر أو من كلام البشر. وذلك أن وصف المجد في اللغة يستلزم عدداً من صفات الكمال والجلال والعظمة التي يكون بها الموصوف مجيداً. فكل صفة عظيمة يوصف بها القرآن هي من دلائل مجده. - والمعنى الآخر:أنه الممجِّد لمن آمن به وعمل بهديه؛ فيكون لأصحاب القرآن من المجد والعظمة والعزة والرفعة في الدنيا والآخرة ما لا ينالونه بغيره أبداً كما في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)) - قال الشافعي رحمه الله : (من قرأ القرآن عظمت قيمته). - ولا تجد كتاباً يعظِّمُ تاليه كما يعظِّم القرآن أصحابَه ويشرفهم ويكرمهم ويعلي منزلتهم. روى الإمام أحمد والنسائي وجماعة من أهل الحديث بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن بديل بن ميسرة ، عن أبيه ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لله عز وجل أهلين من الناس » قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ قال :« أهل القرآن ؛ أهل الله وخاصته ». فأضافهم الله إلى كتابه وأضافه إلى نفسه جل وعلا، وسماهم أهله وهل شرف يداني هذا الشرف؟!، وهل مجد فوق هذا المجد؟! وما ظنك بإكرام الله لأهله؟!). [بيان فضل القرآن:33 - 34] |
وصفه بأنه عزيز
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنه عزيز وأما وصفه بأنه عزيز؛ فيتضمن عِزَّةَ القَدْرِ وَعِزَّة الغَلَبة وعزَّة الامتناع: - فأما عزة القَدْرِ فلأنه أفضلُ الكلام وأحسنُه، يعلو ولا يعلى عليه ، ويَحْكُم ولا يُحْكَم عليه، يغيِّر الدُّوَلَ والأحوال ولا يتغير. قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}وفي مسند الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد )). وهو عزيز القدر عند الله، وعند الملائكة، وعند المؤمنين. قال أبو المظفر السمعاني: ({وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}أي: كريم على الله ). وروي ذلك عن ابن عباس. - وأما عزة قدره عند المؤمنين فبينة ظاهرة ، ولا توجد أمة من الأمم تعتني بكتابها وتجله كما يجلّ المسلمون القرآن حتى إنهم من إجلالهم للقرآن لَيُجِلُّون حامل القرآن كما في سنن أبي داوود من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط )). وهذا كله من عزَّةِ قَدْرِه. - وأما عزة غلبته فلأن حججه غالبة دامغة لكل باطل كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ}وحجج القرآن أحسن الحجج وأبينها وأبعدها عن التكلف والتعقيد وأقربها إلى الفطرة الصحيحة والعقل الصريح وأعظمها ثمرة وفائدة، مَنْ عقلها تبين له الهدى، واستبانت له سبل الضالين، ومَنْ حاجَّ بها غَلَب ، ومن غَالبها غُلِب. ومن عزة غلبته أنه غلب فصحاء العرب وأساطين البلاغة فلم يقدروا على أن يأتوا بمثله، ولا بمثل سورة واحدة منه، وقد تحدى الله المشركين الذين يزعمون أنه من أساطير الأولين وأنه قول البشر أن يأتوا بسورة من مثله فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا حتى أقروا بذلك وهم صاغرون كما قال الوليد بن المغيرة على كفره : (والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدِق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر) رواه البيهقي في دلائل النبوة. - وأما عزة الامتناع فلأنَّ الله تعالى أعزَّه وحفظه حفظاً تاماً من وقت نزوله إلى حين يقبضه في آخر الزمان كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا تستطيعه الشياطين، ولا يمكن لكائد مهما بلغ كيده أن يبدله أو يحرفه أو يزيد فيه أو ينقص منه شيئاً. فهو محفوظ من الشياطين، محفوظ من كيد الكائدين، لا يصيبه تبديل ولا تغيير، يُقرَأ على مرّ السنين والقرون كما أُنزل لا يُخْرَم منه حرف، ولا يبدل منه شيء). [بيان فضل القرآن:34 - 36] |
وصفه بأنه كريم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنه كريم وأما وصفه بأنه كريم؛ فوصف له دلائله الباهرة ومعانيه الخفية والظاهرة فهو كريم على الله ، كريم على المؤمنين، كريم في لفظه، كريم في معانيه، مُكَرَّم عن كل سوء، مكرِّمٌ لأصحابه، كثير الخير والبركة، كريم لما يجري بسببه من الخير العظيم الذي لا يَقْدُرُ قَدْرَه إلا الله. وتفصيل وصفه بالكرم يرجع إلى خمسة معان في لسان العرب؛ لكلّ معنى شواهده اللغوية الصحيحة: المعنى الأول: كرَم الحُسْن، ومن ذلك قول الله تعالى: {فأنبتنا فيها من كل زوج كريم} وقوله: {وقلن حاشا لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم}، وقوله: {وقل لهما قولا كريما}. والقرآن كريم بالغ الحسن في ألفاظه ومعانيه. والمعنى الثاني: كَرَم القَدْرِ وعلوّ المنزلة، فتقول: فلان كريم عليّ، أي ذو قَدْر ومكانة عالية عندي. ومن المحمول على إرادة معنى رفعة القَدْر - وإن كان على سبيل التهكّم - قوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}. قال مجنون ليلى: سقى بلدا أمست سليمى تحلّه .. من المزن ما تُروى به وتسيم وإن لم أكن من ساكنيه فإنه .. يحلّ به شخص عليّ كريم والمقصود أن القرآن كريمُ القَدْرِ عند الله تعالى، وعند المؤمنين، وبيان دلائل كَرَمِ قَدْرِهِ لو أفاض المتحدّث فيه لاستدعى ذلك منه سِفْراً كبيراً. والمعنى الثالث: كَرم العطاء، وهو أشهر معانيه، حتى غلب على أفهام كثير من الناس فظنوه محصوراً فيه، وليس الأمر كذلك. والقرآن كريم بهذا المعنى لكثرة ما يصيب تاليه من الخير والبركة بسببه، وكثرة ثواب تلاوته وحسن آثارها. والمعنى الرابع: المكَرَّم عن كلّ سوء، وهو فرع عن كرم القَدْر، وأصله أن بناء فعيل يأتي في اللغة أحيانا على معنى المفعول؛ فيأتي الكريم بمعنى المكرَّم. والمعنى الخامس: المكرِّم لغيره، وهو من آثار كرم العطاء وكرم الحسن وكرم القدْر، وأصله أن بناء فعيل يأتي في اللغة أحياناً على معنى الفاعل؛ فيأتي الكريم بمعنى المكرِّم. وكلام المفسرين في معنى وصف القرآن بأنه كريم يدور حول هذه المعاني، وكل جملة من هذه الجمل لو تأمل الناظر دلائلها وآثارها لانفتح له من أبواب العلم والإيمان والفضل العظيم ما لا يكاد ينقضي منه العجب. ولعل هذا يطلعك على بعض معاني القسم العظيم الجليل الذي أقسمه الله تعالى في سورة الواقعة إذ قال جلَّ وعلا: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ *وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} فينبغي لكل مؤمن أن يستشعر عظمة هذا القَسَم، ويجتهد في إدراك نصيبه من هذا الكَرَم). [بيان فضل القرآن:36 - 38] |
وصفه بأنه عظيم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنه عظيم وأما وصفه بأنه عظيم؛ فيتضمن عظمة قَدْرِهِ وَعَظَمَةَ صفاته. فالقرآن عظيم القَدْرِ في الدنيا والآخرة: فأما عظمة قدره في الدنيا فتتبين من وجوه كثيرة: منها: أنه كلام الله تعالى. ومنها: إقسام الله تعالى به. ومنها: كثرة أسمائه وأوصافه الدالة على عظمة قدره. ومنها: أنه حاكمٌ على ما قبله من الكتب، وناسخ لها، ومهيمن عليها. ومنها: أنه فرقان بين الهدى والضلالة، والحقّ والباطل. ومنها: أنه يهدي للتي هي أقوم. ومنها: أنه مصدر الأحكام الشرعية التي بها قيام مصالح العباد، وإليها يتحاكمون في فضّ منازعاتهم وحلّ مشكلاتهم ومعضلاتهم. ومنها: أن الله خصّه بأحكام في الشريعة تبيّن حرمته وجلالة شأنه. والأوجه الدالة على بيان عظمة قدْره كثيرة جداً يتعذّر حصرها. وأما عظمة قدره في الآخرة فمن دلائلها: - أنه يظلّ صاحبه في الموقف العظيم. - وأنه شافع مشفّع وماحل مصدّق. - وأنه يحاجّ عن صاحبه ويشهد له. - وأنه يرفع صاحبه درجات كثيرة. - وأنه يثقّل ميزان أصحابه بكثرة ما يجدون من ثواب تلاوته. وأمّا عظمة صفاته فبيانها من وجهين: الوجه الأول: أن كلّ صفة وصف بها القرآن؛ فهو عظيم في تلك الصفة؛ فكرمه عظيم، وبركته عظيمة، ومجده عظيم، وعلوّه عظيم، ونوره عظيم، وهداه عظيم، وشفاؤه عظيم، وفرقانه عظيم إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته التي اتّصف في كلّ صفة منها بالعظمة فيها. والوجه الثاني: أن كثرة أسمائه وصفاته العظيمة دليل آخر على عظمته). [بيان فضل القرآن:38 - 39] |
وصفه بأنّه مبارَك
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنّه مبارَك وأما وصفه بأنّه مبارَك؛ فقد ورد في مواضع من القرآن: - منها قول الله تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)} - وقوله تعالى: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)} - وقوله تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)} ومبارَك "اسم مفعول" يفيد أنَّ الذي باركه هو الله تعالى، ومعنى باركه أي أودع فيه البركة، وهي الخير الكثير المتزايد؛ فلا ينقص خيره، ولا يذهب نفعه، ولا تضعف ثمرته؛ بل خيره في ازدياد وتجدّد على مرّ القرون والأعصار. وكون الذي باركه هو الله تعالى له آثار عظيمة على بركته؛ فهي بركة من العليم القدير الحكيم الواسع الأكرم؛ فاتّسعت بركته وعظمت، حتى كان مباركاً في كل شيء فلا يحرم بركته إلا شقيّ محروم. وأنواع بركات القرآن كثيرة متنوّعة؛ فألفاظه مباركة، ومعانيه مباركة، ودلائله مباركة، وحيثما كان فهو مبارك لمن آمن به واتّبع هداه. فمن بركاته: هداياته العظيمة التي يهدي بها للتي هي أقوم في كلّ شيء. ومن بركاته: شفاؤه لما في الصدور، ولأدواء النفوس والأبدان. ومن بركاته: كثرة ثواب تلاوته وتنوّعه. ومن بركاته: ما يفيد من العلم والحكمة واليقين، والبصيرة في الدين. ومن بركاته: ما يحصل به من جلاء الحزن، وذهاب الغم، ونور الصدر، وطمأنينة القلب، وسكينة النفس. ومن بركاته: ما يكون لتاليه من زيادة الإيمان، وصلاح البال، وذهاب كيد الشيطان. ومن بركاته: عِزّة أصحابه باتباعه، وثباتهم على الحق بتمسّكهم به، وتبصّرهم به في مواضع الفتن، وما يحصل لهم به من الفرقان العظيم بين الحق والباطل، والخروج من الظلمات إلى النور. ومن بركاته: أنه يرفع أصحابه، ويكرمهم، ويكون لهم بسببه قَدْرٌ عظيم ومنزلة عالية. ومن بركاته: أنه مبارك حيثما حَلّ؛ فالبيت الذي يُتلى فيه يكثر خيره ويتّسع بأهله، والصدر الذي يحفظه يتّسع وينفسح، والمجلس الذي يُتلى فيه تتنزّل عليه السكينة وتغشاه الرحمة وتحفّه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده، حتى إن الوَرَق الذي يُكتب فيه لَيَكون له شأن عظيم بعد تضمّنه لآياته، وتكون له حرمته وأحكام الكثيرة في الشريعة. وأما بركاته في الآخرة فبركات عظيمة جليلة، فهو مبارك على المؤمن في قبره، وفي الموقف العظيم، وفي الحساب، وفي الميزان، وفي الصراط، وعند ارتقائه في درجات الجنة). [بيان فضل القرآن:40 - 41] |
الساعة الآن 02:25 AM |
Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By
Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة