جمهرة العلوم

جمهرة العلوم (http://jamharah.net/index.php)
-   منتدى جمهرة التفاسير (http://jamharah.net/forumdisplay.php?f=660)
-   -   مسائل كتاب طرق التفسير (http://jamharah.net/showthread.php?t=26476)

جمهرة التفاسير 6 صفر 1439هـ/26-10-2017م 11:38 PM

أوجه عناية التابعين بالتفسير
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أوجه عناية التابعين بالتفسير
والتابعون في عنايتهم بالتفسير على صنفين:

الصنف الأول: مفسّرون يفسّرون القرآن بما عرفوا من طرق تفسيره، ومن هؤلاء: أبو العالية الرياحي، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر، وعكرمة مولى ابن عباس، وعامر الشعبي، والحسن البصري، وقتادة بن دعامة السدوسي، وزيد بن أسلم، والضحاك بن مزاحم، ومحمد بن كعب القرظي، وغيرهم كثير.
فهؤلاء لهم أقوال في التفسير يرويها عنهم أصحاب كتب التفسير المسندة، ومنهم من يجمع بين الاجتهاد في التفسير، ونقل التفسير عمّن تقدّم.
فأبو العالية يروي كثيراً عن أبيّ بن كعب وأبي موسى الأشعري وابن عباس وأنس بن مالك، وله أقوال تُروى عنه في التفسير.
وكذلك سعيد بن المسيب يروى عن أبي هريرة وعائشة وزيد بن ثابت وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وكعب الأحبار، وغيرهم كثير، وله أقوال في التفسير.
وكذلك سعيد بن جبير يروي عن ابن عباس وابن عمر وله أقوال كثيرة في التفسير تروى عنه.
وكذلك مجاهد وعكرمة وقتادة وزيد بن أسلم وغيرهم جمعوا بين القول في التفسير ونقله.
والصنف الثاني: نَقَلةٌ للتفسير؛ عماد عنايتهم بالتفسير على رواية أحاديث التفسير، ونقل تفاسير الصحابة والتابعين رضي الله عنهم، ولا يكاد يُظفر لهم بأقوال في التفسير إلا نادراً.
وهؤلاء قد حفظوا للأمّة علماً كثيراً بحفظهم تفسير الصحابة رضي الله عنهم، وتفسير كبار التابعين.

وهؤلاء النقلة على ثلاث طبقات:
الطبقة الأولى: نقلة ثقات، ومنهم: قيس بن أبي حازم، وأبو الأحوص عوف بن مالك الجشمي، وأبو الضحى مسلم بن صبيح القرشي، وأبو رجاء العطاردي، وأبو مالك الغفاري، وأبو نضرة العبدي، وأبو تميمة الهجيمي ، وأبو المتوكّل الناجي، وأبو بشر اليشكري، والربيع بن أنس البكري، وأبو روق عطية بن الحارث الهمداني، وغيرهم.
والطبقة الثانية: نقلة متكلّم فيهم من جهة ضعف الضبط أو لاختلاف النقاد في أحوالهم، وهم على درجات متفاوتة، فمنهم: أبو صالح مولى أمّ هانئ، وشهر بن حوشب، وعطية العوفي، وعطاء بن السائب، وسماك بن حرب الذهلي، وعلي بن زيد بن جدعان.
والطبقة الثالثة: رواة ضعفاء في عداد متروكي الحديث، كيزيد بن أبان الرقاشي، وأبان بن أبي عياش، وأبي هارون العبدي، ويزيد بن أبي زياد الكوفي، وجويبر بن سعيد الأزدي). [طرق التفسير:97 - 98]

جمهرة التفاسير 6 صفر 1439هـ/26-10-2017م 11:40 PM

تعظيم التابعين لشأن التفسير
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تعظيم التابعين لشأن التفسير
كان التابعون على قدر عظيم من تعظيم القول في التفسير؛ وأخبارهم ووصاياهم في ذلك مشهورة مأثورة.

- قال عامر بن شراحيل الشعبي:
« أدركت أصحاب عبد الله، وأصحاب علي وليسوا هم لشيءٍ من العلم أكرَه منهم لتفسير القرآن ». رواه ابن أبي شيبة.
- وقال عبيد الله بن عمر:
« لقد أدركت فقهاء المدينة وإنهم ليعظمون القول في التفسير، منهم: سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع». رواه ابن جرير.
- وقال مسروق بن الأجدع:
« اتقوا التفسير، فإنما هو الرواية عن الله ».رواه أبو عبيد.
- وقال إبراهيم النخعي:
« كان أصحابنا يتقون التفسير ويهابونه». رواه أبو عبيد.
- وقال القاسم بن محمد: « لأن يعيش الرجل جاهلا بعد أن يعلم حق الله عليه خير له من أن يقول ما لا يعلم » رواه الدارمي.
- وذكر يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يتكلم إلا في المعلوم من القرآن.
- وقال يزيد بن أبي يزيد:
« كنا نسأل سعيد بن المسيب عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس، فإذا سألناه عن تفسير آية من القرآن سكت كأن لم يسمع».
قال ابن كثير: (فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به؛ فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا، فلا حرج عليه؛ ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه، وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد؛ فإنه كما يجب سكوت المرء عما لا علم له به، فكذلك يجب عليه القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه}، ولما جاء في الحديث المروى من طرق: ((من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار))). [طرق التفسير:99 - 100]

جمهرة التفاسير 6 صفر 1439هـ/26-10-2017م 11:43 PM

طرق التفسير عند مفسّري التابعين
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (طرق التفسير عند مفسّري التابعين
اتّبع التابعون منهج الصحابة رضي الله عنهم في تفسيرهم للقرآن، ففسّروا القرآن بالقرآن، وفسّروا القرآن بالسنة، وفسّروه بأقوال الصحابة وما بلغهم عنهم من وقائع التنزيل، وفسّروه بلغة العرب، واجتهدوا رأيهم فيما لم يبلغهم فيه نص، وفي فهمهم للنص.

1. فأما تفسيرهم القرآن بالقرآن فله أمثلة:
منها: ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في تفسير قول الله تعالى: {كما بدأكم تعودون} قال: عادوا إلى علمه فيهم، ألم تسمع إلى قول الله فيهم: {كما بدأكم تعودون}؟ ألم تسمع قوله: {فريقًا هدى وفريقًا حق عليهم الضلالة}).
وروي هذا القول بهذا الاستدلال عن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير ومحمد بن كعب القرظي.
ومنها ما رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن داوود بن أبي هند عن أبي العالية في تفسير قول الله تعالى: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم..}
قال: إنما أنزلت في اليهود والنصارى، ألا ترى لقول: {كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا} بذنوب أذنبوها، وكانت زيادة في كفرهم، ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب، فقال الله جل وعز: {لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون}
قال: لو كانوا على هدى قبل توبتهم، ولكنهم على ضلالة).
ومنها: ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {وله الدين واصبا} قال: دائماً، ألا ترى أنه يقول: {عذاب واصب} أي دائم).
فالأول مثال على التفسير المتصل، والثاني على التفسير المنفصل.
2. وأما تفسيرهم القرآن بالسنة؛ فمن أمثلته ما رواه مسلم في صحيحه من طريق همام بن يحيى قال: حدثنا قتادة، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من نسي صلاة فليصلّها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك» قال قتادة: (و{أقم الصلاة لذكري}).
وصحّ هذا التفسير عن سعيد بن المسيب أيضاً.
3. وأما تفسيرهم القرآن بأقوال الصحابة، فله أمثلة كثيرة ؛ منها: ما رواه عبد الرزاق من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أبي الأحوص أن ابن مسعود: قال: {إلا ما ظهر منها}: الثياب، ثم قال أبو إسحاق: ألا ترى أنه يقول: {خذوا زينتكم عند كل مسجد}).
ففسّر الآية بقول الصحابي ثم استدلّ له من القرآن، وهذا مما يدلّ على أخذهم تفسير الصحابة بتفهّم لا بتقليد محض.
ونظير ذلك ما رواه ابن جرير في تفسيره عن ابن جريج، عن مجاهد في تفسير قول الله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) }
قال مجاهد: سمعت ابن عباس قال: (هو مثل المفرّط في طاعة الله حتى يموت).
قال ابن جريج، وقال مجاهد: (أيود أحدكم أن تكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنة؟ فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير لا يغني عنها شيئا، وأولاده صغار، ولا يغنون عنه شيئا، وكذلك المفرط بعد الموت، كل شيء عليه حسرة).
فأخذ أصل المعنى من ابن عباس، وزاده شرحاً وتفصيلاً.
وكان منهم من يعتني بجمع أقوال الصحابة في مسائل التفسير كما روى عبد الرزاق من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {ويمنعون الماعون} قال: كان عليّ يقول: «هي الزكاة» وقال ابن عباس: «هي العارية».
ويدخل في هذا النوع تفسيرهم القرآن بما عرفوه من وقائع التنزيل وأحواله؛ كما روى ابن جرير عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى أنه جاءه رجل من الخوارج يقرأ عليه هذه الآية: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون}
قال له: أليس الذين كفروا بربهم يعدلون؟
قال: بلى!
قال [جعفر]: وانصرف عنه الرجل، فقال له رجل من القوم: يا ابن أبزى، إنَّ هذا قد أراد تفسير هذه غير هذا! إنه رجل من الخوارج!
فقال: ردوه علي.
فلما جاءه؛ قال: هل تدري فيمن نزلت هذه الآية؟
قال: لا!
قال: إنها نزلت في أهل الكتاب، اذهب، ولا تضعها على غير حدّها).
فهذا الخارجي أراد أن يستدلّ بهذا التفسير على تكفير بعض المسلمين بما يزعم أنه من العدل بالله؛ ففسّر له عبد الرحمن ابن أبزى - وكان مفتي أهل مكة في زمانه - الآيةَ بما عرفه من نزولها.
ومنه أيضاً ما رواه ابن جرير من طريق الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب الزهري قال: حدثني سعيد بن المسيب: أن الله قال: {ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم}.
قال سعيد بن المسيب: (إنما نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون رجالاً غير أبنائهم ويورثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيباً في الوصية، وردَّ الميراثَ إلى الموالي في ذي الرحم والعصبة، وأبى الله للمدَّعَين ميراثا ممن ادَّعاهم وتبناهم، ولكن الله جعل لهم نصيبا في الوصية).
4. وأما تفسيرهم القرآن بلغة العرب؛ فله أمثلة:
منها: ما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم من طريق هشيم بن بشير، عن مغيرة بن مقسم، عن إبراهيم النخعي في قول الله تعالى: {إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} قال: قالوا فيه غير الحق، ألم تر إلى المريض إذا هذي قال غير الحق).

ومنها: ما رواه عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {الزبانية} قال: «الزبانية في كلام العرب الشرط».
ومنها: ما رواه ابن أبي شيبة عن شريك، عن بيانٍ، عن عامرٍ [الشعبي] {فإذا هم بالسّاهرة} قال:
« بالأرض، ثمّ أنشد أبياتًا لأميّة: وفيها لحم ساهرةٍ وبحرٍ».
ومنها: ما رواه ابن أبي شيبة أيضاً عن شريكٌ، عن فراتٍ، عن سعيد بن جبيرٍ، قال:
« القانع السّائل، ثمّ أنشد أبياتًا للشمّاخ: لَمَال المرء يصلحه فيغني ... مفاقرَهُ أعفّ من القنوع».
ومنها:
ما رواه أبو عبيد في فضائل القرآن من طريق أشعث بن أبي الشعثاء عن زيد بن معاوية العبسي، عن علقمة، في قوله: {ختامه مسك} قال: (ليس بخاتم يختم، ولكن ختامه خلطه، ألم تر إلى المرأة من نسائكم تقول للطيب خلطه مسك، خلطه كذا وكذا).
5. وأما اجتهادهم في التفسير؛ فكانوا يجتهدون في فهم النص، وفيما لم يبلغهم فيه نص، وكانوا أقرب إلى الصواب لقربهم من مشكاة النبوة وأخذهم عن الصحابة رضي الله عنهم، وتتلمذهم عليهم، وإحسان اتّباعهم إيّاهم.
ويقع منهم اتّفاق كثير في التفسير، ويقع بينهم اختلاف أكثره من قبيل اختلاف التنوّع.
وقد يقع منهم خطأ في الاجتهاد فيردّ، كما روى ابن جرير من طريق أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين عن عَبيدة السلماني في الرجل يدركه رمضان ثم يسافر؛ قال: (إذا شهدت أوله فصم آخره، ألا تراه يقول: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه}؟).
فقول عبيدة هذا اجتهاد اجتهده في فهم النصّ، فخرج بهذا القول الذي قال به وهو أن من شهد أوّل الشهر وهو مقيم فلا يحلّ له أن يفطر إذا سافر في ذلك الشهر، وهذا قول مهجور، وصريح عمل النبي صلى الله عليه وسلم لما سافر في فتح مكة على خلافه، وكذلك أقوال الصحابة رضي الله عنهم في هذه المسألة على خلافه.
وهجران القول من دلائل ضعفه، وخطأ المجتهد في اجتهاده). [طرق التفسير:100 - 105]

جمهرة التفاسير 6 صفر 1439هـ/26-10-2017م 11:46 PM

حجيّة تفسير التابعين
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (حجيّة تفسير التابعين
تفسير التابعين على مراتب فمنه ما يعدّ حجّة قاطعة للنزاع، ومنه ما هو مرجّح قويّ، ومنه ما هو محلّ اعتبار ونظر.

فأمّا حجيّة تفسير التابعين فهي في حال اتّفاقهم وعدم اختلافهم في التفسير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إذا اجتمعوا على شيء فلا يرتاب في كونه حجة).
والإجماع يُعرف بشهرة الأقوال وعدم المخالف.
وأمّا المرجّح القويّ فهو إذا تعددت الروايات عن جماعة منهم على قول واحد، أو عُلم بقرائن الأحوال أن التابعيّ أخذ هذا التفسير عن أحد الصحابة وليس اجتهاداً منه ولا مما أخذ من أخبار بني إسرائيل فإنّه من المرجحات التي يستفاد بها ترجيح هذا القول على غيره ما لم تكن له علّة أخرى.
وأما ما يكون محلّ اعتبار ونظر فهو القول الذي يصحّ عن التابعي ودلالته محتملة، ولا نقف على ما يوجب ردّه.
ومن أقوال التابعين ما يُتوقّف فيها وتجعل عهدتها على قائلها لخفاء الدليل الذي استند عليه أو يكون مما لا يقال بالرأي ولم يأخذه من الإسرائيليات وليس فيه نكارة فهذا القول تجعل عهدته على قائله ولا نقابله بالإنكار من غير دليل.
ومن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة وابن جرير من طريق محمد بن فضيل عن ليث، عن مجاهد، في قوله تعالى: {عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا} قال: يجلسه معه على عرشه).
فهذا الأثر تفرّد به ليث عن مجاهد ، وليث ضعيف الحديث، ولو صحّ عن مجاهد فهو في حكم المرسل؛ لأنه مما لا يقال بالرأي.
وقد أنكر الأئمة على من أنكر هذا الأثر من الجهمية لأن منشأ إنكارهم ليس ضعف الإسناد وإنما استنكروا المتن، وتوهّموا فيه ما توّهموه في صفة العلو لله تعالى واستوائه على العرش، ومن المعلوم أن جلوسه - إن صحّ - ليس كجلوس النظير مع نظيره تعالى الله عما يظنّون، وليس لأحد دون الله نصيب من الملك، وإنما هو إجلاس تكريم وتشريف ، وعرش الله عظيم، بل ذكر أنه أعظم المخلوقات؛ فمن غير المستنكر أن يكرمه الله تعالى بموضع يجلس فيه على العرش.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (يجوز أن يكون مقامًا مخصوصًا لمقعد النبي صلى الله عليه وسلم)
واستدلّ بحديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي»
وهذا حديث صحيح متّفق عليه، وفيه أن لهذا كتاب موضعاً كريماً على العرش.
وقال ابن جرير: (ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على عرشه قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك..)
ثم أطال في بيان عدم استحالة ذلك من جهة النظر.
وأنكر الأئمة على من أنكر هذا الحديث من باب التجهّم، وقد غلا بعض من كتب في السنة حتى كفّر من أنكر هذا الأثر، وهو خطأ بيّن؛ فإنّه لم يثبت بدليل صحيح، لكننا نصون أنفسنا عن القول بنفيه لأنه قول بغير علم في أمر غيبيّ، الله أعلم به.
وقد جرت محنة عظيمة بسبب هذا الأثر في القرن الثالث الهجري، وأوذي فيها بعض الأئمة،
وقد روي عن الدارقطني أنه أنشد:
حديث الشفاعة في أحمد ... إلى أحمد المصطفى نسندُهْ
فأما حديثٌ بإقعاده ... على العرش أيضاً فلا نجحدُهْ
أمرّوا الحديث على وجهه ... ولا تدخلوا فيه ما يفسدُهْ
ولا تنكروا أنه قاعد ... ولا تجحدوا أنه يقعدُهْ
ورويت هذه الأبيات عن ابن العلاف الضرير ولعلّ الدارقطني تمثّل بها.
والمقصود أن مثل هذا القول تُجعل عهدته على قائله ولا ننكره من غير دليل.
وأما الأقوال التي فيها نكارة بمخالفتها لنصّ أو إجماع فتردّ.
وإذا اختلف التابعون على أقوالٍ لا يمكن الجمع بينها فلا يعدّ قول كل واحد منهما حجة على الآخر، وإنما يطلب الترجيح بين أقوالهم بطرق الترجيح المعروفة عند أهل العلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (متى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض)). [طرق التفسير:105 -108]

جمهرة التفاسير 6 صفر 1439هـ/26-10-2017م 11:48 PM

الأقوال المعتبرة والأقوال غير المعتبرة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الأقوال المعتبرة والأقوال غير المعتبرة
أقوال المفسّرين على قسمين:

القسم الأول: أقوال معتبرة، وهي التي لها حظّ من النظر والاعتبار، وهي التي تعتمد على أصل معتبر قائم على طريق من طرق التفسير المعروفة.
ومعنى اعتبار القول أن ينظر في الجمع بينه وبين الأقوال الأخرى أو الترجيح بينه وبينها.
والقسم الثاني: أقوال غير معتبرة
، وهي التي يتبيّن خطؤها، ومتى استبان خطأ القول فلا يُعتد به في الجمع والترجيح.
ومن ذلك: أن يعتمد على رواية أخطأ في ضبطها ثم تبيّن الصواب فيها.
ومن ذلك: أن يعتمد على اجتهاد يتبيّن خطؤه.
ومن ذلك: أن ينكر أهلُ العلم هذا القول ويبيّنوا خطأه.
ومن ذلك: أن يُهجر القول فلا يقول به أحد). [طرق التفسير:109]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:19 AM

الباب السادس: تفسير القرآن بلغة العرب

مقدمة في التفسير اللغوي:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مقدمة في التفسير اللغوي
من طرق التفسير الصحيحة التفسيرُ بلغة العرب؛ ذلك بأن القرآن نزل بلسان عربيّ مبين، على أحسن ما تعرفه العرب من فنون الخطاب ودلائله.
قال الله تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)}.
فوصفه بأنه بلسان عربيّ مبين؛ وذلك لحُسن إفادته المعاني بمفردات وأساليب عربية فصيحة تدلّ على المراد دلالة بيّنة.
وهو مبينٌ في ألفاظه ومعانيه وهداياته:

- فألفاظه وتراكيبه في غاية الحسن والفصاحة؛ ليس فيها تنافر ولا تعقيد، ولا ضعف ولا تعسف.
- ومعانيه سامية جليلة؛ مستقيمة بيّنة؛ ليس فيها محال ولا غموض، ولا تناقض ولا اختلاف.
- وهداياته مُرشِدَة للحقّ، مُيَسَّرة للعمل، متّسقة متآلفة غير متعارضة ولا متخالفة.
وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2)}.
والخطاب في هذه الآية للعرب الذين أنزل القرآن بلسانهم ليعوه ويعقلوه؛ وفي هذا دلالة بيّنة على أنه خطاب يعرفون مفرداته وأساليبه؛ ودلائله ومراميه، وفحواه وإيماءه، ليس فيه ما يخالف ما تعرفه العرب من سَنن كلامها.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
فوصفه بالاستقامة التي لا تشوبها شائبة عوج ولا اختلاف؛ ولا خلل ولا ضعف؛ بل هو مستقيم في ألفاظه ومعانيه وهداياته؛ في الذروة العليا من الفصاحة وحسن البيان، محكم غاية الإحكام، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم.
قال ابن جرير: (يقول: جعلناه قرآنا عربيّا إذْ كانوا عرباً، ليفهموا ما فيه من المواعظ، حتى يتقوا ما حذرهم الله فيه من بأسه وسطوته، فينيبوا إلى عبادته وإفراد الألوهة له، ويتبرؤوا من الأنداد والآلهة)ا.هـ.
وقال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
فهو كتاب فصّله الله تعالى بعلمه فجعله تبياناً وتفصيلاً لكل شيء بلسان عربي مبين، والتفصيل والتبيين من دلائل الإفهام بما يُعرف به المعنى ويدرك به المقصد.
قال ابن جرير رحمه الله: (يقول: فصلت آيات هذا الكتاب قرآنا عربيا لقوم يعلمون اللسان العربي)ا.هـ.
فمن كان حسن المعرفة بلسان العرب تبيّن له من دلالات ألفاظ القرآن معاني جليلة لا تخفى عليه، وعرف أنّ القرآن في غايةِ حسنِ البيان التي لا يطيقها البشر، وأنه لا مطعن فيه بوجه من الوجوه.


وكانت العرب قد بلغت في العناية بلُغَتها وبلاغتها مبلغاً لم يُسمعْ بمثله في أمةٍ من الأمم، حتى تنافسوا في الفصاحة، وتفاخروا بالقصائد المحْكَمَةِ، والخُطَب البليغة، والأمثال السائرة، وحسن البيان عن المراد بأفصح العبارات وأبلغها، وتنافسوا في الاحتجاج عند المخاصمة والمفاخرة بأقوى حُجَّة وألطَفِ منزع، حتى توصّلوا ببراعتهم في البيان إلى أمور لا تبلغها كثير من الحِيَل.
كما قال طرفة بن العبد البكري:
رأيت القوافي يتّلجن موالجاً ... تَضَيَّقُ عنها أن تولّجها الإِبَرْ

وكان من فصحائهم وبلغائهم محكَّمون يحكمون بين المتخاصمين والمتفاخرين في الفصاحة والشعر وحسن البيان؛ فمن حُكم له عَدّ ذلك مفخرةً له، ومن حُكم عليه عُدَّ ذلك الحكمُ مذمّة له ومنقصة يُنتقص بها.
وتنافسوا في الفصاحة والبيان تنافساً مشهوراً مأثوراً، ولهم في ذلك قصص وأخبار، وخطب وأشعار، وكانوا إذا جمعهم مجمع، أو وفدت قبيلة على قبيلة نمّقوا من خطبهم وأشعارهم ما يعرضون به فصاحتهم وحسن بيانهم ليتوصّلوا بذلك إلى إثبات رفعة شأنهم، وعلوّ قدرهم، وتخليد مآثرهم.
واتّخذوا من حسن البيان سبيلاً لبلوغ المآرب، ونيل المكاسب، واكتساب المراتب، ومؤانسة الجلاس، والدخول على الملوك والكبراء، وقضاء كثير من شؤونهم؛ حتى قال قائلهم: (إنما المرء بأصغريه: لسانه وقلبه).
والقلب هو الذي يُمدّ اللسان بحسن الفكرة، وطرق الإبانة عن المقصد.
وقال زهير بن أبي سلمى:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
فشاعت فيهم الأشعار والأراجيز، والخطب والوصايا، والقصص والأمثال، فرووا منها شيئاً كثيراً لا يُحدّ، وكان كثيرٌ منهم أهل حفظ وضبط، ربما سمع أحدهم القصيدة الطويلة تُنشَد؛ فحفظها من أوّل مرة، وهذا كثير شائع فيهم.
فكانوا يعتنون بجيّد الشعر عناية بالغة، ويحفظونه حفظ الحريص عليه، وينشدونه في مجامعهم ومواردهم ومجالسهم وأسمارهم.
وكان من الشعراء من يفتخر بكثرة إنشادِ شعرِهِ وتَمَثُّلِ النَّاسِ به، كما قال المسيّب بن عَلَس الضُّبَعي، وهو خال الأعشى الشاعر:
فلأهدينّ مع الرياح قصيدةً ... منّي مغلغلةً إلى القعقاعِ
ترد المياهَ فما تزال غريبةً ... في الناس بين تمثُّل وسَمَاعِ

يفتخر بحسن شعره، وامتيازه على غيره من الأشعار كما تمتاز الغريبة من الإبل عن غيرها؛ فتستشرفها الأنظار؛ وبأنه يُنشد القصيدة في ممدوحه وبينهما مفاوز؛ فيحفظها الناسُ من حسنها وغرابتها ويتمثلون بها، فيتسامع بها المستسقون في موارد مياههم، ويتناشدونها حتى تصل إلى ممدوحه من غير كتابةٍ ولا رسول.
وقال مُزَرِّد بن ضرار الغطفاني في التحذير من هجائه:
زعيم لمن قاذَفْته بأوابدٍ ... يغنّي بها الساري وتُحدى الرَّواحل
مشهّرة تُلفى كثيراً رواتها ... ضواحٍ لها في كلّ حيّ أزامل
تُكَرُّ فما تزداد إلا استنارة ... إذا رازت الشعرَ الشفاهُ العوامل
فمَنْ أرمِهِ منها ببيتٍ يلُحْ به ... كشامةِ وجه ليس للشامِ غاسِلُ

وقال الحصين بن حمام المري:
وقافية غير إنسيّةٍ ... قرضت من الشعر أمثالها
شروداً تَلَمَّعُ في الخافقين ... إذا أُنشدت قيل: من قالها؟!!

وكان الشعر ديوان العرب، إذ لم تكن لهم كتب، وفكانوا يحفظون وقائعهم ومآثرهم وأخبارهم بأشعارهم، وكانوا يفاضلون بين القصائد والشعراء، ويعرفون مراتبهم، ويوازنون بين أساليب الشعراء وطرائقهم حتى كان منهم من يميّز بين أشعار الشعراء كما نميّز بين الأصوات؛ وكما يعرف القافةُ الأشباه، فلا يشتبه عليه شعرُ شاعرٍ بغيره؛ فيعرفون المنحولَ والمدرجَ والمسترفَد والمهتدَم، وأشعار القبائل والموالي، حتى إنّ منهم من يميّز شعرَ الرجل من شعر أبيه، وإن كان يحتذي بمثاله، وينسج على منواله.
وقد بقيت هذه المعرفة بعدهم إلى زمن، ومن لطائف ما يذكر في ذلك ما رواه أبو علي الحرمازي قَالَ: مرَّ جرير بذي الرُّمَّة، فقَالَ: يا غَيْلان، أنشدني ما قلت فِي المرئي؛ فأنشده:
نبت عيناك عَنْ طللٍ بحزوى ... عفته الريح وامتنح القطارا
فقَالَ: ألا أُعينك! قَالَ: بلى، بأبي وأمي، فقَالَ:
يَعُدُّ الناسبون إِلَى تميم ... بيوتَ المجد أربعةً كبارا
يعُدّون الرّبابَ وآلَ سعدٍ ... وعمراً ثم حنظلةَ الخيارا
ويهلك وسطها المرئيّ لغواً ... كما ألغيت فِي الدية الحوارا

قَالَ: فمرَّ ذو الرمة بالفرزدق، فقَالَ: أنشدني ما قلتَ فِي المرئي؛ فأنشده القصيدة، فلما انتهى إِلَى هذه الأبيات؛ قَالَ الفرزدق: حَسْ! أعدْ عَلَيَّ، فأعاد، فقَالَ: (تالله لقد عَلَكَهُنّ أشدَّ لحيين منك).
وفي رواية أنه قال: (هذا شعر ابن المراغة) يعني جرير بن عطية.
وقال محمد بن سلام الجمحي في "طبقات فحول الشعراء": (وليس يُشكِل على أهل العلم زيادة الرواة ولا ما وضعوا، ولا ما وضع المولَّدون، وإنما عضل بهم أن يقول الرجل من أهل البادية من وَلَدِ الشُّعَراء أو الرجل ليس من ولدهم؛ فيُشكل ذلك بعض الإشكال).
ثمّ قال: (أخبرني أبو عبيدة أنّ ابن داوود بن متمم بن نويرة قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدويّ من الجَلَبِ والميرة؛ فنزل النَّحيت؛ فأتيتُه أنا وابن نوحٍ العطاردي؛ فسألناه عن شعر أبيه متمّم، وقمنا له بحاجته وكفيناه ضيعته؛ فلمّا نفد شعر أبيه؛ جعل يزيد في الأشعار ويصنعها لنا، وإذا كلامٌ دونَ كلامِ متمّم، وإذا هو يحتذي على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمِّم، والوقائعَ التي شهدها؛ فلمّا توالى ذلك علمنا أنه يفتعله)ا.هـ.
والمقصود من ذكر عناية العرب بلسانهم وبيانهم، وحفظهم لأشعارهم ومآثرهم وآثارهم، وتمييزهم بين الصحيح والمنحول، والفاضل والمفضول، بيان ما وصلوا إليه من الرتبة العالية في فهم الخطاب العربي وتمييز رُتَبِه، ومعرفة فنونه وأساليبه، وتنوّع دلائله.
فلمّا نزل القرآن بلسان عربيّ مبين؛ على أحسن مما يعرفون من الفصاحة والبيان، بهرهم حُسْنُه، وأدهشهم بيانه، فاستولى على المرتبة العليا من البيان بلا منازع يدانيه، ولا منافس يساميه، من قول خطيب، ولا شعر شاعر، وتيقّنوا أنه لا طاقة لأحد أن يأتي بمثله، ولا بقريب منه، وأنّ المتعرّض لمعارضته إنما يعرّض نفسه للهزء بها، فصانوا أنفسهم عن قصد معارضته.
وقد علموا أنّه لو كان من قول البشر لما أعيا فصحاءهم أن يأتوا بمثله أو بقريب منه، وَلَتجاسروا على ادّعاء معارضته كما يعارض الشعراء والخطباء بعضهم بعضاً، وكانت كلّ قبيلة تأنف أن يتحدّاها شاعر أو خطيب فلا يتصدّى له من شعرائها وخطبائها مَن يجيبه.
فلمّا تحدّاهم الله تعالى لم يقدروا على معارضة كلامه ولا الإتيان بمثله.
وقد أنزل الله تعالى تحدّيهم في غير ما آية؛ فقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)}
- وقال تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)}
- وقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}.
- وقال تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)}.
فلمّا أعجزهم ذلك، وكبر على المشركين المعاندين أن يقرّوا بأنّه كلام الله تعالى؛ عدلوا عن المعارَضة إلى اختلاق الأقوال المنفرة عن القرآن وعن اتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقالوا: هو سحر، وقالوا: كهانة، وقالوا: شعر، وقالوا: تقوَّله محمّد (صلى الله عليه وسلم)، وقالوا: {أساطير الأولين اكتتبها}، وقالوا: {إنما يعلّمه بشر}.
واختلاف أقاويلهم وتعارضها من دلائل تساقطها وبطلانها، وأنهم إنما فروا من الإقرار بأنّه كلام الله تعالى، خوفاً من أن يلزمهم ذلك تركَ ما هم عليه من الشرك، واتباعَ الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإذْ لم يقرّوا أنه كلام الله تعالى فهو عندهم من كلام البشر وإن اختلفوا في نوعه، وهذا الفرار من الإقرار بأنّه كلام الله تعالى يُدخلهم في دائرة التحدّي الذي لا يطيقونه؛ فبقوا مختلفين متحيّرين مبهوتين.
وقد اجتمعت قريش لينتدبوا رجلاً من أعلمهم بالشعر والسحر والكهانة يجادل النبي صلى الله عليه وسلم ليثنيه عن دعوته فوقع اختيارهم على عتبة بن ربيعة؛ فذَكر له ما ذَكر، وعَرَضَ عليه ما عَرَض من جمع المال له حتى يكون أغناهم والتزويج والتتويج بالملك في القصة المشهورة ليثنيَه عن دعوته؛ فلمّا قرأ عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن بُهت وتحيّر ورجع إلى قومه بغير الوجه الذي ذهب به، كما في مصنف ابن أبي شيبة ومسند أبي يعلى ومستدرك الحاكم من حديث الأجلح بن عبد الله الكندي، عن الذَّيَّال بن حرملة الأسدي، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (اجتمعت قريش يوماً؛ فقالوا: انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي فرَّق جماعتنا وشتَّت أمرَنا وعابَ ديننا؛ فليكلّمه، ولينظرْ ماذا يردّ عليه، فقالوا: ما نعلم أحدا غير عتبة بن ربيعة، فقالوا: أنت يا أبا الوليد؛ فأتاه عتبة...) الحديث.
وفي مرسَل محمد بن كعب القرظي أن ذلك حين أسلم حمزة بن عبد المطلب، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون.
فقالوا: يا أبا الوليد، فقُمْ فكلّمه؛ فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (يا ابن أخي إنك منَّا حيث قد علمت من السِّطَةِ في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت من مضى من آبائهم، فاستمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها؛ لعلك أن تقبل منها بعضها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( قل يا أبا الوليد أسمع)).
فقال: "يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالا، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت إنما تريد شرفا، شرَّفناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك.
وإن كنت تريد مُلْكا مَلَّكْناك.
وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك؛ طلبنا لك الطبّ وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه؛ فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، ولعلَّ هذا الذي يأتي به شعر جاش به صدرك، فإنكم لعمري يا بني عبد المطلب تقدرون منه على ما لا يقدر عليه أحد).
حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أفرغت، يا أبا الوليد؟))
قال: نعم.
قال: (( فاستمع مني )).
قال: أفعل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بسم الله الرحمن الرحيم . حم . تنزيل من الرحمن الرحيم . كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا} فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها عليه.
فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى بيده خلف ظهره معتمداً عليها يستمع منه؛ حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة؛ فسجد فيها.
ثم قال: (( قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت؛ فأنت وذاك )).
فقام عتبة إلى أصحابه.
فقال بعضهم لبعض يحلف بالله: لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به؛ فلما جلس إليهم، قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟
فقال: ورائي أني والله قد سمعت قولا ما سمعت لمثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا الكهانة.
يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه؛ فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ؛ فإنْ تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب، فمُلْكُه مُلْكُكُم، وعزُّه عزكُّم، كنتم أسعد الناس به.
قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.
فقال: هذا رأيي لكم، فاصنعوا ما بدا لكم). رواه ابن إسحاق في السيرة قال: حدثنا يزيد بن زياد عن محمد بن كعب فذكره؛ وهذا مرسل حسن رجاله ثقات، وقد صرّح فيه ابن إسحاق بالتحديث، ويشهد له ما تقدّم من حديث جابر، وفيه – عند البيهقي في دلائل النبوة – أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ حتى بلغ {أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود} فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه).
وروى الحاكم في المستدرك والبيهقي في دلائل النبوة من طريق معمر، عن أيوب السختياني، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما «أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رقَّ له، فبلغ ذلك أبا جهل، فأتاه، فقال: يا عم! إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا.
قال: لم؟
قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمدا لتَعَرَّض لما قِبَله.
قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا.
قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له.
قال: وماذا أقول؟!! فو الله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه ولا بقصيدته مني، ولا بأشعار الجن.
والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إنَّ لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى، وأنه ليحطم ما تحته.
قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: فدعني حتى أفكر فيه، فلما فكر، قال: «هذا سحر يؤثر يأثره عن غيره، فنزلت {ذرني ومن خلقت وحيدا}).
وهذا حديث إسناد متصل ورجاله ثقات إلا أنّه أُعِلَّ برواية حماد بن زيد له عن أيوب عن عكرمة مرسلاً، وحمّاد أثبت من معمر في أيوب.
وكذلك رواه معمر عن عباد بن منصور عن عكرمة مرسلاً كما في تفسير عبد الرزاق.
قال البيهقي: (في حديث حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: «جاء الوليد بن المغيرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له: اقرأ علي، فقرأ عليه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}.
قال: أعد، فأعاد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وما يقول هذا بشر»).
وهذه الحادثة مشهورة في كتب السير ، وقد صححها الحاكم وحسّنها الألباني.
والمقصود أنّ العرب قد اعترفوا للقرآن بأعلى رتب الفصاحة والبيان، وعجز المشركون عن معارضته والإتيان بمثله؛ مع حرصهم على ردّ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بكلّ سبيل أمكنهم.
وفيما تقدّم من الأدلة ما يكفي على أنّ العرب تعرف من خطاب القرآن ما يكفي لبيان الهدى، وإفهام المعنى، وقيام الحجة.
وأن هذا القرآن قد تضمّن من حسن البيان، وتفنن الخطاب ، وتنوع الأساليب، وضرب الأمثال التي تعرف العرب معانيها وتدرك مقاصدها ما يكفي ويشفي من يبتغي الهدى.
فكان يكفيهم بما يعرفون من العربية أن يُتلى عليهم القرآن تلاوة بيّنة؛ فتقوم عليهم الحجّة بذلك؛ كما قال الله تعالى: {يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته}.
وقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82}
وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمره به ربّه جلّ وعلا؛ فبلّغ البلاغ المبين؛ فآمن به مَنْ آمن عن معرفةٍ بالحقّ الذي أنزله الله عليه، ولم يُعْرِضْ منهم مَن أعرض بسبب التباس في بيانه أو نقص في حجّته، بل لله الحجة البالغة والبيان التام، وإنما أعرضوا لكفرهم وعنادهم واستكبارهم من بعد ما تبيّن لهم الهدى.
ومن دلائله إفادة القرآن للهدى وبيان الحقّ بما تعرفه العرب من سَنن كلامها أن القرآن يسمعه العالم والجاهل، والحاضر والبادي؛ فيفهمون من دلائل الخطاب ما يُعرف أثره عليهم من المعرفة والدراية، والخشية والبكاء، كما قال الله تعالى: { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا آمنّا فاكتبنا مع الشّاهدين}
ففاضت أعينهم من الدمع مما عرفوه من الحقّ الذي تلي عليهم إذْ كانت تلاوته تلاوة بيّنة كافية في تعريفهم الحق.
بل ربّما تُلي القرآن على الكافر فتفكّر فيه ثم أسلم لما تبيّن له من الحقّ كما أسلم بسبب ذلك فئام لا يُحْصَون.
ومن ذلك ما في الصحيحين وغيرهما من حديث جبير بن مطعمٍ رضي الله عنه أنه قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلّم في فداء المشركين يوم بدرٍ، وما أسلمت يومئذٍ ؛ فدخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلّي المغرب؛ فقرأ بالطّور؛ فلمّا بلغ هذه الآية: {أم خلقوا من غير شيءٍ أم هم الخالقون . أم خلقوا السّموات والأرض بل لا يوقنون . أم عندهم خزائن ربّك أم هم المسيطرون}
قال: كاد قلبي أن يطير، وذلك أوّل ما وقر الإيمان في قلبي).
فهذه التلاوة البيّنة التي سمعها جبير بن مطعم وهو كافر كفته لمعرفة الحقّ وأثرّت فيه تأثيراً بالغاً حتى كاد قلبُه أن يطير من قوة هذه المعرفة التي لم يحتج معها إلى تفسير غير تلاوة تلك الآيات تلاوة بيّنة فكانت سبب إسلامه.
وقال تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلّم فيما أنزل إليه: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون}، والتفكّر دليل إلى استخراج المعاني وفقه المقاصد، وسبيل ذلك عند المخاطبين إنما هو معرفتهم باللسان العربي ودلائل خطابه.
والقَصص بفتح القاف ليست جمع قِصَّة، وإنما هي مَصْدر قائم مقام المفعول، أي: اتل عليهم هذا البيان المفصَّل الذي لم يدع شيئاً مشتبهاً ولا ملتبساً، بل فرق بين أهل الحقّ وأهل الباطل بتفصيله الحسن البيّن في أعمال الفريقين وأحوالهما وجزائهما.
كما قال تعالى: {والله يقصُّ الحقّ وهو خير الفاصلين}، وقال تعالى: {ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه على علم}.
قال أبو منصور الأزهري: (قولُه: {أَحْسَنَ الْقَصَصِ} : أَي: أحسنَ الْبَيَان، والقاصُّ الَّذِي يَأْتِي بالقِصَّة مِن فصها يُقَال: قصصتُ الشَّيْء إِذا تَتَبعتُ أثَرَه شَيْئا بعد شَيْء).
ثم ذكر من الشواهد على ذلك قوله تعالى: {وقالت لأخته قصّيه} ، وقوله: {فارتدا على آثارهما قصصا}.
فقَصّ الأثر تتبّعه حتى تعرف غايته وتتبيّن، وكذلك قَصُّ الحديثِ هو تتبّعه بتفصيل بيّن حتى تتضح غايته.
وبيان الحقّ لهم بياناً مفصَّلاً متتَبّعاً شاملاً لا يشذّ عنه شيء في جمل يسيرة بيّنة أدعى لتوافرهم على التفكّر فيه وتدبّره.
وقد قال الله تعالى: { أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70)}.
فما تقتضيه هذه الآية ونظائرها من الأمر بالتدبر والتفكر وتوجيه الخطاب بذلك إلى قوم كفار لم يؤمنوا؛ دليل بيّن على أنّه أمر ممكن لهم بما يعرفون من العربية، لا يحتاجون فيه إلى علماء ليفقّهوهم في معانيه، ولا ليوضّحوا لهم ما هو واضح لديهم من دلائل الخطاب، ولا سيّما الأصول البيّنة المحكمة من الإيمان بالله والكفر بالطاغوت واتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم والتصديق بالبعث والحساب والجزاء، وغير ذلك من الأصول البيّنة في كتاب الله تعالى.
والمقصود من كلّ ما تقدّم إقامة الدلائل على أن خطاب القرآن كان بلسان عربيّ مبين تعرف العربُ أساليبه ودلائله.
قال أبو منصور الأزهري: (نزلَ القرآنُ الكريمُ والمخاطَبون بِهِ قومٌ عَرَبٌ، أولو بَيانٍ فاضلٍ، وفهمٍ بارع، أنزلهُ جَلّ ذِكْره بلسانهم، وَصِيغَة كَلَامهم الَّذِي نشؤوا عَلَيْهِ، وجُبِلوا على النُّطْق بِهِ، فتدَرّبوا بِهِ يعْرفُونَ وُجُوه خطابه، ويفهمون فنون نظامه، وَلَا يَحْتَاجُونَ إِلَى تعلُّم مُشْكِلِه وغريب أَلْفَاظه حاجةَ المولَّدين الناشئين فِيمَن لَا يعلم لسانَ الْعَرَب حَتَّى يُعَلَّمَه، وَلا يَفهم ضُروبه وَأَمْثَالَه، وطُرَقه وأساليبَه حتّى يُفَهَّمَها)ا.هـ). [طرق التفسير:111 - 126]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:28 AM

الباب السابع: عناية العلماء بالتفسير اللغوي

عناية العلماء بالتفسير اللغوي:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (عناية العلماء بالتفسير اللغوي:
وقد اعتنى المفسرون بتفسير القرآن بلغة العرب؛ ولا سيما ما حفظوه من أشعارهم؛ فكانوا يستعينون به على التفسير وعلى إعراب القرآن وحسن تلاوته.
قال عمر بن زيد: كتب عمر [بن الخطاب] إلى أبي موسى [الأشعري]: « أما بعد فتفقهوا في السنة، وتفقهوا في العربية، وأعربوا القرآن فإنه عربي، وتمعددوا فإنكم معديون». رواه ابن أبي شيبة.
وقال أبيّ بن كعب رضي الله عنه: « تعلَّموا العربيَّةَ في القرآن كما تتعلَّمون حفظه ». رواه ابن وهب وابن أبي شيبة.
وقال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر، فإنه ديوان العرب» رواه الحاكم والبيهقي من طريق أسامة بن زيد الليثي عن عكرمة عن ابن عباس، وهذا إسناد صحيح.
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: «شهدت ابن عباس، وهو يُسأل عن عربية القرآن، فينشد الشعر» رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة، وأبو عبيد في فضائل القرآن.
قال أبو عبيد: (يعني أنه كان يستشهد به على التفسير).
ومعرفة العلماء المتقدّمين من الصحابة والتابعين بفنون العربية تتفاضل، فبعضهم أوسع معرفة بها من بعض، وأكثر تمكناً من شواهدها وأدوات الاجتهاد فيها، وإن كانوا كلّهم من أهل طبقة الاحتجاج قبل سريان اللحن إلى كلام الناس وفشوّه فيهم بعد مخالطة العجم للعرب.
وفي مصنّف ابن أبي شيبة أن رجلاً قال للحسن البصري: يا أبا سعيد، والله ما أراك تلحن!! فقال : (يا ابن أخي ، إني سبقت اللحن).
فالصحابة رضي الله عنهم كانوا عرباً فصحاء وتفسيرهم القرآن بلغة العرب حجّة لغوية إذا صحّ الإسناد إليهم وأُمن لحن الرواة، وكذلك كبار التابعين وأوساطهم ممن لم يعرف منهم اللحن.
وكان الصحابة مع علمهم بالعربية وسلامة لسانهم من العجمة واللحن، لهم عناية بالتفقّه في العربية وسؤال الفصحاء المعربين، وحفظ الحجج اللغوية والشواهد من الأشعار والخطب وغيرها.
قال عاصم بن أبي النجود: (كان زرّ بن حبيش أعرب الناس، وكان عبد الله [بن مسعود] يسأله عن العربية). رواه ابن سعد.
وتقدّم ذكر أمثلةٍ على حفظ ابن عباس رضي الله عنهما للشواهد الشعرية والحجج اللغوية). [طرق التفسير: 127 - 128]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:38 AM

طبقات العلماء المعتنين بالتفسير اللغوي:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري:
( و
العلماء الذين لهم عناية بتفسير القرآن بلغة العرب على طبقات:

الطبقة الأولى: طبقة الصحابة رضي الله عنهم، وكان منهم علماء يفسّرون الغريب ويبيّنون معاني الأساليب القرآنية بما يعرفون من لغتهم العربية التي يتحدّثون بها، وقد نزل القرآن بلغتهم، وكان لبعضهم مزيد عناية ومعرفة بفنون العربية وأساليبها، وحفظ شواهدها، وقد ذكرت من الأمثلة على ذلك فيما مضى ما يغني عن إعادته.
والطبقة الثانية: طبقة كبار التابعين، وعامّتهم من أهل عصر الاحتجاج، وكان لبعضهم عناية بالتفسير اللغوي، وقد مضى ذكر بعض الأمثلة على تفاسيرهم اللغوية.
ومن هذه الطبقة: أبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي (ت: 69هـ)، وهو تابعيّ ثقة فصيح اللسان، عالم بالعربيّة، أدرك الجاهلية، وأسلم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يلْقه، روى عن عمر وعثمان وعليّ وجماعة من كبار الصحابة.
وقرأ القرآن على عثمان وعليّ، وشهد وقعة الجمل مع عليّ، وصاحَبَه وانتفع به، وكان ذكيًّا فَهِماً، وشاعراً مُجيداً، حاضر البديهة، حسن الجواب، قويَّ منزع الحُجَّة.
قال محمد بن سلام الجمحي: (كان أولَّ مَن أسَّسَ العربيَّةَ، وفتحَ بابها، وأنهج سبيلها، ووضع قياسَها: أبو الأسود الدؤلي).
وكان ذلك بأمر عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وروي أنّ علياً هو الذي ابتدأ ذلك، ثم أمره أن ينحو نحوَه، ومن ذلك سُمّيَ النحو نحواً.
روى سعيد بن سَلْم بن قتيبة بن مسلم الباهلي عن أبيه عن جدّه عن أبي الأسود، قال: دخلتُ على عليّ فرأيته مطرقا، فقلت: فيم تتفكر يا أمير المؤمنين؟
قال: سمعت ببلدكم لحناً، فأردت أن أضع كتابا في أصول العربية، فقلت: إن فعلت هذا أحييتَنا، فأتيته بعد أيام؛ فألقى إليَّ صحيفة فيها: (الكلام كلُّه: اسم، وفعل، وحرف؛ فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل).
ثم قال: (تَتَبَّعْهُ وزِدْ فيه ما وقع لك، فجمعت أشياء، ثم عرضتها عليه). ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام.
وقال الذهبي: (أَمَرَهُ علي رضي الله عنه بوضع النحو، فلما أراه أبو الأسود ما وضع، قال: ما أحسن هذا النحو الذي نحوت، ومن ثَمَّ سُمِّيَ النَّحْو نحواً)ا.هـ.
وكان ثقة مأموناً، حسن الرأي والتدبير، استخلفه ابن عباس على البصرة لما تركها، وأقرّه علي بن أبي طالب، وبقي إلى أن مات في طاعون الجارف سنة 69هـ في خلافة ابن الزبير.
ولأبي الأسود أقوال في التفسير تُروى عنه، وأبيات يُستشهد بها، وما حُفظ من أقواله وأشعاره قليل، وأكثر مَن يَروي عنه ابنه أبو حرب واسمه عطاء، ويحيى بن يَعْمَر، وأرسل عنه قتادة.
الطبقة الثالثة: الذين أخذوا عن أبي الأسود الدؤلي، وهم جماعة من المعتنين بالعربية في عداد التابعين منهم: ابنه عطاء، ويحيى بن يَعْمَر العدواني(ت: نحو 90هـ)، ونصر بن عاصم الليثي(ت:89هـ) وعنبسة بن معدان المهري الملّقب بعنبسة الفيل.
ونصر ويحيى معدودان من القرَّاء الفصحاء من أقران أبي عبد الرحمن السلمي.
قال يحيى بن عقيل الخزاعي: (قرأتُ على أبي عبد الرحمن السلمي ويحيى بن يعمر؛ فما اختلفا إلا في حرفين؛ قال أبو عبد الرحمن: {مَالُهُ وَوَلَدُهُ} بفتح الواو، وقال ابن يعمر: "ووُلده" بضم الواو، وقال أبو عبد الرحمن: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} وقال ابن يعمر: "إذا دبر").
وأكثر من يُروى عنه التفسير من أصحاب أبي الأسود: يحيى بن يعمر، وهو أوّل من نقط المصاحف، وقد أخذ النَّقْطَ عن أبي الأسود.
قال هارون بن موسى: (أول من نقط المصاحف يحيى بن يعمر).
وقال ابن حبان: (كان من فصحاء أهل زمانه، وأكثرهم علماً باللغة مع الورع الشديد، وكان على قضاء مرو، وولاه قتيبة بن مسلم).
وهو الذي اجتمع مع عطاء بن أبي الأسود على إكمال ما نحاه أبو الأسود فأضافا إليه أبواباً من العربية.
وقريب من هذه الطبقة ميمون الأقرن وقد اختُلف فيه؛ فقيل إنه أخذ عن عنبسة، وقيل إن عنبسة أخذ عنه، ولا أعلم له أقوالاً مأثورة في التفسير، لكنّه كان من المبرّزين في العربية في زمانه.
الطبقة الرابعة:طبقة الآخذين عن أصحاب أبي الأسود، وعامّتهم من صغار التابعين، وهم جماعة من علماء اللغة المتقدّمين الذين شافهوا الأعراب، وكانت لهم عناية بتأسيس علوم العربية وتدوينها، ومن أهل هذه الطبقة: عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي(ت: 129هـ) وعيسى بن عمر الثقفي(ت: 149هـ) وأبو عمرو بن العلاء المازني التميمي (ت:154هـ).
وهؤلاء كانوا مع علمهم بالعربية وفصاحتهم من القرّاء المعروفين، الذين تُؤخذ عنهم القراءة، ولهم مصنفات كثيرة، في النحو وعلوم العربية، وتدوينات لما سمعوه من أخبار العرب وأشعارهم، لكن عامّة كتبهم مفقودة.
أما أبو عمرو بن العلاء فكان من أوسع الناس معرفة بالقراءات والعربية، وأشعار العرب ولغاتهم وأخبارهم وأنسابهم، وكانت له كتب كثيرة لكنّه أحرقها.
قال الأصمعي: (قال لي أبو عمرو بن العلاء: لو تهيأ أن أفرغ ما في صدري من العلم في صدرك لفعلت، ولقد حفظت في علم القرآن أشياء لو كُتبت ما قدر الأعمش على حملها).
وقال أبو عبيدة: (كان أبو عمرو أعلم الناس بالقراءات، والعربية، والشعر، وأيام العرب، وكانت دفاتره ملءَ بيتٍ إلى السقف، ثم تنسَّك فأحرقها، وكان من أشراف العرب ووجوهها، مدحه الفرزدق وغيره).
وكان متواضعاً مع سعة علمه، سهلَ الحديث مع فصاحته لا يتكلّف غريب الألفاظ، ولا عسف المعاني، ولا يتمدّح بعلمه ولا يتفاخر به.
قال الأصمعي: (كان أبو عمرو بن العلاء يُحسن علوماً إذا أحسن إنسانٌ فنًّا منها قال: من مثلي! ولا يعتدّ أبو عمرو بذلك، وما سمعته يتمدّح قط، إلا أنَّ إنساناً لاحاه مرة فقال له: "والله يا هذا ما رأيتُ أحداً قطّ أعلمَ بأشعارِ العرب ولغاتها منّي، فإن رضيتَ ما قلتُ لك، وإلا فأوجدني عمَّن تروي).رواه الزجاجي في مجالس العلماء.
وقد اشتهر عنه أنه قال: (إنما نحن فيمن مضى كبَقْل في أصول نخل طوال).
وأما ابن أبي إسحاق فتوسّع في القياس وعلله، وتبحّر في النحو حتى بلغ فيه الغاية في زمانه.
قال محمّد بن سلام: (سمعت أبى يَسأل يونسَ عن ابن أبى إسحاق وعلمه؛ قال: "هو والنحو سواء" أي: هو الغاية).
وقال محمد بن سلام: (كان ابن أبى إسحاق أشدَّ تجريداً للقياس، وكان أبو عمرو أوسع علماً بكلام العرب ولغاتها وغريبها).
وأمّا عيسى بن عمر فكان رأساً في النحو ذكيّا فهماً، وله مصنّفات في النحو لم يُعرف منها إلا الجامع والإكمال، وهما مفقودان، قال فيهما الخليل بن أحمد وهو تلميذه:
ذهب النَّحْو جميعاً كلُّه ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر

وقد شارك هذه الطبقة في الأخذ عن أصحاب أبي الأسود جماعةٌ من فقهاء التابعين منهم: محمد بن سيرين وقتادة وإسحاق بن سويد، لكن عناية أولئك بالعربية أظهر وأشهر.
والطبقة الخامسة: طبقة حماد بن سلمة البصري (ت: 167هـ) والمفضَّل بن محمَّد الضَّبِّي (ت:168هـ) والخليل بن أحمد الفراهيدي (ت:170هـ) وهارون بن موسى الأعور (ت:170هـ) والأخفش الأكبر عبد الحميد بن عبد المجيد (ت: 177هـ ).
وهؤلاء في عداد تلاميذ الطبقة الرابعة، ومنهم من شافه الأعراب وأخذ عنهم.
أما حماد بن سلمة فكان قارئاً محدّثاً فقيهاً لغويّاً، وكان عالماً بالنحو، وهو سبب انصراف سيبويه إلى علم النحو.
وأمّا المفضّل فكان من القراء المعروفين، والأدباء المشهورين، وهو صاحب المفضّليات.
وأما الخليل بن أحمد فهو أوّل من ابتكر العروض، وصنّف المعجم، وقد بيّن فيه معاني بعض الآيات بما يعرفه من لغة العرب.
وأمّا هارون الأعور فكان قارئاً نحوياً له ذكر كثير في تفسير ابن جرير باسم هارون الأعور تارة، وتارة يسمّيه هارون النحوي، وهو ثقة في الحديث إلا أنه رُمي بالقدر.
وأما الأخفش الأكبر فكان أستاذاً في النحو والعربية وتفسير الأشعار.
قال عنه المرزباني: (هو أول من فسر الشعر تحت كل بيت، وما كان الناس يعرفون ذلك قبله، وإنما كانوا إذا فرغوا من القصيدة فسروها)
والطبقة السادسة: طبقة سيبويه عمرو بن عثمان بن قنبر (ت: 180هـ)، وخلف بن حيّان الأحمر (ت: نحو 180هـ) ويونس بن حبيب الضَّبِّي (ت:183هـ) وعلي بن حَمزةَ الكِسَائِي (189هـ) وأبي فيد مؤرج بن عمرو السدوسي (ت: 195هـ) ويَحيى بن سلاَّم البصري (ت:200هـ)، ويحيى بن المبارك اليزيدي (ت: 202هـ) ومحمد بن إدريس الشافعي (ت: 204هـ) والنضر بن شميل المازني (ت: 204هـ)، وأبي زكريا يحيى بن زياد الفراء (ت:207هـ) وأبي عبيدةَ مَعمر بن المثنَّى (ت:209هـ)، ومحمد بن المستنير البصري الملقّب بقُطْرب (ت: بعد 211هـ) وأبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني (ت:213هـ) ، والأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة البلخي (ت:215هـ) ، وأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري (ت:215هـ) ، وعبد الملك بن قُرَيبٍ الأصمعي (ت: 216هـ) وأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت:224هـ).
وهؤلاء من أعلام اللغة الكبار، ولهم مصنّفات كثيرة، وفي مصنّفاتهم بيان لمعاني بعض الآيات وما يتصل بها من مسائل لغوية.
ومنهم من صنّف في التفسير ومعاني القرآن كالكسائي، ويحيى بن سلام البصري، والفراء، وأبي عبيدة، والأخفش الأوسط.
وهؤلاء عامّتهم من تلاميذ الطبقة الخامسة، ومنهم من تتلمذ على بعض أصحاب الطبقة الرابعة.
كما قال الأصمعي: (سألت أبا عمرو عن ثمانية آلاف مسألة مما أحصيت عددها من أشعار العرب ولغاتها غير ما لم أُحْصِ). رواه الزجاجي في مجالس العلماء.
وفي أواخر هذه الطبقة من أخذ عن أوائلها كما أخذ الأخفش الأوسط عن سيبويه، وأخذ الفرّاء عن الكسائي، وأخذ الأصمعي عن خلف الأحمر.
ومن العلماء من يموت قبل أقرانه بمدّة، ومنهم من يُعمَّر حتى يأخذ عنه تلاميذ تلاميذ أقرانه.
وأهل هذه الطبقة عامّتهم من أهل السنة، وفيهم من المعتزلة: قطرب والأخفش الأوسط.
واتّهم اليزيدي بميله إلى المعتزلة، ولا يُؤثر عنه من قوله ما يحقق ذلك سوى قصيدة لم تثبت عنه.
والطبقة السابعة: طبقة إبراهيم بن يحيى اليزيديّ (ت: 225هـ)، وصالح بن إسحاق الجرمي (ت:225هـ)، وأبي مِسْحَل عبد الوهاب بن حريش الأعرابي(ت:230هـ)، ومحمَّد بن زياد ابن الأعرابي (ت:231هـ) ، وأبي نصر أحمد بن حاتم الباهلي صاحب الأصمعي (ت: 231هـ)، ومحمد بن سلام الجُمَحِيّ (ت:231هـ)، ومحمد بن سعدان الضرير (ت:231 هـ)، وعبد الله بن محمد التَّوَّزي (ت: 233هـ)، وعبد الله بن يحيى اليزيدي (ت: 237هـ)
والطبقة الثامنة: طبقة أبي العَمَيْثَلِ عبد الله بن خُلَيدِ الأعرابي (ت:240هـ)، ويعقوب بن إسحاق ابن السِّكِّيتِ (ت: 244هـ)، وأبي عثمان بكر بن محمد المازني (ت:247هـ)، وأبي عكرمة عامر بن عمران الضبي (ت: 250هـ)، وأبي حاتم سَهْل بن محمد السِّجِسْتاني (ت:255هـ).
والطبقة التاسعة: طبقة أبي سعيد الحسن بن الحسينِ السُّكَّري (ت: 275هـ)، وعبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري (ت: 276هـ)، وأبي حنيفة أحمد بن داوود الدينوري(ت:282هـ)، واليمان بن أبي اليمان البندنيجي(ت:284هـ)، وإبراهيم بن إسحاق الحربي (ت:285هـ)، ومحمّد بن يزيدَ المبرّد (ت: 285هـ) ، وأبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني [ثعلب] (ت:291هـ)، والمفضَّل بن سلَمة الضَّبّي (ت:291هـ).
والطبقة العاشرة: طبقة يَموتَ بنِ المزرَّعِ العَبْدِي (ت: 304هـ)، ومحمد بن جرير الطبري (ت:310هـ) وكُرَاع النَّمْلِ علي بنُ الحسَن الهُنَائِي (ت: 310هـ) ، وأبي علي الحسن بن عبد الله الأصفهاني المعروف بلُغْدَة(ت: 311هـ)، وإبراهيم بن السَّرِيِّ الزَّجَّاج (ت:311هـ)، والأخفش الصغير علي بن سليمان (ت:315هـ)، وأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت:321هـ)، ونفطويه إبراهيم بن محمد بن عرفة الأزدي (ت:323هـ).
والطبقة الحادية عشرة: طبقة أبي بكر محمد بن القاسم ابن الأنباري (ت: 328 هـ)، وأبي بكر محمد بن عزيز السجستاني (ت: 330هـ) ، وأبي جعفر أحمد بن محمّد النحّاس(ت:338هـ)، وعبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (ت:340هـ)، وغلام ثعلب أبي عمر الزاهد (ت:345هـ)، وعبد الله بن جعفر ابن درستويه (ت: 347هـ)، وأبي الطيّب اللغوي(ت:351هـ)، وأبي علي إسماعيل بن القاسم القالي (ت: 356هـ).
والطبقة الثانية عشرة: طبقة القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني (ت: 366هـ) وأبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي (ت: 368هـ)، وأبي منصورٍ محمد بن أحمد الأزهَرِي (ت: 370هـ)، والحسين بن أحمد ابن خالويه (ت:370هـ)، وأبي علي الحسن بن أحمد الفارسي (ت: 377هـ)، وأبي بكر الزبيدي (ت:379هـ)، وعلي بن عيسى الرمَّاني (ت: 384هـ)، وأبي سليمان حَمْد بن محمد الخَطَّابي (ت:388هـ)، وأبي الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ)، وأبي نصر الجوهري(ت:393هـ)، وأحمد بن فارس الرازي (ت:395هـ).
فهؤلاء الأعلام من أكثر من أخذت عنهم علوم العربية، على اختلاف أوجه عناياتهم اللغوية بالقرآن الكريم؛ فمنهم من يغلب عليه العناية بالنحو والإعراب، ومنهم المشتهر بالقراءات وتوجيهها، ومنهم المعتني بمعاني المفردات والأساليب، ومنهم المشتغل بالتصريف والاشتقاق، إلى غير ذلك من أوجه العناية اللغوية بالقرآن الكريم.
ومنهم من يفرد لعنايته بالقرآن مصنّفات مفردة، ومنهم من يعرض لها في كتبه اللغوية.
وتقصّي كتبهم وآثارهم وأخبارهم أمر يطول، وحسبنا في هذا المقام ذكر أسمائهم لتردّدها في كتب التفسير واللغة.
وهم على درجات متفاوتة في إتقان العلوم، وحسن الأثر، ولزوم السنة، بل منهم من رمي بالاعتزال والاشتغال بعلم الكلام؛ فيُقبل من كلامهم ما أحسنوا فيه وأجادوا، ويردّ منه ما غلطوا فيه مما نصروا به بدعهم، أو ردّوا به شيئاً من الحقّ عامدين أو متأوّلين.
ثمّ خلفهم في كلّ قرن جماعة من العلماء، اقتفوا آثارهم، واعتنوا بعلومهم، وجمعوا وصنّفوا، وبحثوا وحرّروا، وأفادوا ما أفادوا). [طرق التفسير: 128 - 138]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:46 AM

الباب الثامن: أنواع العناية اللغوية بالألفاظ القرآنية

أنواع العناية اللغوية بالألفاظ القرآنية:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( أنواع العناية اللغوية بالألفاظ القرآنية:
لتفسير القرآن بلغة العرب مسارات متعدّدة وأوجه متنوّعة عُني العلماء بها قديماً وحديثاً حتى أفردوا في كلّ وجه منها مصنفات كثيرة؛ وتتابعوا على دراسة أمثلتها، وتحرير مسائلها، وتأصيل قواعدها؛ حتى غدا كلّ واحد من تلك الأوجه علماً قائماً بنفسه مستوياً على سوقه، له أبوابه ومسائله، وأصوله وضوابطه، ومؤلفاته وأئمّته.

وقد تأمّلت أنواع عناية العلماء اللغوية بالألفاظ القرآنية فوجدتها على نحو عشرة أنواع؛ منها ما هو وثيق الصلة بالتفسير اللغوي، ومنها ما يكون على أصناف يدخل بعضها في التفسير اللغوي، وبعضها يعدّ رافداً من روافده، ومنهلاً من مناهله.
وسيكون الحديث في الفصول القادمة عن هذه الأنواع، وشرح فائدتها للمفسّر بالتمثيل والتبيين، وبيان عناية العلماء بها، وسرد المؤلفات فيها، مع ما يحضرني من الفوائد والتنبيهات، والله المستعان وبه التوفيق. [طرق التفسير: 139]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 01:54 AM

النوع الأول: بيان معاني المفردات والأساليب القرآنية
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( النوع الأول: بيان معاني المفردات والأساليب القرآنية:
وهو أشهر تلك الأنواع وأنفعها، وأشدّها صلة بالتفسير، إذ يكون به الكشف عن معنى اللفظ، ومعرفة مقاصد الأساليب، وأكثر عناية السلف اللغوية كانت بهذا النوع.
ومن مسائل هذا النوع ما يتّفق عليه العلماء، ومنها ما يختلفون فيه، وللاختلاف أسبابه وآثاره؛ فمن ذلك أن تكون اللفظة من المشترك اللفظي فيفسّرها بعضهم بمعنى من معانيها، ويفسّرها آخرون بمعنى آخر، ثمّ يختلف المفسّرون بعد ذلك؛ فمنهم من يختار أحد الأقوال لقرينة مرجّحة، ومنهم من يذهب إلى الجمع بين تلك المعاني.

والجمع – إذا أمكن- أولى من الترجيح ما لم يكن لاختيار أحد المعاني قرينة ظاهرة، أو مناسبة بيّنة.
ومن أمثلة ذلك اختلافهم في معنى "عسعس" على قولين:
القول الأول: أدبر، وقد روي عن عليّ بن أبي طالب، وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس ومجاهد، وقال به قتادة وزيد بن أسلم وابنه عبد الرحمن.
والقول الثاني: أقبل، وهو الرواية الأخرى عن ابن عباس ومجاهد، وروي عن الحسن البصري وسعيد بن جبير.
وقد حكى جماعة من علماء اللغة القولين، واستشهد أبو عبيدة للقول الأول بقول عَلْقَمَة التميمي:
حتى إذا الصبح لها تنفّسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وللقول الثاني بقول عِلْقَة بن قرط التيميّ:
قوارباً من غير دجنٍ نسّسا ... مدّرعات الليل لمّا عسعسا
وحكى القولين جماعة من المفسّرين، واختار بعضهم المعنى الأول كما فعل البخاري وابن جرير.
قال ابن جرير: (وأولى التأويلين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: معنى ذلك: إذا أدبر، وذلك لقوله: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} فدلّ بذلك على أن القسم بالليل مدبرًا، وبالنهار مقبلا)ا.هـ.
واختار بعضهم المعنى الثاني كما فعل ابن كثير إذ قال: (وعندي أن المراد بقوله: {عسعس} إذا أقبل، وإن كان يصحّ استعماله في الإدبار، لكن الإقبال هاهنا أنسب؛ كأنه أقسم تعالى بالليل وظلامه إذا أقبل، وبالفجر وضيائه إذا أشرق، كما قال: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى})ا.هـ.
ومن العلماء من اختار الجمع بين القولين كما فعل الزجاج إذ قال: (يقال: عسعس الليل إذا أقبل، وعسعس إذا أدبر، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره)ا.هـ.
وأما البخاري فله منهج دقيق في الاختيار والترجيح يعتمد غالباً على جانب الرواية؛ فإذا ثبت القول لديه عن ابن عباس أو مجاهد أو غيرهما صرّح باسمه، وإذا لم يثبت عنده من جهة الرواية لكنّه أرجح من غيره رواية ومعنىً ذكره من غير نسبة كما فعل هنا، ولقرينة أخرى وهي أنّ الفراء قد حكى اجتماع المفسّرين على هذا القول، وزيّف شاهداً احتجّ به بعض أصحاب القول الثاني، وحكاية الإجماع وإن لم تصح إلا أنّها تفيد تغليب هذا القول من جانب الرواية، فلهذين السببين – والله تعالى أعلم – اختار البخاري هذا القول.
قال الفراء: (وقوله عز وجل: {واللّيل إذا عسعس...}؛ اجتمع المفسرون على أن معنى {عسعس}: أدبر.
وكان بعض أصحابنا يزعم أن {عسعس}: دنا من أوله وأظلم، وكان أبو البلاد النحوي ينشد فيه:
عسعس حتى لو يشاء ادّنا ...كـان لـه مـن ضـوئـه مقـبـس
يريد: إذْ دنا، ثم يلقي همزة إذْ، ويدغم الذال في الدال، وكانوا يرون أنَّ هذا البيت مصنوع)ا.هـ.
وقد انفرد الفراء بدعوى الإجماع هذه، وخالفه جماعة من علماء اللغة من غير اعتماد على الشاهد الذي ردّه.
ومما ينبغي أن يُعلم أنه ليس كلّ ما تحتمله اللفظة من المعاني في اللغة يصحّ أن تُفسَّر به في القرآن.
ومن أمثلة ذلك: لفظ "الفلق" يطلق في اللغة على الصبح، وعلى الخلق كلّه، وعلى تبيّن الحق بعد إشكاله، وعلى المكان المطمئن بين ربوتين، وعلى مِقْطَرة السجان، وعلى اللَّبَن المتفلق الذي تميز ماؤه، وعلى الداهية.
ولكلّ معنى من هذه المعاني شواهد صحيحة مبثوثة في كتب اللغة.


ومثل هذه الألفاظ التي تطلق على أكثر من معنى يؤخذ بما يحتمله السياق منها، ثمّ يكون النظر فيها على مراتب:
المرتبة الأولى: النظر في دلالة النص أو الإجماع على اختيار بعض تلك المعاني؛ فما دلّ عليه النصّ أو الإجماع وجب المصير إليه وطرح كلّ ما خالفه.
المرتبة الثانية: النظر في الأقوال المأثورة عن الصحابة والتابعين فيؤخذ ما قالوا به منها، وينظر في أقوالهم حسب قواعد الجمع والترجيح.
وينظر كذلك في المعاني التي يحتملها السياق مما لم يذكروه بشرط أن لا تعارض ما قالوه، ولا تعارض نصّاً ولا إجماعاً في موضع آخر.
والمرتبة الثالثة: النظر في أقوال المفسّرين من علماء اللغة فما قالوا به مما لا يعارض المرتبتين الأولى والثانية فمقبول إلا أن تكون له علّة لغوية.
والمرتبة الرابعة: النظر في دلالة المناسبة، وهي أن يكون أحد المعاني أنسب لمقصد الآية من المعاني الأخرى.
المرتبة الخامسة: النظر في توارد المعاني ، وهي أن يحتمل التركيب معاني متعددة لأحوال متغايرة؛ فيؤخذ بالمعنى الأول للحالة الأولى وبالمعنى الثاني للحالة الثانية وهكذا.
ويجب على من يفسّر القرآن بلغة العرب أن يراعي أصولَ التفسير ومراتب الاستدلال وقواعد الترجيح، ولا يحلّ له أن يفسّر القرآن بمجرّد الاحتمال اللغوي من غير مراعاة ما تقدّم، وليُعلمْ أن من أسباب الانحراف في التفسير الأخذ بمجرّد الاحتمال اللغوي، وقد اغترّ بذلك بعض من اشتغل بالتفسير من أصحاب الأهواء، وفتنوا ببعض ما خرجوا به من أقوال لمّا رأوا القرآن حمّالاً ذا وجوه، وأعجبتهم أقوالهم، وما أشربوا من أهوائهم، فضلّوا وأضلوا.
والكلام في تفسير المفردات يطول، وفيه مباحث كثيرة، وقواعد تفصيلية تُبحث في مظانّها، وعسى الله أن ييسر دورة علمية لبسط الحديث عنها.
وأما الأساليب فمعرفة معانيها ومقاصدها له أثر بالغ في التفسير، وإن لم يكن في الجملة لفظ يستدعي التفتيش عن معناه في كتب اللغة، فمعرفة معنى الأسلوب قدر زائد على معرفة معاني الألفاظ المفردة، ولا يستقيم فهم معنى الآية إلا بمعرفة معنى الأسلوب؛ فإذا تبيّن معنى الأسلوب تبيّن معنى الآية للمتأمّل، ولذلك أمثلة كثيرة:
منها: قوله تعالى: {فما أصبرهم على النار} فسّر بالتعجب وفسّر بالاستفهام، وللسلف واللغويين قولان مشهوران في هذه الآية عمادهما على تفسير معنى الأسلوب.
ومنها: قوله تعالى: {قل إن كان للرحمن ولد فأنا أوّل العابدين} فسّر هذا الأسلوب بالنفي وفسّر بالشرط، وللمفسّرين كلام طويل في هذه الآية عماده على تفسير هذا الأسلوب.
ومما ينبغي أن يُتنبّه له أن المفسّر قد يصيب في معرفة الأسلوب ثمّ يقع الخطأ في تقرير المعنى على ذلك الأسلوب، ولذلك أمثلة في كتب التفسير.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير قوله تعالى: {أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله}
قال: (أي: أإله مع الله فعل هذا؟ وهذا استفهام إنكار، وهم مقرون بأنه لم يفعل هذا إله آخر مع الله.
ومن قال من المفسرين إن المراد: هل مع الله إله آخر؟ فقد غلط؛ فإنهم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى كما قال تعالى: {أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد})ا.هـ.
والأساليب القرآنية كثيرة متنوّعة، والغرض من هذا الشرح الموجز والتمثيل المقتضب التعريف بهذا النوع من أنواع التفسير اللغوي.
وقد أكثر العلماء من التصنيف فيه لجلالة قدره وعظم نفعه، بل عامّة كتب غريب القرآن من هذا النوع، وكثير من كتب معاني القرآن تعرض له، ويُعْنَى به كثير من المفسّرين في تفاسيرهم، وإن اختلفت مراتب عنايتهم به.

وممن صنّف في غريب القرآن: عبد الله بن يحيى اليزيدي، وابن قتيبة، وابن عزيز السجستاني، وأبو عمر الزاهد غلام ثعلب، وأبو عبيد الهروي، ومكي بن أبي طالب القيسي، والراغب الأصفهاني، وأبو جعفر الخزرجي، وابن الجوزي، وابن المنيّر، وأبو حيّان الأندلسي، والسمين الحلبي، وابن الملقّن، وابن الهائم وغيرهم كثير.
وممن صنّف في معاني القرآن من علماء اللغة: الكِسائي وكتابه مفقود، والفراء، وأبو عبيدة، والأخفش الأوسط، وأبو عبيد القاسم بن سلام وكتابه مفقود، والزجاج، والنحاس.
وما كتبه هؤلاء العلماء من التفسير اللغوي كان محلّ عناية كثير من المفسّرين ممن جاء بعدهم). [طرق التفسير: 140 - 145]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 07:48 AM

النوع الثاني: بيان معاني الحروف
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( النوع الثاني: بيان معاني الحروف
علم معاني الحروف من العلوم اللغوية المهمّة للمفسّر، وهو مفيد في حلّ كثير من الإشكالات، واستخراج الأوجه التفسيرية، ومعرفة أوجه الجمع والتفريق بين كثير من أقوال المفسرين.

والغفلة عن معاني الحروف قد توقع في خطأ في فهم معنى الآية، وقد يقع ذلك لبعض كبار المفسّرين.
قال مالك بن دينار: كنا نعرض المصاحف أنا والحسن وأبو العالية الرياحي ونصر بن عاصم الليثي وعاصم الجحدري، قال: سأل رجل أبا العالية عن قول الله عز وجل {الذين هم عن صلاتهم ساهون} ما هو؟
فقال أبو العالية: «هو الذي لا يدري عن كم انصرف؟ عن شفع أو عن وتر»
فقال الحسن: مَهْ! ليس كذلك، {الذين هم عن صلاتهم ساهون}: «الذي يسهو عن ميقاتها حتى تفوت» رواه عبد الرزاق.
قال الزركشي: (لو كان المراد ما فهم أبو العالية لقال: "في صلاتهم" فلما قال "عن صلاتهم" دل على أن المراد به الذهاب عن الوقت)ا.هـ.
وفهم أبي العالية قد يصحّ على معنى السهو عن معنى الصلاة وإرادتها بالقلب، ولو صلاها بجوارحه مع المسلمين كما يصلّي المنافقون من غير إرادة التقرّب إلى الله تعالى بالصلاة، بل قلوبهم في غفلة عن ذلك، وإنما يصلون رياءً، كما قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: (يُصلّون وليست الصلاة من شأنهم).
وأما مجرّد السهو في الصلاة فليس مما يتناوله الوعيد في الآية). [طرق التفسير: 146 - 147]


جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 07:58 AM

أمثلة لدراسة مسائل معاني الحروف في التفسير:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أمثلة لدراسة مسائل معاني الحروف في التفسير:
المسألة الأولى: معنى الباء في {بسم الله}
اختلف اللغويون في معنى الباء في (بسم الله) على أقوال أقربها للصواب أربعة أقوال، وهي أشهر ما قيل في هذه المسألة، وإليك بيان هذه الأقوال:
القول الأول: الباء للاستعانة، وهو قول أبي حيان الأندلسي، والسمين الحلبي، وقال به جماعة من المفسّرين.
والقول الثاني: الباء للابتداء، وهو قول الفراء، وابن قتيبة، وثعلب، وأبي بكر الصولي، وأبي منصور الأزهري، وابن سيده، وابن يعيش، وجماعة.
والقول الثالث: الباء للمصاحبة والملابسة، واختاره ابن عاشور.
والقول الرابع: الباء للتبرك، أي أبدأ متبركاً، وهذا القول مستخرج من قول بعض السلف في سبب كتابة البسملة في المصاحف، وأنها كتبت للتبرّك، وهذا المعنى يذكره بعض المفسرين مع بعض ما يذكرونه من المعاني.
والأظهر عندي أن هذه المعاني الأربعة كلها صحيحة لا تعارض بينها، وما ذكر من اعتراضات على بعض هذه الأقوال فله توجيه يصحّ به القول.
ومن ذلك اعتراض بعضهم على معنى الاستعانة بأنّ الاستعانة تكون بالله وليست باسم الله؛ قالوا: الأشهر أن يقول المستعين إذا أراد الاستعانة: أستعين بالله، ولا يقول: أستعين باسم الله.
وهذا الاعتراض يدفعه أنّ الذي يذكر اسم ربّه لا ريب أنّه يستعين بذكر اسمه على ما عزم عليه؛ فمعنى الاستعانة متحقق.
فهو يستعين بالله تعالى حقيقة، ويذكر اسمه متوسّلاً به إلى الله تعالى ليعينه؛ وهذا هو مراد من قال بمعنى الاستعانة.
وقد أرجع سيبويه معاني الباء إلى أصل واحد وهو الإلزاق؛ فقال في الكتاب: (وباء الجر إنما هي للإلزاق).
وهذا مقبول من حيث الأصل لكن يُعبَّر عن المعنى في كلّ موضع بما يناسبه، ولذلك استبدل ابن عاشور عبارة الإلزاق في هذا الموضع بالمصاحبة والملابسة وذكر أنها مترادفة، ومن أهل اللغة من يذكر بينها فروقاً دقيقة.
والإلزاق ينقسم إلى حسيّ ومعنوي؛ فالحسيّ للمحسوسات نحو: أمسكت بالقلم، والمعنويّ نحو: قرأتُ بِنَهَمٍ.
ثمّ يتفرَّع على الإلزاق الحسي والمعنوي أنواع أخرى؛ فقد يكون للاستعانة وقد يكون للتبرك، وقد يكون للاستفتاح، وقد يكون لغير ذلك، وقد تجتمع بعض هذه المعاني.
فما اجتمع منها من غير تنافر فيصحّ القول به، ولذلك يصحّ أن يستحضرَ المبسملَ عندَ بسملته هذه المعاني جميعاً، ولا يجد في نفسه تعارضاً بينها.
والغرض من التفصيل في هذه المسألة أن يتبيّن طالب علم التفسير أنّ من الأقوال في معاني الحروف ما يجتمع ولا يتنافر، وهذه قاعدة مهمة في التفسير ولها تطبيقات كثيرة في مسائل التفسير.
ومن أمثلة ذلك الجمع بين أقوال العلماء في معنى الباء في قوله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب}
فقيل: الباء للاستعانة، وقيل: للمصاحبة، وقيل: للملابسة، وقيل: للسبيية، وقيل: للتبرّك.
وهذه كلها معانٍ صحيحة لا تعارض بينها.
لكن مما يُنبَّه عليه ضعف بعض الأقوال التي قيلت في معنى الباء في قوله تعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم}
فقيل: زائدة، وقيل: هي للقسم؛ وقيل: للاستعلاء.
فأمّا القول بالزيادة فضعيف جداً، وكذلك القول بأنّها للقسم، والقسم يفتقر إلى جواب، ولا ينعقد إلا معلوماً.
وأما القول بالاستعلاء فيكون صحيحاً إذا كان معنى الاستعلاء عند التسمية مطلوباً؛ كالتسمية عند الرمي، وفي أعمال الجهاد، وسائر ما يطلب فيه الاستعلاء كما قال الله تعالى: {ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون}
وهذا المعنى لا يُراد إذا كانت التسمية لما يراد به التذلل لله تعالى والتقرّب إليه كما في التسمية لقراءة القرآن.
وبهذا تعلم أن معاني الحروف تتنوّع بحسب السياق والمقاصد وما يحتمله الكلام، وليست جامدة على معانٍ معيَّنة يكرر المفسّر القول بها في كلّ موضع(1)). [طرق التفسير: 147 - 149]


(1) هذه المسألة مستلة من مسائل تفسير سورة الفاتحة من كتاب "زاد المفسّر" يسّر الله إتمامه.


جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 08:05 AM

المسألة الثانية: معنى "ما" في قول الله تعالى: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( المسألة الثانية: معنى "ما" في قول الله تعالى: {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ}
اختلف في معنى "ما" ههنا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: "ما" موصولة لإفادة العموم؛ والمعنى: إن الله يعلم كلَّ ما تعبدون من دونه من حجر أو شجر أو نجم أو نار أو جنّ أو إنس؛ فكلّ ما يُعبد من دون الله تعالى فالله محيط به علماً.
وإيماء هذا المعنى أنّ الله يعلم حال تلك المعبودات ونقصها وفقرها إليه وأنّها لا تستحقّ من العبادة شيئاً، وأنّ كلّ من أشرك بالله شيئاً في عبادته فهو بعلم الله وسيجازيه على شركه.
والقول الثاني: "ما" نافية ، والنفي متجّه لنفع تلك المعبودات؛ فكأنّها لمّا لم تنفعهم شيئاً نزّلت منزلة المعدوم، ومن حسن بيان العرب تنزيل عديم الفائدة منزلة عديم الوجود، وهذا فيه تبكيت عظيم الأثر على قلوب المشركين.
وهذا المعنى نظير قول الله تعالى: { مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}
وقول الله تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ...}
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الكهّان: ((ليسوا بشيء)).
والقول الثالث: "ما" استفهامية، والاستفهام إنكاري، و"يعلم" معلّقة، والمعنى: أيّ شيء تدعون من دون الله؟
القول الأول قول ابن جرير الطبري وجماعة من المفسرين فسّروا الآية على هذا المعنى، وذكره أبو سعيد السيرافي في شرح كتاب سيبويه.
والقول الثاني ذكره أبو البقاء العكبري وأبو حيّان الأندلسي والسمين الحلبي وابن عاشور وشرحه شرحاً حسناً، واختاره الأستاذ محمود صافي.
والقول الثالث ذكره سيبويه عن الخليل بن أحمد، وقال به أبو علي الفارسي والراغب الأصبهاني وأبو البقاء العكبري وجماعة). [طرق التفسير: 150 - 151]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 08:12 AM

المسألة الثالثة: معنى "من" في قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه}
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( المسألة الثالثة: معنى "من" في قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه}
في هذه المسألة أقوال لأهل العلم:
القول الأول: "من" للتعدية، كما في قول الله تعالى: {قالت إني أعوذ بالرحمن منك} وقوله تعالى: { قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق}، وقوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} ؛ فكذلك قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر الله}.
وهو أظهر المعاني في مثل هذا السياق، وهذا القول هو معنى قول جماعة من المفسّرين، وهو معنى رواية سماك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {يحفظونه من أمر الله} قال: (ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، فإذا جاء قدره خلوا عنه). رواه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال المعتمر بن سليمان: سمعت ليثا يحدث، عن مجاهد أنه قال: (ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال: وراءك! إلا شيئا يأذن الله فيه فيصيبه). رواه ابن جرير.
وقال إبراهيم النخعي: (يحفظونه من أمر الله) قال: من الجن). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم، وهو مخرّج على أنّ "من" للتعدية.
وروي معنى هذا القول عن عليّ بن أبي طالب وأبي هريرة وأبي أمامة وعكرمة وغيرهم.
القول الثاني: "من" سببية، أي بسبب أمر الله لهم بحفظه يحفظونه، وهذا معنى قول الفراء وأبي عمر الزاهد غلام ثعلب، وذكره أبو حيان، وجماعة من المفسرين.
وقال عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير: (الملائكة: الحفظة، وحفظهم إيّاه من أمر اللّه) رواه ابن جرير.
قال ابن الجوزي: (فيكون تقدير الكلام : هذا الحفظ مما أمرهم الله به).
القول الثالث: "من" بمعنى الباء، أي: يحفظونه بأمر الله، وهذا قول قتادة، رواه عنه عبد الرزاق وابن جرير، ورواية عن مجاهد من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح عنه، وقال به الخليل بن أحمد، ومقاتل بن سليمان، وهارون الأعور، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والمبرّد في المقتضب، وأبو البقاء العكبري، وجماعة.
وهذا القول صحيح، ويتفرّع إلى معنيين:
- أحدهما أن تكون الباء سببية؛ فيكون بمعنى القول الثاني، وهذا معنى قول الفرّاء: (و{يحفظونه} ذلك الحفظ من أمر الله وبأمره وبإذنه عز وجلَّ؛ كما تقول للرجل: أجيئِك مِنْ دعائِك إِيَّاى وبدعائِك إيَّاي)ا.هـ.
- والآخر: أن تكون الباء للتعدية، أي يحفظونه بما مكَّنهم الله به من أسباب الحفظ.
القول الرابع: بمعنى "عن"، وهي رواية عن ابن عباس أخرجها ابن أبي حاتم من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وذكره ابن جرير الطبري عن بعض نحاة البصرة، وأنهم قالوا: (معنى ذلك: يحفظونه عن أمر الله، كما قالوا:"أطعمني من جوع، وعن جوع" و"كساني عن عري، ومن عري").
وهذا القول يرجع إلى معنى القول الثاني، وهو كقوله تعالى حكاية عن الخضر: {وما فعلته عن أمري}.
القول الخامس: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: (له معقِّبات من أمر الله يحفظونه) ، وهي رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال في قوله تعالى: {يحفظونه من أمر اللّه} يقول: بإذن اللّه، فالمعقّبات: هي من أمر اللّه، وهي الملائكة) رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال ابن وهب: أخبرني الحارث بن نبهان عن عطاء بن السائب عن ابن عباس قال: (الملائكة من أمر الله يحفظونه).
وقال أيضا: أخبرني سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الله ابن عباس أنه كان يقرأ: {له معقبات من بين يديه}، ورقباء، {من خلفه} من أمر الله {يحفظونه}.
وقال خصيف عن مجاهد: (الملائكة من أمر الله) رواه ابن جرير، وروى نحوه عن ابن جريج عن ابن عباس، وهو منقطع.
والتقدير على هذا القول له معقبات من أمر الله يحفظونه، ومتعلق الحفظ محذوف لإرادة العموم في كل ما يحتاج فيه إلى الحفظ.
والتحقيق أنّ هذه المعاني كلّها صحيحة، واختلافها كاختلاف الأقوال الصحيحة في المشترك اللفظي، وكاختلاف القراءات.
واختلاف التنوّع تقبل الأقوال فيه بثلاثة شروط:
- أحدها أن يكون القول في نفسه صحيحاً.
- والثاني: أن تكون دلالة الآية عليه دلالة صحيحة من جهة اللغة.
- والثالث: أن يصحّ عن السّلف.
وشرح الأقوال الخمسة وبيان الفروق بينها، ودلالة الآية عليها يطول، لكن مما ينبّه عليه أثر الاختلاف في مرجع الضمير في قوله تعالى: {له معقبات}، والمراد بالمعقبات، ومعنى الحفظ في قوله تعالى: {يحفظونه}.
ففيه قولان:
أحدهما: حفظ عناية ووقاية.
والآخر: حفظ رقابة وكتابة كما في قول الله تعالى: {وإن عليكم لحافظين . كراماً كاتبين}.
قال ابن جريج: {يحفظونه من بين يديه ومن خلفه} مثل قوله: {عن اليمين وعن الشمال قعيد} قال: الحسنات من بين يديه، والسيئات من خلفه، الذي عن يمينه يكتب الحسنات والذي عن شماله يكتب السيئات). رواه ابن جرير.
وكلّ قول من هذين القولين ومن الأقوال في المسألتين الأخريين يخرّج عليه ما يناسبه من الأقوال في معنى "من".
وقد كثرت الأقوال في تفسير هذه الآية لسعة معانيها، وتعدد دلائلها، وعامّتها أقوال صحيحة، إلا ما ذكر عن بعضهم من أنّ في الآية نفياً محذوفا والتقدير: (لا يحفظونه من أمر الله) وهذا القول ذكره أبو إسحاق الزجاج عن بعض أهل اللغة، وهو تحريف لا يصحّ، ولا يُؤثر عن أحد من السلف، وإنما قاد إليه استشكال معنى الحفظ من أمر الله على القول بأنّ "من" للتعدية.
والصواب أنه لا إشكال فيه؛ فكلّ الأقدار من أوامر الله تعالى الكونية، والأوامر الكونية قد أجرى الله فيها سنن التدافع، كما تدفع الأمراض بالتداوي والرقى؛ ويتّقى البرد باللباس، والحرّ بالظلال والأكنان، وقد روى الترمذي وابن ماجة وغيرهما من حديث الزهري عن أبي خزامة عن أبيه أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: يا رسول الله أرأيت رقى نسترقيها ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها هل ترد من قدر الله شيئا؟
قال: ((هي من قدر الله)).
وروي نحوه من حديث كعب بن مالك وحكيم بن حزام وابن عباس رضي الله عنهم أجمعين.
ولمّا بلغ عمر نزول الوباء بالشام ونادى بالرحيل قال له أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟
فقال عمر: (لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!! نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة؛ أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله). رواه البخاري.
وقال كعب الأحبار: (لو تجلَّى لابن آدم كل سهل وحزن لرأى على كل شيء من ذلك شياطين، لولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذا لتُخُطِّفتُم). رواه ابن جرير.
فالمعقّبات التي يدفع الله بها الشرور وتحفظ بني آدم كثيرة، وهي مأمورة بالحفظ، كما أمر الله الجفن أن يحفظ العين، لكن إذا قضى الله أمراً يصيب العبد فلا رادّ لقضائه، ولا تنفعه حفظته إذا نزل به قضاء الله). [طرق التفسير: 151 - 156]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 08:17 AM

عناية المفسّرين ببيان معاني الحروف
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (
عناية المفسّرين ببيان معاني الحروف
وقد اعتنى المفسّرون ببيان معاني الحروف عناية حسنة لاتّصالها بالتفسير، ولا سيّما بعض من كتب في معاني القرآن كالفراء والأخفش وابن قتيبة والزجاج والنحاس وغيرهم.

ولابن جرير وابن عطية والقرطبي وأبي حيان وأبي السعود والألوسي وابن عاشور عناية حسنة بالتنبيه على معاني الحروف في التفسير. [طرق التفسير: 156]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 08:27 AM

أنواع المؤلّفات في شرح معاني الحروف
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( أنواع المؤلّفات في شرح معاني الحروف
سلك العلماء طرقاً متنوعة في التأليف في شرح معاني الحروف، وسأوجز الحديث عن أشهر تلك الأنواع:

النوع الأول: إدراجها في كتب الوجوه والنظائر، وهو أوّل ما ظهر من الكتابة في معاني الحروف، وسبب ذلك أنّ الحروف ترد على وجوه متعددة من المعاني، غير أنّ هذا النوع من التأليف لا يختص بالحروف ولا يتقصّاها؛ ومن أشهر الكتب المؤلفة في هذا النوع:
1. كتاب "الوجوه والنظائر" لمقاتل بن سليمان البلخي(ت:150هـ)، وقد ذكر فيه معاني بعض الحروف مثل: "إلى"، و"إلا" و"إن"، و"أو" و"أم" و"حتى"، و"لولا"، و"لما" وغيرها.
2. "الوجوه والنظائر" لهارون بن موسى النحوي(ت:170هـ) ، وقد ذكر فيه معاني بعض الحروف ومنها: "إن" و"أنى" و"أم" و"أو" و"من" و"في" "ولما" وغيرها، وفيه اعتماد كبير على كتاب مقاتل، وزيادة عليه.
3. التصاريف ليحيى بن سلام البصري(ت:200هـ)، وقد ذكر فيه معاني بعض الحروف مثل معاني "من" و"في" و"إن" و"أن" وغيرها.
4. كتاب "وجوه القرآن" لإسماعيل بن أحمد الحيري الضرير(ت:431هـ).
5. "الوجوه والنظائر" للقاضي أبي عبد الله محمد بن علي الدامغاني(ت:478هـ)
6. "نزهة الأعين النواظر في علم الوجوه والنظائر" لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي ابن الجوزي(ت:597هـ).
7. "كشف السرائر في معنى الوجوه والأشباه والنظائر"، لشمس الدين محمد بن محمد البلبيسي المعروف بابن العماد المصري(ت:887هـ).

النوع الثاني: إدراج شرحها في معاجم اللغة
وسبب ذلك أنّ الحروف من المفردات التي يكثر دورانها في الاستعمال؛ فكان من عناية أصحاب المعاجم اللغوية شرحها فيما يشرحون من المفردات على تفاوت ظاهر بينهم في ذلك، ومن أشهر المعاجم اللغوية:
1. كتاب "العين"، للخليل بن أحمد الفراهيدي (ت:170هـ) وقد شرح معاني بعض الحروف كما في شرحه لـ"أو" و"أم" و"أي" وغيرها.
وهذا الكتاب أصله للخليل بن أحمد، وأتمّه تلميذه الليث بن المظفر بن نصر بن سيار، وقد تتبعَّه ونقده الإمام أبو منصور الأزهري في كتابه الجليل "تهذيب اللغة"؛ فلذلك أوصي من يرجع إلى شرح مفردة في كتاب "العين" أن يطالع شرح تلك المفردة في "تهذيب اللغة".
2. جمهرة اللغة"، لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي(ت:321هـ).
3. "تهذيب اللغة" لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري(ت:370هـ).
4. "المحيط في اللغة"، لأبي القاسم إسماعيل بن عباد الطالقاني المعروف بالصاحب بن عباد (ت:385هـ).
5. "تاج اللغة وصحاح العربية"، لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري (ت: 393هـ )
6. "مجمل اللغة"، لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الرازي(ت: 395هـ) ، وله أيضاً "مقاييس اللغة" ، لكن تناوله لمعاني الحروف في "مجمل اللغة" أكثر.
7. "المخصص"، لأبي الحسن علي بن إسماعيل المرسي المعروف بابن سيده الأندلسي(ت:458هـ)، وله أيضاً "المحكم والمحيط الأعظم"
8. "لسان العرب"، لأبي الفضل محمد بن مكرم بن منظور الأنصاري الأفريقي(ت:711هـ)
9. "القاموس المحيط"، لمجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت:817هـ)
10. "تاج العروس من جواهر القاموس"، لأبي الفيض مرتضى الزبيدي(ت:1205هـ).
فهذه أشهر المعاجم اللغوية، وفيها تناول لمعاني بعض الحروف بالشرح والتمثيل، واستخراج كلام أصحاب المعاجم في معاني الحروف، وترتيبه على حروف المعجم عمل نافع لو تصدّى له أحد.

النوع الثالث: التأليف المفرد في معاني الحروف
وقد صنّف في معاني الحروف جماعة من أهل العلم، ومن أشهر كتبهم وأهمّها:
1: الحروف، لأبي حاتم سهل بن محمد السجستاني (ت: 255هـ)، وهو جزء صغير نقله ياقوت الحموي من كتاب مفقود لأبي حاتم اسمه «لحن العامة».
2: المحلّى، لأبي بكر أحمد بن الحسن بن شقير النحوي البغدادي(ت:317هـ)، وقد بدأه بتفسير وجوه النصب والرفع والخفض والجزم، ثمّ أخذ في شرح أنواع الحروف ومعانيها.
3: حروف المعاني والصفات، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي (ت 340 هـ).
4: الحروف، لأبي الحسن علي بن الفضل المزني النحوي (ت: ق4)، وكان معاصراً لابن جرير الطبري.
5: منازل الحروف، لأبي الحسن علي بن عيسى الرُّمَّاني(ت:388ه).
6: الأُزهية في علم الحروف، لأبي الحسن علي بن محمد الهروي النحوي (ت: 415هـ).
7: رصف المباني في حروف المعاني، لأبي جعفر أحمد بن عبد النور المالقي(ت:702ه)
8: التحفة الوفية بمعاني حروف العربية، لأبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن إبراهيم الصفاقسي(ت:742هـ) تلميذ أبي حيان الأندلسي.
9: الجنى الداني في حروف المعاني، لأبي محمد الحسن بن قاسم المرادي المراكشي(ت:749ه) المشتهر بابن أمّ قاسم.
10: مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لأبي محمد جمال الدين عبد الله بن يوسف بن هشام الأنصاري(ت:761ه).
11: جواهر الأدب في معرفة كلام العرب، لعلاء الدين بن عليّ بن بدر الدين الإربلي(ت:ق8 هـ)، وفي اسم مؤلّفه خلاف، وقال الأستاذ محمّد عبد الخالق عضيمة: (الظاهر أن مؤلف الكتاب هو: العلاء بن أحمد بن محمد بن أحمد السيرامي المتوفي سنة 790).
12: مصابيح المغاني في حروف المعاني، لجمال الدين محمد بن علي المَوزعي المعروف بابن نور الدين (ت 825 هـ).
13: فتح الرؤوف في أحكام الحروف وما في معناها من الأسماء والظروف، لجمال الدين محمد بن عمر بن مبارك الحميري الحضرمي المعروف بِبَحْرَق(ت: 930هـ) ، وهي منظومة شرحها في كتاب لطيف.
14. كفاية المُعاني في حروف المعاني، وهي منظومة حسنة لأبي محمد عبد الله بن محمد البيتوشي الكردي (ت:1211ه)، وقد ذُكر عنه أنه كان يحفظ "القاموس المحيط" عن ظهر قلب، وقد اعتنى بمنظومته هذه عناية فائقة، وألّف في شرحها ثلاثة كتب:
أ: الحفاية بتوضيح الكفاية، وهو شرح كبير طُبع في نحو ثمانمائة صفحة.
ب: والكفاية لراغب الحفاية، وهي تعليقات مختصرة.
ج: وصرف العناية في كشف الكفاية، وهو شرح متوسط أودع فيه زبدة ما في الحفاية مع زوائد وفوائد.
15: غنية الطالب ومنية الراغب في الصرف والنحو وحروف المعاني، للأستاذ أحمد بن فارس الشدياق(ت:1305هـ).
وعامّة هذه الكتب مطبوعة.
هذا ، وقد ذُكر عن جماعة من العلماء المتقدمين أنّهم ألّفوا في الحروف كالخليل بن أحمد والكسائي والنضر بن شميل وأبي عمرو الشيباني وابن السكّيت والمبرّد وأبي علي الفارسي وغيرهم إلا أنّ ما ذكر عنهم على ثلاثة أصناف:
أ: صنف لا تصحّ نسبته إليهم، ومن ذلك:
- كتاب الحروف المنسوب إلى الخليل بن أحمد، وقد طبع بتحقيق د.رمضان عبد التواب، وقال: (ويبدو أن الكتاب مزيّف) وذكر أنّ الحافظ الذهبي قد اختصره، وأن الفيروزآبادي والسيوطي قد نقلا عنه.
- ورسالة في الحروف العربية، طبعت منسوبة إلى النضر بن شميل المازني(ت: 204هـ) بتحقيق: هبة الدين الحسيني، في مجلة العلم ببغداد، ونشرها المستشرق أوغست هفنر في المجموع الذي سمّاه "البلغة في شذور اللغة".
ب: وصنف وإن كان عنوانه في الحروف إلا أنّ موضوعه في غير بيان معاني الحروف؛ ومن ذلك:
- كتاب ابن السكيت في "الحروف التي يُتكلّم بها في غير موضعها" لم يُرِدْ فيه حروف المعاني، وإنما أطلق لفظ الحرف على ما نسمّيه الجُملة.
- وكتاب الحروف لأبي عمرو الشيباني(ت:213هـ) إنما هو كتاب "الجيم" له، وهو معجم لغوي.
- وكتاب الحروف المنسوب لأبي نصر الفارابي(ت:339هـ) كتاب فلسفي لم يجر فيه على طريقة أهل اللغة في شرح حروف المعاني.
- وكتاب الحروف لابن الطحّان (ت:560هـ) هو في صفاتها ومخارجها.
- وكتاب الحروف لأبي الفضائل الرازي(ت: ق7 هـ) وهو كتاب فيه فصول عن علم الحروف الهجائية وصفاتها وأنواعها ومخارجها، وليس فيه حديث عن حروف المعاني.
ج: وصنف لم يصل إلينا، ولا أعرف عنه سوى اسمه، ككتب الكسائي والمبرّد وأبي علي الفارسي.

النوع الرابع: إفراد بعض الحروف بالتأليف.
ومن الكتب المفردة في معاني بعض الحروف:
1: الهمز، لأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري(ت:215هـ).
2: الألفات، لأبي محمد بن القاسم بن بشار ابن الأنباري: (ت: 328 هـ)
3: الألفات، لأبي عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني(ت:370هـ)
4: كتاب "اللامات"، لأبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي(ت: 340هـ).
5:اللامات، لأبي جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس(ت:338هـ).
6: واللامات، لأبي زكريا أحمد بن فارس بن زكريا الرازي (ت:395هـ)، وله "مقالة كلا".
7: ولأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري(ت:577هـ) كتب مفردة في بعض الحروف منها: كتاب "كلا وكلتا"، كتاب "لو وما" ، وكتاب "كيف" ، وكتاب "الألف واللام".
8. الفصول المفيدة في الواوات المزيدة، لأبي سعيد خليل بن كيلكلدى بن عبدالله العلائي(ت:761هـ).
وتتبع ما كتب في هذا النوع من الرسائل والكتب وجمعه نافع جداً لو تصدّى له أحد.
). [طرق التفسير: 156 - 163]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 08:33 AM

الدراسات المعاصرة لمعاني الحروف في القرآن الكريم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الدراسات المعاصرة لمعاني الحروف في القرآن الكريم
لعلماء هذا العصر جهود مشكورة في إعداد موسوعات علمية في معاني الحروف في القرآن الكريم، ومن أهمّ تلك الأعمال:

1. قسم معاني الحروف من كتاب "دراسات لأسلوب القرآن الكريم" للأستاذ الجليل محمد عبد الخالق عضيمة، وهو عمل جليل أمضى فيه نحو خمسة وعشرين عاماً، وبذل وسعه في حصر مواضع حروف المعاني في القرآن الكريم، وأقوال العلماء في معانيها من مراجع كثيرة.
وقدّم لكل حرف بلمحات معرّفة عن مواضع وروده في القرآن الكريم ومعانيها.
2. معجم الأدوات والضمائر في القرآن الكريم، إعداد الدكتور إسماعيل عمايرة والدكتور عبد الحميد السيد.
3. معجم حروف المعاني في القرآن الكريم، للأستاذ محمد حسن الشريف). [طرق التفسير: 163 - 164]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 08:56 AM

النوع الثالث: إعراب القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (النوع الثالث: إعراب القرآن
علم إعراب القرآن من العلوم التي يُعنى بها نحاة المفسّرين وأئمتهم لأسباب من أجلّها الكشف عن المعاني، والتعرّف على علل الأقوال، وترجيح بعض الأقوال وأوجه المعاني على بعض، وتخريج أقوال المفسّرين.

وقد كان لجماعة من علماء اللغة المتقدّمين عناية بمسائل الإعراب في التفسير، وكان منهم من تُحفظ أقواله وتروى في كتب التفسير وكتب العربية، ومنهم من كانت له كتب يعرض فيها لبعض مسائل إعراب القرآن.
ومن هؤلاء العلماء:
عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي(ت: 129هـ) وعيسى بن عمر الثقفي(ت: 149هـ) وأبو عمرو بن العلاء(ت:154هـ) ، والخليل بن أحمد (ت:170هـ) وهارون الأعور (ت:170هـ)، وسيبويه (ت: 180هـ)، ويونس بن حبيب (ت:183هـ)، وأضرابهم). [طرق التفسير:165]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:01 AM

تاريخ التأليف في إعراب القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ثمّ ظهر في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث التأليف في معاني القرآن وإعرابه:

- فكان للإمام الكسائي (ت:189هـ) كتاب في معاني القرآن لكنّه مفقود.
- ولأبي زكريا يحيى بن زياد الفرَّاء (ت:207هـ) كتاب قيّم في معاني القرآن، وكان كتابه من أجمع الكتب في زمانه في إعراب القرآن، وقد عني العلماء به.
- وكتب أبو عبيدة معمر بن المثني(ت:209هـ) مجاز القرآن، وفيه مسائل في إعراب القرآن.
- وكتب محمد بن المستنير البصري المعروف بقطرب(ت: بعد 211هـ) كتاباً في معاني القرآن، وقد حقق بعضه مؤخراً.
- وكتب الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (ت: ٢١٥هـ) كتاباً في "معاني القرآن" وهو مطبوع.
- ثمّ برز في منتصف القرن الثالث وآخره جماعة من علماء اللغة الذين كانت لهم أقوال مأثورة في إعراب القرآن، ومنهم: ابن السكيت، وأبو حاتم السجستاني، وابن قتيبة، والمبرّد، وثعلب.

ثمّ اتّسع التأليف في إعراب القرآن في القرن الرابع الهجري؛ واشتهرت فيه كتب منها:
-
فكتب أبو إسحاق إبراهيم بن السريّ الزجاج(ت:311هـ) كتابه الحافل ""معاني القرآن وإعرابه" وهو من أجمع كتب إعراب القرآن في زمانه، واشتهر كتابه شهرة كبيرة وعني به العلماء.
- وكتب أبو جعفر أحمد بن إسماعيل النحاس (ت:338هـ)، وهو من أوسع الكتب في إعراب القرآن، وله كتابان آخران فيهما مسائل كثيرة في إعراب القرآن، وهما "معاني القرآن" و"القطع والائتناف".
- وكتب أبو عبد الله الحسينُ بنُ أحمدَ ابنُ خالويه الهمَذاني(ت:370هـ) كتابيه "إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم" و"إعراب القراءات السبع وعللها" وهما من أجلّ كتب إعراب القرآن.
- ولأبي منصور الأزهري (ت:370هـ) كتاب حسن في "معاني القراءت وعللها" تعرّض فيه لبعض مسائل الإعراب.

ثمّ تتابع التأليف في إعراب القرآن في القرون التالية، ومن أجود المؤلفات فيه:
-
كتاب حافل في إعراب القرآن لعلي بن إبراهيم بن سعيد الحوفي(ت:430هـ)، قال فيه الذهبي: (له " إعراب القرآن " في عشر مجلدات ، تخرّج به المصريون)ا.هـ.
وهذا الكتاب عرف باسم "البرهان في علوم القرآن" ، وقد طبع بعضه في رسائل جامعية، وهو كتاب جامع في التفسير والقراءات وتوجيهها والإعراب والغريب والاشتقاق، ولمؤلفه عناية ظاهرة بالإعراب.
- وكتاب "مشكل إعراب القرآن" لمكي بن أبي طالب القيسي (ت: 437هـ).
- وكتاب "البيان في غريب إعراب القرآن" لأبي البركات ابن الأنباري (ت:577هـ).
- و"الملخص في إعراب القرآن"، للخطيب يحيى بن علي التبريزي (ت: 502هـ).
- و"كشف المشكلات وإيضاح المعضلات"، لعلي بن الحسين الباقولي (ت: 543هـ)
- و"إملاء ما مَنَّ به الرحمن" لأبي البقاء عبدالله بن الحسين العكبري (ت: 616هـ)، وله كتاب "إعراب القراءات الشواذ"
- و"الفريد في إعراب القرآن المجيد"، لحسين بن أبي العز المنتجب الهمذاني (ت: 643هـ)،
- و"المجيد في إعراب القرآن المجيد" لإبراهيم بن محمد الصفاقسي (ت: 742هـ).

وقد كان لجماعة من المفسّرين عناية حسنة بمسائل الإعراب وأثرها على التفسير والترجيح بين الأقوال، ومن هؤلاء المفسّرين:
-
أبو جعفر محمد بن جرير الطبري(ت:310هـ) في تفسيره الكبير "جامع البيان عن تأويل آي القرآن".
- وأبو الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي (ت: 468هـ) في تفسيره البسيط، وقد طبع مؤخراً.
- وأبو حيان محمد بن يوسف الأندلسي (ت: 745هـ) في تفسيره الحافل "البحر المحيط" ، وهو من أجود التفاسير التي عنيت بإعراب القرآن.
- وأحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي (ت: 756هـ) في كتابه "الدرّ المصون".
- والأستاذ محمد الطاهر بن عاشور(ت:1393هـ) في تفسيره القيّم الذي سماه "التحرير والتنوير".

وأُلّف في هذا العصر مؤلفات كثيرة في إعراب القرآن، ومن أشهرها وأجودها:
-
"الجدول في إعراب القرآن" للأستاذ محمود بن عبد الرحيم الصافي(ت:1376هـ) ، وقد اجتهد فيه اجتهاداً بالغاً، وتوفّي - رحمه الله- بعد ساعة من دفع الكتاب للمطبعة.
- و"إعراب القرآن وبيانه"، لمحيي الدين درويش (ت:1402هـ) ، وقد أمضى في تأليفه نحو عشرين عاماً.
- و"المعجم النحوي لألفاظ القرآن الكريم"
، للأستاذ محمد عبد الخالق عضيمة (ت:1404هـ) وهو أحد أقسام موسوعته الكبيرة في دراسة أساليب القرآن، وقد أمضى في تأليف تلك الموسوعة أكثر من ثلاثة وثلاثين عاماً.
وقد جمع في كتابه واستقصى ما شاء الله له أن يستقصي من مسائل النحو وإعراب القرآن وأقوال العلماء في تلك المسائل من كتب التفسير وإعراب القرآن ومعاني القرآن وكتب النحو والصرف ومعاجم اللغة، وغيرها، مع ما عرف عنه رحمه الله من سعة الاطلاع، والجلَد على البحث والدراسة، وحسن المعرفة بعلوم العربية.
وقال رحمه الله في خاتمة موسوعته: (لم أقتصر على كتب النحو وحدها، ولا على كتب الإعراب وحدها، ولا على كتب التفسير وحدها، وإنما شملت القراءات كثيراً من الكتب المختلفة)ا.هـ). [طرق التفسير:165 - 169]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:13 AM

أنواع مسائل إعراب القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع مسائل إعراب القرآن
مسائل الإعراب منها مسائل بيّنة عند النحاة والمفسّرين لا يختلفون فيها، ومنها مسائل مشكلة على بعضهم يختلف فيها كبار النحاة،
وهذا الاختلاف على صنفين:
الصنف الأول: الاختلاف الذي لا أثر له على المعنى، وإنما يختلفون فيه لاختلافهم في بعض أصول النحو وتطبيقات قواعده، وتخريج ما أشكل إعرابه، كاختلافهم في قوله تعالى: {إن هذان لساحران}.
فقد اختلف النحاة في إعراب "هذان" اختلافاً كثيراً على أقوال عديدة.
قال أبو إسحاق الزجاج: (وهذا الحرف من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ مُشْكِل على أهل اللغة، وقد كثر اختلافهم في تفسيره، ونحن نذكر جميع ما قاله النحويون ونخبر بما نظن أنه الصواب واللَّه أعلم).
ثم خلص بعد بحثه المسألة إلى قوله: (والذي عندي - واللّه أعلم - وكنتُ عرضتُه على عالميَنا محمد بن يزيد وعلى إسماعيل بن إسحاق بن حماد بن زيد القاضي فقَبِلاه وذكرا أنّه أجود ما سمعاه في هذا، وهو أنّ "إنْ" قد وقعت موقع "نعم"، وأنَّ اللام وقعت موقعها، وأن المعنى هذان لهما ساحران)ا.هـ.
محمّد بن يزيد هو المبرّد شيخ الزجاج.
وأفرد شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في هذه المسألة بسط القول فيها بسطاً حسناً، وناقش الأقوال والعلل، وخلص من بحث بقوله: (فهذه القراءة هي الموافقة للسماع والقياس ولم يشتهر ما يعارضها من اللغة التي نزل بها القرآن)ا.هـ.
وليس المقصود هنا تفصيل الكلام في هذه المسألة، وإنما المراد التنبيه على الصنف الأول من أصناف الاختلاف في مسائل الإعراب في القرآن، وأنّ
الاختلاف في هذا الصنف من المسائل ليس له أثر على المعنى سوى الفوارق البيانية التي تقتضيها معاني الحروف والأساليب.
والصنف الثاني: الاختلاف الذي له أثر على المعنى، وهذا له أمثلة كثيرة:
منها: اختلاف العلماء في إعراب "مَن" في قوله تعالى: {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} ؛ فمَن جعلها فاعلاً ذهب إلى أنّ المراد هو الله تعالى لأنه الخالق.
ومن جعلها مفعولاً ذهب إلى أن المعنى: ألا يعلم اللهُ الذين خلقهم.
قال ابن القيّم رحمه الله: (وقد اختلف في إعراب {من خلق} هل هو على النصب أو الرفع؟
فإن كان مرفوعا فهو استدلال على علمه بذلك لخلقه له، والتقدير: أنه يعلم ما تضمنته الصدور، وكيف لا يعلم الخالق ما خلقَه، وهذا الاستدلال في غاية الظهور والصحة؛ فإن الخلق يستلزم حياة الخالق وقدرته وعلمه ومشيئته.
وإن كان منصوبا؛ فالمعنى ألا يعلم مخلوقَه، وذكر لفظة {من} تغليبا ليتناول العلمُ العاقلَ وصفاته.
وعلى التقديرين فالآية دالة على خلق ما في الصدور كما هي دالة على علمه سبحانه به)ا.هـ.
ومنها: اختلافهم في إعراب "نافلة" في قوله تعالى: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة}
فمن أعربها نائب مفعول مطلق؛ ذهب إلى أنّ المراد بالنافلة الهبة.
ومن أعربها حالاً من يعقوب ذهب إلى أن المراد بالنافلة الزيادة، أي وهبنا له إسحاق، وزدناه يعقوب زيادة.
قال الأمين الشنقيطي: (وقوله: نافلة فيه وجهان من الإعراب؛ فعلى قول من قال: النافلة العطية فهو ما ناب عن المطلق من {وهبنا} أي: وهبنا له إسحاق ويعقوب هبة، وعليه النافلة مصدرٌ جاء بصيغة اسم الفاعل كالعاقبة والعافية.
وعلى أن النافلة بمعنى الزيادة فهو حال من {يعقوب} أي: وهبنا له يعقوب في حال كونه زيادة على إسحاق)ا.هـ.
والأمثلة على الصنفين كثيرة جداً، والذي يتّصل بالتفسير اللغوي هو الصنف الثاني دون الأوّل.
ومن فوائد معرفة الإعراب أنّه يعين على استكشاف علل بعض الأقوال الخاطئة في التفسير.
ومن أمثلة ذلك قول الرازي في معنى "ما" في قوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} إذ قال: (هنا يجوز أن تكون {ما} استفهاما للتعجب تقديره: فبأي رحمة من الله لنت لهم)ا.هـ.
وقد ردّه ابن هشام في قواعد الإعراب من وجهين؛ فقال: (والتوجيه المذكور في الآية باطل لأمرين:
أحدهما: أن (ما) الاستفهامية إذا خُفضت وجب حذف ألفها نحو: {عم يتساءلون}.
الثاني: أن خفض {رحمة} حينئذ يشكل؛ لأنه لا يكون بالإضافة، إذ ليس في أسماء الاستفهام ما يضاف إلا (أي) عند الجميع، و(كم) عند الزجاج.
- ولا بالإبدال من (ما) لأنَّ المبدل من اسم الاستفهام، لابد أن يقرن بهمزة الاستفهام، نحو: كيف أنت، أصحيح أم سقيم؟
- ولا صفة لأن (ما) لا توصف إذا كانت شرطية أو استفهامية.
- ولا بياناً لأنَّ ما لا يوصف لا يعطف عليه عطف البيان كالمضمرات)ا.هـ). [طرق التفسير:169 - 173]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:24 AM

النوع الرابع: توجيه القراءات:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (النوع الرابع: توجيه القراءات:
توجيه القراءات علم شريف لطيف عُني به جماعة من المفسّرين والقرّاء واللغويين، ومن العلماء من أفرده بالتصنيف كما فعل أبو منصور الأزهري، وابن خالويه، وأبو علي الفارسي، وابن جنّي، وابن زنجلة، ومكي بن أبي طالب، وابن أبي مريم الفسوي، وغيرهم.

واختلاف القراءات على نوعين:
النوع الأول:
ما ليس له أثر على المعنى، وهذا النوع يعنى به القرّاء لضبط القراءات، ويعنى ببعضه النحويون والصرفيون لاتّصاله بمسائل النحو والصرف.
والنوع الثاني:
ما له أثر على المعنى وهو الجانب الذي يُعنى به المفسّرون
، ولذلك أمثلة كثيرة مبثوثة في كتب التفسير واللغة وكتب توجيه القراءات.
والعلم بتوجيه القراءات يعتمد على جملة من العلوم اللغوية ، لكن لما تميّزت مسائله بغرض توجيه القراءات أفرده بعض العلماء بالتصنيف، وهو مما يعين المفسّر على الكشف عن الأوجه التفسيرية، والتعرّف على بعض أسباب اختلاف أقوال المفسّرين، ومعرفة بعض دقائق الفروق بين القراءات المتشابهة). [طرق التفسير:174]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:26 AM

أمثلة على فائدة معرفة توجيه القراءات للمفسّر:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أمثلة على فائدة معرفة توجيه القراءات للمفسّر:
قال أبو علي الفارسي:
(قوله تعالى: {مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يُقرأ بإثبات الألف وطَرْحِها؛ فالحجة لمن أثبتها: أن الملك داخل تحت المالك، والدّليل له: قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ}.

والحجة لمن طرحها: أنَّ الملك أخصّ من المالك وأمدح؛ لأنه قد يكون المالك غير مَلِك، ولا يكون المَلِكُ إلا مالكا)ا.هـ.
هكذا قال رحمه الله، وأولى منه أن يقال: إن لكلا القراءتين من المعنى ما ليس للآخر:
-
أمَّا المَلِك فهو ذو المُلك، وهو كمال التصرّف والتدبير ونفوذ أمره على من تحت ملكه وسلطانه، وأنّ إضافة المَلِك إلى يوم الدين {ملك يوم الدين} تفيد الاختصاص؛ لأنه اليوم الذي لا مَلِكَ فيه إلا الله؛ فكلّ ملوك الدنيا يذهب مُلْكُهم وسلطانهم، ويأتونه كما خلقهم أوَّل مرة مع سائر عباده عراة حفاة غرلاً؛ كما قال الله تعالى: {يوم هم بارزون لا يخفى على اللّه منهم شيءٌ لمن الملك اليوم للّه الواحد القهّار}.
- وأمَّا المالك فهو الذي يملِكُ كلَّ شيء يوم الدين، فيظهر في ذلك اليوم عظمة ما يَـمْلِكه جلَّ وعلا، ويتفرّد بالمِلك التامّ فلا يملِك أحدٌ دونه شيئاً إذ يأتيه الخلق كلّهم فرداً فرداً لا يملكون شيئاً، ولا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، ولا يملك بعضهم لبعضٍ شيئاً {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله}.
- فالمعنى الأولّ صفة كمال فيه ما يقتضي تمجيد الله تعالى وتعظيمه والتفويض إليه.
- والمعنى الثاني صفة كمال أيضاً وفيه تمجيد لله تعالى وتعظيم له وتفويض إليه من أوجه أخرى.
- والجمع بين المعنيين فيه كمال آخر وهو اجتماع المُلك والمِلك في حقّ الله تعالى على أتمّ الوجوه وأحسنها وأكملها؛ فإذا كان من الناس من هو مَلِكٌ لا يملِك، ومنهم من هو مالكٌ لا يملُك، فالله تعالى هو المالك الملِك، ويوم القيامة يضمحلّ كلّ مُلك دون ملكه، ولا يبقى مِلكٌ غير مِلكه.(1)

وقال أبو منصور الأزهري: (وقوله جلَّ وعزَّ: {حَتَّى يَطْهُرْنَ ... (222)}.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي: (حَتَّى يَطَّهَّرْنَ) بتشديد الطاء والهاء.
وقرأ الباقون: (حَتَّى يَطْهُرْنَ) مخففا.
قال أبو منصور: مَنْ قَرَأَ {حَتَّى يَطَّهَّرْنَ} والأصل: يَتَطهَّرنَ والتطهرُ يكون بالماء، فأُدْغِمَت التاء في الطاء فشددت.
وَمَنْ قَرَأَ {حَتَّى يَطْهُرْنَ} فالمعنى: يَطهُرنَ مِن دَم المحِيض إذا انقَطع الدم، وجائزٌ أن يكون {يَطهُرن} الطهر التام بالماء بعد انقِطاع الدم)ا.هـ.
ومن الاختلاف في القراءات ما لا أثر له على المعنى عند المفسّرين، وقد يُعنى به بعض القرّاء والنحاة؛ كما
قال
ابن خالويه: (قوله تعالى: {الصِّراطَ} تقرأ بالصاد والسّين وإشمام الزّاي:
- فالحجة لمن قرأ بالسّين: أنه جاء به على أصل الكلمة.
- والحجة لمن قرأ بالصّاد: أنه أبدلها من السّين لتؤاخي السّين في الهمس والصّفير، وتؤاخي الطاء في الإطباق؛ لأن السين مهموسة والطاء مجهورة.
- والحجة لمن أشمّ الزّاي: أنها تؤاخي السّين في الصفير، وتؤاخي الطّاء في الجهر)ا.هـ.
وكلام العلماء في توجيه القراءات منه ما تكون الحجّة فيه بيّنة ظاهرة، ومنه ما هو اجتهاد قد يصيب فيه المجتهد، وقد يُخطئ، وقد يصيب بعض المعنى.

والغرض هنا التعريف بعلم توجيه القراءات
وبيان أنواع مسائله، وصلته بالتفسير اللغوي، ؛ وذِكْر أبرز الكتب المؤلفة فيه، والعلماء الذين لهم عناية به، وأمّا جمع مسائل توجيه القراءات ودراستها وتصنيفها فله مقام آخر). [طرق التفسير:174 - 177]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:32 AM

النوع الخامس: التفسير البياني
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (النوع الخامس: التفسير البياني
التفسير البياني هو التفسير الذي يُعنى بالكشف عن حسن بيان القرآن، ولطائف عباراته، وحِكَم اختيار بعض الألفاظ على بعض، ودواعي الذكر والحذف، ولطائف التشبيه والتمثيل، والتقديم والتأخير، والإظهار والإضمار، والتعريف والتنكير، والفصل والوصل، واللف والنشر، وتنوّع معاني الأمر والنهي، والحصر والقصر، والتوكيد والاستفهام إلى غير ذلك من أبواب البيان الكثيرة.

وكلام العلماء في هذا النوع كثير مستفيض، وقد عُني المفسّرون ببيان بعض ما حضرهم من ذلك، والإحاطة بهذا النوع غير ممكنة، لأنّ منه أبواباً يتفاضل العلماء في إدراكها، والتفطّن لها لدقّة مأخذها؛ فإذا أُثير السؤال عنها تبيّن للعلماء عند التأمّل ما يقفون به على بعض بدائع القرآن.
وقد قال ابن عطية رحمه الله في مقدّمة تفسيره: (كتاب الله لو نُزِعَت منه لفظة، ثم أُديرَ لسانُ العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد)ا.ه.

وتقرير هذا الكلام من وجهين:
أحدهما: قدرة الله تعالى المطلقة على كلّ شيء، ومن ذلك بلوغ الغاية في حسن البيان بما لا تطيقه قدرة المخلوقين ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيراً؛ فالله تعالى أقدر منهم على حسن البيان، بل لا تبلغ نسبة قدرتهم ولو اجتمعوا نسبة سراج ضعيف إلى قوّة نور الشمس وإشراقها.
والوجه الآخر: سَعَة علم الله تعالى وإحاطته بجميع الألفاظ وأنواع دلالاتها وأوجه استعمالاتها، وأنّه لا يغيب عن علمه شيء من ذلك، ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه المخلوق من التذكّر والموازنة والتحقق.
ولو قُدِّرَ وجود لفظة أحسن لكان إدراك علم الله تعالى لها سابق على إدراك المخلوقين، وقدرته عليها أمكن من قدرتهم ولو اجتمعوا.
وفي هذا ما يُقطع به على انتفاء إمكان الإتيان بمثل هذا القرآن، وأن الله تعالى لم يذكر فيه ما ذكر إلا عن علم، ولم يترك ما ترك إلا عن علم، كما قال الله تعالى: {ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه على علم}.
). [طرق التفسير:178 - 179]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:32 AM

أمثلة للتفسير البياني
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( أمثلة للتفسير البياني
ومن هذا الباب ما يكون من لطائف اختيار بعض الألفاظ على بعض كما في قوله تعالى: {والفتنة أشدّ من القتل} ، وقوله: {والفتنة أكبر من القتل}، وكثيراً ما تعرف لطائف الفروق بالنظر إلى السياق؛ فالسياق في الآية الأولى في حث المؤمنين على القتال وترغيبهم فيه وتحذيرهم من تركه، حيث قال تعالى:{ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}.

فكان من أوجه حثّهم على القتال أن بيّن لهم أن الفتنة في الدين أشدّ من القتل وأعظم ضرراً من القتل، وما يحصل لمن فُتن في دينه من العذاب عند الله لا يوازي ما يحصل له من ألم القتل وهو ثابت على دينه.
قال ابن جرير: (فتأويل الكلام: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركاً بالله من بعد إسلامه أشد عليه وأضرّ من أن يقتل مقيماً على دينه متمسكاً بملته محقاً فيه)ا.هـ.
فالمراد بالفتنة في هذه الآية الافتتان في الدين، والخطاب فيها للمؤمنين فلما كانت الموازنة بين ألم القتل وعاقبة الفتنة ناسب أن يكون التفضيل بأشد، حتى يقدم المؤمن على القتال موقناً بأن ما يصيبه من أذى هو أخف من عاقبة ترك القتال والافتتان في الدين، كما قال تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم..} الآية.
ويوضّحه أيضاً معنى قوله تعالى: {وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حراً لو كانوا يفقهون} وكذلك نظائرها في القرآن الكريم.
وأما الآية الأخرى فسياقها في تعداد الآثام الكبار التي وقع فيها المشركون؛ حيث قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}.
فلمّا ذكر الصدَّ عن سبيل الله والكفر به وإخراج المؤمنين من مكة؛ ناسب أن يكون التفضيل بـ(أكبر) أي أكبر إثماً.
قال ابن عاشور: (والتفضيل في قوله: {أكبر} تفضيل في الإثم )
هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فالخطاب في هذه الآية للمشركين فلم يناسب أن يقال لهم إن الفتنة أشد على المسلمين من هذه الآثام فيحصل لهم بذلك نوع شماتة بالمسلمين، بل المراد أن الفتنة التي أنتم مقيمون عليها وهي الشرك، أكبر إثماً من قتلكم من قتلتم من المؤمنين.). [طرق التفسير:179 - 180]

أصول التفسير البياني
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( أصول التفسير البياني

ومسائل التفسير البياني ترجع إلى خمسة أصول:
الأصل الأول: مقدّمات التفسير البياني، من نشأته، وتدرّج التأليف فيه، وأشهر العلماء المعتنين به، وإجمال مناهجهم، وضوابط ومحاذير البحث في مسائل التفسير البياني، وما إلى ذلك.
والأصل الثاني: دلالات المفردات القرآنية، وذلك أنّ كلّ مفردة في القرآن لها أنواع من الدلالات؛ فتدلّ بوضعها اللغوي، وبصيغتها الصرفية، واشتقاقها إن كانت مشتقة، وإعرابها إن كانت معربة.
والأصل الثالث: دلالات تراكيب الجمل، فمن المعلوم أنّ لكلّ جملة متركبة من مفردات؛ ولهذه التراكيب أنواع وتفصيلات تقتضي أنواعاً من الدلالات البيانية.
والأصل الرابع: دلالات الأساليب البيانية، ومن ذلك: أسلوب الاستفهام، وأسلوب الشرط، وأسلوب الأمر، وأسلوب النهي، وأسلوب التوكيد، وأسلوب الاستثناء، وأسلوب التعجب، وأسلوب الحصر، وغيرها.
والأصل الخامس: مسالك التفريق البياني، وفيه تبحث أنواع الفروق بين المفردات، والأساليب، وطرق العلماء في استخراج تلك الفروق.
وقد كتبت في شرح هذه الأصول كتاب "أصول التفسير البياني" نفع الله به). [طرق التفسير:179 - 180]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:32 AM

عناية العلماء بالتفسير البياني
قال عبد العزيز بن داخل المطيري:(عناية العلماء بالتفسير البياني
والتفسير البياني له صلة بالكشف عن المعاني المرادة، ورفع الإشكال، ويُستعمل في الترجيح بين الأقوال التفسيرية، واختيار بعضها على بعض، وله صلة وثيقة بعلم مقاصد القرآن.
غير أن كلام العلماء في هذا الباب منه ما هو ظاهر الدلالة بيّن الحجّة، ومنه ما يدقّ مأخذه ويلطف منزعه، ومنه ما هو محلّ نظر وتأمل لا يُجزم بثبوته ولا نفيه، ومنه ما هو خطأ بيّن لمخالفته لنصّ أو إجماع أو قيامه على خطأ ظاهر.
وكلام العلماء في هذا النوع كثير مستفيض، وممن عُني بالتفسير البياني من المفسرين: الزمخشريّ، والرازي، وأبو السعود، والآلوسي، وابن عاشور، غير أنه ينبغي أن يُحذر من بعض ما يُذكر في التفسير البياني مما يخالف صحيح الاعتقاد، كتأويل بعض الصفات، والأمور الغيبية، وما يكون لدى بعضهم من تكلّف وتمحّل في بعض المواضع.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيّم كلامٌ حسنٌ كثيرٌ في هذا النوع متفرّق في كتبهم.
ولشرف الدين الطيبي حاشية نفيسة على الكشاف للزمخشري عني فيها بالتفسير البياني.
ولجلال الدين السيوطي كتاب في التفسير البياني سماه "قطف الأزهار في كشف الأسرار" بلغ فيه إلى سورة التوبة ولم يتمّه.

وممن أفرد التصنيف في هذا النوع: ابن قتيبة، وابن المنادَى، والخطيب الإسكافي، وعبد القاهر الجرجاني، وابن أبي الإصبع المصري، ومحمد بن أبي بكر الرازي، وابن الزبير الغرناطي، وابن تيمية، وابن جماعة، وابن ريان، وزكريا الأنصاري، وغيرهم.
فلهؤلاء كتب في متشابه القرآن، ومشكل القرآن، وبديع القرآن، وكثيراً ما يعرضون في كتبهم لمثل هذا النوع من التفسير اللغوي.
وللعلماء المتقدّمين كلام مقتضب يندرج في هذا النوع، ثم توسّع العلماء فيه بعد تأسيس علم البلاغة والبيان، وإفراد التصنيف فيه، وتدريس أبوابه وقواعده وأمثلته، واشتهار مصطلحاته.
قال عبد القاهر الجرجاني: (قوله تعالى: {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب} أي لمن أعملَ قلبَه فيما خُلق القلب له من التدبر والتفكر والنظر فيما ينبغي أن ينظر فيه.
فهذا على أن يجعل الذي لا يعي ولا يسمع ولا ينظر ولا يتفكر كأنه قد عُدِم القلب من حيث عدم الانتفاع به، وفاته الذي هو فائدة القلب والمطلوب منه كما يجعل الذي لا ينتفع ببصره وسمعه ولا يفكر فيما يؤديان إليه، ولا يحصل من رؤية ما يرى وسماع ما يسمع على فائدة بمنزلة من لا سمع له ولا بصر)ا.هـ.

وحجة ما ذهب إليه ظاهرة من أن العرب تُسمّي من لا ينتفع بالآلة باسم فاقدها؛ فيقال لمن لا يبصر الحق مع وضوحه: أعمى، ومن لا يسمعه: أصمّ، وقد قال الله تعالى في الكفار: {صمّ بكم عمي فهم لا يعقلون}.
وقال ابن القيّم رحمه الله في كتاب الفوائد: (وقوله {لمن كان له قلب} .. المراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله كما قال تعالى: {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا} أي حيّ القلب..).
وقال في مدراج السالكين: (وقال تعالى في آياته المشهودة {وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد}.
والناس ثلاثة: رجل قلبه ميت، فذلك الذي لا قلب له، فهذا ليست هذه الآية ذكرى في حقه.
الثاني: رجل له قلب حي مستعد، لكنه غير مستمع للآيات المتلوة التي يخبر بها الله عن الآيات المشهودة إما لعدم ورودها، أو لوصولها إليه ولكن قلبه مشغول عنها بغيرها، فهو غائب القلب، ليس حاضرا، فهذا أيضا لا تحصل له الذكرى مع استعداده ووجود قلبه.
الثالث: رجل حي القلب مستعد، تليت عليه الآيات، فأصغى بسمعه، وألقى السمع وأحضر قلبه، ولم يشغله بغير فهم ما يسمعه، فهو شاهد القلب، ملق السمع، فهذا القسم هو الذي ينتفع بالآيات المتلوة والمشهودة.
فالأول: بمنزلة الأعمى الذي لا يبصر.
والثاني: بمنزلة البصير الطامح ببصره إلى غير جهة المنظور إليه، فكلاهما لا يراه.
والثالث: بمنزلة البصير الذي قد حدق إلى جهة المنظور، وأتبعه بصره، وقابله على توسط من البعد والقرب، فهذا هو الذي يراه.
فسبحان من جعل كلامه شفاء لما في الصدور.
فإن قيل: فما موقع " أو " من هذا النظم على ما قررت؟
قيل: فيها سر لطيف، ولسنا نقول: إنها بمعنى الواو، كما يقوله ظاهرية النحاة.
فاعلم أن الرجل قد يكون له قلب وقاد، مليء باستخراج العبر، واستنباط الحكم، فهذا قلبه يوقعه على التذكر والاعتبار، فإذا سمع الآيات كانت له نورا على نور، وهؤلاء أكمل خلق الله، وأعظمهم إيمانا وبصيرة، حتى كأن الذي أخبرهم به الرسول مشاهد لهم، لكن لم يشعروا بتفاصيله وأنواعه، حتى قيل: إن مثل حال الصديق مع النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل رجلين دخلا دارا، فرأى أحدهما تفاصيل ما فيها وجزئياته، والآخر وقعت يده على ما في الدار ولم ير تفاصيله ولا جزئياته، لكن علم أن فيها أمورا عظيمة، لم يدرك بصره تفاصيلها، ثم خرجا، فسأله عما رأى في الدار؟ فجعل كلما أخبره بشيء صدقه، لما عنده من شواهده، وهذه أعلى درجات الصديقية، ولا تستبعد أن يمن الله المنان على عبد بمثل هذا الإيمان، فإن فضل الله لا يدخل تحت حصر ولا حسبان.
فصاحب هذا القلب إذا سمع الآيات وفي قلبه نور من البصيرة ازداد بها نورا إلى نوره، فإن لم يكن للعبد مثل هذا القلب فألقى السمع وشهد قلبه ولم يغب حصل له التذكر أيضا {فإن لم يصبها وابل فطل} والوابل والطل في جميع الأعمال وآثارها وموجباتها. وأهل الجنة سابقون مقربون، وأصحاب يمين، وبينهما في درجات التفضيل ما بينهما، حتى إن شراب أحد النوعين الصرف يطيب به شراب النوع الآخر ويمزج به مزجا، قال الله تعالى {ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد} فكل مؤمن يرى هذا، ولكن رؤية أهل العلم له لون، ورؤية غيرهم له لون آخر)ا.هـ.
ثم انتقد عبد القاهر من اقتصر على تفسير القلب في هذه الآية بالعقل.
ثم قال: (ومن عادة قوم ممن يتعاطى التفسير بغير علم، أن يتوهموا أبدا في الألفاظ الموضوعة على المجاز والتمثيل، أنها على ظواهرها، فيفسدوا المعنى بذلك، ويبطلوا الغرض، ويمنعوا أنفسهم والسامع منهم العلم بموضع البلاغة، ومكان الشرف. وناهيك بهم إذا هم أخذوا في ذكر الوجوه، وجعلوا يكثرون في غير طائل، هناك ترى ما شئت من باب جهل قد فتحوه، وزند ضلالة قد قدحوا به، ونسأل الله تعالى العصمة والتوفيق)ا.هـ.
). [طرق التفسير:181 - 184]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:32 AM

سمات التفسير البياني عند السلف
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( سمات التفسير البياني عند السلف
وها هنا أمر ينبغي التوقف عنده والتنبيه عليه، وهو أن من المتأخّرين من يظهر له معنى يراه بديعاً في بيان الآية فيتعصّب له ويشنّع على من لم يفسّر الآية به، وقد يكون ما رآه مسبوقاً إليه بعبارة منبّهة موجزة؛ فإنّ السلف لم يكن من عادتهم التطويل في التفسير، وإنما يستعملون التنبيه والإيجاز والإلماح إلى ما يُعرف به المعنى؛ ويترك للسامع تأمّل ما وراء ذلك إذ فتح له الباب وأبان له السبيل.

وقد روى ابن جرير بسند صحيح عن قتادة في تفسير قول الله تعالى: {إنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ}: أي من هذه الأمّة، يعني بذلك القلب: القلب الحيّ).
وروى عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {لمن كان له قلبٌ} قال: (قلبٌ يعقل ما قد سمع من الأحاديث الّتي عذّب اللّه بها من عصاه من الأمم).
وهذا هو أصل هذا القول إلا أنّ عبد القاهر الجرجانيّ حبّره ببيانه، ثمّ زاده ابن القيّم رحمه الله شرحاً وتحبيراً.
). [طرق التفسير: 185]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:34 AM

التحذير من الانحراف في التفسير البياني
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( التحذير من الإنحراف في التفسير البياني
وقد يكون في بعض اجتهادات المتأخّرين ما يخطئون فيه مع تشنيعهم على السلف ورميهم بضعف التأمّل وقلّة الدراية بأساليب البيان، ويكثر هذا من أهل البدع والأهواء، ويتوصّلون بذلك إلى ردّ بعض ما تقرر من مسائل الاعتقاد لدى أهل السنة والجماعة.

ومن ذلك قول الزمخشري في تفسير قول الله تعالى: { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ}.
قال: (فإن قلت: ما فائدة قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ولا يخفى على أحد أنّ حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمد ربهم مؤمنون؟
قلت: فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله، والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك، وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فأبان بذلك فضل الإيمان.
وفائدة أخرى: وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسّمة ، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين، ولما وصفوا بالإيمان، لأنه إنما يوصف بالإيمان: الغائب، فلما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم، علم أنّ إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء: في أنّ إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير، إلا هذا، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا).ا.هـ.

يريد بالمجسّمة أهلَ السنّة والجماعة.
وهذا القول خطأ بيّن، والذي حمله عليه اعتقاده نفي صفة العلوّ لله تعالى واستوائه على العرش حقيقة كما هو حال المعتزلة.
وهذا القول المنكر الذي شانَ الزمخشريُّ تفسيرَه به وبمثله مما يُلحق بما يستخرج بالمناقيش من اعتزالياته كما ذكر السيوطي عن البلقيني أنه قال: (استخرجت من الكشاف اعتزالاً بالمناقيش)ا.هــ.
ومنشأ الخطأ أنّ الزمخشريّ ظنَّ أن وصف الملائكة الذين يحملون العرش ومن حوله بالإيمان إنما سببه أنهم لا يرون الله تعالى، ثمّ فرّع على هذا الاستنتاج أنه ليس على العرش إله حقيقةً تعالى الله عما يقول.
وهذه الفائدة المتوهّمة أعجبت الرازيَّ صاحب التفسير الكبير، وهو من كبار متكلّمي الأشاعرة، وطار بها فرحاً لأن من الأشاعرة من ينكر صفة استواء الله على عرشه حقيقة، ويتأوّل معنى الاستواء الوارد في النصوص بالاستيلاء.
فنقل الرازي كلام الزمخشري وزاد فيه شرحاً وتوضيحاً وبالغ في الثناء عليه بما قال؛ فقال: ( فإنْ قيل فأي فائدة في قوله: {ويؤمنون به}؛ فإن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا وقد سبق الإيمان بالله؟
قلنا: الفائدة فيه ما ذكره صاحب «الكشاف» ، وقد أحسن فيه جداً؛ فقال: إن المقصود منه التنبيه على أن الله تعالى لو كان حاضرا بالعرش لكان حملة العرش والحافون حول العرش يشاهدونه ويعاينونه، ولما كان إيمانهم بوجود الله موجبا للمدح والثناء لأن الإقرار بوجود شيء حاضر مشاهد معاين لا يوجب المدح والثناء، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب المدح والثناء، فلما ذكر الله تعالى إيمانهم بالله على سبيل الثناء والمدح والتعظيم، علم أنهم آمنوا به بدليل أنهم ما شاهدوه حاضرا جالسا هناك، ورحم الله صاحب «الكشاف» فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخرا وشرفا)ا.هـ.

وتناقل عدد من مفسري المعتزلة والأشاعرة القول في هذه المسألة التي أثارها الزمخشري وزادها الرازيّ إثارة؛ فكان لأهل السنة ردود على ما أثاروه؛ من أحسنها وأجمعها ردّ ابن القيّم رحمه الله تعالى عليه في الصواعق المرسلة في معرض ردّه في الوجه التاسع والثلاثين بعد المئتين على شُبَه الذين ينصبون التعارض بين العقل والنقل؛ فقال في بيان حال طائفتين حاولتا منع دلالة القرآن على صحّة ما جاءت به أحاديث الصفات: (الطائفة الثانية: من يعتقد أنَّ لكلامه باطناً يخالف ظاهره وتأويلا يخالف حقيقته فالطريقة الأولى للمتفلسفة ومن يتتلمذ لهم، والطريقة الثانية للجهمية ومن اقتفى آثارهم، وكثير من المتأخرين يجمع بين الطريقتين؛ فيتفلسف تارة، ويتجهّم تارة، ويجمع بين الإدامين تارة؛ فهذه درجات المنع.

وأما درجات المعارضة فثلاثة أيضا:
إحداها: أن يعارض المنقول بمثله ويسقط دلالتهما أو يرجح دلالة المعارض كما عارض الجهمي قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} بقوله {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وزعم أنه لو كان على العرش لم يكن أحداً وعارضه بقوله {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وزعم أنه لو كان على عرشه لم يكن معنا وعارضه بقوله {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} وهذه معارضة الزمخشري في كشافه قال: وفيها التنبيه على أن الأمر لو كان كما يقوله المجسمة كان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين ولما وصفوا بالإيمان لأنه إنما يوصف بالإيمان الغائب ولما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم علم أن إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء في إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا وأنه منزه عن صفات الأجرام.
فلو كان المجسم - بزعمك - جسما حقيقة لما رضي لنفسه ولمن يخاطبه بمثل هذا الكلام الذي هو من أقبح الكلام وأبطله ولشحّ على زمانه وأوراقه أن يضيعه بمثله، ولمنعه وقار القرآن وعظمته في صدره أن يفسره بمثل هذا الكلام الذي هو كما قيل: مثل حجارة الكنيف ترجع وتنجس؛ فقد صرح قائله بأنّ إيمان محمد بن عبد الله وإبراهيم الخليل وموسى الكليم وجميع الأنبياء والمرسلين إنما هو عن نظر واستدلال وهم بسعادتهم قد سدوا جميع طرق الإيمان والمعرفة إلا طريق الجواهر والأعراض والاجتماع والافتراق وإبطال حوادث لا أول لها وزعموا أن من لم يعرف ربه من تلك الطريق مات ولم يعرف له رباً، ولم يقرّ بأن له إلها وخالقا، وزادوا في الافتراء والكذب والبهت؛ فزعموا أن إيمان جبريل وميكائيل والملائكة المقربين وجميع المرسلين مبني على هذه الطريقة، وأن إيمانهم كلهم سواء، وأنهم لا طريق لهم إلى معرفته إلا هذا النظر والاستدلال الذي وضعه لهم شيوخ الجهمية ومبتدعة المتكلمين وضلال أهل الاعتزال؛ فهاهنا يسجد المجسّم - بزعمكم- شكرا لله إذ عافاه الله من مثل هذا البلاء العظيم، وهذا القول أقلّ وأحقر من أن يتكلف للوجوه التي تدل على بطلانه بأكثر من حكايته)ا.هـ.

وخلاصة الردّ على شبهة الزمخشري:
1
. أن رؤية حملة العرش لربّهم أو عدم رؤية أمر غيبي لا نثبته ولا ننفيه إلا بدليل شرعي، والعرش عظيم جداً؛ بل قد ورد أنه أعظم المخلوقات، وليس بلازم في العقل أن من يطوف حوله يرى من عليه؛ فانتفت الشبهة من أصلها.
2. أنهم لو صحّ الدليل بأنّهم رأوه فهذا لا ينفي وصفهم بالإيمان؛ والله تعالى قد وصفهم بأنّهم يؤمنون به؛ فلا حجّة لأحد يعارض وصف الله لهم بالإيمان.
3. أنّ الملائكة يسمعون تكلّم الله تعالى بالوحي كما صحّت الأحاديث بذلك؛ فسماعهم كلام الله تعالى لم ينفِ وصف الإيمان عنهم، وما يقال في السمع يقال نظيره في الرؤية إذ لا فرق مع تحققهم من أنّ الكلام كلام الله تعالى.
4. أن الإيمان لا يُقصر على الإقرار بالوجود؛ فهذا القدْر يقرّ به أكثر أهل الأرض؛ ولم ينكر وجود الله تعالى إلا فئة قليلة جداً من الملاحدة؛ فالإيمان الذي أثنى الله تعالى عليهم به هو ما فسّرته النصوص الأخرى من دأبهم في طاعته وذكره وأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون لا على مجرّد أنهم يقرّون بوجوده.

والمقصود التنبيه على وجوب الاحتراز مما يتكلّم به أهل البدع في تقرير بدعهم بسلوك مسلك التفسير البياني.
ومما ينبغي أن يحترز منه مَن يسلك مسلك التفسير البياني أيضاً: الجزم بما لا دليل عليه سوى ذوقه وتأمّله واجتهاده؛ فكثيراً ما يغيب عن بعض المتأملين معارضة بعض الأوجه التي استخرجوها لنصّ صحيح أو إجماع، وكل تفسير عارض نَصّاً أو إجماعاً فهو تفسير باطل.
والحديث عن التفسير البياني يطول، والمقصود التعريف به، فنكتفي بهذا القدر). [طرق التفسير:185 - 190]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:40 AM

النوع السادس: الوقف والابتداء
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (النوع السادس: الوقف والابتداء
من أنواع عناية علماء اللغة بالقرآن الكريم عنايتهم بعلم الوقف والابتداء في القرآن، ويسمّى علم الوقوف، وعلم التمام، والقطع والائتناف، والمقاطع والمبادي.
ولهذا العلم صلة وثيقة بالتفسير لتعلّقه ببيان المعنى؛ حتى كان يوصف من يُتقنه بأنّه يفسّر القرآن بتلاوته.
وقد روى الليث بن سعد عن عبد الله ابن أبي مُليكَة عَن يعلى بن مملك أنه قال: (سألتُ أمَّ سلمة عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالليل وقراءته قالت: (( ما لكم ولصلاته ولقراءته؟
قد كان يصلي قدر ما ينام، وينام قدر ما يصلي))
وإذا هي تَنْعَتُ قراءته، فإذا قراءة مفسّرة حرفا حرفا). أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن وأحمد والترمذي والنسائي.
وروى ابنُ جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن أم سلمة، أنها سُئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فقالت: ( كان يقطع قراءته آية آية: {بسم الله الرحمن الرحيم} . {الحمد لله رب العالمين} . {الرحمن الرحيم} .{مالك يوم الدين}). أخرجه الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي.
ولفظ الترمذي: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته يقرأ: {الحمد لله رب العالمين}، ثم يقف، {الرحمن الرحيم}، ثم يقف).
وإبهام السائل في هذه الرواية لا يضرّ؛ لأنّه قد سُمّي في الرواية الأخرى، ومن حذف ذكر السائل فقد اختصر الإسناد فلا تعلّ به الرواية الموصولة المعيّنة للمبهم، وهذه الروايات يفسّر بعضها بعضاً.
وكان للقرّاء اللغويين عناية بالغة بعلم الوقف والابتداء؛ يتعلّمونه مع القراءة، ويعرفون أحكامه وأحواله وعلله وأسبابه.
قال ابن مجاهد فيما ذكره عنه أبو جعفر النحاس: (لا يقوم بالتمام في الوقف إلا نحوي عالم بالقراءات عالم بالتفسير والقصص وتخليص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن)ا.هـ.
وذلك لاستلزامه المعرفة بمعاني الأساليب، وأوجه التفسير والإعراب، والمقطوع والموصول، ومواضع الوقف والسكت ، مع المعرفة الحسنة بأوجه القراءات ورسم المصاحف.
وقال ابن الأنباري: (ومن تمام معرفة إعراب القرآن ومعانيه وغريبه معرفة الوقف والابتداء فيه).
وقال أبو جعفر النحاس: (فقد صار في معرفة الوقف والائتناف التفريق بين المعاني، فينبغي لمن قرأ القرآن أن يتفهَّم ما يقرأه، ويشغل قلبه به، ويتفقد القطع والائتناف، ويحرص على أن يُفهِمَ المستمعين في الصلاة وغيرها، وأن يكون وَقْفُه عند كلام مستقرٍّ أو شبيهٍ، وأن يكون ابتداؤه حسنًا، ولا يقف على مثل {إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى} لأن الواقف ها هنا قد أشرك بين المستمعين وبين الموتى، والموتى لا يسمعون ولا يستجيبون، وإنما أخبر عنهم أنهم يُبعثون)ا.هـ.
وقال علم الدين السخاوي رحمه الله: (ففي معرفة الوقف والابتداء الذي دوَّنه العلماء تبيينُ معاني القرآن العظيم، وتعريفُ مقاصده، وإظهارُ فوائدِه، وبه يتهيَّأ الغوصُ على دُرره وفرائده)ا.ه
وقال أيضاً: (وقد اختار العلماء وأئمة القراء تبيين معاني كلام الله عز وجل وتكميل معانيه، وجعلوا الوقف منبّهاً على المعنى، ومفصّلا بعضه عن بعض، وبذلك تَلَذُّ التلاوة، ويحصل الفهم والدراية، ويتّضح منهاج الهداية)ا.هـ.
والمقصود أن عناية علماء اللغة بالوقف والابتداء كانت لأجل إفادة القارئ بما يُحسن به أداءَ المعنى عند قراءته، ويُفهم المراد، ولأنّه إذا أخطأ في الوقف أو الوصل أو الابتداء أوهمَ معنى غير صحيح.
وقد حذّر العلماء من الوقف القبيح، وهو الذي يوهم معنى لا يصحّ، كالوقف على قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ...}.
فمثله هذا الوقف لا يوقف عليه إلا لضرورة انقطاع النفس أو التعليم ثم يبتدئ بما قبله.
ونظير الوقف القبيح الابتداء القبيح، وهو الذي يوهم معنى فاسداً كما لو قرأ قارئ قول الله تعالى: { يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ..} فوقف على {الرسول} وابتدأ بما بعده؛ فإنّه يوهم بقراءته غير المعنى المراد.
وكذلك الوصل القبيح، وهو الذي يوهم معنى غير مراد كما لو وصل قارئ قول الله تعالى:{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} وقوله تعالى: {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)}. والصواب أن يقف على {عنهم} ويقف على {قولهم}.
قال ابن الأنباري رحمه الله: (اعلم أنه لا يتم الوقف على المضاف دون ما أُضيف إليه، ولا على المنعوت دون النعت، ولا على الرافع دون المرفوع، ولا على المرفوع دون الرافع، ولا على الناصب دون المنصوب ولا على المنصوب دون الناصب، ولا على المؤكد دون التوكيد...) إلى آخر ما قال، وهو فصل طويل في كليّات الوقف والابتداء، وقواعده العامة.
وكثير من مسائل الوقف والوصل والابتداء متّفق عليها عند العلماء، ومنها مسائل يختلفون فيها لاختلافهم في فهم المعنى، واختلاف ترجيحاتهم بين أوجه التفسير، فإنّ تعلّق علم الوقف والابتداء بالتفسير تعلّق ظاهر، وكلام العلماء فيه إنما هو بحسب ما بلغهم من العلم بالقراءة والتفسير وما أدّاه اجتهادهم فيه.
ومن أمثلة اختلافهم في الوقف بناءً على التفسير اختلافهم في الوقف في قوله تعالى: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً}.
فإذا وصل القارئ أفاد توقيت التحريم عليهم بأربعين سنة، وهذا قول الربيع بن أنس البكري، وهو ظاهر النسق القرآني.
وإذا وقف على {عليهم} وابتدأ بقوله: {أربعين سنة يتيهون في الأرض} أفاد تعلّق التوقيت بالتّيه لا بالتحريم، فيكون التحريم مؤبّداً عليهم، والتيه مؤقتاً بأربعين سنة.
قال قتادة: {فإنّهما محرمة عليهم} قال: أبداً، {أربعين سنة يتيهون في الأرض} قال: يتيهون في الأرض أربعين سنة). رواه ابن جرير، وروى ابن منيع وابن عديّ وابن عساكر نحوه عن عكرمة من طريق الزبير بن الخرّيت البصري وهو ثقة من رجال الصحيحين.
قال ابن الأنباري: (وقوله: {أربعين سنة} يُنصب من وجهين:
- إن شئت نصبتها بـ{محرمة عليهم} فلا يتم الوقف على {عليهم}.
- وإن شئت نصبتها بـ{يتيهون في الأرض}؛ فعلى هذا المذهب يتمّ الوقف على {عليهم} )ا.هـ.
والراجح أن التحريم عامّ على المعنيّين في الآية، وهم الذين امتنعوا من دخول الأرض المقدّسة خوفاً من الجبّارين وعصياناً لأمر الله، وجملة {يتيهون في الأرض} في محلّ نصب حال، أي: تائهين في الأرض، والإتيان بالفعل المضارع الدالّ على التجدد في موضع الحال لإفادة تجدّد التيه عليهم في تلك المدة؛ يتيهون تيها بعد تيه إلى الأمد الذي جعله الله لهم.
وجائز أن يكون جميع من عُنوا بالتحريم ماتوا في زمن التيه كما ذكره غير واحد من المفسّرين إلا أنّ هذا ليس بلازم في ظاهر النسق القرآني.
ومن الأمثلة على ذلك أيضاً الوقف في قوله تعالى: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} فمن وقف على {اليوم} كان الابتداء بما بعدها دعاء من يوسف عليه السلام لإخوته، وهو أرجح الوجهين في التفسير.
قال الأخفش: (وقال: {لا تثريب عليكم اليوم} (اليوم) وقفٌ ثم استأنف فقال: {يغفر اللّه لكم} فدعا لهم بالمغفرة مستأنفاً)ا.هـ.
ومن وقف على {عليكم اليوم} ثمّ ابتدأ {اليوم يغفر الله لكم..} كان المعنى خبرٌ من يوسف عليه السلام – وهو نبيّ يوحى إليه – بمغفرة الله تعالى لهم في ذلك اليوم.
والغرض من ذكر هذين المثالين بيان عناية علماء اللغة بعلم الوقف والابتداء، وبيان ترتّبه على التفسير، وأثره في إفادة المعنى). [طرق التفسير:191 - 196]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:43 AM

مناهج العلماء في تقسيم الوقوف
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مناهج العلماء في تقسيم الوقوف
وللعلماء مناهج يتوخّونها في تقسيم الوقوف، وتعداد مراتبه، وقد اختلف اجتهادهم في تسمية تلك المراتب، وتفصيل حدودها اختلافاً كثيراً، فخرجوا بتقسيمات متقاربة في أصول أحكامها؛ ومختلفة في بعض تفصيلها.

فقسّم ابن الأنباري الوقوف إلى: تامّ، وكافٍ، وقبيح.
وقسمها أبو عمرو الداني إلى: تامّ مختار، وكافٍ جائز، وصالح مفهوم، وقبيح متروك، وربمّا سمّى الصالح بالحسَن.
وقسّمها ابن الطحّان وعلم الدين السخاوي إلى: تام، وكافٍ، وحسن، وقبيح.
وقسّمها السجاوندي إلى: لازم، ومطلق، وجائز، ومجوَّز لوجه، ومرخّص ضرورة، وقبيح.
وقسّمها ابن الفرُّخان في آخر كتابه "المستوفى في النحو" إلى اضطراري واختياري، ثم قسّم الاختياري إلى تام وناقص وأنقص؛ ثم جعل كلّ قسم على مراتب.
وقسمها الأشموني إلى: تام، وأتم، وكاف، وأكفى، وحسن، وأحسن، وصالح، وأصلح، وقبيح، وأقبح.
قال ابن الجزري: (أكثر ما ذكر الناس في أقسامه غير منضبط ولا منحصر، وأقرب ما قلته في ضبطه أن الوقف ينقسم إلى اختياري واضطراري....)
ثم ذكر أقسام الاختياري وهي: التام، والكافي، والحسن، وبيّن حدودها.
ثم قال: (وإن لم يتم الكلام كان الوقف عليه اضطرارياً وهو المصطلح عليه بالقبيح، لا يجوز تعمّد الوقف عليه إلا لضرورة من انقطاع نفس ونحوه لعدم الفائدة أو لفساد المعنى)ا.ه.
ومما ينبغي التنبّه له أنّ كلام العلماء في مسائل الوقوف يدخله الاجتهاد كثيراً، ومن أكثر ما وسّع الخلاف في الوقوف التوسّع في ما يحتمله الإعراب من غير نظر في التفسير، فمن استرسل مع احتمالات الإعراب وغفل عن مراعاة الأوجه الصحيحة في التفسير والأحكام وقع في أخطاء كثيرة.
وقد استرسل قوم من المتصوّفة في التفسير الإشاري حتى خرجوا بوقوف قبيحة فيها إشارات تحيل تركيب الآية وتوقع صاحبها في لحن جليّ، ومعنى فاسد، فليحذر من ذلك.
والغلوّ في الوقوف قد يفضي بصاحبه إلا تمحّلات وتعسفات متكلّفة باردة، ولذلك أمثلة كثيرة ذكر السخاوي وابن الجزري والسيوطي طائفة منها.
قال ابن الجزري في مقدمته:
وليس في القرآن من وقف وَجَبْ ... ولا حرام غيرُ ما له سبب
وهذه قاعدة جليلة من قواعد علم الوقف والابتداء.
ومما ينبغي أن يُعلم أن المراد بالوجوب في الوقف هو الوجوب الأدائي، وليس التكليفي الذي يأثم مخالفه، وهذا كما تقول: يجب رفع الفاعل؛ فهو وجوب من جهة الأداء.
وإنما يأثم من يتعمّد الوقف القبيح، والابتداء القبيح.
ومسائل الوقف والابتداء منها ما يعتني به المفسّرون في تفاسيرهم، ولا سيّما من كتب في معاني القرآن من علماء اللغة.
وقد أفرد بعض العلماء هذا العلم بالتأليف، ومن أشهر الكتب المؤلفة فيه: كتاب الوقف والابتداء في كتاب الله عز وجل لابن سعدان الضرير، وإيضاح الوقف والابتداء لابن الأنباري، والقطع والائتناف لأبي جعفر النحاس، والمكتفى في الوقف والابتداء لأبي عمرو الداني، ونظام الأداء لابن الطحان، وعلل الوقوف لابن طيفور السجاوندي، والمرشِد للعماني، والهادي إلى معرفة المقاطع والمبادي لأبي العلاء الهمذاني، وعلَم الاهتداء لعلَم الدين السخاوي، والمقصد لتلخيص ما في المرشد لزكرياء الأنصاري، ومنار الهدى للأشموني المتقدّم، ومعالم الاهتداء للحصري.
وقد ذُكر من الكتب المفقودة في هذا العلم: كتاب المقطوع والموصول لعبد الله بن عامر القارئ، وكتاب الوقف والابتداء لأبي عمرو بن العلاء، وكتاب مقطوع القرآن وموصوله للكسائي، وكتاب المقاطع والمبادئ لأبي حاتم السجستاني، وكتاب الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء لابن الجزري). [طرق التفسير:196 - 198]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:48 AM

النوع السابع: التصريف
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (النوع السابع: التصريف
علم الصرف من العلوم المهمّة للمفسّر، يكشف له كثيراً من المعاني والأوجه التفسيرية، ويعرّفه علل بعض الأقوال الخاطئة في التفسير، ويعينه على معرفة التخريج اللغوي لكثير من أقوال السلف في التفسير.

وهو علم يتعلّق ببنية الكلمة، وتمييز حروفها الأصلية، وما يلحقها من زيادة وإعلال، وقلب وإبدال، وحذفٍ وتغيير بالحركات والحروف لإفادة معانٍ تتعلّق بأصل الكلمة وتختلف باختلاف صيغتها.
قال عبد القاهر الجرجاني: (اعلم أن التصريف "تفعيل " من الصرف، وهو أن تصرف الكلمة المفردة؛ فتتولد منها ألفاظ مختلفة، ومعان متفاوتة)ا.هـ.
وهذا كما تصرّف الفعل "ضرب" إلى اضربْ للأمر، ويضربُ للمضارع، و"ضرْب" للمصدر، و"ضارب" لاسم الفاعل، و"ضرَّاب" للمبالغة، و"ضرَّابة" لزيادة المبالغة، "وضاربين" للجمع المذكر، و"ضاربات" للجمع المؤنث، "ومضروب" للمفعول، "وتضارَب" للتفاعل بين اثنين بالضرب، "وضَرْبَة" لاسم المرَّة، و"ضِرْبة" لاسم الهيئة.
وكما تصرّف لفظ "رجل" إلى "رجلين" للمثنَّى، و"رجال" للجمع، و"رجالات" لجمع الجمع، "ورُجَيل" للتصغير، "وأرجلة" لجمع القلة، وغير ذلك من أوجه تصريف الكلمة وتقليبها على تراكيب مفيدة لمعانٍ مختلفة.
ولضبط هذه التغييرات ابتكر الصرفيون: الميزان الصرفي، والقياس اللغوي.
- فأمّا الميزان الصرفي فهو تمثيل الكلمات بحروف "الفاء والعين واللام" ( فعل) ؛ فتقول في "ضَرَبَ يَضْرِبُ": ميزانها الصرفي: "فَعَلَ يفعِلُ" ، وتقول في "رَجُل ورِجَال": "فَعُل وفِعَال".
وهذا الميزان يميزون به الحروف الأصلية من المزيدة، ويعرفون به ما يلحق الكلمة من تغيير في بنيتها.
- وأمّا القياس اللغوي فيراد به إجراء ما لم يُعْرف بالسماع مجرى ما عُرف به في نظائره واطّردت به قواعد التصريف.
وأبواب علم الصرف لا تخرج عن تصريف الأسماء وتصريف الأفعال.
- ويشترك القسمان في أبواب كثيرة؛ كالأبنية، وأحرف الزيادة، والقلب والإبدال، والإلحاق والإعلال، والحذف والنقل، والهمز والتخفيف، والإمالة والإدغام، وعوارض الوقف والابتداء، والتقاء الساكنين، وغير ذلك.

- ويشتمل تصريف الأفعال على أبنية الأفعال وأنواعها باعتبار الصحة والإعلال، وباعتبار الدلالة على الزمن، وباعتبار التجريد والزيادة، ويشتمل أيضاً على أبواب الإسناد والتوكيد، وأبواب معاني صيغ الأفعال وما يتركّب منها.
- ويشتمل تصريف الأسماء على معاني أبنية الأسماء، والمقصور والممدود، والتذكير والتأنيث، والتثنية والجمع، والتصغير والتكبير، والتقليل والتكثير، والنسب، والتعريب، والمصادر، والمشتقات وهي: اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة باسم الفاعل، واسم التفضيل، واسم الزمان، والمكان، واسم الآلة، وغير ذلك.
وفي كتب الصرف اختلاف كثير في ترتيب أبوابه وعرض مسائله، والمقصود هنا التعريف بأهمّ أبواب هذا العلم.
وقد كانت عناية العلماء بعلم الصرف مصاحبة لعنايتهم بعلم النحو؛ إذ كان اللحن يقع فيهما، والقياس جارٍ عليهما، ولذلك كانت عامّة كتب النحو حافلة بأبواب من علم الصرف). [طرق التفسير:199 - 201]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:52 AM

عناية العلماء بعلم الصرف:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (واشتهر بالعناية بعلم الصرف جماعة من العلماء منهم:
1. عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي(ت:129هـ)، وله كتاب "الهمز" مفقود.
2. وعمرو بن عثمان بن قنبرٍ المعروف بسيبوبه ت:180هـ) ، وقد ذكر في كتابه أبواباً كثيرة في علم الصرف، وعني به عناية حسنة.
3. ومعاذ بن مسلم الهراء (ت:190هـ) شيخ الكسائي، وهو ممن اشتهر بالعناية بعلم الصرف، ومسائله وتمريناته.
4
. وعلي بن المبارك الأحمر (ت:194هـ)، وله كتاب في التصريف مفقود.
5
. ويحيى بن زياد الفراء (ت:207هـ)، وله كتاب "التصريف" مفقود، وكتاب "المقصور والممدود" وكتاب"المذكر والمؤنث"، مطبوعان، وله الكتاب المشهور في "معاني القرآن" وقد أكثر فيه من الكلام عن مسائل الصرف.
6. ويعقوب بن إسحاق ابنُ السِّكِّيتِ البغدادِيُّ (ت: 244هـ)، وله "إصلاح المنطق"، و"الألفاظ"، و"القلب والإبدال" ، و"المقصور والممدود"، وكلها مطبوعة.
7. وأبو عثمان بكر بن محمد المازني (ت:249هـ)، وله كتاب "التصريف"، وهو كتاب مشهور عُني به العلماء شرحاً وتدريساً.
8. ومحمّد بن يزيدَ المبرّد (ت: 285هـ) ، وقد ذكر في كتابه المقتضب أبواباً كثيرة في علم الصرف.
9. وأبو العباس أحمد بن يحيى الشيباني المعروف بثعلب (ت:291هـ)، وله كتاب "الفصيح"
10. وأبو بكر محمد بن سهل بن السراج النحوي (ت: 316هـ)، وله كتاب "الأصول في النحو" ضمّنه أبواباً كثيرة في علم الصرف.
11. وأبو علي الحسن بن أحمد الفارسي (ت: 377هـ)، وله كتاب "التكملة على الإيضاح"، فالإيضاح في علم النحو، والتكملة في علم الصرف.
12. وأبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ) ، وله "التصريفي الملوكي"، و"الخصائص"، و"المنصف" وغيرها.
13. وعبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت: 471هـ)، وله كتاب "المفتاح في الصرف"
14. وأبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري (ت:577هـ)، وله "الوجيز في التصريف" و"أسرار العربية" و"المذكر والمؤنث".
15. وعثمان بن عمرو بن أبي بكر ابن الحاجب (ت: 646هـ)، وله "الشافية في علم التصريف".
16. وعز الدين عبدالوهاب بن إبراهيم الزنجاني (ت:655هـ) صاحب "تصريف العزي" المشهور.
17. وعلي بن مؤمن ابن عصفور الإشبيلي (ت: 669هـ) ، وله "الممتع في التصريف".
18. ومحمد بن عبد الله ابن مالك الطائي الأندلسي (ت: 672هـ)، صاحب الألفية المعروفة في النحو، وقد ذكر فيها أبواباً من تصريف الأسماء، وأفرد تصريف الأفعال في منظومته "لامية الأفعال"، وله كتاب "إيجاز التعريف في علم التصريف".
ثمّ توالى التأليف في علم التصريف، وكثرت فيها المؤلفات واشتهرت، وما يزال أهل العلم يعنون به شرحاً وتقريراً، وتحريراً وتحبيراً). [طرق التفسير:201 - 203]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:56 AM

المفسّرون الذين لهم عناية بالتصريف في تفاسيرهم:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ومن المفسّرين الذين لهم عناية ظاهرة بالتصريف في تفاسيرهم:
1. ابن عطية الأندلسي(ت:542هـ) ، وكثيراً ما يعلّ بعض الأقوال بمخالفتها قواعد التصريف.
2. وأبو حيان الأندلسي (ت:745هـ) في تفسيره "البحر المحيط" ، وله تعقّبات حسنة للزمخشري
3. ومحمد الطاهر ابن عاشور (ت:1394هـ) في "التحرير والتنوير"
4. ومحمد الأمين الشنقيطي (ت:1393هـ) في "أضواء البيان" وفي مجالسه في التفسير التي طبعت باسم "العذب النمير".
5. ومحمد الأمين الهرري في تفسيره "حدائق الروح والريحان" ، وهو تفسير حافل بشرح مسائل التصريف في القرآن، ولمؤلفه عناية بعلم الصرف، وله شرح على "لامية الأفعال" لابن مالك سماه "مناهل الرجال ومراضع الأطفال بلبان معاني لامية الأفعال"
وهو من علماء الحبشة الموصوفين بالعلم والعبادة، والجلَد في البحث والتأليف والتدريس، تصدّر للتدريس والإفادة في الحبشة عام 1373هـ، وهو ابن خمسة وعشرين عاماً، ولم يزل معتنياً بالتدريس والدعوة في بلده حتى حاصره الشيوعيون وحاولوا قتله؛ فهاجر إلى مكة؛ وابتدأ التدريس في المسجد الحرام سنة 1400هـ، ثم انتقل إلى التدريس بدار الحديث بمكة المكرمة، وألّف كتباً كثيرة في فنون عديدة، منها تفسيره المذكور في اثنين وثلاثين مجلداً). [طرق التفسير:203 - 204]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 09:59 AM

عناية علماء العصر بأحكام التصريف في القرآن:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ولعلماء هذا العصر عناية حسنة بأحكام التصريف في القرآن؛
فألّفت المعاجم والموسوعات والكتب التعليمية المتخصصة في تصريف ألفاظ القرآن، ومن أجود تلك المؤلفات:

1. المعجم الصرفي لألفاظ القرآن الكريم، وهو القسم الثاني من أقسام كتاب "دراسات في أساليب القرآن الكريم" للدكتور محمد عبد الخالق عضيمة (ت:1404هـ) ويقع هذا القسم في أربع مجلدات كبار ؛ حرص فيها المؤلف على تقصّي المسائل الصرفية في القرآن، وأبنية الأسماء والأفعال ومعانيها، وقدّم بين يدي كلّ صيغة مقدّمة شرح فيها معانيها وخلاصة بحثه لمواضع ورودها في القرآن، ونتائج استقرائه، فكان عملاً كبيراً عظيم النفع للدارسين، وقد أفنى في إعداده سنوات كثيرة من عمره.
2. والبيان والتعريف بما في القرآن من أحكام التصريف، للدكتور: محمد بن سيدي بن الحبيب الشنقيطي.
3. والصرف التعليمي والتطبيق في القرآن الكريم للدكتور: محمود سليمان ياقوت.
4. ومعجم الأوزان الصرفية لكلمات القرآن الكريم، للدكتور: حمدي بدر الدين إبراهيم). [طرق التفسير:204 - 205]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 10:01 AM

فائدة علم الصرف للمفسّر:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فائدة علم الصرف للمفسّر:
وعلم التصريف يفيد المفسّر فوائد جليلة:

منها: معرفة أوجه المعاني التي تتصرّف بها الكلمة، وفائدة اختيار تلك التصاريف في القرآن الكريم على غيرها.
ومنها: معرفة التخريج اللغوي لكثير من أقوال السلف في التفسير.
ومنها: أنّه يكشف عن علل بعض الأقوال الخاطئة في التفسير التي قد يقع فيها بعض المفسّرين ممن أتوا بعد عصر الاحتجاج، أو مما يروى بأسانيد لا تصحّ عن بعض الصحابة والتابعين ممن كانوا في عصر الاحتجاج.
قال بدر الدين الزركشي: (وفائدة التصريف حصول المعاني المختلفة المتشعبة عن معنى واحد فالعلم به أهم من معرفة النحو في تعرف اللغة لأن التصريف نظر في ذات الكلمة والنحو نظر في عوراضها وهو من العلوم التي يحتاج إليها المفسر)ا.هـ.
ومسائل الصرف منها مسائل بيّنة يتّفق عليها الصرفيون، ومنها مسائل يختلفون فيها ؛ كسائر العلوم التي يقع في مسائلها اتفاق واختلاف، لكن ما اتفقوا عليه فهو حجة لغوية، يعدّ ما خالفه خطأ). [طرق التفسير:205 - 206]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 10:03 AM

أمثلة لفائدة علم الصرف للمفسّر:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أمثلة لفائدة علم الصرف للمفسّر:
سأذكر ثلاثة أمثلة لمسائل تظهر فيها فائدة علم الصرف للمفسّر، آمل أن تنبّه اللبيب على ما وراءها، وأن تعينه على تصوّر بحث المسائل الصرفية في التفسير، وأن تعرّفه بأئمة هذا العلم ومصادره، لعلّها تحثّه على العناية بهذا العلم العزيز، وتعرّف السبيل إلى إتقان معرفته.


المثال الأول: معنى {يتساءلون}
اختلف المفسّرون في معنى {يتساءلون} في قول الله تعالى: {عمّ يتساءلون} على ثلاثة أقوال:
القول الأول: يتساءلون: أي يسأل بعضهم بعضاً، وهذا قول جمهور المفسرين.
القول الثاني: يتساءلون أي يتحدثون، وإن لم يكن من بعضهم لبعض سؤال.
وهذا القول أخذه الرازي ومن تبعه من المفسّرين من قول أبي زكريا الفراء في معاني القرآن إذ قال: (ويقال: عم يتحدث به قريش في القرآن. ثم أجاب، فصارت: {عم يتساءلون}، كأنها [في معنى]: لأي شيء يتساءلون عن القرآن)ا.هـ.
وكلام الفراء ليس فيه نصّ على هذا المعنى، لكن استدلّ له الرازي بقوله تعالى: {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ . قالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ . يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ}
قال: (فهذا يَدُلُّ على معنى التحَدُّثِ، فيكونُ معنى الكلامِ: عَمَّ يَتحدثونَ)ا.هـ.
وعلى هذا القول يكون التعبير عن التحدّث بالتساؤل في الآية مبناه على أنّ ذلك التحدّث منهم قائم مقام السؤال؛ لأنّ كل متحدّث منهم يتطلّب من سامعه تأييداً لقوله أو مساعدة له على ما يحاول من إيجاد مطعن في القرآن ودعوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فهو تساؤل في حقيقة الأمر، وإن لم يكن في ألفاظهم سؤال صريح.
القول الثالث: أي أن المشركينَ يتساءلونَ الرَّسولَ والمؤمنينَ؛ فيقدّر أصحاب هذا القول للكلام مفعولاً محذوفاً.
وهذا القول ذكره الزمخشري احتمالاً؛ فقال في الكشّاف: (({يَتَسَاءَلُونَ}: يَسْأَلُ بعضُهم بعضاً‏،‏ أو يَتَسَاءَلُونَ غيرَهم مِن رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنينَ، نحوَ‏:‏ يَتَدَاعَوْنَهُم ويَتَرَاءَوْنَهم)ا.هـ.
ثم ذكره جماعة من المفسّرين بعده، منهم: الرازي، والبيضاوي، والنسفي، وابن عادل الحنبلي وغيرهم.
وأتى بعدهم أبو السعود الحنفي فنصرَ هذا القول واحتجّ له بما ملخّصه أنّه كمثل قول القائل: "تراءوا الهلال"، وأنّ المفعول محذوف لظهور العلم به.
قال: (فالمعنى: عنْ أيِّ شيءٍ يَسْأَلُ هؤلاءِ القومُ الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ والمؤمنينَ؟)ا.هـ.
فهذا القول مبناه على أنّ الفعل "يتساءلون" متعدّ لإفادة تكرر وقوع السؤال منهم، وأنّ المفعول محذوف تقديره: يتساءلون الرسولَ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.

وقواعد التصريف تدلّ على خطأ هذا القول من وجهين:
الوجه الأول:
أنّ "تساءل" على وزن "تفاعَل"، وهذه الصيغة ترد في كلام العرب لمعان إجمالها فيما يلي:

- المعنى الأول: إفادة وقوع الفعل من طرفين على جهة التقابل، ومثاله: تراءى الجمعان، وتقابل الخصمان، وتجادلا، وتناظرا.
- المعنى الثاني: إفادة وقوع الفعل من متعدد في طرف واحد على مفعول واحد، ومثاله: تراءوا الهلالَ.
- المعنى الثالث: إفادة وقوع الفعل من متقابلين على مفعول مشترك، ومثاله: تنازعا الحديث، وتعاطيا الكأس، وتقاسما المال، وهو قريب من المعنى الثاني، وبينهما فرق دقيق.
- المعنى الرابع: إفادة قوة وقوع الفعل من الفاعل، مثاله: تعالى الله، تبارك الله.
- المعنى الخامس: إفادة تكرر وقوع الفعل من فاعل واحد، ومثاله: تمارى، تثاءب.
- المعنى السادس: إفادة تدرج وقوع الفعل، ومثاله: تعافى المريض، وتوافد القوم، وتناسى الأمر.
- المعنى السابع: إظهار خلاف الحقيقة، ومثاله: تمارض، وتماوت، وتغافل، وتغابى، وتعاظم، وتجاهل.
- المعنى الثامن: مُطاوَعَةُ "فاعَلَ" الذي بمعنى "أَفْعَلَ"، ومثاله: ناولته فتناول، وباعدته فتباعد، وضاعفت الحساب فتضاعف.
- المعنى التاسع: "تفاعَل" بمعنى "فَعَل"، ويمثّل له بعض الصرفيين بـ "توانى" بمعنى: ونى، و"تبدّى" بمعنى "بدا"،
ومنه قول قيس بن الخطيم:
ولم أرها إلا ثلاثاً على منى ... وعهدي بها عذراء ذات ذوائب
تبدَّت لنا كالشمس تحت غمامة ... بدا حاجب منها وضنت بحاجب

فأوقع "بدا" في تفسير "تبدّى".
وفي هذا المعنى الأخير خلاف، إذ يفهم منه الإقرار بالترادف، وهو قول يأباه جماعة من أهل اللغة، ويذكرون بين ما يُدّعى فيه الترادف فروقاً دقيقة؛ منها ما هو صحيح مُسلَّم، ومنها ما فيه نظر وله احتمال، ومنها ما هو ظاهر التكلّف.
وهذه المعاني مبثوثة في كتب الصرف، وإنما لخّصتها هنا لتقريب تصوّر أصل المسألة، وإلا فإنّ المفسّر العالم بالصرف؛ يُفتَرض أن تكون هذه المعاني حاضرة في ذهنه، ولو على وجه الإجمال والتقريب.
وثمرة هذا المبحث أنّ التساؤل في الآية علمي لا طلبي، ويدلّ على وجود سائل ومسؤول، وإبهام السائل والمسؤول من الطرفين يدلّ على جواز وقوعه من أيّ واحد منهما على الآخر على جهة التقابل؛ فيكون المعنى الأوّل هو المتعيّن حمل الآية عليه.
والوجه الثاني: أنّ "تساءَل" قبول دخول تاء التفاعل عليها "ساءل"، و"ساءَل" فعلٌ متعدٍّ، والفعل المتعدّي قبل دخول تاء التفاعل عليه منه ما يتعدّى إلى مفعولين، ومنه ما يتعدّى إلى مفعول واحد.
1. فإذا دخلت التاء على المتعدّي إلى مفعولين قصرته على مفعول واحد؛ كما تقول: نازعتُ زيداً الحديثَ، فالفعل "نازَع" متعدٍّ إلى مفعولين: زيد والحديث ؛ فإذا أدخلتَ تاء التفاعل عليه قلت: تنازعنا الحديثَ؛ فصار الفعل متعدّياً إلى مفعول واحد.
2. وإذا دخلت التاء على المتعدّي إلى مفعول واحد صار لازماً، كما تقول في "ضارَب زيدٌ عمراً":" تضارب زيدٌ وعمرو"؛ فلما دخلت تاء التفاعل على "ضارب" صيّرته لازماً.
إذا تبيّن ذلك فكلمة "يتساءلون" أصلها ساءل، وهو متعدّ إلى مفعول واحد؛ فيكون لازماً بعد دخول التاء عليه.
فيكون ما ذكره الزمخشريّ احتمالاً في تفسير الآية، ونصره أبو السعود من أنّ المعنى: يتساءلون الرسولَ صلى الله عليه وسلم والمؤمنين خطأ مخالف لتصاريف كلام العرب.
والمعنى الصحيح: يسأل بعضُهم بعضاً، وهو الذي عليه جمهور المفسّرين.
وهذا بخلاف ساءَل التي فيها معنى الطلب؛ كما يقال: ساءل بنو زيد بني عمروٍ أموالهم، ومنه قوله تعالى: {ولا يسألكم أموالكم}
فإنها عند دخول التاء عليها تقصر على مفعول واحدٍ، فيقال: يتساءلون أموالهم، ويقال في الاستفهام: ماذا يتساءلون؟
ولا يقال -عند إرادة هذا المعنى -:عمّ يتساءلون؟
فلمّا كان الاستفهام بـ"عن" تحققنا أن ساءل هنا علمية لا طلبية). [طرق التفسير:206 - 211]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 10:12 AM

المثال الثاني: معنى {مسنون}
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المثال الثاني: معنى {مسنون}
قول ابن عطية الأندلسي(ت:546هـ) في تفسير قول الله تعالى: {من حمأ مسنون} قال: (قال معمر: هو المنتن، وهو من أسن الماء إذا تغير).

ثمّ تعقّبه بقوله: (والتصريف يردّ هذا القول).
يريد أنّه لا يقال في اسم المفعول من "أسن": "مسنون"؛ لأن "أسن" فعل ثلاثي لازم؛ فلا يصاغ منه اسم مفعول، وإذا عدَّيته بالهمزة فاسم المفعول منه: "مُؤسَن".
ثمّ قال ابن عطية: (والذي يترتَّب في "مَسْنُونٍ":
- إما أن يكون بمعنى محكوك؛ محكَم العمل أملس السطح، فيكون من معنى المُسَنّ والسنان، وقولهم: سَنَنْتُ السّكينَ وسننت الحجر: إذا أحكمت تمليسه، ومن ذلك قول الشاعر:
ثم دافعتها إلى القبة الخضرا ... ء تمشي في مرمر مسنون
أي محكم الإملاس بالسَّنّ
- وإما أن يكون بمعنى المصبوب، تقول: سننت التراب والماء إذا صببته شيئا بعد شيء، ومنه قول عمرو بن العاصي لمن حضر دفنه: إذا أدخلتموني في قبري فسنوا علي التراب سنا، ومن هذا: هو سن الغارة. وقال الزجاج: هو مأخوذ من كونه على سنة الطريق، لأنه إنما يتغير إذا فارق الماء، فمعنى الآية- على هذا- من حمأ مصبوب موضوع بعضه فوق بعض على مثال وصورة)ا.هـ.
فذكر قولين صحيحين من جهة التصريف، ويضاف إليهما قول ثالث ذكره الخليل بن أحمد، وهو أن "المسنون" بمعنَى "المصوَّر" من قول العرب: سنَّ الشيء إذا صوَّره، والمصوَّر: مسنون.
ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
سحرتني بجيدها ، وشتيتٍ ، ** وبوجهٍ ذي بهجةٍ مسنونِ
وقول ذي الرمة:
ترِيكَ سُنَّةَ وَجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ... مَلْسَاَء لَيْسَ بها خَالٌ ولا نَدَبُ
وقال أبو عبيدة (المسنون: المصبوب على صورة).
فجمع القولين الثاني والثالث.
وقال المبرّد: (المسنون: المصبوب على استواء).


فهذه أقوال أهل اللغة، وللسلف في معنى "مسنون" قولان آخران:
أحدهما:
أن المسنون: الرطب، وهذا القول رواه ابن جرير من طريق معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.

وتخريج هذا القول أن يكون المسنون هنا بمعنى الذي سُنَّ عليه الماء؛ فهو رطب لذلك.
والآخر: أنّ المسنون المتغيّر، وهذا قول ابن جرير، استخرجه من أثر رواه عن قتادة، واختلف أهل اللغة في تخريج هذا القول:
فذهب الفراء إلى أنّ المسنون لا يكون إلا متغيّراً؛ فتفسير المسنون بالمتغيّر تفسير بلازم المعنى لا بدلالته اللفظية.
وذهب أبو عمرو الشيباني إلى أنّه مأخوذ من تَسَنَّنَ الطعامُ إذا تغيّر، ومنه قوله تعالى: {لم يتسنّه} والهاء مبدلة من النون.
قال أبو عبيدة: (وليستْ من الأَسِن المتغير، ولو كانت منها لكانت ولم يتأسن).
وذهب أبو منصور الأزهري إلى أنّه مأخوذ من السَّنَة، أي: مضت عليه سنون حتى تغيّر.
فانظر في هذه المفردة كيف اتّسع النظر فيها بسبب بحث تصاريفها.
والتحقيق: أنّ الأقوال الثلاثة الأولى صحيحة، واللفظ يحتملها من غير تعارض، وقول الفراء أقرب الأقوال في تخريج القول المروي عن بعض السلف). [طرق التفسير:211 - 213]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 10:26 AM

المثال الثالث: معنى {قُبلا}
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المثال الثالث: معنى {قُبلا}
ومن فوائد علم التصريف أنه يُعرف به تخريج بعض أقوال السلف في التفسير من جهة اللغة.

ومن أمثلة ذلك: أقوال السلف في تفسير قول الله تعالى: {وحشرنا عليهم كلّ شيء قُبُلا}
فروي عنهم في معنى {قبلا} ثلاثة أقوال:
القول الأول: {قُبُلا} أي : معاينة، وهذا القول رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس من طريق معاوية بن صالح عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس.
والقول الثاني: {قبلا} أي: أفواجاً ، رواه ابن جرير عن مجاهد.
والقول الثالث: {قُبلا} أي: كفلاء، وهذا القول اختاره الفراء.

فهذه ثلاثة أقوال في هذه المسألة:
- فأمّا القول الأول فتخريجه أنّ القُبُل بمعنى المقابِل ؛ والمقابل معاين لمن قابله، كما تقول: لقيتُه قُبُلاً: أي: مواجهة ، ومنه قوله تعالى: {قُدّ من قُبُل}، وقوله تعالى: {أو يأتيهم العذاب قُبُلا}.
ويرجّح هذا المعنى قراءة من قرأ: {وحشرنا عليهم كلّ شيء قِبَلا}.
- وأما القول الثاني فتخريجه أنَّ {قبلا} جمع قبيل، كرغيف ورُغُف، والقبيل: الجماعة الكثيرة من صنف واحد، أي ُحشروا عليهم أفواجاً كل فوج قبيل.
قال ابن كثير: (أي: تُعرَض عليهم كلّ أمّةٍ بعد أمة فتخبرهم بصدق الرسل فيما جاؤوهم به {ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء اللّه}).
- وأما القول الثالث فتخريجه أنَّ {قبلا} جمع قبيل بمعنى كفيل، ومنه قوله تعالى: {أو يأتي بالله والملائكة قبيلا} أي: كفلاء وضمناء.
والتحقيق أنّ هذه المعاني كلّها صحيحة، ودلالة الآية تسعها كلها.
فانظر فائدة علم التصريف في معرفة التخريج اللغوي لأقوال السلف، وقد كان عامّتهم عرباً فصحاء من أهل عصر الاحتجاج، يفسّرون القرآن بما يعرفون من لسانهم العربيّ، وقد تقدّم أنّ تفسيرهم حجّة لغوية إذا صحّ الإسناد إليهم وأُمن لحن الرواة). [طرق التفسير:213 - 215]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 10:29 AM

النوع الثامن: الاشتقاق
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (النوع الثامن: الاشتقاق
الاشتقاق هو انتزاع لفظة من لفظة أخرى تشاركها في أصل المعنى والحروف الأصلية؛ وتخالفها باختلاف الصيغة.
وهو من دلائل اتّساع كلام العرب، وكثرة تصاريف ألفاظه على أوجه متنوّعة من الاشتقاق والنقل والقلب والإبدال.
وعلم الاشتقاق من العلوم المهمّة للمفسّر، إذ يعرف به الأصول التي ترجع إليها كثير من الكلمات العربية، فيتبيّنُ أصلَ معناها، ويدرك التناسب في المعنى بين الكلمات التي ترجع إلى أصل واحد.
والاشتقاق له أصل في النصوص، وقد استدلّ له بعض العلماء بما في مسند الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الرحمن بن عوف وأبي هريرة رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها من اسمي فمن يصلها أصله ومن يقطعها أقطعه)).
ومما روي من شعر حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
وضمَّ الإلهُ اسمَ النبيّ إلى اسمه ... إذا قال في الخمسِ المؤذنُ أشهدُ
وشقَّ له من اسمه ليجلَّه ... فذو العرش محمود وهذا محمد

وقد نُقل عن العرب من الأخبار والأشعار ما يدلّ على عنايتهم بالاشتقاق، وإدراكهم لتصرّف كثير من كلماتهم من أصول تُشتقّ منها، ومن ذلك أسماؤهم وأسماء بلدانهم ومنازلهم ووقائعهم؛ إذ يجد الناظر فيها أنّها مشتقّة من أصول لها معانٍ معروفة في لسانهم.
وقد ذهب جمهور أهل اللغة إلى أنّ أكثر كلام العرب مشتقّ.
وقال ابن فارس(ت:395هـ): (أجمع أهل اللغة إلا من شذَّ عنهم أنَّ للغة العرب قياساً، وأنَّ العربَ تشتقُّ بعضَ الكلامِ من بعض، وأنَّ اسم الجنّ مشتق من الاجتنان، وأنَّ الجيم والنون تدُلاَّن أبداً عَلَى السَّتر، تقول العرب للدّرع: "جُنَّة"، و:"أجَنَّهُ الليلُ"، و:"هذا جنين"، أي هو فِي بطن أمّه أَوْ مقبور.
وأن الإنس من الظهور، يقولون: آنَسْت الشيء: أبصرته.
وَعَلَى هَذَا سائرُ كلام العَرَب، عَلم ذَلِكَ من عَلِم، وجَهِلَه من جهل)ا.هـ.
وقد بنى ابن فارس مُعجَمه الذي سماه "معجم مقاييس اللغة" على إرجاع المفردات العربية إلى أصول تُشتقّ منها، وتتناسب معانيها). [طرق التفسير:216 - 217]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 10:32 AM

تفاوت ظهور الاشتقاق
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تفاوت ظهور الاشتقاق
اشتقاق الكلام بعضه من بعض قد يكون ظاهراً غير مُشْكِل، كاشتقاق اسم "محمّد" من الحمد، واشتقاق "الحُسام" من الحَسْم، وهو من أسماء السيف.

- وقد يكون الاشتقاق خفيا لغرابة اللفظ فيحتاج الناظرُ إلى تفسيره ليعرف اشتقاقه، كما قال الأصمعي في كتابه "اشتقاق الأسماء" : ("دُجَانة": اشتقّ من الدَّجن، والدَّجْن ظلمة الغيم وإلباسُه)ا.هـ.
فكأنّ المولود المسمّى بهذا الاسم قد وُلد في يومِ دَجْنٍ، وكان من عادة بعض العرب أنهم يسمّون أولادهم بأوّل ما يظهر لهم بأدنى مناسبة؛ حتى إنّ منهم من إذا ولدت امرأته غلاماً ورأى ثعلباً سمّى ولده ثعلباً.
وقال الأصمعي أيضاً: ("مِرْداس" اشتقّ من الرَّدس، وهو ضربُ الجبل بالمعوَل والصخرة العظيمة)ا.هـ.
فإذا عرف معنى اللفظة وما اشتقّت منه تبيّنت المناسبة بينهما.
- وقد يكون الاشتقاق لمناسبة لطيفة لا يدركها كثير من الناظرين؛ كما اشتقّ "أمس" من المساء، و"غد" من الغُدوة؛ باعتبار أقرب الأوقات إلى يومك الحاضر.
قال ابن القيّم رحمه الله في "بدائع الفوائد": (اعلم أن أقرب الأيام إليك يومك الذي أنت فيه؛ فيقال: فعلت اليوم، فذكر الاسم العام ثم عرف بأداة العهد ولا شيء أعرف من يومك الحاضر؛ فانصرف إليه، ونظيره الآن من آن، وأما "أمس" و"غد" فلما كان كل واحد منهما متصلا بيومك اشتق له اسم من أقرب ساعة إليه؛ فاشتق لليوم الماضي "أمس" الملاقي للمساء، وهو أقرب إلى يومك من صباحه أعني صباح غد؛ فقالوا: أمس، وكذلك "غد" فقد اشتق الاسم من "الغدوة" وهو أقرب إلى يومك من مسائه أعني مساء غد)ا.هـ.
- وقد يقع الخلاف في أصل اشتقاق الكلمة وتتجاذبها أصول متشابهة في أوجه من المعاني؛ فيجتهد العلماء في الاختيار منها والترجيح بينها، كما اختلفوا في اشتقاق لفظ "القرآن" على أقوال:
أحدها: أنه مشتق من القراءة التي هي بمعنى التلاوة، تقول: قرأت قراءة وقرآنا، قال الله تعالى: {فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه}.
وقال حسان بن ثابت في رثاء عثمان بن عفان:
ضحّوا بأشمط عنوان السجود به ... يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا
أي قراءة، وهذا القول قال به ابن جرير الطبري، وأسند معناه إلى ابن عباس، ورجّحه ابن عطية.
وعلى هذا القول يكون القرآن بمعنى المقروء، تسمية للمفعول بمصدره.
والقول الثاني: أنه مشتقّ من "القَرْء" بمعنى الجمْعِ، وهو مروي عن قتادة، وقال به أبو عبيدة والزجاج وجماعة من العلماء، واحتجوا بقول عمرو بن كلثوم:
ذراعي عيطل أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا
قالوا: أي: لم تضمّ في رحمها ولداً.
قال أبو عبيدة: (وإنما سمّى قرآنا لأنه يجمع السور فيضمها).
والقول الثالث: أنه مشتق من "القَرْء" بمعنى الإظهار والبيان، وأن القِرَاءة إنما سمّيت قراءة لما فيها من إظهار الحروف، وبيان ما في الكتاب، وقد قال بهذا القول قطرب، وفسّر قول عمرو بن كلثوم: (لم تقرأ جنينا) بالولادة؛ أي لم تُلْقِ من رحمها ولداً، وأرجع المعنى إلى أصل الإظهار والبيان.
قال قطرب فيما ذكره عنه أبو منصور الأزهري في الزاهر: (إنما سُمي القرآن قرآناً، لأن القارئ يُظهره ويبيّنه، ويلقيه من فيه).
وذهب الشافعي وجماعة من العلماء إلى أنّ "القران" جامد غير مشتق، وكان الشافعي ينطق اسم القرآن بغير همز "القُران" وهي قراءة ابن كثير المكّي.
وقد روى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه كان يقول: (القُرَان اسم وليس بمهموز، ولم يؤخذ من قرأت، ولكنه اسم لكتاب الله، مثل التوراة والإنجيل).
والقُرآن والقُرَان بمعنى واحد، وإنما هما لغتان إحداهما بالهمز، والأخرى بالنقل والتسهيل.
قال ابن عاشور: (اتفق أكثر القراء على قراءة لفظ "قرآن" مهموزاً حيثما وقع في التنزيل، ولم يخالفهم إلا ابن كثير قرأه بفتح الراء بعدها ألف على لغة تخفيف المهموز، وهي لغة حجازية، والأصل توافق القراءات في مدلول اللفظ المختلف في قراءته)ا.هـ.
وذهب علم الدين السخاوي إلى أنّ "القران" بالتسهيل مشتقّ من "قَرَنت" بمعنى الضمّ والاقتران.
وأرجح الأقوال أنه مشتق من القراءة، وأنه سمّي قرآنا لأنّه كتابٌ اتُّخذَ للقراءة الكثيرة التي لا يبلغها كتاب غيره، ويدلّ على ذلك بناء الاسم على صيغة "فُعْلان" التي تدلّ على بلوغ الغاية، كسُبحان وحُسبان وغُفران وشُكران، مع ما دلّ عليه قول الله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)}
وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}.
وكان بعض السلف يُسمّون الغناء "قرآن الشيطان" وقد روي في ذلك حديث مرفوع لا يصح، وإنما سمّي بذلك لكثرة ما يَقرأ المغنون من الأغاني التي تُلهي عن ذكر الله). [طرق التفسير:217 - 220]

جمهرة التفاسير 7 صفر 1439هـ/27-10-2017م 10:35 AM

ما لا يدخله الاشتقاق:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ما لا يدخله الاشتقاق:
ومن الكلمات المستعملة في لسان العرب ما ليس بمشتقّ ، كالحروف، والأسماء الأعجمية، وبعض أسماء الذوات والمعاني التي لم يؤخذ معناها من غيرها؛ كالحجر والشجر والصبر والرضا.

وقد تكلموا في اشتقاق بعض الأسماء الأعجمية التي تقارب العربية في نطقها كإبراهيم ويوسف وأيّوب؛ فمن أهل العلم من ذهب إلى أنّها جامدة بناء على الأصل، ومنهم من ذهب إلى أنّها مما تتقارب فيه اللغات مع اختلاف يسير في النطق بحسب كلّ لغة، فما كان كذلك فيرجع إلى أصله العربي فيكون مشتقاً.
- فأمّا إبراهيم فأرجعه بعضهم إلى البرهمة، وهي إدامة النظر، ذكره أبو الحسن الماوردي والكرماني وغيرهم، وهذا مأخوذ من قول بعض أهل اللغة في معنى البرهمة.
قال الخليل بن أحمد: بَرْهَم الرجل إذا فتح عينيه وحدّد النظر قال:
يمزجن بالناصع لوناً مُسْهَما ... ونَظَراً هَوْنَ الهوينا بَرْهَما)ا.هـ.
والبيت للعجاج بن رؤبة.
وقال الأصمعي: (بَرْهم إذا أدام النظر).
وليس في كلام هؤلاء الأعلام أنّ اسم "إبراهيم" مشتق من البرهمة، وإنما هو معنى أخذه بعض المفسّرين لأجل تشابه الألفاظ، وهو خطأ.
وقال جماعة من المفسّرين: هو اسم سرياني، معناه في السريانية "أب رحيم"، ذكر ذلك مقاتل بن سليمان وأبو الحسن الماوردي، واحتجّ له ابن القيّم في جلاء الأفهام بأنّ إبراهيم هو الأب الثالث للعالم بعد آدم ونوح.
وهذا القول غير مستبعد لأن اللغات العائدة إلى أصول واحدة قد تتشابه في نطق بعض الكلمات مع اتحاد المعنى، لكن هذا خارج عن حدّ الاشتقاق.
- وأمّا يوسف فأرجعه بعضهم إلى الأسف وهو الحزن؛ ذكره أبو جعفر الرعيني(ت:779هـ) في كتابه "تحفة الأقران فيما قرئ بالتثليث من حروف القرآن" ثمّ ردّه بقوله: (وفي هذا الاشتقاق ما ترى من التكلّف وإساءة الأدب).
- وأمّا "أيّوب" فأرجعه بعضهم إلى الأوب، فقيل: هو فيعول، وقيل: فَعُّول من الأوب، ذكره الزبيدي في تاج العروس.
والقول ما قاله ابن الأنباري في الأضداد إذ قال:("أيوب" يكون أعجميا مجهول الاشتقاق، ويكون عربيا مجرى في حال التعريف والتنكير؛ لأنه يجري مجرى قيوم، من قام يقوم، ويكون فيعولا من آب يؤوب، إذا رجع، قال عبيد بن الأبرص:
وكل ذي غيبة يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب)ا.هـ.
والأسماء الأعجمية المحضة غير مشتقة). [طرق التفسير :221 - 222]


الساعة الآن 11:44 PM

Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
جميع الحقوق محفوظة