مشاهدة النسخة كاملة : توجيه القراءات في سورة البقرة
جمهرة علوم القرآن
25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 07:18 PM
توجيه القراءات في سورة البقرة
جمهرة علوم القرآن
25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 09:32 PM
مقدمات توجيه القراءات في سورة البقرة
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (القراءة في: سورة البقرة). [معاني القراءات وعللها: 1/120]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): ( (سورة البقرة) ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/55]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (ومن السورة التي يذكر فيها البقرة). [الحجة للقراء السبعة: 1/175]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (سورة البقرة). [المحتسب: 1/50]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : (2 - سورة البقرة). [حجة القراءات: 83]قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (ذكر علل اختلاف القراء فيما قل دوره من الحروف
فمن ذلك سورة البقرة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/224]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (وهي مدنية، وكل ما فيها {يا أيها الذين آمنوا} فهو مدني). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/224]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (وهي مائتا آية وخمس وثمانون آية في المدني وست في الكوفي). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/224]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (سورة البقرة). [الموضح: 237]
الياءات المحذوفة
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقال أبو بكر: حذفت من البقرة ست ياءاتٍ اكتفى بكسرات ما قبلهن، منها: حذف ياء (وإيّاي فارهبون (40)، (فاتّقون (41)، (ولا تكفرون (152)،
[معاني القراءات وعللها: 1/239]
(دعوة الدّاع إذا دعان (186)، (واتّقون يا أولي الألباب (197).
وقد أثبتهن يعقوب في الوصل والوقف.
ووصل أبو عمرو منهن ثلاثا: (الدّاع إذا دعان (186)
(واتّقون يا أولي الألباب (197).
ووقف بغير ياء.
وحذفهن الباقون في الوصل والوقف). [معاني القراءات وعللها: 1/240]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (وحذف من هذه السورة ست آيات اختلفوا في ثلاث
{دعوة الداع إذا دعان} [186].
فأثبت أبو عمرو الياء فيهما في الوصل، وحذفهما في الوقف، وروى إسماعيل بن جعفر وورش عن نافع مثل أبي عمرو، وروى المسيبي عنه بغير ياء فيهما، وروى قالون عنه أنه وصل {الداعي} بياء ووقف بغير ياء ولم يذكر {إذا دعاني}.
وقرأ الباقون بغير ياء في وصل ووقف.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/106]
{واتقون يا أولي الألباب} [197].
أثبتها أبو عمرو في الوصل، وحذفها في الوقف، رده في الوصل إلى أصل الكلمة، وفي الوقف إلى المصحف. وحذفها الباقون وصلاً ووقفًا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/107]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (فيها ست ياءات حذفن من الخط وهي:
{فارْهَبُوني} و{فاتّقُونِي} و{لا تَكْفُرُوني} {الدَاعِي} {إذا دَعَاني} {واتّقُوني}.
فأثبتهن كلهن يعقوب في الوصل والوقف.
والباقون اختلفوا في ثلاث: {الداعِي إذا دَعَاني} {واتّقوني}:-
فأثبتهن أبو عمرو ونافع –يل- في الوصل دون الوقف، وكذلك –ش- إلا قوله {واتّقُونِ} فإنه لا يثبتها في الحالين، و- ن- عن نافع لا يثبت شيئًا منهن في الحالين، وكذلك الباقون.
والوجه أن الخط تبع للفظ، وأصل هذه الياءات في اللفظ أن تثبت إلا أنها قد تحذف للتخفيف، والاكتفاء بالكسرة، فمن أثبتها فعلى الأصل، ومن حذفها فللتخفيف، ومن حذف البعض وأثبت البعض فللأخذ باللغتين، ومن حذفها في الوقف دون الوصل فلأن الحذف تغيير، والوقف موضع تغيير). [الموضح: 359]
ياءات المتكلم
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (في هذه السورة ثمان ياءات للمتكلم وهي:
[الموضح: 357]
{إنّي أَعْلَمُ} {انّي أعْلَمُ} {عَهْدِي الظالِمِين} {فاذْكُرُوني أذْكُرْكُمْ} {بَيْتي للطائِفينَ} {رَبّيَ الذي يُحْيِي} {ولْيُؤمِنوا بي لَعَلّهم} {مِنّي إلاّ}.
ففتحن نافع إلا قوله {فاذْكُرُونِيْ}، واختلف عنه في {ولْيُؤْمِنُوا بِي} ففتحها –ش- وأسكنها –ن- و- يل-.
وفتح ابن كثير خمسا، وأسكن {بَيْتَي} {ولْيُؤْمِنُوا بِي} و{منّي إلاّ}، وأسكن أبو عمرو ثلاثًا: {بيتي} {وَلْيُؤمنوا بي} و{فاذكروني}، وفتح الخمس البواقي. وفتح –ص- عن عاصم اثنتين {بَيْتِيَ} و{رَبّيَ الَّذِي}، وأسكن الست البواقي. وفتح عاصم –ياش- وابن عامر والكسائي ويعقوب اثنتين {عَهْدِيَ} و{رَبّيَ الَّذِي} وأسكنوا البواقي ولم يفتح حمزة منهنّ شيئًا.
والوجه في فتح هذه الياءات أنه هو الأصل فيها؛ لأن القياس يقتضي في
[الموضح: 358]
ياءات الضمير أن تكون مفتوحة كالكاف في نحو قولك: ضربتك ومررت بك، إلا أنهم قد يسكنونها تخفيفًا؛ لأن الفتحة وإن كانت خفيفةً فإن السكون أخف منها، وأيضًا فإن الياء لكونها حرفًا من حروف العلة تشبه الألف، والألف لا تكون إلا ساكنة، فأسكنوا الياء أيضًا توفيرًا لحكم الشبه عليها.
فمن فتح أخذ بالأصل، ومن أسكن أخذ بالتخفيف، ومن فتح البعض وأسكن البعض أخذ باللغتين مع الأخذ بالشبه). [الموضح: 359]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107027#post107027)
جمهرة علوم القرآن
25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 09:35 PM
سورة البقرة
[الآية (1)]
{الم}
قوله تعالى: {الم (1)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
القول في (الم).
إنها حرف التهجي، وهي الألف، والباء، والتاء، وسائر ما في القرآن منها.
وإجماع النحويين على أن هذه الحروف مبنية على الوقف، وأنها لا تعرب، كقولك: ألف، لام، ميم. بسكون الفاء من (ألف)، والميم من (لام)، ومن (ميم)، والنطق بها أن تسكت على كل حرف.
والدليل على أن حروف الهجاء مبنية على السكت كما بني العدد على السكت أنك تقول فيها بالوقف مع الجمع بين الساكنين، كما تقول إذا عددت: واحد، اثنان، أربعة.
فتقطع ألف (إثنان) وهي ألف وصل، ويذكر الهاء في ثلاثة وأربعة لولا أنك تقدر السكت لقلت: ثلاثة.
فإذا عطفت الحروف فإنك حينئذ تعربها، فتقول: ألف ولام وميم. وكذلك ألف وباء وتاء إلى آخر الحروف.
وكذلك في العدد إذا عطفت أعربت، فتقول: واحدٌ واثنان وثلاثة وأربعة.
[معاني القراءات وعللها: 1/120]
وكذلك اختير الوقف في "الم " و(الر، و(كهيعص" وما أشبه هذه الحروف.
وروي عن أبي جعفر الرؤاسي أنه قرأ: (الم (1) اللّه لا إله إلّا هو) بقطع الألف من (الله).
وأما القراء فإنهم اتفقوا على طرح همزة ألف (الله)، والعلة في فتحة هذه الميم من قولك: (الم الله) لأن الميم إنما جزمت لنيّة الوقف عليها، إلا أنها كانت مجزومة جزما أصليًا، وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوي بما بعده الاستئناف، فالقراءة (الم الله) بجزم الميم، فتركت العرب همز الألف من (الله) فصارت فتحها في الميم بسكونها، فقرئ (الم الله) لهذه العلة، ولو كانت الميم مجزومة جزما مستحقة الجزم لكسرت حين استقبالها ألف ولام، كما قال الله جلّ وعزّ: (قيل ادخل الجنة) بجزم اللام.
وقال أبو إسحاق في قول الله جلّ ذكره: (الم (1) اللّه لا إله إلّا هو): إنما حركت الميم في (الم الله) لأنه لا يسوغ في اللفظ أن ينطق بثلاثة أحرف سواكن، فلابد من فتحة الميم في (الم الله) لالتقاء
[معاني القراءات وعللها: 1/121]
الساكنين، أعني الميم واللام التي بعدها، وهذا القول صحيح لا يمكن في اللفظ غيره.
قال: ولا أعلم أحدا قرأ (الم الله) بسكون الميم إلا أبو جعفر الرؤاسي قال: وأما ما روي عن عاصم فلا يصح عنه، واجتماع القراء على حركة الميم.
وقال الفراء: بلغني عن عاصم أنه قرأ بقطع الألف). [معاني القراءات وعللها: 1/122]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107028#post107028)
جمهرة علوم القرآن
25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 09:38 PM
سورة البقرة [من الآية (2) إلى الآية (5) ]
بسم الله الرحمن الرحيم
{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}
قوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) }
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله عزّ وجلّ: (لا ريب)
اتفق القراء على نصب (لا ريب).
وجائز في العربية أن تقول: لا ريبٌ فيه، ولكن لا يجوز القراءة بها، لأن القراءة سنة متبعة.
و (لا) حرف نفي، نصب العرب الحرف بها إذا لم يكرروها بلا تنوين، فإذا كرروها فمنهم من ينصب بلا تنوين، ومن يرفع وينون). [معاني القراءات وعللها: 1/122]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (1- قوله تعالى: {لا ريب فيه هدى}
قرأ أبو عمرو وحده {فيه هدى} بإدغام الهاء في الهاء، وكذلك يفعل بالحرفين إذا التقيا، متجانسين كانا أو متقاربين، فالمتجانسان نحو: {جعل لكم الأرض فراشا} {ولا نكذب بآيات ربنا} و{ذهب بسمعهم وأبصارهم} وإن كان الحرف الأول مشددًا لم يدغم نحو: {أحل لكم} و{مس سقر} أو كانت الكلمة محذوفة عين الفعل نحو: {كدت تركن إليهم} و{كنت ترجو} أو خفت الكلمة بعض الخفة.
فأما المتقاربان [ف] ــــــنحو {خلقكم ثم رزقكم} و{أعلم بالشاكرين} و{مريم بهتانا عظيما}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/55]
وقرأ الباقون كل ذلك بالإظهار. فحجة من أدغم قال: إظهار الكلمتين كإعادة الحديث مرتين، أو كخطو المقيد، فأسكن الحرف الأول وأدغمه في الثاني ليُعمل اللسان مرة واحدة.
وأما من أظهر فإنه أتى بالكلام على أصله لتكثر حسناته، إذ كان له بكل حرف عشر حسنات، وإنما الإدغام تخفيف وتقليل الكثير. واتفق القراء جميعًا على إدغام الحرفين المتجانسين والأول ساكن نحو قوله: {أن أضرب بعصاك}). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/56]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قوله تعالى: فيه هدىً [2].
قال أحمد بن موسى: قرأ نافع: (فيه هدى)، و (عليه إنه) [الحج/ 4] (وما أنسانيه إلا) [الكهف/ 63] وما أشبه ذلك إذا كان قبل الهاء ياء ساكنة حركها حركة مختلسة من غير أن يبلغ بها الياء.
واختلف عن نافع: فروى المسيّبي عن نافع أنه أثبت الياء بعد الهاء [في قوله]: عليهي، فيقول من (كتب عليهي أنه من تولاه) [الحج/ 4]. وروى الكسائي عن إسماعيل عن نافع أنه قرأ: عليهي، يثبت الياء في كل
[الحجة للقراء السبعة: 1/175]
القرآن، فإذا كان قبلها واو ساكنة مثل ندعوه إنّه [الطور/ 28] أو ألف مثل اجتباه وهداه [النحل/ 121] ضم الهاء ضما من غير أن يبلغ بالضمة الواو. فإذا كان قبل الهاء حرف غير الواو والياء والألف وهو ساكن حرك الهاء أيضا حركة خفيفة من غير بلوغ واو، مثل: منه وعنه، إلّا في قوله: وأشركهو في أمري [طه/ 32] فإن المسيّبي روى عنه الصلة بالواو في هذا الحرف وحده. فإذا كان ما قبل الهاء متحركا، وكانت الحركة كسرة كسر الهاء ووصلها بياء في اللفظ، كقوله: وأمهي... وصاحبتهي [عبس/ 35]، وكتبهي ورسلهي [البقرة/ 285، والنساء/ 136] وما أشبه ذلك. فإذا كانت الحركة قبل الهاء ضمة أو فتحة ضم الهاء ووصل الهاء بواو.
فمثل ما تحرك ما قبل الهاء فيه بالضمة قوله تعالى: فإن الله يعلمهو [البقرة/ 270]، فهو يخلفهو [سبأ/ 39]. ومثل ما تحرك ما قبل الهاء فيه بالفتحة قوله: خلقهو فقدر هو [عبس/ 19]، ويسرهو [عبس/ 20]، فأقبرهو [عبس/ 21] وما أشبه ذلك، يصل ذلك كله بواو ويقف بغير واو. وكذلك مذهب أبي عمرو وعاصم إلّا في قوله: (وما أنسانيه إلا الشيطان) [الكهف/ 63] فإن أبا بكر بن عياش وحفصا اختلفا فيه عن
[الحجة للقراء السبعة: 1/176]
عاصم فروى أبو بكر عن عاصم: (وما أنسانيه) بكسر الهاء من غير بلوغ ياء ومثله (بما عاهد عليه الله) [الفتح/ 10] ويخلد فيه مهاناً [الفرقان/ 69].
وروى عنه حفص (وما أنسانيه إلّا) بضم الهاء من غير واو. وكذلك اختلفا في قوله: بما عاهد عليه اللّه فضم حفص الهاء وكسرها أبو بكر في سائر القرآن. ومثله: ويخلد فيه مهاناً، فإن حفصا روى عن عاصم أنه يصل الهاء بياء، وحذفها أبو بكر عن عاصم. وهو مذهب حمزة والكسائي وابن عامر، إلّا ما روى حفص عن عاصم في «أنسانيه» و «عليه الله» وفيهي «مهانا» يشبع الكسرة.
فأمّا ابن كثير فإنّه كان [يصل الهاء بياء في كل ذلك إذا كان قبلها ياء أو واو أو ألف أو حرف ساكن أو متحرك]
[الحجة للقراء السبعة: 1/177]
فيقول «فيهي هدى»، و (إليهي، ولديهي، وعليهي، واجتباهو، وهداهو، وما أنسانيهي إلّا، ومنهو، وعنهو) وكل ما كان مثله في القرآن.
قال أبو بكر محمد بن السري: الاختيار في (فيه) الكسر بغير ياء ولا إدغام. وحكى عن أبي حاتم أن ذلك قراءة العامة. قال أبو بكر: وهو الأخف، وخط المصحف بغير ياء.
قال: وأكره الإدغام، لأن من كسر، فالياء يريد، ومن أثبت الياء لم يجز له أن يدغم، لأنّه لم يلتق حرفان، ومع ذلك فهي من الحروف التي يكره إدغام بعضها في بعض، لثقل ذلك.
قال: وقال أبو حاتم: يروى عن نافع أنّه كان يدغم: ((فيه هدى)) ويشمّها شيئا من الضم. قال: وإدغامه وإدغام أبي عمرو يدل على أنّهما لم يكونا يزيدان على ضمّة الهاء بلا واو وعلى كسرها بلا ياء كقراءة العوام.
قال أبو حاتم: والضّم لغة مشهورة، وليس بعد الضم واو في اللفظ. قال: ومن كان من لغته إدخال الواو مع المضموم والياء مع المكسور فقال: فيهو، وفيهي، لم يجز له الإدغام، لأنّ بين الهاءين في اللفظ حرفا حاجزا.
قال أبو بكر: وقال بعض أصحابنا: قراءة من قرأ ((فيه هدى))، بإدغام الهاء في الهاء، هو ثقيل في اللفظ وجائز في
[الحجة للقراء السبعة: 1/178]
القياس، لأنّ الحرفين من مخرج واحد، إلّا أنّه يثقل في اللفظ، لأنّ حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام، والحرفان من كلمتين.
وحكى الأخفش أنّها قراءة.
قال أبو بكر- في رواية من روى عن أبي عمرو وغيره أنه كان يشمّ ويدغم-: هذا محال، لا يمكن الإدغام مع شيء من هذا، وذلك أنّه لا فصل بين الحرفين إذا أدغما بحال من الأحوال، لا بقطع ولا حركة ولا ضرب من الضروب، وإنّما يصيران كالحرف الواحد للزوم اللسان لموضع واحد، وإنّما كان أبو عمرو يختلس ويخفي فيظن به الإدغام، وكيف يكون متحرك مدغم فيجب أن يكون متحركا ساكنا. قال: وقال أبو حاتم:
أراد أبو عمرو ونافع الإخفاء، فلذلك أشما الضمّ والكسر، ولو أدغما إدغاما صحيحا أسكنا الهاء الأولى. قال: وكان من شأن أبي عمرو الإخفاء، لكراهية كثرة الحركات والإشباع. انتهت الحكاية عن أبي بكر.
قال أبو علي: قوله تعالى: لا ريب فيه. قال سيبويه: قالوا: أراب كما قالوا: ألام، أي صار صاحب ريبة، كما قالوا: ألام، أي: استحق أن يلام، وأما رابني فيقول: جعل فيّ ريبة، كما تقول: قطعت النخل، أي: أوصلت إليه القطع واستعملته فيه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/179]
وقال أبو زيد: قد رابني من فلان أمر رأيته منه ريبا إذا كنت مستيقنا منه بالرّيبة. فإذا أسأت به الظنّ، ولم تستيقن منه بالريبة قلت: قد أرابني من فلان أمر هو فيه، إرابة وقد أربت فأنت مريب، إذا بلغك عنه شيء أو ظننته من غير أن تستيقنه. وقال: أنشدنا أبو عليّ كأنّني أربته بريب.
وقال أبو عبيدة: لا ريب: لا شك.
وأما الهدى فقال سيبويه: قلّما يكون ما ضمّ أوله من المصدر منقوصا، لأن فعل لا تكاد تراه مصدرا من غير بنات الياء والواو.
[الحجة للقراء السبعة: 1/180]
وقال أيضا: قد جاء في هذا الباب- يعني باب اعتلال اللام- المصدر على فعل، قالوا: هديته هدى. ولم يكن هذا في غير هدى وذلك لأنّ الفعل لا يكون مصدرا في هديته فصار هدى عوضا منه قالوا: قريته قرى وقليته قلى، فأشركوا بينهما في هذا فصار عوضا من الفعل في المصدر فدخل كلّ واحد منهما على صاحبه، كما قالوا: كسوة وكسى وجذوة وجذى وصوّة وصوى، لأنّ فعل وفعل أخوان. ومن العرب من يقول: رشوة ورشا، ومنهم من يقول: رشوة ورشا وحبوة وحبا، وأكثر العرب تقول: رشا وكسا وجذا.
قال أبو علي: وقد يجوز أن يكون فعل مصدرا اختصّ به المعتل وإن لم يكن في الصحيح، كما كان كينونة ونحوه مصادر، ولا يكون فيعلولة عنده ولا فعلولة عند من خالفه
[الحجة للقراء السبعة: 1/181]
مصدرا في الصحيح.
ويؤكد الأول ما قاله من أنّه قد يستغنى بفعله نحو: الجلسة والرّكبة عن المصدر.
ويقوّيه أيضا أنّ ناسا من النحويين يزعمون أنّه قد يجرى الأسماء التي ليست بمصادر مجرى المصادر فيقولون: عجبت من دهنك لحيتك وينشدون:
وبعد عطائك المائة الرتاعا
فيجرونه مجرى الإعطاء.
وقال لبيد:
باكرت حاجتها الدجاج
[الحجة للقراء السبعة: 1/182]
وفسّروه على: باكرت حاجتي إليها، فأضيف إلى المفعول، كما يضاف المصدر إليه، فكذلك يكون الهدى والسرى والتّقى، وفي التنزيل: إلّا أن تتّقوا منهم تقاةً [آل عمران/ 28]. فكذلك يكون هذا النحو قد استغني به عن المصدر، كما قالوا: هو يدعه تركا شديدا.
فإن قلت: فلم لا تجعل (تقاةً) مثل رماة في الآية، فيكون حالا مؤكّدة. فإنّ المصدر أوجه: لأنّ القراءة الأخرى:
(إلا أن تتقوا منهم تقية) بهذا أشبه، وإن كان هذا النحو من الحال قد جاء، وسنذكره في موضعه إن شاء الله.
وقال أبو عبيدة: (هدىً للمتّقين): بيانا لهم. وقال أبو الحسن: زعموا أنّ من العرب من يؤنّث الهدى.
وأما الفعل من الهدى: فيتعدى إلى مفعولين، يتعدى إلى الثاني منهما بأحد حرفي جر: إلى، واللام. فمن تعدّيه بإلى قوله: فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات/ 23]. ومنه قوله: واهدنا إلى سواء الصّراط
[الحجة للقراء السبعة: 1/183]
[ص/ 22]. ومن تعديه باللام قوله: الحمد للّه الّذي هدانا لهذا [الأعراف/ 43]، وقوله: قل اللّه يهدي للحقّ [يونس/ 35]. فهذا الفعل بتعديه مرة باللام وأخرى بإلى مثل أوحى في قوله: وأوحى ربّك إلى النّحل [النحل/ 68]، وقوله: بأنّ ربّك أوحى لها [الزلزلة/ 5].
وقد يحذف الحرف من قولهم: هديته لكذا وإلى كذا، فيصل الفعل إلى المفعول الثاني، كما قال: اهدنا الصّراط المستقيم، أي: دلنا عليه واسلك بنا فيه، فكأنّه سؤال واستنجاز لما وعدوا به في قوله: يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السّلام [المائدة/ 16] أي سبل دار السلام، بدلالة قوله: لهم دار السّلام عند ربّهم [الأنعام/ 127].
وتكون إضافة الدار إلى السلام على أحد وجهين: إمّا أن يراد به الإضافة إلى السلام الذي هو اسم من أسماء الله على وجه التعظيم لها والرفع منها، كما قيل للكعبة: بيت الله، وللخليفة: عبد الله. وإمّا أن يراد بالسلام جمع سلامة، كأنّه: دار السلامة التي لا يلقون في حلولها عنتا ولا تعذيبا، كما قال: الّذي أحلّنا دار المقامة من فضله لا يمسّنا فيها نصبٌ ولا يمسّنا فيها لغوبٌ [فاطر/ 35]. وسألوا ذلك ليكونوا خلاف من قيل فيه: فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات/ 23]، وقيل: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً [الحديد/ 13].
[الحجة للقراء السبعة: 1/184]
وقد يكون قوله: اهدنا الصّراط المستقيم سؤالا لأن يلطف لهم بالتثبيت على الإيمان وطرق الهدى والدين فلا يكونوا كمن وصف بقوله: وضلّوا عن سواء السّبيل [المائدة/ 77]، وقوله: ومن يفعله منكم فقد ضلّ سواء السّبيل [الممتحنة/ 1].
ويقوي ذلك قوله: وأنّ هذا صراطي مستقيماً فاتّبعوه ولا تتّبعوا السّبل فتفرّق بكم عن سبيله [الأنعام/ 153]، وقوله: وآتيناهما الكتاب المستبين وهديناهما الصّراط المستقيم [الصافات/ 117، 118].
ويقوي الوجه الأوّل قوله: والّذين قتلوا في سبيل اللّه فلن يضلّ أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم [محمد/ 4، 5]، فهذا على الدلالة إلى طريق الجنة والثواب.
فأمّا قوله: إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات يهديهم ربّهم بإيمانهم [يونس/ 9] فإنّه يكون مثل قوله: سيهديهم ويصلح بالهم بدلالة اتصال الحال به، وهو قوله: تجري من تحتهم الأنهار في جنّات النّعيم، ويكون الظرف على هذا متعلقا بيهديهم. ويجوز أن يكون يهديهم في دينهم كقوله: والّذين اهتدوا زادهم هدىً [محمد/ 17]، ويكون الحال فيه كقوله: هدياً بالغ الكعبة [المائدة/ 95]. وكما أجاز سيبويه
[الحجة للقراء السبعة: 1/185]
من قولهم: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، ويكون الظرف على هذا متعلقا بتجري.
فأمّا قوله: ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً [النساء/ 175] فقوله: صراطا مستقيما على فعل دلّ عليه يهديهم كأنه: يعرّفهم صراطا مستقيما، ويدلّهم عليه. وإن شئت قلت: إنّ معنى يهديهم إليه: يهديهم إلى صراطه، ويكون انتصاب صراط كقولك: مررت بزيد رجلا صالحا.
وقال أبو الحسن: يقال هديت العروس إلى بعلها، وتقول أيضا: أهديتها إليه، وهديت له. وتقول: أهديت له هديّة. وبنو تميم يقولون: هديت العروس إلى زوجها، جعلوه في معنى: دللتها، وقيس تقول: أهديتها جعلوه بمنزلة الهديّة.
وممّا يدلّ على أن الهدى الدلالة- كما فسره أبو الحسن- أنّه قد قوبل به الضلال في نحو قوله: واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضّالّين [البقرة/ 198]. أي: من قبل هداه، فلما دلّ الفعل على المصدر أضمر. وقال ابن مقبل:
قد كنت أهدي ولا أهدى فعلّمني... حسن المقادة أنّي فاتني بصري
وقيل في قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/186]
حتى استبنت الهدى والبيد هاجمة... يخشعن في الآل غلفا أو يصلّينا
إن معنى استبنت الهدى: أضاء لي النهار. هاجمة: كأنّها مطرقة من البعد، وغلفا: تلبس أغطية من السراب. وقال أبو عمرو: غلفا: ليس عليها شيء يسترها. وقوله: أو يصلّينا، كأنّهن- ممّا يرفعهنّ السراب ويضعهن- يصلين، وحكى أحمد بن يحيى عن بعض البغداديين يقال: هديّ بيت الله، وأهل الحجاز يخففون، وتميم تثقّله. وواحد الهديّ هديّة. وقد قرئ بالوجهين، حتّى يبلغ الهدي محلّه [البقرة/ 196] والهدي محله.
ويقال: فلان هديّ بني فلان وهديهم، أي جارهم يحرم عليهم منه ما يحرم من الهدي. وأهديت الهدي إهداء، وأهديت الهديّة إهداء، وهديت العروس إلى زوجها هداء، ويقال: أهديتها بالألف. ويقال: نظر فلان هدية أمره أي: جهة أمره، وما أحسن هديه أي: سمته وسكونه وهديت الضالّة أهديها هداية، وهديته الدين أهديه هدى، ورجل
[الحجة للقراء السبعة: 1/187]
مهداء: كثير الهدايا، والمهدى: الطبق الذي يهدى عليه.
وقال أحمد هدى وأهدى واحد، وأنشد:
لقد علمت أمّ الأديبر أنّني... أقول لها هدّي ولا تذخري لحمي
انتهت الحكاية عنه.
قال أبو علي: وواحد الهديّ هديّة، مثل مطيّ ومطيّة قال:
حلفت بربّ مكة والمصلّى... وأعناق الهديّ مقلّدات
وقال:
متى أنام لا يؤرّقني الكري... ليلا ولا أسمع أجراس المطي
[الحجة للقراء السبعة: 1/188]
ومن خفف الهدي فواحده هدية مثل شرية وشري، وقالوا: هدي للواحد، وقالوا: هديّ للعروس قال:
برقم ووشم كما نمنمت... بميشمها المزدهاة الهديّ
قيل: إن ذلك من قوله: وإنّي مرسلةٌ إليهم بهديّةٍ [سبأ/ 35].
فأمّا قوله: (لا ريب فيه) فيجوز أن تجعل (فيه) خبرا، ويجوز أن تجعله صفة، فإن جعلته صفة أضمرت الخبر، وإن جعلته خبرا كان موضعه رفعا في قياس قول سيبويه من حيث يرتفع خبر المبتدأ، وعلى قول أبي الحسن موضعه رفع من حيث كان خبر إنّ رفعا، فإن جعلت (فيه) صفة، ولم تجعله خبرا كان موضعه نصبا في قول من وصف على اللفظ كما عطف على اللفظ في قوله:
لا أب وابنا
[الحجة للقراء السبعة: 1/189]
ومن وصف على الموضع كما عطف على الموضع في قوله:
لا أمّ لي إن كان ذاك ولا أب
كان موضعه رفعا على هذا. والموضع للظرف نفسه لا لما كان يتعلق به، لأن الحكم له دون ما كان يكون الظرف منتصبا به في الأصل، ألا ترى أنّ الضمير قد صار في الظرف.
فأمّا قوله: لا تثريب عليكم اليوم [يوسف/ 92] فلا يخلو قوله: عليكم واليوم من أن يكون تعلقهما بتثريب الذي هو المصدر أو بغيره. فلا يجوز أن يتعلق بالمصدر، لأنّه لو تعلق به لكان صلة له، ألا ترى أنّ ما يتعلق بالمصدر يكون من تمامه ومن صلته، وإذا كان من تمامه لم يجز بناؤه على الفتح
[الحجة للقراء السبعة: 1/190]
من دونه، كما أنّ ما يتعلق باسم الفاعل في نحو: لا آمرا بالمعروف لك، إذا جعلت الباء من صلة الآمر، ولا ضاربا رجلا عندك، لا يجوز أن يبنى الاسم دونه، لأنّ البناء إنّما يكون في آخر الاسم، كما أنّ التثنية والجمع كذلك، فكما لا يثنّى قبل أن يتمّ بصلته، كذلك لا يجعل مع الأول اسما واحدا، كما أنّ: (لا خيرا من زيد) كذلك. فإذا لم يجز تعلّقهما ولا تعلّق واحد منهما بالمصدر تعلّق بغيرهما. فيمكن أن يكون (عليكم) صفة للمصدر، لأنّه نكرة، والجارّ كان في الأصل متعلّقا بمضمر يكون في موضع الصفة، ويكون (اليوم) في موضع الخبر، لأنّه مصدر، فتكون أسماء الأحيان خبرا عنه.
ويجوز أيضا أن يكون (اليوم) متعلقا بما هو في موضع صفة، كما كان (عليكم) كذلك، فإذا حملته على هذا أضمرت خبرا وجعلت (عليكم) أيضا مثله.
ويجوز أن يتعلق اليوم بعليكم على أن تكون ظرفا له، فإذا حملته على هذا أضمرت أيضا خبرا.
ويجوز أيضا أن يتعلق اليوم بعليكم على أن يكون (عليكم) خبرا لا صفة. ومثل ذلك قوله: لا عاصم اليوم من أمر اللّه إلّا من رحم [هود/ 43] (اليوم): معمول (من أمر اللّه)، والجارّ متعلق بمحذوف، وإن شئت جعلته صفة وأضمرت الخبر. ولا يكون (اليوم) ولا قوله (من أمر اللّه)
[الحجة للقراء السبعة: 1/191]
من صلة (عاصم) في قول سيبويه.
والبغداديّون- فيما حكي لنا عنهم- يجيزون في هذا ونحوه أن يكون الظرف من صلة المنفي المبني غير المنون.
فأما قوله تعالى: لا بشرى يومئذٍ للمجرمين [الفرقان/ 22] فإن جعلت «بشرى» في موضع تنوين، جاز أن يكون يومئذ من صلته، وإن جعلته في موضع الفتح للنفي، جاز أن يكون خبرا، لأنّ «بشرى» حدث، فلا يمتنع أن يكون خبره ظرفا من الزمان، ويكون (للمجرمين) صفة لبشرى. وقد يكون تبيينا: مثل: لك بعد سقيا.
ويجوز أن يكون (للمجرمين) الخبر، ويكون (يومئذٍ) تبيينا، مثل: وكانوا فيه من الزّاهدين [يوسف/ 20].
وأكثر ما يكون هذا التبيين بحروف الجر، ولا يمتنع ذلك في الظروف أيضا، لأنّ حرف الجر يقدر معها ويراد، فكأنه في حكم الثبات. وقول أمية:
فلا لغو ولا تأثيم فيها... وما فاهوا به لهم مقيم
إن قلت ما موضع (فيها) في هذا الموضع؟ وكيف
[الحجة للقراء السبعة: 1/192]
القول فيه؟. فإن قياس قول سيبويه أن يكون فيها في موضع رفع، لكونها خبرا عن الاسمين، كما أنّك لو قلت: لا رجل ولا غلام فيها كان (فيها) خبرا عنهما، ألا ترى أنّ ((لا)) مع ((رجل)) في موضع اسم مرفوع على قول سيبويه، وخبره مرفوع، كما يرتفع خبر: لا رجل في الدار.
وقياس قول أبي الحسن ألا يكون (فيها) خبرا عنهما جميعا، لأن ارتفاع الخبرين مختلف في قولهما. وذلك أن خبر (لا تأثيمٌ) يرتفع عند أبي الحسن بلا، دون كونه خبرا للابتداء، وخبر (لغو) مرتفع بالابتداء فإذا اختلف إعراب خبريهما لم يجز أن يكون قوله (فيها) خبرا عنهما، لأنّه يجب من ذلك أن يعمل في (فيها) عاملان مختلفان، فإذا كان ذلك غير سائغ، علمت أن كونه خبرا عنهما غير سائع، وإذا لم يجز أن يكون خبرا عنهما لاختلاف إعرابيهما وجب أن يكون لكل واحد خبر. فلك أن تجعل (فيها) خبرا عن تأثيم، ويكون ذكره يدلّ على خبر الأوّل، كما أن قوله:
............. وأنت بما... عندك راض .......
[الحجة للقراء السبعة: 1/193]
دلّ على خبر: نحن بما عندنا.
ويجوز أن تجعل (فيها) خبرا عن الأوّل وتحذف خبر (لا تأثيمٌ)، ويدلّ عليه ما تقدّم من خبر الأول. وقولهم: لا خير بخير بعده النار، ولا شرّ بشر بعده الجنة. يجوز أن يكون بخير متعلقا بمحذوف في موضع رفع بأنّه خبر لا وقولك: بعده النار الجملة في موضع جر بكونه وصفا لخير المجرور.
وقياس قول سيبويه أن تكون النار والجنة على هذا الوجه يرتفعان بالظرف لكونهما صفتين للنكرة.
ويجوز أن تجعل لا بمنزلة ليس على قوله: «لا مستصرخ» فتكون الباء حينئذ في القياس كالباء التي تزاد في خبر ليس.
فإن لم تجعل لا بمنزلة ليس وجعلتها الناصبة لم يجز
[الحجة للقراء السبعة: 1/194]
أن تكون الباء في خبرها، لأن خبرها مرفوع كخبر المبتدأ، ألا ترى أنه قد حكي عن يونس أنّهم يقولون: لا رجل أفضل منك، فيرفعون (أفضل) لأنه خبر، فكما لا تدخل الباء على خبر المبتدأ كذلك لا تدخل على خبر لا، لأنّها مع ما عملت فيه بمنزلة المبتدأ.
وإن شئت أجزت دخول الباء لمضارعتها ليس وكون الكلام بها في النفي بمنزلة ليس، فكما دخلت على خبر ليس وكانت هي مثلها في النفي دخلت على خبرها أيضا الباء، ألا ترى أنّه قد جاء: أولم يروا أنّ اللّه الّذي خلق السّماوات والأرض ولم يعي بخلقهنّ بقادرٍ [الأحقاف/ 33] فدخلت الباء حيث كان معنى الكلام النفي وكان المعنى: أليس الله بقادر.
وإن شئت أجزت دخول الباء على خبر المبتدأ على قياس قول أبي الحسن، لأنّه قد أجاز في قوله: جزاء سيّئةٍ بمثلها [يونس/ 27] أن تكون الباء داخلة على خبر المبتدأ، لأنّه قد جاء: وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها [الشورى/ 40] فيجوز على هذا أن تكون الباء داخلة على الخبر الذي هو في موضع رفع.
وإن جعلت الهاء في قوله: (بعده النار) لخير المنفي بلا كانت الجملة التي هي: (بعده النّار) (وبعده الجنّة) في موضع نصب بكونها صفة للاسم الذي عمل فيه (لا)، كأنّه: لا خير
[الحجة للقراء السبعة: 1/195]
بعده النار بخير، فيجوز في الباء في قولك: (بخير) ما جاز فيها إذا جعلت قولهم (بعده النار) صفة لخير الذي دخلت عليه الباء. وتقديره في هذا الوجه تقدير: لا رجل قام غلامه أفضل منك.
وأمّا ما ذهب إليه البغداديّون من استجازتهم إعمال أسماء الفاعلين والمصادر إذا بنيا مع لا على الفتح، فممّا يبيّن أنّه لم يكن ينبغي أن يعملوه كما كان يعمل قبل- أنّ ذلك بالبناء مع لا على الفتح قد فارق شبه الفعل، كما أن اسم الفاعل والمصادر بالتصغير والوصف قد فارقا ذلك، فكما لا يعمل اسم الفاعل والمصدر مصغّرين ولا موصوفين كذلك اسم الفاعل والمصدر إذا بني كل واحد منهما مع لا على الفتح.
فإن قلت: إنّ هلمّ في قول أهل الحجاز قد بني الفعل فيه مع حرف قبله، وأعمل عمل الفعل، وحقروا رويدا وأعملوه عمل الفعل في نحو: رويد عليّا، فكذلك ما تنكر أن بني الاسم مع ما قبله على الفتح ويعمل. وأنشد بيت الهذليّ:
رويد عليّا جدّ ماثدي أمّهم... إلينا ولكن ودّهم متماين
[الحجة للقراء السبعة: 1/196]
قيل: إنّ ما ذكرته في هلمّ على هذا القول قليل، وكذلك رويد، ومع ذلك فإنّ هلمّ إذا أعمل على قول أهل الحجاز فإنّه ليس يعمل كما يعمل الفعل، ولكن كما تعمل الأسماء التي سمّي بها الفعل، نحو عليك ورويد: يدلّك على أنّه على هذا الحدّ أعمل، ليس على ما أعمل الفعل أنّهم جعلوه للاثنين والجمع والمذكر والمؤنث على لفظ واحد. فهذا
ممّا يدلك أنّه بالبناء عندهم على هذا الحدّ الذي بني عليه خرج عندهم من حكم الفعل وعن عمله على حدّ عمل الفعل. ففي هذا دلالة على أنّهم إذا بنوه مع ما قبله لم يعملوه على حدّ ما يعمل الفعل، كما أعمله بنو تميم لمّا لم يبنوه مع الحرف الذي قبله.
وإذا كان أهل الحجاز قد فعلوا ذلك بهلمّ لمكان البناء الذي أحدثوه فيه فكذلك ينبغي على قياس ما فعلوه من ذلك ألا يجوز إعمال اسم الفاعل والمصدر عمل الفعل إذا بنيا مع (لا) لخروجه بذلك عن شبه الفعل.
فأمّا إعمالهم الفعل إذا لحقه النون الخفيفة أو الثقيلة مع أنّه يبنى مع كل واحد منهما، فإن ذلك ليس بمنزلة هلمّ المبنيّ مع ما قبله، ولكن بمنزلة البناء مع علامة الضمير،
[الحجة للقراء السبعة: 1/197]
وبمنزلة التغيير الذي يلحق الآخر للإعراب، نحو لحاق النون للإعراب، وحذف اللامات للجزم، ألا ترى أن الخفيفة تجري مجرى التنوين في: لنسفعاً [العلق/ 15] وفي اضربا القوم فليس ذلك إذا كهلمّ المبني على الفتح مع ما قبله.
فأمّا ما أجازه أحد شيوخنا- وهو أبو إسحاق الزجّاج- في قوله: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً من أنّه بمنزلة حلو حامض - أي هو كتاب وهو هدى- فالقول في إجازة هذا على الوجه الذي ذكره مشكل. وذاك أن ارتفاعهما لا يخلو من أن يكون بأنّهما خبر المبتدأ، أو يكون الثاني تابعا للأول.
فإن قيل: يرتفع الاسمان بأنّهما خبر المبتدأ قيل: لم نر شيئا رافعا يرفع اسمين على هذا الحدّ. وقد شبّهوا ارتفاع خبر
[الحجة للقراء السبعة: 1/198]
المبتدأ بارتفاع الفاعل، وزعموا أنّه ارتفع لمشابهة الفاعل.
فإن قلت: إنّ الثاني تابع للأول فليس يجوز أن يكون الثاني بدلا من الأول، لأنّ الأول مراد، كما أن الثاني كذلك، ومن ثمّ لم يجز أن يكون الثاني صفة للأول. والصفة أبعد أن تجوز، لأنّك لا تصف الحلو بأنه حامض، وإنما تخبر عن الأول أنه قد جمع الطعمين، ولا مدخل هاهنا لشيء من باقي التوابع. فإذا بعد هذان ولم يخل منهما ثبت إشكال المسألة.
ولا يستقيم أن يجعل (حامض) خبر مبتدأ محذوف وأنت تريد هذا المعنى؛ لأن الكلام يصير جملتين وإنّما يراد في المخبر عنه أنّه قد جمع الطعمين في جملة واحدة، كأنّك قلت: مزّ.
فإن قلت: أجعل الاسمين موضعهما رفع، لوقوعهما موقع اسم مفرد يرتفع بأنّه خبر مبتدأ، كما يجعل موضع الجملة رفعا إذا وقع موقع الخبر فإنّ في ذلك بعدا لأنّ هذا وإن كان مشبها للجملة في أنّهما اسمان فليس بها، ألا ترى أنّك إذا سميت رجلا: عاقلة لبيبة، أعملت فيه العوامل، ولم تجعله بمنزلة أن تسمّيه بزيد منطلق وأنت
تريد الجملة. فممّا نقول في ذلك أن هذين الاسمين لا يمتنع أن يقعا جميعا خبرا لمبتدإ.
وإذا جاز أن يقع خبر المبتدأ جملة ولم يمتنع ذلك- وإن كان الفاعل يمتنع أن يكون جملة- كان هذا أيضا جائزا أن يكون في موضع
[الحجة للقراء السبعة: 1/199]
خبر المبتدأ. وقد جاء أشدّ من هذا، وهو أنّ هذه الجمل قد وقعت موقع خبر إنّ في مثل: إن زيدا أبوه منطلق، وإن زيدا قام أبوه. وإذا جاز هذا في إنّ مع أنّ فيه نصبا ظاهرا، وحكم النصب ألّا يكون إلا برفع لفاعل أو مشبه به، ووقعت الجملة موقع الرافع الفاعل فهذا أجوز.
واختلفوا في ضرب من هذا. وهو قولهم: أقائم الزيدان، وإنّ قائما الزيدان. فأجازوا: أقائم الزيدان، على أن يرتفع (قائم) بالابتداء ويسدّ (الزيدان) مسدّ الخبر، فإذا ألحقت هذا الكلام (إنّ) ذهب أبو عثمان فيه إلى أنّه لا يجوز، وقال: لأنّ الكلام يبقى بلا رافع، ألا ترى أن (الزيدان) يرتفعان بقائم، فلا يبقى شيء رافع يكون هذا النصب عنه.
وأجاز أبو الحسن: إنّ قائما الزيدان، ومن حجّته أن يقول: إنّ «إنّ» إذا جاز أن يقع في موضع المرتفع بها الجملة مع أن الجملة لا تكون في موضع الفاعل، وقد وقعت في موضع الفاعل في باب إنّ، فأن يقع الاسم المرتفع بقائم هنا أشبه، لأنّه قد ثبت أنّه قد سدّ مسدّ الخبر في الابتداء، فإذا سدّ مسدّ الخبر في الابتداء فأن يسدّ مسدّه هاهنا أشبه، لأنّه مفرد، وقد سدّت الجملة مسدّه. فسدها هنا مسدّ فاعل إنّ كما سدّ مسد الخبر مع المبتدأ.
فأمّا ما يرجع من هذا الخبر الذي هو: (حلو حامض) ونحوه إلى المبتدأ فالقول فيه أنّه لا يخلو من أن يكون
[الحجة للقراء السبعة: 1/200]
الضمير في أحد الاسمين، أو في كلّ واحد منهما ضمير، أو يكون فيهما ضمير واحد، أو لا يكون في واحد منهما ضمير.
فلا يجب أن يكون في أحد الاسمين دون الآخر، لأن كلّ واحد منهما إذا خصصته بتحمّله الضمير لم يكن بأولى بذلك من صاحبه. ولا يستقيم أن يكون في كل واحد منهما ضمير: لأنّك إن حمّلت كلّ واحد منهما ضميرا لم يكن ذلك الغرض في الإخبار، ألا ترى أن الضمير إذا حمّلته كلّ واحد منهما فالضمير فاعل، فتصير كأنّك قد أخبرت عن المبتدأ بفعل كل واحد من اسمي الفاعل، كأنّك قلت: حلا وحمض، وليس الغرض كذلك ولا المراد، إنّما المراد: أن الأول قد جمع الطعمين، ألا ترى أن أبا عمر قال في تفسير ذلك: ترش شيرين.
فإذا كان ذلك مؤديا إلى خلاف المعنى المراد لم يستقم.
ولا يجوز أن يكون ضمير واحد فيهما جميعا، لأنّه يجب أن يعمل الصفتان جميعا فيه، وهذا ممتنع، كما يمتنع أن يعمل فعلان في فاعل وإذا كانت هذه الوجوه غير مستقيمة ثبت أنه لا ضمير في ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/201]
فإن قلت: فعلام يحمل؟ قلنا: نحمله على المعنى، ونردّ الضمير في ذلك إلى المبتدأ في المعنى، كما فعل ذلك في الصفة في قولك: مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين، ألا ترى أنه لا عائد في لفظ هذه الصفة إلى الموصوف، وإنما يرجع إليه الذكر في المعنى، كأنك قلت: لا قاعد أبواه.
ونظير ما قلنا أيضا في المبتدأ قوله: سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] ألا ترى أن الذكر يرجع إلى هذا المبتدأ أيضا على المعنى فكما أن الكلام وتقديره محمول على المعنى كذلك في قولنا: هذا حلو حامض، الذكر عائد من المعنى كما أنّه مما ذكرنا في الصفة وفي قولهم: مررت برجل قائم وقاعد يعود الذكر على المعنى.
فإن قلت: فما تقديره في الإعراب؟ فالقول إنّه: كما أن الاسمين وقعا موقع مفرد فيما ذكرنا من عود الذكر إلى المبتدأ، كأنّه قال في «حلو حامض»: مزّ، وفي «زيد ظريف كاتب»: جامع، فكذلك الاسمان وقعا موقع المفرد، كما تقع الجملة موقع المفرد في هذا الموضع.
ونظير هذا، في أن الصفتين جرتا مجرى الجملة في بعض الوجوه، تسميتهم بعاقلة لبيبة امرأة أو رجلا، ألا ترى أنهم لم يمتنعوا من الصرف وحكوا حال النكرة كما فعلوا ذلك في الجمل، فهذان الاسمان إذا وقعا موقع خبر الابتداء وإن لم
[الحجة للقراء السبعة: 1/202]
يجز أن يقع بعد الفعل اسمان يسند الفعل إليهما فإن المبتدأ قد وقع موضع خبره الجمل، نحو قولهم: زيد أبوه منطلق، وعمرو قام أبوه، وكما جاز هذا وإن امتنع في الفاعل، وجاز: إن زيدا أبوه منطلق كذلك يجوز وقوع هاتين الصفتين موقع خبر الابتداء على حدّ ما وقعت الجمل، وإن لم يكونا جملة.
وأمّا هاء الضمير في قوله: فيه هدى، فالهاء وحدها هي الاسم. قال سيبويه: الهاء التي هي هاء الإضمار الياء التي بعدها أيضا مع هذا أضعف، لأنّها ليست بحرف من نفس الكلمة ولا بمنزلته. فقد نصّ أنّ الزيادة التي تلحق الهاء ليست من نفس الكلمة، كما ترى.
ويدلّ على ذلك أنّه قد جاء في الشعر نحو:
... له أرقان
فهذا يدلّ على أنّ حرف المدّ إنّما لحقه في الوصل للخفاء، كما لحقت الواو الهمزة في نحو: كندأو للخفاء
[الحجة للقراء السبعة: 1/203]
الذي في الهمزة. ومن ثمّ أبدل منها قوم الواو في الوقف في الرفع فقالوا: الكلو.
ويدلّ أيضا على أنّها على حرف واحد في الأصل أنّها نظيرة الياء للمتكلم والكاف للمخاطب، فكما أنّ كل واحد من ذلك على حرف مفرد فكذلك الهاء ينبغي أن تكون الاسم وحدها بغير ياء أو واو لاحقة له.
فإن قلت: فلم لا تستدلّ بلحاق الألف للمؤنث أن الواو أو الياء بحذاء الألف؟ قيل: تكون الألف لاحقة لتبيين من المذكّر، كما لحقت في أعطيتكاها لذلك، وكما أن السين في قول من قال: أكرمكس لذلك، فكما أنّ الكاف حرف مفرد وإنّما لحقه حرف المدّ وغيره للتبيين فكذلك يكون لحاق الألف الهاء للمؤنث، إلّا أنّ الهاء لزمها الألف في جميع اللغات- إلّا فيما لا اعتداد به- لخفائها وخفة الألف والتبيين للفصل.
فإن قلت: فما حكم الهاء أن تكون، أمتحركة أم ساكنة؟
فالقول: إنّها ينبغي أن تكون متحركة، على قياس الكاف والياء في لك ولي فاعلم، ويكون ما جاء في الشعر من نحو:
[الحجة للقراء السبعة: 1/204]
كأنّه صوت حاد
وما له من مجد تليد...
جاء على الأصل، وحذف حرف المدّ الزائد معه. والذين قالوا:
له أرقان
فهي لغة قوم فيما زعم أبو الحسن وغيره، شبّهوه بالألف في التثنية وبالياء في غلامي، فأسكنوه لذلك. وهو أيضا على قياس إسكانهم الميم من عليكم وعليهم بعد حذف الواو منه.
وممّا يقوّي أنّها متحركة في الأصل لحاق حرف اللين له في نحو ضربهو، ومرّ بهي، ولو كان ساكنا لم يوصل بذلك،
[الحجة للقراء السبعة: 1/205]
كما لم يوصل حرف الروي إذا كان ساكنا، ولكان إذا وصل بحرف لين وجب أن يكسر كما كسر:
فاغن وازددي.
وهذا مثل المدّ في نحو آمين ولزم في لغة الأكثر في الوصل لخفاء الهاء.
وقول الشاعر:
أجرّه الرّمح ولا تهاله
إن شئت جعلت الألف الردف فيه كالألف في: منتزاح.
وإن شئت قلت: ردّ الألف المنقلبة من العين وجعل حركة التقاء الساكنين بمنزلة الحركة اللازمة.
فأمّا حذفهم له في الوقف فليس بدليل قاطع على زيادة هذه الحروف، لأنّهم قد حذفوا في الوقف الواو في: ضربكم، وهذا لهم، والياء في عليهم، مع أنّها من نفس الكلمة، وليست
[الحجة للقراء السبعة: 1/206]
بزيادة بدلالة أن المؤنّث الذي بحذائه ليس النون الثانية فيه بزيادة ولكن إنّما حذفتا في الوقف، لأنّهما حرفا علّة قد حذفا في الوصل في: عليه ومنه ونحو ذلك.
والوقف موضع قد يحذف منه ما يثبت في الوصل، نحو: الكبير المتعال [الرعد/ 9] واللّيل إذا يسر [الفجر/ 3] فلمّا حذف فيه ما يثبت في الوصل وهو من أصل الكلمة وجب أن يلزم الحذف فيه ما قد استمرّ فيه الحذف في الوصل، لاختصاص الوقف بالتغيير، فجعل تغييره الحذف، كما ألزم الأكثر تاء التأنيث في النداء الحذف إذ كان موضعا قد يحذف فيه ما لا يتغيّر، نحو آخر، وحارث، ومالك، وعامر. فلمّا حذف فيه هذا الذي لا يتغيّر ألزم الحذف فيه ما يتغيّر وهو التاء في طلحة، وسلمة ونحو ذلك.
الحجّة لمن كسر الهاء من (فيه هدىً) ولم يلحقها الياء فيقول: فيهي هدى [البقرة/ 2].
أمّا كسر الهاء مع أنّ أصلها الضم فمن أجل الياء أو الكسرة اللّتين تقعان قبلها، والهاء تشبه الألف لموافقتها لها في المخرج من الحلق، ولما فيها من الخفاء، فكما نحوا بالألف نحو الياء بالإمالة من أجل الكسرة أو الياء كذلك كسروا الهاء للكسرة والياء، وذلك حسن ليتجانس الصوتان ويتشاكلا، ألا تراهم كيف اتفقوا في اصطبر وازدجر وازدان على الإبدال من تاء
[الحجة للقراء السبعة: 1/207]
الافتعال حرفا مجانسا لما قبله من الحروف في الإطباق والجهر، فبحسب اتفاقهم في هذا الموضع على ما ذكرت لك طلبا لتشاكل الحروف يحسن الكسر في الهاء في: (فيه هدى).
والهاء وإن كانت متحركة والألف ساكنة فقد رأيتهم أجروها متحركة مجرى الألف والياء والواو إذا كنّ سواكن في القوافي في نحو: خليلها، ومرامها. وقد تقدم ذكر كثير من ذلك في فاتحة الكتاب.
وأمّا ترك إتباع الهاء الياء في: (فيه هدى). وما أشبهه في الوصل فلكراهة اجتماع حروف فيه متقاربة، وقد كرهوا من اجتماع المتقاربة ما كرهوا من اجتماع الأمثال، ألا ترى أنّهم يدغمون المتقاربة كما يدغمون الأمثال فالقبيلان من الأمثال والمتقاربة إذا اجتمعت خفّفت تارة بالإدغام، وتارة بالقلب، وتارة بالحذف.
فما خفّف بالإدغام فنحو ردّ وودّ في وتد.
وما خفّف بالقلب فنحو: تقضيت وتقصيت [ونحو:
ظلت ومست] ونحو:
لا أملاه حتى يفارقا
[الحجة للقراء السبعة: 1/208]
ونحو: طست وستّ وما خفف بالحذف فنحو قوله: اسطاع، واستخذ فلان مالا- فيمن قدره استفعل من تخذت- واستحيت، وعل ماء بنو فلان، وتقيت تتقي، وما أشبه ذلك.
وجهة التشابه في هذه الحروف أن الهاء من الحلق، والألف منه أيضا، والياء قريبة من الألف وموافقة لها في اللين، فمن ثمّ أبدلت من الياء في هذي فقالوا: هذه، فلمّا اجتمعت هذه الحروف المتقاربة خففوا بالحذف كما خفّف غيرها فيما أريتك بالحذف.
وممّا يحسّن الحذف هاهنا- مع ما ذكرنا من اجتماع المتشابهة- أن الهاء حرف خفيّ، فإذا اكتنفها ساكنان من حروف اللين كان كأن الساكنين قد التقيا، لخفاء الهاء وأنّهم لم يعتدّوا بها للخفاء في مواضع، ألا ترى أنّ من قال: ردّ فأتبع الضمّة الضمّة إذا وصل الفعل بضمير المؤنّث قال: ردّها، فلم يتبع الضمّ الضمّ كما كان يتبع قبل، وجعله بمنزلة ردّا، فكما لم يعتدّ بها هاهنا وجعلت الدال في حكم الملازقة للألف كذلك إذا لم يعتدّ بها في نحو: فيهي، وعصاهو، وخذوهو، صار كأن الساكنين قد التقيا. ولهذا حذف حرف اللين بعد الهاء من حذف من العرب، وإن كان الساكن الذي قبلها ليس من حروف اللين نحو: منه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/209]
ويذهب سيبويه إلى أنّ الإتمام في نحو: منهو، أجود من الحذف، وأن الحذف إذا كان قبل الهاء حرف اللين أحسن.
ولمن لم يتبع الهاء الياء ولا الواو في نحو: منه وعنه- وهو قراءة نافع إلّا فيما روي عنه من قوله: وأشركهو في أمري [طه/ 32]- أن يحتجّ في حذف حرف اللين بعد الهاء، وإن لم يكن قبلها حرف اللين، بترك اعتدادهم بها في ردّها، وبقولهم: يريد أن تضربها فيقول: كما لم يعتدّوا بها في هذه المواضع كذلك لا أعتدّ بها في: منه، فإذا أتبعت الهاء حرف اللين في: منه، فكأني قد جمعت بين ساكنين، لأنّ الهاء غير معتدّ بها عندهم حيث أريتك.
ومثل الهاء، في أنّه لمّا كان حرفا خفيا لم يعتدّوا به حاجزا، النون وذلك في قولهم: هو ابن عمي دنيا وفي قنية لمّا كانت النون خفيّة صارت الواو كأنّها وليت الكسرة فقلبتها، كما قلبتها في غازية ومحنية، ولو كان مكان النون حرف غيره لم يكن فيما بعده القلب، نحو: جرو وعدوه، فهذا مثل الهاء في أنّه للخفاء لم يعتدّ به حاجزا، كما لم يعتدّ بالهاء.
[الحجة للقراء السبعة: 1/210]
الحجة لابن كثير في اتباعه هذه الهاء في الوصل الواو أو الياء وتسويته بين حروف اللين وبين غيرها من الحروف إذا وقعت قبل الهاء
من حجّته أن الهاء وإن كانت خفيّة فليس يخرجها ذلك من أن تكون كغيرها من حروف المعجم التي لا خفاء فيها- نحو الراء والضاد- وأنّ الهاء والنون عند الجميع في وزن الشعر بمنزلة الراء والضاد- وإن كان في الراء تكرير وفي الضاد استطالة- وإذا كان كذلك كان حجزها بين الساكنين كحجز غيرها من الحروف التي لا خفاء فيها.
وأمّا اجتماع الحروف المتشابهة فلم يكرهها في هذا الموضع، كما لم يكره اجتماعها في غيره، ألا ترى أن كثيرا قد قالوا: استطاع. فأتمّوا ولم يحذفوا منه شيئا، وفي التنزيل:
من استطاع إليه سبيلًا [آل عمران/ 97]، وقالوا جميعا:
استدار واستثار فلم يحذفوا، وقالوا: سدس وعتد وعتدان، ووطد يطد. والهاء وإن كانت جرت متحرّكة في القوافي مجرى غيرها ساكنا في نحو: خليلها، فقد جرت في القوافي أيضا مجرى غيرها من الحروف متحرّكة وساكنة. فالمتحركة نحو قوله:
............... ...... سود قوادمها صهب خوافيها
[الحجة للقراء السبعة: 1/211]
فهي حرف الرويّ، كالكاف في: جواريكا.
والساكنة نحو قوله:
وبكّي النساء على حمزة
................. .... وتقول سعدى وا رزيّتيه
فهي هاهنا كالياء والواو والألف.
وأما الإدغام في (فيه هدى) فلم يذكره أبو بكر أحمد بن موسى عن أحد منهم في هذا الموضع من كتابه فنقول فيه. وما ذكره محمد بن السريّ في رواية من روى عن أبي عمرو وغيره أنّه كان يشمّ ويدغم- من أنّ ذلك محال لا يمكن- فإنّ الإشمام لا يمتنع مع الإدغام، وذلك أنّ الإشمام عند النحويين ليس بصوت فيفصل بين المدغم والمدغم فيه، وإنّما هو تهيئة العضو لإخراج الصوت الذي هو الضم ليدلّ عليه، وليس بخارج إلى اللفظ، كما أن تبقية الإطباق مع الإدغام كما ذكرنا
[الحجة للقراء السبعة: 1/212]
في الضمّ، وإذا كان كذلك لم يمتنع مع الإدغام كما لم يمتنع تبقية الإطباق معه، ألا ترى أنّه لا يمتنع أن يدغم ويهيّئ العضو لإخراج الضمة إلى اللفظ فلا يخرجها كما لم يمتنع ذلك في الوقف إذا قلت: هذا معن وعلى هذا قرءوا: ما لك لا تأمنّا [يوسف/ 11] فأشمّوا النون المدغمة، لأنّها كانت مرفوعة ليدلّوا بالإشمام على الرّفعة التي كانت في الحرف، كما دلّوا بإبقاء الإطباق على أنّ الحرف المدغم كان مطبقا. ولو كان مكان الإشمام روم الحركة لامتنع الرّوم مع الإدغام، لأنّه صوت يحجز، ألا ترى أنّهم يزعمون أنّه يفصل بروم الحركة بين خطاب المذكر والمؤنث، نحو: ضربتك وضربتك فهذا لا يمكن الإدغام معه، لأنّ هذا الصوت يفصل وإن كان مخفى غير مشبع، كما تفصل الحركة المشبعة الممطّطة.
ولعلّ أبا بكر ظنّ أنّ القرّاء ليس يعنون بالإشمام ما يعني به النحويون في أنّه تهيئة العضو للصوت وهمّ به، وليس بخروج إلى اللفظ. والذي أحسب أنّه من أجله ظنّ ذلك حكايته عن أبي حاتم أنّه أراد أبو عمرو ونافع الإخفاء، فلذلك أشمّا الضمّ والكسر، والإشمام إنّما يكون عند النحويين في الضمّ، فأمّا الكسر فلا إشمام فيه. وذلك أنّ الإشمام إنّما هو
[الحجة للقراء السبعة: 1/213]
تحريك الشفتين يراه البصير دون الأعمى، فيستدلّ بذلك على إرادة الفاعل لذلك الضمّ، وليس هذا في الكسر، لأنّه لا فائدة فيه لبصير ولا لأعمى من حيث لا يظهر للرائي، فلمّا رأى أبا حاتم حكى ذلك في الجرّ كما حكاه في الضمّ، قدّر أنّهم يعنون به الحركة دون ما يعني به النحويّون ممّا ذكرنا). [الحجة للقراء السبعة: 1/214]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : (بسم الله الرّحمن الرّحيم {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين}
قرأ ابن كثير فيهي وعليهي بإشباع الهاء يصلها بياء وحجته أن أصلها فيهو وعليهو ثمّ قلبوا الواو ياء للياء الّتي قبلها وكسروا الهاء فصارت فيهي وعليهي وقرأ ايضا فقلنا اضربوهو ومنهو بإشباع الهاء يصلها بواو على أصلها
قرأ الباقون فيه وعليه من غير إشباع وحجتهم أن الكسرة تنوب عن الياء وتدل عليها وكذلك الضمة قال أهل البصرة إنّما حذفت الياء لسكونها وسكون الياء الّتي قبل الهاء لأن الهاء ليست بحاجز حصين فكأن السّاكن قبلها ملاق للساكن الّذي بعدها فتحذف الياء ألا ترى أنّها إذا تحرّك ما قبلها لم تحذف منها الياء نحو أمه وصاحبته لأن ما قبلها متحرك فليس يجتمع ساكنان
قرأ أبو عمرو فيه هدى وقيل لهم بالإدغام وقرأ الباقون بالإظهار
[حجة القراءات: 83]
وحجّة أبي عمرو أن إظهار الكلمتين كإعادة الحديث مرّتين فأسكن الحرف الأول وأدغمه في الثّاني ليعمل اللّسان مرّة واحدة وشبه الخليل ذلك بالمقيد إذا رفع رجله في موضع ثمّ أعادها إليه ثانية قال والّذي أوجب الإدغام هو أنه يثقل على اللّسان رفعه من مكان وإعادته في ذلك المكان أو فيما يقرب منها وشبه غيره بإعادة الحديث مرّتين
وأما من أظهر فإنّه أتى بالكلام على أصله وأدّى لكل حرف حقه من إعرابه لتكثر حسناته إذ كان له بكل حرف عشر حسنات). [حجة القراءات: 84]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (1- {لَا رَيْبَ فِيهِ} [آية/ 2].
قرأ ابن كثير (فيهي هدى) بياءٍ بعد الهاء، وكذلك في كل هاء كناية، قبلها ياء ساكنة، نحو: عليهي وأنسانيهي، فإذا كان قبلها ساكنٌ غير الياء وصلها بواو نحو: آتيناهو ومنهو.
وقد روي عن نافع أيضًا (واشركهو).
لقد تقدم أن أصل هذه الهاء أن تكون على الضم، وكسرتها إنما تكون لياءٍ أو كسرة تقعان قبلها، وتوصل هذه الهاء بوابو زائدة تقوى بها؛ لأنها حرفٌ خفي، فيخرج بها عن الخفاء إلى البيان، فيُزاد في المذكر واو، وفي المؤنث
[الموضح: 237]
ألفٌ، ليستوي المذكر والمؤنث في باب الزيادة مع حصول الفرق بينهما.
والهاء وحدها هي الاسم، كما أن كل واحدٍ من ضميري المتكلم والمخاطر نحو: غلامي وغلامك على حرفٍ واحدٍ.
ولما وقع قبل هذه الهاء ياءٌ كُسِرَت الهاء لأجلها، فانقلب الواو التي بعدها ياء فقيل: فيهي وعليهي، واعتد بالهاء حاجزًا بين الساكنين وإن كانت خفية؛ لأنها كغيرها من الحروف.
وأما قراءته لما كان نحو: منهو بالواو فإنها على ما قدمناه من أن الضمة والواو أصل في الهاء، وإنما كسرت هناك للياء أو الكسرة قبلها، وليس هاهنا واحدٌ منهما فجاء على الأصل.
وأما الباقون فإنهم يحرّكون هذه الحروف كلها بكسرة مختلسة من غير ياءٍ إلا –ص- عن عاصم في قوله تعالى: (وَمَا أَنْسَانِيهُ} و{عَاهَدَ عَلَيْهُ} بضمتين مختلستين، وفي الفرقان (فيهي مهانا) بياءٍ كقراءة ابن كثير.
وإنما اختلس هؤلاء الكسرة من غير بلوغ ياءٍ؛ لأنهم كرهوا اجتماع حروف متقاربة؛ ولأن الهاء خفية، فإذا اكتنفها ساكنان من حروف اللين فكأن الساكنين قد التقيا لخفاء الهاء، إذ كانت الهاء غير معتدٍّ بحجزها بين الساكنين لخفائها، ولهذه العلة حذفوا الياء والواو بعد الهاء وإن كان الساكن
[الموضح: 238]
الذي قبلها ليس من حروف اللين كمنه وعنه كراهة ما يقرب من الجمع بين الساكنين.
وأما رواية –ص- عن عاصم {أنسانيه} و{عَاهَدَ عَلَيْهُ} بالضمة، فإنها على الأصل، وأما روايته أيضًا (فِيهِي مُهَانًا) فعلى قلب الواو ياءً لأجل الياء التي قبل الهاء كما قدمنا ذكره، وفي مثل ذلك اتباع الأثرِ مع الأخذ باللغتين). [الموضح: 239]
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (2- وقوله تعالى: {الذين يؤمنون بالغيب}.
قرأ أبو عمرو إذا حدر القراءة أو قرأ في الصلاة {يؤمنون} بترك الهمز تخفيفًا؛ إذا كانت الهمزة تخرج في أقصى الحلق وفي إخراجها كلفة، وأكثر العرب يلينها، ومنهم من يحذفها جملة، فإذا حقق القراءة همز، وإنما يفعل ذلك بالهمزات الساكنات، وغذا كان سكون الهمزة علامة للهمز نحو قوله تعالى {أو ننسأها} {وإن تبد لكم تسؤكم} لم يدع الهمزة، وكذلك إذا كن في الحرف لغتان نحو: {موصدة} لأن لا يخرج من لغة إلى لغة، وكذلك إذا كان ترك الهمز أثقل من الهمز لم يدع الهمزة نحو قوله: {وتؤوي إليك من تشاء} وكن حمزة لا يهمز إذا وقف، ويهمز إذا أدرج ولا يبالي إذا كانت الهمزة ساكنة أو متحركة نحو قوله تعالى: {لن يجدوا من دونه موئلا} يقف {مولا}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/56]
{وأصحب المشئمة} يقف {المشمة}، وإنما يفعل ذلك اتباعًا للمصحف: لأن {المشئمة} كتب في المصحف بغير ألف {وموئلا} بغير ياء، والدليل على ذلك أنه يقف منهن جرًا بغير واوٍ. ويقف {هزوا} و{وكفوا} بواو؛ لأنها كذلك كتبت في المصحف.
وروى ورش عن نافع بترك الهمزة الساكنات والمتحركات وحجته في ذلك: أن الهمزة المتحركة أثقل من الهمزة الساكنة، وكان يقرأ: {ويوخركم إلى أجل} {ويودهي إليك} وكان ينقل حركات الهمزات إلى الساكن قبلها وكان يقرأ {قد أفلح} يريد: {قد أفلح}، وكذلك: {فلن يقبل من أحدهم مل الأرض} أنشدني ابن عرفة شاهدًا لورش:
تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت = به زينب في نسوة عطرات
ولما رأت ركب النميري أعرضت = وكن من أن يلقينه حذرات
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/57]
أراد: «من أن» بنقل فتحة الهمزة إلى النون.
وقرأ الباقون: {يؤمنون}، و{يؤتون} {ويؤثرون} {ويؤخركم} و{يألتكم} {والكأس} {والبأس}. كل ذلك مهموز على الأصل.
واختلف عن أبي عمرو في الأسماء المهموزة، فروى بعضهم عنه بترك الهمز وهو اختيار ابن مجاهد. وروى عنه آخرون بالهمز.
فإن سأل سائل: لم همز أبو عمرو «الكأس» «والبأس» ولم يهمز {يؤمنون} {ويؤتون}؟
فالجواب في ذلك أن الفعل ثقيل والهمزة ثقيلة، والاسم خفيف فحذفوا في الموضع الذي استثقلوه وأثبتوا في الموضع الذي استخفوه). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/58]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الهمز من قوله تعالى: الّذين يؤمنون بالغيب [البقرة/ 3].
فكان ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي يهمزون (يؤمنون) وما أشبه ذلك؛ مثل: (يأكلون) و (يأمرون) و (يؤتون). ساكنة الهمزة كانت أو متحركة، مثل (يؤخّره) و (يؤدّه). إلا أنّ حمزة كان يستحب ترك الهمز في كل القرآن إذا أراد أن يقف، والباقون يقفون بالهمز.
وروى ورش عن نافع ترك الهمز الساكن في مثل:
(يؤمنون) وما أشبهه وكذلك المتحرك مثل يؤدّه [آل عمران/ 75] ويؤخّركم [نوح/ 4] ولا يؤاخذكم [البقرة/ 225] وما كان مثله.
وأمّا أبو عمرو فكان إذا أدرج القراءة أو قرأ في الصلاة لم يهمز كلّ همزة ساكنة مثل: (يؤمنون) و (يؤمن) و (يأخذون) وما أشبه ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/214]
وقال أبو شعيب السوسي عن اليزيدي عن أبي عمرو:
إنّه كان إذا قرأ في الصلاة لم يهمز كل همزة ساكنة إلّا أنه كان يهمز حروفا من السواكن بأعيانها، أذكرها إذا مررت بها، إن شاء الله.
فإذا كان سكون الهمزة علامة للجزم لم يترك همزها، مثل: ننسأها [البقرة/ 106] وتسؤكم [المائدة/ 101] وهيئ لنا [الكهف/ 10] ويهيئ لكم [الكهف/ 16] واقرأ كتابك [الإسراء/ 14] ومن يشأ يجعله [الأنعام/ 39] وأنبئهم [البقرة/ 33] وما أشبه ذلك.
وروى الشمونيّ محمد بن حبيب عن الأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنّه لم يكن يهمز الهمزة الساكنة، مثل (يؤمنون) وما أشبهه.
أخبرنا أحمد بن موسى قال: حدثنا محمد بن عيسى بن
[الحجة للقراء السبعة: 1/215]
حيّان المقرئ قال: حدثنا أبو هشام قال: سمعت أبا يوسف الأعشى يقرأ على أبي بكر فهمز (يؤمنون).
قال ابن مجاهد: وحدثني محمد بن عيسى بن حيّان المقرئ قال: حدثنا أبو هشام عن سليم عن حمزة أنّه كان إذا قرأ في الصلاة لم يكن يهمز.
أخبرنا أحمد بن موسى قال: حدّثنا جعفر بن محمد الفريابيّ قال: حدّثنا منجاب بن الحارث قال: حدثنا شريك بن عبد الله قال: كان عاصم صاحب همز ومدّ وقراءة شديدة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/216]
قال أبو زيد: الأمون: الناقة القويّة الظهيرة. والأمانة:
خلاف الخيانة، والأمن خلاف الخوف. قال أحمد بن يحيى: أمن فهو أمين، فهذا بمنزلة ظرف فهو ظريف. وقالوا: أمنته فهو أمين، فهذا فعيل بمعنى مفعول، فتقول من هذا: امرأة أمين، ومن الأول: أمينة مثل ظريفة، وقال الشاعر:
وكنت أمينه لو لم تخنه... ولكن لا أمانة لليماني
فهذا كأنّه المأمون، أي: أمنك فخنت. وقول حسان:
وأمين حدثته سرّ نفسي... فوعاه حفظ الأمين الأمينا
قال بعضهم: كأنّه قال: حفظ المؤتمن المؤتمن: وقالوا أمّان في معنى الأمين، قال الأعشى:
ولقد شهدت التاجر ال... أمّان مورودا شرابه
فأمين وأمّان ككريم وكرّام ومثله حسّان وحسّانة ورجل قرّاء.. وأنشد غيره:
وعنس أمون قد تعلّلت جهدها... على صفة أو لم يصف لي واصف
[الحجة للقراء السبعة: 1/217]
فأمون يمكن أن يكون من الذي هو خلاف الخوف، كأنّه يؤمن عثارها في سيرها، أو يؤمن كلالها وونيّها فيه. ويكون أمون في معنى مأمون، أي غير مخوف، كقولهم: طريق ركوب، أي يركب، وحلوب وقتوب أي: تحلب وتركب وتقتب.
ويكون أمون مثل أمين: لأنّك قد تقول: خانت في سيرها: إذا قصّرت عمّا أراد منها راكبها في المسير.
وقال- جل من قائل-: لا تخونوا اللّه والرّسول وتخونوا أماناتكم [الأنفال/ 27]، فيجوز أن يكون لا تخونوا ذوي أماناتكم وهو أشبه بما قبله، وذوو الأمانة نحو المودع والمعير والموكّل والشريك ومن يدك في ماله يد أمانة لا يد ضمان.
ومن هذا الباب الكافر الموادع، قال تعالى: وإمّا تخافنّ من قومٍ خيانةً فانبذ إليهم على سواءٍ [الأنفال/ 58].
ويجوز أن تكون الأمانات لا يراد معها حذف المضاف، لأنّ خنت من باب أعطيت يتعدّى إلى مفعولين، ويجوز أن يقتصر على أحدهما. فإذا قدّرت حذف المضاف كان بمنزلة أعطيت زيدا، وإذا لم تقدّره كان بمنزلة أعطيت درهما. وعلى هذا قول كثير:
فأخلفن ميعادي وخنّ أمانتي... وليس لمن خان الأمانة دين
[الحجة للقراء السبعة: 1/218]
ويدلّك على تعدّي خنت إلى مفعولين قول أوس:
خانتك ميّة ما علمت كما... خان الإخاء خليله لبد
وأنشد أبو زيد:
فقال مجيبا والّذي حجّ حاتم... أخونك عهدا إنني غير خوّان
والعهد كأنّه الأمانة، فأخونك عهدا كقولك: أخونك أمانة. وقال أبو ذؤيب:
فسوف تقول إن هي لم تجدني... أخان العهد أم أثم الحليف
ومما يدلّك على تقارب الكلمتين استعمالهم إياهما في القسم، نحو: عهد الله وأمانة الله. وتقول: أمنت الرجل: إذا لم تخفه، آمنه قال: هل آمنكم عليه إلّا كما أمنتكم
على أخيه من قبل [يوسف/ 64]. وأمنته وائتمنته إذا لم تخش خيانته. قال- عز وجل -: فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته [البقرة/ 283]. فهذا كقوله تعالى: إنّ اللّه يأمركم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها [النساء/ 58].
قال أبو عبيدة: وقالوا في مصدره: الأمن والأمنة
[الحجة للقراء السبعة: 1/219]
والأمان. وفي التنزيل: إذ يغشّيكم النّعاس أمنةً منه [الأنفال/ 11]. وقال أيضا: أمنةً نعاساً [آل عمران/ 154].
وقولهم: آمن زيد يحتمل غير وجه: يجوز أن يكون أمنته فآمن، فجاء المطاوع على أفعل، كقولك: كببته فأكبّ، وفي التنزيل: فكبّت وجوههم في النّار [النمل/ 90]، وفيه: أفمن يمشي مكبًّا على وجهه [الملك/ 22].
وقال:
كما أكبّ على ساعديه النّمر
ومما يدلّك على ذلك تعدّيه بالحرف.
وقال أبو عثمان: أجفل الغيم إذا انقلع، وجفلته الريح، ولا يقال: أجفلته. ويجوز في آمن أن يكون المعنى: صار ذا أمن، مثل: أجرب وأقطف وأعاه، أي: صار ذا عاهة في ماله، فكذلك آمن صار ذا أمن في ماله ونفسه بإظهار الشهادتين، كقولهم: أسلم، أي صار ذا سلم بذلك، وخرج عن أن يكون حربا مستحل المال والنفس. فهذا كأنّه الأصل في اللغة ثم صار المؤمن والمسلم من أسماء المدح في الشرع. وسوّت الشريعة بين التسمية بالمؤمن والمسلم لقوله: فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيتٍ من المسلمين
[الحجة للقراء السبعة: 1/220]
[الذاريات/ 35، 36].
وقال أبو زيد: قالوا: ما آمنت أن أجد صحابة إيمانا، أي: ما وثقت أن أجد صحابة، والإيمان: الثقة.
وقال أبو الصقر: ما آمنت أن أجد صحابة إيمانا، معناه: ما كدت أجد صحابة.
وقال أبو الحسن في قوله تعالى: يؤمن باللّه ويؤمن للمؤمنين [التوبة/ 61]، أي: يصدّقهم، كما تقول: أما تؤمن لي بأن أقول كذا وكذا، أي أما تصدقني؟.
وقال أحمد بن يحيى: قالوا: رجل أمنة: إذا كان يثق بكل ما سمعه.
قال أبو علي: فثقته بما يسمعه إنّما هو لأمنه الكذب في المستمع، وإذا أمن كذبه فقد صدّقه. فيجوز في آمن أن يكون مما حكيناه عن أبي زيد وغيره من معنى الثقة والتصديق.
فأما قولهم: رجل أمنة، فوصف بالمصدر. وحكي رجل أمنة. فهذا: وصف مثل هزأة ونكحة. وقال: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك [النساء/ 162]، فهذا من أجل قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/221]
من الّذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم [المائدة/ 41]. فأمّا قوله: قالت الأعراب آمنّا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم [الحجرات/ 14]، فنفى عنهم الإيمان، وأثبت لهم الإسلام، فلأنّ الإيمان على التصديق والثقة. وكأنّ المعنى: أنّهم، وإن صاروا ذوي سلم وخرجوا من أن يكونوا حربا بإظهار الشهادتين، فإنّهم لم يصدّقوا ولم يثقوا بما دخلوا فيه، فلم يطابق اعتقاداتهم ما أظهروه من الشهادتين، ولم يوافقه.
فهذا في المعنى مثل قوله: من الّذين قالوا آمنّا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم [المائدة/ 41]. وإيمان المنافقين من هذا الضرب لإظهارهم بألسنتهم ما أمنوا به على دمائهم وأموالهم، والباطن منهم خلاف الظاهر. ولذلك قرأ من قرأ اتّخذوا أيمانهم جنّةً [المنافقون/ 2]، فهؤلاء وإن كانوا قد أظهروا الإسلام، وجرت عليهم أحكامه، فليسوا مسلمين مخلصين، ولا واثقين بما دخلوا فيه، كمن وصف في قوله: الّذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر اللّه ألا بذكر اللّه تطمئنّ القلوب [الرعد/ 28].
فأمّا جمع من جمع بين هذه الآية وبين الأخرى وهي قوله: إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم [الأنفال/ 2] وقوله: إنّهما متدافعتان- لأنّ الوجل خلاف
[الحجة للقراء السبعة: 1/222]
الطمأنينة- فجهل وذهاب عمّا عليه الآيتان وما أريد بهما، وذلك أنّ الاطمئنان إنّما يكون عن ثلج القلب وشرح الصدر بمعرفة التوحيد والعلم به وما يتبع ذلك من الدرجة الرفيعة والثواب الجزيل. والوجل إنّما يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى وما يستحق به الوعيد فتوجل القلوب لذلك. فكلّ واحد من الحالين غير صاحبتها، فليس هنا إذا تضادّ ولا تدافع.
وهذان المعنيان المفترقان في هاتين الآيتين قد اجتمعا في آية واحدة، وهي قوله: تقشعرّ منه جلود الّذين يخشون ربّهم ثمّ تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر اللّه ذلك هدى اللّه يهدي به من يشاء [الزمر/ 23]، لأنّ هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا به، فانتفى عنهم الشكّ، والارتياب الذي يعرض لمن كان خلافهم ممن أظهر الإسلام تعوّذا، فحصل له حكمه دون العلم الموجب لثلج الصدر وانتفاء الريب والشكّ.
وقال: الّذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين [الزخرف/ 69] كأنّه: صدّقوا ووثقوا، ثم قال: وكانوا مسلمين؛ لأنّ بعض من يعلم صدق ما أتى به النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يدخلوا في دينه وسلمه: كاليهود الذين علموا صدقه وجحدوه، وكفروا بما أتى به، قال: فلمّا جاءهم ما عرفوا كفروا به [البقرة/ 89] وقال: إنّ الّذين يكتمون ما أنزلنا من البيّنات والهدى [البقرة/ 159]
[الحجة للقراء السبعة: 1/223]
فهؤلاء وإن كانوا قد علموا واستيقنوا فقد دخلوا في جملة من ذمّ بقوله: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوًّا [النمل/ 14]. وقال: يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّةً [البقرة/ 208] وقال: يمنّون عليك أن أسلموا قل لا تمنّوا عليّ إسلامكم بل اللّه يمنّ عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [الحجرات/ 17]. فهذا يدلّ على أنّ الإيمان من الأمن، أي هداكم لما تحرزون به أنفسكم وأموالكم في العاجلة، ولا تخسرون معه أنفسكم وأهليكم في الآجلة.
ويجوز أن يكون هداكم للصدق وإن كان قد قال: إن كنتم صادقين ألا ترى أنّه ليس كل من هدي إلى الصدق يصدّق كالمعاند الجاحد لما عرف؟.
وقال بعض المتأوّلين في قوله في صفة التابوت: إنّ في ذلك لآيةً لكم إن كنتم مؤمنين [البقرة/ 248] معنى مؤمنين: مصدّقين لي، وذلك أنّه لا يخلو من أن يراد به: أهل الإيمان بالله، أو يراد به: إن كنتم مصدقين لي. فلا يجوز الأول لكفرهم بالله في تكذيبهم نبيهم لقوله: أنّى يكون له الملك علينا [البقرة/ 247]، فأنكروا أن يملّكوا من ملّكه نبيّهم قال: فإذا لم يجز هذا الوجه ثبت الوجه الآخر الذي هو التصديق به.
وأمّا قوله: وما يؤمن أكثرهم باللّه إلّا وهم مشركون
[الحجة للقراء السبعة: 1/224]
[يوسف:/ 106] فليس المؤمن هنا المطابق معتقده ما يظهره باللسان، ولكن المعنى: أن أكثرهم مع إظهارهم الإيمان بألسنتهم مشركون. وقد يطلق على المظهر ذلك بلسانه اسم مؤمن، ولا يجوز أن يراد بذلك المدح، ولكن الاسم الجاري على الفعل. وعلى هذا قوله: فإن علمتموهنّ مؤمناتٍ فلا ترجعوهنّ إلى الكفّار [الممتحنة/ 10] ألا ترى أن هذا على ما يظهرنه بألسنتهن من الشهادتين.
ومثل قوله: وما يؤمن أكثرهم باللّه إلّا وهم مشركون قوله: يعرفون نعمت اللّه ثمّ ينكرونها [النحل/ 83] ومثله: الّذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلمٍ [الأنعام/ 82] في قول من ذهب إلى أنّ الشرك الظلم، واحتجّ بقوله: إنّ الشّرك لظلمٌ عظيمٌ [لقمان/ 13]. والمعنى فيهما: أنّهم إذا سئلوا: من خلقهم، قالوا: الله. ثم يجعلون له شريكا. وقال السدّيّ في قوله: ولكن لعنهم اللّه بكفرهم فلا يؤمنون إلّا قليلًا [النساء/ 46]: القليل قولهم: الله ربنا، والجنة حقّ، والنار حقّ. فهذا قليل من إيمانهم، والقليل ليس بشيء.
فهذا مثل ما تقدّم من أنّه عبارة عن الفعل وليس بمدح كقوله: وبشّر المؤمنين بأنّ لهم من اللّه فضلًا كبيراً [الأحزاب/ 47]، فقليلا على قول السّدّيّ وصف مصدر محذوف تقديره: فلا يؤمنون إلّا إيمانا قليلا. وهذا أوجه من أن
[الحجة للقراء السبعة: 1/225]
يحمل القليل على أنّهم ناس، لأن (قليلا) مفرد، وفي التنزيل:
إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون [الشعراء/ 54] إلّا أنّه قد جاء فعيل مفردا يراد به الكثرة كفعول، نحو قوله: وحسن أولئك رفيقاً [النساء/ 69] وقال: ولا يسئل حميمٌ حميماً يبصّرونهم [المعارج/ 10] فدلّ عود الذكر مجموعا إلى القبيلين على أنّه أريد بهما الكثرة، وقال رؤبة:
دعها فما النحويّ من صديقها
فإن جعلت القليل ناسا، وجب ألا يكونوا دخلوا في اللعن، فيكون: إلّا قليلا، استثناء من قوله: لعنهم اللّه...
إلّا قليلًا [النساء/ 46].
ويجوز أن يكون الاستثناء من قوله: فلا يؤمنون، ويكون قوله: لعنهم اللّه واقعا على الكفار منهم دون المستثنين.
وما قاله السدّي هو القول: لأنّه قد قال: فقليلًا ما يؤمنون، وما زائدة، فالمعنى: يؤمنون قليلا، أي إيمانا قليلا.
وأمّا قوله: وما أنت بمؤمنٍ لنا ولو كنّا صادقين [يوسف/ 17] فليس المعنى على: ما أنت بمصدّق لنا ولو كنا
[الحجة للقراء السبعة: 1/226]
صادقين عندك، لأنّ الأنبياء لا تكذّب الصادقين، ولكن المعنى: ما أنت واثقا، ولا غير خائف الكذب في قولنا، ولو كنّا على الحقيقة صادقين عندك لما خلونا من ظنّة منك وتهمة لك أنّا قد كذبناك، لفرط محبّتك ليوسف وإشفاقك عليه. وهذا المعنى متعالم في استعمال الناس. فمؤمن هنا من آمن، أي صار ذا أمن أو صار ذا ثقة، فنفى ذلك، أي: لا تثق بأن الأمر كما تخبر ولا تسكن نفسك إليه.
وأمّا قوله: فلا يؤمنوا حتّى يروا العذاب الأليم [يونس/ 88] فإنّ قوله: لا يؤمنوا في موضع نصب بالعطف على قوله: ليضلوا عن سبيلك فلا يؤمنوا. ولم يعطوا الأموال ليضلوا ويكفروا ولكن لمّا اختاروا ذلك فصار إليه عاقبة أمرهم كان بمنزلة قوله تعالى: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًّا وحزناً [القصص/ 8]، لمّا أدى التقاطهم
إيّاه إلى ذلك، وإن كان الالتقاط لغيره.
وأمّا قوله: ها أنتم أولاء تحبّونهم ولا يحبّونكم وتؤمنون بالكتاب كلّه [آل عمران/ 119]، ففي قوله: تؤمنون بالكتاب كلّه إنباء عن كون المؤمنين على خلاف صفة من ذكر في
[الحجة للقراء السبعة: 1/227]
قوله: ويقولون نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ [النساء/ 150]، وفي قوله: الّذين جعلوا القرآن عضين [الحجر/ 91].
وأمّا قولنا في وصف القديم سبحانه: «المؤمن المهيمن» فإنّه يحتمل تأويلين:
أحدهما: أن يكون من «أمن» المتعدي إلى مفعول، فنقل بالهمزة فتعدى إلى مفعولين، فصار من «أمن» زيد العذاب وآمنته العذاب، فمعناه المؤمن عذابه من لا يستحقه. وفي هذه الصفة وصف القديم سبحانه بالعدل كما قال: قائماً بالقسط [آل عمران/ 18].
والآخر: أن يكون معناه المصدق، أي المصدق الموحدين له على توحيدهم إياه، يدل على ذلك قوله:
شهد اللّه أنّه لا إله إلّا هو [آل عمران/ 18]. ألا ترى أنّ الشاهد مصدق لما يشهد به، كما أنّه مصدق من يشهد له، فإذا شهد سبحانه بالتوحيد فقد صدّق الموحدين.
فأمّا قوله «المهيمن» فقال أبو الحسن في قوله: ومهيمناً عليه [المائدة/ 48] إنّه الشاهد، وقد روي في التفسير أنه الأمين.
[الحجة للقراء السبعة: 1/228]
حدثنا أحمد بن محمد البصري قال: حدثنا المؤمل قال: حدثنا إسماعيل عن أبي رجاء قال سألت الحسن عن: مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه [المائدة/ 48] قال: مصدقا بهذه الكتب وأمينا عليها.
والمعنيان متقاربان، ألا ترى أن الشاهد أمين فيما يشهد به؟ فهذا التأويل موافق لما جاء في التفسير من أنّه الأمين.
وإن جعلت الشاهد خلاف الغيبة كان بمنزلة قوله: لا يخفى على اللّه منهم شيءٌ [غافر/ 16]، ولا يعزب عنه مثقال ذرّةٍ في السّماوات [سبأ/ 3]،
[الحجة للقراء السبعة: 1/229]
وقال: وكنّا لحكمهم شاهدين [الأنبياء/ 78].
وقالوا: إنه مفيعل من الأمان، مثل مبيطر، وأبدلت من الفاء التي هي همزة الهاء كما أبدلت منها في غير هذا الموضع. وروى اليزيدي أبو عبد الله عن أبي عبيدة قال: لا يوجد مثل هذا البناء إلا أربعة أشياء: مبيطر ومصيطر ومبيقر ومهيمن.
قال أبو علي: وليست الياء للتصغير، إنما هي التي لحقت فعل وألحقته بالأربعة، نحو دحرج وإن كان اللفظ قد وافق اللفظ.
وأما قولهم: الأمان فإنّه، وإن كان اسم حدث، وكان بزنة الجمال والذّهاب والتّمام، فقد صار كأنّه لكثرته في الاستعمال خارجا عن أحكام المصادر. ألا ترى أن قولهم: أعطيته أمانا، ولك الأمان صار بمنزلة الكف والمتاركة، فكأنّه لما خرج بذلك عن بابه صار بمنزلة قولهم: لله درّك. الذي زعم أنّه بمنزلة قولهم: لله بلادك. فلذلك لا تكاد تجده معملا إعمال المصادر.
قال بعض المتأولين في قوله: الّذين يؤمنون بالغيب [البقرة/ 3]، أي: يؤمنون إذا غابوا عنكم، ولم يكونوا
[الحجة للقراء السبعة: 1/230]
كالمنافقين الذين يقولون: إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن [البقرة/ 14]. ويقوي ما ذهب إليه هذا المتأول قوله: الّذين يخشون ربّهم بالغيب [الأنبياء/ 49] وقوله: وخشي الرّحمن بالغيب [يس/ 11] وقال الهذلي:
أخالد ما راعيت من ذي قرابة... فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي
فالجار والمجرور في موضع حال، أي تحفظني غائبا، ويخشون ربّهم غائبين عن مرآة الناس لا يريدون بإيمانهم تصنعا لأحد، ولا تقربا إليه رجاء المنالة، ولكن يخلصون إيمانهم لله تعالى.
ويجوز فيها وجه آخر، وهو أن هذه الآية كأنّها إجمال ما فصل في قوله: والمؤمنون كلٌّ آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله [البقرة/ 280] والموصوفون فيها خلاف من وصف في قوله:
ومن يكفر باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضلّ ضلالًا بعيداً [النساء/ 136]، فكفرهم بالملائكة ادعاؤهم إياهم بنات، كما وبّخوا في قوله: أم اتّخذ ممّا يخلق بناتٍ [الزخرف/ 16] وقوله: وجعلوا الملائكة الّذين هم عباد الرّحمن إناثاً [الزخرف/ 19] وكفرهم بالكتب إنكارهم
[الحجة للقراء السبعة: 1/231]
لها في قوله: وما قدروا اللّه حقّ قدره إذ قالوا ما أنزل اللّه على بشرٍ من شيءٍ [الأنعام/ 91] وكفرهم بإرسال الرسل [إنكارهم] إرسالهم بنحو قوله: ولئن أطعتم بشراً مثلكم [المؤمنون/ 34] وقوله: أهذا الّذي بعث اللّه رسولًا [الفرقان/ 41]، وكفرهم بالآخرة قولهم: لا تأتينا السّاعة قل بلى وربّي [سبأ/ 3]. فكل هذه الأمور غيب قد أنكروه ودفعوه فلم يؤمنوا به ولم يستدلوا على صحته، فقال تعالى: الّذين يؤمنون بالغيب [البقرة/ 4] أي بهذه الأشياء التي كفر بها هؤلاء الذين ذكر كفرهم بها عنهم وخصهم بالإيقان بالآخرة في قوله: وبالآخرة هم يوقنون [البقرة/ 4] وإن كان الإيمان بالغيب قد شملها لما كان من كفر المشركين بها وجحدهم إياها في نحو ما حكى عنهم من قولهم: وقالوا ما هي إلّا حياتنا الدّنيا نموت ونحيا [الجاثية/ 24] فكان في تخصيصهم بذلك مدح لهم.
ونظير ذلك في أنّه خصّ بعد ما عمّ قوله: اقرأ باسم ربّك الّذي خلق [العلق/ 1] فعم بقوله: «خلق» جميع مخلوقاته ثم خص فقال خلق الإنسان من علقٍ [العلق/ 2] ويقرب من هذا قوله: الرّحمن الرّحيم حيث أريد تخصيص المسلمين بالكرامة في قوله: وكان بالمؤمنين رحيماً [الأحزاب/ 43] فالباء على هذا الوجه ليست في موضع الحال كما كانت كذلك في الوجه الأول، ولكنه في موضع نصب بأنه مفعول به، كما
[الحجة للقراء السبعة: 1/232]
أنها مفعول في قوله: ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه [البقرة/ 8] إنّي آمنت بربّكم [يس/ 25] والغيب: ما غاب عنك فلم تشهده. وقال: عالم الغيب والشّهادة. قال أبو زيد: بدا غيّبان العود، إذا بدت عروقه التي تغيبت منه، وذلك إذا أصابه البعاق من المطر فاشتد السيل فحفر أصول الشجر حتى تظهر عروقه. وقوله: وللّه غيب السّماوات والأرض مصدر مضاف إلى المفعول على الاتساع فحذف حرف الجر، لأنّك تقول: غبت في الأرض، وغبت ببلد كذا، فتعديه بحرف الجر فحذف الحرف وأضيف المصدر إلى المفعول به في المعنى نحو من دعاء الخير [فصلت/ 49] وبسؤال نعجتك [ص/ 24]. ويحتمل وجهين:
أحدهما: ذوو غيب السموات والأرض، أي ما غاب فيها من أولي العلم وغيرهم، كقوله: ألا له الخلق والأمر [الأعراف/ 54].
والآخر: أن يكون المعنى: ولله علم غيب السموات، ويدل على ذلك قوله: عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً
[الحجة للقراء السبعة: 1/233]
[الجن/ 26]، وعالم الغيب والشّهادة فتعالى عمّا يشركون [المؤمنون/ 92]. وقال: إنّ الّذين آمنوا ثمّ كفروا ثمّ آمنوا ثمّ كفروا ثمّ ازدادوا كفراً [النساء/ 137]، يعني به المنافقين.
والإيمان الأول دخولهم في الإسلام وحقنهم الدماء والأموال، وكفرهم بعد: نفاقهم، وأن باطنهم على غير ظاهرهم، وإيمانهم بعد يقيهم نفاقهم بقولهم: (إنّا مؤمنون) في قوله: وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا، فهذا الإظهار منهم للإيمان ثانية يدخلون به في حكم الإسلام بعد الكفر، كما أنّ من جاء من المؤمنات مظهرات للإسلام داخلات في حكمه. وقال: فإن علمتموهنّ مؤمناتٍ [الممتحنة/ 10] فعلمن مؤمنات بما أظهرنه من ذلك، فكذلك هؤلاء يكونون مؤمنين بإظهارهم الإيمان بعد ما علم منهم من النفاق. وكفرهم بعد هذا الإيمان الثاني قولهم: إذا خلوا إلى أصحابهم إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن فما ازدادوه من الكفر إنّما هو بقولهم: إنّما نحن مستهزؤن فهذا زيادة في الكفر.
ويدل على أن المستهزئ باستهزائه كافر فيزداد به كفرا إلى كفره قوله: وقد نزّل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات اللّه يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم، وقال: إنّكم إذاً مثلهم
[الحجة للقراء السبعة: 1/234]
فإذا كان المجالس مثلهم وإن لم يظهر ذلك ولم يعتقده، فالقائل لذلك أشد ذهابا في الكفر.
[بسم الله] الإعراب
لا تخلو الألف في آمن من أن تكون زائدة أو منقلبة، وليس في القسمة أن تكون أصلا. فلا يجوز أن تكون زائدة لأنّها لو كانت كذلك لكان فاعل ولو كان فاعل لكان مضارعه يفاعل مثل يقاتل ويضارب في مضارع قاتل وضارب، فلما كان مضارع آمن يؤمن دلّ ذلك على أنّها غير زائدة، فإذا لم تكن زائدة كانت منقلبة. وإذا كانت منقلبة لم يخل انقلابها من أن يكون عن الواو أو عن الياء أو عن الهمزة. فلا يجوز أن تكون منقلبة عن الواو لأنها في موضع سكون، وإذا كانت في موضع سكون وجب تصحيحها ولم يجز انقلابها، وبمثل هذه الدلالة لا يجوز أن تكون منقلبة عن الياء، فإذا لم يجز انقلابها، عن الواو ولا عن الياء ثبت أنها منقلبة عن الهمزة، وإنما انقلبت عنها ألفا لوقوعها ساكنة بعد حرف مفتوح، فكما أنها إذا خففت في رأس، وفأس، وبأس، انقلبت ألفا لسكونها وانفتاح ما قبلها، كذلك قلبت في نحو: آمن، وآجر، وآتى، وفي الأسماء نحو آدر وآخر وآدم، إلّا أنّ الانقلاب هاهنا لزمها لاجتماع
[الحجة للقراء السبعة: 1/235]
الهمزتين، والهمزتان إذا اجتمعتا في كلمة، لزم الثانية منهما القلب بحسب الحركة التي قبلها إذا كانت ساكنة نحو آمن، اؤتمن، ائذن، ائتنا.
ومن ثم قلنا في آوى إن الفاء منها همزة، ألا ترى أنّها لا تخلو من أن تكون أفعل أو فاعل أو فعلى، فلا يجوز أن تكون فاعل لأنّ مثل: طابق، وتابل مصروف في المعرفة، وقد منعوا آوى الصرف، فعلم بذلك أنه ليس مثل طابق، ولا يجوز أن يكون فعلى لأنّه لو كان إياها لكانت الألف في موضع سكون، وإذا كانت في موضع سكون وجب صحتها وانتفى انقلابها، فلو كانت العين واوا لوجب إدغامها في الواو التي هي لام كما وجب إدغام حوّاء وعوّاء، ولا يجوز أن تكون الألف منقلبة عن الياء مع وقوع واو بعدها لأنّ ذلك مرفوض في كلامهم غير موجود.
فإن قلت فقد جاء خيوان في اسم هذا الموضع الذي باليمن فالقول في ذلك أنه فيعال وليس بفعلان، وإنما منع
[الحجة للقراء السبعة: 1/236]
الصرف لأنه يجعل اسما لبقعة أو بلدة، فلا يجوز إذن أن يكون فعلى، فإذا لم يجز أن يكون فاعل ولا فعلى ثبت أنّه أفعل، وإنّما لم يصرف لوزن الفعل، وأنّه علم. فهو مثل آمن، ولو نكر كما نكروا عرسا في ابن عرس لكان القياس صرفه.
فأمّا قراءة من قرأ: (آتينا بها) فإنّما هو فاعلنا وليس بأفعلنا، ولو كان أفعلنا لم تدخل الباء، ألا ترى أنك تقول:
جئت به، فإذا عديت بالهمزة قلت: أجأته، ولم تقل: أجأت به.
وفي التنزيل: فأجاءها المخاض [مريم/ 23]، فكذلك قوله:
(آتينا بها). لو كان أفعل لم يحتج إلى الباء.
وكذلك تقول: أبى زيد شرب الماء، فإذا فعلت أنت به الإباء قلت: آبيته ولا تقول: آبيت به قال:
قد أوبيت كلّ ماء فهي صادية... مهما تصب أفقا من بارق تشم
[الحجة للقراء السبعة: 1/237]
فإن قلت: فقد قرأ بعضهم: (يذهب بالأبصار) فأثبت الباء مع النقل بالهمزة، فهلا أجزت في «آتينا بها» أن تكون أفعلنا بها ولا تكون فاعلنا. فإنّ ما ذكرته هو قياس هذا القول، إلا أن الحمل عليه والردّ إليه ينبغي ألّا يجوز ما وجد عنه مندوحة.
فأمّا آجر فهو فاعل، لأنّك تقول في المضارع: يؤاجر مثل يقاتل، ولو كان أفعل لكان يؤجر. والذي جاء في التنزيل من ذلك على فعل لأنّ المضارع يفعل في قوله: على أن تأجرني ثماني حججٍ [القصص/ 27].
فأمّا حجة من قرأ (يؤمنون) بتحقيق الهمز، فلأنّه إنّما ترك
[الحجة للقراء السبعة: 1/238]
الهمز في أومن لاجتماع الهمزتين، كما أنّ تركها في آمن كذلك، فلما زال اجتماعهما مع سائر حروف المضارعة سوى الهمزة، ردّ الكلمة إلى الأصل فهمز، لأنّ الهمزة، من الأمن والأمنة، فاء الفعل. ومما يقوي الهمز في ذلك أنّ من تركها إنّما يقلبها واوا ساكنة وما قبلها متحرك بالضم، والواو الساكنة إذا انضم ما قبلها فقد استجازوا قلبها همزة. قال محمد بن يزيد: أخبرني أبو عثمان قال: أخبرني الأخفش قال: كان أبو حية النّميري يهمز كل واو ساكنة قبلها ضمة وينشد:
لحبّ المؤقدان إليّ مؤسى
وتقدير ذلك أن الحركة لما كانت تلي الواو في مؤسى صارت كأنّها عليها، والواو إذا تحركت بالضمة أبدلت منها الهمزة.
ومثل إبدالهم من الواو الساكنة المضموم ما قبلها الهمزة استجازتهم الإمالة في مقلات، ومصباح، حيث كانت الكسرة
[الحجة للقراء السبعة: 1/239]
كأنّها على المستعلي فصار مثل قفاف وصفاف، فإذا جاز إبدال الهمزة من الواو التي ذكرنا واجتلابها، وإن لم تكن من الكلمة، فالهمزة التي هي أصل في الكلمة أولى بالتقرير وألّا يبدل منها الواو.
وحجة من لم يهمز أن يقول [إنّ] هذه الهمزة قد لزمها البدل في مثالين من الفعل الماضي والمضارع، فالماضي نحو: آمن وأومن، والمضارع نحو أومن ولم يجز تحقيقها في هذه المواضع. وهذا القلب الذي لزمها في المثالين إعلال لها، والإعلال إذا لزم مثالا أتبع سائر الأمثلة العارية من الإعلال: كإعلالهم يقوم لقام، وإعلالهم يكرم من أجل أكرم، وأعد ليعد، فوجب على هذا أن يختار ترك الهمز في يؤمنون اعتبارا لما أرينا من الإعلال ليتبع قولهم (يؤمنون) في الإعلال المثالين الآخرين لا على التخفيف القياسي في نحو جونة في جؤنة وبوس في بؤس.
فإن قلت: فهلّا لم يجز غير القلب والتخفيف كما لم يجز إلّا الإعلال فيما شبهته به وإلزامه الحذف والقلب؟.
[الحجة للقراء السبعة: 1/240]
فالقول: إن القياس على ما أريناك.
ولم يلزم ما شبهنا به [من] الحذف والقلب في كل موضع، ألا ترى أنّهم إذا قالوا: يوعد، وما أقوله وأقول بزيد، ويؤكرم في الشعر، وأهريق لم يلزم الحذف والقلب.
وحدثنا علي بن سليمان أن أحمد بن يحيى أخبرهم:
يقال: قد اتّمن فلان فلانا وقد اتمنته، والأصل: ايتمن وايتمنته، ثم أدغمت الياء في التاء فشددت التاء. وفي الائتمام: قد اتّممت به مفتوح التاء.
هذا لفظ أحمد بن يحيى واستثبتّ أبا الحسن في ذلك فأثبته وصححه، ولم أعلم لأصحابنا في هذه المسألة نصا.
وقياس قولهم عندي أن الإدغام فيها لا يجوز لأنّ الياء غير لازمة، فلا يكون مثل اتّسر واتعد، ألا ترى أنّهم قالوا: لو بنيت مثل: افعل أو افعل من أويت، لقلت: إيّا وإيّ فقلبت الفاء ياء وأدغمتها في الواو كما تدغم فيها الياء التي من نفس الكلمة. وقالوا: لو بنيت مثل افعوعل من أويت، لقلت: إيووّي وإيويّا على قول أبي الحسن، ولم تدغم الياء المنقلبة عن الهمزة التي هي فاء في الواو التي هي عين لأنّها غير لازمة، فكذلك الياء في ائتمنته غير لازمة، لأنّك إذا أسقطت
[الحجة للقراء السبعة: 1/241]
همزة الوصل في الدرج نحو قد ائتمن رجعت الهمزة، وإذا لم يدغموا نحو نوي ورويا إذا خففوا الهمزة مع لزوم الواو في قول أهل التخفيف فألا يدغم ائتمن ونحوه أجدر.
فإن قلت: فقد أدغم قوم رويا فقالوا ريّا. فالقول إن الإدغام في هذا أشبه لما ذكرنا من لزومها، وتلك لما لم تلزم كانت بمنزلة المنفصل، على أن أبا الحسن يحمل ريّا فيمن أدغم على القلب نحو أخطيت في اللام. ويقوي ذلك أن بعضهم كسر الفاء منها فقال: ريّا، كما قالوا في: ليّ ليّ.
فإن قلت: فهل يجوز الإدغام في المصدر من قوله:
آوى إليه أخاه [يوسف/ 69] فالقول إن ترك إدغام ذلك وامتناعه على قول الخليل بيّن، ألا ترى أنّه لم يدغم أووم ولا يووم وشبهه بسوير فألّا يدغم هذا أجدر، لأنّها لما
[الحجة للقراء السبعة: 1/242]
أبدلت ولزم إبدالها صارت بمنزلة الألف الزائدة حتى أبدلت منها الواو في التكسير، كما أبدلت من ألف ضارب، فقالوا أوادم كما قالوا ضوارب.
ومن قال: أيّم، وخالف الخليل، فينبغي ألّا يدغم هذا لما ذكرنا من مشابهتها الزيادة، ولأنّه مثل ما تركت العرب إدغامه في قولهم: ديوان. ألا ترى أنها أبدلت لاجتماع الهمزتين كما أبدلت في ديوان لاجتماع المثلين وكراهة ذلك لأنّ كل واحد من الأمرين يتوصل به إلى إزالة المثلين، كما يتوصل بالآخر.
فأما قول الشاعر:
جيش المحمّين حشّ النار تحتهما... غرثان أمسى بواد مؤهب الحطب
فمن أخذه من الأهبة والتأهب همز إن شاء. ومن أخذه من وهب، وجعل الفاء الواو لم يهمز، إلّا على قول من قال: مؤسى، وقد تؤوّل البيت على الأمرين جميعا). [الحجة للقراء السبعة: 1/243]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({الّذين يؤمنون بالغيب} 3
قرأ أبو عمرو وورش عن نافع يومنون بغير همز وكذلك ياكلون ويومرون وحجتهما في ذلك ثقل الهمز وبعد مخرجها وما فيها من المشقّة فطلب من تخفيفها ما لم يطلب من تخفيف ما سواها ولهذا قيل: النّطق بها كالتهوع
وورش يترك أيضا الهمزة المتحركة مثل: (لا يواخذكم) و(لا يوده) وأبو عمرو يهمز
[حجة القراءات: 84]
وحجته أن الهمزة الساكنة أثقل من المتحركة وذلك أن تخرج الهمزة الساكنة من الصّدر ولا تخرج إلّا مع حبس النّفس والهمزة المتحركة تعينها حركتها وتعين المتكلّم بها على خروجها فلذلك همز أبو عمرو المتحركة وترك الساكنة وترك أيضا ورش ما كان سكونها علامة للجزم نحو إن نشأ وتسؤهم وهمز أبو عمرو وحجته في ذلك أن الكلمة قد سقط منها حرف قبل الهمزة لسكونها وسكون الهمزة وهو الألف من نشاء والواو من تسوؤهم وسقطت حركة الهمزة للجزم فلو أسقط منها الهمزة لكان قد أسقط من الكلمة ثلاثة أشياء: الهمزة وحركتها والألف فيخل بالكلمة). [حجة القراءات: 85]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (2- {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [آية/ 3]:
ابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب يهمزون ذلك وما أشبهه نحو {يُؤْثِرُونَ} و{يُؤْتُونَ}.
لأن الهمزة هاهنا فاء الفعل، وإنما أُبدلت في: أومن واوً، وفي: آمن ألفًا كراهة اجتماع الهمزتين، وليس في: يؤمن ذلك، فوجب أن ترد الكلمة إلى أًلها من الهمز.
وكان أبو عمرو يترك الهمز من ذلك في حال الإدراج وفي الصلاة، ويهمز في حال التحقيق والترتيل.
[الموضح: 239]
وإنما ترك الهمز في حال الإدراج؛ لأن هذه الهمزة لزمها الإبدال في الماضي نحو: آمن، وفي المستقبل نحو: أومِن، ولم يجر تحقيقهما في هذين الموضعين لاجتماع الهمزتين فأجرى سائر الأمثلة من هذا البناء مجرى هذين المثالين إرادة الإطراد كما قلنا في يعد حين أجرى سائر أمثلة المضارع مجراه في الحذف ليطرد.
ويجوز أن يكون خفف الهمزة على التخفيف القياسي، وذلك هو وقوع الضمة قبل الهمزة الساكنة فقلب الهمزة لأجله واوًا كبوس ولومٍ ونحوهما.
وإنما فعل أبو عمر هذا الإبدال في حال الإدراج؛ لأنه موضع تخفيف، وأما في حال التحقيق فإنه جاء به على الأصل، فأخذ في الحالين باللغتين.
وروى –ش- عن نافع بترك الهمز في كل حالٍ، وهذا على ما قدمناه من إرادة التخفيف وطلب الإطراد في الأمثلة.
وأما حمزة فإنه إذا وقف على المهموز وقف بترك الهمزة اسمًا كان أم فعلًا نحو: يومنون والمومنون ومستهزون، هكذا يقف على كل مهموز، وإذا لم يقف حقق الهمزة.
وإنما فعل ذلك؛ لأن الوقف موضع تغيير ألا ترى أن حركات الإعراب تحذف فيه، وكذلك التنوين الذي هو علم الصرف، وربما يزيدون على الكلمة
[الموضح: 240]
في حال الوقف ما ليس منها نحوها بيان الحركة في نحو: أغزه وارمه وكتابيه، والتضعيف في الوقف نحو: فرج وخالد، وربما يبدلون عن الحرف غيره نحو الهاء عن التاء في نحو: الرحمة والصلاة.
فلما كان التحقيق والإبدال في الهمزة جائزين اختار حمزة الإبدال في موضع الوقف؛ لأنه موضع تغيير). [الموضح: 241]
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (والّذين يؤمنون بما أنزل إليك)
كان ابن كثير يهمز كل حرف مهموز همزته، نحو قوله: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) و(وادعوا شهداءكم من دون اللّه) و(كانوا أنفسهم يظلمون).
وإنما يضم الميم إذا كانت في كلمة مضمرة، مثل: (أنتم) و(هم) و(كنتم) إذا انضم ما قبل الميم، أو كان مفتوحا، فإذا كان انكسر ما قبلها سكنها، نحو: (في قلوبهم مرضٌ) و(في طغيانهم يعمهون).
وقال ورش عن نافع الهاء مكسورة، والميم موقوفة، إلا أن يلقى الميم ألف أصلية، كقولك: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم).
[معاني القراءات وعللها: 1/123]
وقرأ حمزة ويعقوب بضم الهاءات في تلك المواضع المذكورة على الأصل؛ لأن أصل الهاء الضم، ألا ترى أنك تقول: (هم يوقنون)
و (هم يوقنون) فتجد الهاء مضمومة لا غير.
وروى إسحاق الأزرق عن حمزة (عليهم) بكسر الهاء وجزم الميم.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه ذكر قول أبي عبيد في (عليهم)، و(لديهم) و(إليهم) قال: قال أبو عبيد: اختيارنا كسر الهاء، ووقف الميم في كله ما لم يلقها ألف ولام، فإذا لقيتها ألف ولام كان الخفض أحب إليّ؛ لأنه أقيس في العربية أن يكون كل حرف منجزم بعده حرف ساكن أن يكون حركته إلى الخفض.
قال أبو العباس: وهذا غلط؛ لأن للميم حركة، وهو الضم، فإذا حركت كان أولى بها أن يرد إلى حركتها التي هي لها فتضم.
قال: وقال الأخفش ومن قال بقوله: أضم الهاء وأسكن الميم؛ لأن الهاء هو الأصل، وهي القراءة القديمة، قراءة أهل الحجاز ولغتهم.
[معاني القراءات وعللها: 1/124]
ويسكن الميم فيها، وكذلك كل هاءٍ ضم وميم قبلها ياء ساكنة وما قبل الياء مفتوح، مثل: (عليهم) و(لديهم).
قال أبو العباس: أما ما ادعي من أنها أصل فهي الأصل، ولكن العرب تقرب الحرف من الحرف إذا قاربه، مثل الإدغام.
قال: والكسر في (عليهم) أولى، لأن الهاء من جنس الياء، لأنها يقع في القوافي مكانها، وأن الهاء ينقطع إلى مخرج الياء، فلذلك أتبعت الهاء الياء، وكذلك إذا كانت الهاء منفردة من الميم فقد اجتمعوا على كسر الهاء، مثل (به) و(عليه).
وزعم الفراء أنها لغة... النبي صلى الله عليه، فإذا جاءوا
بالألف واللام ضموا الهاء والميم.
قال أبو العباس: وهذا هو القياس؛ لأن الهاء إذا انفردت تبعت الكسر والياء لمؤاخاتها لهما، وإذا كانت معهما الميم، والأصل (هم)، ثم أتبعت الهاء والياء والكسرة كما ذكرنا، فإذا حركت الميم ردت الهاء والميم إلى أصلهما، فإذا لم تأت بالميم تركت الهاء على ما تبعت، مثل (به القول) و(عليه العذاب).
[معاني القراءات وعللها: 1/125]
فهنا هو الاختيار، والضم لغة والإشباع في الضم والكسر لغة، مثل: (به يا هذا) و(عليه يا هذا) و(بهو) و(عليهو) و(بهي) و(عليهي) - فإذا كان ما قبلها ساكنا حذفوا الواو، وهو الاختيار، وعليه القراءة وإذا انفتح ما قبل الهاء أو انضم فلا فرق بينهم أنه الإشباع، مثل (ضربهو) و(لن يضربهو) وإذا كان قبله ساكن مثل (عنه) و(إليهم) و(محياهم) فالاختيار الحذف عند أبي العباس، والذين يقولون: (عليهم) هم الذين أتبعوا الهاء شكلها، وردوا الميم إلى أصلها.
وقال أبو إسحاق الزجاج: الأصل في هذه الهاء التي في قولك: ضربتهو يا فتى) و(مررت بهو يا فتى) أن يتكلم به في الوصل بواو، فإذا وقفت قلت: (ضربته) و(مررت به)
قال: وزعم سيبويه أن الواو زيدت على الهاء في الذكر كما زيدت الألف في المؤنث في قولك: (ضربتها) و(مررت بها) ليستوي المؤنث والمذكر في باب الزيادة قال أبو إسحاق: والقول "في هذا الواو عند أصحابنا أنها إنما زيدت لخفاء الهاء، وذلك أن الهاء تخرج من أقصى الحلق، والواو حرف مدٍّ ولينٍ تخرج من طرف الشفتين، فإذا زيدت الواو بعد الهاء أخرجتها من الخفاء إلى الإبانة، فلهذا زيدت - وتسقط في الوقف - كما
[معاني القراءات وعللها: 1/126]
تسقط الضمة والكسرة في قولك - ساكنة أو متحركة في جميع القرآن.
إلا (القرآن) فإنه لا يهمزه ويهمز (قرأت) وكلهم يهمزون "يؤمنون " و"نؤمن " و، يأكلون، و، تأكل، و، يؤتون، و، يأتون " ونحو هنا من الحروف إلا أبا عمرو فإنه يطرح الهمزة من هنا ونحوه مما يكون فيه الهمز ساكنة، وذلك أنها لما سكنت ضعفت، واستحسن طرحها لسكونها في الحدر والدرج إلا أن يكون همزها أخف من طرحها.
وروى اليزيدي عن أبي عمرو أنه كان إذا قرأ في الصلاة أو أدرج القراءة لم يهمز.
وإذا حقق همز.
وكذلك قرأت بحرف عاصم الذي رواه أبو بكر عنه من رواية الأعشى عن أبي بكر بطرح الهمز من هذه الحروف، ومن حروف أخر الهمزة فيهن متحركة، نحو قوله؛، مائة
[معاني القراءات وعللها: 1/127]
حبةٍ، و: (ليطمئن قلبي)، و: (تطمئن قلوبنا)، و(كم من فئةٍ قليلةٍ)، و(رئاء الناس)، و(كتابًا مؤجلا)، و(فئتين التقتا)، و(وإذا قرئ القرآن)، و(المؤلّفة قلوبهم).
ونحو هذا في قراءة الأعشى عن أبي بكر، وأحسب أن الذي حكاه الإشناني عن ابن الصباح عن حفص عن عاصم عن أبي عبد الرحمن عن علي أنه كان يدع الهمز من الخوف إذا تخوف النقصان هو هذا الذي رواه الأعشى عن أبي بكر عن عاصم من طرح الهمز فيما قدمت ذكره.
وكان حمزة يهمز هذه الحروف كلها إذا وصل القراءة، فإذا سكت وقف بغير همز، وكذلك يفعل بقوله: (يستهزئون) وقوله: (ويستنبئونك)، ونحو هذا.
فأما: (خائفين) و(الخائنين)
[معاني القراءات وعللها: 1/128]
و (يكلؤكم) و(تفتأ) يشير بصدره إلى الهمز ولا يهمز.
وما الهمزة فيه عين الفعل فإنه يصله ويقف عليه بالهمز، نحو (موئلا) و(تراءت الفئتان)، وقال الأدمي: قف على (مؤجّلًا) بالهمز أيضا.
قال أبو منصور: وللعرب مذاهب في الهمز: فمنهم من يحقق الهمز، ويسمونه (النبر).
ومنهم من يخفف الهمز ويلينه.
ومنهم من يحذف الهمز. ومنهم من يحول الهمز.
وهي لغات معروفة، والقرآن نزل بلغات العرب، فمن همز ما قرئ به فهو الأتم المختار، ومن لم يهمز مما ترك همزه كثير من القراء فهو مصيب). [معاني القراءات وعللها: 1/129]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (3- قوله تعالى: {بما أنزل إليك}.
قرأ ابن كثير وحده {بما أنزل إليك} لا يمد حرفًا لحرف
وقرأ الباقون بالمد.
فمن مد قال: الألف خفيفة، والهمزة خفيفة فقووهما بالمد.
ومن لم يمد حرفًا لحرف أتى بالكلمة على أصلها؛ لأن الكلمتين من حرفين وشبهه بالإدغام في حرفين وفي حرف فإذا كان من كلمة لم يجز إلا الإدغام نحو: فر ومد. وإذا كان من كلمتين كنت بالخيار كقولك: جعل لك وجعل لك. واتفقوا جميعا على مد الحرف إذا كان من كلمة نحو قوله: {وأنزلنا من السماء ماء} و{ألاء تحبونهم} {فقطع
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/58]
أمعاءهم} {فبأي آلاء ربكما تكذبان}.
وأعلم بأن الحروف اللواتي تكون بها المد ثلاثة: الواو والياء والألف، فواو قبلها ضمة، وبعدها همزة، وياء قبلها كسرة وبعدها همزة، وألف بعدها همزة ولا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، فالألف نحو قوله تعالى: {بما أنزل إليك} و{ها أنتم ألاء} والواو نحو قوله: {قالوا إنا معكم} والياء نحو: {في آذانهم وقر} ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/59]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({والّذين يؤمنون بما أنزل إليك} {وعلى أبصارهم غشاوة}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (بما أنزل إليك) و(على أبصارهم) لا يمدون حرفا لحرف وهو أن تكون المدّة من كلمة والهمزة من أخرى وحجتهم في ذلك أنهم أرادوا الفرق بين ما المدّة فيه لازمة لا تزول بحال وبين ما هي فيه عارضة قد تزول في بعض الأحوال نحو بما أنزل إليك فإنّها تزول عند الوقف والّتي لا تزول نحو دعاء ونداء وبناء وسماء فجعلوا ذلك فرقا بينهما
وقرأ ابن عامر والكسائيّ مدا وسطا ومد حمزة وعاصم مدا
[حجة القراءات: 85]
مفرطا وحجتهم في ذلك أن المدّ إنّما وجب عند استقبال الهمزة سواء كانت الهمزة من نفس الكلمة أو من الأخرى إذا التقتا لأنّه لا فرق في اللّفظ بينهما). [حجة القراءات: 86] (م)
قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107169#post107169)
جمهرة علوم القرآن
25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 09:40 PM
سورة البقرة
[من الآية (6) إلى الآية (10) ]
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) }
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وأما قول الله جلّ وعزّ: (أأنذرتهم أم لم تنذرهم) فالأصل فيه همزتان:
إحداهما: الألف، والأخرى ألف الاستفهام.
واختلف القراء فيه، فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب "آنذرتهم " بهمزة مطولة، وكذلك جميع ما أشبه هذا، نحو قوله:
[معاني القراءات وعللها: 1/129]
(آنت قلت للنّاس)، (آلد وأنا عجوزٌ).
وقرأ الباقون بهمزتين في كل هذا.
وكل ذلك عربي فصيح، فمن همز همزة مطولة فر من الجمع بين الهمزتين، ومن جمع بينهما فهو الأصل.
وكان أبو عمرو يخفف الهمزة الأولى، ويحقق الثانية.
وكان الخليل يحقق الأولى ويخفف الثانية، ونحويو أهل البصرة مالوا إلى قول الخليل، وكلهم أجاز ما اختاره أبو عمرو.
قال أبو منصور: ومن القراء القدماء من أدخل بين الهمزتين ألفا ساكنة فراراً من الجمع بينهما، فقرأ: (ءاأنذرتهم)، و: (ءاألد)، قال أبو حاتم: أخبرني الأصمعي أنه سمع نافعا يقرأ: (ءانّئكم لتشهدون)، أدخل بين الهمزتين ألفا.
قال الأصمعي: أنشدني أبو عمرو لمزرد:
تطاللت فاستشرفته فعرفته... فقلت له آأنت زيد الأرانب
[معاني القراءات وعللها: 1/130]
ومثله قول، ذي الرّمة:
أيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ... وبين النقا آأنت أم أمّ سالم
قال أبو حاتم: ويجوز تخفيف الهمزة الثانية التي بعد الألف الزائدة، وكان أبو عمرو ربما فعل ذلك.
قال أبو حاتم: ونحن نكره الجمع بين همزتين، قال: ومما يدلك على كراهية العرب اجتماع الهمزتين قول الله تبارك وتعالى: (ها أنتم).
قال أبو حاتم: قال الأخفش: إنما هو (ءاأتتنم)، أدخلوا بين الهمزتين ألفا استثقالا لهما، وأبدلوا من الهمزة الأولى هاء كما قالوا: (هرقت الماء) و(أرقت)، وقالوا: (هياك) بمعنى: إياك). [معاني القراءات وعللها: 1/131]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (4- قوله تعالى: {ءأنذرتهم}.
قرأ عاصم وحمزة والكسائي {ءأنذرتهم} بهمزتين على أصل الكلمة. فالهمزة الأولى ألف التسوية على لفظ الاستفهام، والألف الثانية ألف القطع.
وقرأ ابن عامر {آآنذرتهم} بهمزتين بينهما مدة كأنه كره أن يجمع بين همزتين وأن يحذف إحداهما
قال الشاعر – شاهدًا لقراءة ابن عامر:
تطاللت فاستشرفته فعرفته = فقلت له آآنت زيد الأراقم
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/59]
وقرأ أبو عمرو ونافع وابن كثري {آنذرتهم} كرهوا الجمع بين همزتين فلينوا الثانية كما تقول: آمن، وآدم، وآزر غير أن ابن كثير أقصر مدًا من أبي عمرو ونافع، قال ذو الرمة:
آن توسمت من خرقاء منزلة = ماء الصبابة من عينيك مسجوم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/60]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله جل وعز: أأنذرتهم [البقرة/ 6]
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: آأنذرتهم بهمزة مطولة، وكذلك ما أشبه ذلك في كل القرآن، مثل: أأنت قلت للنّاس [المائدة/ 116] وأ إلهٌ مع اللّه [النمل/ 60] وأ إنّكم وما كان مثله، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا خفف، غير أن مدّ أبي عمرو في أأنذرتهم أطول من مدّ ابن كثير، لأنّ من قوله أنّه يدخل بين الهمزتين ألفا وابن كثير لا يفعل ذلك.
واختلف عن نافع في إدخال الألف في الهمزتين. وأمّا عاصم وحمزة والكسائي- إذا حقق- وابن عامر فبالهمزتين أأنذرتهم وما كان مثله في القرآن من الهمزتين في الكلمة الواحدة فهو بتحقيق الهمزتين وبتخفيف إحداهما وبإدخال الألف بينهما.
إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون. [البقرة/ 6].
الكفر: خلاف الشكر، كما أن الذمّ خلاف الحمد.
فالكفر: ستر النعمة وإخفاؤها، والشكر: نشرها وإظهارها.
وفي التنزيل: واشكروا لي ولا تكفرون [البقرة/ 152] وفيه: لئن شكرتم لأزيدنّكم ولئن كفرتم إنّ عذابي لشديدٌ [إبراهيم/ 7] وقال:
في ليلة كفر النجوم غمامها
[الحجة للقراء السبعة: 1/244]
وقالوا: كفر كفرا وكفورا، كما قالوا: شكر شكرا وشكورا. وفي التنزيل: لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شكوراً [الفرقان/ 62] [وقال] اعملوا آل داود شكراً [سبأ/ 13] وقال: فأبى أكثر النّاس إلّا كفوراً [الإسراء/ 89] وقالوا:
الكفران، وقال: فلا كفران لسعيه [الأنبياء/ 94] وقال الأعشى:
ولا بدّ من غزوة في الربيع... حجون تكلّ الوقاح الشّكورا
قال أحمد بن يحيى: الشّكور: السريع القبول للسّمن. قال أبو علي: فكأن سرعة قبوله لذلك إظهار للإحسان إليه والقيام عليه.
وقالوا: أشكر من بروقة.
وأمّا قوله: سواءٌ عليهم فإنّ السواء والعدل والوسط والقصد والنّصف ألفاظ يقرب بعضها من بعض في المعنى.
[الحجة للقراء السبعة: 1/245]
قالوا للعدل: السواء. قال زهير:
أرونا خطة لا خسف فيها... يسوّي بيننا فيها السّواء
وأنشد أبو زيد لعنترة:
أبينا فلا نعطي السّواء عدوّنا... قياما بأعضاد السّراء المعطف
والسواء: وسط الشيء. وفي التنزيل: فرآه في سواء الجحيم [الصافات/ 55] وقال عيسى بن عمر: ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي. والسواء: ليلة النصف من الشهر.
وقالوا: سيّ بمعنى سواء، كما قالوا: قيّ وقواء، وقالوا:
سيان فثنّوا، كما قالوا: مثلان. وقال عز وجل: لو تسوّى بهم الأرض [النساء/ 42] فالمعنى: يودّون لو جعلوا والأرض سواء. كما قال: ويقول الكافر يا ليتني كنت تراباً [النبأ/ 40] وقال: فدمدم عليهم ربّهم بذنبهم فسوّاها [الشمس/ 14] أي: سوى بلادهم بالأرض، وقال: ونفسٍ وما سوّاها [الشمس/ 7] أي: ونفس وتسويتها أي: ورب تسويتها، أو
[الحجة للقراء السبعة: 1/246]
يكون: والذي سواها، أي: ونفس وخالقها، كما قال: ثمّ سوّاك رجلًا [الكهف/ 37] وقال: خلقك فسوّاك فعدلك [الانفطار/ 7] وقال: بلى قادرين على أن نسوّي بنانه [القيامة/ 4]، أي: نجعلها مع كفه صفحة مستوية لا شقوق فيها كخف البعير، ويعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة والخرز والصياغة ونحو ذلك من لطيف الأعمال التي يستعان عليها بالأصابع.
قال أحمد بن يحيى: من أيمانهم: لا والذي شقّهن خمسا من واحدة. يريدون الأصابع من الكف.
وقيل في: نسوّي بنانه: نردّها كما كانت. قالوا: وذكرت البنان لأنّه قد ذكرت اليدان فاختص منها ألطفها. وقالوا: قوم أسواء، أي: مستوون وأنشد أبو زيد:
هلّا كوصل ابن عمّار تواصلني... ليس الرّجال وإن سوّوا بأسواء
فأسواء ليس يخلو من أن يكون جمع سي أو سواء، فإن كان جمع سي فهو مثل: مثل وأمثال، ونقض وأنقاض، وجلف وأجلاف. وإن كان جمع سواء فهو مثل ما حكاه أبو زيد من قولهم جواد وأجواد. وحكى أيضا في الاسم: حياء الناقة وأحياء، ولا يمتنع جمعه وإن كانوا لم يثنوه كما لم يمتنعوا
[الحجة للقراء السبعة: 1/247]
من جمعه على سواسية. فأمّا قوله: ولا أنت مكاناً سوىً [طه/ 58] فقال أبو عبيدة: يضم أولها ويكسر، مثل: طوى وطوى، قال: وهو المكان النّصف فيما بين الفريقين وأنشد لموسى بن جابر الحنفي:
وإنّ أبانا كان حلّ ببلدة... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
قال: الفزر: سعد بن زيد مناة بن تميم.
ومثل سوى في أنّه فعل جاء وصفا قولهم: قوم عدى للغرباء. فأمّا عدى للأعداء فزعم أحمد بن يحيى وغيره أنّهم يقولون فيه: عدى وعدى. فهذا مثل سوى وسوى في وصف المكان.
وقال أبو الحسن في قوله: (مكانا سوى): إنّها قد تضم في هذا المعنى. قال: والممدودتان في ذا المعنى أيضا.
يريد بالممدودتين ما يذكره من أن في سوى وسواء أربع لغات، منهم من يفتح أوله ويمده، ومنهم من يكسر أوله ويقصره.
قال: وهاتان لغتان معروفتان. قال: ومنهم من يكسر أوله ويمده، ومنهم من يضم أوله ويقصره. وهاتان اللغتان أقل من تينك، والمضمومة الأولى أعرفهما، وقال: مكانا سوى أي عدل، وأنشد:
[الحجة للقراء السبعة: 1/248]
وإنّ أبانا كان حلّ ببلدة... سوى بين قيس قيس عيلان والفزر
يقول: عدل، وقال في قول الشاعر:
لو تمنّت حليلتي ما عدتني... أو تمنّيت ما عدوت سواها
يقول: ما عدوت قصدها، قال: والقصد والعدل مشتبهان. وأنشد:
ولأصرفنّ سوى حذيفة مدحتي... لفتى العشيّ وفارس الأجراف
قال: يريد لأصرفنّ قصده، أي عن قصده أو لأصرفنّ إلى غيره، ولأنّ سواه غيره كما قال حسان:
أتانا فلم نعدل سواه بغيره... نبي أتى من عند ذي العرش هاديا
قال: يقول: لم نعدل سوى النبي صلّى الله عليه وسلّم بغير سواه، وغير
[الحجة للقراء السبعة: 1/249]
سواه هو هو. فأمّا قوله:
وما قصدت من أهلها لسوائكا
فإنّه عدّى قصدت باللام، وإن كان يعدّى بإلى، كما عدّوا أوحيت وهديت بهما في نحو: وأوحى ربّك إلى النّحل [النحل/ 68]، وفي أخرى: بأنّ ربّك أوحى لها [الزلزلة/ 5] وقال: ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً [النساء/ 175] والحمد للّه الّذي هدانا لهذا [الأعراف/ 43].
فأمّا سواء فإنّها تستعمل ظرفا، تقول: إنّ سواءك زيدا كما تقول: إن عندك زيدا، فجعله الشاعر اسما في قوله، لسوائكا، وجعله بمنزلة غير إذ كانت بمعناها، وإذا كانت كذلك أجمع عامة العرب فيما زعم أبو الحسن أنّهم يستعملونه ظرفا ولا يستعملونه اسما.
ومثل ذلك قولهم: وسط- الساكن الأوسط- هي تستعمل ظرفا، فإذا اضطر الشاعر استعمله اسما كقوله الفرزدق:
صلاءة ورس وسطها قد تفلّقا
وقول القتّال الكلابي:
[الحجة للقراء السبعة: 1/250]
من وسط جمع بني قريظ بعد ما... هتفت ربيعة يا بني جوّاب
فكذلك سواء، ولذلك شبهه بالظرف في قولهم: أتاني القوم سواءك فقال: كأنه قال: أتاني القوم مكانك. واستدل على كونه ظرفا بوصلهم الذي بها في نحو: أتاني الذي سواؤك. [قال أبو علي: سواك أشبه]. وزعم أبو الحسن أن هذا الذي استعمل ظرفا إذا تكلم به من يجعله ظرفا في موضع رفع نصبوه استنكارا منهم لرفعه، لأنه إنما يقع في كلامهم ظرفا، فيقولون: جاءني سواؤك، وفي الدار سواؤك. وفي كتاب الله [تعالى]: وأنّا منّا الصّالحون ومنّا دون ذلك [الجن/ 11] وقال: منهم الصّالحون ومنهم دون ذلك [الأعراف/ 168]، وقال: لقد تقطّع بينكم [الأنعام/ 94] وقال: يوم القيامة يفصل بينكم. قال: وتقول معي فوق الخماسي ودون السداسي، ولك السداسي وفوقه، وجئتك بسداسي أو فوقه، وهو بالبصرة أو دونها، فكل ذلك نصب.
قال أبو الحسن وأخبرني بعض النحويين أنّه سمع العرب يقولون: ارقبني في سوائه، فأجراه مجرى (غير) وجعله اسما.
[الحجة للقراء السبعة: 1/251]
قال أبو علي: ولو تأول متأول ما حكاه أبو الحسن من قولهم: ارقبني في سوائه على «سواء» الذي هو الوسط، لا التي بمعنى غير- كما جاء في التنزيل: في سواء الجحيم [الصافات/ 55]- لكان مذهبا. فيجوز على ما تأوله أبو الحسن في الآي وفي سواء- في قول الشاعر:
فلم يبق منها سوى هامد... وسفع الخدود، وغير النّئيّ
أن يكون سوى في موضع نصب، وإن كان فاعلا، لأنّه ظرف. ويجوز أن يكون لما جعله اسما للضرورة رفعه كما رفع وسطا في قولهم:
وسطها قد تفلّقا
وجعله بمنزلة «غير» لما كان بمعناها، ألا ترى أنّه جعلها بمنزلة غير في عطفها عليها في قوله: وغير النّئيّ. كأنّه قال:
فلم يبق غير هامد وغير النّئي.
وقولهم في الاسم العلم: سواءة ليس من هذا الباب.
ألا ترى أن اللام منه همزة وليست منقلبه بدلالة قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/252]
فأبلغ إيادا إن عرضت وطيّئا... وأبلغ حليفينا، ومن قد تسوّءا
وأما الإنذار فإعلام معه تخويف، فكل منذر معلم، وليس كل معلم منذرا، ولم يمتنع أن يوصف [به] القديم سبحانه في نحو قوله: إنّا أنذرناكم عذاباً قريباً [النبأ/ 40] لأن الإعلام على الانفراد قد جاز وصفه به. والتخويف أيضا كذلك في قوله: ذلك يخوّف اللّه به عباده [الزمر/ 16].
فإذا جاز الوصف بكل واحد منهما على الانفراد لم يمتنع إذا دلّ لفظ على المعنيين اللذين جاز الوصف بكل واحد منهما منفردا أن يوصف سبحانه به.
وأنذرت: فعل يتعدى إلى مفعولين، يدلك على ذلك قوله: فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ وثمود [فصلت/ 13] وقال: إنّا أنذرناكم عذاباً قريباً [النبأ/ 40]، وقال تعالى:
قل إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45] فتعديته بالباء يحتمل أمرين: يجوز أن يكون لما دل على التخويف أجري مجراه:
فقلت أنذرته بكذا كما تقول: خوفته بكذا، ولذلك نظائر.
ويجوز أن يكون لما لم يتعد إلى مفعولين، الثاني فيه الأول عدي إلى مفعول واحد كما عدي علمت الذي بمعنى عرفت إلى مفعول واحد، فلما أريد تعديته إلى مفعولين، زيدت الباء لأنّ بناء الفعل على أفعل، فلا يجوز أن تدخل عليه همزة
[الحجة للقراء السبعة: 1/253]
أخرى للثقل، كما أنّه إذا أريد تعدية علمت الذي بمعنى عرفت إلى مفعولين زيدت عليه الهمزة أو ضعفت العين. فإذا حذفت الباء تعدى الفعل إلى المفعول الآخر، كما تعدى: أمرتك الخير واخترتك الرجال.
فأمّا قوله تعالى: قل إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45] فيحتمل أمرين: يجوز أن يكون الوحي الموحى، فسمّي بالمصدر مثل الخلق والصيد، والوحي: هو العذاب، فيكون كقوله: إنّا أنذرناكم عذاباً قريباً [النبأ/ 40]، ويجوز أن يكون الوحي يراد به الملك؛ فيكون التقدير في قوله تعالى: إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45]: أنذركم بإنذار الملك أو بإخباره. وقوله تعالى: إنّما أنت منذر من يخشاها [النازعات/ 45] مثل إنّما أنت معطي زيد، إذا أردت بالإضافة الانفصال، أي منذر من يخشى الساعة كما قال: وهم من السّاعة مشفقون [الأنبياء/ 49].
وقالوا: النذير والنّذر، كما قالوا: النكير والنكر، فجاء المصدر على فعيل وعلى فعل. وفي التنزيل: فكيف كان نكير، وفيه: فكيف كان عذابي ونذر. فأمّا قوله تعالى: نذيراً للبشر [المدثر/ 36] فقد قيل فيه قولان:
[الحجة للقراء السبعة: 1/254]
أحدهما: أن يكون حالا من (قم) المذكورة في أول السورة.
والآخر: أن يكون حالا من قوله: إنّها لإحدى الكبر [المدثر/ 35] فإذا جعل نذيرا حالا مما في قم، فإن النذير اسم فاعل بمعنى المنذر، كما أن السميع كالمسمع والأليم كالمؤلم.
وإن جعلته حالا من قوله: (لإحدى الكبر) فليس يخلو الحال من أن يكون من المضاف أو من المضاف إليه، فإن كان من المضاف كان العامل ما في إحدى من معنى التفرد.
وإن جعلت الحال من المضاف إليه كان العامل فيها ما في الكبر من معنى الفعل. وفي كلا الوجهين ينبغي أن يكون نذيرا مصدرا، لأنّ الأول المضاف مؤنث والمضاف إليه مؤنث مجموع، والمصدر قد يكون حالا من الجميع كما يكون حالا من المفرد. تقول: جاءوا ركضا، كما تقول: جاء ركضا.
وأما قوله تعالى: وجاءكم النّذير [فاطر/ 37] فمن قال: إن النذير النبي صلّى الله عليه وسلّم كان اسم فاعل كالمنذر، ومن قال: إنه الشيب كان الأولى أن يكون مصدرا كالإنذار.
وقال أبو زيد: نذر ينذر نذرا، ووفّى بنذره، وأوفى نذره.
وقال أبو الحسن: العرب تقول: نذر ينذر على نفسه نذرا، ونذرت مالي فأنا أنذره. أخبرنا بذلك يونس عن العرب. قال:
[الحجة للقراء السبعة: 1/255]
وفي كتاب الله تعالى إنّي نذرت لك ما في بطني محرّراً [آل عمران/ 39] وقال الشاعر:
هم ينذرون دمي وأنـ ... ـذر إن لقيت بأن أشدّا
وقال عنترة:
الشاتمي عرضي ولم أشتمهما... والناذرين إذا لم القهما دمي
ومثل الإنذار في أنّه ضرب من العلم قولهم: اليقين، فكل يقين علم، وليس كل علم يقينا، وذلك أنّ اليقين كأنّه علم يحصل بعد استدلال ونظر، لغموض المعلوم المنظور فيه، أو لإشكال ذلك على الناظر.
يقوي ذلك قوله عز وجل: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السّماوات والأرض وليكون من الموقنين [الأنعام/ 75] ثم ذكر بعد ما كان من نظره واستدلاله، ولذلك لم يجز أن يوصف القديم سبحانه به، فليس كل علم يقينا لأنّ من المعلومات ما يعلم من غير أن يعترض فيه توقف أو موضع نظر، نحو ما يعلم ببدائه العقول والحواس، ويؤكد ما ذكرنا من ذلك قول رؤبة:
[الحجة للقراء السبعة: 1/256]
يا دار عفراء ودار البخدن
أما جزاء العارف المستيقن
[عندك إلا حاجة التفكّن]
فوصفه العالم بالمستيقن يقوي أنّه غيره.
ومما يبين ذلك ما تراه في أشعارهم من توقفهم عند الوقوف في الديار لطول العهد وتعفي الرسوم ودروسها حتى يثبتوها بالتأمل لها والاستدلال عليها، كقوله:
وقفت بها من بعد عشرين حجة... فلأيا عرفت الدار بعد توهم
وقال:
توهّمت آيات لها فعرفتها
وقال:
أم هل عرفت الدار بعد توهّم
قال محمد بن السري قالوا في قوله بعد توهم: توهمت الشيء: أنكرته. وعند التباس الأمر وإشكاله يفزع إلى النظر،
[الحجة للقراء السبعة: 1/257]
ويرجع إلى الدليل، فكذلك قول رؤبة:
أما جزاء العارف المستيقن
أي: المتوقف المتبين لآثارك ورسومك إلى أن يثبتك، كقول عنترة في ذلك.
ومن ذلك الدراية، هي مثل ما تقدم في أنّها ضرب من العلم مخصوص، وكأنّه من التلطف والاحتيال في تفهم الشيء. أنشد أبو زيد:
فإنّ غزالك الذي كنت تدّري... إذا شئت ليث خادر بين أشبل
قال أبو زيد: تدّري: تختل. وقال آخر:
فإن كنت لا أدري الظباء فإنّني... أدسّ لها تحت التراب الدواهيا
وأنشد أحمد بن يحيى:
إما تريني أذّري وأدّري... غرّات جمل وتدرّى غرري
[الحجة للقراء السبعة: 1/258]
واختلفوا في الدّرية، وهو البعير الذي يستتر به الصائد من الوحش حتى يمكنه رميها.
فقال أبو زيد فيما حكى عنه: هي مهموزة لأنّها تدرأ نحو الوحش، أي تدفع، فأمّا من لم يهمز فإنّه يمكن أن يكون من الدرء الذي هو الدفع فخفف.
ويمكن أن يكون من الادّراء الذي هو الختل، لأنّ معنى الختل لها والاحتيال عليها في الاستتار به عنها حتى يرمي ظاهرا.
فأمّا الدريئة للحلقة التي يتعلّم عليها الطعان، فرواها السكري مهموزة فيما أنشده عن أبي زيد:
كأنّ دريئة لمّا التقينا... بنصل السيف مجتمع الصّداع
[بخط السكري: الدريئة: الحلقة يتعلم عليها الطعن،
[الحجة للقراء السبعة: 1/259]
ومجتمع الصداع: الرأس] [كذا رواها السكري في نوادر أبي زيد عن الرياشي. روى ابن دريد فكان دريئة] وكذلك قول الجهنية صاحبة المرثية أنشده [السكري عن أبي حاتم]:
أجعلت أسعد للرماح دريئة... هبلتك أمّك أيّ جرد ترقع
بخطه: الجرد: الثياب الخلقان [ضربه مثلا].
ويقال: دريت الشيء ودريت به قال سيبويه: وتعديه بحرف الجر أكثر في كلامهم، وأنشد أبو زيد:
أصبح من أسماء قيس كقابض... على الماء لا يدري بما هو قابض
فإذا قال: دريت الشيء، فكأنّ المعنى على ما عليه هذا الباب: تأتيت لفهمه وتلطفت، وهذا المعنى لا يجوز على العالم بنفسه. وقد أجاز أحد أهل النظر ذلك، واستشهد عليه بقول بعضهم:
لا همّ لا أدري وأنت الدّاري
[الحجة للقراء السبعة: 1/260]
وهذا لا ثبت فيه، لأنّه يجوز أن يكون من غلط الأعراب، فكأنّه سمع دريت وعلمت يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر كثيرا، فظنّ أنّهما في كل المواضع كذلك. ومثل هذا من جفاء الأعراب ما أنشده بعض البغداديين:
لا همّ إن كنت الذي بعهدي... ولم تغيّرك الأمور بعدي
وقول العجّاج:
فارتاح ربّي وأراد رحمتي
وقول الآخر:
يا فقعسيّ لم أكلته لمه... لو خافك الله عليه حرّمه
وقال أوس:
[الحجة للقراء السبعة: 1/261]
أبني لبينى لا أحبّكم... وجد الإله بكم كما أجد
وقالت امرأة من أسد:
أشار لها آمر فوقه... هلمّ فأمّ إلى ما أشارا
تعني الله سبحانه. فأمّا شعرت فمصدره شعرة بكسر الأول، كالفطنة والدرية. وقالوا: ليت شعري، فحذفوا التاء مع الإضافة للكثرة. وقد قالوا: ذهب بعذرتها، وهو أبو عذرها.
ويروى أنّ عليا، عليه السلام، لما قال له عديّ بن حاتم: ما الذي لا ينسى؟ قال: المرأة لا تنسى أبا عذرها، ولا قاتل واحدها. وكأنّ شعرت مأخوذ من الشعار، وهو ما يلي الجسد.
فكأنّ شعرت به علمته علم حسّ. وقال الفرزدق:
لبسن الفرند الخسروانيّ فوقه... مشاعر من خزّ العراق المفوّف
[الحجة للقراء السبعة: 1/262]
وفي الحديث: «أشعرنها إياه»، أي: اجعلنها الشعار الذي يلي الجسد، كما أن المعنى في البيت: لبسن الفرند الخسرواني مشاعر، فوقه المفوف من خزّ العراق، أي:
جعلنها الشعار.
فقولهم: شعرت ضرب من العلم مخصوص. فكل مشعور به معلوم، وليس كل معلوم مشعورا به. ولهذا لم يجز في وصف الله تعالى كما لم يجز في وصفه درى، وكان قول الله تعالى في وصف الكفار: ولكن لا يشعرون [البقرة/ 12] أبلغ في الذم للبعد عن الفهم من وصفهم بأنهم، لا يعلمون لأنّ البهيمة قد تشعر من حيث كانت تحسّ. فكأنّهم وصفوا بنهاية الذهاب عن الفهم.
وعلى هذا قال سبحانه: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل اللّه أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون
[الحجة للقراء السبعة: 1/263]
[البقرة/ 154] فقال: (ولكن لا تشعرون) ولم يقل ولكن لا تعلمون، لأنّ المؤمنين إذا أخبرهم الله تعالى بأنّهم أحياء علموا أنّهم أحياء، فلا يجوز أن ينفي الله تعالى العلم عنهم بحياتهم، إذ كانوا قد علموا ذلك بإخباره إيّاهم وتيقّنوه، ولكن يجوز أن يقال: ولكن لا تشعرون، لأنّهم ليس كل ما علموه يشعرونه، كما أنه ليس كل ما علموه يحسّونه بحواسّهم، فلمّا كانوا لا يعلمون بحواسّهم حياتهم، وإن كانوا قد علموه بإخبار الله إيّاهم، وجب أن يقال: لا تشعرون، ولم يجز أن يقال: ولكن لا تعلمون على هذا الحدّ.
ومن ذلك النقه. قال أبو زيد: نقه عنّي القول نقها ونقوها: إذا فهم عنك القول، قال: وتقول: نقه الرجل من مرضه ينقه نقوها إذا برأ.. وهذا لا يجوز في وصف القديم كما أن الفهم الذي فسّر أبو زيد به النقه لا يجوز في وصفه.
[بسم الله]
الإعراب
قوله تعالى: سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] لفظه لفظ الاستفهام ومعناه الخبر، ومثل ذلك قولهم: ما أبالي أشهدت أم غبت، وما أدري أأقبلت أم أدبرت. وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام وإن كان خبرا لأن فيه
[الحجة للقراء السبعة: 1/264]
التسوية التي في الاستفهام، ألا ترى إذا استفهمت فقلت:
أخرج زيد أم أقام؟ فقد استوى الأمران عندك في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، كما أنّك إذا أخبرت فقلت: سواء عليّ أقعدت أم ذهبت، فقد سويت الأمرين عليك، فلمّا عمّتهما التسوية، جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام، لمشاركته له في الإبهام. فكلّ استفهام تسوية، وإن لم يكن كل تسوية استفهاما.
ومثل التسوية- في هذا- الاختصاص في نحو: أنا أفعل كذا أيّها الرجل، واللهم اغفر لنا أيّتها العصابة، لمّا كنت مختصّا نفسك والعصابة في هذا الكلام جرى عليه لفظ النداء من حيث أردت الاختصاص الذي أردته في النداء، كما جرى الاستفهام على التسوية فمن ثمّ صار كل منادى مختصّا، وإن لم يكن كل مختص منادى.
ولا يجوز في هذا الموضع (أو) مكان (أم)، لأن المعنى: سواء عليّ هذان، ألا ترى أنك لو قلت: سواء عليّ القيام والقعود، لم يجز إلّا الواو.
وكذلك لو أظهرت المصدرين اللذين دلّ عليهما لفظ الفعلين المذكورين في قوله تعالى: اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم [الطور/ 16] لقلت: سواء عليكم الجزع والصبر، ولم تقله بأو، كما قال تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/265]
سواءً العاكف فيه والباد [الحج/ 25] ولو قلت: سواء عليّ العاكف أو البادي، أو سواء عليّ الجزع أو الصبر، لكان المعنى سواء عليّ أحدهما، وسواء عليّ أحدهما كلام محال، لأن التسوية لا تكون إلا بين شيئين فصاعدا.
فإن قلت: فقد قال أبو عمرو: إن الأصمعي أنشدهم لرجل من هذيل:
وكان سيان ألّا يسرحوا نعما... أو يسرحوه بها واغبرّت السّوح
فأنشدهموه بأو، وسيّان مثل سواء، ألا ترى أنه لا يستقيم زيد أو عمرو سيان [كما لا يستقيم مع سواء ولا تكون أو بمنزلة الواو. فالقول في ذلك أن هذا على ظاهر الاستحالة التي ذكرنا، وإنما استجاز هذا الكلام بأو لأنّه يراه يقول: جالس الحسن أو ابن سيرين، فيجوز له أن يجالسهما ويسمع: ولا تطع منهم آثما أو كفورا [الإنسان/ 24] فلا يطيعهما، كما أنه إذا قيل له ذلك بالواو كان كذلك. فلما رآها
[الحجة للقراء السبعة: 1/266]
تجري مجرى الواو في نحو هذه المواضع أجراها مجراها مع سواء وسيّان. فهذا كلام حقيقته ما ذكرنا، والذي سوّغه عند قائله ما وصفنا. وكذلك قول المحدث:
سيّان كسر رغيفه... أو كسر عظم من عظامه
فأمّا قوله: مررت برجل سواء درهمه، وهذا درهم سواء، فمعناه تامّ فهذا يجوز الاقتصار به على اسم مفرد] وكذلك قوله تعالى: ولمّا بلغ أشدّه واستوى [القصص/ 14] أي: كمل وتمّ. فهذا الفعل مثل هذا الاسم، ولو كان من التسوية بين الشيئين لم يستغن بفاعل كما لم يستغن سواء عن اثنين في نحو: سواءً العاكف فيه والباد [الحج/ 25].
فأمّا قوله تعالى: ذو مرّةٍ فاستوى وهو بالأفق الأعلى [النجم/ 6] فمعناه: استقام، كقوله: بلغ أشدّه واستوى [القصص/ 64]. ولا تكون المقتضية لفاعلين، لأن الضمير المرفوع لم يؤكد في الآية. فقوله: وهو بالأفق الأعلى جملة
[الحجة للقراء السبعة: 1/267]
في موضع الحال. ولم يثنّ سواء كما ثني سيّان، وإن كانوا قد كسّروه في قولهم: سواسية.
وحكى السكري عن أبي حاتم إجازة تثنية سواء، ولم يصب ابن السجستاني في ذلك، لأنّ أبا الحسن وأبا عمر زعما أن ذلك لا يثنى، كأنّهم استغنوا بتثنية سيّ عن تثنية سواء، كما استغنوا عن ودع بترك. وعلى ما قالا جاء التنزيل في قوله: سواءً العاكف فيه والباد [الحج/ 25] وقوله: اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواءٌ عليكم [الطور/ 16] فسواء في الآية مرتفع بالابتداء، وما بعده مما دخل عليه حرف الاستفهام في موضع الخبر، وبالجملة في موضع رفع بأنّها خبر إنّ.
فأمّا قوله: (لا يؤمنون) فيستقيم أن يكون استئنافا، ويستقيم أن يكون حالا من الضمير المنصوب على حدّ: معه صقر صائدا به غدا وبالغ الكعبة [المائدة/ 95] ويستقيم أن تجعله خبر إنّ، فيكون في موضع رفع، ولا يكون لقوله: (سواء عليهم) وما بعده موضع من الإعراب، كما حكمنا على موضعه بالرفع فيما تقدم، لأنّه الآن يصير اعتراضا بين الخبر والاسم، ألا ترى أنه [مما] يؤكد امتناعهم من الإيمان. وهذه الآية ينبغي أن تكون خاصّة لقوم بعينهم، لأن كثيرا من الكفّار قد آمنوا.
فإن قلت: لم زعمتم أن (سواء) يرتفع بالابتداء على ما عليه التلاوة، وأنت إذا قدّرت هذا الكلام على ما عليه
[الحجة للقراء السبعة: 1/268]
المعنى فقلت: سواء عليهم الإنذار وتركه كان (سواء) خبر ابتداء مقدّما، فهلا قلت فيها ذلك أيضا قبل تقدير الكلام بالمعنى؟.
فالقول في هذا أن (سواء) يرتفع حيث ذكرنا بالابتداء، وإن كان في قوله: سواء عليهم الإنذار وتركه يرتفع بأنّه خبر مقدم. وذلك أنه لا يخلو في قولك: سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] من أن يرتفع بأنه مبتدأ أو خبر مبتدأ.
فإن رفعته بأنه خبر لم يجز، لأنّه ليس في الكلام مخبر عنه، فإذا لم يكن مخبر عنه بطل أن يكون خبرا، لأنّ الخبر إنّما يكون عن مخبر عنه. فإذا فسد ذلك ثبت أنّه مبتدأ.
وأيضا فإنّه لا يجوز أن يكون خبرا، لأنّه قبل الاستفهام، وما قبل الاستفهام لا يكون داخلا في حيّز الاستفهام، فلا يجوز إذن أن يكون الخبر عمّا في الاستفهام متقدّما على الاستفهام.
فإن قلت: كيف جاز أن تكون الجملة التي ذكرتها من الاستفهام خبرا عن المبتدأ وليست هي هو ولا له ذكر فيها؟
فالقول في ذلك: أنّه كما جاز أن يحمل المبتدأ على المعنى فيجعل خبره ما لا يكون إيّاه في المعنى، ولا له فيه ذكر، كذلك جاز في الخبر لأنّ كلّ واحد منها يحتاج أن يكون صاحبه في المعنى. فما جاز في أحدهما من خلاف ذلك جاز في الآخر، وذلك قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن
[الحجة للقراء السبعة: 1/269]
تراه». ألا ترى أن خيرا خبر عن تسمع، وكما أخبر عنه كذلك عطف عليه في قولهم: تسمع بالمعيدي لا أن تراه، والفعل لا يعطف عليه الاسم كما لا يخبر عنه، إلّا أنّ المعنى لمّا كان على الاسم استجيز فيه الإخبار عنه والعطف عليه، وجاز دخول لا على الاسم من غير تكرير، كما جاز في قولهم: هذان لا سواء، لأن الخبر لم يظهر في الموضعين جميعا.
ونظير ما في الآية من أن خبر المبتدأ ليس المبتدأ ولا له فيه ذكر ما أنشده أبو زيد:
فإنّ حراما لا أرى الدّهر باكيا... على شجوه إلّا بكيت على عمرو
فإن قلت: أيجوز أن توقع الجملة التي من الابتداء والخبر موقع التي من الفعل والفاعل في نحو: سواء عليّ أقمت أم قعدت، فتقول: سواء علي أدرهم مالك أم دينار، وما أبالي أقائم أنت أم قاعد؟
فالقول في ذلك أنّ أبا الحسن يزعم أنّ ذلك لا يحسن.
قال: وكذلك لو قلت: ما أبالي أتقوم أم تقعد؟ لم يحسن، لأنّه
[الحجة للقراء السبعة: 1/270]
ليس معه الحرف الذي يجزم.
ومما يدلّ على ما قال أن ما جاء في التنزيل من هذا النحو جاء مع المثال الماضي، كقوله تعالى: سواءٌ علينا أجزعنا أم صبرنا [إبراهيم/ 21] وقوله: سواءٌ عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم [المنافقون/ 6] وسواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم [البقرة/ 6] وقال:
سواء عليك اليوم أنصاعت النّوى... بخرقاء أم أنحى لك السيف ذابح
وقال:
ما أبالي أنبّ بالحزن تيس... أم لحاني بظهر غيب لئيم
فهذا الكلام، وإن كان قد جرى عليه حرف الاستفهام
[الحجة للقراء السبعة: 1/271]
للتسوية فهو خبر، فلمّا كانوا قد حذفوا حرف الجزاء واستمرّ حذفه لطول الكلام حيث لو أظهر لم يمتنع- وذلك نحو لأضربنّه ذهب أو مكث- لزم حذف الحرف هنا لإغناء حرف الاستفهام عنه لمقاربة الشرط الاستفهام في اجتماعهما في أنّهما ليسا بخبر، وأنّهما يقتضيان الجواب، وبعض الحروف قد يغني عن بعض، ألا ترى أنّ أن لم تظهر في قولهم: ما كان زيد ليقوم، وأنّ أن قد أغنى عن اللام الجارة في نحو: أتيتك أن احتزّ مودة زيد، ونحو ذلك، وكذلك حروف العطف إذا نصب بها، فكذلك حروف المجازاة لمّا كانوا قد حذفوه في قولهم: لأضربنّه ذهب أو مكث، واستمرّ حذفه مع أنّه [لا حرف] يكون بدلا منه كان حذفه في باب: سواء وما أبالي، للزوم ما ذكرنا من الحرف له أولى.
ولم يجز أن يقع موقع التي من الفعل والفاعل التي من الابتداء والخبر، كما لم يجز ذلك في قوله: لأضربنّه ذهب أو مكث، وغير ذلك من المواضع التي يراد فيها الجزاء، ولم يقع إلّا التي من الفعل والفاعل، لتدلّ على الجزاء، كما لم تقع إلّا التي من الفعل والفاعل في نحو: عسى زيد أن يقوم، وكاد يذهب، وبابهما. ولم يستعملوا المصدر ليجري ذكر المثال الذي يدل على الزمان في الكلام لما أرادوا من تقريبه، وإن كان المصدر غير ممتنع استعماله هاهنا، كما قالوا:
[الحجة للقراء السبعة: 1/272]
«عسى الغوير أبؤسا»
فإذا كانوا قد امتنعوا من استعمال الاسم والمصدر هنا، مع أن المعنى في استعماله غير فاسد، فألّا يستعمل حيث معناه الجزاء ولا يصح المعنى في غير الفعل أجدر.
فأمّا قوله: سواءٌ عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون [الأعراف/ 193] فإنّما وقع أم أنتم صامتون في موضع: أم صمتّم: وجاز ذلك هنا لتقدم التي من الفعل والفاعل، فحسن لتقدّمها أن توقع بعدها التي من الفعل والفاعل، فحسن لتقدّمها أن توقع بعدها التي من الابتداء والخبر، كما جاز ذلك في الجزاء، لأنّها هنا بعد حرف، كما أنّه ثمّ بعد الفاء أو إذا. ولو لم يتقدم «أدعوتموهم» كما أنّه لو لم يتقدم الشرط في نحو: إن تأتني فلك درهم، أو: فعمرو مكرم، ونحو ذلك لم يجز وقوع التي من الابتداء والخبر موقع التي من الفعل والفاعل.
ومثل ذلك في وقوع التي من اسمين موقع الفعل والفاعل
[الحجة للقراء السبعة: 1/273]
قوله: هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواءٌ [الروم/ 28] فقوله: فأنتم فيه سواءٌ واقعة موقع التي من الفعل والفاعل، كأنّه قال: هل لكم مما ملكت أيمانكم شركاء فيساووكم، أي: فكما لا يساويكم مماليككم في أموالكم فيكونون فيها أمثالكم، كذلك لا تسوّوا ما اتخذتموه آلهة بمن يملكهم، وبمن خلقهم وبرأهم. وجاز ذلك لوقوعها بعد الحرف، وأنّ تقدم الاستفهام في قوله: «هل لكم» يضارع تقدم الشرط، فلذلك جاز هذا. وإذا كان الموضع موضع جزاء، ثبت أنّ وقوع المضارع لا يحسن في نحو: سواء عليّ أتقوم أم تذهب، كما لا يحسن في قوله: لأضربنه يمكث أو يذهب، على حدّ لأضربنه ذهب أو مكث.
وأمّا التقاء الهمزتين في: أأنذرتهم وتحقيقهما: فمن حجّة من حقّقهما أن يقول: إن الهمزة حرف من حروف الحلق، فكما اجتمع المثل مع مثله مع سائر حروف الحلق، نحو فهّ وفههت وكعّ وكععت، كذلك حكم الهمزة.
وممّا يجوّز ذلك ويسوّغه أن سيبويه زعم أن ابن أبي إسحاق كان يحقق الهمزتين وأناس معه. قال سيبويه: وقد تتكلم ببعضه العرب وهو رديء.
[الحجة للقراء السبعة: 1/274]
ومما يقوّي ذلك من استعمالهم له قولهم: رأّس وسآل وتذأّبت الريح ورأّيت الرجل. فكما جمع الجميع بينهما إذا كانتا عينين، كذلك يجوز الجمع بينهما في غير هذا الموضع.
وممّا يقوي ذلك أنّهم قد أبدلوا منها غيرها في نحو: يهريق وهيّاك، كما أبدلوها من غيرها في نحو رأيت رجلأ وهذه حبلأ في الوقف. فكما جرت مجرى سائر الحروف المعجمة في إبدالها من غيرها وإبدال غيرها منها، كذلك تكون سبيلها في اجتماعها مع مثلها، كما اجتمع سائر الحروف مع أمثالها.
والحجّة لمن قال: (أانذرتهم)، فلم يجمع بين الهمزتين وخفّف الثانية أن يقول: إن العرب قد رفضت جمعهما في مواضع من كلامهم. من ذلك أنّهم لمّا اجتمعتا في آدم وآدر
[الحجة للقراء السبعة: 1/275]
وآخر، ألزموا جميعا الثانية البدل، ولم يحقّقوا الثانية، ولما كسّروا وحقّروا جعلوا هذه المبدلة بمنزلة ما لا أصل له في الهمز فقالوا: أواخر وأويخر، فأبدلوا منها الواو، كما أبدلوها ممّا هو ألف لا يناسب الهمزة، نحو: ضوارب وضويرب. ففي هذا دلالة بيّنة على رفضهم اجتماعهما. ألا ترى أنهم لم يرجعوها في التحقير والتكسير كما رجعوا الواو في ميقات وميعاد والياء من موسر في قولهم: مواقيت ومياسير. ففي ذلك دلالة بيّنة على رفضهم لجمعهما.
ومن ذلك أنّا لم نجد كلمة عينها همزة ولامها كذلك، كما وجدنا ذلك في سائر أخوات الهمزة من الحلقية، كقولهم: مهاه وفهّ ويدعّ اليتيم ومحّ وألحّ وضغيغة ومخّ. فأن لم يجمعوا بين الهمزتين في الموضع الذي جمع فيه بين أخواتها، وكرّرت، دلالة على رفضهم لجمعهما. وإذا لم يتوال ذلك في بنات الثلاثة، فألّا يتوالى ذلك في بنات الأربعة أولى.
فأمّا نحو: نأنأ وطأطأ وبأبأ الصبيّ أباه، فقد حجز الحرف بينهما، وإنّما الذي ينكر تواليهما من غير أن يحجز بينهما شيء. ومن ثم قال أبو الحسن في بناء مثل قمطر من
[الحجة للقراء السبعة: 1/276]
قرأت: قرأي، فلم يكرّر الهمزة، كما تكرّر سائر اللامات، نحو جلبب وقعدد وعوطط. ومن ذلك أنهم ألزموا باب رزيئة وخطيئة عمّا يؤدي إلى اجتماع همزتين فيه، فقالوا: خطايا ورزايا. فلو كان لاجتماعهما عندهم مساغ ما رفضوا ذلك الأصل، كما أنّه لو كان لتحرك العينات في نحو: قال وباع مجاز ما ألزموهما القلب.
فإن قال: فقد حكي عن بعضهم: خطائىء، بتحقيق الهمزتين فذلك يجري مجرى الأصول المرفوضة، نحو:
.... ضننوا
..... والأظلل
[الحجة للقراء السبعة: 1/277]
ولو جاز الاعتداد بذلك وبما أشبهه لجاز أن يقال في تكسير مطية: مطائي لقول بعضهم سماء، فإذا كانوا قد رفضوا ذلك في حال السعة والاختيار- مع أنّه أسهل من اجتماع الهمزتين- فأن يرفض اجتماع الهمزتين أجدر.
ومن ذلك أنهم إذا بنوا اسم فاعل من ناء وساء وشاء وجاء قالوا: شاء وناء، فرفضوا الجمع بينهما في هذا الطرف- كما رفضوه أولا في آدم وآخر- إما بالإبدال وإما بالقلب كما يقوله الخليل، وأخذوا- على قول النحويين غير الخليل - بما رفضوه في غيره من توالي الإعلالين. فلولا أنّ اجتماعهما عندهم أبعد من توالي الإعلالين لم يأخذوا بتواليهما المرفوض من كلامهم في هذا الموضع، كما أن إخلاء الفعل من الفاعل لولا أنّه أبعد عندهم من الإضمار قبل الذكر لم يأخذوا بالإضمار قبل الذكر في مثل: نعم رجلا، وضربني وضربت زيدا لمّا كان يلزمهم في هذه المواضع إخلاء الفعل من الفاعل.
ومن ذلك أن من قال: هذا فرجّ وهو يجعلّ، فضاعف
[الحجة للقراء السبعة: 1/278]
في الوقف حرصا على البيان لم يضاعف نحو النبأ والرشإ، لكنه رفض هذا الضرب من الوقف وما كان يحرص عليه من البيان، لمّا كان يلزمه الأخذ بما تركوه، والاستعمال لما رفضوه: من اجتماع الهمزتين.
ومن ذلك أنّ الهمزة إذا كانت مفردة غير متكررة كرهها أهل التخفيف حتى قلبوها أو حذفوها، لئلا يلزمهم تحقيقها، وقد وافقهم في بعض ذلك أهل التحقيق، كموافقتهم لهم في يرى. فلمّا كرهوا ذلك في الإفراد وجب إذا تكررتا ألا يجوز إلا التغيير، ألا ترى أنّ الواو المفردة المضمومة لمّا كنت مخيّرا في تصحيحها وقلبها، ثم انضم إليها أخرى، لزم قلبها وامتنع تصحيحها الذي كان يجوز فيها قبل التكرر، فكذلك الهمزة إذا انضمت إليها أخرى، لزم رفضهما وامتنع جمعهما، كما كان ذلك في الواوين. فكما لم يجمع أحد بين هاتين الواوين كذلك يجب ألا يجمع بين الهمزتين.
ومن ذلك أنّ ناسا- إذا اجتمعتا من كلمتين- فصلوا بينهما بالألف في نحو:
أاأنت زيد الأرانب
كما فصلوا بين النونات في نحو اخشينانّ. فكما ألزموا الفصل بين النونات بالألف، كذلك يلزم في آأنت لئلا تجتمع
[الحجة للقراء السبعة: 1/279]
الهمزتان. بل ذلك في الهمزتين ينبغي أن يكون ألزم، لما قدّمنا لرفضهم لهما وجمعهم في التضعيف بين أكثر من حرفين نحو ردّد وشدّد. فإذا كانوا قد ألزموا النون في اخشينان [الفصل] بين ما يجتمع مثله فأن يلزموها بين ما رفضوا الجمع بينهما أجدر.
فهذه الأشياء تدلّ على رفض اجتماع الهمزتين في كلامهم.
فأمّا جمعهما وتحقيقهما في (أأنذرتهم) فهو أقبح من تحقيقهما من كلمتين منفصلتين، نحو قرأ أبوك ورشأ أخيك، لأنّ الهمزة الأولى من (أأنذرتهم) تنزّل منزلة ما هو من الكلمة نفسها، لكونها على حرف مفرد، ألا ترى أنّهم قالوا: لهو وفهو، ولهو خير الرّازقين [الحج/ 58] ولهي، فخفّفوا ذلك كله، كما خفّفوا عضدا فقالوا: عضد، فكذلك الأولى في (أأنذرتهم) لمّا لم تنفصل من الكلمة صارت بمنزلة التي في آخر، كما نزّلت الحروف المفردة التي ذكرتها منزلة فاء الفعل في عضد وفخذ.
فأمّا إذا كانتا من كلمتين فاجتماعهما في القياس أحسن من هذا، ألا ترى أن المثلين إذا كانا في كلمة نحو: يردّ ويعضّ، لا يكون فيهما إلا الإدغام؟ ولو كانا منفصلين نحو: يد داود لكنت في الإدغام والبيان بالخيار. فعلى هذا تحقيق
[الحجة للقراء السبعة: 1/280]
الهمزتين في (أأنذرتهم) وما أشبهه أبعد منه في الكلمتين المنفصلتين.
وممّا يقوّي ترك الجمع بين الهمزتين أنّهم قد قالوا في جمع ذؤابة: ذوائب، فأبدلوا من الهمزة التي هي عين واوا في التكسير كراهة للهمزتين مع فصل حرف بينهما.
فإذا كرهوهما مع فصل حرف بينهما حتى أبدلوا الأولى منهما فأن يكرهوهما مجتمعتين غير مفصول بينهما بشيء أجدر. وإذا كان الجمع بينهما في: (أأنذرتهم) من البعد ما أريتك فالجمع بينهما في أئمة أبعد، لأنّ الهمزتين لا تفارقان الكلمة، وهمزة الاستفهام قد تسقط في الإخبار وغيره. فكلّما كانتا أشد لزوما للكلمة كان التحقيق منهما أبعد.
وممّا يدلّ على ضعف جمع الهمزتين وأن مذهب الجمهور من العرب رفضه عزّتها في باب أجأ وآءة وإنّما قلّ ذلك من حيث لم يستجيزوا اجتماع الهمزتين فأجروا نحو أجأ ذلك المجرى، لمّا كان الفصل بحرف واحد قد جرى في كلامهم مجرى غير الفصل. وذلك نحو قولهم هو ابن عمي دنيا وقنية وعلية وعليان، وهما من علوت. وكذلك رفضوا افعل من حيث رفضوا فعل، وإن كان الفصل في افعل قد وقع بالحرف، فلما لم يعتد بالحرف الفاصل وقلبت الكسرة الواو
[الحجة للقراء السبعة: 1/281]
ياء، كما قلبته في ثيرة وسياط، ولم يكن بالفصل اعتداد، كذلك لم يكن الفصل بالحرف في نحو أجأ فصلا، فرفض ذلك كما رفض التحقيق في جاء ونحوه.
فأمّا تحرك الجيم في أجأ وسكون الحرف في دنيا فإن الحركة في هذا النحو قد لا يعتدّ بها لقلّتها، ألا ترى استجازتهم لحذفها في الزحاف؟.
ومثل دنيا في أن الحرف الفاصل لم يعتدّ به قولهم:
معديّ في معدوّ، ومرضيّ ومسنيّة. ومثله: صيّم وقيّل. ونحو ذلك، ومثله: قائل وبائع، جعل الحرفان كأنّهما وقعا طرفا حيث كان الفاصل بينهما وبين الطرف حرفا. ومثله: أوليّاء أوقعت الألف التي آخرا قبل الآخر بحرف لمّا كان الفاصل بينه وبين الطرف حرفا واحدا. ومثله: أوائل وعيائل، ولو كان الفاصل حرفين كطواويس لم يعلّ. فكما أنّ الحرف المفرد في هذه المواضع لم يفصل، كذلك في باب أجأ لم يفصل، فقلّ ذلك لمّا كان الحرف المفرد في هذه المواضع غير معتدّ به. وإذا لم يعتدّ به صارت الهمزتان كأنّهما قد التقيا، والتقاؤهما ممّا قد رفضوه، فكذلك رفضوا ما كان في حكم التقائهما.
[الحجة للقراء السبعة: 1/282]
فإن قلت: إن سيبويه قد ذهب في ألاءة وأشاءة ونحوهما إلى أن اللام يجوز أن تكون همزة، وقد جاء من ذلك حروف. قيل: لم يكن هذا مثل أجأ، للفصل بالزيادة، ألا ترى أنّ الفاصل الذي لم يعتدّ في أوائل لمّا انضم إليه حرف آخر في طواويس اعتدّ به فصلا، وإن كان زائدا فلم يعلّ الحرف، فكذلك الفصل هاهنا لمّا وقع بالزيادة لم يمتنع الحكم عنده بأن اللام همزة، كما امتنع حيث كان الفصل حرفا واحدا. وقد وجدت الزيادة تسوّغ في تألف الحروف ما لولا مكانها لم يسغ.
ألا ترى أنّه ليس مثل قنر بلا فاصل بين النون والراء وقد قالوا: شنّير وقالوا: الشّنار، وقالوا: سنّور وسنوّر فائتلف لفصل الزيادة ما لم يكن يأتلف لولا فصلها؟ فكذلك فصل الزيادة بين الهمزتين في ألاءة وأشاءة فيما ذهب إليه.
وجاء ذلك في طأطأ ونأنأ ودأدأ للفصل الواقع بينهما، ولأنّ ما يعرض في الثلاثة من كثرة التصرّف لا يعرض في هذا الباب.
[الحجة للقراء السبعة: 1/283]
واعلم أن قول سيبويه: ليس من كلام العرب أن تلتقي همزتان فتحقّقا، وقوله في باب الإدغام: إن ابن أبي إسحاق وناسا معه يحقّقون الهمزتين وقد تكلّم ببعضه العرب وهو رديء، ليس على التدافع ولكن لأنّه لم يعتدّ بالرديء، أو يكون لم يعتد بالتقاء المحقّقتين لقلّة ذلك بالإضافة إلى ما خفّف إذا اجتمعا. وقد عمل ذلك في أشياء نحو انقحل فعلى هذا يحمل ذلك أيضا من قوله.
قالوا: فلمّا رأيناهم قد رفضوا اجتماع الهمزتين في هذه المواضع، لم نجمع بينهما وخفّفنا الثانية، لأنّ في تخفيفها تقريبا من الألف، ألا ترى أنّ الهمزة إذا كانت مبتدأة لم تخفف لأنّ في تخفيفها تقريبا من الساكن؟ فكما أن الساكن لا يبتدأ به كذلك ما قرب من الساكن. فكما جرت مجرى الساكن في تقريبهم إيّاها منه، كذلك تجرى مجراه إذا خففنا الثانية، فتصير بعد الأولى كالألف بعدها. فكما لم تكره الألف بعدها في نحو أادم وأاخر، كذلك المخفّفة بعدها في: (أانذرتهم) لا تكره بعدها، كما تكره إذا حقّقت لما أرينا، مما دلّ على رفض العرب الجمع بينهما محقّقتين.
وحجة من فصل بين الهمزتين بألف وخفّف الهمزة الثانية
[الحجة للقراء السبعة: 1/284]
مع الفصل بينهما بالألف. وهو الثّبت عن أبي عمرو عندنا، لأن سيبويه زعم أن ذلك هو الذي يختاره أبو عمرو.
وقد قال أحمد بن موسى: إن خلفا روى عن أبي زيد ذلك في اختلاف الهمزتين، نحو (آينّكم) و (آنزل) أنّه بألف بين الهمزتين وتليين الثانية ولم يفصل سيبويه في حكايته عن أبي عمرو بين المتفقتين والمختلفتين، ألا ترى أنّه قال: وأما أهل الحجاز فمنهم من يقول آئنك وآأنت [المائدة/ 116]، ثم قال: وهي التي يختار أبو عمرو، فلم يفصل بينهما. وسيبويه وأبو زيد أضبط لمثل هذا من غيرهما.
من حجّته أن يقول: إنّي أدخلت الألف بينهما وإن جعلت الثاني بين بين، لأنّها إذا كانت على هذه الصفة فهي في حكم المتحرك، وتخفيفي إياها بأن جعلتها بين الألف والهمزة ليس يخرجها عن أن تكون همزة متحركة، وإن كان الصوت بها أضعف، ألا ترى أنّها إذا كانت مخفّفة في الوزن مثلها إذا كانت محققة؟ ولولا ذلك لم يتّزن قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/285]
أأن رأت رجلا أعشى
لأنّه كان يجتمع فيه ساكنان وكذلك قول الآخر:
كل غراء إذا ما برزت
ويدلّ على أنّ المخفّفة من الهمزتين في حكم المحقّقة عند العرب أنّهم أبدلوا الهمزة الثانية إبدالا في المواضع التي اجتمعت فيها همزتان في كلمة واحدة ولم يخفّفوا الثانية. وذلك نحو: آدم، وجاء، وخطايا. ألا ترى أن آدم لو كان قلبها فيه على حدّ القلب في رأس وفأس ورأي لكنت إذا كسّرته رددت الهمزة في التكسير، كما أنّك لو كسّرت فاسا وراسا ورايا لقلت: أرؤس وأرآء. فلو كنت في راي إذا خفّفت إنّما خففت على حد التخفيف في آدم لقلبت الهمزة في التكسير ياء أو واوا، فقلت: أرواء أو أرياء، ولكنت تقول إذا جمعت رايا على فعول رييّ فتقلبها ياء، كما قلبوها في أيمّة ياء لمّا تحركت
[الحجة للقراء السبعة: 1/286]
بالكسر، ألا ترى أنّك إذا قلبتها في ذئب وبئر ياء للكسرة التي قبلها، فكذلك تقلبها ياء في أيمّة للكسرة التي عليها. وقال أبو زيد في جمع رأي أرآء ورئيّ بتحقيق الهمز فيهما وأنشد غيره:
ولا يشارك في أرآئه أحدا
وقال الراعي في جمع نؤي:
وأنآء حيّ تحت عين مطيرة... عظام القباب ينزلون الروابيا
وكذلك الهمزة في رأيت جائيا لم تقلبها كما تقلبها في تخفيف المئر إذا قلت: مير، وإن اتفق اللفظتان كما اتفق اللفظ في بريّة وخطيّة، وإن كان بريّة قلبها للإبدال غير التخفيف، وقلب خطيّة للتخفيف، كما كان لفظها في رال وباس إذا خففت كلفظها في آدم، فكذلك قولك: رأيت جائيا وشائيا وسائيا ونائيا، لا يكون القلب فيه على حدّ مير وذيب. ولو كان كذلك لجعلتها بين بين إذا قلت مررت بجاء، كما أنّك لو قلت: مررت برجل جئز لجعلتها بين
[الحجة للقراء السبعة: 1/287]
بين، وجعلتها كذلك في موضع الرفع إذا قلت: هذا جاء في قول سيبويه الذي زعم أنّه قول العرب، والخليل، وقلبتها ياء في قول أبي الحسن، فقلت: جائي، فتحرّك الياء بالضمّ ولا تحذفها. فلمّا لم يكن على واحد من هذين الأمرين علمت أنّهم قلبوها قلبا. فلمّا لم يخفّفوا الهمزة في هذه المواضع التي ألزمت القلب فيها لاجتماع الهمزتين، ولكن قلبوها قلبا، علمنا أن المخفّفة التخفيف القياسي في حكم المحقّقة عندهم إذ رفضوا المخفّفة التي بين بين في المواضع التي أرينا، مع المحقّقة، كما رفضوا المحقّقتين. فإذا رفضوها رفضها لم يجز أن يجتمعا، كما لم يجز أن يجتمع المحقّقتان، وإذا لم يجز اجتماعهما مخفّفة الآخر منهما كما لم يجز اجتماعهما محقّقتين في (أأنذرتهم) لزم ألّا يجمع بينهما، ولا سبيل إلى ترك الجمع بينهما إلّا بأن تحذف إحداهما أو تقلب أو يفصل بينهما بالحاجز الذي هو الألف.
فلما لم يجز الحذف في واحد منهما ولا القلب لأنّه ليس من المواضع التي تقلب فيها الهمزة، ثبت وجوب الفصل بينهما بالألف، ووجب إلزام الفصل بينهما بها، إذ كان الجميع قد ألزموا الفصل بها بين الأمثال في قولهم: اخشينانّ، مع أن هذه الأمثال قد جمعوا بينهن في ردّد وشدّد وقضّض، وما أشبه ذلك.
[الحجة للقراء السبعة: 1/288]
فإذا ألزموا الفصل بها بين الأمثال التي لم يرفضوا الجمع بينها في نحو: ما ذكرنا فأن يلزموا الفصل بها بين ما رفضوا الجمع بينه من الهمزتين والهمزات أولى. وإذا كان كذلك ثبت أن أولى هذه الوجوه وأصحّها في مقاييس العربية الفصل بينهما بالألف. وإذا لزم الفصل ففصل خفّف الثانية على لغة أهل الحجاز، كما خفّفوها في نحو: هباءة وقراءة، ألا ترى أن الألف التي للفصل بمنزلة التي في هباءة، وأنّهم خفّفوا الهمزة المفتوحة بعدها، كما خفّفوا المكسورة والمضمومة بعدها في نحو المسائل وهذا جزاء زيد؟ وما رواه أبو زيد وسيبويه والعباس بن الفضل عن أبي عمرو من إلحاق الألف للفصل بين الهمزتين المختلفة حركتاهما، نحو: آأنزل وآألقى، كإلحاقه إياها بين الهمزتين المتّفقة حركتاهما؛ نحو (آأنذرتهم) أثبت في القياس من رواية من حكى عنه الفصل، ألا ترى أن هذه الألف إنما فصل بها كراهة لاجتماع الهمزتين، وأنّ الحركة الفاصلة بينهما، وهي حركة الهمزة الأولى سواء كان فتحة أو ضمة أو كسرة. فأمّا حركة الهمزة الثانية فبعد التقاء الهمزتين. فإذا كان كذلك فلا فصل بين (أأنذرتهم) وأ ألقي الذّكر [القمر/ 25] وأ إنّكم لتشهدون [الأنعام/ 19] من طريق القياس.
وإذا اختلفت الرواية وكان أحد الفريقين أضبط، وعضد الضبط والثبت القياس، وموافقة الأشباه، كان الأخذ بما جمع
[الحجة للقراء السبعة: 1/289]
هذين الوصفين أولى وأرجح. وما روي عن أبي عمرو من قوله: (آأنذرتهم) إنّما هو عندنا على الاستئناف دون الدرج.
ولو أدرج القراءة فقال: (سواء عليهم أأنذرتهم) لوجب في قياس قول أبي عمرو الذي حكاه عنه سيبويه أن يحذف الهمزة الأولى من (أأنذرتهم) لسكون ما قبلها، ويلقي حركتها على الميم، فإذا فعل ذلك لزم أن يحذف الألف التي كانت مجتلبة للفصل، ويخفّف الثانية، كما كان خفّفها وقد فصل بينها وبين الأولى بالألف، فيجعلها بين بين فيقول: (عليهم أأنذرتهم).
وكذلك قياس قوله في: (أإنّكم لتشهدون) أن يقول:
قل أإنكم لتشهدون [الأنعام/ 19] ألا ترى أنّك لو حذفت النون الأولى من اخشينانّ فقلت: اخشينّ يا هذه أو اخشينّ يا هذا لحذفت الألف، لزوال ما أردت الفصل بها بين النونات؟
فإن قلت: فكيف يستقيم له أن يحذف حرفا قد كان أثبته، فإنّ ذلك لا يمتنع فيما يلزم من حكم الوصل والوقف، ألا ترى أنّك إذا وصلت قوله فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته قلت: (فليؤد الذيتمن أمانته)؟ وإن شئت همزت فحذفت الياء من الذي وهمزة الوصل، وقلبت الواو التي كانت في قولك:
[الحجة للقراء السبعة: 1/290]
اؤتمن ياء أو همزة فهذا أكثر في التغيّر مما ذكرت لك من حذف الألف المجتلبة للفصل ولا خلاف في ذلك بين الناس، فكذلك حكم حذف الألف المجتلبة للفصل بين النونات إذا وصلت الهمزة الأولى بما قبلها من الساكن). [الحجة للقراء السبعة: 1/291]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (من ذلك قراءة [أَنْذَرْتَهُم] بهمزة واحدة من غير مدٍّ.
قال أبو الفتح: هذا مما لَا بُدَّ فيه أن يكون تقديره: {أأَنْذَرْتَهُم}، ثم حذف همزة الاستفهام تخفيفًا؛ لكراهة الهمزتين، ولأن قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} لَا بُدَّ أن يكون التسوية فيه بين شيئين أو أكثر من ذلك، ولمجيء "أم" من بعد ذلك أيضًا، وقد حُذفت هذه الهمزة في غير موضع من هذا الضرب، قال:
فأصبحتُ فيهم آمنًا لا كمعشرٍ ... أتوني فقالوا: مِن ربيعة أم مضر؟
فيمن قال: أم؛ أي: أمن ربيعة أم مضر؟
ومن أبيات الكتاب:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريا ... شعيثُ ابن سهم أم شعيث ابن مِنْقَر
وقال الكميت:
طربتُ وما شوقًا إلى البِيض أطرب ... ولا لَعِبًا مني وذو الشيب يلعب؟
قيل: أراد: أوذو الشيب يلعب؟
وقالوا في قول الله سبحانه: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائيلَ} أراد: أوتلك نعمة؟ وقال:
لعمرك ما أدري وإن كنتُ داريا ... بسبع رَمين الجمر أم بثمان؟
[المحتسب: 1/50]
يريد: أبسبع؟
وعلى كل حال فأخبرنا أبو علي قال: قال أبو بكر: حذف الحرف ليس بقياس؛ وذلك أن الحرف نائب عن الفعل وفاعله، ألا ترى أنك إذا قلت: ما قام زيد، فقد نابت "ما" عن "أَنفي"، كما نابت "إلا" عن "أَستثني"، وكما نابت الهمزة وهل عن أَستفهم، وكما نابت حروف العطف عن أَعطف، ونحو ذلك.
فلو ذهبتَ تحذف الحرف لكان ذلك اختصارًا، واختصار المختصر إجحاف به، إلا أنه إذا صح التوجه إليه جاز في بعض الأحوال حذفه؛ لقوة الدلالة عليه.
فإن قيل: فلعله حَذَف همزة [أَنْذَرْتَهُمْ] لمجيء همزة الاستفهام، فكان الحكم الطارئ على ما يشبه هذا من تعاقب ما لا يجمع بينه.
قيل: قد ثبت جواز حذف همزة الاستفهام على ما أرينا في غير هذا، فيجب أن يحمل هذا عليه أيضًا.
وأما همزة أفعل في الماضي، فما أبعد حذفها! فليكن العمل على ما تقدم بإذن الله). [المحتسب: 1/51]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}
قرأ نافع وأبو عمرو آنذرتهم آنت يهمزان ثمّ يمدان بعد الهمزة وتقدير هذا أن تدخل بين ألف الاستفهام وبين الهمزة الّتي بعدها ألفا ليبعد المثل عن المثل ويزول الاجتماع فيخف اللّفظ والأصل {أأنذرتهم} ثمّ تلين الهمزة في أنذرتهم
وحجتهما في ذلك أن العرب تستثقل الهمزة الواحدة فتخففها في أخف أحوالها وهي ساكنة نحو كاس فإذا كانت تخفف وهي وحدها فإن تخفف ومعها مثلها أولى
وقرأ ابن كثير أنذرتهم بهمزة واحدة غير مطوّلة ومذهبه أن يحقّق الأولى ويخفف الثّانية وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة {أأنذرتهم} أأنت بهمزتين وحجتهم في ذلك أن الهمزة حرف من حروف المعجم كغيره من سائر الحروف صحا بالجمع بينهما نحو ما يجتمع في الكلمة حرفان مثلان فيؤتى بكل واحد منهما صحيحا على جهته من غير تغيير كقوله {أتمدونن بمال} و{لعلّكم تتفكرون} ونظائر ذلك فلا يستثقل اجتماعهما بل يؤتى بكل واحد منهما فجعل الهمزتين كغيرها من سائر الحروف
[حجة القراءات: 86]
قرأ أبو عمرو والكسائيّ وورش على ابصارهم وقنطار ودينار بإمالة الألف وحجتهم في ذلك أن انتقال اللّسان من الألف إلى الكسرة بمنزلة النّازل من علو إلى هبوط فقربوا الألف فإمالتهم إيّاها من الكسر ليكون عمل اللّسان من جهة واحدة وقرأ الباقون أبصارهم بغير إمالة وحجتهم في ذلك أن باب الألف هو الفتح دون غيره وأن ما قبل الألف لا يكون أبدا إلّا مفتوحًا لأنّه تابع لها فتركوها على بابها من غير تغيير). [حجة القراءات: 87]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (3- {أَأَنْذَرْتَهُمْ} [آية/ 6].
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب –ح- بهمزتين من غير مدٍّ؛ لأن الأولى همزة [التسوية] والثانية همزة أفعل فقد جاء على الأصل. وإن استثقل اجتماع الهمزتين فإن المثل قد جاء مع مثله في حروف الحلق نحو: فههت وكععت، وقد استعمل في الهمزة نفسها ذلك نحو: رأس وسأل وإن كان قليلًا.
ويحسن هذه القراءة أن الهمزة الأولى غير لازمة للكلمة؛ لأنها همزة [التسوية]، وما لا يلزم الكلمة فهو بمنزلة ما لا يعتد به.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو و- يس- عن يعقوب بهمزةٍ واحدةٍ ممدودة.
وذلك أنهم خففوا الهمزة الثانية لاجتماع الهمزتين؛ لأن اجتماعهما مرفوضٌ في كثير من كلام العرب، ألا ترى أن: آدم، وآخر، وألزموا الثانية منهما البدل ألبتة، وجعلوا الكلمة كأنها لا أًل لها في الهمزة حيث جمعوها
[الموضح: 241]
على: أواخر، وحقروها على: أويخر، ولم يعيدوها إلى الأصل في الجمع والتحقير، كما أعادوا فيهما غيرها إلى الأصل نحو: ميقات ومواقيت ومويقيت.
وفي ذلك دليلٌ على رفضهم اجتماع الهمزتين.
وفي تخفيف الهمزة الثانية تقريبٌ لها من الساكن؛ لأن المخففة هاهنا تجري مجرى الألف، فكام لا يُكره الألف بعد الهمزة في نحو: آدم فكذلك المخفف.
ابن مجاهد عن أبي عمرو، و- ش- عن نافع، بإدخال ألفٍ بين الهمزتين وإن خففت الثانية؛ لأن الهمزة وإن كانت مخففة فهي في حكم المتحركة؛ لأن تخفيفها هو جعلها بين الألف والهمزة وليس يخرجها ذلك من أن تكون همزة متحركة، وإن كان الصوت بها أضعف، فكما أدخل الألف للفضل بين المثلين أو الأمثال نحو قوله:
4- هيا ظبية الوعساء بين جلاجلٍ = وبين النقا آأنت أم أمُّ سالم
[الموضح: 242]
وقولهم: اخشينا ونحوهما، فكذلك هاهنا بعد التخفيف). [الموضح: 243]
قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقول الله جلّ وعزّ: (وعلى أبصارهم غشاوةٌ)
اتفق القراء على "غشاوة" بالرفع، إلا ما روى الفضل عن عاصم (غشاوةً" نصبا.
قال أبو منصور: الرفع هي القراءة المختارة، ومن نصب فعلى إضمار فعل، كأنه قال: وجعل على أبصارهم غشاوةً، كما قال الشاعر:
[معاني القراءات وعللها: 1/131]
يا ليت زوجك قد غدا... متقلّداً سيفاً ورمحا
أراد: متقلدا سيفا وحاملا رمحا.
وأنشد الفراء:
علفتها تبناً وماءً بارداً... حتى شتت همّالةً عيناها
أراد: وسقيتها ماء باردا، يعني: فرسه.
وأما قول الله جلّ وعزّ في سورة الجاثية: (وجعل على بصره غشاوةً)
فإن حمزة والكسائي قرآ (غشوةً) بغير ألف مع فتح الغين، وقرأ الباقون: (غشاوةً) بألف مع كسر الغين، وكل ذلك جائز، والمعنى واحد، وهو: ما يغشى البصر من الظلمة). [معاني القراءات وعللها: 1/132]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (5- وقوله تعالى: {وعلى أبصارهم غشاوة}
قرأ أبو عمرو: {وعلى أبصارهم} ممالة، ونحوه إذا كان في موضع الجر نحو القنطار والدينار والأبرار والفجار والنار؛ وذلك أن الكسرة في آخر الاسم منخفضة والألف مستعلية فأمال أول الكلمة ليكون كآخرها.
وقرأ الباقون بالفتح على أصل الكلمة.
وقد تابعه الكسائي في (الأشرار) و(الأبرار) وما تكررت فيه الراء.
فإن سأل سائل: لم أمال أبو عمرو {أصحاب النار} ولم يُمل
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/60]
{الجار الجنب} وألفهما منقلبتان من الواو ووزنهما سيان، والأصل فيهما نور، جور فقلبوا من الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها؟
فالجواب في ذلك أن النار كثر دورها في القرآن فأماله تخفيفًا، والجار لما قل دوره في القرآن تركه على أصله، والدليل على ذلك أن أبا عمرو يميل {الكافرين} في موضع الجر والنصب لكثرة دوره في القرآن ولا يميل {الجبرين} في موضع النصب؛ لأنه في القرآن في موضعين {إن فيها قوما جبارين} {وإذا بطشتم بطشتم جبارين}.
6- وقوله تعالى {غشاوة}.
قرأ عاصم في رواية المفضل {وعلى أبصارهم غشاوة} بالنصب وقرأ الباقون {غشاوة} بالرفع، فمن نصب أضمر فعلا، والتقدير: ختم الله على قلوبهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، كما قال الله تعالى في (الجاثية): {وجعل على بصره غشاوة} والعرب تضمر الفعل إذا كان في الكلام دليل، قال الشاعر:
سقوا جارك الغيمان لما جفوته = وقلص عن برد الشراب مشافره
سنامًا ومحضا أنبتا اللحم فاكتست = عظام أمرئ ما كان يشبع طائره
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/61]
فالتقدير: سقوا جارك لبنًا وأطعموه سنامًا؛ لأن السنام لا يُسقى، وقال آخر:
ورأيت زوجك في الوغى = متقلدا سيفا ورمحا
معناه: حاملاً رمحًا؛ لأن الرمح لا يتقلد، قال الله تعالى: {يا جبال أوبي معه والطير} بالنصب كذلك قرأ الأعرج على تقدير: وسخرنا الطير.
ومن رفع {غشاوة} فجعله ابتداء و{على} خبره والتقدير: غشاوة على أبصارهم: كقولك: زيد في الدار، وعلى أبيك ثوب، وثوب على أبيك. والغشاوة: الغطاء قال الشاعر:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/62]
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة = فلما انجلت قطعت نفسي ألومها). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/63]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله
قوله تبارك وتعالى: غشاوةٌ في سورة البقرة. [الآية/ 7]
قرءوا كلهم رفعا، إلّا أنّ المفضل الضبيّ روى عن عاصم (وعلى أبصارهم غشاوة) بالنصب.
قال أبو علي: قالوا: ختم على كذا يختم، قال تعالى: فإن يشإ اللّه يختم على قلبك [الشورى/ 24] وقال: اليوم نختم على أفواههم [يس/ 65] والمصدر الختم. وقالوا طبع عليه بمعنى ختم عليه. وقد قالوا: طبعه فعدّي بلا حرف. ولا يمتنع ذلك في القياس في ختم، قال:
كأنّ قرادي زوره طبعتهما... بطين من الجولان كتّاب أعجما
وقد روي عن الحسن في قوله تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/291]
من رحيقٍ مختومٍ ختامه مسكٌ [المطففين/ 25]. أنّه قال مقطعه مسك.
وأظنّ أبا عبيدة اعتبر ما روي عن الحسن في تفسير الآية، لأنّه قال في قوله: يسقون من رحيقٍ مختومٍ: له ختام، أي: عاقبة ختامه مسك، أي: عاقبته، وأنشد لابن مقبل:
مما يفتّق في الحانوت ناطفها... بالفلفل الجون والرمان مختوم
فتأوّل الختام على العاقبة ليس على الختم الذي هو الطبع. وهذا قول الحسن: مقطعه مسك.
ولا يستقيم أن يتأوّل المختوم في الآية في صفة الرحيق على معنى الختم الذي هو الطبع لقوله: وأنهارٌ من خمرٍ لذّةٍ للشّاربين [محمد/ 15] وقال: يطوف عليهم ولدانٌ مخلّدون بأكوابٍ وأباريق وكأسٍ من معينٍ [الواقعة/ 17] وقال: يطاف عليهم بكأسٍ من معينٍ بيضاء لذّةٍ للشّاربين [الصافات/ 46] فقوله: (بيضاء) مثل قوله: قواريرا قواريرا من فضة [الإنسان/ 15 - 16] أي: قوارير كأنّها في بياضها من
[الحجة للقراء السبعة: 1/292]
فضة. فهذا على التشبيه لا على أن القوارير من فضة قال:
حلبانة ركبانة صفوف... تخلط بين وبر وصوف
أي: كأن يديها في إسراعها في السير يدا خالطة وبرا بصوف، فالمعنى على التشبيه وإن لم يذكر حرفه.
وقال:
فهنّ إضاء صافيات الغلائل
ومثل قوله تعالى: ختامه مسكٌ [المطففين/ 26] قوله تعالى: كان مزاجها كافوراً [الإنسان/ 5] المعنى فيها أنّها في طيب الرائحة وسطوعها، وأرجها كأرج المسك والكافور.
[الحجة للقراء السبعة: 1/293]
فأمّا قوله: كان مزاجها زنجبيلًا [الإنسان/ 17] فإنّه يدلّ على لذاذة المطعم، لأنّ الزنجبيل يحذي اللسان.
وزعموا: أنّ ذلك من أجود الأوصاف للخمر عند العرب، قال الأعشى:
معتقة قهوة مزّة
ومثل تشبيهها بالزنجبيل في الآية للذاذة المطعم قوله:
كأن القرنفل والزنجبي... ل باتا بفيها وأريا مشورا
فهذا يريد به طيب الطعم، لذكره مع ما يطعم، ويدلّ على أنّهم يقصدون ما يحذي اللسان بالوصف بطيب الطعم قول ابن مقبل:
........ ناطفها... بالفلفل الجون والرّمان مختوم
فأمّا قوله تعالى: ولكن رسول اللّه وخاتم النّبيّين [الأحزاب/ 40] فخاتم اسم فاعل من ختمهم أي صار آخرهم.
والأحسن أن تجعله اسم فاعل ماض ليكون معرفة، لأن قبله
[الحجة للقراء السبعة: 1/294]
معرفة، وحكم المعطوف أن يكون مشاكلا للمعطوف عليه.
وقد يجوز أن ينوى بالانفصال، وإن كان ذلك فيما مضى، على أن يحكى الحال التي كان عليها، وإن كانت القصّة فيما مضى؛ كقوله تعالى: وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد [الكهف/ 18] فحكى ما كان. وروي أن الحسن قرأ:
(وخاتم النبيين) كأنّه جعل النبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي ختم به. فأمّا قول الشاعر:
إذا فضّت خواتمها وفكّت... يقال لها دم الودج الذبيح
فليس تخلو الخواتم من أحد أمرين، إما أن تكون جمع الخاتم الملبوس، أو تكون جمع المصدر. فإن كان جمع الملبوس فقد حذف المضاف من الكلام، والتقدير: إذا فض ختم خواتمها، وأضيفت الخواتم إليها لما كان من الختم عليها بها، ولحقت علامة التأنيث لأنّ القصد، وإن كان للختم في المعنى، فقد جرى في اللفظ على الخواتم، فلحقت العلامة لذلك.
وإن كان جمع المصدر فليس يخلو من أن يكون للختم أو للختام. فإن كان جمعا للختام كان بمنزلة قولهم للجزاء الجوازي، قال الحطيئة:
[الحجة للقراء السبعة: 1/295]
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقالوا في جمع اليعار: اليواعر قال:
لها بين جرس الراعيين يواعر
وفي جمع الدخان: الدواخن، فكذلك تكون الخواتم إذا كان جمع الختام. وإن كان جمع ختم فقد قالوا: حرّة وحرائر، وكنّة وكنائن. وقالوا: مشابه في جمع شبه، وملامح في جمع لمحة. فجمع ختم على خواتم أسهل، لأن فواعل إنما هو جمع فاعل، وفاعل قد جاء في المصادر، مثل العاقبة والعافية وما باليت به بالة، والفالج، وفي حروف أخر.
فإن كان الخواتم جمع المصدر كان الكلام على ظاهره، وكان المفضوض هو الخواتم أنفسها، من حيث كان جمع ختم، لا المضاف المحذوف.
[الحجة للقراء السبعة: 1/296]
فأمّا قوله:
يقال لها دم الودج الذبيح
فوصف الدم بالذبيح، فليس يريد بالذبيح المذبوح الذي تفرى أوداجه وينهر دمه، وإنما أراد بالذبيح: المذبوح، أي المشقوق، كما قال:
نام الخليّ وبتّ الليل مشتجرا... كأنّ عينيّ فيها الصّاب مذبوح
أي: مشقوق.
وكذلك قول الآخر:
فارة مسك ذبحت في سكّ
أي: شقّت وقالوا: أخذه الذّباح، وهو- فيما زعموا- تشقّق يكون في أظفار الأحداث أو أصابعهم. فالذبح: الشقّ.
وقيل لما يذكي الذبيحة: ذبح، لأنّه ضرب من الشقّ، فقالوا:
[الحجة للقراء السبعة: 1/297]
ذبحت الشاة. وذبحت البقرة. وقالوا في الإبل: نحرت، لمّا كانت توجأ في نحورها. فوصف الدم بأنّه ذبيح، والمعنى أن الدم مذبوح له، كما أن قوله: بدمٍ كذبٍ [يوسف/ 18] معناه: مكذوب فيه، وليل نائم أي: ينام فيه، وكذلك نهار صائم. فأمّا قول الفرزدق:
فبتن بجانبيّ مصرّعات... وبتّ أفض أغلاق الختام
فكأنه من المقلوب، أي: أفض ختام الأغلاق، ألا ترى أنّ الأغلاق والأقفال المختوم عليها إنّما يفضّ الختم الذي عليها، والفضّ إنّما هو تفريق أجزاء الختم، وتفريق غيره، وفي التنزيل: حتّى ينفضّوا [المنافقون/ 7] أي يتفرقوا فيبقى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلا أنصار ولا أتباع.
والختام في بيت الفرزدق لا يخلو من أن يكون واحدا أو جمعا. فأمّا الذي في الآية فقد تأوله أبو عبيدة على أنه واحد.
فإن قلت: إنه في البيت جمع ختم، لأن لكل غلق ختما فجمع الختم، فهو قول، لأن المصادر قد تجمع، كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 1/298]
هل من حلوم لأقوام فتنذرهم
وتقول إن الختام الذي تأوله أبو عبيدة على أنه مفرد إنّما هو في خاتمة الشيء الذي هو آخره وخلاف فاتحته، والختم الذي يعني به الطبع معنى غيره، فليس يلزم إذا أفرد ذاك أن يفرد هذا أيضا. وقال الأعشى:
وتترك أموال عليها الخواتم هو على ضربين يجوز أن يكون عليها نقش الخواتم فحذف، ويمكن أن يكون جمع ختما على الخواتم، كما جمع الهجر على الهواجر وقال:
مقيم على قول الخنا والهواجر
[الحجة للقراء السبعة: 1/299]
وأما الغشاوة فلم أسمع منه فعلا مصرّفا بالواو. فإذا لم نعلم منه ذلك وكان معناها معنى ما اللام منه الياء من غشي يغشى بدلالة قولهم: الغشيان. ومعناه ما غطّى الشيء وعلاه فغمره وستره، كقوله تعالى، فغشيهم من اليمّ ما غشيهم [طه/ 78] وإذ يغشّيكم النّعاس [الأنفال/ 11] وو استغشوا ثيابهم [نوح/ 7] والمؤتفكة أهوى، فغشّاها ما غشّى [النجم/ 53، 54]. وقال الأعشى:
وولّى عمير وهو كاب كأنّما... يطلّى بورس أو يغشّى بعظلم
فالغشاوة من الغشيان كالجباوة من جبيت في أنّ الواو كأنّها بدل من الياء، إذ لم يصرّف منه فعل، كما لم يصرّف من الجباوة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/300]
قال سيبويه قالوا: غشيته غشيانا كالحرمان. وإن شئت قلت: إن غشي يغشى مثل رضي يرضى، ولام الكلمة الواو بدلالة غشاوة وغشوة. ويكون الغشيان كعليان ودنيا ونحو ذلك.
وقوله تعالى: وعلى أبصارهم غشاوةٌ [البقرة/ 7] في المعنى مثل: صمٌّ بكمٌ عميٌ [البقرة/ 18] وكذلك قوله تعالى:
صمٌّ وبكمٌ في الظّلمات [الأنعام/ 39] لأنّ وصف البصر بالكون في الظلمات بمنزلة الوصف بالعمى. وكذلك، وصفه بكون الغشاوة عليه، لأنّه في هذه الأحوال كلّها لا يصحّ به إبصار. فقوله: في الظلمات متعلق بمحذوف.
وروي لنا عن الكسائي: غشاوة وغشاوة وغشاوة، وعن غيره.
ويذهب قوم من المتأوّلين إلى أنّ معنى: ختم اللّه على قلوبهم [البقرة/ 7] ختم عليها بأن طبع عليها ووسمها سمة تدل على أن فيها الكفر، ليعرفهم من يشاهدهم من الملائكة بهذه السمة، ويفرقوا بينهم وبين المؤمنين الذين في قلوبهم الشّرح والطمأنينة اللذان وصفوا بهما في قوله تعالى: أفمن شرح اللّه صدره للإسلام [الزمر/ 22]. وقوله: الّذين آمنوا وتطمئنّ قلوبهم بذكر اللّه [الرعد/ 28].
والختم والطبع واحد، وهما سمة وعلامة في قلب المطبوع على قلبه. وكما ختم على قلب الكافر وطبع فوسم بسمة تعرف بها الملائكة كفره كذلك وسم قلوب المؤمنين
[الحجة للقراء السبعة: 1/301]
بسمات تعرفهم الملائكة بها كما عرفوا بها الكافر. ومن ثمّ قال بعض المتأوّلين في قوله تعالى: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا [الكهف/ 28] أي: لم نسم قلبه بما نسم به قلوب الذاكرين لله، لأنّ الله تعالى وسم قلوب الذاكرين بسمات تبيّن لمن شاهدها من الملائكة أنّهم مؤمنون، كما قال: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان [المجادلة/ 22] أي علامته، فإذا لم يسمهم بهذه السّمة فقد أغفلهم.
ومثل ما تأولوا في هذا من أنّه علامة يعرف بها الكافر من المؤمن مناولة الكتاب باليمين وبالشّمال، في أنّ المناولة باليمين علامة أن المناول باليمين من أهل الجنة،
والمناول بالشّمال من أهل النار. وقوله: بل طبع اللّه عليها بكفرهم [النساء/ 155] يحتمل أمرين أي طبع عليها وختم جزاء للكفر وعقوبة عليه، كقوله:
نزائع مقذوفا على سرواتها... بما لم تخالسها الغزاة وتركب
وكقولهم: «بما لا أخشى بالذئب» فيمكن أن يكون
[الحجة للقراء السبعة: 1/302]
قوله: بل طبع الله عليها بكفرهم، أي طبع عليها بعلامة كفرهم، كما تقول: طبع عليه بالطين، وختم عليه بالشمع.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ [البقرة/ 7] وصفا للذي ذمّ بهذا الكلام بأن قلبه ضاق عن قبول الحكمة والإسلام والاستدلال على توحيد الله تعالى وقبول شرائع أنبيائه عليهم السلام فلم ينشرح له ولم يتّسع لقبوله، فهو خلاف من ذكر في قوله تعالى: أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربّه [الزمر/ 22].
ومثل ذلك قوله تعالى: أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها [محمد/ 24] ومثله: وقالوا قلوبنا في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليه وفي آذاننا وقرٌ ومن بيننا وبينك حجابٌ [فصلت/ 5] ومن ذلك قوله: وقالوا قلوبنا غلفٌ [البقرة/ 88] إنّما هو جمع أغلف، أي في غلاف كقوله: قلوبنا في أكنّةٍ، ولقد ذرأنا لجهنّم كثيراً من الجنّ والإنس لهم قلوبٌ [الأعراف/ 179] ويقوّي ذلك أن المطبوع على قلبه وصف بقلة الفهم بما يسمع من أجل الطبع، فقال: بل طبع اللّه عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلّا قليلًا [النساء/ 155] وقال: وطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون [التوبة/ 87].
ومما يبيّن ذلك قوله تعالى: قل أرأيتم إن أخذ اللّه سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم [الأنعام/ 46] فعدل الختم على
[الحجة للقراء السبعة: 1/303]
القلوب بأخذه السمع والبصر، فدلّ هذا على أنّ الختم على القلب هو أن يصير على وصف لا ينتفع به فيما يحتاج فيه إليه، كما لا ينتفع بالسمع والبصر مع أخذهما، وإنّما يكون ضيقه بألّا يتّسع لما يحتاج إليه من النظر والاستدلال الفاصل بين الحقّ والباطل. ومن ذلك قوله تعالى: ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصّعّد في السّماء [الأنعام/ 125] فهذا كلام كالمثل، أي: من يستحقّ الإضلال عن الثواب يجعل صدره ضيّقا في نهاية الضيق لما كان القلب محلا للعلوم والاعتقادات بدلالة قوله تعالى: لهم قلوبٌ لا يفقهون بها [الأعراف/ 179] [فوصفه] بالضيق وأنّه على خلاف الشرح والانفساح دلّ أنّه لا يعي علما ولا يستدلّ على ما أريد له ودعي إليه، كما وصف الجبان بأنّه لا قلب له، لمّا أريد به المبالغة في وصفه بالجبن، لأنّ الشجاعة محلها القلب، فإذا لم يكن القلب الذي يكون محلّ الشجاعة لو كانت فألّا تكون الشجاعة أولى.
ومن ثمّ قالوا في النعامة: جؤجؤه هواء، أي ذو هواء، فهو فارغ من القلب، فهذا كما وصفوها بالشّراد لجبنها فقال:
[الحجة للقراء السبعة: 1/304]
وأشرد بالوقيط من النّعام وقال:
أسد عليّ وفي الحروب نعامة... ربداء تجفل من صفير الصافر
وقال:
فالهبيت لا فؤاد له... والثّبيت ثبته فهمه
وأنشد أبو زيد:
لقد أعجبتموني من جسوم... وأسلحة ولكن لا فؤادا
[الحجة للقراء السبعة: 1/305]
وقال:
حار بن كعب ألا أحلام تزجركم... عنّا وأنتم من الجوف الجماخير
وأنشد أبو زيد:
ولا وقّافة والخيل تردي... ولا خال كأنبوب اليراع
وقال الراعي:
وغدوا بصكهم وأحدب أسأرت... منه السياط يراعة إجفيلا
[الحجة للقراء السبعة: 1/306]
فكما وصف الجبان بأنّه لا قلب له، وأنّه مجوّف وأنّه يراعة، لأنّه إذا كان كذلك بعد من الشجاعة، ومن الفهم لعدمه القلب، كذلك وصف من بعد عن قبول الإسلام بعد الدعاء إليه وإقامة الحجّة عليه بأنّه مطبوع على قلبه، وضيّق صدره، وقلبه في كنان، وفي غلاف.
قال أبو زيد: قالوا: رجل مفئود للجبان، وخلاف ما ذكره أبو زيد: رجل مشيّع للشجاع. فهذا إمّا أن يكون أريد:
يشيّع قلبه، أي: ليس بمصاب في فؤاده، وإمّا أن يكون معه من نفسه شيعة يثبّتونه.
وأمّا قوله تعالى: كأنّما يصّعّد في السّماء [الأنعام/ 125] فالمعنى: أن هذا الضيّق الصدر عن الإسلام نهاية الضيق إذا دعي إلى الإسلام، من ضيق صدره منه ونفوره عنه، وعن استماع الحكمة، كأنّه يراد على ما لا يقدر عليه من مصعد في السماء، أو حمل على ما يشبهه من الامتناع.
وروي عن ابن مسعود
أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل
[الحجة للقراء السبعة: 1/307]
ينشرح الصدر؟ قال: نعم، يدخل القلب النور. فقال ابن مسعود: وهل لذلك علامة؟ قال: نعم. التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والاستعداد للموت قبل الموت»
فقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لابن مسعود: يدخله النور كما في الآية من قوله تعالى: أفمن شرح اللّه صدره للإسلام فهو على نورٍ من ربّه [الزمر/ 22].
وقد روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: اللّه نور السّماوات والأرض مثل نوره [النور/ 35] قال: مثل نوره الذي أعطاه المؤمن كمشكاة، والمشكاة كوّة فيها مصباح. وقوله: نورٌ على نورٍ [النور/ 35]
[الحجة للقراء السبعة: 1/308]
قال: مثل قلب المؤمن نور على نور يشرح صدره للإسلام.
وقال أبو الحسن: ختم اللّه على قلوبهم لأنّ ذلك كان لعصيانهم الله تعالى، فجاز ذلك اللفظ، كما يقال: أهلكته فلانة إذا أعجب بها وهي لا تفعل به شيئا، لأنّه هلك في
اتباعها، أو يكون ختم: حكم أنّها مختوم عليها. وكذلك فزادهم اللّه مرضاً [البقرة/ 10] على ذا التفسير والله أعلم.
الإعراب
حجّة من رفع فقال: وعلى أبصارهم غشاوة: أنّه رأى الغشاوة لم تحمل على (ختم) ألا ترى أنّه قد جاء في الأخرى:
وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً [الجاثية/ 23] فكما لم تحمل في هذه على (ختم) كذلك لا تحمل في هذه التي في مسألتنا. فإذا لم يحملها على (ختم) قطعها عنه، وإذا قطعها عن (ختم) كانت مرفوعة إمّا بالظرف، وإمّا بالابتداء.
وأمّا إذا نصب فلا يخلو في نصبها من أن يحملها على (ختم) هذا الظاهر، أو على فعل آخر غيره. فإن قال:
أحملها على الظاهر كأني قلت: وختم على قلبه غشاوة، أي بغشاوة، فلمّا حذف الحرف وصل الفعل، ومعنى: ختم عليه بغشاوة مثل: جعل على بصره غشاوة، ألا ترى أنّه إذا ختمها بالغشاوة فقد جعلها فيها. واستدلّ على جواز حمل غشاوة على (ختم) هذا الظاهر، بقوله تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/309]
أولئك الّذين طبع اللّه على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم [النحل/ 108] فقال: طبع في المعنى كختم، وقد حملت الأبصار على (طبع) فكذلك تحمل على ختم.
قيل: لا يحسن ذلك، لأنّك تفصل بين حرف العطف والمعطوف به، وهذا عندنا إنّما يجوز في الشعر، ولا يختلفون أنّ ذلك في المعطوف على المجرور قبيح، والمنصوب والمرفوع بمنزلته في القياس، ألا ترى أنّ حرف العطف في المجرور ليس هو الجارّ، إنّما هو يشرك فيه، وكذلك في المرفوع والمنصوب ليس هو الرافع ولا الناصب، إنّما يشرك فيهما. فإنّما قبح الفصل فيهما لأنّ ما يقوم مقامهما لا يتّسع فيه الاتساع الذي في الأصل، ألا ترى أنهم لم يتّسعوا في إنّ وأخواتها اتساعهم في الفعل، ولم يتّسع في الظروف، ولا في الأسماء المسمّى بها الأفعال اتساعهم في الفعل، ولا في الصفات المشبّهة بأسماء الفاعلين اتّساعهم في أسماء الفاعلين، ولا في عشرين اتّساعهم في ضاربين وحسنين، فكذلك لا يتّسع في حرف العطف الذي يشرك فيما يعطف عليه اتّساعهم في نفس المعطوف عليه.
وقد ذهب إلى التسوية بين الجارّ وبين الناصب والرافع في العطف الكسائيّ والفراء. وقد جاء هذا الفصل في الشعر، أنشد أبو زيد:
[الحجة للقراء السبعة: 1/310]
أتعرف أم لا رسم دار معطّلا... من العام تغشاه ومن عام أوّلا
قطار وتارات خريق كأنّها... مضلّة بوّ في رعيل تعجّلا
وقال:
... وآونة أثالا فإن قال: لا أعطفه على هذا الفعل الظاهر الذي هو (ختم) ولكني أحمله على فعل أضمره، فأضمر: وجعل، ويكون ذلك بمنزلة الظاهر لدلالة ما تقدم عليه فإن هذا أيضا ليس بالسهل ألا ترى أن مثل:
متقلدا سيفا ورمحا
[الحجة للقراء السبعة: 1/311]
و: شرّاب ألبان وتمر وأقط و: علفتها تبنا وماء باردا لا تكاد تجده في حال سعة واختيار فإذا كان النصب تعترض فيه هذه الأشياء فلا نظر في أن الرفع أحسن والقراءة به أولى، وتكون الواو عاطفة جملة على جملة). [الحجة للقراء السبعة: 1/312]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({والّذين يؤمنون بما أنزل إليك} {وعلى أبصارهم غشاوة}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (بما أنزل إليك) و(على أبصارهم) لا يمدون حرفا لحرف وهو أن تكون المدّة من كلمة والهمزة من أخرى وحجتهم في ذلك أنهم أرادوا الفرق بين ما المدّة فيه لازمة لا تزول بحال وبين ما هي فيه عارضة قد تزول في بعض الأحوال نحو بما أنزل إليك فإنّها تزول عند الوقف والّتي لا تزول نحو دعاء ونداء وبناء وسماء فجعلوا ذلك فرقا بينهما
وقرأ ابن عامر والكسائيّ مدا وسطا ومد حمزة وعاصم مدا
[حجة القراءات: 85]
مفرطا وحجتهم في ذلك أن المدّ إنّما وجب عند استقبال الهمزة سواء كانت الهمزة من نفس الكلمة أو من الأخرى إذا التقتا لأنّه لا فرق في اللّفظ بينهما). [حجة القراءات: 86] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (4- {غِشَاوَةً} [آية/ 7]:
اتفق القراء على الرفع من "غشاوة"، وروى المفضل الضبي عن عاصم بالنصب.
فالرفع على أن الكلمة مقطوعة عن الفعل المتقدم الذي هو: {خَتَمَ} ومرفوعة بالابتداء، وخبرُها ما تقدم عليها من الجار والمجرور وهو قوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ}، ويجوز أن يكون مرتفعًا بالجار والمجرور على مذهب الأخفش كأنه قال: وعلى أبصارهم استقرّ غشاوة.
وأما النصب فيه فيجوز أن يكون لكونه محمولًا على {خَتَمَ} مع تقدير حرف الجر كأنه قال: وختم على أبصارهم غشاوة أي بغشاوة، فحذف الجار وأوصل الفعل بنفسه، وهذا فيه قبحٌ؛ لأنك تفصل بين حرف العطف والمعطوف به، ويجوز أن يكون محمولًا على فعلٍ مضمرٍ يدلّ عليه الفعل
[الموضح: 243]
المتقدم وهو "خَتَمَ" فيكون تقديره: خَتَمَ الله على قلوبهم وعلى سمعهم وجعل على أبصارهم غشاوة، كما قال القائل:
5- يا ليت زوجك قد غدا = متقلدًا سيفًا ورُمحا
وقال آخر:
6- شراب ألبانٍ وتمر وأقط
وهذا فيه أيضًا ضعف؛ لقلته في حال السعة؛ ولأن أكثر ما يجيء من ذلك إنما هو في الشعر، فلهذا كان الرفع أقوى). [الموضح: 244]
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (7- قوله تعالى: {ومن الناس من يقول آمنا بالله}.
قرأ حمزة والكسائي {من يقول} بإدغام النون في الياء من غير غنة.
والباقون يدغمون بغنة، وذلك أن النون الخفيفة الساكنة والتنوين تظهران عند ستة أحرف، ويدغمان عند ستة، ويخفيان عند باقي حروف المعجم. فالأحرف الستة اللواتي تظر «ن» عندهن هي حروف الحلق: الهمزة والهاء والعين والحاء والخاء والغين، واللواتي تدغمان عندهن الياء، وقد ذكرته واللام بغير غنة نحو: {هدى للمتقين} والراء بغير غنة نحو: {من ربهم} والواو بغير غنة في قراءة حمزة وحده، والباقون بغنة نحو {غشاوة ولهم} و{مالهم من دونه من وال} وعند الميم بغنة لا غير نحو {عم يتساءلون} وعند النون مثلها بغنة لاغ نحو: {خلقتين من نار} {فما له من نور} ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/63]
قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله تعالى: (يخادعون اللّه والّذين آمنوا وما يخدعون إلّا أنفسهم)
لم يختلف القراء في الأولى إنه بألف.
واختلفوا في الثانية فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (ما يخادعون) بألف. وقرأ الباقون: (وما يخدعون) بغير ألف، مع فتح الياء.
قال أبو منصور: من قرأ: (وما يخادعون إلا أنفسهم) جعل الخداع من واحد وإن كان على (مفاعلة)، ومثله قولهم: (عاقبت اللص) و(عافاه الله) و(طارقت النغل) و(قاتله الله)، في حروف كثيرة جاءت للواحد.
ومن قرأ: (وما يخادعون) فلا سؤال فيه.
وقال شمر في قول الشاعر:
وخالف المجد أقوامٌ لهم ورقٌ... راح العضاة به والعرق مدخول
قال: معنى خادع المجد: تركه). [معاني القراءات وعللها: 1/133]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (8- وقوله تعالى: {وما يخدعون إلا أنفسهم}.
قرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو: {يخادعون} بالألف. وقرأ الباقون بغير الألف.
وحدثني أبو بكر بن الأعرابي قال: حدثنا المبرد رحمه الله قال: يخدعون
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/63]
ويخادعون المعنيان متقاربان، غير أن يخادعون بالألف الاختيار؛ لتُعطف لفظة على شكلها.
واختلف الناس في {يخادعون} فقال أبو عبيدة: يفاعلون وفاعلت فعل من اثنين. وربما جاء الواحد كقولهم: طارقت النعل وعافاك الله من ذاك، ومن ذلك: قاتلهم الله أي: قتلهم الله، ويخادعون بمعنى: يخدعون. وقال أكثر أهل النحو: فاعلت لا يكون إلا من اثنين، فمخادعة الله إياهم أن يجازيهم جزاء خدعهم كما قال: {نسوا الله فنسيهم}.
حدثني أبو بكر بن الأعرابي، عن المبرد رضي الله عنهما أن مؤرقا العجلي قرأ: {وما يخدعون إلا أنفسهم} وكان مورق أسد الناس.
حدثنا ابن عرفة قال: حدثني محمد بن يونس عن سعيد بن عامر قال: حدثنا موسى الخلقاني قال: كان مؤرق العجلي يجيء بالصرة إلى الرجل فيقول: إذا نفدت أمددناك، وكان يودع الصرة الإنسان ثم يجيء فقول: أنت في حل.
ويقال: خدعت العين: نامت، و«بين يدي الدجال سنون خداعة» أي: ناقصة النماء والزكاء. وخدع الريق: نقص وتغير، وذلك أنه إذا نقص خثر؛ أي: غلظ، وإذا خثر جف وتغير، وبذلك يخلف فم الصائم، قال سويد:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/64]
أبيض اللون لذيذًا طعمه = طيب الريح إذا الريق خدع). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/65]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله
اختلفوا في ضم الياء وفتحها وإدخال الألف في قوله جلّ وعزّ: يخادعون [البقرة/ 9].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (يخادعون... وما يخادعون) بالألف فيهما.
[الحجة للقراء السبعة: 1/312]
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ (يخادعون...
وما يخدعون) بفتح الياء بغير ألف.
قال أبو علي: قال أبو زيد: خدعت الرجل أخدعه خدعا، الخاء كسر، وخديعة. قال: وقالوا: «إنك لأخدع من ضبّ حرشته»..
وقال أبو زيد أيضا يقال: «لأنا أخدع من ضبّ حرشته»، وقد حرش الرجل الضبّ يحرشه حرشا: إذا مسح بيده على فم جحره يتسمّع الصوت، فربما أقبل وهو يرى أنّ ذلك حية، وربّما أروح ريح الإنسان، فخدع في جحره يخدع خدعا: إذا رجع في الجحر فذهب ولم يخرج.
وقال أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابيّ: الخادع: الفاسد من الطعام ومن كلّ شيء، وأنشد:
أبيض اللون لذيذ طعمه... طيّب الريق إذا الريق خدع
[الحجة للقراء السبعة: 1/313]
خدع: فسد وتغيّر.
وقال أبو عبيدة: يخادعون اللّه [البقرة/ 9] يخدعون، وأنشد أبو زيد:
وخادعت المنيّة عنك سرّا... فلا جزع الأوان ولا رواعا
وقال أبو عبيدة أيضا: يخادعون الله والذين آمنوا فيما يظهرون: مما يستخفون خلافه.
قال الله تعالى: وما يخادعون إلا أنفسهم [البقرة/ 9] إنما تقع الخديعة بهم والهلكة.
والعرب تقول: خادعت فلانا إذا كنت تخادعه، وخدعته إذا ظفرت به.
قال بعض المتأولين أظنّه الحسن قال: (يخادعون الله) وإن خادعوا نبيه لأن الله تعالى بعث نبيّه بدينه، فمن أطاعه فقد أطاع الله (تعالى) كما قال: من يطع الرّسول فقد أطاع اللّه [النساء/ 80]
[الحجة للقراء السبعة: 1/314]
وقال: إنّ الّذين يبايعونك إنّما يبايعون اللّه [الفتح/ 10] فعلى هذا من خادعه فقد خادع الله.
فقد ذهب هذا المتأوّل إلى أن معنى يخادعون الله:
يخادعون نبيّه صلّى الله عليه وسلّم وفي تأويله تقوية لقول أبي عبيدة:
يخادعون: يخدعون، ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى: وإن يريدوا أن يخدعوك فإنّ حسبك اللّه [الأنفال/ 62] فجاء المثال على يفعل.
ومثل قوله: (يخادعون اللّه) في إرادة مضاف محذوف على قول من ذكرناه قوله تعالى: إنّ الّذين يؤذون اللّه ورسوله [الأحزاب/ 57] التقدير يؤذون أولياء الله، لأنّ الأذى لا يصل إلى الله (سبحانه) كما أن الخداع لا يجوز عليه، فهي مثل قوله: والّذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا [الأحزاب/ 58] وفيما أنشده أبو زيد دلالة على صحة تفسير أبي عبيدة أنّ يخادعون: يخدعون، ألا ترى أنّ المنية لا يكون منها خداع كما لا يكون من الله- سبحانه- ولا من رسوله؟ فكذلك قوله: وما يخادعون إلا أنفسهم [البقرة/ 9] يكون على لفظ فاعل وإن لم يكن الفعل إلا من واحد كما كان الأول كذلك. وإذا كانوا قد استجازوا لتشاكل الألفاظ وتشابهها أن يجروا
[الحجة للقراء السبعة: 1/315]
على الثاني طلبا للتشاكل ما لا يصح في المعنى على الحقيقة، فأن يلزم ذلك ويحافظ عليه فيما يصح في المعنى أجدر وأولى، وذلك نحو قوله:
ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وفي التنزيل: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم [البقرة/ 194] والثاني قصاص وليس بعدوان، وكذلك وجزاء سيّئةٍ سيّئةٌ مثلها [الشورى/ 40] وقوله:
فيسخرون منهم سخر اللّه منهم [التوبة/ 79] ونحو ذلك. فأن يلزم التشاكل في اللفظ مع صحة المعنى أولى.
ومما يؤكد ذلك قوله:
من العين الحير وقول أمّ تأبّط شرا: ليس بعلفوف تلفّه هوف.
وقد جاء هذا المثال للفاعل الواحد نحو: عاقبت اللص، وطارقت النعل، وعافاه الله.
[الحجة للقراء السبعة: 1/316]
وحجة من قرأ: (يخدعون) أن فاعل هنا بمعنى فعل فيما فسره أهل اللغة، فإذا كانا جميعا بمعنى، وكان فعل أولى بفعل الواحد من فاعل من حيث كان أخص به، كان الأولى أليق بالموضع من فاعل الذي هو في أكثر الأمر أن يكون لفاعلين إذ كانوا قد استعملوهما جميعا، ولم يكن خادع بمنزلة عاقبت اللص الذي لم يستعمل فيه إلا فاعل ورفض معه فعل.
ويدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى في الآية الأخرى في صفة المنافقين أيضا: يخادعون اللّه وهو خادعهم [النساء/ 142]، فكما وقع الاتفاق هنا على فاعل الجاري على فعل كذلك يكون في قوله تعالى: وما يخدعون إلّا أنفسهم.
ولمن قرأ (يخادعون) وجه آخر، وهو أن ينزل ما يخطر بباله ويهجس في نفسه من الخدع منزلة آخر يجازيه ذلك ويقاوضه إياه، فعلى هذا يكون الفعل كأنّه من اثنين، فيلزم أن يقول: فاعل، وهذا في كلامهم غير ضيق، ألا ترى الكميت أو غيره قال في ذكره حمارا أراد الورود:
تذكّر من أنّى ومن أين شربه... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل
[الحجة للقراء السبعة: 1/317]
فجعل ما يكون منه من وروده الماء أو ترك الورود والتمثيل بينهما بمنزلة نفسين.
وعلى هذا قوله:
وهل تطيق وداعا أيّها الرّجل؟ وقولهم: أنا أفعل كذا وكذا أيها الرجل.
وعلى هذا المذهب قرأ من قرأ: قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ [البقرة/ 259]، فنزّل نفسه- عند الخاطر الذي يخطر له عند نظره- منزلة مناظر له غيره. وأنشد الطوسي عن ابن الأعرابي.
لم تدر ما لا ولست قائلها... عمرك ما عشت آخر الأبد
[الحجة للقراء السبعة: 1/318]
ولم تؤامر نفسيك ممتريا... فيها وفي أختها ولم تكد
وأنشد بعض البصريين لرجل من فزارة:
يؤامر نفسيه وفي العيش فسحة... أيستربع الذوبان أم لا يطورها
قال: الذوبان: الأعداء.
وأنشد أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
وكنت كذات الطّنء لم تدر إذ بغت... تؤامر نفسيها أتسرق أم تزني
فهذه في المعنى كقوله:
أنخت قلوصي واكتلأت بعينها... وآمرت نفسي أيّ أمريّ أفعل
إلّا أنّ من ثنّى النفس، جعل ما يهجس في نفسه من الشيء وخلافه نفسين، ونزّل الهاجس منزلة من يخاطبه وينازله في ذلك، فكذلك يكون قوله: (وما يخادعون) على هذا). [الحجة للقراء السبعة: 1/319]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي طالوت عبد السلام بن شداد، والجارود ابن أبي سبرة: [وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ] بضم الياء وفتح الدال.
قال أبو الفتح: هذا على قولك: خدعتُ زيدًا نفسَه؛ ومعناه عن نفسه، فإن شئت قلت على هذا: حُذف حرف الجر، فوصل الفعل؛ كقوله عز اسمه: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} أي: من قومه، وقوله:
أمرتك الخيرَ
[المحتسب: 1/51]
أي: بالخير. وإن شئت قلت: حمله على المعنى فأضمر له ما ينصبه، وذلك أن قولك: خدعتُ زيدًا عن نفسه، يدخله معنى: انتقصتُه نفسَه، وملكتُ عليه نفسَه، وهذا من أَسَدِّ وأَدمث مذاهب العربية، وذلك أنه موضع يملك فيه المعنى عِنَان الكلام فيأخذه إليه، ويصرِّفه بحسب ما يؤثره عليه.
وجملته: أنه متى كان فعل من الأفعال في معنى فعل آخر، فكثيرًا ما يُجْرَى أحدهما مجرى صاحبه، فيُعْدَلُ في الاستعمال به إليه، ويُحتذى في تصرفه حذو صاحبه، وإن كان طريق الاستعمال والعرف ضد مأخذه، ألا ترى إلى قوله الله جل اسمه: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؟ وأنت إنما تقول: هل لك في كذا؟ لكنه لما دخله معنى: أَجْذِبك إلى كذا وأدعوك إليه، قال: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} ؟ وعليه قول الفرزدق:
كيف تراني قاليا مِجَنِّي ... قد قتل الله زياداً عني
فاستعمل "عن" هاهنا لما دخله من معنى قد صرفه الله عني؛ لأنه إذا قتله فقد صُرف عنه.
وعليه قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}، وأنت لا تقول: رفثتُ إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها ومعها، لما كان الرفث بمعنى الإفضاء عُدي بإلى كما يُعدَّى أفضيت بإلى، نحو قولك: أفضيت إلى المرأة، وهو باب واسع ومنقاد، وقد تقصيناه في كتابنا "الخصائص"، فكذلك قوله عز وجل: [وَمَا يُخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ] جاء على خَدعْتُه نفسَه، لما كان معناه معنى: انتقصتُه نفسَه، أو تخوَّنتُه نفسَه.
ورأيتُ أبا علي -رحمه الله- يذهب إلى استحسان مذهب الكسائي في قوله:
إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْر ... لعمر الله أعجنبي رضاها
[المحتسب: 1/52]
لأنه قال: عدى رضيت بعلى، كما يُعدى نقيضها وهي سخطت به، وكان قياسه: رضيت عني، وإذا جاز أن يجري الشيء مجرى نقيضه فإجراؤه مجرى نظيره أسوغ.
فهذا مذهب الكسائي، وما أحسنه! وفيه غيره على سمت ما كنا بصدده، وذلك أنه إذا رضي عنه فقد أقبل عليه، فكأنه قال: إذا أقبلَتْ عليَّ بنو قشير، وهو غور من أنحاء العربية طريف ولطيف ومصون وبَطين). [المحتسب: 1/53]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وما يخدعون إلّا أنفسهم}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {وما يخدعون إلّا أنفسهم} بالألف واحتج أبو عمرو بأن قال إن الرجل يخادع نفسه ولا يخدعها قال الأصمعي ليس أحد يخدع نفسه إنّما يخادعها
وقرأ أهل الشّام والكوفة {وما يخدعون} بغير ألف وحجتهم في ذلك أن الله أخبر عن هؤلاء المنافقين أنهم يخادعون الله والّذين آمنوا بقولهم {آمنا باللّه وباليوم الآخر} فأثبت لهم مخادعتهم الله والمؤمنين ثمّ يخبر عنهم عقيب ذلك أنهم لا يخادعونه ولا يخادعون إلّا أنفسهم فيكون قد نفى عنهم في آخر الكلام ما أثبته لهم في أوله ولكنه أخبر أن المخادعة من فعلهم ثمّ إن الخدع إنّما يحيق بهم خاصّة دونه). [حجة القراءات: 87]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (1- قوله: {وما يخدعون} قرأ الكوفيون وابن عامر بفتح الياء وإسكان الخاء، من غير ألف، وقرأ الباقون بضم الياء، وبألف بعد الخاء، وكسر الدال.
2- وعلة من قرأه بغير ألف أن أهل اللغة حكوا: خادع وخدع بمعنى واحد، والمفاعلة قد تكون من واحد كقولهم: داويت العليل، وعاقبت اللص، فلما كان «خادع وخدع» بمعنى واحد اختار «خدع» فحمله على معنى الأول، لأنه بمعنى: «يخدعون»، ولم يحمله على اللفظ، فبين على أن الأول محمول على «يخدعون»، ولم يحمله على اللفظ، فبين على أن الأول محمول على «يخدعون»، وأيضًا فإن «فعل» أخص بالواحد من فاعل إذ فاعل أكثر ما يكون من اثنين، ويقوي هذا المعنى أن مخادعتهم، إنما كانت للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، ولم يكن من النبي والمؤمنين لهم مخادعة، فدل على أن الأول من واحد بمعنى «يخدعون»،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/224]
فجرى الثاني على معنى الأول، ويدل على ذلك قوله لنبيه عليه السلام: {وإن يريدوا أن يخدعوك} «الأنفال 62» فالخداع منهم خاصة كان، وقد أجمعوا على: {وهو خادعهم} «النساء 142» من «خدع»، وأيضًا فإن الإخبار جرى عنهم في صدر الآية بالمخادعة لله، فيبعد أن تنفي عنهم تلك المخادعة التي أوجها لهم، وأخبرنا عنهم بالمخادعة في صدر الآية، ومعنى «يخادعون الله» أي: أولياء الله وأنبياء الله، ومعنى الخداع إظهار خلاف ما في النفس، والنبي والمؤمنون لا يفعلون معهم هذا.
3- وعلة من قرأه بألف إنما لما كان «يخادعون ويخدعون» في اللغة بمعنى واحد أجرى الثاني على لفظ الأول إذ معناهما «يخدعون أولياء الله»، فذلك أحسن في المطابقة والمشاكلة بين الكلمتين أن تكونا بلفظ واحد، وأيضًا فإن المبرد قال: معناه «وما يخادعون بتلك المخادعة المذكورة أولا إلا أنفسهم، إذ وبالها راجع عليهم» فوجب ألا يختلف اللفظ، لأن الثاني هو الأول، وقد قال أبو عمرو: ليس أحد يخدع نفسه، وإنما يخادعها، فوجب أن يقرأ: {وما يخدعون إلا أنفسهم} إذ لا يخدعون أنفسهم إنما يخادعونها.
قال أبو محمد: وقراءة من قرأ بغير ألف أقوى في نفسي، لأن الخداع فعل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/225]
قد يقع وقد لا يقع، والخدع فعل وقع بلا شك، فإذا قرأت: {وما يخدعون} أخبرت عن فعل وقع بهم بلا شك، وكذلك هو إذا قرأت: «وما يخادعون» جاز أن يكون لم تقع بهم المخادعة، وأن تكون قد وقعت، فـ «يخدعون» أمكن في المعنى، وبغير ألف قرأ الحسن وأبو جعفر ومورق وقتادة وأبو عبد الرحمن السلمي وطلحة وابن أبي ليلى وابن أبي إسحاق والجحدري والسختياني وعيسى بن عمر وابن إلياس وعمرو بن عبيد قال أبو
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/226]
حاتم: العامة عندنا على «وما يخدعون» وهي على قراءة يحيى بن وثاب والأعمش، وهي اختيار أبي عبيد وأبي طاهر وغيرهما.
قال أبو محمد: والقراءة الأخرى حسنة ويقويها اتفاق أهل المدينة ومكة عليها، وهي قراءة الأعرج وابن جندب وشيبة وابن أبي الزناد ومجاهد وابن محيصن وشبل.
قال أبو محمد: وحمل القراءتين على معنى واحد أحسن، وهو أن «خادع وخدع» بمعنى واحد في اللغة، فيكون «وما يخادعون وما يخدعون» بمعنى واحد من فاعل واحد). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/227]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (5- {وَمَا يُخْادَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [آية/ 9]:-
بالألف وضمٌ الياء، قرأها ابن كثير ونافع وأبو عمرو.
لأن (يُخادِعُونَ) هاهنا بمعنى: يخدعون، فإن فاعل قد جاء والفعل فيه
[الموضح: 244]
من واحد، كعاقبت اللص، وطارقت النعل، وإنما جاء هاهنا فاعل بمعنى فعل ليشاكل لفظه لفظ الأول وإن كان المعنى غير الأول طلبًا لمزاوجة اللفظ.
وقرأ الباقون "يخدعون" مفتوحة الياء من غير ألفٍ.
لأن فاعل في القراءة الأولى بمعنى فعل أيضًا، فإذا كان كذلك ففعل الذي هو الأصل أولى؛ لأنه أخصّ بفعل الواحد من فاعل الذي هو في غالب الأمر من اثنين، ويقوِّيه قوله تعالى في الآية الأخرى {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} ). [الموضح: 245]
قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فزادهم اللّه مرضًا)
كسر حمزة الزاي من "فزادهم). وكذلك قرأ ابن عامر.
وفتح الباقون الزاي وما أشبهها.
غير أن نافعا يلفظ بها بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب.
[معاني القراءات وعللها: 1/133]
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه احتج لحمزة وكسرة الزاي لقولك: (زدت) فتكسر الزاي،
وقوله: (في قلوبهم مرضٌ).
اتفقوا كلهم على فتح الراء من (مرض).
وروى ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأ: (في قلوبهم مرضٌ) ساكنة الراء.
قال أبو منصور: ولا يعرج على رواية ابن دريد، فإنه غير ثقة والقراءة (مرض) لا غير.
قوله جلّ وعزّ: (بما كانوا يكذبون).
قرأ عاصم وحمزة والكسائي (يكذبون) خفيفا وقرأ الباقون: (يكذّبون) مشددا.
فمن قرأ: (يكذبون) فمعناه: بكذبهم.
ومن قرأ: (يكذّبون) فمعناه: بتكذيبهم الأنبياء، و(ما) في الفعلين (ما) المصدر، المعنى: بكذبهم، أو: بتكذيبهم). [معاني القراءات وعللها: 1/134]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (9- وقوله تعالى: {فزادهم الله مرضا}
قرأ حمزة وابن عامر برواية ابن ذكوان {فزادهم الله} بالإمالة، وكذلك شاء وجاء وفتح الباقي. وقرأ الباقون كلهم بفتح ذلك كله.
فمن كسر فحجته أن عين الفعل منها مكسورة، وإذا ردها المتكلم إلى نفسه كانت ألفًا مكسورة نحو: زاد وزدت، وطاب وطبت وشاء وشئت، فلهذه العلة قرأ حمزة {فلما زاغوا أزاغ الله قلوهم} بالإمالة {أزاغ الله} بالفتح، لأنك تقول زغت وأزغت، وكذلك {فأجآها المخاض} ولم يقرأ {فأجاها} بالإمالة؛ لأنك تقول: أجأت.
ومن فتح أوائلها فإنه أتى بالكلمة على أصلها، وأصل كل فعل إذا كان ثلاثيًا أن يكون أوله مفتوحًا.
ومن كسر بعضًا وفتح بعضًا فإنه أتى باللغتين ليعلم أن هذا جائز، وأن لا يخرج القارئ إذا قرأ بأحدهما أو بهما، كما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ملك يوم الدين} و{مالك يوم الدين}.
10- وقوله تعالى {بما كانوا يكذبون}.
قرأ أبو عمرو ونافع وابن كثير وابن عامر {يكذبون} مشددة.
وقرا الباقون {يكذبون}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/65]
قال أبو عبد الله رضي الله عنه سمعت ابن مجاهد يقول: معنى القراءتين متقارب؛ لأن من كذب بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد كذب غيره؛ لأن كذب فعل لازم يقال: كذب زيد في نفسه، وكذب وأكذب غيره، وفرق الكسائي بين كذب وأكذب فقال: يقال: أكذبت فلانًا إذا أخبرت أن الذي جاء به كذب وإن كان صادقًا في نفسه، وكان يقرأ: {فإنهم لا يكذبونك}.
وقال الآخرون: كذب زيد في نفسه وكذب غيره وأكذبه: إذا صادفه كاذبًا كما يقال: أحمقت زيدًا، أي صادفته أحمق، وكذلك أحمدته أي أصبته محمودًا، كما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم: «لقد سألناكم فما أبخلناكم، وقاتلناكم فما أجبناكم» أي: ما صادفناكم بخلاء جبناء ممدودان. والصواب: أن عمرو بن معد يكرب قال لقوم من العرب هذا.
أخبرنا ابن دريد، عن أبي عثمان عن التوزي، عن أبي عبيدة أن عمرو بن معد يكرب أتى مجاشع بن مسعود بالبصرة يسأله الصلة فقال: اذكر حاجتك.
فقال: حاجتي صلة مثلي، فأعطاه عشرين ألفًا، وفرسًا من بنات الغمراء
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/66]
وسيفًا قياميًا، وغلامًا خبازًا. فلما خرج من عنده قال له أهل المجلس: كيف وجدت صاحبك؟
قال: لله در بني سليم ا أشد في الهيجاء قتالها، وأكرم في اللزبات عطاءها، وأثبت في المكرمات بناءها، والله لقد قاتلتها فما أجبنتها، وسألتها فما أبخلتها وهاجيتها فما أفحشتها. فأما قول الشاعر:
لست أبالي أن أكون محمقه
إذا رأيت خصية معلقه
فإنه يُقال: أحمقت المرأة: إذا ولدت الحمقى، فتقول هذه المرأة: لست أبالي إذا ولدت ذكرًا أن يكون أحمق). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/67]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله...
قوله، عزّ وجلّ: فزادهم اللّه مرضاً [البقرة/ 10].
قرأ حمزة فزادهم اللّه مرضاً بكسر الزاي. وكذلك شاء وجاء وطاب وخاف وضاق وضاقت، وفتح الزاي من:
زاغت الأبصار [الأحزاب/ 10] وكسر الزاي من قوله: فلمّا زاغوا [الصف/ 5] وفتح الزاي في أزاغ اللّه قلوبهم [الصف/ 5] وكسر الراء من: بل ران على قلوبهم [المطففين/ 14] وفتح الجيم من فأجاءها [مريم/ 23].
وكان ابن عامر يكسر من ذلك كلّه ثلاثة أحرف:
(فزادهم، وشاء وجاء).
وكان نافع يشمّ الزاي من (فزادهم) الإضجاع في رواية خلف عن إسحاق وابن جماز وإسماعيل بن جعفر عنه، وكذلك أخوات (فزادهم) لا مفتوح ولا مكسور.
قال ابن سعدان عن إسحاق: كل ذلك بالفتح.
قال ابن سعدان. وكان إسحق إذا لفظ «فزادهم» كأنه
[الحجة للقراء السبعة: 1/320]
يشير إلى الكسر قليلا، فإذا قلت له: إنك تشير إلى الكسر، قال: لا، ويأبى إلا الفتح.
وقال ابن جماز: كان نافع يضجع من ذلك كله قوله:
خاب [طه/ 61].
حدثنا ابن مجاهد قال: أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبي موسى الهروي، عن عباس، عن خارجة، عن نافع، مكسورة يعني (خاب).
وقال خلف وابن سعدان عن إسحاق عن نافع: (بل ران)، الراء بين الفتح والكسر.
قال محمد بن إسحاق عن أبيه عن نافع: (بل ران) مفتوحة الراء.
وكان عاصم لا يميل شيئا من ذلك إلّا قوله: بل ران على قلوبهم في رواية أبي بكر عنه، وروى عنه حفص الفتح.
وكان الكسائي يقول في ذلك كلّه كقول عاصم ويميل (بل ران).
[الحجة للقراء السبعة: 1/321]
وروى أبو عبيد عن الكسائي في: شاء [البقرة/ 20] وجاء [النساء/ 43] بين الفتح والكسر.
وقال نصير بن يوسف وغيره عنه: إنّه فتحها.
وكان ابن كثير وأبو عمرو يفتحان ذلك كلّه.
قوله تعالى: في قلوبهم مرضٌ فزادهم اللّه مرضاً [البقرة/ 10].
قالوا: زاد يزيد زيادة وزيدا، وفي التنزيل: للّذين أحسنوا الحسنى وزيادةٌ [يونس/ 26].
وقالوا: زيدا، أنشد أبو زيد:
كذلك زيد المرء ثم انتقاصه وزدت فعل يتعدى إلى مفعولين؛ قال: وزدناهم هدىً [الكهف/ 13] وقال: زدناهم عذاباً فوق العذاب [النحل/ 88]، وقال: وزاده بسطةً في العلم والجسم [البقرة/ 247].
وأما قوله: فزادهم إيماناً [آل عمران/ 173]
[الحجة للقراء السبعة: 1/322]
فالمعنى: زادهم قول الناس لهم إيمانا، أضمر المصدر في الفعل وأسند الفعل إليه، وكذلك قوله: فلمّا جاءهم نذيرٌ ما زادهم إلّا نفوراً [فاطر/ 42]، أي: ما زادهم مجيء النذير، وقال:
وصدق اللّه ورسوله وما زادهم إلّا إيماناً [الأحزاب/ 22] أي: ما زادهم نظرهم إليهم أو رؤيتهم لهم إلّا إيمانا.
ومثل ذلك من إضمار المصدر في الفعل لدلالة الفعل عليه قوله تعالى: والّذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلّا تفعلوه [الأنفال/ 73] أي: إلا تفعلوا هذه الموالاة.
ومثل ذلك كثير في التنزيل وغيره.
وقال: ولبثوا في كهفهم ثلاث مائةٍ سنين وازدادوا تسعاً [الكهف/ 25] أي: ازدادوا لبث تسع، فحذف المصدر وأقيم المضاف إليه مقامه، فانتصاب تسع على هذا انتصاب المفعول به لا انتصاب الظرف، كما أن المضاف لو ظهر وأضيف إلى التسع كان كذلك.
وأما المرض فقال أبو عبيدة في تأويله: شك ونفاق، كأنه جعل ما في قلوب المنافقين من ذلك خلاف ما في قلوب المؤمنين من اليقين والإيمان.
وقيل: إن قوله: فيطمع الّذي في قلبه مرضٌ [الأحزاب/ 32] أي فجور.
[الحجة للقراء السبعة: 1/323]
وقال سيبويه: أمرضته: جعلته مريضا، ومرّضته: قمت عليه ووليته.
وقال السدي: فزادهم الله مرضا، أي زادهم عداوة الله مرضا. وهذا في حذف المضاف كقول من قال في (يخادعون اللّه): إنّ المعنى يخادعون رسول الله، ومثله في حذف المضاف قوله: فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذكر اللّه [الزمر/ 22] المعنى من ترك ذكر الله، كما قال في صفة المنافقين: يراؤن النّاس ولا يذكرون اللّه إلّا قليلًا [النساء/ 142].
ويجوز أن يكون المعنى أنّهم إذا ذكر الله قست قلوبهم خلاف المؤمنين الذين قيل فيهم: إنّما المؤمنون الّذين إذا ذكر اللّه وجلت قلوبهم [الأنفال/ 2].
الإعراب
قال: زادهم، فلم ينقل حركة العين التي هي الكسرة التي نقلت فتحة العين من زاد إليها إلى الفاء كما نقلت في زدت، وشذ ذلك في الاستعمال والقياس، لما كان يؤدي إليه من التباس فعل بفعل، ولأنّ الألف إذا ثبتت في زاد وباع- والذي يوجب قلبها ألفا هو تقدير الحركة فيها- صارت الحركة بانقلاب الحرف إلى الألف بمنزلة الثابتة في الحرف، فلما كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/324]
كذلك، وكان الحرف الذي هو متحرك بها ثابتا غير محذوف لم ينقل عنه، ولذلك لم تنقل الحركة التي تجب للّام في مصطفون والأعلون ونحوهما إلى ما قبلها، كما نقل في قاضون وغازون ورامون. وعلى هذا لم يقدّر حذف الحركة من الألف فيمن روى:
كأن لم تري قبلي أسيرا يمانيا وقوله:
ولا ترضّاها ولا تملّق ونحو ذلك، كما قدرنا حذفها من قوله:
ألم يأتيك والأنباء تنمي و: لم تهجو ولم تدع لأن الياء قد جاء متحركا في نحو:
غير ماضي
[الحجة للقراء السبعة: 1/325]
وليس الألف كذلك، لأنّه في ثباتها ألفا كأن الحركة ثابتة فيها، فلا يصح نقلها إلى غيرها من الحروف مع ثباتها في الموضع الذي هي ثابتة فيه. وليس كذلك: بعت وقلت وخفت، لأنّك في هذه المواضع قد حذفت الحروف، والحروف إذا حذفت قد تنقل حركاتها إلى ما قبلها. ألا ترى الخب في التخفيف، وضوا، ومولة، وجيل، ونحو ذلك.
وقد تنقل حركة الحرف المتحرك إلى ما قبله والحرف ثابت غير محذوف، نحو قول من قال: قتّل في اقتتل، فإذا حذف كان نقل حركته إلى ما قبله أولى ليدل على المحذوف كما أجمع على ذلك في حذف الهمز في التخفيف.
فأمّا وجه قول من أمال الألف في زاد، فهو أنّه أراد أن يدل بالإمالة على أن العين ياء، كما أميلت الألف في حبالى، ليعلم أن الواحد من هذا الجمع قد كانت الإمالة جائزة فيه،
[الحجة للقراء السبعة: 1/326]
وكما أبدلت الواو من الهمزة المنقلبة عن الحرف الزائد في هراءى وأداءى وعلاءى، ليعلم أن الواو كانت ظاهرة في الواحد، ورفضوا أن يبدلوا منها الياء كما أبدلت منها في خطايا ومطايا ليعلم أن الواو كانت ثابتة في آحاد هذه الجموع.
وكما صحّحوا الواو في مقاتوه ليعلموا أن الواو في واحده، وهو مقتوي، قد صحت.
وكذلك صحّحوا الواو في سواسوة فيما حكاه أبو عمر وأبو عثمان عن أبي عبيدة ليعلم أنّه من مضاعف الأربعة، فكما حافظوا على هذه الحروف في هذه المواضع فألزموها ما يدل عليها، كذلك أمال من أمال الألف ليحافظ على الحرف الذي هو الأصل.
ومما يقوّي قول من أمال (زاد) ونحوه ليدل بالإمالة على الياء أن الجميع أبدلوا من الضمة كسرة في بيض وعين وجيد جمع أبيض وأعين وجيداء لتصح الياء، ولا تنقلب إلى الواو.
فكما حوفظ على تصحيح الياء في هذه الأشياء كذلك حوفظ عليها بإمالة الألف نحوها، لتدلّ عليها. يدلك على ذلك أنّ الذين أمالوا نحو: «زاد، وباع، وناب، وعاب»، لم يميلوا نحو: عاذ، وعاد، ولا بابا، ومالا، ولا ما أشبه ذلك مما العين
[الحجة للقراء السبعة: 1/327]
منه واو حيث لم تكن في الكلمة ياء ولا كسرة فتنحى الألف بالإمالة نحوهما.
ومما يقوي الإمالة في زاد ونحوه: أنّه اجتمع فيه أمران كل واحد منهما يوجب الإمالة: وهو لحاق الكسرة أول فعلت، والآخر: أن تمال الألف ليعلم أنّها من الياء. فإذا كان كل واحدة من هاتين الخلتين على الانفراد توجب الإمالة في هذا النحو، فإذا اجتمعتا كان أجدر أن توجباها وتجلباها.
ومما يقوّي الإمالة في: زاد وباع وكال ونحو ذلك، أنّ الحروف المستعلية والراء إذا كانت مفتوحة تمنعان الإمالة، ألا ترى أنّ من أمال نحو: عالم، وسائل، لم يمل نحو ظالم، وغانم، وراشد، ولم يمل، رابيا في قوله:
فاحتمل السّيل زبداً رابياً [الرعد/ 17] لمكان المستعلي والراء المفتوحة، ولم يجعلوهما في هذا الموضع تمنعان الإمالة كما منعتا في غيره. فلولا تأكد الإمالة في ألفات هذه الأفعال لما أمالوها مع ما يمنع من الإمالة في غير هذا الموضع.
قال سيبويه: بلغنا عن ابن أبي إسحاق أنّه سمع كثير عزة يقول: صار مكان كذا. وإذا لم يمنع المستعلي أولا في
[الحجة للقراء السبعة: 1/328]
صار لم يمتنع آخرا في زاغ، وإذا لم يمنعها المستعلي لم تمنع الراء في نحو: بل ران على قلوبهم [المطففين/ 14].
بسم الله: اختلفوا في ضمّ الياء والتشديد وفتحها والتخفيف في قوله تعالى: بما كانوا يكذبون [البقرة/ 10].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر: بما كانوا يكذبون، بضم الياء وتشديد الذال.
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي: (يكذبون) بفتح الياء وتخفيف الذال.
قال أبو علي: كذب يكذب كذبا وكذابا. قال: أفترى على اللّه كذباً [سبأ/ 8].
وقال الأعشى:
والمرء ينفعه كذابه فالكذب كالضحك واللعب.
[الحجة للقراء السبعة: 1/329]
قال سيبويه: والكذاب كالكتاب والحجاب. وفي التنزيل: وكذّبوا بآياتنا كذّاباً [النبأ/ 28]، فالكذّاب على وزن الإكرام، ولم يجيء المصدر كمصادر دحرج وصعرر ليعلم أن الفعل ليس للإلحاق، كما لم يجيء أصمّ وأعدّ على وزن قردد وجلبب.
وحكى أبو زيد بيتا ذكر أنه لجريبة بن الأشيم، جاهلي وهو:
فإذا سمعت بأنّني قد بعته... بوصال غانية فقل كذّبذب
قال أبو زيد: كذّبذب: كاذب، وحكي عن أبي عمر في تفسيره: كذب.
فالكلمة على تفسير أبي زيد صفة وعلى ما حكي من تفسير أبي عمر اسم، فيكون المبتدأ المضمر: القائل ذلك كاذب، وعلى القول الآخر ما سمعت كذب.
وهذه الكلمة تحكى فيما شذ عن سيبويه من الأبنية.
[الحجة للقراء السبعة: 1/330]
ولولا ثقة أبي زيد وسكون النفس إلى ما يرويه لكان ردها مذهبا، لكونه على ما لا نظير له، ألا ترى أن العين إذا تكرر مع اللام في نحو صمحمح وجلعلع لا يكرر إلا مرتين، وقد تكررت في هذه ثلاث مرات. ومع ذلك فقد قالوا:
مرمريس، فتكررت الفاء مع العين فيها ولم تتكرر في غيرها، ولم يلزم من أجل ذلك أن يردّ ولا يقبل، فكذلك ما رواه أبو زيد من هذه الكلمة.
والكذب: ضرب من القول، وهو نطق، كما أن القول نطق.
فإذا جاز في القول الذي الكذب ضرب منه أن يتسع فيه فيجعل غير نطق في نحو:
قد قالت الأنساع للبطن الحق ونحو قوله في وصف الثور:
فكرّ ثم قال في التفكير
[الحجة للقراء السبعة: 1/331]
وجاز أن يجعل في هذه المواضع وغيرها غير نطق، فكذلك يجوز في الكذب أن يجعل غير نطق في نحو قوله:
... كذب القراطف والقروف فيكون في ذلك انتفاء لها، كما أنّه أخبر عن الشيء على خلاف ما هو به كان انتفاء للصدق فيه. وكذلك قول الآخر:
إذا المعسيات كذبن الصّبو... ح خبّ جريّك بالمحصن
أي: إذا انتفى الصبوح منهن، فلم يوجد فيهن، أطعمت من مدّخر الطعام وغير ألبان هذه الإبل التي يظن أن فيهن الصبوح، فجعل كون الشيء على خلاف ما يظنّ كذبا وإن لم يكن قولا، فعلى هذا قالوا: «كذب القراطف»، أي: هو منتف
[الحجة للقراء السبعة: 1/332]
ليس له وجود، كما أن كذب في الخبر على ذلك، فكذلك كذب الصبوح، أي: ليس يوجد، وكذب القراطف أي فأوجدوها بالغارة، وكذلك كذب عليكم العسل، وحمل فلم يكذّب، [أي: لم يجعل الحملة في حكم غير الحملة، ولكنه أوجدها وأوقعها]، وقالوا: حمل عليه ثم أكذب، يعنون كذب، وعلى هذا قالوا: حملة صادقة، وصدق القوم القتال.
وقال:
فإن يك ظني صادقي وهو صادقي فكما وصفوه بالكذب وصفوه بخلافه الذي هو الصدق، وكذلك قوله: ليس لوقعتها كاذبةٌ [الواقعة/ 2] أي: هي الواقعة وغير منتف كونها.
والكاذبة يشبه أن يكون مصدرا، كالعاقبة والعافية ونحو ذلك. فالفعل الذي هو كذب في هذا النحو ينبغي أن يكون الفاعل مسندا إليه، وعليك: معلّقة به.
فأمّا ما روي من قول من نظر إلى بعير نضو فقال لصاحبه: «كذب، عليك البزر والنّوى» بنصب البزر، فإن عليك فيه لا يتعلق بكذب، ولكنه يكون اسم الفعل، وفيه ضمير
المخاطب، فأما كذب ففيه ضمير الفاعل كأنه قال: كذب السّمن، أي: انتفى من بعيرك فأوجده بالبزر والنّوى، وهما مفعولا عليك وأضمر السّمن لدلالة الحال عليه من مشاهدة عدمه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/333]
فأمّا قوله:
كذبت عليكم أوعدوني وعلّلوا... بي الأرض والأقوام قردان موظبا
فإنّ معنى (كذبت عليكم): لست لكم، وإذا لم أكن لكم ولم أعنكم كنت منابذا لكم ومنتفية نصرتي عنكم، ففي ذلك إغراء منه لهم به، فهو مثل: كذب القراطف.
وقال أبو زيد: قد كعّ الرجل عن الأمر فهو يكع، إذا أراد أمرا ثم كفّ عنه مكذّبا عند قتال أو غيره. قال: وتقول:
احرنجم الرجل فهو محرنجم، وهو الذي يريد الأمر ثم يكذّب فيرجع، فقد استعمل أبو زيد هذه اللفظة كما ترى في الموضع الذي ينتفي فيه ما كان أريد فلم يوقع، وكذلك قول أبي دواد:
قلت لمّا فصلا من قنّة... كذب العير وإن كان برح
يقول: لما فصل الفرس والحمار أخذ الحمار على يمين الفارس، وذاك أنّه يصعب الطعن من ناحية يمين الفارس،
[الحجة للقراء السبعة: 1/334]
فقال: كذب العير، فإنّه يطعن وإن برح، فجعل تقديره انتفاء الطعن عنه كذبا منه، فهذا الأصل في هذه الكلمة، وليس كما ذكر بعض رواة اللغة أنّ كذّب يجيء زيادة في الحديث.
فأمّا قول عنترة:
كذب العتيق وماء شن بارد... إن كنت سائلتي غبوقا فاذهبي
فإن شئت قلت فيه: إن المعنى في «كذب» أنّه لا وجود للعتيق الذي هو التمر، فاطلبيه، وإذا لم تجدي التمر فكيف تجدين الغبوق؟
وإن شئت قلت: إن الكلمة لما كثر استعمالها في الإغراء بالشيء والبعث على طلبه وإيجاده صار كأنّه قال بقوله لها:
عليك العتيق، أي: الزميه، ولا يريد بها نفيه، ولكن إضرابها عما عداه، فيكون العتيق في المعنى مفعولا به، وإن كان لفظه مرفوعا مثل: سلام عليك ونحوه مما يراد به الدعاء، واللفظ على الرفع.
وحكى محمد بن السريّ عن بعض أهل اللغة- في كذب العتيق- أنّ مضر تنصب به. وأن اليمن ترفع به، وقد تقدم ذكر وجه ذلك.
ومن الكذب الذي ليس في الإخبار كقوله: كذب
[الحجة للقراء السبعة: 1/335]
القراطف- قول ذي الرّمّة:
وللشول أتباع مقاحيم برّحت... به وامتحان المبرقات الكواذب
فالكواذب: النوق التي تظهر أنها قد لقحن وليس كذاك، فيردهن الفحل إلى الطّروقة. وقريب من ذلك قوله:
إذا قلت عاج أو تغنّيت أبرقت... بمثل الخوافي لاقحا أو تلقّح
فالمتلقّح: التي تري أن بها لقاحا، وليست كذلك، فهي مثل الكواذب في بيته الآخر.
[الحجة للقراء السبعة: 1/336]
ومما يبيّن أن الكذب في هذه الأشياء التي ليست من القول على ما تأولنا قول الأعشى:
إذا ما الآثمات ونين حطّت... على العلّات تجتزع الإكاما
قالوا: الآثمات: البطاء اللواتي لا يصدقن في السير، فهذا يدلك على صحة ما ذكرناه في قولهم: حمل فلم يكذّب، وكذب عليك الحجّ، وكذب عليكم العسل، ألا ترى أن الإثم كالكذب كما أن البر كالصدق؟
قال أبو علي: حجة من قال: يكذبون [البقرة/ 10]- بفتح الياء وتخفيف الذال، أن يقول: إن ذلك أشبه بما قبل الكلمة وبما بعدها، فالذي قبلها مما يدل على الكذب ويكذبون- قوله تعالى: ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين [البقرة/ 8].
فقولهم: آمنا بالله كذب منهم، فلهم عذاب أليم بكذبهم.
هذا الذي تقدم قولهم له وحكايته عنهم.
وما بعدها قوله تعالى: وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنّما نحن مستهزؤن [البقرة/ 14].
فقولهم- إذا خلوا إلى شياطينهم- إنا معكم دلالة على
[الحجة للقراء السبعة: 1/337]
كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم، وإذا كان أشبه بما قبله وما بعده كان أولى.
ومما يدل على ترجيح ذلك أن يقال: إن قوله: ولهم عذابٌ أليمٌ بما كانوا يكذبون لا يخلو من أن يراد به المنافقون أو المشركون أو الفريقان جميعا.
فإن كان المعنيّون بذلك المنافقين فقد قال الله فيهم:
واللّه يشهد إنّ المنافقين لكاذبون [المنافقون/ 1].
وإن كانوا المشركين فقد قال: وإنّهم لكاذبون ما اتّخذ اللّه من ولدٍ [المؤمنون/ 90، 91] وقال: وإنّهم لكاذبون. أصطفى البنات على البنين [الصافات/ 152، 153].
وإن كان الذين عنوا به الفريقين فقد أخبر عنهم جميعا بالكذب الذي يلزم أن يكون فعله يكذبون دون يكذّبون.
وحجة من قال: (يكذّبون) أن يقول: يدل على التثقيل قوله تعالى: ولقد كذّبت رسلٌ من قبلك فصبروا على ما كذّبوا [الأنعام/ 34].
وقوله تعالى: بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه [يونس/ 39] وإن كذّبوك فقل لي عملي ولكم عملكم
[الحجة للقراء السبعة: 1/338]
[يونس/ 41] وإن يكذّبوك فقد كذّبت رسلٌ من قبلك [فاطر/ 41] والّذين كفروا وكذّبوا [البقرة/ 39] ونحو ذلك من الآي.
فإن قلت: فكيف جاء: فإنهم لا يكذبونك، والمعنى لا يجدونك كاذبا، لأنّهم قد عرفوا أمانتك وصدقك، وعرفت بذلك فيهم. قال أبو طالب:
إنّ ابن آمنة الأمين محمّدا يؤكد ذلك قوله: ولكنّ الظّالمين بآيات اللّه يجحدون [الأنعام/ 33] أي بردّ آيات الله، أو إنكار آيات الله يجحدون، أي: يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك.
ومثل ذلك قوله تعالى: وآتينا ثمود النّاقة مبصرةً فظلموا بها [الاسراء/ 59]، أي: ظلموا بردها أو الكفر بها، فكما أن الجارّ في قوله:
(فظلموا بها) من صلة (ظلموا) كذلك يكون من صلة الظلم في قوله: ولكنّ الظّالمين بآيات اللّه يجحدون [الأنعام/ 33].
ويجحدون محذوف المفعول للدلالة عليه والتكذيب أكبر من الكذب، لأنّ كلّ من كذّب صادقا فقد كذب، وليس كلّ من كذب كان مكذّبا لغيره). [الحجة للقراء السبعة: 1/339]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن أبي عمرو: [فِي قُلُوبِهِمْ مَرْضٌ] ساكنة.
قال أبو الفتح: لا يحوز أن يكون [مَرْض] مخففًا من مَرَض؛ لأن المفتوح لا يخفف؛ وإنما ذلك في المكسور والمضموم كإِبِل وفَخِذ، وطُنُب وعَضُد، وما جاء عنهم من ذلك في المفتوح فشاذ لا يقاس عليه، نحو قوله:
وما كل مبتاع ولو سَلْف صفقُه ... يراجع ما قد فاته برِداد
يريد: سَلَف، فأسكن مضطرًّا، وعلى أننا قد ذكرنا هذا في كتابنا الموسوم "بالمنصف"، وهو شرح تصريف أبي عثمان، وهذا ونحوه قد جاء في الضرورة، والقرآن يُتخير له ولا يتخير عليه.
[المحتسب: 1/53]
وينبغي أن يكون [مَرْض] هذا الساكن لغة في "مرَض" المتحرك؛ كالحلْب والحلَب، والطرْد والطرَد، والشل والشلل، والعيب والعاب، والذَّيم والذَّام. وقد دللنا في كتابنا الخصائص على تقاود الفتح والسكون، ولأنهما يكادان يجريان مجرى واحدًا في عدة أماكن.
منها أن كل واحد منهما قد يُفْزَع ويُسْتَروح إليه من الضمة والكسرة، ألا تراهم قالوا في غُرُفات ونحوها تارة: غُرَفَات بالفتح، وأخرى: غُرْفَات بالسكون، كما قالوا في سِدِرات تارة: سِدَرات بالفتح، وأخرى: سِدْرات بالسكون.
وأجرَوْا أيضًا الياء المفتوحة في اقتضائها الإمالة مجرى الياء الساكنة، فأمالوا نحو: السَّيَال والصِّيَاح، كما أمالوا نحو: شَيْبان وقيس عَيْلان، وقالوا: ضرب يدها، فأمالوا فتحة الدال للياء المفتوحة، وقالوا أيضًا في تكسير جواد: جياد، فأعلُّوا العين كما أعلوها في ثوب وثياب، فأجروا "واو" جواد مجرى "واو" ثوب، وقالوا: مرِض مَرْضًا فهو مارض، كما قالوا: حَرِد حَرْدًا فهو حارد، والفعل كالأصل في مصادر الثلاثية لا سيما في المتعدي منها، والمتعدي أكثر من غير المتعدي؛ فلذلك ساغ فيها فَعْل.
وإنما كان المتعدي أكثر من غيره من قِبَل أن الفعل قد يكون حديثًا عن المفعول به، نحو: ضُرب زيدٌ، كما يكون حديثًا عن الفاعل، نحو: قام زيد. فكما لَا بُدَّ للفعل من الفاعل، فكذلك كثر المتعدي؛ لأن في ذلك تسبُّبًا إلى أن يكون الفعل حديثًا عن المفعول). [المحتسب: 1/54]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون}
[حجة القراءات: 87]
قرأ حمزة فزادهم الله بالإمالة وكذلك جاء وشاء وخاب وحاق وخاف وطاب وضاق وزاغ ودخل ابن عامر معه في جاء وشاء و{فزادهم الله} وحجتهما في ذلك أن فاء الفعل منها مكسورة إذا ردها المتكلّم إلى نفسه نحو زدت وجئت وطبت ولهذا قرأ حمزة {فلمّا زاغوا} بالإمالة أزاع الله بالفتح لأن فاء الفعل مفتوحة تقول أزغت وكذلك فأجاءها المخاض بغير إمالة لأنّك تقول أجأت وقرأ الباقون جميع ذلك بغير إمالة على أصل الكلمة وحجتهم في ذلك أن أصل كل فعل إذا كان ثلاثيا أن يكون أوله مفتوحًا
قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ {بما كانوا يكذبون} بالتّخفيف وقرأ الباقون بالتّشديد من كذب يكذب تكذيبًا أي إنّهم يكذبون النّبي صلى الله عليه وسلم والقرآن وحجتهم ما روي عن ابن عبّاس قال إنّما عوتبوا على التّكذيب لا على الكذب وفي التّنزيل ما يدل
[حجة القراءات: 88]
على التثقيل {ولقد كذبت رسل من قبلك}
وحجّة أخرى أن وصفهم بالتكذيب أبلغ في الذّم من وصفهم بالكذب لأن كل مكذب كاذب وليس كل كاذب مكذبا
وحجّة التّخفيف أن ذلك أشبه ما قبل الكلمة وما بعدها فالّذي قبلها ممّا يدل على الكذب {ومن النّاس من يقول آمنا باللّه وباليوم الآخر} وقال الله {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} وما بعدها قوله {وإذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم} فقوله {وإذا خلوا إلى شياطينهم} دلالة على كذبهم فيما ادعوه من إيمانهم وإذا كان أشبه بما قبله وما بعده فهو أولى). [حجة القراءات: 89]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (4- قوله: {بما كانوا يكذبون} قرأه الكوفيون بفتح الياء مخففًا، وقرأه الباقون بضم الياء مشددًا.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/227]
5- وعلة من خفف أنه حمله على ما قبله؛ لأنه قال تعالى: {وما هم بمؤمنين} «8» فأخبرهم أنهم كاذبون في قوله: آمنا بالله وباليوم الآخر فقال: وما هم بمؤمنين، أي: ما هم بصادقين في قولهم، ثم قال: {ولهم عذابٌ أليم بما كانوا يكذبون} أي بكذبهم في قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وأيضًا فإن التخفيف محمول على ما بعده؛ لأنه قال تعالى ذكره بعد ذلك: {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنما نحن مستهزئون} «14» فقولهم لشياطينهم إنا معكم، دليل على كذبهم في قولهم للمؤمنين: آمنا، فحسنت القراءة بالتخفيف، ليكون الكلام على نظام واحد، مطابق لما قبله ولما بعده، وأيضًا فلابد أن يراد بالآية المنافقون أو الكافرون، أو هما جميعًا، فإن أراد المنافقين فقد قال فيهم: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} «المنافقون 1» وإن أراد المشركين فقد قال فيهم: {وإنهم لكاذبون. ما اتخذ الله من ولد} «المؤمنون 90، 91» وإن أرادهما جميعًا فقد أخبرنا عنهم في هذين الموضعين بالكذب، فالكذب أولى بالآية، وبالتخفيف قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن، وقتادة، وطلحة، وابن أبي ليلى، والأعمش، وعيسى ابن عمر، وهو اختيار أبي عبيد وأبي طاهر وغيرهما.
6- وعلة من شدده أنه حمله أيضًا على ما قبله، وذلك أن الله جل ذكره قال عنهم: {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا}، والمرض الشك، ومن شك في شيء فلم يتقينه، ولا أقر بصحته، ومن لا يقر بالشيء، ولا آمن بصحته، فقد كذب به وجحده، فهم مكذبون لا كاذبون، وأيضًا فإن التكذيب أعم من الكذب، وذلك أن كل من كذب صادقًا فقد كذب في فعله، وليس كل من كذب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/228]
مكذبًا لغيره، فحمل اللفظ، على ما يعم المعنيين، أولى من حمله على ما يخص أحد المعنيين، وقد قال أبو عمرو: إنما عوقبوا على التكذيب للنبي وما جاءوا به، لم يعاقبوا على الكذب، وروي نحوه عن ابن عباس، وبالتشديد قرأ الأعرج وأبو جعفر يزيد وشيبة ومجاهد وأبو رجاء وشبل، وهو اختيار أبي حاتم، وقال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا بالتشديد، قال: والتثقيل أحب إلي، مع ما أنها قراءة أهل المدينة ومكة، قال أبو محمد: والقراءتان متداخلتان ترجع إلى معنى واحد، لأن من كذب رسالة الرسل وحجة النبوة فهو كاذب على الله، ومن كذب على الله وجحد تنزيله فهو مكذب بما أنزل الله، قال أبو محمد: والتشديد أقوى في نفسي لأنه يتضمن معنى التخفيف، والتخفيف لا يتضمن معنى التشديد ولأنها قراءة أهل المدينة ومكة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/229]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (6- {فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} [آية/ 10]:-
بإمالة الزاي، قرأها حمزة، وكذلك: جاء، وشاء، وطاب، وحاق، وخاف، وخاب، وضاقت.
لأنه أراد أن يدل بالإمالة على أن عين الكلمة ياءٌ، كما ألزموا في مُضارع فعل من هذا الباب يفعل بالكسر، ليدلّوا به على أن العين ياءٌ، ويقوي الإمالة في زاد ونحوه أنه اجتمع هاهنا شيآن كلاهما يجلب الإمالة، أحدهما: كسرة أول فعلت نحو: زدت وطبت، وعلى هذا إمالة خاف، والثاني: كون العين ياء، وكل واحدٍمن هذين السببين جالبٌ للإمالة على الانفراد، فإذا اجتمعا كان أولى بذلك.
[الموضح: 245]
ونافع يشم الإمالة في ذلك كلّه، إعلامًا بحُسن الإمالة فيه، وكون الفتح أصلًا.
وابن عامر يميل ثلاثة أحرف منها: جاء وشاء وزاد، ويفح الباقي؛ لأنه يريد الأخذ باللغتين من الإمالة والفتح، إذ الإمالة جائزة، والفتح هو الأصل، والتمسك بكل واحدٍ منهما حسن، ثم إنه يتبع في ذلك الأثر؛ إذ القراءة سنة.
وابن كثير وأبو عمرو وعاصم والكسائي ويعقوب يفتحون جميع ذلك، ولا يميلون واحدًا منه؛ لأن الفتح هو الأصل، والإمالة داخلة عليه، وهي حكمٌ جائزٌ، وليس بحكم واجبٍ، وكثيرٌ من العرب لا يميلون شيئًا). [الموضح: 246]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (7- {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [آية/ 10]:-
بفتح الياء وتخفيف الذال، قرأها عاصمٌ وحمزة والكسائي.
و {ما} هاهنا مصدرية، وذاك أن تكون مع الفعل في معنى المصدر، والتقدير: يكذبهم، وهذه القراءة أشبه بما قبلها وهو قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}، لأن قولهم هذا كذب، وهي أليق بما بعدها أيضًا وهو {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا}
[الموضح: 246]
فقولهم أيضًا كذبٌ، لقولهم لرؤسائهم {إنّا مَعَكُمْ}، ففي هاتين الآيتين دلالة على قوة قراءة من قرأ {يكذبون} بالتخفيف من الكذب.
وقرأ الباقون (يُكذِّبُونَ) بضم الياء وتشديد الذال، من التكذيب، وهو نسبةُ الغير إلى الكذب؛ لأن أولئك كانوا يكذبون النبي صلى الله عليه وسلم، إذ تركوا الإيمان به، كما قال تعالى: {الذين كفروا وكذبوا بآياتنا} فكثيرٌ من القرآن يتضمن ذكر التكذيب، ثم إن التكذيب أكثر من الكذب؛ إذ كل من كذب صادقًا فهو كاذب، وليس كل من كذب فهو مكذب، و{ما} أيضًا في هذه القراءة مصدريةٌ، والتقدير بكذيبهم). [الموضح: 247]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107180#post107180)
جمهرة علوم القرآن
25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 09:42 PM
سورة البقرة
[من الآية (11) إلى الآية (16) ]
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)} قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (وإذا قيل لهم)
قرأ الكسائي ويعقوب: (قيل) و(غيض) و(سيء) و(سيئت) و(جيء)، بضم أوائل هذه الحروف حيث وقعت.
وعلتهما أن الأصل فيهن الضم، نحو: (قول) و(حول) و(سوق) و(غيض) و(سيئت).
وكان نافع يضم (سيء) و(سيئت)، ويكسر الباقي.
وكان ابن عامر يضم (سيء) و(سيئت) و(حيل) و(سيئ)، هذه الأربعة، ويكسر الباقي.
وروى هشام بن عمّار فيها عنه مثل قراءة الكسائي.
وروى شبل عن ابن كثير (سيء) و(سيئت)، وكذلك فعل نافع، وقرأ الباقون بكسر أوائل هذه الحروف كلها.
قال أبو منصور: من ضم فلأنها جاءت على وزن (فعل)، ومن
[معاني القراءات وعللها: 1/135]
كسر فلاستثقال الضمة مع كسرة الواو.
ومن ضم فإنه يشم ولا يشبع الضم -، والعربي الناشئ في البادية يطوع لسانه لضمة خفية يجفو عنها لسان الحضري المتكلف). [معاني القراءات وعللها: 1/136]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (11- وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم}
قرأ الكسائي: {وإذا قيل لهم} بإشمام القاف الضم، وكذلك
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/67]
{وسيق} و{جيئ} و{حيل} و{وسئ} و{وسيئت} و{غيض} وقرأ ابن عامر من ذلك أربعة أحرف بالضم وكسر الباقي {سيق} {وحيل} {وسيء} {وسيئت}.
وقرأ من ذلك حرفين نافع بالضم {وسيئ} {وسيئت}.
والباقون يكسرون أوائل ذلك كله فمن كسر يقول: هو فعل لم يُسم فاعله، والأصل قول مثل ضرب فاستقلوا الكسرة على الواو فنقلت إلى القاف بعد أن أزالوا حركة القاف، ثم قلبوا الواو ياء لانكسار ما قبلها كما قالوا: ميزان وميعاد وميقات والأصل: موزان وموعاد وموقات، فقلبوا الواو ياء لانكسار ما قبلها.
ومن ضم أولها قال: بقيت علامة ما لم يسم فاعله. وأما منكسر بعضًا وضم بعضًا، فقد قلت فيما تقدم: إنه جمع بين اللغتين. فأما قول الشاعر:
واستعجمت عجل وأم الرحال
وقول لا أهل لها ولا مال
فإن هذه لغة قوم يشبعون ضمة أول الحرف إذا لم يُسم فاعله، فتقلب
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/68]
الياء واوًا، وهي لا تدخل في القراءة بخلاف المصحف، ولأنها لغة رديئة شاذة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/69]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله: اختلفوا في ضم أوائل هذه الحروف وأخواتها وكسرها: فقرأ الكسائي: قيل [البقرة/ 11] وغيض [هود/ 44] وسيء [هود/ 77، والعنكبوت/ 33] وسيئت [الملك/ 27] وحيل [سبأ/ 54] وسيق [الزمر/ 71، 73] وجيء [الزمر/ 69، والفجر/ 23] بضم أول ذلك كله.
وكان نافع يضم من ذلك حرفين: (سيء)، و (سيئت)، ويكسر ما بقي.
وكان ابن عامر يضم أول: (سيق وسيء وسيئت وحيل)، ويكسر (غيض) و (قيل) و (جيء) في كل القرآن: الغين والجيم والقاف، هذه رواية ابن ذكوان عنه.
وقال الحلواني عن هشام بن عمار بإسناده عنه في
[الحجة للقراء السبعة: 1/340]
كلهن مثل الكسائي.
وروى عبيد بن عقيل عن شبل بن عبّاد عن ابن كثير: (سيء) و (سيئت) بضم السين مثل نافع.
وكان ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة يكسرون أوائل هذه الحروف كلّها.
وإذا قيل لهم لا تفسدوا... قالوا [البقرة/ 11] قال يقول قولا وقيلا، مثل ذكر يذكر ذكرا.
كأنّه متوّج روميّ... أو مقول توّج حميريّ
وقالوا: قيل، وهو فيعل مخفف كميت. يدلّك على
[الحجة للقراء السبعة: 1/341]
ذلك ظهور الياء فيه، والعين أعلت بالحذف كما أعلت بالقلب.
والقياس في جمع قيل أقوال، مثل ميت وأموات.
وروي في الحديث: «إلى الأقيال العباهلة»،
والقياس الأقوال إذا كان جمع فيعل من القول.
ويجوز أن يكون الأقيال جمع قيّل الذي هو فيعل، من قولهم: تقيّل أباه إذا أشبهه، كأنّ كلّ ملك يشبه الآخر في ملكه، كما قيل له تبّع لمّا كان يتبع من قبله.
وقال أبو زيد: اقتل عليّ كذا، أي احتكم، وأنشد:
فلو أن ميتا يفتدى لفديته... بما اقتال من حكم عليّ طبيب
وقد اتسعوا في القول فاستعملوه في غير اللفظ. قال العجاج يصف ثورا:
فكرّ ثم قال في التفكير... إن الحياة اليوم في الكرور
[الحجة للقراء السبعة: 1/342]
وقد أجري القول أيضا مجرى الاعتقاد والمذهب في نحو: هذا قول أهل العدل، وهذا قول أبي حنيفة، يعنون بذلك رأيهم واعتقاداتهم، ليس اللفظ.
وعلى هذا قالوا: قيل في ذلك قول، فأسندوا إليه قيل.
ومعنى النهي فيما
روي: «إنّ الله ينهاكم عن قيل وقال»:
المجادلة بالباطل ليدحض به الحقّ، وليس على النهي عن الخوض في العربية وتعلّمها، لأنّ الحضّ على النظر فيها قد كثرت الرواية به عن السلف.
حدثنا إسماعيل بن محمد قال: حدثنا محمد بن عيسى العطار: قال حدثنا كثير بن هشام قال حدثنا عيسى بن إبراهيم عن الحكم بن عبد الله عن الزهري عن
[الحجة للقراء السبعة: 1/343]
سالم عن أبيه قال:
مرّ عمر بن الخطاب على قوم يرمون رشقا فقال: بئس ما رميتم.
قالوا: يا أمير المؤمنين: إنا قوم متعلمين.
فقال: والله لذنبكم في لحنكم أشدّ علي من ذنبكم في رميكم،
سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «رحم الله رجلا أصلح من لسانه».
وقد أجروا أتقول مجرى أتظن، فقالوا: أتقول زيدا منطلقا؟ ولم يجر أكثر العرب حروف المضارعة الأخر مجرى التاء. قال لأنّ المخاطب لا يكاد يستفهم عن ظنّ غيره.
فمن ذلك قوله:
فما تقول بدالها (ما) نصب لكونها في موضع المفعول الأول، والجملة في موضع المفعول الثاني.
[الحجة للقراء السبعة: 1/344]
قال: وبنو سليم يجعلون جميع الأمثلة بمنزلة الظن.
والتّقوّل: تفعّل من القول، وقد غلب عليه الاستعمال فيما كان باطلا وغير صدق، كما أن الاختلاق كذلك، وفي التنزيل:
ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل [الأحقاف/ 44].
وزعم بعض المفسرين أنّها نزلت لمّا قالوا: لولا اجتبيتها من قوله تعالى: وإذا لم تأتهم بآيةٍ قالوا لولا اجتبيتها [الأعراف/ 203] وقال: إن هذا إلّا اختلاقٌ [ص/ 7].
فأمّا الإقالة في البيع فليس من هذا الباب، لأنّهم قد قالوا: قلته البيع وأقلته. حكاه سيبويه وأبو زيد، فدل قولهم:
قلته على أن العين ياء. ولكنّ الإقالة من قولهم: تقيّل أباه، إذا نزع إليه في الشبه، فكذلك الإقالة عود الملك بين المتقايلين إلى ما كان قبل عقد البيع، ألا ترى أنّه فسخ بين المتعاقدين وإن كانا بيعا آخر في حق الثالث.
حجة من قال: وإذا قيل لهم [النور/ 11] فأشمّ الضمة الكسرة وأمال بها نحوها:
أن ذلك أدلّ على فعل، ألا ترى أنّهم قد قالوا: كيد زيد يفعل، وما زيل يفعل، وهم يريدون فعل. فإذا حرّكوا الفاء هذه التحريكة أمن بها التباس الفعل المبنى للفاعل بالفعل المبني للمفعول، وانفصل بها، فدلّت عليه، وكان أشدّ إبانة للمعنى المراد.
ومن الحجة في ذلك أنهم قد أشمّوا نحو ردّ وعدّ وما
[الحجة للقراء السبعة: 1/345]
أشبه ذلك من التضعيف المبنى على فعل، مع أنّ الضمة الخالصة تلحق فاءه، فإذا كانوا قد تركوا الضمة الصحيحة إلى هذه في الموضع الذي تصح فيه الضمة فإلزامها حيث
يلزم الكسر فيه في أكثر اللغات أجدر. ودلّ استعمالهم هذه الحركة في ردّ ونحوه من التضعيف على تمكنها في قيل وبيع وكونها أمارة للفعل المبني للمفعول به، ولولا ذلك لم تترك الضمة المحضة إليها في قولهم: ردّ ونحوه.
ومن الحجة في ذلك أنّهم قالوا: أنت تغزين فألزموا الزاي إشمام الضمة و (زين) من تغزين بمنزلة قيل، فكما ألزم الإشمام هنا كذلك يلزم ذلك في قيل، ألا ترى من قال: قيل وبيع، قال: اختير وانقيد، فأشمّ ما بعد الخاء والنون لمّا كان بمنزلة قيل وبيع، فكما ألزم الإشمام نحو تغزين، لينفصل من باب ترمين، كذلك ألزم قيل وبيع الإشمام في الضمة، لينفصل من الفعل المبني للفاعل في كيد وزيل، وليكون أدلّ على فعل.
فإن قلت: فهلّا ألزم القاف في قيل ونحوه إشمام الضمة كما ألزم ذلك في تغزين؟
فالقول إنّ هذه الحركة لمّا لم تكن ضمة خالصة ولا كسرة محضة ضعفت في الابتداء لخروجها عمّا عليه الحركات اللاحقة أوائل الكلم المبتدأ بها، ألا ترى أنّ أبا عمرو أخذ بذلك في الإدراج فيما حكاه عنه سيبويه في قوله تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 1/346]
يا صالح ائتنا ولم يأخذ به في الاستئناف. فإن قلت: فهل يلزم أبا عمرو في قراءته: يا صالح ائتنا أن يقرأ: ومنهم من يقول ائذن لي [التوبة/ 49] فيشمّ الضمة نحو الكسرة.
فالقول: إن ذلك لا يلزم، لأنّ هذا الإشمام والإمالة بالضمة نحو الكسرة إنّما جاء فيما ليس بحركة إعراب، والضمة في يقول ضمة إعراب، والتي في يا صالح ائتنا وإن كانت مشابهة لحركة الإعراب فهي حركة بناء، فلا يلزم ذلك في قوله تعالى: ومنهم من يقول ائذن لي.
ومما يدلّك على أنّ هذه التحريكة قد صارت أمارة لبناء الفعل للمفعول به وأنّها مما يختصّ به الفعل أنّك لو سميت بمثل قيل وبيع شيئا وخلعت منه الضمير إن كان فيه لأخلصت الكسرة فقلت: قيل وبيع، فدلّ هذا من مذهب سيبويه على أن هذه الحركة أمسّ عنده بالفعل، وأشد لزوما له من الأمثلة التي تختص بالفعل، ولا تكون في الاسم نحو: ضرب وضورب وضرّب: ألا ترى أنّك لو سميت بشيء من ذلك مجردا من الضمير لم تغيره عن بنائه إلى ما يختص الاسم وقد رأى تغيير هذه الحركة وإخلاصها كسرة.
ومما يقوي قول من قال: قيل أن هذه الضمة المنحوّ بها نحو الكسرة قد جاءت في نحو قولهم: شربت من المنقر،
[الحجة للقراء السبعة: 1/347]
وهذا ابن عور وابن بور، فأمالوا هذه الضمات نحو الكسرة لتكون أشدّ مشاكلة لما بعدها وأشبه به وهو كسر الراء، فإذا أخذوا بهذا لتشاكل اللفظ، وحيث لا يميّز معنى من معنى آخر فأن يلزموا ذلك حيث يزيل اللبس ويخلّص معنى من معنى أجدر وأولى.
حجة من قال: (قيل)، فأخلص الكسرة، ولم يحرك بضمة ممالة نحو الكسرة
الحروف التي تنقل حركاتها إلى ما قبلها على ضربين:
أحدهما: أن يكون نقلا من حرف صحيح.
والآخر: أن يكون نقلا من حرف علة.
فحروف الصحة التي تنقل حركاتها إلى ما قبلها على ضربين:
أحدهما: أن يكون في تضعيف.
والآخر: أن يكون في غير تضعيف.
فأما التضعيف فنحو أعدّ، وأصمّ، واستعدّ، ومفرّ، ومردّ، فما قبل حرف التضعيف في هذه الأشياء إذا كان ساكنا ولم يك مدّة، ألقيت حركة المضاعف عليه، وإذا كان متحركا حذفت الحركة ولم تلق على شيء نحو: اعتدّ واشتدّ.
وأما غير التضعيف فعلى ضروب منها نقل الحركة من الهمزة إلى الحرف الذي قبلها إذا لم يكن الحرف للمدّ فقط.
[الحجة للقراء السبعة: 1/348]
ومنها نقل حركة افتعل ويفتعل نحو يهتدي ويقتدي.
ومنها الحركة في الوقف، وهي على ضربين:
أحدهما: أن يكون حركة إعراب كقوله:
إذ جدّ النّقر والآخر: أن يكون حركة البناء نحو اضربه وقده، فهذا نقل الحركة من حروف الصحّة.
وأمّا نقل الحركة من حروف العلة فنحو الفعل من القول والبيع، والفعل فيه على ضربين.
أحدهما: أن يكون فاعله ضميرا يتصل بالفعل، والآخر أن يكون ظاهرا لا يتصل به فإذا بني الفعل للفاعل الظاهر قيل:
قام زيد، وباع عمرو، فلا تنقل في هذا حركة العين عن موضعها.
وقد شذّ قولهم: كيد زيد يفعل، وما زيل، فلا تنقل الحركة من غير هذا إلى الفاء، كما تنقل إذا اتصلت بضمير المخاطب والمتكلم، نحو قمت، وبعت، فنقلت الحركة التي كانت للعين إلى الفاء.
فأما حجّة من قال: قيل- فحرك الفاء بالكسر- أنّهم يزعمون أنّ هذه اللغة هي الأصل، وما عداها داخل عليها، يدلّ على ذلك أنّ الأصل فعل، فنقلت حركة العين إلى الفاء، كما نقلت حركة العين إلى الفاء إذا بنيت الفعل للفاعل من
[الحجة للقراء السبعة: 1/349]
قلت، لأنّ حركة العين من فعلت الضمة في بناء الفعل للفاعل بعد نقل فعلت إلى فعلت، نقلت الضمة إلى الفاء، كما نقلت الحركة التي هي الكسرة إلى الفاء، إذا بنيت الفعل للمفعول، فلحق الإعلال العين بالقلب لاجتماع المقاربة كما يلحق اللام في: غزا، ورمى، لتوالي ذلك. ولو فصل السكون لصحّ كما صح نحو: غزو ورمي، وأتبع المضارع الماضي، ولحق الإعلال في قيل العين وما قبلها.
أمّا الإعلال في العين فيقلبها إلى الألف، وما قبلها اعتلّ بنقل حركة العين إليها وحذف حركتها، ولحق الإعلال في باب العين العين وما قبلها كما لحق اللام وما قبلها في باب غزا ورمى.
وإنما نقلت الحركة في قيل إلى الفاء ليعلم بذلك حركة العين، ألا ترى أنّك إذا سمعت الضمة في قلت، والكسرة في بعت علمت أن حركة العين في باع كسرة كما تعلم أنها في قلت ضمة، وإذا سمعت قيل وبيع علمت أن حركة العين الكسرة إذا بني الفعل للمفعول به على فعل، فجعلت حركة العين إذا كانت واوا الضمة وإذا كانت ياء الكسرة، لأن الضمة من جنس الواو، كما أن الكسرة من جنس الياء، فلهذه المجانسة فعل هذا ليس لأنّ الضمة تدل على أنّ العين واو، ولا الكسرة تدلّ على أنّ العين ياء، ألا ترى أنّهم قد جمعوا بين
[الحجة للقراء السبعة: 1/350]
خفت وهبت في الكسرة وإحداهما من الياء، والأخرى من الواو وقد قلنا في ذلك في غير هذا الموضع.
بسم الله: قال: حمزة يقف على: (مستهزءون) بغير همز، وكأنّه يريد الهمز، ويشير إلى الزاي بالكسر كما كان يفعل في الوصل، وهذا لا يضبطه الكتاب. وكذلك كان يفعل بقوله: ليواطؤا [التوبة/ 37] ويستنبئونك [يونس/ 53] ومتّكؤن [يس/ 56]، وفمالؤن [الصافات/ 66] والخاطؤن [الحاقة/ 37] والصّابئين [البقرة/ 62، والحج/ 17] والصّابئون [المائدة/ 69] والباقون يصلون بالهمز ويقفون أيضا كما يصلون.
قال أبو زيد: هزئت به هزءا ومهزأة، وأنشد غيره:
ألا هزئت بنا قرشي... ية يهتز موكبها
وقالوا: هزئت منه. أنشدنا علي بن سليمان:
وهزئت من ذاك أم موأله
[الحجة للقراء السبعة: 1/351]
ومعنى يستهزءون يهزءون، كما أن قوله: وإذا رأوا آيةً يستسخرون [الصافات/ 14] يسخرون، ومثل هذا قرّ، واستقر، وقالوا: علا قرنه واستعلاه، وقال أبو زيد: استعلى عليه، وقال أوس:
ومستعجب ممّا يرى من أناتنا... ولو زبنته الحرب لم يترمرم
وقد جاء استفعل في معنى أفعل، كما جاء في معنى فعل. قالوا: استجاب وأجاب، وأنشد أبو زيد.
فلم يستجبه عند ذاك مجيب أي لم يجبه.
وقالوا: استخلف لأهله، وأخلف لأهله. قال:
[الحجة للقراء السبعة: 1/352]
ومستخلفات من بلاد تنوفة... لمصفرّة الأشداق حمر الحواصل
وقال آخر:
...................... سقاها فروّاها من الماء مخلف
وقال: مثلهم كمثل الّذي استوقد ناراً [البقرة/ 17] وقال: كلّما أوقدوا ناراً للحرب [المائدة/ 64].
قال أبو زيد: وقالوا: رجل هزأة: يهزأ بالناس، وهزأة:
يهزأ به الناس.
اختلف النحويون في تخفيف الهمزة في: (يستهزءون).
فقال سيبويه: تجعلها إذا خففتها بين بين، فتقول:
(يستهزوون).
وزعم أن جعلها بين بين، قول العرب والخليل. وكذلك
[الحجة للقراء السبعة: 1/353]
قال في الهمزة المكسورة إذا كان ما قبلها مضموما نحو مرتع إبلك تجعلها بين بين.
ويذهب أبو الحسن في يستهزءون إلى أن يقلب الهمزة ياء قلبا صحيحا، ولا يجعلها بين بين كما ذهب إليه سيبويه والخليل.
فأمّا إذا كانت مكسورة وقبلها ضمة فإنّه لا يخلو من أن يكون في كلام متصل أو منفصل، فإن كان متصلا قلبها واوا مثل بأكموك، وإن كان منفصلا قلبها ياء مثل: عبد يخوتك وسنذكر قوله بعد ذكر ما احتج به لسيبويه.
قال أبو عثمان: سأل مروان بن سعيد المهلبيّ أبا عمر الجرمي في مجلس أبي الحسن الأخفش، فقال:
كيف تخفف همزة جؤن؟ فقال: جون، فجعلها واوا خالصة.
فقال له مروان: لم لا جعلتها بين بين، فنحوت بها نحو الألف؟
[الحجة للقراء السبعة: 1/354]
قال: فقال: من قبل أن الألف لا تقع بعد ضمة فكذلك ما قرب منها.
فقال: فكيف تخفف همزة مئر؟ فقال: مير، فجعلها ياء خالصة مثل الأولى في العلة.
فقال له مروان: فكيف تخفف همزة يستهزءون؟
فقال: أبو عمر يستهزوون، فجعلها بين بين، ونحا بها لانضمامها نحو الواو.
قال أبو عثمان: وهو قول سيبويه.
فقال له مروان: لم لا صيرتها ياء لأن الواو المضمومة لا تقع بعد كسرة.
قال أبو علي: يريد مروان أن الكسرة لا تقع بعدها الواو المضمومة فكذلك ينبغي ألا يقع بعدها ما قرب من الواو المضمومة بالتخفيف، كما أنّ الضمة والكسرة، لمّا لم تقع بعدهما الألف فكذلك لم يقع بعدهما ما قرب منهما بالتخفيف، فقلبت الهمزة بعدهما قلبا، فكذلك كان يلزم أن نبدل من الهمزة المضمومة بعد الكسرة ياء إذا لم تقع بعد الكسرة واو مضمومة في موضع، فكذلك ما قرب من الواو المضمومة من الهمز بالتخفيف ينبغي ألا تقع بعدها.
(رجع إلى كلام أبي عثمان):
[الحجة للقراء السبعة: 1/355]
قال أبو عثمان: فقال أبو عمر وأجاد عندي: هي وإن لم يكن مثلها في الكلام فأنا أقدر أن ألفظ بها، وتلك الأولى لا أقدر على أن ألفظ بها إذا نحوت بها نحو الألف وقبلها كسرة أو ضمة.
قال أبو عثمان: وهذا قولي، وحجتي فيه هذه.
وأما الأخفش فكان يقول: (يستهزيون) إذا خفف فيجعلها ياء خالصة من أجل الكسرة التي قبلها. انتهت حكاية أبي عثمان.
قال أبو علي: إن قال قائل: إذا لم يجعلها بين بين فلم قلبها ياء للكسرة التي قبلها، وهلّا قلبها واوا لتحركها بالضمة؟
قيل: إنّه إذا ترك أن يجعلها بين بين، فلا يخلو من أن يقلبها ياء أو واوا، فلا يجوز أن يقلبها واوا وقبلها كسرة، لخروجه إلى ما لا نظير له، ألا ترى أنّه ليس واو مضمومة قبلها كسرة؟
وإذا لم يجعلها بين بين كما جعلها غيره لكراهته تقريبها من واو مضمومة قبلها كسرة فأن يرفض قلبها إلى نفس الواو المضمومة المكسور ما قبلها أجدر، فإذا لم يجز قلبها واوا صارت نحو: شيوخ وفي بيوتٍ أذن اللّه [النور/ 36] على أنّ (يستهزيون) أسوغ في هذا لأن الضمة فيها إعراب فليست
[الحجة للقراء السبعة: 1/356]
بثابتة ثبات عين فعول، فهو مثل فخذ في الرفع ليس مثل فعل المرفوض من كلامهم.
ويقوي قلبها إلى الياء أنّها في جون ومير قد قلبت إلى الحرف المجانس لما قبلها من الحركة وهي متحركة، فكذلك في (يستهزيون) تقلب إلى الحرف المجانس لما قبلها من الحركة مع كونها متحركة.
فإن قال قائل: فهلا قلبها إلى الحرف الذي منه حركتها كما قلبها إلى الحرف الذي منه حركتها في أيمّة، ولم يقلبها إلى ما يجانس الحركة التي قبلها كما لم تقلبها في أئمة إلى ما يجانس الحركة التي قبلها، ألا ترى أنّك لم تقل أامّة ولكن قلبتها إلى الياء لما تحركت بالكسرة؟
قيل: لم يجز أن تقلب إلى ما ذكرت في يستهزءون لخروجها إلى ما لا مثل له في كلامهم.
وجاز في أئمة أن تقلب إلى الحرف الذي منه حركتها من حيث لزم إلقاء حركة المدغم فيه على ما قبله، ولولا ذلك لقلبتها على ما قبلها من الحركة كما قلبتها في إناء وآنية، ولكن لما لزم إلقاء حركة المدغم عليها كما لزم في أخلّة ونحوه وجب تحركها، ولما وجب تحركها، وجب قلبها إلى الياء لتحركها بالكسرة إذ لم يمكن قلبها إلى الحرف المجانس
[الحجة للقراء السبعة: 1/357]
للحركة التي قبلها، ولم يجز إسكانها وقلبها ألفا لأنها فاء كالفاء في أخلّة ونحوه، وليس في يستهزءون حركة لمدغم يلزم أن تلقيها عليها، فتقلبها إلى ما يجانس حركتها دون ما يجانس الحركة التي قبلها.
فإن قلت: كيف استجاز أن يقلب الهمزة ياء محضة في يستهزءون ويحركها بالضم، وليس ياء هي لام على هذا الوصف تتحرك بالضمة؟ فإن ذلك فيما أصله الهمزة لا يمتنع، وإن لم يجز فيما أصله غير الهمز، لأنّ الهمزة لما كانت منويّة كانت في تقدير الثبات، ألا ترى أنّه وإن خففها تخفيفا قياسيا لم يقلبها قلبا إلى الياء، وإذا كان كذلك لم يمتنع ثباتها وتحريكها، وإن لم يجز ذلك في الياءات التي ليس أصلها همزات، كما لم تمتنع الواو الساكنة من أن تقع قبل الياء مبيّنا غير مدغم إذا كان أصلها الهمزة نحو نؤي، ورؤيا وإن كان فيما يمتنع ذلك فيما أصله غير الهمز من الواوات.
ومما يدلك على صحة ذلك من قوله: إنّها في قولهم جميعا تثبت ساكنة في الجزم. فكما جاز أن يخالف الياءات التي هي لامات عند الجميع في السكون للجزم، كذلك جاز عنده أن يخالفهن في الحركة أيضا.
وقال أبو الحسن في كتابه في القرآن: من زعم أن الهمزة المضمومة لا تتبع الكسرة إذا خففت دخل عليه أن يقول: هذا قارو، وهؤلاء قاروون، ويستهزوون، قال: وليس
هذا من كلام من خفف من العرب.
[الحجة للقراء السبعة: 1/358]
قال أبو علي: وجه دخول هذا عليه ولزومه له عنده أن الهمزة إذا كانت مفتوحة وكان ما قبلها مفتوحا فخففت جاز تخفيفها، فكذلك إذا كانت مكسورة وما قبلها مفتوح، وكذلك إذا كانت مضمومة وما قبلها مفتوح، وذلك أنّها إذا كانت مفتوحة، وما قبلها مفتوح أو مضمومة أو مكسورة وما قبلها مفتوح، فإنّك في ذلك كله تقرب الهمزة من الحرف الذي منه حركتها، فتقرب المفتوحة من الألف، والمكسورة من الياء الساكنة، والمضمومة من الواو الساكنة، فكما أن الألف والواو والياء الساكنين يجوز أن يقع كل واحد منها بعد الفتحة نحو: دار وبيت، وثوب، كذلك جاز أن تخفّف الهمزة بعدها فتقربها بالتخفيف من هذه الحروف السواكن.
فإذا كانت الهمزة مفتوحة وقبلها ضمة أو كسرة خففتها بالقلب إلى الحروف التي حركتها منها بلا خلاف. وذلك نحو التّودة، وجون ومير، وذيب، وإنما قلبتها إليهما لأنك إذا خففت المفتوحة بعد الكسرة في مير قربتها من الألف، والألف لا تكون قبلها كسرة، وكذلك جون إذا خففتها قربتها من الألف، والألف لا تكون قبلها ضمة، فلما لم تكن بعد الكسرة ألف ولا بعد الضمة كذلك، لم يكن بعدهما ما قربته منه فقلبت قلبا لذلك إلى الواو أو إلى الياء.
فإن كانت مضمومة وقبلها كسرة فخففتها مثل يستهزءون، ومن عند أختك، فلا يخلو إذا خففتها من أن تنحو بها نحو
[الحجة للقراء السبعة: 1/359]
الحرف الذي منه حركتها.
فإن قلت: أقربها منه فأقول: يستهزوون، لم يستقم لأنّك تقربها من واو ساكنة والواو الساكنة لا تكون قبلها كسرة، فلا يجوز إذا أن تقربها من الواو الساكنة فتجعلها بين بين، كما لم يجز ذلك في جون ومير، ولزمك قلبها ياء على حسب الحركة التي قبلها كما قلبتها ياء أو واوا في جون، ومير، بحسب الحركة التي قبلها إذ لم يجز أن تكون بين بين لتقريبك إياها بالتخفيف من الواو الساكنة، والواو الساكنة لا تكون قبلها كسرة.
وإذا لم تكن قلبتها إلى الياء فقلت: يستهزءون حيث لم تكن بعد الكسرة واو ساكنة كما قلبتها بعد الكسرة أو الضمة إذا كانت مفتوحة إلى الياء أو إلى الواو حيث لم يجز أن يكون بعد الكسرة والضمة ألف فقد بان أن جعلها بين بين غير مستقيم للكسرة التي قبلها مع كونها مضمومة.
فإن قلت: لا أقلبها ياء ولا أتبعها الحركة التي قبلها ولكن أتبعها الحركة التي عليها وهي الضمة، فأقلبها واوا إذ لم يجز أن أتبعها الكسرة التي قبلها- لزمك أن تقول: هذا قارو، فتصحح الواو بعد الكسرة إذ لم يكن سبيل إلى أن تجعلها بين بين، وأنت قد قلت: لا أتبعها الكسرة التي قبلها فأقلبها إلى الياء فأقول: قاري، ويستهزيون، فبقي أن تقلبها واوا، فتجعلها من جنس الحركة التي تحركت بها فتقول: قارو، لتكون قد خففتها إذ
[الحجة للقراء السبعة: 1/360]
لا سبيل إلى أن تجعلها بين بين، ولا تنقلب ياء عندك، فهذا وجه لزوم قلبه إياها واوا وهذا ليس عليه أحد ممن يخفف الهمز، فإن لم يقلبها ياء خرجت بترك قلبها ياء عن قول العرب فيها إذا قلبتها واوا فقلت: قاروون ويستهزوون.
وكذلك إذا كانت الهمزة مكسورة وقبلها ضمة عكس قولك قارئ ويستهزءون فإنك تقلبها واوا، فتقول: مررت بأكموك، فقلبت الهمزة على الحركة التي قبلها كما أتبعتها في يستهزءون الحركة التي قبلها بأن قلبتها ياء كذلك في أكموك تتبعها الحركة التي قبلها، بأن تقلبها واوا فتجعلها من جنس الضمة التي قبلها، فتقول بأكموك، ولا يجوز بأكميك فتجعلها على حركتها كما لم يقولوا: قارو، فيجعلوها على حركتها، ولا يتبعوها ما قبلها.
ولا يجوز أن تجعل: بأكموك بين بين، لأنّك تقربها من الياء الساكنة، فكما لا تكون الياء الساكنة بعد الضمة كذلك لا تكون الهمزة المكسورة بعد الضمة بين بين على قياس
قولهم:
جون ومير، والاتفاق الواقع في ذلك.
فإن قلت: فإذا لم تجعلها بين بين لما قلت من أنّها تقرّب من الياء الساكنة، والياء الساكنة لا تكون بعد الضمة فهلّا قلبتها ياء ولم تقلبها واوا لأنّك قد تجد الياء المكسورة في كلامهم تقع بعد ضمة، ألا ترى أنّك لو قلت: صيد في هذا المكان لجاز كما يجوز عور، في هذا المكان؟ فما الذي جعل قلبها
[الحجة للقراء السبعة: 1/361]
إلى الواو عنده في أكموك من قلبها إلى الياء في أكميك لما أريناك من صيد.
فالقول: إن قلبها إلى الواو أولى، لأنّك قد وجدتهم في تخفيف الهمز يتبعون الهمزة حركة ما قبلها كثيرا، وقد وجدتهم قلبوا عكس هذا على ما قبلها، وذلك قولهم: (يستهزيون)، وقاري، فكما أتبعوا هذه الهمزة حركة ما قبلها كذلك يتبعون الهمزة في أكموك حركة ما قبلها ويقلبونها إليه، فيكون لذلك أولى وأقوى في القياس من قلبها إلى الياء على حركة نفسها.
ومما يدلّ على أن قلبها إلى الواو في المتصل أقوى من قلبها إلى الياء أن ما جاء فيه الواو من المتصل مصححة أكثر مما جاء فيه الياء، ألا تراهم قالوا: عور في هذا المكان، وحول فيه، واجتور، واعتون، واعتور، والياء إنّما جاء في صيد فيه وحيي به وعيي به فيمن بيّن ولم يدغم، ومع ذلك، فإنّ أبا الحسن قد جوّز على قياس أكميك في المنفصل فقال:
إلّا أن تكون المكسورة مفصولة فتكون على موضعها لأنّها قد بعدت، يريد بقوله على موضعها أنّها تقلب إلى جنس حركتها.
والواو قد تقلب إلى الياء مع هذا وذلك نحو غلام يخوانك، والمكر السيئ يلا [فاطر/ 43] فلما وجد لقلبها إلى الياء طريقا بدلالة صيد فيه كما وجد لقلبها إلى الواو طريقا ألزم الواو المتصل لتكون على ما قبلها مثل جون ومير وقاري. فإنّها قلبت على ما قبلها وجعل المنفصل بالياء وقال: لأنّ الواو تقلب إلى
[الحجة للقراء السبعة: 1/362]
الياء فأخذ بالأمرين، ورأى القلب إلى الواو في الاتصال أولى، وجعل المنفصل بالياء، لأنّ الضمة بالانفصال قد بعدت، فجعلها على حركة نفسها.
فإن قلت: أفليس قد أتبعوها حركة نفسها في المتصل في قولهم: أيمّة، ولم يتبعوها حركة ما قبلها فيقلبوها ألفا، ويقولوا: «أامة»، فهلا جاز في قولهم: بأكموك، أن يتبعوها حركة نفسها، فيقولوا: بأكميك كما فعل في (أيمة).
فالقول: إن هذا ليس كأيمة، وذلك أنّ التي في أيمة لزم إلقاء حركة المدغم عليها فلما لزم إلقاء حركة المدغم عليها لم يجد بدّا من تحريكها، ولما لم يجد بدّا من تحريكها كانت حركتها أولى أن تقلب إليها من أن تجعل على ما قبلها مع تراخي تلك عنها وقرب الكسرة منها، ألا ترى أنّها لو قلبت على ما قبلها من الفتحة فقلبت ألفا وحركة المدغم التي يلزم إلقاؤها عليها الكسرة لم يستقم، لأنّ الألف لا تحرّك فقلبت الهمزة في أيمّة على حركتها لذلك؟
فأمّا ما حكاه محمد بن السري في كتابه في القراءات عن أبي الحسن من أنّه قال: من زعم أن الهمزة المضمومة لا تتبع الكسرة إذا خففت. دخل عليه أن يقول: هذا قاري، وهؤلاء قاريون، ويستهزيون.
[الحجة للقراء السبعة: 1/363]
وقال: قال: يعني أبا الحسن: وليس هذا من كلام من خفف من العرب إنّما يقولون: يستهزيون- فخطأ في النقل، أتراه يلزم الخليل وسيبويه أن يقولوا هذا في المتصل، وقد رآهم قالوا ذلك في المنفصل نحو: من عند أختك؟ ويسمعهم يقولون: إنّه قول العرب، فيلزمهم قولهم؟ وما يقولون: إنّه قول العرب! هذا ما لا يظن.
وأبو الحسن قد فصل بين المتصل والمنفصل في أكموك وغلام يخوانك فقلب المتصل واوا، والمنفصل ياء. هذا الذي حكاه عنه غلط في النقل، وإنّما هو دخل عليه أن يقول: هذا قارو بالواو، كما حكيناه عنه، وكذلك رواه أبو عبد الله اليزيديّ عنه في كتابه في «المعاني»، ثم ما حكاه عن أبي الحسن من قولهم: إنّما يقولون يستهزيون على ماذا تحمله: على التحقيق أم على جعلها بين بين؟ [فإن حمله] على التحقيق لم يجز، لأنّ الكلام ليس فيه، إنّما الكلام على التخفيف [فإن حملته] على جعلها بين بين قد أثبتّ إذا ما أنكره وما لم يقله أحد من أهل التخفيف عنه، هذا خطأ عليه فاحش في النقل.
وأمّا ما ذكره محمد بن يزيد في هذه المسألة في كتابه المترجم بالشرح من قوله: والأخفش لا يقول إلا كما يقول النحويون: هذا عبد يبلك، ولكن يخالف في يستهزءون، فهذا
[الحجة للقراء السبعة: 1/364]
الإطلاق يوهم أنّه لا يفصل بين المتّصل والمنفصل، وقد فصل أبو الحسن بين أكموك وعبد يخوانك، فينبغي إذا كان كذلك ألّا ترسل الحكاية عنه حتى تقيّد، ويفصل بين المتصل والمنفصل كما فصل هو). [الحجة للقراء السبعة: 1/365]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض}
قرأ الكسائي {وإذا قيل لهم} بالإشمام وكذلك يفعل في غيض الماء وسيء وحيل وجيء وسيق وابن عامر دخل معه في حيل وشيء وسيق ونافع دخل معهما في سيء
[حجة القراءات: 89]
وقرأ الباقون جميع ذلك بالكسر وحجتهم في ذلك أن الأصل في ذلك قول وحول وسوئ وسوق وغيض وجيئ فاستثقلت الضمة على فاء الفعل وبعدها واو مكسورة وياء مكسورة فنقلت الكسرة منهما إلى فاء الفعل وقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فقيل في ذلك قيل وحيل وأخواتها
وحجّة الكسائي في ذلك أنه لما كان الأصل في كل ذلك فعل بضم الفاء الّتي يدل ضمها على ترك تسمية الفاعل أشار في أوائلهن إلى الضّم لتبقى بذلك دلالة على معنى ما لم يسم فاعله وأن القاف كانت مضمومة - صلّى اللّه عليه وسلّم-). [حجة القراءات: 90]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ):(7- قوله: «قيل» وأخواتها، قال أبو محمد: اختلف القراء في إشمام الضم في أوائل ستة أفعال قد اعتلت عيناتها، وقلبت حركتها على ما قبلها، فسكنت العينات، وقلبت ما فيه واو ياءات، لانكسار ما قبلها، وتلك الأفعال: «سيء، وسيق، وحيل، وجيء، وقيل، وغيض» فقرأ هشام والكسائي بإشمام الضم في أوائلها، وقرأ ابن ذكوان بالإشمام في أول «سيء، وسيئت، وسيق، وحيل» وقرأ نافع بالإشمام في «سيء، وسيئت» خاصة،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/229]
وبالكسر في باقيها، وقرأ الباقون بالكسر في أوائل جميعها.
8- وحجة من قرأ بالإشمام، في أوائل هذه الأفعال الستة، أصلها أن تكون مضمومة، لأنها أفعال لم يُسم فاعلها، منها أربعة، أصل الثاني منها واو، وهي «سيء، وسيق، وحيل، وقيل»، ومنها فعلان، أصل الثاني منها ياء وهما «غيض، وجيء»، وأصلها: «سوي، وقول، وحول، وسوق، وغيض، وجيء» ثم ألقيت حركة الثاني منها على الأول فانكسر، وحذفت ضمته، وسكن الثاني منها، ورجعت الواو إلى الياء، لانكسار ما قبلها وسكونها، فمن أشم أوائلها الضم أراد أن يبين، أن أصل أوائلها الضم، كما أن من أمال الألف، في «رمى، وقضى» ونحوه، أراد أن يبين، أن أصل الألف الياء، ومن شأن العرب في كثير من كلامها المحافظة على بقاء ما يدل على الأصول، وأيضًا فإنها أفعال بنيت للمفعول، فمن أشم أراد، أن يُبقى في الفعل ما يدل على أنه مبني للمفعول لا للفاعل.
9- وعلة من كسر أوائلها أنه أتى بها على، ما وجب لها من الاعتلال، كما أتى من لم يمل «رمى، وقضى» ونحوه، بالألف والفتح، على ما وجب لهما من الاعتلال.
10- فإن قيل: فلم أجمعت العرب على ترك الإشارة في «قل، وبع» وأصل حركة الأول فيها الفتح، والضم والكسر ليسا بأصل فيهما، وكذلك أجمعوا على ترك الإشارة إلى ضمة الواو، التي كانت في أصل «يقوم، ويقول»، وأصلهما الضم، فنقلت الضمة، التي على الواو، إلى ما قبلها، وسكنت الواو، وكذلك أجمعوا على ترك الإشارة إلى كسرة الياء في «يبيع، ويكيل» وأصلهما الكسرة، ثم نقلت الكسرة إلى الحرف الذي قبلهما، وسكنت الياء فيهما.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/230]
11- فالجواب أن الحركة، التي كانت على هذه الحروف، باقية في الكلمة لم تحذف، وهي ضمة القاف في «يقوم، ويقول» وكسرة الياء والكاف في «يبيع، ويكيل» فلما كانت الحركة باقية لم تحتج إلى الإشارة، إنما تقع الإشارة لتدل على الحركة المحذوفة من الكلام، فلما كانت ضمة أوائل الأفعال الستة محذوفة، أتى بالإشارة، لتدل على الحركة المحذوفة من الكلام، فأما من أتم الضم في بعضها وتركه في بعض، فإنه قرأ على ما نقل، وجمع بين اللغتين، إذ الإشارة وتركها لغتان فاشيتان مشهورتان.
12- فإن قيل: هل تُسمع هذه الإشارة أو لا تُسمع، وهل ترى أو لا ترى، وهل تحكم على الحرف الأول، الذي معه الإشارة، بالضم أو بالكسر؟
13- فالجواب أن الإشارة إلى الضم، في هذه الأفعال، تُسمع، وترى في نفس الحرف الأول، والحرف الأول مكسورة، ومع ذلك الكسر إشارة إلى الضم، تخالطه، كما أن الحرف المتحرك الممال؛ لإمالة فيه، تسمع وترى في نفس الحرف الممال، والممال مفتوح، ومع ذلك الفتح إشارة إلى الكسر تخالطه، لتقريب الألف، التي من أجلها وقعت الإمالة، إلى الياء، وكذلك تقريب الألف الممالة إلى الياء في حال الإمالة تُسمع وتُرى لأنها ليست بحركة، وليس الحرف الأول من هذه الأفعال بمضموم، إنما هو مكسور، يخالط كسرته شيء من ضم يسمع، كما أن الحرف، المفتوح الممال، حكمه الفتح، ويخالط فتحته شيء من كسرة، يسمع، فبالحرف الممال يشبه هذه الإشارة إلى الضم، في هذه الأفعال، سيبويه وغيره، ألا ترى أن أوائل هذه الأفعال، لو
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/231]
كانت مضمومة، أو الضم أغلب عليها، لانقلبت الياءات واوات، إذ ليس في كلام العرب ياء ساكنة قبلها ضمة، فلولا أن الحرف الأول مكسور ما ثبت لفظ الياء فيهن، ويدل على ذلك أن بع العرب يترك أوائل هذه الأفعال على ضمته، التي وجبت له، وهو فعل ما لم يُسم فاعله، فإذا فعل ذلك أتى بالواو في جميعها فقال: «قول، وحول، وسوق» ونحوه.
قال أبو محمد: والكسر أولاهما عندي، كما كان الفتح أولى من الإمالة، وقد قرأ بإشمام الضم فيها الحسن ويحيى بن يعمر والأعمش، وقرأ بالكسر الأعرج وأبو جعفر يزيد وشيبة وأيوب وعيسى وشبل وأهل مكة، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وأبي طاهر، قال أبو طاهر: الكسر سنن العربية، وقال أبو حاتم: الكسر قراءة العامة في جميع ذلك، وهي في اللغات أفشى، وفي الآثار أكثر، وعلى الألسنة أخف، وفي قياس النحو أجود.
قال أبو محمد: فأما ما وقع من هذا من المصادر فلا يجوز فيه إشارة إلى ضم ألبتة، وذلك قوله: {وأقوم قيلا} «المزمل 6»، و{إلا قيلا سلاما} «الواقعة 26» و{قيله يا رب} «الزخرف 88» و{من أصدق من الله قيلا} «النساء 122»، وإنما وجب ذلك؛ لأنها مصادر، لا أصل لأوائلها في الضم). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/232]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (8- {وإذا قيل} [آية/ 11]:-
بإشمام القاف الضم، وكذلك: {غِيضَ} و{سِيءَ} و{سِيئَتْ} و{حِيلَ} و{سِيقَ} و{جِيءَ}، قرأها الكسائي و- (يس)- عن يعقوب.
وإنما اختار إشمام الكسرة الضمة في هذه الأفعال التي لم يسم فاعلها ليكون دليلًا على أن الفعل على فُعِل فيؤمن بها التباس الفعل المبني للفاعل
[الموضح: 247]
بالفعلِ المبني للمفعول به؛ لأنّ أصلَ {قِيلَ} قُوِلَ، بضم القاف وكسر الواو، فنُقِلَت الكسرةُ إلى القافِ ليُدلّ على أنّ عينَ الفعلِ مكسورةٌ، فلمّا نُقِلَتْ إليها الكسرةُ زالتْ عنها الضمةُ التي كانتْ فيها؛ لأنّ الحرفَ الواحدَ لا تحلّهُ حركتان، فأشمّها الضمةَ مَنْ أَشَمَّ ليدل بذلك على الضمةِ المُزالةِ، وقد فعَلُوا مثل ذلك الإشمام في قولهم: أَنتِ تَغْزِينَ؛ ليدُلّوا بالإشمام على أنّ أصله: تَغْزُوِينَ.
ونافعٌ يُشمّ الضمَّ في {سيء} و{سِيئَتْ} فقط، ووافقَهُ ابنُ عامر فيهما، وزاج عليهما {حِيل} و{سيق} فصارا أربعة أحرفٍ.
وإنما قصرا هذا الحكم على البعض دون البعض أخذًا باللغتين، واتباعًا للسنة.
وأما الباقون و-ح- عن يعقوب فإنهم يكسرون أوائل هذه الأفعال كلها، ولا يشمونها؛ لأن ذلك هو الأصل، وما سواه داخل فيه؛ لأن الأصل فيه: فعل، فنقلت حركة العين إلى الفاء، ليعلم بذلك حركة العين، فلما فعل هذا النقل في فعل المبني للمفعول به اكتفي به فارقًا بينه وبين فعل المبني للفاعل، لكن من اختار القراءة الأولى أراد زيادة الفرق، وأن تقع المحافظة على الضمة الفاء بالإشمام، كما وقعت المحافظة على كسرة العين بالنقل إتمامًا للفرق بين الفعلين المبني للفاعل والمبني للمفعول به، على أن أكثر العرب على الكسر دون الإشمام إذ هو الأصل). [الموضح: 248]
قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا كَمَا آَمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آَمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله تعالى: (السّفهاء ألا)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (السّفهاء ألا) بهمز الأولى
[معاني القراءات وعللها: 1/136]
وطرح الثانية، وكذلك يفعلون بكل همزتين برزتا مختلفتين من كلمتين في جميع القرآن، فإذا وردتا متفقتين همزوا الثانية وتركوا الأولى، كقوله: (جا أمرنا) و(شا أنشره) ونحوهما.
وكان ابن كثير ونافع إذا أتت الهمزتان المتفقتان في موضع خفض حوّلا الأولى إلى الياء، فقرءا: (هؤلاي إن) و(على البغاي إن)، فإذا أتيا مضمومتين حوّلا الهمزة الأولى إلى الواو، كقولك: (أؤلياو أولئك)، وكان ابن كثير ونافع يهمزان الثانية في المكسورتين، ويعوضان من الأولى كسرة مختلسة، وفي المضمومتين يهمزان الثانية ويعوضان من الأولى ضمة مختلسة، وأما المفتوحتان فإن ابن كثير ونافعًا وأبا عمرو يهمزون الثانية ويطرحون الأولى، ولا يبدلون منها فتحة.
[معاني القراءات وعللها: 1/137]
وكان يعقوب يجمع بين الهمزتين المختلفتين في قوله: (السّفهاء ألا) ومذهبه في المتفقتين همز الثانية وتعويض من الأولى في المضمومتين واوا، وفي المفتوحتين ألفا، وفي المكسورتين ياء.
وقرأ الباقون كل هذا بهمزتين همزتين.
قال أبو منصور: قد أعلمتك أن هذه القراءات في باب الهمز لغات مأخوذة عن العرب، فبأي لغة قرأت فقد أصبت، إذا قرأ به قارئ يقرأ بالسنة). [معاني القراءات وعللها: 1/138]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ):(12- وقوله تعالى {السفهاء ألا}
قرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن عامر بهمزتين على أصل الكلمة، همزة «ألا» وهي مفتوحة، وهمزة {السفهاء} وهي مضمومة.
وقرأ الباقون بهمزة واحدة، ولينوا الثانية كراهة لاجتماع همزتين، غير أنهم اختلفوا إذا كانت الهمزتان متفقتي الحركتين وهما: أن يكونا مضمومتين نحو: {أولياء أولئك} أو مكسورتين نحو: {هؤلاء إن كنتم صادقين} أو مفتوحتين نحو: {ءأنذرتهم} فقرأ ابن كثير وورش عن نافع بتليين الثانية وهمزة الأولى نحو: {هؤلاء إن كنتم} {ثم إذا شاء انشره} وهو اختيار الخليل رحمه الله شبهة بآزر وآدم، أعني في تليين الثانية.
وقال أبو عمرو بحذف الهمزة الأولى تخفيفًا {هؤلاء إن كنتم} {شاأنشره} و{أوليا ألئك}.
وقرا نافع بلفظة كالياء، أعني الهمزة الأولى إذا كانت مكسورة، وبلفظة كالواو إذا كانت مضمومة في رواية قالون والمسيبي نحو قوله عز وجل: {هؤلاء إن كنتم} {وأولياء ألئك} لأنه كما لين الهمزة جعلها شبه الواو والياء، وقرأ الباقون بهمزتين على أصل الكلمة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/69]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : (باب الهمزتين
باب الهمزتين تلتقيان من كلمتين وهما مختلفتا الإعراب وهما على ستّة أوجه وجه منها لم يجئ في القرآن وهي الهمزة المكسورة الّتي بعدها همزة مضمومة كقولك هؤلاء أمراء وباقيها موجودة في القرآن
1 - فأول ذلك المضمومة الّتي بعدها المفتوحة كقوله {السّفهاء ألا} تهمز الأولى وتخفف الثّانية وتنحو بها نحو الألف
2 - وبعد ذلك المضمومة الّتي بعدها مكسورة كقوله {ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا} تهمز الأولى وتنحو بالثّانية نحو
[حجة القراءات: 90]
الياء من غير أن تكسرها
3 - والثّالثة المفتوحة الّتي بعدها مكسورة نحو قوله {أم كنتم شهداء إذ حضر}
4 - والرّابعة المفتوحة الّتي بعدها مضمومة كقوله {جاء أمة رسولها} تهمز الأولى وتنحو بالثّانية نحو الواو من غير ضم
5 - والخامسة المكسورة الّتي بعدها مفتوحة نحو قوله {أأمنتم من في السّماء أن يخسف} تهمز الأولى وتنحو بالثّانية نحو الألف فهذا مذهب نافع وابن كثير وأبي عمرو
وحجتهم أن العرب تستثقل الهمزة الواحدة فتخففها في أخف أحوالها وهي ساكنة نحو كاس فتقلب الهمزة ألفا فإذا كانت تخفف وهي وحدها فأن تخفف ومعها مثلها أولى
وقرأ ابن عامر وأهل الكوفة بهمزتين في جميع ذلك أرادوا التّحقيق وتوفية كل حرف حقه من حركته ونصيبه من الإعراب إذ كانت الهمزة حرفا من حروف المعجم يلزمها من الحركة ما يلزم سائر الحروف فجاؤوا بكل همزة من المجتمعتين على هيأتها إرادة التّبيين والنطق بكل حرف من كتاب الله على جهته من غير إبدال ولا تغيير فإذا التقتا متفقتي الإعراب وذلك أن تكونا مكسورتين كقوله {هؤلاء إن كنتم} أو تكونا مفتوحتين كقوله جاء أمرنا أو تكونا مضمومتين كقوله أولياء أولئك فقرأ ابن عامر وأهل الكوفة
[حجة القراءات: 91]
جميع ذلك بهمزتين وقد مر الكلام فيه
وورش عن نافع والقواس عن ابن كثير يهمزان الأولى ويلينان الثّانية ويشيران بالكسر إليها وفي المتفوحتين يشيران بالفتح إليها وفي المضمومتين يشيران بالضّمّ إليها وأما نافع والبزي عن ابن كثير فيلينان الأولى شبه الياء ويهمزان الثّانية وفي المضمومتين شبه الواو وهذا باب تحكمه المشافهة لا الكتابة وفي المفتوحتين يحذفون الأولى بلا عوض
وقرأ أبو عمرو جميع ذلك بهمزة واحدة حذف إحداهما واكتفى بالأخرى عنها وها هنا خلاف آلمحذوفة هي الأولى أم الثّانية
فمن حجّة من يقول الثّانية أنّها هي الّتي جلبت معظم الثّقل فكان الحذف فيها أوجب لأن الأولى لو انفردت لما وجب حذفها ولما جاز وحجّة من يقول الأولى هي المحذوفة هي أن الأولى وقعت في الكلمة آخرا والثّانية وقعت في كلمتها أولا والأواخر أحق بالإعلال من الأوائل ألا ترى أن هذه الهمزة إذا وقف الإنسان على جاء وعلى هؤلاء فإنّها تسقط عند الوقف فالأولى إذا أحق بالإسقاط من الثّانية). [حجة القراءات: 92]
قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (13- وقوله تعالى: {إنما نحن مستهزئون}
قرأ حمزة وحده: إذا وقف بترك الهمزة وإشمام الزاي الكسر وبجعل الهمزة بين الواو والياء، ولا يضبط ذلك الكتاب، إنما فعل ذلك لأنها كتبت في المصحف بغير ياء، والباقون يقفون كما يصلون). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/70]
قوله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) }
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (في طغيانهم).
كان الكسائي يميل الألف فيها، وفي قوله: (وفي آذانهم) و(فأحياكم) و(خطاياكم) و(مرضات الله) و(حق تقاته)
[معاني القراءات وعللها: 1/138]
و (وقد هدان) و(يسارعون) و(سارعوا) و(محياي) و(رؤياي) و(من عصاني) و(أخسن مثواي) و(ما أنسانيه) و(آتاني الكتاب)، و(أوصاني) و(آتاني الله).
و"كمشكاةٍ) و(دحيها) و(تليها) و(طحيها) و(سجى)، انفرد الكسائي بكسر هذه الحروف.
وفتحهن حمزة، وكان حمزة إذا تقدمت قبل (أحيا) واوٌ كسر الحرف، مثل قوله:
[معاني القراءات وعللها: 1/139]
(أمات وأحيا). وقد كسر حروفا من نظائر هذه الحروف، مثل قولهم: (منهم تقاةً) و(أكرمي مثواه) ولا يقاس على هذه الحروف التي ذكر عن الكسائي أنه كسرها وحده، ويفتح حمزة إياها.
واتفق حمزة والكسائي على إمالة (كلاهما) وعلى إمالة (فالق الحب والنوى)، وروى الدوري عن الكسائي أنه أمال (أول كافرٍ به)، ولم يقله أحد من القراء.
وكان ابن كثير وابن عامر وعاصم ويعقوب يفتحون هذه الحروف كلها إلا ما روي عن ابن عامر في "التوراة" و(ما أدراك) أنه كان يقرأهما بين الفتح والكسر.
وكان حمزة والكسائي يميلان كل ذوات الياء.
والإمالة لغة تميم، وعليها صيغة لسان من جاورهم من أهل العراق والبدو.
والعرب تقول: (هذا عابدٌ) و(عابدٌ)، و(عالمٌ) و(عالمٌ)
[معاني القراءات وعللها: 1/140]
فيكسرون الألف لانكسار ما بعدها إلا أن تدخل حروف الإطباق، وهي: الطاء والظاء والصاد والضاد، ولا يجوز في ذلك (ظالم)، ولا (طالب)، ولا (صابر)، ولا (ضابط).
وكذلك حروف الاستعلاء، وهي: الخاء والغين والقاف، لا يجوز في (غافل) (غافل) ولا في (خادم) خادم، ولا في (قاهر) (قاهر)، وباب الإمالة يطول شرحه إلا أن هذا في هذا الموضع هو القصد، وقدر الحاجة.
وأما إمالة مثل قوله: (سجى) و(قلى) وما أشبههما فالقياس أن ما كان منها من ذوات الياء مثل (قلى يقلي) و(سرى يسري) أميل.
وما كان في بنات الواو مثل (علا يعلو) و(سما يسمو) لم يمل، على أن الإمالة جائزة في جميعها إذا اتفقت رؤوس الآيات.
والراء إذا دخلت في أسماء على مثال (فاعل) سهلت الإمالة، وإن كان فيها حرف من حروف الإطباق مثل قولك: (هذا صارم) يميل الصاد، ولا تقول في (صالح)، وكذلك تقول: (مررت بضارب)، ولا تقول: (مررت بضابط)، وهذا الباب انفرد به البصريون، وهو - باب الإمالة). [معاني القراءات وعللها: 1/141]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (14- وقوله تعالى: {في طغيانهم يعمهون}. قرأ الكسائي وحده {في طغيانهم} بالإمالة وكذلك {في آذانهم}.
وقرأ الباقون بالفتح على أصل الكلمة، فحجة الكسائي في إمالة طغيانهم كسرة النون والياء، ولأن الطغيان والطغوى بمنزلة واحدة، قال الله تعالى: {كذبت ثمود بطغوايها} أراد: بطغيانها غير أنه قيل: الطغوى ليشاكل رءوس الآي في السورة، كما قال الله تعالى: {والكافرون هم الظالمون} وقال في موضع آخر: {أولئك هم الكفرة الفجرة} فجمع كافرًا على كفرة ليوافق رءوس الآي.
فأما إماله {آذانهم} فإن كان الكسائي أماله سماعًا فقد زال السؤال، وإن كان أماله قياسًا فقد أخطأ القياس؛ لأن ألف في «آذان» التي بعد الذال ألف الجمع، وألف الجمع لا تمال ويلزمه أن يميل {بأسمائهم} {ويطاف عليهم بآنية} فأما قوله تعالى: {من أخباركم} فإن الألف أميلت؛
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/70]
الفعل راء. وقد حدثنا أبو بكر بن مجاهد قال: حدثنا أبو الزعراء قال: حدثنا أبو عمر عن الكسائي قال: للعرب في إمالة ذوات الراء رغبة ليست لهم في غيرها حتى أمالوا: {افترى على الله} و{قد نرى} ولذلك فرق أبو عمرو بين ذوات الراء وغيرها فقرأ: {ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها} فأمال ذوات الراء ولم يمل غيرها). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/71]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ):(اختلفوا في قوله (تعالى): في طغيانهم [البقرة/ 15] وفي آذانهم [البقرة/ 19].
قال أبو عمر الدّوري ونصير بن يوسف النحوي:
[الحجة للقراء السبعة: 1/365]
كان الكسائي يميل الألف في طغيانهم، وفي آذانهم، وقال غيرهما: كان يفتح.
وقال أبو الحارث الليث بن خالد وغيره: كان الكسائي لا يميل هذا وأشباهه. والباقون يفتحون.
قال أبو علي: الطغيان: مصدر طغى، كالكفران والعدوان والرضوان.
وحكى أبو الحسن: طغا يطغو، وقالوا: يطغى في المضارع، وفي التنزيل: ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم [طه/ 81] فألف طغا تكون منقلبة عن الياء، فيمن قال:
طغيت، وعن الواو فيمن قال: طغوت.
وقالوا: طغوت، وقالوا: تطغى، كما قالوا: صغوت تصغى، ومحوت تمحى، ففتحت العين في المضارع للحلقي.
وحكى بعضهم طغيت تطغى، فتطغى على هذا مثل يفرق، لا مثل يصغى، ويجوز على هذا أن تكسر حرف المضارعة منه فتقول: تطغى، وإن جعلته مضارع طغوت أو
[الحجة للقراء السبعة: 1/366]
طغيت لم يجز ذلك فيه.
فأمّا قوله تعالى: فأهلكوا بالطّاغية [الحاقة/ 5] فيحتمل ضربين:
أحدهما أن يكون مصدرا كالعافية والعاقبة، أي:
بطغيانهم.
والآخر أن يكون صفة، أي بالريح الطاغية.
وقوله: كذّبت ثمود بطغواها [الشمس/ 11] فالواو مبدلة من الياء: لأنّه اسم مثل التّقوى والرّعوى والبقوى، لأنّ لغة التنزيل الياء بدلالة الطغيان المذكور فيه في مواضع.
فأما لا تطغوا، فلا دلالة فيها على الياء ولا الواو. وإن جعلت طغوى من لغة من قال: طغوت، كان الواو فيها من نفس الكلمة كالدّعوى والعدوى.
وحجة من أمال الطغيان هي أنّ الألف قد اكتنفها شيئان:
كلّ واحد منهما يجلب الإمالة وهما الياء التي قبلها والكسرة التي بعدها، فإذا كان كلّ واحد منهما على انفراده يوجب الإمالة في نحو السّيال والضّياح. ومررت ببابه، وبداره، فإذا اجتمعا كانا أوجب للإمالة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/367]
فإن قلت: إنّ أول الكلمة حرف مستعل مضموم، فكلّ واحد من المستعلي والضم يمنع الإمالة، فهلا منعاها هنا أيضا.
فالقول: إن المستعلي لما جاءت الياء بعده، وتراخى عن الألف بحرفين لم يمنع الإمالة. ألا ترى أنّ قوما أمالوا نحو المناشيط لتراخي المستعلي عن الألف مع أن المستعلي بعد الألف، فإذا تراخى في طغيان عنها بحرفين مع أنّه قبل الألف، كان أجدر بالإمالة، ألا ترى أنّهم قد أمالوا نحو صفاف، وقباب، ولم يميلوا نحو مراض، وفراض، لمّا كان المستعلي متأخرا عن الألف. وقالوا: بطارد [هود/ 29] وبقادر [يس/ 81] لمّا تقدم المستعلي الألف، ولم يميلوا فارق وبارض؟ وأما في (آذانهم) فجازت فيها الإمالة كما جازت في مررت ببابه، لمكان كثرة الإعراب، وهي حسنة جائزة.
والإمالة في طغيانهم أحسن). [الحجة للقراء السبعة: 1/368] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (9- {فِي طُغْيَانِهِمْ} [آية/ 15]: و {آَذَانِهِمْ} [آية/ 19]:-
بالإمالة، قرأها الكسائي وحده.
وإنما أمال {طُغْيانِهِمْ}؛ لأن أَلِفَها قد اكتنفها شيئان، واحد منهما على الانفراد جالب للإمالة، وهما الياء قبلها والكسرة بعدها، فإذا أميلت الكلمة بواحدٍ منها لأن تمال باجتماعهما أولى.
وأما {فِي آذانِهِمْ آَذَانِهِمْ} فإنما أمالها لمكان كسرة الإعراب فيها، كمال يقال: مررت ببابه وداره، والإمالة في الأول أقوى). [الموضح: 249] (م)
قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (16- وقوله تعالى: {الضللة بالهدى} قرأ حمزة والكسائي بإمالة ذوات الياء نحو: الهدي والحمي والدنيا وغزى {إذا تولى سعى} وموسى وعيسى.
وقرأ نافع بين التفخيم والإمالة وهو إلى الفتح أقرب.
وقرأ أبو عمرو: ما كان من ذلك في رءوس الآي نحو آيات {طه} {والنجم إذا هوى} {والليل إذا يغشى} بين بين، أو كان الاسم على فعلى نحو: الدنيا أو على (فعلى) نحو: {شتى} أو على (فعلى) نحو (عيسى). وقرأ الباقون بالفتح، فمن فتح فعلى أصل الكلمة، ومن أضجع وأمال فلأن يعمل لسانه في موضع واحد؛ إذ كانت الإمالة تقرب من الياء. فأما حمزة فإنه فرق بين ذوات الياء والواو فقرأ: {والقمر إذا تلباها} بالفتح {والنهار إذا دجليهاد} بالإمالة، والعرب إذا اجتمع في أواخر الآي أو قربت ذوات الياء من الواو أتبعوا بعضها بعضًا. أخبرني بذلك ابن مجاهد، عن السمري، عن الفراء). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/71]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله اشتروا الضّلالة [البقرة/ 16]: قال أحمد بن موسى:
ضمّ الواو اتفاق.
[الحجة للقراء السبعة: 1/368]
قال أبو علي: الواو في (اشتروا) ساكنة، فإذا سقطت همزة الوصل للدرج التقت مع الساكن المبدل من لام المعرفة فالتقى ساكنان، فحركت الأوّل منهما لالتقاءيهما، ولا يخلو التحريك فيها من أن تكون بالضمّ أو بالكسر، فصار الضمّ أولى بها ليفصل بالضمّ بينها وبين واو أو ولو، فحركت بالضم دون الكسر لذلك.
ومما يدل على تقدم التحرك بالضم على الكسر لالتقاءيهما، أنّهم قد حرّكوا هذه الواو في غير هذا الموضع بالضم لالتقاء الساكنين، واتفق الجميع فيه على التحريك بالضم دون غيره، وذلك في قوله: لتبلونّ في أموالكم [آل عمران/ 186]، ولترونّ الجحيم [التكاثر/ 6] فدلّ اتفاقهم على تحريك هذه بالضمّ على أنها في (اشتروا الضلالة) محرّكة بالضمّ أيضا لالتقاء الساكنين، كما حرّكت في لتبلونّ ولترونّ الجحيم.
ويدلّ على تقدّم ذلك على الكسر ما جاء من ضمهم لها في: مصطفو الله، فكما حرّكوا هذه الواو بالضمّ كذلك ينبغي أن تحرّك بالضمّ في (اشتروا الضّلالة بالهدى)؛ لاتفاقهما في الدّلالة على الجمع.
ويدل على تقرر ذلك في هذه الواو أنّهم شبهوا بها الواو التي في أو، ولو، فحركوها بالضم تشبيها بقوله: (اشتروا الضّلالة). وكما شبهوا التي في أو بالتي تدل على الجمع،
[الحجة للقراء السبعة: 1/369]
كذلك شبهوا التي للجمع بها فأجازوا فيها الكسر، كما أجازوا في: لو استطعنا [التوبة/ 42] الضمّ تشبيها بالتي للجمع، وليس هذا بالوجه، كما أنّ الكسر في: لا تنسوا الفضل [البقرة/ 237] ليس بالوجه.
ومثل هذا في أن كل قبيل من الواوين شبّه بالآخر إجازتهم الجر: في الضارب الرجل، تشبيها بالحسن الوجه، وإجازتهم النصب في الحسن الوجه تشبيها بالضارب الرجل، والنصب في الضارب الرجل الوجه. والجرّ في الحسن الوجه الوجه، إلّا أنّ الكسر في: (ولا تنسوا الفضل) أقبح وأقل في الاستعمال من الحسن الوجه.
ويدلّ على تقدّم التحريك بالضمّ في هذه الواو لالتقاء الساكنين، أنّ قوما أبدلوا منها الهمزة، فقالوا: (اشترءوا الضّلالة) كما يبدلون من الواو المضمومة، فلو كان تحريكها بالكسر متعارفا لكان جديرا ألا يهمزوا، لأنّها كانت تشبه حركة الإعراب لتعاقب الحركتين عليها، كما تتعاقب حركة الإعراب على المعرب.
ألا ترى أن حركة غير الإعراب لمّا تعاقبت على ما كان مضاعفا أدغم في قول عامة العرب غير أهل الحجاز، كما أن حركات الإعراب لمّا تعاقبت على المعرب أدغم، فتحريك من حرّكها بالضمّ دلالة على أنّه جعلها بمنزلة سائر الواوات
[الحجة للقراء السبعة: 1/370]
المضمومة التي تبدل الهمزة منها، ولا يدخلها غير الضمّ، نحو التي في الغئور والنّئور وأسؤق وأنؤر.
وليس إبدال هذه الواو همزة، وإن كان فيه ما استدللنا به من تمكن تحركها بالضم في هذا الموضع بالقياس، لأنّ تحريكها بالضمّ إنّما هو لالتقاء الساكنين، والتحريك لالتقاء الساكنين في تقدير السكون لما تقدّم من الدّلالة على ذلك.
فإذا كان كذلك فكأنّه قد أبدل الهمزة من واو ساكنة، والهمزة لا تبدل من الواو الساكنة.
ولو استقام أن تبدل من هذه الواو الهمزة إذا تحركت بهذه الحركة، لاستقام أن تبدل منها إذا تحركت بحركة الإعراب، لأنّها مثلها في أنّها ليست بلازمة، إلّا أنّ إبدال الحركة لالتقاء الساكنين همزة أوجه لموافقتها نحو أدؤر في أنّ الحركتين فيهما حركتا بناء لا حركتا إعراب.
وقد شبهوا غير اللازم باللازم في مواضع، نحو ادغامهم الواو في رويا وروية وما أشبه ذلك، وليس قول من قال-: إنّ هذه الواو إنّما حركت بالضمّ لالتقاء الساكنين، لأنّه فاعل في المعنى فجعلت حركة التقاء الساكنين فيه كحركة الإعراب- بمستقيم. ألا ترى أنّ الياء في: أخشي القوم يا مرأة، فاعلة في المعنى، واتفقوا على تحريكها بالكسر! وقد كسر ناس الواو
[الحجة للقراء السبعة: 1/371]
في: (اشتروا الضّلالة)، (ولا تنسوا الفضل بينكم) فلو كان كما ذهب إليه من ذكرنا قوله، لم يجز اختلاف الحركات فيه كما لم يجز ذلك في حركة الإعراب إذا كان معربا وأمّا ما حكاه أحمد بن يحيى عن الفراء في أن قوله: (اشتروا الضّلالة) إنما حرّكها بالحركة التي كانت تجب للام الفعل من الضمة، فإنّه ذهب في ذلك إلى أن الحركة فيها ليست لالتقاء الساكنين، كما يذهب إليه سيبويه وأصحابه.
وهذا الذي ذهب إليه الفراء لا يستقيم من غير جهة:
منها أن اشترى واصطفى وما أشبه ذلك إنما انقلبت اللام فيه ألفا لتقدير الحركة فيها، ولولا تقديرها لم تنقلب، كما لم تنقلبا في: لو، وكي، فإذا انقلبا لذلك لم يستقم أن يقدّر نقل الحركة عنها، لأن ثباتها ألفا بمنزلة كون الحركة معها، فكيف يقدر نقلها إلى موضع وهي في حكم الثبات في الحرف المتحرك بها؟
ومن ثم لم ينقلوا الحركة في قال، وباع، وهاب، وخاف، إلى الفاء، كما نقلوا في قلت، وطلت، وبعت، وخفت، وهبت، ألا ترى أنّها في تقدير الثبات مع الألف؟
ويمتنع ذلك من وجه آخر: وهو أنّا رأينا الحركات إنّما تلقى على الحروف التي تكون قبل الحروف التي تنقل منها، ولا تنقل إلى ما بعد الحروف المنقولة منها الحركة، ألا ترى أن
[الحجة للقراء السبعة: 1/372]
بعت، وقلت، وخفت، وهبت، ومست وظلت، فيمن نقل حركة عينيهما وأحست كذلك، وكذلك أقام، وأقال، وأصمّ، وأيلّ، وأعدّ، وأمدّ، وأخلة، وأيمّة، وكذلك نقل حركات الهمز في التخفيف نحو جيل، وحوبة والمرة، والجية، والخب والعب. وكذلك يمدّ، ويعفّ، ويشمّ، وكذلك من نقل في خطّف، وقتّل ويهدّي، إنما ينقل إلى الحرف الذي قبل الحرف المنقولة منه الحركة. وكذلك قولهم:
قاضون وغازون، ومشترون ونحو ذلك. فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا ولم نجد في هذه الأصول شيئا على ما ادّعاه- ثبت فساد ما ذهب إليه لدفع الأصول له وتعرّيه من دلالة تدلّ عليه.
ووجه آخر، وهو أن الحركة في: اشتروا الضلالة، ومصطفو القوم، واخشي القوم يا هذه- لا تخلو من أن تكون منقولة، من اللام كما قاله، أو حركة لالتقاء الساكنين كما ذهب إليه غيره.
[الحجة للقراء السبعة: 1/373]
فلو كانت حركة نقل كما قال لوجب أن يتحرك الحرف الذي نقلت إليه بها، التقى مع الساكن، أو لم يلتق، ألا ترى أن سائر ما نقلت الحركة إليه نحو ما ذكرنا قبل يتحرك بالحركة المنقولة إليه وفي أن هذه الحروف: الواو في اشتروا وفي مصطفو القوم، والياء في اخشي الله يا هذه، لا تتحرك حتى تلتقي مع ساكن منفصل منها دلالة على أنّها تحركت من حيث تحركت الحروف الساكنة الملتقية مع سواكن أخر منفصلة منها نحو: عذابٍ اركض [ص/ 41، 42] وأحدن، الله [الصمد/ 2، 3] أو انقص [المزمل/ 3] واذهب اذهب، وما أشبه ذلك مما تحرك لالتقاء الساكنين، فأما تحريكها بالضمّ، وتحريك هذه الحروف التي ذكرناها بغيره من الحركات فمسألة أخرى. ولو لم يكن في ذلك إلّا أن الياء التي هي مثل الألف في اللين نقل حركتها إلى ما قبلها فى: قاضون وفأولئك هم العادون [المؤمنون/ 7] لكان كافيا، فعلم منه أن حركة اللام المنقلبة ألفا لا تنقل إلى ما بعدها كما لم تنقل في «العادون» إلى ما بعده.
اختلفوا في قوله تعالى: بالهدى [البقرة/ 16] وما أشبه ذلك فكان نافع لا يفتح ذوات الياء ولا يكسر مثل قوله: (الهدى، والهوى والعمى، واستوى وأعطى، وأكدى)
[الحجة للقراء السبعة: 1/374]
وما أشبه ذلك، كانت قراءته وسطا في ذلك كله، وكذلك (يحيى، وموسى، وعيسى، والأنثى، واليسرى، والعسرى، ورأى، ونأى).
وقال المسيّبي: كان نافع يفتح ذلك كلّه، والأول قول قالون وورش عن نافع.
وكان ابن كثير يفتح ذلك كلّه.
وأما أبو عمرو فكان يقرأ من ذلك ما كان من رءوس الآي بين الفتح والكسر مثل آيات سورة طه، والنجم و (عبس وتولى، والضحى، والليل إذا يغشى، والشمس وضحاها، ودحاها وطحاها)، فإذا لم يكن رأس آية فتح، مثل: قضى أجلًا [الأنعام/ 2] والهدى، واستوى إلى السّماء [البقرة/ 29] و (أزكى) و (فسواهن)، و (أحيا) فإنّه بالفتح كلّه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/375]
فإذا كان الاسم مؤنثا على فعلى أو فعلى أو فعلى مثل (ذكرى) وضيزى [النجم/ 22] وأنثى وشتّى وما أشبه ذلك فهو بين الفتح والكسر، وإذا كانت راء بعدها همزة وبعد الهمزة ياء كسر الهمزة وفتح الراء مثل رأى كوكباً [الأنعام/ 76] ورأى أيديهم [هود/ 70] وإذا جاءت راء بعدها ياء كسر الراء مثل قوله: هل ترى، ويرى والنصارى وأرى. فإذا سقطت الياء في الوصل لساكن لقيها لم يمل الراء كقوله تعالى: حتّى نرى اللّه جهرةً [البقرة/ 55] والنّصارى المسيح [التوبة/ 30] وترى الّذين [الزمر/ 60]، لأنّ الإمالة إنّما كانت من أجل الياء فلما زالت الياء زالت الإمالة.
وروى عبد الوارث وعباس بن الفضل عن أبي
[الحجة للقراء السبعة: 1/376]
عمرو إمالة ذلك كلّه، استقبله ساكن أو لم يستقبله.
والمعروف عن أبي عمرو ترك الإمالة في مثل: نرى اللّه جهرةً [البقرة/ 55].
وكان عاصم يفتح في رواية أبي بكر ذلك كلّه إلّا: (رأى، ورمى ورآه)، و (نأى) في سورة بني إسرائيل [الآية/ 83] وفتح التي في السجدة [فصلت/ 51] وأعمى [الإسراء/ 72] فإذا سقطت الياء لساكن لقيها في الوصل أمال الراء وفتح الهمزة مثل: رأى القمر [الأنعام/ 77].
وروى خلف عن يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم أنّه كان يميل الراء والهمزة من قوله تعالى: رأى الشمس [الأنعام/ 78] ورأى القمر [الأنعام/ 77] ورأى
[الحجة للقراء السبعة: 1/377]
الذين ظلموا [النحل/ 85] وما كان مثله.
وكان غير خلف يروي عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم في ذلك بفتح الهمزة بعد كسر الراء، مثل حمزة.
وأما حفص فروى عن عاصم ذلك كلّه بالفتح، إلّا قوله:
مجراها [هود/ 41] فإنه أمالها.
وكان حمزة يميل ذوات الياء، مثل: (أعطى واتقى) و (استوى). وما أشبه ذلك، وأمات وأحيا [النجم/ 44] ويحيى من حيّ [الأنفال/ 42] ولا يميل (أحياكم) و (أحيا) إلّا إذا كان قبل الفعل واو. ويميل موسى، وعيسى، ويحيى، ولا يميل ذوات الواو مثل قوله: واللّيل إذا سجى [الضحى/ 2] و (دحاها)، و (طحاها)، و (تلاها)، ويميل ذلك أزكى لهم [النور/ 30] والأعلى [الأعلى/ 1] وكلّ فعل من ذوات الواو زيدت في أوله ألف فإنه يميله.
وكان الكسائي يميل ذلك كلّه، ويميل، (فأحياكم) و (أمات وأحيا)، ويميل ذوات الواو إذا كنّ مع ذوات الياء مثل:
(وضحاها) و (الضحى)، لا يفتح شيئا من ذلك، وكذلك (دحاها).
واتفقا في ترك الإمالة في قوله تعالى: ثمّ دنا [النجم/ 8] وما زكا منكم [النور/ 21] ودعا [آل عمران/ 38] وعفا [البقرة/ 187]، وما أشبه ذلك.
وابن عامر يفتح ذلك كلّه.
[الحجة للقراء السبعة: 1/378]
أبو عمرو يميل الكاف من (الكافرين) في موضع الخفض والنصب إذا كان جمعا، وإذا كان واحدا، كقوله تعالى: أوّل كافرٍ به [البقرة/ 41] أو جمعا في موضع رفع مثل قوله: قل يا أيّها الكافرون [الكافرون/ 1] لم يمل.
وكذلك روى أبو عمر الدّوري، ونصير بن يوسف النحوي جميعا عن الكسائي ولم يرو ذلك عن الكسائي إلا أبو عمر ونصير والباقون لا يميلون.
قال أبو علي: أما إمالة نافع (الهدى، والهوى، والعمى، واستوى، وأعطى، وأكدى، ويحيى، وموسى، وعيسى، والأنثى، واليسرى، والعسرى، ورأى، ونأى) فحسنة، لأنّها ألفات منقلبة عن الياء، أو في حكم المنقلب عنها.
فأمالوها ليدلوا على أن أصلها الياء، أو في حكم ذاك. وإذا كانوا قد أمالوا شيئا من الأسماء التي على ثلاثة أحرف نحو:
العشا والكبا والمكا مع أنها منقلبة عن الواو، فلا نظر في حسن إمالة ما كان انقلابه من هذه الألفات عن الياء، أو كان في حكم ذلك لتدل الإمالة والانتحاء بالألف نحو
الياء على الياء.
ومثل ذلك في إلزام الكلمة ما يدل على الحرف الذي وقع الانقلاب عنه إبدالهم من الهمزة المعترضة في الجمع الواو
[الحجة للقراء السبعة: 1/379]
ونحو هراوى وأداوى، ليدل ذلك على الواو التي كانت اللام في إداوة وهراوة.
ومثله أيضا قول من قال: قيل فانتحى بالكسرة نحو الضمة ليدل على أن الأصل فعل.
ومثل ذلك قولهم: أنت تغزين يا هذه. فأشموا الزاي الضمة لتدل على الواو المحذوفة التي هي لام الفعل، فكذلك إمالة الألف نحو الياء لتدل على أنّ انقلابها عن الياء دون الواو.
ومما يؤكد ذلك أنّ قوما قالوا هذا ماشّ وهذا جادّ، فأمالوا ليدلوا على الكسرة التي تكون في إظهار المثلين وفي عين الفعل في الدّرج.
وأما قصده في الإمالة بها نحو الياء وتوسطه في ذلك فلأنّه كره أن يبالغ في الانتحاء نحو الياء، فيصير كأنّه عائد إلى الياء التي كرهوها حتى أبدلوا منها الألف، وهكذا ينبغي أن تكون الألف في الإمالة.
قال وكان ابن كثير يفتح ذلك كلّه. وحكي عن ابن عامر أنّه كان يفتح ذلك كلّه.
قال أبو علي، الحجة له أنّه كره الإمالة في نحو:
هدى، وعمى، واستوى، لأنّه كره أن ينحو نحو الياء، وقد كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/380]
كرهها وفرّ منها حتى قلبها ألفا، فكره أن يعود إلى مقاربة ما كان رفضه، وهو قول الأكثر فيما زعم سيبويه، أعني ألا يميل ما كان انقلابه من الألفات عن الياء كما أن الأكثر من يقول ردّ، فيصحح الضمة ولا ينحو بها نحو الكسرة، لأنّه قد كان كرهها حتى أذهبها بالإدغام.
ومما يؤكد ترك الإمالة في هذا الضرب، لأنّ فيها انتحاء نحو ما كان كرهه، تركهم الإمالة في جادّ ومجادّ ونحوه من المضاعف لأنّه فربّما تحقّق فيه الكسرة التي كانت تقع بعد الألف لو لم تدغم فلم يعد إلى ما يدل عليها من الإمالة بعد رفضه لها، ولم يميلوا في الجر فقالوا: مررت برجل جادّ.
فأمّا من أمال ذلك في الجر فكما أمال: مررت بماله، لا على ما يمال من نحو: عابد وعالم، وهذا قول الأكثر.
قال سيبويه: وكثير من العرب وأهل الحجاز لا يميلون هذه الألف.
قال: وأما أبو عمرو فكان يقرأ من ذلك ما كان من رءوس الآي بين الكسر والفتح، مثل آيات سورة طه، والنجم، وعبس وتولى، والضحى والليل، والشمس وضحاها، ودحاها، وطحاها، فإذا لم تكن رأس آية فتح.
قال أبو علي: إنّما أمال الألفات في رءوس الآي، لأنّ الفواصل بمنزلة القوافي في أنّها مواضع وقوف، كما أنّ أواخر
[الحجة للقراء السبعة: 1/381]
البيوت كذلك، وقد فصلوا بين الوصل والوقف، فأمالوا إذا وقفوا، ولم يميلوا إذا وصلوا، وذلك قولهم في الوقف: يريد أن يضربها ومنّا، ومنها وبنا، ونحو ذلك.
فإذا وصلوا نصبوا فقالوا: يريد أن يضربها زيد، وأن يضربا زيدا، ومنا زيد. وإنّما حملهم على هذا الفصل بين الوقف والوصل أنّهم أرادوا في الوقف تبيين الألف، فكما بيّنوها بأن قلبوا من الألف الياء في نحو هذه أفعى، كذلك بينوها بأن نحوا بها نحو الياء. فإذا وصل ترك الإمالة كما يترك إبدال الياء منها فيقول: هذه أفعى فاعلم، لأنّ
الألف في الوصل أبين منها في الوقف، فعلى هذا فصل أبو عمرو بين رءوس الآي وغيرها.
وأما تسويته بين ضحاها، وطحاها، فليشاكل بينها في اللّفظ، لأنّ الفواصل كالقوافي، فاستحب الملاءمة بين بعض الفواصل وبعض، كما استحبوا ذلك في القوافي، وأمال طحاها ونحوها لذلك ولأنّ الامالة في نحو: طحا وغزا سائغة.
وأما إمالة ما كان آخره ألف التأنيث نحو ذكرى وأنثى وشتى، فلأن هذه الألفات تبدل منها الياء ولا تبدل منها الواو أبدا، فصارت بمنزلة ما أصلها الياء، فأمالها بذلك. وإمالتها وترك إمالتها جميعا كثيران.
قال: فإذا كانت الراء بعدها همزة وبعد الهمزة ياء كسر الهمزة وفتح الراء، يريد بالياء الألف، ولعله سمّاها ياء لأنّ الكتّاب يكتبونها ياء، وذلك نحو: رأى أيديهم [هود/ 70]
[الحجة للقراء السبعة: 1/382]
فأمال الفتحة التي على الهمزة من رأى نحو الياء، لتميل الألف بإمالة الفتحة نحو الياء، وترك الراء مفتوحة لأنّها لم تل الألف، فتركها على فتحتها ولم يغيرها.
قال فإذا جاءت راء بعدها ياء كسر الراء مثل قوله:
(ترى، ونرى، والنصارى، وأرى).
قوله: بعدها ياء، يريد بها الألف الممالة أيضا.
فإن قلت: فهلّا لم يمل الألف هنا لأنّ الراء مفتوحة، والراء إذا كانت مفتوحة منعت الإمالة كما تمنعها الحروف المستعلية. فالقول إن فتح الراء هنا لا يمنع الإمالة كما أن المستعلية أنفسها لم تمنع منها في نحو: سقى وصفا، وكذلك الراء في (النصارى).
قال: فإذا سقطت الياء في الوصل لساكن لقيها لم يمل الراء، كقوله تعالى: حتّى نرى اللّه جهرةً [البقرة/ 55] والنّصارى المسيح [التوبة/ 30]، ويرى الّذين [سبأ/ 6].
قال أبو علي: هذا الذي ذهب إليه أبو عمرو مذهب، وللعرب في هذا مذهبان:
أحدهما ألّا يميلوا بالفتحة نحو الكسرة، لأنّ إمالتها إنّما كانت لتميل الألف نحو الياء، فلما سقطت الألف لالتقاء
[الحجة للقراء السبعة: 1/383]
الساكنين صحح الفتحة ولم يملها لسقوط الألف التي كانت الفتحة تمال لتميلها.
قال سيبويه: قالوا: لم يضربها الذي تعلم، فلم يميلوا، لأنّ الألف قد ذهبت.
والآخر أن يميل الفتحة نحو الكسرة وإن كانت الألف قد سقطت، لأنّ الألف لمّا كان حذفها لالتقاء الساكنين- والتقاء الساكنين غير لازم- صارت الألف كأنّها في اللفظ.
وقد روى أحمد بن موسى هذا الوجه الثاني أيضا عن أبي عمرو، فقال: روى عبد الوارث، وعباس بن الفضل عن أبي عمرو إمالة ذلك كلّه، استقبله ساكن أو لم يستقبله.
قال أحمد: والمعروف عن أبي عمرو ترك الإمالة في مثل نرى اللّه جهرةً [البقرة/ 55].
وقد حكى هذا الوجه أبو الحسن، وحكى الأول الذي حكيناه عن سيبويه فقال: إن شئت تركت الإمالة على حالها.
قال: وذلك نحو فلمّا رأى القمر [الأنعام/ 77] وفي القتلى الحرّ [البقرة/ 178] وهدىً للمتّقين [البقرة/ 2].
قال: وكان عاصم يفتح في رواية أبي بكر ذلك كلّه، إلّا رأى ورمى ورآه ونأى في سورة بني إسرائيل، وفتح التي في السجدة [فصلت/ 51] وأعمى [الاسراء/ 72]، فإذا سقطت الياء لساكن لقيها في الوصل أمال الراء وفتح الهمز مثل (رأى القمر).
[الحجة للقراء السبعة: 1/384]
قال: وكان غير خلف يروي عن يحيى عن أبي بكر عن عاصم في ذلك كلّه بفتح الهمزة بعد كسرة الراء مثل حمزة.
وأمّا حفص فروى عن عاصم ذلك كلّه بالفتح إلّا قوله:
(مجراها)، فإنّه أمالها.
قال: أبو علي: الفتح في ذلك هو الأصل، وأمّا الإمالة في رأى ورآه ونأى فإنّه أمال فتحة الهمزة لتميل الألف المنقلبة عن الياء في رأيت ونأيت نحو الياء، فلمّا أمال فتحة الهمزة لما ذكرناه أمال فتحة الراء لإمالة فتحة الهمزة، وكما أمالوا الألف لإمالة الألف في نحو رأيت عمادا، كذلك أمالوا الفتحة في راء: رأى لإمالة فتحة الهمزة، ألا تراهم أمالوا الفتحة في الراء من نحو: من الضرر، لكسرة الراء، والفتحة في الطاء من نحو: رأيت خبط الريف لكسرة الراء، فكذلك أمالوا الفتحة للفتحة الممالة، لأنّ الفتحة الممالة منتحى بها نحو الكسرة، كما أنّ الألف الممالة منتحى بها نحو الياء، فكما أمالوا الألف الآخرة في رأيت عمادا لإمالة الألف الأولى التي أميلت للكسرة، كذلك أميلت الفتحة في راء رأى لإمالة الفتحة من همزتها.
فأمّا فتحه الهمزة إذا سقطت الألف لساكن لقيها وتبقيته الإمالة في الراء مع فتحة الهمزة، فكان القياس أن يخلص فتحة
[الحجة للقراء السبعة: 1/385]
الراء ولا يميلها لزوال ما كانت أميلت له كما حكاه سيبويه في قولهم: لم يضربها الذي تعلم.
ولما فعله عاصم من إمالة فتحة الراء مع تفخيمه فتحة الهمزة وجه ظاهر، وقياس صحيح، وذلك أنهم قد قالوا:
رحمه الله، فكسروا الراء لكسرة حرف الحلق الذي هو العين، ثم أسكنوا الحاء فبقيت الراء على كسرتها ولم يردوها إلى الفتحة التي كانت الأصل في فعل، فكذلك بقّى في رأى إمالة فتحة الراء مع زوال الإمالة عن فتحة الهمزة، ومما يثبت ذلك قوله:
وإن شهد أجدى فضله وجداوله وممّا يقوي ذلك قولهم: صعق ثم نسبوا إليه فقالوا:
صعقي، فقرروا كسرة الصاد وإن كانت كسرة العين التي لها كسرت الصاد قد زالت.
فأمّا إمالة فتحة الراء من قوله تعالى: ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17] فإنّ إمالة الراء في رأى، أحسن من إمالة الراء في رمى، لأنّ الراء في رأى ونأى بعدهما همزة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/386]
والكسر [في الفاء إذا كانت بعدها همزة] أو غيرها من حروف الحلق قد كثر.
قال أبو الحسن: وقد ذكروا أنّها لغة، ووجهه ما تقدم من أنّه لمّا أمال الميم أمال الراء لإمالتها.
وليس اختلاف رواية الرواة في هذه الحروف عنه بتدافع، لأنّه إذا كان لكل قراءة من ذلك وجه فقد يجوز أن يكون رأى أن يقرأ بكل واحد منها، ويجوز أن يكون رأى القراءة ببعض ذلك ثم انتقل عنه إلى وجه آخر.
ويقوي الوجه الأول ما رواه أبو بكر عنه من إمالة «نأى» في سورة بني إسرائيل، وفتح التي في السجدة.
وأمّا إمالة حمزة مثل: (أعطى، واتّقى، واستوى، وأمات، وأحيا) إلّا إذا كان قبل الفعل واو فيمكن أن يكون لمّا رأى الإمالة وتركها سائغين جائزين أخذ بهما جميعا فقرأ بعض ذلك ممالا، وبعضا غير ممال على نحو ما روي عن عاصم.
وإمالته موسى وعيسى ويحيى قد تقدّم القول في ذكر وجهه.
وترك إمالته ذوات الواو مثل: (والليل إذا سجا)، و (طحاها)، و (تلاها) حسن جميل، لأنّه لا ياء هنا ينحو بالألف نحوها: لتدلّ عليها فلم يمل الألف المنقلبة عن الواو إذ
[الحجة للقراء السبعة: 1/387]
كانت الإمالة في الألف المنقلبة عن الياء قد تترك، وفتح الألف في نحو رمى. فإذا جاء التفخيم في بنات الياء فبنات الواو أجدر.
والذين أمالوا نحو: طحا، أمالوا لأن اللام قد تنقلب ياء، والعدّة على ما هي عليه نحو: غزًّى [آل عمران/ 156].
وأمّا إمالته ذلكم أزكى لكم [البقرة/ 232] و (الأعلى) وكلّ فعل من ذوات الواو زيدت في أوله همزة، فحسنة، لأنّ الألف في هذه العدّة قد صارت في حكم المنقلب عن الياء لموافقتها لها في التثنية وغيرها، ألا ترى أنّك تقول:
الأزكيان، والأعليان، وتقول: أعليت زيدا، وزكيّته، فلما صار في حكم المنقلب عن الياء أمالها كما يميل ما انقلب عن الياء.
وموافقة الكسائي له في ذلك، واختصاص الكسائي بإمالة (وأحيا) في ذلك حسن، لأنّ الواو إذا لحقت أولا في هذا النحو فلا شيء فيه يمنع الإمالة، كما لا شيء فيه يمنع منها إذا لم تلحق في قياس العربية. ولعل حمزة اتبع في ذلك أثرا، لأنّ القراءة ليست موقوفة على مقاييس العربية دون اتباع الأثر فيها، أو أحبّ أن يجمع بين الأمرين الجائزين.
وأمّا اختصاص الكسائي من دون حمزة بإمالته ذوات
[الحجة للقراء السبعة: 1/388]
الواو إذا كنّ مع ذوات الياء في مثل (والشّمس وضحاها)، و (الضّحى)، و (دحاها)، وأنّه لا يفتح من ذلك شيئا، بل يسوي بين ذوات الياء وذوات الواو في هذه الفواصل- فهو في ذلك موافق لأبي عمرو، وقد تقدّم ذكر وجه ذلك عند ذكرنا لقول أبي عمرو.
قال: واتفقا في ترك الإمالة في قوله: ثمّ دنا [النجم/ 8]، وما زكا منكم [النور/ 21]، ودعا، وعفا، وقد تقدّم ذكر وجه ذلك.
قال: أبو عمرو يميل الكاف من الكافرين فى موضع الخفض والنصب إذا كان جمعا، وإذا كان واحدا مثل: أوّل كافرٍ به [البقرة/ 41]، أو جمعا مرفوعا مثل قل يا أيّها الكافرون [الكافرون/ 1] لم يمل، وكذلك رواه بعضهم عن الكسائي.
قال أبو علي: إمالته الكافرين في موضع النصب والخفض إنّما هي للزوم الكسرة الراء بعد الفاء المكسورة، والراء لما فيها من التكرير تجري مجرى الحرفين المكسورين، وكلّما كثرت الكسرات غلبت الإمالة وحسنت. فلمّا كانت الراء في الكافرين قد لزمتها الكسرة، والفاء قبلها مكسورة أيضا- حسنت الإمالة.
فأمّا الواحد المجرور نحو: أوّل كافرٍ به [البقرة/ 41]
[الحجة للقراء السبعة: 1/389]
فإنّما لم يمله كما أمال الجميع، لأنّ كسرة الإعراب غير لازمة فيه لزوم الكسرة للراء في الكافرين، فلم يلزم أن يميل الواحد من حيث أمال الجميع، ومع ذلك فإنّ الراء لما كانت مشبّهة بالمستعلي للتكرير الذي فيها، ولم يمل قوم كافرا في الرفع والنصب، كما لم يميلوا نافقا وشاحطا- لم يميلوها في الجر أيضا، وأتبعوا الجرّ الرفع والنصب، فتركوا الإمالة فيه كما تركوها فيهما.
وأمّا تركه إمالة الألف في الرفع نحو: قل يا أيّها الكافرون فللزوم الراء فيه الضمة، والراء تمنع الإمالة إذا انضمت أو انفتحت كما تجلبها إذا انكسرت). [الحجة للقراء السبعة: 1/390]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يحيى بن يَعْمَر وابن أبي إسحاق وأبي السَّمال: [اشتروِا الضَّلالة].
قال أبو الفتح: في هذه الواو ثلاث لغات: الضم، والكسر، وحكى أبو الحسن فيها الفتح: {اشتروَا الضَّلالة}، ورويناه أيضًا عن قطرب، والحركة في جميعها لسكون الواو وما بعدها، والضم أفشى، ثم الكسر، ثم الفتح.
[المحتسب: 1/54]
وإنما كان الضم أقوى لأنها واو جمع، فأرادوا الفرق بينها وبين واو "أو" و"لو"؛ لأن تلك مكسورة، نحو قول الله سبحانه: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ}، ومنهم مَن يضمها، فيقول: [لوُ اطلعت]، كما كسر أبو السَّمَّال وغيره من العرب واو الجمع تشبيهًا لها بواو "لو".
وأما الفتح فأقلها، والعذر فيه خفة الفتحة مع ثقل الواو، وأيضًا فإن الغرض في ذلك إنما هو التبلغ بالحركة لاضطرار الساكنين إليها، فإذا وقعت من أي أجناسها كانت أقنعت في ذلك، كما روينا عن قطرب من قراءة بعضهم: [قُمَ اللَّيْل] بالفتح، و[قُلَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ]، وبِعَ الثوب. قال: وقيس تقول: [اشْتَرَءوا الضَّلالَةَ]. قال: وقال بعض العرب: عصئوا الله مهموزة.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون ذلك على إجراء غير اللازم مجرى اللازم، وقد كتبنا في هذا بابًا كاملًا في الخصائص، وذلك أنه شبه حركة التقاء الساكنين -وليست بلازمة- بالضمة اللازمة في [أُقتت] وأدؤر وأُجُوه، إلا أن همز نحو {اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ} من ضعيف ذلك.
ولو وقفتَ مستذكرًا وقد ضمت الواو؛ لقلت: اشتروُوا، ففصلت ضمة الواو، فأَنشأت بعدها واوا، كأنك تستذكر {الضَّلالَة} أو نحوها، فتمد الصوت إلى أن تذكر الحرف. ولو استذكرت وقد كسرت لقلت: اشتروِي، فأنشأت بعد الكسرة ياء. ولو استذكرت وقد فتحت الوو لقلت: اشتروَا، كما أنك لو استذكرت بعد مِن، وأنت تريد الرجل ونحوه لقلت: مِنا؛ لأنك أشبعت فتحة من الغلام، وفي منذ: منذو، وفي هؤلاء: هؤلائي. وحَكى صاحب الكتاب: أن بعضهم قال في الوقف: قالا، وهو يريد قال.
1. وحَكى أيضًا: هذا سَيْفُنِي، كأنه استذكر بعد التنوين، فاضطر إلى حركته فكسره، فأحدث بعده ياء. ولو استذكرت مع الهمز لقلت: اشترءوا، فالواو بعد الهمزة واو مَطْل الضمة، وليست كواو قولك: اجترءُوا، وأنت تريد: افتعلوا من الجرأة). [المحتسب: 1/55]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107181#post107181)
جمهرة علوم القرآن
25 محرم 1440هـ/5-10-2018م, 11:28 PM
سورة البقرة
[من الآية (17) إلى الآية (20) ]
{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن وإبي السَّمَّال: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلْمَاتٍ} ساكنة اللام.
قال أبو الفتح: لك في ظلمات وكسرات ثلاث لغات: إتباع الضم الضم، والكسر الكسر، ومَن استثقل اجتماع الثقيلين فتارة يعدل إلى الفتح في الثاني يقول: ظُلَمَات وكِسَرات، وأخرى يسكن فيقول: ظُلْمَات وكِسْرَات، وكل جائز حسن.
فأما فَعْلة بالفتح فلَا بُدَّ فيه من التثقيل إتباعًا، فتقول: ثَمَرَة وثَمَرَات، قال:
ولما رأونا باديًا رُكَبَاتُنا ... على موطن لا نخلط الجِد بالهزل
وقال النابغة:
وَمَقْعَدُ أيسار على رُكَبَاتهم ... ومربطُ أفراس وناد وملعب
وعليه قراءة أبي جعفر: [من وراء الْحُجَرات].
وقال بشر:
حتى سقيناهم بكأس مرة ... مكروهة حُسَواتها كالعلقم
وقد أسكنوا المفتوح، وهو ضروة، قال لبيد:
رُحلن لشقة ونُصبن نصبا ... لوغْرات الهواجرِ والسَّمُوم
وقال ذو الرمة:
أَبت ذكرٌ عَوَّدْنَ أحشاء قلبه ... خُفُوفًا ورفْضَاتُ الهوى في المفاصل
روينا ذلك كله، وروينا أيضًا أن بعض قيس قال: ثلاث ظَبْيَات، فأسكن موضع العين، وروينا عن أبي زيد أيضًا عنهم: شَرْيَة وشَرْيات وهو الحنظل، والتسكين عندي في هذا أسوغ منه في نحو رفْضات ووغْرات، من قِبَل أن قبل الألف ياء محركة مفتوحًا ما قبلها، وهذا شرط اعتلالها بانقلابها ألفًا، وتحتاج أن تعتذر من ذلك بأن تقول:
لو قلبت ألفًا لوجب حذفها لسكونها وسكون الألف بعدها، وليس في نحو: رفضات ما يوجب الاعتذار من الحركة، وكان رفضات أقرب مأخذًا من ثمرات من قِبَل أن رفضة حدث ومصدر،
[المحتسب: 1/56]
والمصدر قوي الشبه باسم الفاعل الذي هو صفة، والصفة لا تحرَّك في نحو هذا، نحو: صَعْبة وصَعْبات، وخَدْلة وخَدْلات، ويدلك على قوة شبه المصدر بالصفة وقوع كل واحد منهما موقع صاحبه، وذلك نحو قول الله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} أي: غائرًا، وقولهم: قم قائمًا؛ أي: قيامًا، وعليه قول الفرزدق:
ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رِتاج قائمًا ومقام
على حَلْفَة لا أشتُمُ الدهر مسلمًا ... ولا خارجًا من فيَّ زُورُ كلام
أي: ولا يخرج خروجًا. وعليه أيضًا كسروا المصدر، وهو فَعْلٌ عى ما يكسر عليه فاعل في الوصف وهو فواعل. أنشدنا أبو علي:
وإنك يا عم ابن فارس قُرْزُل ... معيدٌ على قيل الخنا والهواجر
يريد جمع هُجْر، فكأنه كسَّر هاجرًا على هواجر.
وأنشدنا أيضًا:
فليتك حال البحر دونك كله ... وكنت لقى تجري عليه السوائل
يريد السيول جمع سيل، وهو كثير جدًّا، فكذلك سَهُل شيئًا إسكان نحو: رَفْضة ووَغْرة؛ لكونهما حدثين ومصدرين لشبههما بالصفة. ويزيد في أُنْسك تسكن عين ما لامه حرف علة لما تُعقبُ من الاعتذار من تحريك عينه، امتناعهم من تحريك العين في فَعْلَة إذا كانت حرف علة، وذلك نحو: جَوْزَات ولَوْزَات وبَيْضَات، ألا ترى أنه لو حرك فقال: جَوَزَات وبَيَضَات؛ لوجب أن يعتذر من صحة العين مع حركتها وانفتاح ما قبلها بأن يقول: لو أعللتُ لوجب القلب، فأقول: جازات وباضات؛ فيلتبس ذلك بما عينه في الواحد ألف منقلبة نحو: قارة وقارات، وجارة
[المحتسب: 1/57]
وجارات.
وإذا جاز إسكان العين الصحيحة، نحو: تَمْرات وشَعْرات؛ صار المعتل أحرى بالضمة. نعم، وربما جاء الفتح في العين إذا كانت واوًا أو ياء كما قال الهذلي:
أبو بَيَضَات رائحٌ متأَوِّبٌ ... رفيقٌ بمسع الْمَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
وعذره في ذلك: أن هذه الحركة إنما وجبت في الجمع، وقد سبق العلم بكونها في الواحد ساكنة، فصارت الحركة في الجمع عارضة فلم تُحفل، وفي هذا بعد هذا ضعف، ألا ترى أن هذه الألف والتاء تبنى الكلمة عليهما، وليستا في حكم المنفصل؟ يدلك على ذلك صحة الواو في خُطُوات وكُسُوات، ولو كانت الألف والتاء في ذلك في حكم المنفصل لوجب إعلال الواو؛ لأنها لام وقبلها ضمة، كما أنك لو بنيت فُعُلَة على التذكير من غزوت لأعللت اللام فقلت: غُزُية، حتى كأنك نطقت بفُعِل منه فقلت: غُزٍ.
ولو بنيتها على التأنيث لصحت اللام فقلت: غُزُوَة، فعليه قلت: خُطُوات؛ لأنه مبني على التأنيث، ولو كان على التذكير قلت: خُطِيات، كما قلت: غُزٍ في فُعُل من الغزو.
قال أبو علي: يدلك على أن الكلمة مبنية على الألف والتاء اطِّراد إتباع الكسر للكسر في سِدِرات وكِسِرات مع عزة فِعِل في الواحد، وإنما حكى سيبويه منه: إبل لا غير، وهو كما ذَكر، إلا أن مما يؤنس بكون حركة العين غير ملازمة ما رويناه عن قطرب فيما حكاه عن يونس من قوله في جِرْوة: إذا قلت جِرِوات فصحة الواو وهي لام بعد الكسرة تدلك على قلة الاعتداد بها، وعلى ذلك أن يقال: إن هذا شاذ، يدل على شذوذه امتناعهم أن يحركوا عين كُلْية ومُدْية، وأن يقولوا: كُلُيات ومُدُيات؛ لما كان يعقب ذلك من وجوب قلب الياء إلى الواو، فدلنا ذلك على أن نحو جِرِوات شاذ.
وبإزاء هذا أن يقال: هلا قلبوا فقالوا: كُلُوات ومُدُوَات، كما أنهم لو بنوا مثل فُعُلة من قضيت ورميت على التأنيث قلبوا فقالوا: رُمُوَة وقُضُوَة، فهذه أشياء تراها متكافئة أو كذلك، وعلى كل حال فالاختيار خُطْوات بالإسكان، ألا ترى أن الألف والتاء وإن بني الاسم عليهما فإن الجمع على كل حال خارج من الواحد الذي هو الأصل، فمعنى الفرعية موجود في الجمع
[المحتسب: 1/58]
بتلفُّته إلى الواحد، وليست فُعُلَة إذا بنيت على التأنيث مما خرج عن تذكيره فيراعى فيه حكمه، كما رُوعي في الألف والتاء حكم الواحد، فاعرفه فصلًا). [المحتسب: 1/59]
قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)}
قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (21- وقوله {والله محيط بالكافرين}.
قرأ أبو عمرو والكسائي في رواية عمر {الكافرين} بالإمالة في موضع الجر والنصب.
وقرأ الباقون بالتفخيم. فمن فتح فعلى أصل الكلمة، ومن أمال قال: إنما أملت الألف لاجتماع أربع كسرات، كسرة الفاء والراء، والياء تنوب عن كسرتين، فلما اجتمعت في الكلمة أربع كسرات جذبن الألف إليهن بقوتهن فأملنها.
قال أبو عبد الله رضي الله عنه: فإن سأل سائل فقال: هلا أمال {الشاكرين} وقد اجتمعت فيه أربع كسرات؟
فالجواب في ذلك أنهم تركوا إمالة {الشاكرين} لثلاث علل:
إحداهن: أن اللام مدغمة في الشين فكرهوا الإمالة مع التشديد:
والعلة الثانية: أنه قليل الدَّور في القرآن ولم يكثر ككثرة الكافرين.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/75]
فإن سأل سائل عن الكافرين فقال: الإمالة في ألف أو الكاف؟
فالجواب في ذلك: أن الإمالة لا تكون إلا في الألف، وإنما يشم الكاف الكسر لتصح الإمالة، وقد قال قومٌ: إنهما ممالان وذلك خطأ.
والعلة الثالثة: أن الشين والجيم والياء يخرجن من وسط اللسان بينه وبين الحنك، فلما كانت مجاورة الياء كرهوا الإمالة في الشين كما كرهوا في الياء). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/76]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله (تعالى): في طغيانهم [البقرة/ 15] وفي آذانهم [البقرة/ 19].
قال أبو عمر الدّوري ونصير بن يوسف النحوي:
[الحجة للقراء السبعة: 1/365]
كان الكسائي يميل الألف في طغيانهم، وفي آذانهم، وقال غيرهما: كان يفتح.
وقال أبو الحارث الليث بن خالد وغيره: كان الكسائي لا يميل هذا وأشباهه. والباقون يفتحون.
قال أبو علي: الطغيان: مصدر طغى، كالكفران والعدوان والرضوان.
وحكى أبو الحسن: طغا يطغو، وقالوا: يطغى في المضارع، وفي التنزيل: ولا تطغوا فيه فيحلّ عليكم [طه/ 81] فألف طغا تكون منقلبة عن الياء، فيمن قال:
طغيت، وعن الواو فيمن قال: طغوت.
وقالوا: طغوت، وقالوا: تطغى، كما قالوا: صغوت تصغى، ومحوت تمحى، ففتحت العين في المضارع للحلقي.
وحكى بعضهم طغيت تطغى، فتطغى على هذا مثل يفرق، لا مثل يصغى، ويجوز على هذا أن تكسر حرف المضارعة منه فتقول: تطغى، وإن جعلته مضارع طغوت أو
[الحجة للقراء السبعة: 1/366]
طغيت لم يجز ذلك فيه.
فأمّا قوله تعالى: فأهلكوا بالطّاغية [الحاقة/ 5] فيحتمل ضربين:
أحدهما أن يكون مصدرا كالعافية والعاقبة، أي:
بطغيانهم.
والآخر أن يكون صفة، أي بالريح الطاغية.
وقوله: كذّبت ثمود بطغواها [الشمس/ 11] فالواو مبدلة من الياء: لأنّه اسم مثل التّقوى والرّعوى والبقوى، لأنّ لغة التنزيل الياء بدلالة الطغيان المذكور فيه في مواضع.
فأما لا تطغوا، فلا دلالة فيها على الياء ولا الواو. وإن جعلت طغوى من لغة من قال: طغوت، كان الواو فيها من نفس الكلمة كالدّعوى والعدوى.
وحجة من أمال الطغيان هي أنّ الألف قد اكتنفها شيئان:
كلّ واحد منهما يجلب الإمالة وهما الياء التي قبلها والكسرة التي بعدها، فإذا كان كلّ واحد منهما على انفراده يوجب الإمالة في نحو السّيال والضّياح. ومررت ببابه، وبداره، فإذا اجتمعا كانا أوجب للإمالة.
[الحجة للقراء السبعة: 1/367]
فإن قلت: إنّ أول الكلمة حرف مستعل مضموم، فكلّ واحد من المستعلي والضم يمنع الإمالة، فهلا منعاها هنا أيضا.
فالقول: إن المستعلي لما جاءت الياء بعده، وتراخى عن الألف بحرفين لم يمنع الإمالة. ألا ترى أنّ قوما أمالوا نحو المناشيط لتراخي المستعلي عن الألف مع أن المستعلي بعد الألف، فإذا تراخى في طغيان عنها بحرفين مع أنّه قبل الألف، كان أجدر بالإمالة، ألا ترى أنّهم قد أمالوا نحو صفاف، وقباب، ولم يميلوا نحو مراض، وفراض، لمّا كان المستعلي متأخرا عن الألف. وقالوا: بطارد [هود/ 29] وبقادر [يس/ 81] لمّا تقدم المستعلي الألف، ولم يميلوا فارق وبارض؟ وأما في (آذانهم) فجازت فيها الإمالة كما جازت في مررت ببابه، لمكان كثرة الإعراب، وهي حسنة جائزة.
والإمالة في طغيانهم أحسن). [الحجة للقراء السبعة: 1/368] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (9- {فِي طُغْيَانِهِمْ} [آية/ 15]:
و {آَذَانِهِمْ} [آية/ 19]:-
بالإمالة، قرأها الكسائي وحده.
وإنما أمال {طُغْيانِهِمْ}؛ لأن أَلِفَها قد اكتنفها شيئان، واحد منهما على الانفراد جالب للإمالة، وهما الياء قبلها والكسرة بعدها، فإذا أميلت الكلمة بواحدٍ منها لأن تمال باجتماعهما أولى.
وأما {فِي آذانِهِمْ آَذَانِهِمْ} فإنما أمالها لمكان كسرة الإعراب فيها، كمال يقال: مررت ببابه وداره، والإمالة في الأول أقوى). [الموضح: 249] (م)
قوله تعالى: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (يكاد البرق يخطف أبصارهم).
[معاني القراءات وعللها: 1/141]
اتفق القراء على تخفيف "يخطف)، واختلفوا في سورة الحج، فقرأ نافع: (فتخطفه الطير) - بفتح الخاء وتشديد الطاء - وقرأ الباقون: (فتخطفه) - بالتخفيف وسكون الخاء -.
قال أبو منصور: من قرأ (يخطف " و(فتخطفه) فهو من خطف يخطف خطفًا، وهي لغة العالية التي عليها أكثر القراء.
ومن قرأ (فتخطّفه) - بفتح الخاء وتشديد الطاء - فأصل فيه (فتختطفه)، يقال: خطفت الشيء " واختطفته، إذا اجتذبته بسرعة.
وعلة هذه القراءة إدغام التاء في الطاء، وإلقاء فتحة الطاء على الخاء، وإتباع فتحة الخاء فتحة في الطاء.
وفيها لغة أخرى لم يقرأ بها هؤلاء القراء، وهي: (يخطّف " "فتخطّفه الطير"
روى ذلك عن الحسن أنه قرأ: (يخطّف) - بكسر الخاء والطاء -.
[معاني القراءات وعللها: 1/142]
ومن العرب من يقول: (يخطّف) - بفتح الياء والخاء، وكسر الطاء - ومنهم من يقول: (يخطّف) - بكسر الياء والخاء والطاء -.
وأجودها: (يخطّف)، وبعده: (يخطّف)، فمن قال: (يخطّف) فالأصل (يختطف)، فأدغمت التاء في الطاء، وألقيت على الخاء فتحة التاء.
ومن قال: (يخطّف) كسر الخاء لسكونها وسكون الطاء. وهذا قول الخليل، وزعم الفراء أن الكسر لالتقاء الساكنين ها هنا خطأ، وأنه يلزم من قال هذا أن يقول في "يعضّ ": "يعضّ)، وفي "يمدّ " "يمدّ).
وقال من احتج للخليل: هذا الذي قاله القراء غلط غير لازم، لأنه لو كسر "يعضّ" و"يمدّ" لالتبس ما أصله "يفعل " و"يفعل" بما أصله (يفعل).
وأما: (يختطف) فليس أصله غير هذا، ولا يكون مرة على (يفتعل) ومرة على غير (يفتعل)، فكسر لالتقاء الساكنين في موضع غير ملتبس، وامتنع في الملتبس من الكسر لالتقاء الساكنين، وألزمه حركة الحرف الذي أدغمه لتدل الحركة عليه). [معاني القراءات وعللها: 1/143]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (17- وقوله تعالى: {كلما أضاء لهم مشوا فيه}
قرأ ابن كثير وحده {فيهى} بياء بعد الهاء، وكذلك ما شاكل ذلك نحو عليهى، والباقون باختلاس الحركة في غير ياء، فقراءة ابن كثير الأصل؛ لأن الهاء حرف خفي، فقووها بحركة وحرف، فإذا انفتح ما قبل الهاء أتبعوها ضمةً وواوًا كقوله: {فقدر هو * ثم السبيل يسرهو} فإن سكن ما قبلها فابن كثير يُبقي الواو نحو: {منهو آيات محكمات} {واجتبهوا وهداهو} على أصل الكلمة. ومن حذف الواو والياء قال: كرهت الجمع بين ساكنين وليس بينهما حاجزٌ إلا الهاء، وهي حرف خفي ضعيف، والأصل في الهاء الضم، وإنما تكسر إذا تقدمتها كسرة أو ياء.
قال أبو عبد الله رضي الله عنه: وجدت في القرآن خمسة أحرف، قد ضمت الهاء فيها على الأصل من ذلك: قراءة حمزة {لأهله امكثوا} وقرأ حفص: {بما عاهد عليه الله} {وما أنسنيه إلا الشيطان} وروي أبو قرة عن نافع: {به انظر كيف نصرف الآيات}.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/72]
وأما غير السبعة فمنهم من يضم كل هاء في القرآن، منهم مسلم بن جندب قرأ {لا ريب فيه هدى للمتقين} وقرأ شيبة: {فخسفنا به وبداره الأرض}، فمن ضم فهو الأصل، ومن كسر فلمجاورة كسرة أو ياء، وفي الهاء لغة أخرى، وهو حذف الواو إذا انفتح ما قبلها، ولم يقرأ به أحد، غير أن الشاعر قال:
له زجل كأنه صوت حاد = إذا سمع الوسيقة أو زمير
الوسيقة: الطريدة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/73]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (18- وقوله تعالى: {إن الله على كل شيء قدير}
قرأ حمزة وحده بإشباع الفتحة طلبًا للألف، لأن حمزة يعتبر قراءته بحرف عبد الله، وفي مصحف عبد الله (شاي) ويسكت على الياء – أعني حمزة – سكتة خفيفة قبل الهمزة، وكذلك يفعل بالأرض والأسماء. وقرأ الباقون: {شيء} على وزن شيع). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/73]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (حدثنا أحمد بن موسى: قال: اتفقوا على يخطف [البقرة/ 20] أنّ طاءه مفتوحة.
واختلفوا في: فتخطفه [الحج/ 31] فقرأ نافع: فتخطفه الطير بفتح التاء والخاء والطاء مشددة.
قال أبو علي: أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن السري أنّ خطف يخطف أعلى من خطف يخطف.
وقال أبو الحسن: زعم يونس أن خطف يخطف أكثر في كلام العرب، وأنّها قراءة أبي عمرو، قال: وكذلك كان
[الحجة للقراء السبعة: 1/390]
يقرأ: إلّا من خطف الخطفة [الصافات/ 10].
قال: والقراء لم يقرءوا إلا يخطف، وخطف مثل علم قال ولا نعلم أحدا قرأ الأخرى.
فأما قوله تعالى: «فتخطفه الطير» فنذكره في موضعه إن شاء الله.
قوله تعالى: على كلّ شيءٍ قديرٌ [البقرة/ 20].
كان حمزة يسكت على الياء من (شيء) قبل الهمزة سكتة خفيفة، ثم يهمز فيقول: شيء قدير، وكذلك يسكت على اللام من الآخرة [البقرة/ 94] والأرض [البقرة/ 22] والأسماء [البقرة/ 31] وما أشبه ذلك.
وغيره من هؤلاء القراء يصل الياء من (شيء) بالهمز واللام من (الأرض) وأخواتها بالهمز بلا سكتة.
قال أبو علي: الحجة لحمزة في ذلك أنّه أراد بهذه الوقيفة التي وقفها تحقيق الهمزة وتبيينها، فجعل الهمزة بهذه الوقيفة التي وقفها قبلها على صورة لا يجوز فيها معها إلّا التحقيق، لأنّ الهمزة قد صارت بالوقيفة مضارعة للمبتدإ بها، والمبتدأ بها لا يجوز تخفيفها، ألا ترى أنّ أهل التخفيف لا يخفّفونها مبتدأة، فكذلك هذه الوقيفة آذنت بتخفيفها لموافقتها بها صورة ما لا يخفّف من الهمزات.
وقد زادوا مدّ الألف إذا وقعت قبل الهمزة نحو:
[الحجة للقراء السبعة: 1/391]
أنزل من السّماء ماءً [الحج/ 63] ألا ترى أن المدّ الذي في الألف قبل الهمزة أزيد من المدّ الذي في الألف في نحو قوله تعالى:
وما بكم من نعمةٍ فمن اللّه [النحل/ 53] ليكون ذلك أبين للهمزة، فكذلك وقف حمزة هذه الوقيفة الخفيفة ليكون أبين للهمزة كما مدوا جميعا الألف زيادة مدّ ليكون أبين للهمزة.
روى ورش عن نافع أنّه كان يلقي حركة الهمزة على اللام التي قبلها مثل: (الأرض) و (الآخرة) و (الأسماء) ويسقط الهمزة، وكذلك إذا كان الساكن. آخر كلمة والهمزة أول الأخرى ألقى حركتها على الساكن وأسقطها مثل: (قد افلح)، و (من اله)، ونحو ذلك، إلا أن يكون الساكن الأول واوا قبلها ضمة مثل: قالوا أنصتوا [الأحقاف/ 29]، أو ياء قبلها كسرة مثل: في أنفسكم [البقرة/ 235] فإنّه لم يكن يلقي حركة الهمزة عليها، فإذا انفتح ما قبل الواو والياء وهي ساكنة ولقيتها همزة ألقى عليها حركة الهمزة. وأسقط الهمزة مثل: خلوا إلى شياطينهم [البقرة/ 14] ونبأ ابني آدم [المائدة/ 27] وما كان مثله.
قال أبو علي: أما إلقاء نافع حركة الهمزة المتحركة على لام المعرفة في نحو: الأرض، والآخرة، والأسماء، وحذف الهمزة، فذلك قياس مستمر في الهمزة المتحركة إذا خففت،
[الحجة للقراء السبعة: 1/392]
وقبلها ساكن غير الألف، وسواء كان ذلك في كلمة واحدة، كقوله: الخب في السموات [النمل/ 25] أو في كلمتين منفصلتين مثل: (قد افلح)، و (من اله)، فإذا خفّفت الهمزة فحذفت وألقيت حركتها على لام المعرفة الساكنة كان فيها لغتان:
منهم من يحذف همزة الوصل فيقول: لحمر.
ومنهم من لا يحذفها وإن تحرك ما بعدها فيقول: الحمر.
فأما وجه حذف هذه الهمزة في التخفيف، فإنها إذا أريد تخفيفها لم تخل من أن تحذف، أو تجعل بين بين، فلو جعلتها بين بين وقبلها ساكن لم يستقم، كما لا يستقيم أن يجتمع ساكنان، ألا ترى أنهم لم يخففوا الهمزة مبتدأة، وأنهم رفضوا تخفيفها على هذه الحال، كما رفضوا الابتداء بالحرف الساكن؟
فكما كانت في حكم الساكن في الابتداء، كذلك إذا جعلتها بين بين بعد الساكن.
ومما يبين وجوب حذفها أن الحركة في التقدير كأنّها تلي الحرف المتحرك بها والحرف قبلها. يدلّك على ذلك أنّها لا تخلو من أن تكون قبله أو بعده، فلا يجوز أن تكون قبله، لأنّها لو كانت كذلك لكانت الياء من اليسار لا تنقلب واوا، والواو من الوعد لا تنقلب ياء في ميعاد أو موسر، ألا ترى أنّ الميم لا تقلب هذين الحرفين؟ فلما انقلبا علمت أن الموجب لقلبهما ملازمتهما الياء أو الواو.
[الحجة للقراء السبعة: 1/393]
فإذا خففت الهمزة قبل ساكن لم تحذف نحو: رأيته، لأنّ الحركة قد فصلت- وإن أضعف الصوت بها- بين الهمزة المخففة والساكن.
فأمّا ترك نافع أن يلقي حركة الهمزة في التخفيف على الواو إذا انضمّ ما قبلها نحو: قالوا أنصتوا [الأحقاف/ 29] وعلى الياء إذا انكسر ما قبلها نحو: في أنفسكم [البقرة/ 235] فإنّ ذلك لا يمتنع في قياس العربية. وقد قال أهل التخفيف في: اتبعوا أمره: اتبعوا مره، وفي: اتبعي أمره:
اتبعي مره، فلم يفصلوا بين هذا الحرف اللين إذا كانت حركة ما قبله منه، وبينه إذا لم تكن حركة ما قبله منه.
وقد فصل نافع بينهما فخفّف بعد ما لم تكن حركتها منها، نحو: خلو الى [البقرة/ 14] نبأ ابني آدم [المائدة/ 27] فألقى حركة الهمزة من إلى على الواو من (خلوا)، وحركة الهمزة من (نبأ ابني آدم) على ياء التثنية من ابني، وليست حركة ما قبل كل واحد منهما منه، فيجوز أن يكون أراد الأخذ بالأمرين: بالتخفيف، والتحقيق، إلّا أنّه حقق الهمزة بعد الواو والياء إذا كانت حركة ما قبلهما منهما، لأنّه لو خفف ولم يحقق في قوله: (قالوا أنصتوا) لاختل بالتخفيف زيادة المدّ التي في الواو إذا ألقي عليها حركة الهمزة، فأحب أن يسلم المدّ ولا يخلّ به.
[الحجة للقراء السبعة: 1/394]
وخفّف في: (خلوا إلى) و (ابني آدم)، لأنّه لمّا لم تكن حركة ما قبلهما منهما أمن اختلال المدّ بالتخفيف.
فأمّا إلقاء حركة الهمزة على ياء (في) من قوله: في أنفسكم [البقرة/ 235] فلا يمتنع في القياس، وذلك أنّها ليست كالتي في خطيئة، لأنّها من نفس الكلمة، فهو مثل:
يرمي خاه.
فإن قلت: فهل يجوز أن تدغم في المنفصل كما جاز إدغامها في المتصل نحو: فيّ خير فتجيز: فيّدها سوار؟ فالقول أن إدغامها في المنفصل لا ينبغي أن يجوز من حيث جاز في المتصل، ألا ترى أنّك تقول: هذا قاضيّ، ووضعته في فيّ، فتدغم فيما هو غير منفصل، ولا يجوز أن تدغم هذا قاضي ياسر، ولا يغزو واقد، لما يختل من المدّ؟
وعلى هذا لم يجيزوا الإدغام في ظلموا واقدا، واظلمي ياسرا، وكان الإدغام في هذا أبعد لمعاقبة الألف الواو إذا قلت ظلما، فصار بمنزلة ساير وسوير، ولا يكون تخفيف الهمزة بعد في، كما قال أبو عثمان في ميئل: إنه يلزم أن تكون الهمزة فيها بعد الياء على قياس قول الخليل بين بين، وذلك أن الخليل لم يدغم أووم فلما لم يدغمه صار عنده بمنزلة سوير وقوول، والياء في ميئل هي التي لم يدغمها في مثلها ولا في
[الحجة للقراء السبعة: 1/395]
مقاربها، فصار بمنزلة الألف التي لم تدغم في شيء، ولم ينبغ أن تلقى عليها حركة الهمزة كما لم تلق على الألف، فلزم أن تجعل الهمزة بعدها بين بين كما كانت بعد الألف كذلك.
وهذه الياء التي في (في) وإن لم تدغم في المنفصل، كما لم يدغموا: هو يرمي ياسرا، فقد أدغمت في المتصل كما أدغم قاضيّ، فلا يمتنع أن تخفّف الهمزة بعدها. وتلقى حركتها عليها، كما ألقيت على الياء من يقضي وما أشبهه.
وأما تخفيف الهمزة في قوله: شيء، فإنّه يكون بحذفها وإلقاء حركتها على الياء، كما كان في ضوء وسوأة.
ضو وسوة فكذلك تقول: شي.
وقد قال قوم في تخفيف الهمزة في المنفصل نحو: أبو أيوب: أبويّوب فأبدلوا من الهمزة الواو لمّا كان قبلها، وفعلوا ذلك في المنفصل لأمنهم الالتباس بباب قوّة وجوّ. وشبه قوم به المتصل فقالوا: ضوّ وسوّة، وهو ذوّنسه في ذو أنسه.
وقد حكي أن قوما قالوا في الياء: أنا أرميّ باك، في أنا أرمى أباك، فقياس هؤلاء أن يقولوا في تخفيف شيء شيّ، كما قالوا في ضوء: ضوّ، وسوّة، وموّلة.
وقد قال: إن من قال: سوّة قال: سيّ، يريد في نحو
[الحجة للقراء السبعة: 1/396]
قوله: سيء بهم [هود/ 77].
فأمّا ما قاله من نحو: مسوّ فينبغي أن يكون أبدل من الهمزة الواو، وأدغم الواو التي هي عين فيها، لأن المبقّى عنده عين الفعل، وواو مفعول محذوفة.
وقياس قول أبي الحسن في مسوء بالتخفيف القياسيّ:
مسوّ، كما يقول في مقروءة: مقروّة، وفي قول سيبويه مسو، ومقرو، لأنّ الواو العين وليست المدة التي في مثل الهدوء، فتقول في تخفيفه الهدوّ. وإنّما مسوّ الذي ذكره على قوله سوّة كما قالوا في المنفصل: أوّنت فهذا التخفيف على القولين جميعا.
فأمّا القياس فعلى ما أعلمتك في القولين.
فأمّا قولهم: الكمأة والمرأة، فقياسهما الكمة والمرة، وقد قالوا: الكماة والمراة. والقول في وجه ذلك أنّ الذي قال:
الكماة، قدر أن حركة الكاف على الميم، كما أنّ الذي قال:
مؤسى، قدرها على الواو، فلذلك استجاز همزها، فإذا قدرها عليها صارت الميم في تقدير الحركة، والهمزة بعدها مفتوحة، فكان ينبغي أن يجعلها بين بين ولا يقلبها ألفا، إلّا أنّه استجاز
[الحجة للقراء السبعة: 1/397]
القلب لأنّهم قد قالوا في الكلام: منساة فقلبوا.
وجاء في الشعر:
لا هناك المرتع ونحوه، وإن شئت قلت: إنّه قدر الحركة التي على الهمزة على العين، فلمّا انفتحت العين صارت الهمزة في تقدير السكون، فلمّا خففتها قلبتها ألفا كالتي في راس وفاس. والوجه الأول أقيس، لأنّ الحركة التي بعد الكاف في الكمأة أقرب إلى الميم من التي على الهمزة، ألا ترى أن الهمزة تحجز بينها وبين الميم، فحركة الكاف أقرب إليها.
وهذا الوجه أيضا لا يمتنع، لأنّ الحركة والحرف كأنّهما معا لقرب ما بينهما، وإن كان في الحقيقة أحدهما يلي الآخر بلا كبير فصل.
ذكر اختلافهم في إمالة الألف التي تليها الراء
قال أحمد بن موسى: كان نافع لا يميل الألف التي تأتي
[الحجة للقراء السبعة: 1/398]
بعدها راء مكسورة، مثل: من النّار ومن قرارٍ والأبرار والأشرار ودار البوار والأبصار، وبقنطارٍ وبدينارٍ وديارهم وعلى آثارهم بل كان في ذلك كلّه بين الفتح والكسر وهو إلى الفتح أقرب.
وكان ابن كثير وابن عامر وعاصم يفتحون ذلك كلّه.
قال أبو علي: قد تقدم ذكر وجه قولهم في ترك الإمالة.
وقول أحمد في حكايته عن نافع: لا يميل الألف التي تأتي بعدها راء مكسورة، يريد به - إن شاء الله- لا يميل الفتحة نحو الكسرة إمالة شديدة فتميل الألف نحو الياء كثيرا، ولكن لا يشبع إمالة الفتحة نحو الكسرة فيخف لذلك إجناح الألف وإضجاعها، لأنّ أحمد قد قال بعد: كان في ذلك كلّه بين الفتح والكسر، وهو إلى الفتح أقرب، وإذا زال عن الفتح الخالص فهو إمالة، وإن كان بعض الإمالة أزيد من بعض.
ووجه حسن إمالة الألف إذا كان بعدها راء مكسورة. أنّ الراء حرف فيه تكرير، وذلك يتبين فيها إذا وقف عليها، فكأنّ الكسر متكرر وإذا تكرر الكسر ازدادت الإمالة حسنا، ليتجانس الصوت، فكما أنّها إذا انضمت أو انفتحت منعت الإمالة، لأنّ كلّ واحد من الحرفين المضموم والمفتوح كأنّه
[الحجة للقراء السبعة: 1/399]
متكرر، والفتح والضمّ يمنعان الإمالة، كذلك إذا تكرر الكسر جلبها، كما أنّه إذا انضمّ أو انفتح منعها كما يمنعها الحرف المستعلي في نحو: طالب، وظالم، وناقد، ونافق.
قال أحمد: وأمّا الكسائي فروى عنه أبو الحارث أنّه لم يمل من ذلك شيئا، إلّا إذا تكررت الراء في موضع الخفض مثل: (الأشرار)، و (الأبرار)، و (من قرار).
وكان أبو عمر الدّوري يروي عنه أنّه كان يميل كل ألف بعدها راء مكسورة.
قال أبو علي: ما رواه عن الكسائي في إمالة مثل الأبرار والأشرار ونحو ذلك مما تكرر فيه الراء مستقيم في قياس العربية ظاهر الوجه، وذلك أنّ الراء المكسورة إذا غلبت المستعلي في نحو: قارب وطارد، فجازت الإمالة مع المستعلي لمكانها، فأن تغلب الراء المفتوحة في نحو: من الأشرار، أولى، لأنّ الرّاء لا استعلاء فيها.
ورواية أبي عمر الدّوري أنّه كان يميل كلّ ألف بعدها راء مكسورة أقيس، لأنّ الإمالة إنّما يجلبها ويحسنها التكرر الذي كأنّه في الراء، فإذا كان كذلك فسواء كانت قبل الألف التي تميلها الراء راء أو غيرها.
قال أحمد: وأمّا حمزة فكان لا يميل من ذلك شيئا إلّا قوله: (الأشرار) و (القرار) و (ذات قرار) و (القهار)
[الحجة للقراء السبعة: 1/400]
و (البوار). وكل ذلك بين الكسر والتفخيم. ذكر ذلك خلف وأبو هشام عن سليم عنه في هذين الحرفين.
قال أبو علي: ما رواه من تخصيص حمزة بإمالة الأشرار والقرار والحروف الأخر دون ما عداها من الكلم مما كان في قياسها وعلى صورتها- فالقياس في ذلك وفي غيرها واحد، ولعله تبع في ذلك أثرا ترك القياس إليه، أو أحبّ أن يأخذ بالوجهين، وكره أن يرفض أحدهما، ويستعمل الآخر مع أن كل واحد مثل الآخر في الحسن والكثرة.
قال أحمد: وكان أبو عمرو يميل كل ألف بعدها راء في موضع اللام من الفعل وهي مكسورة والكلمة في موضع خفض إلا في أحرف يسيرة، مثل قوله تعالى: والجار ذي القربى [النساء/ 36] و (جبارين)؛ فإنّه كان لا يميل في هذين الحرفين إلا ما رواه عنه عبيد الله بن معاذ بن معاذ عن أبيه عن أبي عمرو (والجار ذي القربى والجار) ممالة.
فإذا كانت الراء في موضع العين كعين فاعل لم يمل ألف
[الحجة للقراء السبعة: 1/401]
فاعل كقوله: باردٌ وشرابٌ [ص/ 42] والبارئ المصوّر [الحشر/ 24] وبارئكم [البقرة/ 54] ومن كلّ شيطانٍ ماردٍ [الصافات/ 7] وما كان مثل ذلك.
وروى عنه محبوب بن الحسن وعباس والأصمعي بخارجين [البقرة/ 167] ممالة ولم يروها غيرهم، وهذا خلاف ما عليه العامة من أصحابه مع فتح الإمالة لاستعلاء الخاء.
على أنّه قد روى اليزيدي عنه: كالفخّار [الرحمن/ 14] ممالة، وقرأ بقنطارٍ [آل عمران/ 75].
قال أبو علي: أما ما روي عن أبي عمرو من إمالته كل ألف بعدها راء في موضع اللام فقد تقدم القول في حسن الإمالة في ذلك.
وأمّا ما روي عنه من أنّه إذا كانت الراء في موضع العين كعين فاعل لم يمل ألف فاعل كقوله: باردٌ وشرابٌ والبارئ المصوّر، وبارئكم، ومن كلّ شيطانٍ ماردٍ، ونحوه، فلعله تبع في ذلك أثرا، وذلك أن الإمالة في ألف فاعل إذا كانت الراء عينا أقوى من الإمالة في الألف إذا كانت الراء لاما، لأنّ الكسرة في العين لازمة غير مفارقة، وكسرة اللام قد تنتقل عنها للرفع والنصب، وبحسب لزوم ما يوجب الإمالة تحسن الإمالة، ولا يكون غير اللازم كاللازم، ألا ترى أنّه قد يكون من الأشياء أشياء لا تلزم فلا يعتد بها لانتفاء لزومها.
[الحجة للقراء السبعة: 1/402]
وأمّا ما رواه عنه محبوب وعباس والأصمعي في قوله: (بخارجين من النّار) فإمالته حسنة لمكان كسرة الراء. فأمّا الحرف المستعلي في قوله: (بخارجين) فلا يمنع الإمالة، وإمالته أقوى في قياس العربية من إمالة (بقنطار) لما أعلمتك من لزوم الراء الكسرة، وليست في قوله بقنطار، ولا قوله (كالفخّار) كذلك.
قال سيبويه: مما تغلب فيه الراء قولك: قارب، وغارم، وطارد، وكذلك جميع المستعلية إذا كانت الراء مكسورة بعد الألف التي تليها وذلك أنّ الراء لما كانت تقوى على كسر الألف في فعال في الجر، وفعال لما ذكرنا من التضعيف قويت على هذه الإمالة.
وإنّما قويت عليها لأنّك تضع لسانك في موضع استعلاء ثم ينحدر فصارت المستعلية هاهنا وجواز الإمالة فيها بمنزلتها في صفاف وقفاف.
ولو قلت: ناقة فارق، وإبل مفاريق، لم تمل الألف هاهنا مع المستعلي لأنّه عكس ما تقدّم، ألا ترى أنّك لو أملت فارقا لانحدرت بالإمالة ثم أصعدت بالمستعلي؟ فالإصعاد بعد الانحدار يثقل ولا يثقل الانحدار بعد الاستعلاء، فلذلك
[الحجة للقراء السبعة: 1/403]
أملت طاردا، وقاربا، وغارما، ولم تمل فارقا، والذين يميلون قاربا يفخمون الألف في قادر، لأن الراء بعدت.
وزعم أنّ قوما يقولون: مررت بقادر فيميلون للراء. قال:
وسمعنا من نثق به من العرب يقول:
عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر قال: وكان عبد الله بن كثير وابن عامر وعاصم يفتحون الياء في هذا الباب كلّه: فأحياكم [البقرة/ 28]، وأحيا [النجم/ 44] ونموت ونحيا، ويحيى من حيّ عن بيّنةٍ [الأنفال/ 42]، فأحيا به الأرض بعد موتها [النحل/ 65]، وهو الّذي أحياكم [الحج/ 66]، وما كان مثله.
قال أبو علي: قد مضى ذكر الحجة لمن لم يمل هذه الألفات.
قال: وكان نافع يقرأ ذلك كلّه بين الإمالة والتفخيم.
قال أبو علي: قد مضى ذكر الحجة في ذلك.
قال: وكان أبو عمرو لا يميل من ذلك إلا ما كان في رءوس الآي إذا كانت السورة أواخر آياتها الياء، مثل: أمات وأحيا فإنّه كان يلفظ بهذه الحروف في هذه المواضع بين
[الحجة للقراء السبعة: 1/404]
الإمالة والتفخيم، ويفتح سائر ذلك.
قال أبو علي: قد تقدّم ذكر الحجة لذلك، وهو أن أواخر الآي موضع وقوف، والوقف رأيناه قد أوجب إعلالا في الموقوف عليه، وتغييرا عمّا عليه في الوصل. ألا ترى أنّهم قد أبدلوا من النون الساكنة الألف في الاسم والفعل، وأبدلوا من التاء الهاء في نحو: رحمة، ومن الألف الياء أو الواو في نحو: أفعى وأفعو، وزادوا فيه في نحو: هذا فرجّ وهو يجعلّ، ونقصوا منه في نحو:
............... وبعـ ..... ـض القوم يخلق ثمّ لا يفر
فكما غيّر موضع الوقف بهذا النحو من التغيير، كذلك غيرت الألف بأن نحي بها نحو الياء، وكان ذلك حسنا إذ أبدلوا من الألف الياء في الوقف في نحو قوله: أفعى، فكذلك قربوا الألف منها، فليست الإمالة هاهنا لتدل على انقلاب الألف عن الياء، ولكن لتقرب من الياء التي أبدلت من الألف للوقف، ولهذا أمال قوم من العرب نحو: لم يضربها، فإذا أدرج قال: لم يضربها زيد.
[الحجة للقراء السبعة: 1/405]
قال: وكان حمزة لا يميل من ذلك إلّا الفعل الذي في أوله الواو، مثل: نموت ونحيا وأمات وأحيا ويحيى من حيّ ولا يحيى. كان يميل هذه الحروف أشد من إمالة أبي عمرو ونافع.
قال أبو علي: يشبه أن يكون بالغ في إجناح الألف ليقربها من الياء، إذ كانوا قد أبدلوا من الألف الياء في نحو أفعى في الوقف، فبالغ في الإجناح، ليقربها من الياء التي أبدلوها من الألف في الوقف.
قال: وكان الكسائي يميل ذلك كلّه، كان قبل الفعل واو أو فاء، أو لم يكن قبله ذلك، مثل: أحياكم وما أشبهه.
قال أبو علي: قد مضى ذكر الحجة لذلك، وما ذهب إليه الكسائي من ترك الفصل بين الفعل الذي قبله واو أو فاء، وبين ما ليس قبله من ذلك شيء- هو الوجه في قياس العربية.
اختلفوا في الهاء من قوله تعالى: (فهو) (وهي)
إذا كان قبلها لام، أو واو، أو ثم، أو فاء. فقرأ ابن كثير، وعاصم، وابن عامر، وحمزة: وهو، وفهو، ولهو، وثم هو، فهي، وهي. يثقّل ذلك كلّه في جميع القرآن.
وقرأ الكسائي بتخفيف ذلك كلّه وتسكين الهاء.
وكان أبو عمرو يضم الهاء في قوله: ثمّ هو في سورة
[الحجة للقراء السبعة: 1/406]
القصص [آية/ 61] ويسكنها في كل القرآن.
واختلف عن نافع، فروي عنه التثقيل، وروي عنه التخفيف.
قال أبو علي: من قال: وهو، فهو، ولهو، وثم هو- فوجهه ظاهر، وذلك أن الهاء كانت متحركة قبل دخول هذه الحروف عليها، فدخلت هذه الحروف، ولم تتغير عما كانت عليه من قبل، كما لم تتغير سائر الحروف سوى ألف الوصل عما كان عليه في الابتداء به والاستئناف له.
ومثل الهاء في هو وهي في تغييره في الوصل عما كان عليه في الابتداء به- لام الأمر في نحو: وليطّوّفوا [الحج/ 29].
وأما تسكين أبي عمرو هذه الهاء مع الواو، والفاء، واللام، فلأن هذه الكلم لمّا كنّ على حرف واحد أشبهت في حال دخولها الكلمة ما كان من نفسها، وذلك لأنّها لم تنفصل منها لكونها على حرف واحد كما لم تنفصل الباء من سبع وغيره منه- خفّف الهاء منها كما خفّفت العينات من سبع وعضد ونحوهما، ولم يستقم عنده أن يجعل ثمّ
بمنزلة الفاء وما كان على حرف، لأنّه قد يجوز أن تنفصل منها وتنفرد عنها، وليست الواو والفاء ونحوهما كذلك، فمن ثم قال: ثمّ هو.
وقد جعلوا في غير هذا ما كان من الحروف على حرف
[الحجة للقراء السبعة: 1/407]
واحد إذا اتصل بكلمة بمنزلة ما هو منها، فاستجازوا في ذلك ما استجازوا في الحرف الذي هو منها، وذلك قولهم: لعمري، ورعملي، فقلبوه كما قلبوا مسائية وقسيّا، ونحو ذلك. وكذلك قول من قال: كائن أبدل الألف من الياء كما أبدلها من طائي ونحو ذلك.
وقرأ الكسائي بتخفيف ذلك كلّه، ولم يفصل كما فصل أبو عمرو، كأنّه جعل الميم المتحركة من ثم هو بمنزلة الواو، فخفف الهاء معها كما خففها مع الواو.
ومثل تخفيف فهو ولهو لتنزيلهم ذلك منزلة ما ذكرناه قولهم: «أراك منتفخا» لما كان «تفخا» مثل كتف خفف، فكذلك فهو.
ومثله قول العجاج:
فبات منتصبا وما تكردسا فيمن رواه هكذا.
ومثل ذلك قول من قرأ: ويخش اللّه ويتّقه [النور/ 52]
[الحجة للقراء السبعة: 1/408]
لمّا كان (تقه) مثل كتف.
ومثل ذلك ما حكاه الخليل من قولهم: انطلق، لما كان (طلق) من انطلق مثل: كتف، أسكن ثم حرّك لالتقاء الساكنين.
ومثل ذلك ما أنشده الخليل:
ألا ربّ مولود وليس له أب... وذي ولد لم يلده أبوان
فهذه الأشياء متصلة، وقوله: وهو، وفهو، ولهو، في حكمها، وليس كذلك (ثم هو)، ألا ترى أن ثم منفصل من هو لإمكان الوقوف عليها وإفرادها مما بعدها، وليست الكلم التي على حرف واحد كذلك، وقد يستخف في المنفصلة أشياء لا تستخف في المتصلة وما في حكمها، فكذلك يحتمل (ثم هو) للانفصال، ولا يكون وهو وفهو ونحو ذلك مثلها، لكونها في حكم الاتصال.
وللكسائي أن يقول: إن ثم مثل الفاء، والواو، واللام، في أنهن لسن من الكلمة كما أن ثم ليس منها، وقد جعلوا المنفصل بمنزلة المتصل في أشياء. ألا ترى أنّهم أدغموا نحو:
يد داود، وجعل لك، كما أدغموا: ردّ وغلّ.
[الحجة للقراء السبعة: 1/409]
وقالوا: لم يضربها ملق، فامتنعوا من الإمالة لمكان المستعلي وإن كان منفصلا، كما امتنعوا من إمالة نافق ونحوه من المتصلة.
ومما يقوي قوله في ذلك أنّه قد جاء من هذا النحو في المنفصل أشياء أجريت مجرى المتصل مثل قوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب ف «رب غ» مثل: سبع، وقد أسكن.
وأنشد أبو زيد:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا وقول أبي عمرو أرجح عندنا.
فإن قلت: فلم لا تجعل قوله «اشتر لنا سويقا» على أنّه أجرى الوصل مجرى الوقف، كما فعلوا ذلك في: سبسبّا وعيهلّا ونحو ذلك مما قد أجري الوصل فيه مجرى الوقف؟
فالقول إنّ ذلك، وإن أمكن أن يقال، فما ذكرناه أولى، لأنّا رأيناهم قد أجروا المنفصل مجرى المتصل في الكلام كقولهم: «عبشمس»، فأجروه وإن كان منفصلا مجرى المتصل، فكذلك يحمل قوله: «اشتر لنا سويقا» على ذلك، لا على
[الحجة للقراء السبعة: 1/410]
مذهب الضرورة إذا أمكن توجيهه على غيرها). [الحجة للقراء السبعة: 1/411]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما حكاه الفراء عن بعض القراء فيما ذكر ابن مجاهد [يَخَطَّف] بنصب الياء والخاء والتشديد. قال ابن مجاهد: ولم يُرْوَ لنا عن أحد.
قال أبو الفتح: أصله يَخْتَطف، فآثر إدغام التاء في الطاء؛ لأنهما من مخرج واحد، ولأن التاء مهموسة والطاء مجهورة، والمجهور أقوى صوتًا من المهموس، ومتى كان الإدغام يُقوِّي الحرف المدغم حسن ذلك؛ وعلته أن الحرف إذا أدغم خفي فضعف، فإذا أدغم في حرف أقوى منه استحال لفظ المدغم إلى لفظ المدغم فيه فقوي لقوته، فكان في ذلك تدارك وتلاف لما جُني علي الحرف المدغم؛ فأَسكن التاءَ لإدغامها والخاءُ قبلها ساكنة، فنقلت الحركة إليها، وقلبت التاء طاء وأدغمت في الطاء؛ فصارت [يَخَطَّف].
ومنهم من إذا أسكن التاء ليدغمها كسر الخاء لالتقاء الساكنين، فاستغنى بحركتها عن نقل الحركة إليها، فيقول: يَخِطِّف.
ومنهم من يكسر حرف المضارعة إتباعًا لكسرة فاء الفعل ما بعده فيقول: يِخِطِّف، وأنا إِخِطِّف، وأنشدو لأبي النجم:
تدافُعَ الشِّيبِ ولم تِقِتِّل
أراد تقتتل، فأسكن التاء الأولى للإدغام، وحرك القاف لالتقاء الساكنين بالكسر فصار تَقتِّل، ثم أتبع أول الحرف ثانيه فصار تِقِتِّل.
وعلى هذا قالوا في ماضيه: خِطَّف، وأصلها اختطف، فأسكن التاء للإدغام فانكسرت الخاء لسكونها وسكون التاء، فحذف همزة الوصل لتحرك الخاء بعدها، وأُدغمت التاء في الطاء فصار [خِطَّف].
[المحتسب: 1/59]
ومنهم من يتبع الطاء كسرة الخاء فيقول: خِطِّف، وأنشدونا:
لا حِطِّب القومَ ولا القومَ سقى
أراد: احتطب على ما مضى.
وحكى أبو الحسن عنهم: فِتِّحوا الأبواب؛ أي: افتتحوا، على ما تقدم.
وكذلك الكلم في قوله: يَهَدِّي ويَهِدِّي ويِهِدِّي، وجاء المعذِّورن والْمُعِذِّرون والْمُعُذِّورن، ومُرَدِّفين ومُرِدِّفين ومُرُدِّفين، تُتْبِع الضم الضم، كما أتبعت الكسر الكسر. وأصله كله: المعتذرون ومرتدفون، وهو باب منقاد، وهذه طريقه.
ومن بعد فيسأل فيقال: ما مثال [يَخَطِّف]؟
قيل: إن أردت الأصل فيفتعِل؛ أي: يختطف، وإن أردت اللفظ ففيه الصنعة وعليه المسألة، فوزنه: يَفَطْعِل، وذلك أن التاء في يفتعل زائدة، فكما أنها لو ظهرت لكانت زائدة فكذلك إذا أَبدلت فالبدل منها زائد؛ لأن البدل من الزائد زائد، ألا ترى أن الطاء من "اصطبر" بدل من التاء في "اصتبر" الذي هو افتعل؟ فكما أن التاء زائدة فكذلك ما هو بدل منها -وهو
[المحتسب: 1/60]
الطاء- زائد، فوزن اصطبر على أصله: افتعل، وعلى لفظه: افطعل، فكذلك وزن [يَخَطِّف] من الفعل على لفظه: يَفَطْعِل، فإذا ثبت ذلك -وقد ثبت بحمد الله- فوزن خِطِّف: فِطْعِل، ووزن تِقِتِّل: تِفِعْتِل، ووزن مُرُدِّفين: مُفُدْعِلِين؛ لأن الدال فيه بدل من التاء الزائدة، فهي زائدة من هذا الوجه، كما كانت الطاء في خِطِّف زائدة من هذا الوجه.
وكذلك لو قائل: ما مثل "ازَّيَّنَتْ" على أصله؟
قلت: تفعَّلت؛ أي: تزينت، وعلى لفظه: ازْفَعَّلَت.
وكذلك قالوا: {اطَّيَّرْنَا} ووزنه: اطْفَعَّلْنا، وكذلك قول العجلي:
من عبس الصيف قرون الإِجَّل
يريد الإِيَّل، فإن اعتقدت أنه فِعْوَل أو فِعْيَل في الأصل فوزنه بعد البدل: فِعْجَل؛ لأن الجيم على هذا بدل من واو فِعْوَل أو ياء فِعْيَل، وهما زائدتان، فهي زائدة، فاعرف ذلك وقسه.
قال ابن مجاهد: وحكى الفراء أن بعض أهل المدينة يسكن الخاء والطاء ويشدد فيجمع بين ساكنين.
قال ابن مجاهد: ولا نعلم أن هذه القراءة رُويت عن أهل المدينة.
قال أبو الفتح: هذا الذي يجيزه الفراء من اجتماع ساكنين في نحو هذا لا يثبته أصحابنا؛
[المحتسب: 1/61]
وإنما هو اختلاس وإخفاء عليهم فيرون أنه إدغام، وإنما هو إخفاء للحركة وإضعاف للصوت، وهذا كما يُروى في قوله:
ومَسحِه مُرُّ عُقاب كاسِرِ
أن الحاء مدغمة في الهاء، ويا ليت شعري كيف يجوز لذي نظر أو من يُخْلِد ألى أدني تفكير أن يدَّعِي أن هنا إدغامًا، أو أن تجمع بين ساكنين، وقد قابل به جزء التفعيل، وإذا وقع التحاكم إلى بديهة الحس؛ فقد سقطت كلفة إتعاب النفس، ألا ترى أن وزن قوله: "ومسحهِي" مفاعلن، فالحاء مقابَل بها عين "علن"، والعين أول الوتد، وهي كما ترى وتعلم محركة، أفيقابَل في الوزن الساكن بالمتحريك؟ وإذا أفضى الأمر في السفور إلى هاهنا حَسَر شبهة اللبس والعناء، وقد قلنا في كتابنا الموسوم "بسر الصناعة" في هذا ما فيه كفاية وغناء.
قال ابن مجاهد: وقد رُوي عن مجاهد والحسن [يَخْطِف]، ولم يبلغنا أن أحدًا قرأ [خَطَف] بفتح الطاء، فيُقرأ هذا الحرف يَخْطِف، وأحسب أن هذا غلط ممن رواه.
قال أبو الفتح: قد قلنا في كتابنا الموسوم "بالمنصف" وهو شرح تصريف عثمان في نحو هذا من قوله:
وما كل مبتاع ولو سَلْفَ صَفْقُه ... يراجع ما قد فاته بِرِداد
فإذا تأملته أغنى عن إعادته إن شاء الله، وجملته: أن يكون استُغني بِخَطِف عن خَطَف في الماضي، وجاء المضارع عليه كما أن قوله: "سَلْف" يكون مُسَكَّنًا من "سَلِف" وإن لم يستعمل؛ استغناء بسلَف عنه، وقد شرحناه هناك فتركناه هنا). [المحتسب: 1/62]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (10- {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آية/ 20]:-
كان حمزة يسكت على الياء من «شيء» سكتةً خفيفةً، ثم يتلفظ بالهمزة، وكذلك يفعل في كل همزة قبلها ساكن، سواء كانا من كلمةٍ واحدةٍ أو كلمتين، كان يسكت على الساكن قليلاً ثم يهمز نحو «الأرض» «الآخرة» {قَدْ أَفْلَحَ} {هَلْ أتى} {سُورَةٌ أَنْزَلْناهَا}.
وإنما أراد بهذه السكتة تحقيق الهمزة وتبيينها؛ لأنه إذا وقف عليها وقيفة صارت الهمزة بحيث لا يكون فيها إلا التحقيق؛ لأنها تصير كالمبتدإ بها، والهمزة إذا ابتدئ بها لا يجوز فيها إلا التحقيق؛ لأن تخفيف الهمزة تقريب لها من الساكن، وإذا لم يجز الابتداء بالساكن لم يجز الابتداء بما يقرب من الساكن.
وروى –ش- عن نافع أنه كان يلقي حركة الهمزة على الساكن الذي
[الموضح: 261]
قبلها، ويسقط الهمزة نحو: ألرض، ألاخرة.
وكذلك إذا كان الساكن آخر كلمةٍ، والهمزة أول كلمةٍ أخرى نحو {قَدَ فْلَح} و{مَن لهُ} إلا أن يكون الساكن واوًا قبلها ضمةٌ أو ياءً قبلها كسرة نحو: {قَالوُا أَنْصِتُوا} و{في أَنْفُسِكُمْ}.
القياس في تخفيف الهمزة المتحركة إذا كان قبلها ساكن غير الألف أن تحول حركتها على الساكن قبلها فتسقط الهمزة نحو: {يُخْرِجُ الخَبَ}.
ولا يختلف الحكم بأن يكون ذلك من كلمةٍ واحدةٍ أو كلمتين نحو {قَدَ افْلَحَ}.
وإنما لم يجز –ش- هذا الحكم عليها إذا كان الساكن الذي قبلها واوًا قبلها ضمة، أو ياء قبلها كسرة؛ لأنه لو نقل حركة الهمزة إليهما لاختل المد الذي فيهما، فأراد أن يسلم المد ولا يلحقه اختلال.
ومما يدل على قصده لذلك أنه نقل حركة الهمزة إلى الواو في قوله تعالى {خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} لما لم يكن مد، وكذلك قوله {نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ}.
وإذا فعل هذا النقل الذي ذكرنا، ثم ابتدأ بالكلمة التي فيها لام التعريف، ففيها مذهبان:-
أحدهما: أن يحذف ألف الوصل فيقول لحمر، لرض، لاخرة؛ لأن ألف الوصل إنما جيء بها ليتوصل بها إلى النطق بالساكن الذي هو لام المعرفة،
[الموضح: 262]
فإذا تحركت فأية حاجة إلى ألف الوصل؟.
والثاني: أن لا يحذف ألف الوصل، فيقال: ألحمر، ألرض، ألاخرة؛ لأن حركة لام المعرفة منقولة إليها عن الهمزة المحذوفة، والهمزة في حكم الثبات، فكذلك اللام في حكم السكون، فحركتها إذن غير لازمة، وما لا يلزم لا يعتد به). [الموضح: 263]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107182#post107182)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 10:59 AM
سورة البقرة
[من الآية (21) إلى الآية (22) ]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)}
قوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (19- وقوله تعالى: {وأنزل من السماء ماء} و{بناء} ونحوهما كان حمزة وحده يقف {بنا} {ما} لأنها في المصحف مكتوبة بألف واحدة.
والباقون يقفون {بنآءا} من السماء ماءا} {فلما ترءا} {أنشأناهن إنشاءا} قال الشاعر:
لا تدخلن حلقك شيئا ترى = حتى تجئ خلفه الماءا
جئت من البدو أبا خالد = كيف تركت الإبل والشاءا
قال وأنشدنا ابن دريد رحمه الله لنفسه:
أبقيت لي سقما يمازج مهجتي = من ذا يلذ مع السقام بقاءا
فأما الكسائي فإنه كان يقف على قوله: {فلما ترآءى) بالياء بعد الهمزة مثل «تداعى» «وتقاضى» فمن وقف بألفين أعني على قوله: {بناءا} {وماءا} فلأنه ثلاث ألفات. والأصل في ماء: موه فقلبوا من الواو ألفًا ومن الهاء ألفا أخرى والثالثة عوض من التنوين في الوقف، وأما «بناء» فألفه الأولى مجهولة، والثانية: سنخية والثالثة: عوض من التنوين، وزنه (فعال) و«ماء» وزنه (فَعَلٌ) ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/74]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107183#post107183)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:00 AM
سورة البقرة
[من الآية (23) إلى الآية (25) ]
{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24) وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)}
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف ومجاهد وطلحة بن مصرِّف وعيسى الهمداني: [وُقُودُهَا النَّاسُ].
قال أبو الفتح: هذا عندنا على حذف المضاف؛ أي: ذو وُقودِها، أو أصحاب وقودها الناس؛ وذلك أن الوُقود بالضم هو المصدر، والمصدر ليس بالناس؛ لكن قد جاء عنهم الوَقود بالفتح في المصدر؛ لقولهم: وَقَدَت النارُ وَقودًا، ومثله: أُولِعْتُ به وَلُوعًا، وهو حسن القبول منك، كله شاذ، والباب هو الضم.
وكان أبو بكر يقول في قولهم: توضأت وَضوءًا: إن هذا المفتوح ليس مصدرًا؛ وإنما هو صفة مصدر محذوف، قال: وتقديره: توضأت وُضوءًا وَضُوءًا؛ لقولك: توضأت وُضوءًا حسنًا؛ لأن الوَضوء عنده صفة من الوضاءة.
وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد: رجل ساكوت بَيِّن الساكوتة، فقال: قياس مذهب أبي بكر في الوَضوء أن يكون هذا على أنه أراد رجل ساكوت بَيِّن السكتة الساكوتة.
وعليه قولهم فيما حكاه الأصمعي: رجل بَيِّنُ الضارورة؛ أي: بين الضَّرة، أو المضرة الضارورة.
وأما قولهم: لص بين اللَّصوصية، وحُرٌّ بين الحروية، وخصصته بالشيء خَصوصِيَّة، فإن شئت قلت: هو على مذهب أبي بكر لص بين اللَّصة اللَّصوصية، والْخَصَّة الْخَصوصية، والْحُرِّية الْحَرورية.
وإن شئت قلت غير هذا؛ وذلك أن ما لا يجيء من الأمثلة بنفسه قد يجيء إذا اتصلت ياء الإضافة به، وذلك كقول الأعشى:
وما أَيْبُلِيٌّ على هيكل ... بناه وصلَّب فيه وصارا
[المحتسب: 1/63]
فأيبلي كما ترى فَيْعُلِيّ، ولولا ياء الإضافة لم يجز ذلك، ألا ترى أنه لم يأتِ عنهم فَيْعُل؟ وكذلك قولهم في الإضافة إلى تحبة: تَحَوِيّ، ومثاله: تَفَلِيّ. وليس في كلامهم اسم على تفل، فكذلك جاز خَصوصية وأختاها، هذا مع ما حُكي عنهم من القَبول والوَضوء والوَلُوع والوَقود، فإذا جاء هذا المثال في المصدر من غير أن تصحبه ياء الإضافة فهو بأن يأتي معهما أجدر). [المحتسب: 1/64]
قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107184#post107184)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:02 AM
سورة البقرة
[من الآية (26) إلى الآية (29) ]
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (20- وقوله تعالى {إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا}.
قرأ ابن كثير في إحدى الروايات {لا يستحي} بياء واحدة كأنه كره الجمع بينهما فألقى كسرة الأولى على الحاء وحذف الياء الأولى لسكونها وسكون الثانية، والعرب تقول: استحييت واستحيت.
وقرأ الباقون وابن كثير معهم في سائر الروايات {يستحيي} بياءين، وشاهده: {يستحيون نساءكم} وإن كان الأولى في الحياء، والثانية في الحياة والاستبقاء). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/75]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة رؤبة: [مَثَلا مَا بَعُوضَةٌ] بالرفع.
قال ابن مجاهد: حكاه أبو حاتم عن أبي عبيدة عن رؤبة.
وقال أبو الفتح: وجه ذلك: أن "ما" هاهنا اسم بمنزلة الذي؛ أي: لا يستحيي أن يضرب الذي هو بعوضة مثلًا، فحذف العائد على الموصول وهو مبتدأ.
ومثله قراءة بعضهم: [تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنُ] أي: على الذي هو أحسن.
وحكى صاحب الكتاب عن الخليل: ما أنا بالذي قائل لك شيئًا؛ أي: الذي هو قائل لك شيئًا.
وعليه قوله:
لم أرَ مثل الفتيان في غِيَر الـ ... أيام ينسَوْن ما عواقبُها
أي: ينسون الذي هو عواقبها، وحَذْفُ الضمير من هنا ضعيف؛ لأنه ليس فضلة كالهاء في نحو قولك: ضربت الذي كلمت؛ أي: كلمته.
وإن شئت كان تقديره: ينسون أيُّ شيء عواقبها؟ فتكون ما استفهامًا، وعواقبها خبرًا عنها، والجملة في موضع نصب بينسون، وجاز فيها التعليق؛ لأنها ضد يذكرون ويعلمون، فيجري مجرى قولك: لا تنسَ أيُّنا أحق بكذا، وأَتذكُرُ أَزيدٌ أفضل أم عمرو؟). [المحتسب: 1/64]
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)}
قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (22- وقوله تعالى: {فأحياكم ثم يميتكم}.
قرأ الكسائي وحده: {فأحياكم} بالإمالة و{لا يموت فيها ولا يحييى} و{أمات وأحيا}.
وقرأ الباقون بالفتح، إلا حمزة فإنه كان يُميل إذا تقدمتها واو، ولا يميل إذا تقدمتها فاء.
فمن فتح فعلى أصل الكلمة.
ومن أمال فلأجل الياء.
فأما حمزة فإنه فرق بين الفاء والواو؛ لأن الفاء متصلة بالكلمة خطًا، والواو منفصلة، وكره الإمالة مع الفاء استثقالاً للزائد، كما قرأ: {شا أنشره} بالإمالة، وقرأ {إنشاء} بالتفخيم ولم يحفل بالواو إذ لم تكن منفصلة وليست هذه العلة بالمرضية؛ لأن الإمالة والتفخيم في اللفظ لا في الخط، والنطق بالواو والفاء سيان، فمن أمال مع الفاء وجب أن يميل مع الواو، ومن فخم مع هذا وجب أن يفخم مع هذه). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/76]
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وهو بكلّ شيءٍ عليمٌ (29).
قرأ نافع وأبو عمرو والكسائي بجزم الهاء "وهو)، وحركها الباقون في كل القرآن.
قال أبو منصور: هما لغتان معروفتان، إذا اتصلت الهاء من (هو) و(هي) بواوٍ أو فاءٍ أو لام فإن كثيرا من العرب من يسكن الهاء لكثرة الحركات، ومنهم من يتركها على أصل حركتها، وكل جائز حسن.
وقاس الكسائي على الباب قوله: (ثمّ هو يوم القيامة)، وحركها الباقون). [معاني القراءات وعللها: 1/144]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (23- وقوله تعالى: {وهو بكل شيء عليم}.
قرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم وحمزة بضم الهاء، وكذلك {فهو} {ولهو}، {ثم هو}، وكذلك {فهي كالحجارة} {وهي} {لهي}، كل ذلك بالتثقيل.
وقرأ الكسائي بتخفيف ذلك كله.
وقرأ أبو عمرو كذلك إلا مع ثم، وكذلك نافع في رواية قالون، والمسيبي مثل أبي عمرو، وفي رواية ورش مثل ابن كثير، فمن ضم الهاء وثقلها فعلى أصل الكلمة؛ لأن الأصل هو قبل أن يتصل بها حرف.
ومن خففها قال: لما اتصلت الحروف بالهاء أسكنوا الهاء تخفيفًا، كما قال الله تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم} بكسر اللام على الأصل و{ثم ليقضوا تفثهم} بإسكان اللام تخفيفًا {وليوفوا نذورهم}.
فأما نافع وأبو عمرو فإنهما أسكنا مع الفاء والواو لاتصالهما بالهاء، ولم يسكنا مع «ثم»؛ لأنها كلمة منفصلة قائمة بنفسها، وهذا مما يؤيد قراءة حمزة؛ لأن «ثم» هو بمنزلة الواو إذا كانا منفصلين من الكلمة خطًا لا لفظًا، وفي «هو» لغة أخرى، وليست تدخل في القراءة، غير أن الشاعر قال:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/77]
وإن لساني شهدة إن حبستها = وهو على من صبه الله علقم
ومثل هذا «لو» وأنت تريد «لو» وينشد:
* إن ليتا وإن لوا عناء *
وقال آخر:
فهي أحوى من الربعي حاذله = والعين بالإثمد الحاري مكحول). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/78]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وهو بكل شيء عليم}
وقرأ أبو عمرو ونافع في رواية إسماعيل وقالون والكسائيّ وهو بكل لهو فهي ساكنة الياء
وحجتهم أن الفاء مع هي وهو قد جعلت الكلمة بمنزلة فخذ وفخذ فاستثقلوا الكسرة والضمة فحذفوها للتّخفيف
وقرأ الباقون فهو فهي بالتثقيل على أصل الكلمة وذلك أن الهاء كانت متحركة قبل دخول هذه الحروف عليها فلمّا دخلت هذه الحروف لم تتغيّر عمّا كانت عليه من قبل). [حجة القراءات: 93]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (17- قوله: «وهي: وهو، وفهي، ولهي، وثم هو» قرأ ذلك أبو عمرو والكسائي وقالون بإسكان الهاء، حيث وقع إذا كان قبل الهاء واو أو فاء أو لام أو ثم، وقرأ الباقون بضم الهاء من «هو» وكسرها من «هي» غير أن أبا عمرو ضم الهاء في «ثم هو» كالباقين.
وعلة من أسكن الهاء أنها، لما اتصلت بما قبلها من واو أو فاء أو لام، وكانت لا تنفصل منها، صارت كلمة واحدة، فخفف الكلمة، فأسكن الوسط وشبهها بتخفيف العرب لعضد وعجز، فهو كلفظ «عضد» فخفف كما يخفف «عضد» وهي لغة مشهورة مستعملة، يقولن: عضد وعجزن فيسكنون استخفافًا، وأيضًا فإن الهاء لما توسطت مضمومة بين واوين، وبين واو وياء، ثقل ذلك، وصار كأنه ثلاث ضمات في «وهو» وكسرتان وضمة في هي، فأسكن الهاء لذلك استخفافًا.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/234]
18- وعلة من حرك الهاء أنه أبقاها على أصلها قبل دخول الحرف عليها لأنه عارض لا يلزمها في كل موضع، وأيضًا فإن الهاء في تقدير الابتداء بها، لأن الحرف الذي قبلها زاد، والابتداء فيها لا يجوز إلا مع حركتها، فحملها على حكم الابتداء بها وحكم لها، مع هذه الحروف على حالها، عند عدمهن، فأما اختصاص أبي عمرو بالضم مع «ثم هو» وبالإسكان مع الواو والفاء واللام، فإنه لما رأى الواو والفاء واللام لا يوقف عليهن، ولا ينفصلن من الهاء، أجرى الهاء مجرى الضاد من «عضد» إذ لا ينفصل من العين فأسكن، ولما رأى «ثم» تنفصل ويوقف عليها، ويبتدأ بها، أجرى الهاء مجراها في الابتداء فضمها، فأما من أسكن مع «ثم» فإنه لما كانت كلها حروف عطف، حملها محملًا واحدًا، والاختيار في ذلك حركة الهاء في جميعها لأنه الأصل، ولان ما قبل الهاء زائد، ولأن الهاء في نية الابتداء بها، ولأن عليه جماعة القراء، والإسكان لغة مشهورة حسنة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/235] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (11- {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [آية/ 29]:-
وكذلك ما في القرآن من: {وَهُوَ} و{فَهُو} و{لَهُوَ} و{لَهِيَ} و{وَهِيَ} و{ثُمّ هُوَ}.
قرأ ابن كثير وعاصم وابن عامر وحمزة ويعقوب و–يل- و-ش- عن نافع بتحريك الهاء في ذلك كله.
ووجهه واضح، وهو أنه هو الأصل؛ لأن هذه الهاءات قبل دخول هذه الحروف عليها متحركة، فبقيت بعد دخولها عليها على حركتها لم تتغير كما لا تتغير باتصال غيرها من الكلم بها.
وقرأ الكسائي و-ن- عن نافع بإسكان هذه الهاءات كلها مع هذه الحروف المذكورة، وكذلك أبو عمرو إلا {ثُمّ هُوَ} في القصص.
[الموضح: 263]
ووجه الإسكان أن هذه الضمائر لما كانت على حرفٍ واحدٍ، لزمها ما دخل عليها من الواو والفاء وما كان على حرف واحد، فصار معها كحروف أنفسها، وجرى مجرى ما لم ينفصل عنها، فخففت الهاءات لذلك مع هذه الحروف فقيل: «وَهْو» و«فهو» كما قيل: سبع، و«فهي» و«لهي» كفخذ وكتف.
وأجرى الكسائي و-ن- عن نافع «ثم» مجرى الواو والفاء وما كان على حرف واحد، فخففا الهاء مع «ثم» كما يخففانها مع هذه الحروف، وجعلا المنفصل بمنزلة المتصل؛ لأن الواو والفاء واللام وإن جرت مجرى ما اتصل بالكلمة فإنها ليست من الكلمة فهي مثل ثم في ذلك.
وأما أبو عمرو فإنه فرق بين ثم وبين ما كان على حرفٍ واحدٍ كالواو والفاء؛ لأن ثم تنفرد عن الكلمة ويوقف عليها، وليست الواو والفاء كذلك، والعرب تنزل ما كان على حرفٍ واحدٍ إذا اتصل بكلمةٍ منزلة ما هو منها، ألا ترى أنهم قالوا: لعمري، فأدخلوا اللام، ثم نزلوا اللام منزلة حرف الكلمة، فقلبوا فقالوا: رعملي، كما قالوا: قسي حين قلبوه من قووس، وهذا مذهب أبي عمرو، وهو أقوى). [الموضح: 264]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107216#post107216)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:04 AM
تفسير سورة البقرة
[من الآية (30) إلى الآية (32) ]
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله عزّ وجلّ: (إنّي أعلم ما لا تعلمون (30)
و: (إنّي أعلم غيب السّماوات والأرض).
[معاني القراءات وعللها: 1/144]
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياءين، وأرسلهما الباقون.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: إذا كان قبل ياء الإضافة متحرك يجوز أن تسكن الياء وتحرك، وإن كان ما قبلها ساكناً حركته لا غير.
قال: فإذا استقبلها ألف ولام كقوله: (اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم) حركت الياء لئلا تسقط.
وقال الفراء في نصب الياء من (نعمتي) كل ياء كانت من المتكلم فمعها لغتان الإرسال والفتح، فإذا لقيتها ألف ولام اختارت العرب التحريك، وكرهت السكون؛ لأن اللام ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: (نعمت التي) فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين.
قال: وقد يجوز إسكانها
[معاني القراءات وعللها: 1/145]
عند الألف واللام، قال الله جلّ وعزّ: (يا عبادي الّذين أسرفوا) فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما في القرآن مما فيه ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم يكن فيه الياء لم تنصب.
وأما قوله: (فبشّر عباد (17) الّذين يستمعون)، فإن هذا بغير ياء، فلا تنصب ياؤها.
على هذا يقاس كل ما في القرآن). [معاني القراءات وعللها: 1/146] (م)
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (24- وقوله تعالى: {إني أعلم ما لا تعلمون}
قرأ نافع بفتح ياء الإضافة المكسورة ما قبلها كقوله {إني أعلم} و{إن أجري إلا} و{إني أريد}.
وقرأ أبو عمرو كذلك إلا عند الألف المضمومة.
فأما ابن كثير فإنه أسكن الياء مع المكسور والمضموم وفتحها مع
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/78]
المفتوح إلا في موضعين {آبائي إبراهيم} وفي نوح {دعائي إلا} فإنه فتحهما.
وأسكن الباقون كل ذلك، أعني: عاصمًا وابن عامر وحمزة والكسائي إلا في أحرف ستمر بك إن شاء الله.
فمن فتح الياء فعلى أصل الكلمة؛ وذلك أن الياء اسم المتكلم، والاسم لا يخلو من أن يكون مكنيًا أو ظاهرًا، فإذا كان ظاهرًا أعرب، وإذا كان مكنيًا بني على حركة، كالكاف في ضربك، والتاء في قمت، وكذلك الياء وجب أن تكون مبنية على حركة، والدليل على ذلك في قوله تعالى: {وما أدراك ما هيه} و{حسابيه} لأن الهاء إنما أتي بها للسكت ليتبين بها حركة ما قبلها.
وفي ياء الإضافة أربع لغات؛ فتح الياء على أصل الكلمة وإسكانها تخفيفًا. وإثبات الهاء بعد الياء، والحذف اختصارًا تقول العرب: هذا غلامي، وغلامي، وغلاميه، وغلام.
قال الشاعر:
فطرت بمنصلي في يعملات = دوامي الأيد يخبطن السريحا
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/79]
أراد: الأيدي فحذف الياء اختصارًا، وليست بياء الإضافة وقال الشاعر – في حذف ياء الإضافة -:
ومن كاشح ظاهر غمزه = إذا ما انتسبت له أنكرن
وقال الله تعالى: {وإياي فارهبون} و{فاتقون}، {وإذا مرضت فهو يشفين}، {ويطعمني ويسقين} بحذف الياء في ذلك كله.
فأما ابن كثير فإنه فتح الياء إذا استقبلها ألف مفتوحة، ولم يفتحها مع المضموم والمكسور استثقالاً لهما.
وأما أبو عمرو فإنه كان يفتح عند المكسور والمفتوح، ويسكن الياء مع المضموم نحو قوله: {فإني أعذبه عذابا} فقال بعض من احتج لأبي عمرو: إنما سكن؛ لأنه كره أن يخرج من كسر إلى ضم، وذلك غلط عنده؛ لأن ما قبل الياء مكسور، وليست الياء الساكنة بحاجز قوي، ولكنها إذا تحركت
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/80]
قويت فكانت حاجزًا فهو إذا أسكن فقد خرج من كسر إلى ضم، وإذا فتح لم يخرج. ونظيره قول البصريين: أُدخل، والأصل إدخل بكسر الألف، فلما كرهوا الخروج من كسر إلى ضم ضموا الألف لتتبع الضمة الضمة إذ كان الساكن بينهما ليس حاجزًا قويًا.
والحجة لأبي عمرو أنه إنما يسكن مع المضموم؛ لأن الضمة أثقل الحركات، والسكون أخف من الحركة، فأسكن الياء مع المضموم لتخف الكلمة. وما أعلم أحدًا تكلم فيه.
فأما فتح الياء في قراءة حفص في نحو: {ولي نعجة} وقراءة ابن كثير: {ولي دين}، فلأن الاسم الياء واتصلت بحرف واحد ففتحت تكثيرًا للكلمة، وكذلك تفعل العرب في نحو ولَّي ألفان لئلا تسقط الياء الالتقاء الساكنين لقلة حروف الكلمة. فأما قراءة حفص: {معي عدوا} ونحوه فإن حروف الصفات ما كان على حرفين نحو: «من» و«عن»، و«مع»، إذا أضفتهن إلى ما بعدهن أسكنت النون [في] نحو: «من«، «عن» وفتحت العين في «مع»، فقلت: من زيد، وعن زيد، ومع زيد؛ لأن العين من حروف الحلق، وحروف الحلق تفتح في الموضع الذي يسكن فيه غيرها، فلما انفتحت العين فتحوا الياء لمجاورتها العين). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/81]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في تحريك الياء التي تكون اسما للمتكلم إذا انكسر ما قبلها، مثل قوله: إنّي أعلم [البقرة/ 30] وعهدي الظّالمين [البقرة/ 124]، وربّي اللّه [غافر/ 28].
فكان أبو عمرو يفتح ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الألف المهموزة المفتوحة والمكسورة إذا كانت متصلة باسم أو بفعل ما لم يطل الحرف.
فالخفيف إنّي أرى [الأنفال/ 48] وأجري إلّا على اللّه [يونس/ 72، وهود/ 29].
والثقيل مثل: ولا تفتنّي ألا [التوبة/ 49] ومن أنصاري إلى اللّه، وذروني أقتل موسى [غافر/ 26]، فأنظرني إلى [الحجر/ 36]، فاذكروني أذكركم [البقرة/ 152] سبيلي أدعوا [يوسف/ 108] وبين إخوتي إنّ ربّي [يوسف/ 100] وأرني أنظر [الأعراف/ 143] ويصدّقني إنّي [القصص/ 34] وما كان مثله.
قال أبو بكر، أحمد: وقد بينت آخر كل سورة ما يحرك منها ليقرب مأخذه.
قال: ولا يحرّك الياء التي ذكرت لك عند الألف
[الحجة للقراء السبعة: 1/411]
المضمومة كقوله: عذابي أصيب [الأعراف/ 156] فإنّي أعذّبه [المائدة/ 115]، إنّي أريد [المائدة/ 29] وما كان مثله.
فإذا استقبلت ياء الإضافة ألف وصل حركها، طالت الكلمة التي الياء متصلة بها أو لم تطل مثل: يا ليتني اتّخذت [الفرقان/ 27]، وما كان مثله.
وكان ابن كثير لا يستمر على قياس واحد كما فعل أبو عمرو.
قال أبو بكر، أحمد: فجعلت ما حرّك من الياءات مذكورا في آخر كل سورة.
وكان نافع يحرك ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الألف المكسورة والمفتوحة والمضمومة وألف الوصل إلا حروفا قد ذكرتها لك.
فمما لم يحرّك ياءه عند ألف الوصل ثلاثة أحرف في الأعراف: إنّي اصطفيتك [الآية/ 144] وفي طه: أخي اشدد [الآية/ 30، 31] وفي الفرقان: يا ليتني اتّخذت [الآية/ 27].
وروى أبو خليد عن نافع يا ليتني اتخذت محركة.
ومما ترك تحريك يائه عند الألف المقطوعة المتصلة بالفعل
[الحجة للقراء السبعة: 1/412]
المجزوم قوله فاذكروني أذكركم وأنظرني إلى، في الأعراف، والحجر [36]، وص [79] وفي مريم: فاتّبعني أهدك [43]، وفي النمل [19] والأحقاف [15]: أوزعني أن، وفي المؤمن [26]: ذروني أقتل، وادعوني أستجب [غافر/ 60]، ولا تفتنّي ألا [التوبة/ 49] وترحمني أكن [هود/ 47]، وأرني أنظر [الأعراف/ 143] يصدّقني إنّي [القصص/ 34]، آتوني أفرغ [الكهف/ 96].
وقد اختلف في بعض هذه الحروف عنه.
ومما لم يحرك ياءه عند الألف المقطوعة وهو مع فعل غير مجزوم فيما ذكر أحمد بن جماز وإسماعيل بن جعفر قوله: بعهدي أوف [البقرة/ 40] وأنّي أوفي الكيل [يوسف/ 59]، وفي ذرّيّتي إنّي [الأحقاف/ 15]،
[الحجة للقراء السبعة: 1/413]
وتدعونني إلى النّار [غافر/ 41] وأنّما تدعونني إليه [غافر/ 43].
قال أبو علي: حجة من فتح هذه الياء إذا تحرك ما قبلها أن أصل هذه الياء الحركة، لأنّها بإزاء الكاف للمخاطب فكما فتحت الكاف كذلك تفتح الياء.
فإن قلت: إنّ الحركة في حروف اللين مكروهة. قيل:
الفتحة من بينها لا تكره فيها، وإن كرهت الحركتان الأخريان، ألا ترى أن القاضي ونحوه، يحرّك بالفتح كما تحرك سائر الحروف التي لا لين فيها، أو لا ترى أنّ الياء في غواشٍ [الأعراف/ 41] ونحوها تثبت في النصب ولا تحذف كما تحذف في الوجهين الآخرين، فتجري في النصب مجرى مساجد ونحوها من الصحيح، فكذلك الياء. وإن تحرك ما قبلها يلزم أن تحرك بالفتح كما حركت الكاف بها، لأنّها قد جرت مجراها. ومجرى الحروف الصحيحة إذا تحركت بالفتح.
ومما يدل على استحقاقها التحرك بالفتح أنّها إذا سكن ما قبلها اتفقوا على تحريكها بالفتح، نحو: هذا بشراي، وغلاماي، وهذا قاضيّ، ورأيت غلاميّ، فاجتماعهم على تحريكها بالفتح في هذا النحو يدل على أن ذلك أصلها إذا تحرك ما قبلها.
ويدل على لزوم تحركها بالفتح تحريكهم النون في
[الحجة للقراء السبعة: 1/414]
فعلن، ويفعلن، وهو حرف ضمير كالياء، فكما اتفقوا على تحريك النون- وهي اسم كذلك- يلزم أن تحرّك الياء.
فإن قلت: ما تنكر أن تكون النون في فعلن إنّما حركت لالتقاء الساكنين في فعلن ويفعلن؟ ألا ترى أن ما قبلها لا يكون إلا ساكنا؟ فلما كان إسكانها يؤدي إلى التقاء الساكنين حركت لذلك، وحركة التقاء الساكنين غير معتد بها.
قيل: الذي يدلّ على أن تحريكها من حيث كانت اسما أنّها نظير الكاف، وقد حركوا تاء المخاطب والمتكلم أيضا.
فأمّا الألف في قاما، ويقومان، والواو في فعلوا، ويفعلون، فإنّما أسكنتا، لأنّ الألف إذا حركت انقلبت، والواو إذا انضم ما قبلها كره أكثر الحركات فيها، ومع ذلك فإنها جعلت في السكون مثل الألف، كما جعلت الكسرة في مسلمات بمنزلة الياء في مسلمين، ومع ذلك فما فيهما من المد قد صار عوضا فيهما من الحركة.
وحجة من أسكن أن الفتحة مع الياء قد كرهت في الكلام، كما كرهت الحركتان الأخريان فيها. ألا ترى أنّهم قد أسكنوها في الكلام في حال السعة إذا لزم تحريكها بالفتحة، كما أسكنوها إذا لزم تحريكها بالحركتين الأخريين؟ وذلك قولهم: قالي قلا، وبادي بدا، ومعد يكرب، وحيري دهر، فالياء في هذه المواضع في موضع الفتحة التي في آخر
[الحجة للقراء السبعة: 1/415]
أول الاسمين، نحو حضر موت، وبعلبكّ، وقد أسكنت كما أسكنت في الجر والرفع.
ومما يؤكد الإسكان فيها أنّها مشابهة للألف، والألف تسكن، في الأحوال الثلاث، فكما أسكنت الألف فيها كذلك تسكن الياء. والدليل على شبه الياء الألف قربها منها في المخرج، وإبدالهم إياها منها في نحو: طائيّ وحاريّ في النسب إلى: طيئ والحيرة، وقولهم: حاحيت وعاعيت.
و: لنضربن بسيفنا قفيكا فكما تسكن الألف في الأحوال الثلاث كذلك تسكن الياء فيها.
والدليل على صحة هذه الطريقة أن العرب قد فعلت ذلك بها في الكلام وحال السعة فيما أريناكه.
وأسكنوها أيضا في الشعر في موضع النصب لهذه
[الحجة للقراء السبعة: 1/416]
المشابهة، وكثر ذلك في الشعر حتى ذهب بعضهم إلى استجازته في الكلام.
فأمّا حجة أبي عمرو في فتحه الياء مما رآه خفيفا مع الهمزة، فهي أن الهمزة قد فتح لها ما لم يكن يفتح لو لم يجاور الهمزة، نحو: يقرأ، ويبرأ ولولا الهمزة لم يفتح شيء من ذلك.
فإذا فتح لها ما لا يفتح إذا لم يجاور الهمزة فأن يفتح لها ما قد يفتح مع غيرها أحرى.
والمفتوحة والمكسورة سيان في إتباع الياء لها في التحريك بالفتح، ألا ترى أنّهم قد غيروا للهمزة المكسورة الحرف الذي قبلها، فقالوا: الضئين، وصأى صئيّا، ورجل جئز، وشهد، ولم يفعلوا ذلك في رءوف، فكذلك لم تفتح الياء قبل الهمزة المضمومة في نحو عذابي أصيب، كما فتحت قبل المفتوحة والمكسورة في نحو: سبيلي أدعوا [يوسف/ 108] وإخوتي إنّ ربّي [يوسف/ 100].
فإن قلت: إن ما ذكرته من التغيير للهمزة المفتوحة
[الحجة للقراء السبعة: 1/417]
والمكسورة إنّما جاء في المتصل، نحو: يقرأ، ويبرأ، والضئين والصئي، وجئز، وما فعله أبو عمرو من فتح الياء مع المفتوحة والمكسورة منفصل.
قيل: يشبّه المنفصل بالمتصل هنا، كما شبهه به في: يا يا صالح يتنا [الأعراف/ 7] لما فعلته العرب من تشبيه المنفصل بالمتصل في مواضع كثيرة، قد ذكرنا منها أشياء في هذا الكتاب.
ومن قال إنّه إنّما فتح الياء مع الهمزة لتتبين الياء معها لأنّها خفية، كما بينوا النون مع حروف الحلق وأخفوها مع غيرها، فإنّا لا نرى أنّ أبا عمرو اعتبر هذا الذي سلكه هذا القائل، ولو كان كذلك لحرّك الياء مع الهمزة إذا كانت مضمومة، لأنّ النون تبيّن مع الهمزة، مضمومة كانت، أو مكسورة، أو مفتوحة، ومع ذلك فإنّ النون تبيّن مع سائر حروف الحلق، ولسنا نعلم أبا عمرو يفتح الياء مع سائر حروف الحلق). [الحجة للقراء السبعة: 1/418]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله الرّحمن الرّحيم
استعنت بالله
فإن قلت: فإنّ الهمزة قد تفتح لها ما قبلها وإن كانت مضمومة نحو: يقرأ في موضع الرفع، فهلّا فتح الياء في عذابي أصيب [الأعراف/ 156] كما فتح قبل المفتوحة والمكسورة في نحو: سبيلي أدعوا [يوسف/ 108] وإخوتي إنّ ربّي [يوسف/ 100] فأقول: إنّ هذه الضمة إن كانت للإعراب، لم تكن في حكم الضمة عندهم، ألا ترى أنّهم قد قالوا نمرّ، وكتف ونحو ذلك في الرفع ورفضوا الضمة بعد الكسرة في كلامهم، فلم يجيء فيه فعل، فإذا كان كذلك، لم يلزمه أن يفتح الياء قبل الهمزة المضمومة لما ذكرت، لأنّها عندهم لمّا لم تثبت، لم تكن في حكم الضم، وأما ما رواه من ذلك غير مستخفّ، فأسكن الياء فيه، فهو حسن، وذلك أنّ هذه الياء، إذا لم تحرك، إذا كانت مع ما يستخفّ فلأن يكره حركتها مع ما لا يستخف أجدر وقد كرهوا الحركة
[الحجة للقراء السبعة: 2/5]
فيما تتوالى فيه الحركات وإن كانت للإعراب، فزعم أبو الحسن: أنّ بعضهم قال: رسلهم [إبراهيم/ 10].
ونحو هذا ما أنشده سيبويه من قوله:
إذا اعوججن قلت صاحب قوّم ونحوه قول جرير:
سيروا بني العمّ فالأهواز منزلكم... ونهر تيرى ولا تعرفكم العرب
فأمّا حدّ المستخفّ، والمستثقل، فإن جعل ما زاد على الثلاثة غير مستخفّ، كان مذهبا وإن جعل المستثقل ما توالى فيه أربع حركات كان مذهبا، لأنّك قد علمت استثقالهم له برفضهم إيّاه في الشّعر، إلّا في موضع الزّحاف، وإذا لم يستخفّ الأربعة فالخمسة أجدر بأن لا تستخفّ). [الحجة للقراء السبعة: 2/6]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قال إنّي أعلم ما لا تعلمون}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو إنّي أعلم بفتح الياء وقرأ الباقون بإسكان الياء فأما من فتح الياء فعلى أصل الكلمة وذلك أن الياء اسم المتكلّم والاسم لا يخلو من أن يكون مضمرا أو مظهرا فإذا كان ظاهرا أعرب وإذا كان مضمرا بني على حركة كالكاف في ضربتك والتّاء في قمت وكذلك الياء وجب أن تكون مبنيّة على حركة لأنّها علامة إضمار وهي خلف من المعربة والدّليل على ذلك قوله وما أدراك ماهيه حسابيه لأن الهاء إنّما أتي بها للسكت لتبين بها حركة ما قبلها وأما من سكن الياء فإنّه عدل بها عن أصلها استثقالا للحركة عليها لأن الياء حرف ثقيل فإذا حرك ازداد ثقلا إلى ثقله
[حجة القراءات: 93]
وفي ياء الإضافة أربع لغات فتح الياء على أصل الكلمة وإسكانها تخفيفًا وإثبات الهاء بعد الياء والحذف تقول هذا غلامي قد جاء وغلامي وغلاميه وغلام). [حجة القراءات: 94]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (12- {إِنِّي أَعْلَمُ} [آية/ 30]:-
بفتح الياء، قرأها ابن كثير ونافع وأبو عمر.
أما ابن كثير فهكذا يفتح كل ياء إضافةٍ مكسورٍ ما قبلها عند الهمزة المفتوحة.
وأما نافع فإنه يفتحها عند كل همزةٍ، مفتوحةً كانت أم مكسورةً أم مضمومةً.
وأما أبو عمرو فانه يفتحها عند الهمزة المفتوحة والمكسورة، ولا يفتحها عند المضمومة ولا إذا طالت الكلمة، لكنه يفتحها مع كل ألف وصل.
اعلم أن أصل هذه الياء أن تكون مفتوحة؛ لأنها بإزاء كاف المخاطب، فكما أن الكاف مفتوحة، فكذلك حق هذه الياء الفتح، يدل على ذلك أنك تفتحها ألبتة إذا سكن ما قبلها نحو: غلاماي، وبشراي.
وأما فتح هذه الياء مع الهمزة، فإن الهمزة يفتح ما قبلها لمجاورتها ولا ينظر إلى حركتها أهي فتحة أم غيرها نحو: يقرأ ويبرأ، ولولا هذه الهمزة لجاءت على يفعل أو يفعل، فإذا فتح لمجاورة الهمزة ما لا يفتح إذا لم يجاورها، فلأن يفتح معها ما حقه الفتحة وإن لم يجاورها أولى، وهذا يقوي قراءة نافع.
[الموضح: 265]
وأما ابن كثير فإنه اختار فتح الياء إذا انفتحت الهمزة؛ لأنه إذا حسن انفتاح ما قبل الهمزة لأجل الهمزة المطلقة، فلأن يحسن للهمزة المفتوحة أولى.
وأما وجه قراءة أبي عمرو فهو أن الهمزة المكسورة مثل المفتوحة في أنهم غيروا الحرف الذي قبلها لأجلها نحو: صأى صئيًا ورجل جئز، فكسروا ما قبل الهمزة لحركة الهمزة، وإن كان أصله غير الكسرة، وليست كذلك الهمزة المضمومة؛ لأن الضمة في الهمزة ليست كالفتحة والكسرة في تغيير ما قبلها لأجلها، ألا ترى أنهم قالوا: رؤوف، فلم يغيروا حركة الراء المجاورة للهمزة المضمومة، كما غيروا مع الهمزة المكسورة.
فأما: يقرأ ونحوه، فإن ضمة الهمزة فيه ضمة إعراب، فهي غير لازمة فليس كرؤوف. وأما فتحة الياء مع ألف الوصل فلأنه احتاج إلى تحريك الياء لالتقاء الساكنين فرأى تحريكه بحركة الأصل وهي الفتحة أولى.
وأما تسكينه للياء إذا طالت الكلمة فهو منقاس، وذلك أنه إذا جاز أن تسكن هذه الياء في المستخف وهو ما كان على ثلاثة أحرف، فلأن تسكن في المستثقل وهو ما زاد على الثلاثة أولى.
وقرأ الباقون بإسكان الياء.
ووجهه أن الحركة على الياء تستثقل على الجملة، وإن كانت فتحة؛ لأنها وإن خفت فهي حركة في الجملة، والسكون أخف منها، ألا ترى أنهم أسكنوها حيث لزم تحريكها بالفتحة نحو: معدي كرب وقالي قلا؛ لأن
[الموضح: 266]
الفتحة تلزم في آخر الاسم الأول من الاسمين اللذين جعلا اسمًا واحدًا، كما لزمت في آخر الاسم المؤنث قبل هاء التأنيث، فلما أزيلت هذه الفتحة عن الياء وإن كانت لازمة علمنا أن الحركة وإن كانت فتحة تستثقل على حروف العلة). [الموضح: 267]
قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يزيد البربري: [وَعُلِّمَ آدَمُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا].
[المحتسب: 1/64]
قال أبو الفتح: ينبغي أن يُعلم ما أذكره هنا؛ وذلك أن أصل وضع المفعول أن يكون فضلة وبعد الفاعل؛ كضرب زيد عمرًا، فإذا عناهم ذكر المفعول قدَّموه على الفاعل، فقالوا: ضرب عمرًا زيد، فإن ازدادت عنايتهم به قدموه على الفعل الناصبِه، فقالوا: عمرًا ضرب زيد، فإن تظاهرت العناية به عقدوه على أنه رَبُّ الجملة، وتجاوزوا به حد كونه فضلة، فقالوا: عمرو ضربه زيد، فجاءوا به مجيئًا ينافي كونه فضلة، ثم زادوه على هذه الرتبة فقالوا: عمرو ضرب زيد، فحذفوا ضميره ونَوَوه ولم ينصبوه على ظاهر أمره؛ رغبة به عن صورة الفضلة، وتحاميًا لنصبه الدال على كون غيره صاحب الجملة، ثم إنهم لم يرضوا له بهذه المنزلة حتى صاغوا الفعل له، وبنوه على أنه مخصوص به، وألغَوْا ذكر الفاعل مظهرًا أو مضمرًا، فقالوا: ضُرب عمرو، فاطُّرح ذكر الفاعل ألبتة. نعم، وأسندوا بعض الأفعال إلى المفعول دون الفاعل ألبتة، وهو قولهم: أُولعت بالشيء، ولا يقولون: أولعني له كذا، وقالوا: ثُلِجَ فؤاد الرجل، ولم يقولوا: ثَلَجَهُ كذا، وامتُقع لونه، ولم يقولوا: امتقعه كذا، ولهذا نظائر، فرفضُ الفاعل هنا ألبتة واعتماد المفعول به ألبتة دليل على ما قلناه، فاعرفه.
وأظنني سمعت: أولعني به كذا، فإن كان كذلك فما أقله أيضا!
وهذا كله يدل على شدة عنايتهم بالفضلة؛ وإنما كانت كذلك لأنها تجلو الجملة، وتجعلها تابعة المعنى لها، ألا ترى أنك إذا قلت: رغبت في زيد، أُفيد منه إيثارك له، وعنايتك به، وإذا قلت: رغبت عن زيد، أُفيد منه اطراحك له، وإعراضك عنه، ورغبت في الموضعين بلفظ واحد، والمعنى ما تراه من استحالة معنى رغبت إلى معنى زهدت، وهذا الذي دعاهم إلى تقديم الفضلات في نحو قول الله سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، وإنما موضع اللام التأخير؛ ولذلك قال سيبويه: إن الجفاة ممن لا يعلم كيف هي في المصحف يقرؤها: [وَلَمْ يَكُنْ كُفُوًا له أَحَدٌ].
فإن قلت: فقد قالوا: زيدًا ضربته فنصبوه، وإن كانوا قد أعادوا عليه ضميرًا يشغل الفعل
[المحتسب: 1/65]
بعده عنه حتى أضمروا له فعلًا ينصبه، ومع هذا فالرفع فيه أقوى وأعرب، وهذا ضد ما ذكرته من جعلهم إياه ربَّ الجملة ومبتدأها في قولهم: زيد ضربته.
قيل: هذا وإن كان على ما ذكرتَه فإن فيه غرضًا من موضع آخر؛ وذلك أنه إذا نصب على ما ذكرت فإنه لا يعدم دليل العناية به، وهو تقديمه في اللفظ منصوبًا، وهذه صورة انتصاب الفضلة مقدمة لتدل على قوة العناية به، لا سيما والفعل الناصب له لا يظهر أبدًا مع تفسيره، فصار كأن هذا الفعل الظاهر هو الذي نصبه، وكذلك يقول الكوفيون أيضًا.
فإذا ثبت بهذا كله قوة عنايتهم بالفضلة حتى ألغوا حديث الفاعل معها، وبنَوا الفعل لمفعوله فقالوا: ضُرب زيد -حَسُن.
قوله تعالى: [وَعُلِّمَ آدَمُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا] لما كان الغرض فيه أنه قد عَرَفَها وعَلِمَها، وآنس أيضًا علم المخاطبين بأن الله سبحانه هو الذي علمه إياها بقراءة مَن قرأ: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}، وقوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، هذا مع قوله: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق}، وقال سبحانه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، وقال تبارك اسمه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ}.
فقد عُلم أن الغرض بذلك في جميعه أن الإنسان مخلوق ومضعوف، وكذلك قولهم: ضُرب زيد، إنما الغرض منه أن يُعلم أنه منضرب، وليس الغرض أن يُعلم مَن الذي ضربه، فإن أُريد ذلك ولم يدل دليل عليه فلَا بُدَّ أن يذكر الفاعل فيقال: ضرب فلان زيدًا، فإن لم يفعل ذلك كلف علم الغيب). [المحتسب: 1/66]
قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)}
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (26- وقوله تعالى: {يا آدم أنبئهم}
قرأ ابن عامر وحده في إحدى الروايتين {أنبئهم} وهذا غلط؛ لأن الهاء إنما تكسر إذا تقدمتها كسرة أو ياء وقرأ الباقون {أنبئهم} وهو الصواب). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/82]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107217#post107217)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:05 AM
تفسير سورة البقرة
[من الآية (33) إلى الآية (34) ]
{قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}
قوله تعالى: {قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله عزّ وجلّ: (إنّي أعلم ما لا تعلمون (30)
و: (إنّي أعلم غيب السّماوات والأرض).
[معاني القراءات وعللها: 1/144]
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بفتح الياءين، وأرسلهما الباقون.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: إذا كان قبل ياء الإضافة متحرك يجوز أن تسكن الياء وتحرك، وإن كان ما قبلها ساكناً حركته لا غير.
قال: فإذا استقبلها ألف ولام كقوله: (اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم) حركت الياء لئلا تسقط.
وقال الفراء في نصب الياء من (نعمتي) كل ياء كانت من المتكلم فمعها لغتان الإرسال والفتح، فإذا لقيتها ألف ولام اختارت العرب التحريك، وكرهت السكون؛ لأن اللام ساكنة فتسقط الياء عندها لسكونها، فاستقبحوا أن يقولوا: (نعمت التي) فتكون كأنها مخفوضة على غير إضافة، فأخذوا بأوثق الوجهين.
قال: وقد يجوز إسكانها
[معاني القراءات وعللها: 1/145]
عند الألف واللام، قال الله جلّ وعزّ: (يا عبادي الّذين أسرفوا) فقرئت بإرسال الياء ونصبها، وكذلك ما في القرآن مما فيه ياء ثابتة ففيه الوجهان، وما لم يكن فيه الياء لم تنصب.
وأما قوله: (فبشّر عباد (17) الّذين يستمعون)، فإن هذا بغير ياء، فلا تنصب ياؤها.
على هذا يقاس كل ما في القرآن). [معاني القراءات وعللها: 1/146] (م)
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (أنبئهم)
اتفق القراء كلهم على ضم الهاء مع الهمزة.
قال أبو منصور: وإنما اتفقوا على ذلك ولم يشبهوه بـ (عليهم) و(إليهم) لأن الهمزة إذا سكنت فهي كالحرف الصحيح، والياء أخت الكسرة في (عليهم)، فأتبعوا الكسرة الكسرة.
[معاني القراءات وعللها: 1/146]
وقد روي عن ابن عامر أنه قرأ: (أنبئهم) بكسر الهاء.
وهذا غير جائز عند أهل العربية، ولكن لو قرئ: (أئبيهم) بحذف الهمزة كان جائزا في العربية، ولا يجوز في القراءة لأنه لم يقرأ به أحد). [معاني القراءات وعللها: 1/147]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (بسم الله: كلّهم قرأ: أنبئهم [البقرة/ 33] بالهمز وكذلك) روى بعض رواة المكيين عن ابن كثير أنبئهم
[الحجة للقراء السبعة: 2/6]
بكسر الهاء والهمز، قال أحمد: وهذا خطأ لا يجوز.
قال أبو علي: النبأ: الخبر، عن النّبإ العظيم [النبأ/ 2] أي: الخبر، وقالوا منه: نبأته وأنبأته. ونبّئهم عن ضيف إبراهيم [الحجر/ 51] أي: أخبرهم عن ضيفه. وضمّ الهاء، إلا ما رواه عن ابن عامر أنبئهم بكسر الهاء مع الهمز، وينبّؤا الإنسان يومئذٍ بما قدّم وأخّر [القيامة/ 13] أي يخبر به، فهذا كقوله تعالى: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون [النور/ 24] وقال: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا، قالوا أنطقنا اللّه الّذي أنطق كلّ شيءٍ [فصلت/ 21] وهذا كتابنا ينطق عليكم بالحقّ [الجاثية/ 29] ومن ثم قرأ من قرأ: هنالك تبلوا كلّ نفسٍ ما أسلفت [يونس/ 30] بالتاء، فهذه الآي في معنى إخبار الإنسان بأعماله، وتوقيفه عليها. وأنبئوني بأسماء هؤلاء [البقرة/ 31]. أخبروني بها، ويا آدم أنبئهم بأسمائهم [البقرة/ 33] أخبرهم، فلما كان النبأ مثل الخبر، كان أنبأته عن كذا، بمنزلة: أخبرته عنه. ونبأته عنه، مثل: خبّرته.
ونبّأته به، مثل: خبّرته به. وهذا مما يصحح ما ذهب إليه سيبويه، من أن معنى نبّئت زيدا: نبّئت عن زيد، فحذف حرف الجر، لأن نبّأت قد ثبت أن أصله خبّرت بالآي التي تلوناها، فلما حذف حرف الجرّ، وصل الفعل إلى المفعول الثاني،
[الحجة للقراء السبعة: 2/7]
فنبّأت يتعدّى إلى مفعولين، أحدهما يصل إليه بحرف جر، كما أن أخبرته عن زيد كذلك.
فأمّا المتعدي إلى ثلاثة مفعولين، نحو: نبّأت زيدا عمرا أبا فلان، فهو هذا في الأصل، إلّا أنّه حمل على المعنى، فعدّي إلى ثلاثة مفعولين وذلك أنّ الإنباء الذي هو إخبار: إعلام، فلما كان إياه في المعنى، عدّي إلى ثلاثة مفعولين، كما عدّي الإعلام إليهم، ودخول هذا المعنى فيه، وحصول مشابهته للإعلام، لم يخرجه عن الأصل الذي هو له من الإخبار، وعن أن يتعدى إلى مفعولين، أحدهما يتعدى إليه بالباء، أو بعن، نحو:
نبّئهم عن ضيف إبراهيم [الحجر/ 51] ونحو قوله: فلمّا نبّأت به [التحريم/ 3] كما أن دخول معنى أخبرني في «أرأيت» لم يخرجه عن أن يتعدى إلى مفعولين، كما كان يتعدّى إليهما، إذا لم يدخله معنى أخبرني به، إلّا أنّه امتنع من أجل ذلك أن يرفع المفعول به بعده على الحمل على المعنى، من أجل دخوله في حيّز الاستفهام، فلم يجز: «أرأيتك
زيد أبو من هو؟» كما جاز: «علمت زيد أبو من هو؟». و «رأيت زيد أبو من هو؟» حيث كان المعنى: علمت أبو من زيد فكذلك دخول معنى الإعلام في الإنباء، والتنبيء لم يخرجهما عن أصلهما وتعدّيهما إلى مفعولين، أحدهما: يصل إليه الفعل بحرف الجر، ثم يتّسع فيحذف الحرف، ويصل الفعل إلى الثاني.
[الحجة للقراء السبعة: 2/8]
فأمّا من قال: إنّ الأصل في نبّئت على خلاف ما ذكرنا، فإنّه لم يأت على ما ادعاه بحجة ولا شبهة. فأمّا قوله: نبّئ عبادي أنّي أنا الغفور الرّحيم [الحجر/ 49] فيحتمل ضربين أحدهما: أن يكون (نبّئ) بمنزلة أعلم، ويكون أنّي أنا الغفور الرّحيم قد سدّ مسدّ المفعولين، كما أنّه في قولك:
علمت أنّ زيدا منطلق، قد سدّ مسدّهما، فتكون (نبّئ) هذه المتعدية إلى ثلاثة مفعولين. ويجوز أن يكون (نبّئ) بمنزلة:
(خبّر) عبادي بأنّي، فحذف الحرف، ف (أنّ) في قول الخليل على هذا: في موضع جر، وعلى قول غيره: في موضع نصب.
فأمّا قوله: قل أأنبّئكم بخيرٍ من ذلكم للّذين اتّقوا عند ربّهم جنّاتٌ [آل عمران/ 15] فإن جعلت اللّام متعلقة (بأؤنبّئكم)، جاز الجرّ في جنات على البدل من خير، وإن جعلته صفة لخير، لأنه نكرة جاز الجرّ في جنات أيضا.
وإن جعلتها متعلقة بمحذوف، لم يجز الجرّ في جنات، وصار مرتفعا بالابتداء أو بالظرف. ولم يجز غير ذلك، لأن اللام حينئذ لا بد لها من شيء يكون خبرا عنه. فأما قوله: قد نبّأنا اللّه من أخباركم [التوبة/ 94] فلا يجوز أن تكون (من) فيه زيادة على ما يتأوّله أبو الحسن من زيادة (من) في الواجب، لأنه يحتاج إلى مفعول ثالث، ألا ترى أنه لا خلاف في أنه إذا تعدى إلى الثاني، وجب تعديه إلى المفعول الثالث، وإن قدرت تعديته إلى مفعول محذوف، كما تؤوّل قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/9]
يخرج لنا ممّا تنبت الأرض من بقلها [البقرة/ 61]- أي شيئا- لزم تعديته إلى آخر. فإن جعلت (من) زيادة، أمكن أن تضمر مفعولا ثالثا، كأنّه: نبأنا الله أخباركم مشروحة. ويجوز أن تجعل (من) ظرفا غير مستقر، وتضمر المفعول الثاني، والثالث كأنه: نبأنا الله من أخباركم ما كنتم تسرونه تنبيئا، كما أضمرت في قوله: أين شركائي الّذين كنتم تزعمون [القصص/ 62] أما قوله: ويستنبئونك أحقٌّ هو [يونس/ 53] فيكون يستنبئونك: يستخبرونك، فيقولون: أحقّ هو؟ ويكون:
يستنبئونك: يستعلمونك، والاستفهام قد سدّ مسدّ المفعولين.
ومما يتّجه على معنى الإخبار دون الإعلام، قوله:
وقال الّذين كفروا هل ندلّكم على رجلٍ ينبّئكم إذا مزّقتم كلّ ممزّقٍ [سبأ/ 7] فالمعنى: يخبركم، فيقول لكم: إذا مزّقتم، وليس على الإعلام، ألا ترى أنهم قالوا: أفترى على اللّه كذباً أم به جنّةٌ [سبأ/ 8] قال أبو علي: فأما قوله: (أنبئهم) فحجة من قرأ بضم الهاء ظاهرة، وذلك أن أصل هذا الضمير أن تكون الهاء مضمومة فيه، ألا ترى أنك تقول: ضربهم وأنبأهم، وهذا لهم. وإنما تكسر الهاء إذا وليتها كسرة أو ياء، نحو: بهم وعليهم. وهذا أيضا يضمه قوم، فلا يجانسون بكسرتها الكسرة التي قبلها، ولا الياء، ولكن يضمّونها على الأصل، نحو: بهم، وبهو، وبدارهو، وعليهم، وقد تقدم ذكر
[الحجة للقراء السبعة: 2/10]
ذلك في أول الكتاب.
فأما وجه قراءة من قرأ: «أنبئهم» فكسر الهاء، والذي قبلها همزة مخففة، فإنّ لكسره الهاء وجهين من القياس على ما سمع منهم. أحدهما: أنه أتبع كسر الهاء الكسرة التي قبلها، والحركة للإتباع قد جاء مع حجز السكون وفصله بين المتحركين، ألا ترى أنّ أبا عثمان قد حكى عن عيسى عن ابن أبي إسحاق: هذا المرء، ورأيت المرء، ومررت بالمرء. فأتبعوا مع هذا الفصل، كما أتبعوا في اللغة الأخرى: هذا امرؤ، ورأيت امرأ، وبامرئ. وكذلك: أخوك، وأخاك، وأخيك. فكذلك يكون قوله: (أنبئهم) أتبعت كسرة الهاء الكسرة التي على الباء.
ومما يثبت ذلك، أن أبا زيد قال: قال رجل من بكر بن وائل: أخذت هذا منه يا فتى، ومنهما، ومنهمي. بكسر الاسم المضمر في الإدراج والوقف. قال: وقال عنه، وقال:
لم أعرفه، ولم أضربه. بكسر كل هذا. قال أبو زيد: وقال: لم أضربهما بكسر الهاء مع الباء. ففي ما حكاه أبو زيد: ما يعلم منه أنّ الإتباع مع حجز الساكن بين الحركتين، مثله إذا توالت الحركتان، فلم يحجز بينهما شيء. ألا ترى أنه قال: منه- ومنهما- ومنهمي، فأتبع الكسر الكسر مع حجز السكون بينهما، كما أتبع في: لم أضربه، ولم أضربهما، ولم أعرفه،
[الحجة للقراء السبعة: 2/11]
وإن لم يحجز بينهما شيء؟ فكذلك قوله: (أنبئهم) أتبع الكسرة في الهاء الكسرة التي قبلها.
والوجه الآخر: أنه لم يتعدّ بالحاجز الذي بين الكسرة والهاء لسكونها، فكأن الكسرة وليت الهاء، والكسرة إذا وليت الهاء كسرت نحو: به. ويكون تركهم الاعتداد- في «أنبئهم» - بالسكون كتركهم الاعتداد به في قولهم: هو ابن عمّي دنيا، وقنية، ألا ترى أنه من الدنوّ، وقالوا: قنوة. فكما قلبت الواو ياء في عارية ومحنية، لانكسار ما قبلهما، كذلك قلبوها مع حجز الساكن في دنيا. فإذا رأيتهم لم يعتدّوا بالحاجز إذا كان ساكنا، كذلك يجوز أن لا يعتدّ به حاجزا في قراءة ابن عامر، وما روي عن ابن كثير.
ولو ترك تارك الهمز في: (أنبئهم) فقال: (أنبيهم) لكان لكسر الهاء وجهان.
أحدهما: أنه لما خفف الهمزة لسكونها وانكسار ما قبلها فقلبها ياء كذيب وميرة أشبهت الياء التي هي غير منقلبة عن الهمزة، فكسر الهاء بعدها، كما تكسر «هم» بعد:
(ترميهم) و (يهديهم). ويقوي ذلك أن منهم من أدغم الواو الساكنة
[الحجة للقراء السبعة: 2/12]
المنقلبة عن الهمزة في الياء، كما تدغم الواو التي ليست منقلبة، وذلك في قولهم: ريّا، وريّة.
ويقوّي ذلك إيقاعهم الألف المنقلبة عن الهمزة ردفا، كإيقاعهم المنقلبة عن الياء أو الواو، وذلك قوله:
على رال كما تقول: على بال. والوجه أن لا تكسر الهاء على هذا المذهب، كما أن الوجه أن لا تدغم.
والوجه الآخر: أن تقلب الهمزة إلى الياء قلبا. وهذا وإن كان سيبويه لا يجيزه إلا في الشعر، فإن أبا زيد يرويه عن قوم من العرب. وإذا اتّجهت له هذه الوجوه لم ينبغ أن
يخطّأ، وإن أمكن أن يقال إن غيره أبين وجها منه وأظهر.
فأما آدم: فقال بعض أهل اللغة: إن الآدم من الإبل
[الحجة للقراء السبعة: 2/13]
والظباء: الأبيض، وما سوى ذلك، فالآدم الذي ليس بأبيض على ما يتكلم به الناس فيقولون: رجل آدم للذي ليس بأبيض، ورجل أسمر، وهو أصفى من الآدم. قال: ولا تقول العرب للرجل: أبيض، من اللون، إنما يقولون: أحمر،
قال: وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت إلى الأسود والأحمر»
وإنما الأبيض: البعيد من الدّنس النقي، قال: ويقال: ظبي آدم- وظبية أدماء- وبعير آدم- وناقة أدماء- للأبيضين.
قال أبو الحسن: (أنبئهم بأسمائهم) الهاء مضمومة إذا همزت، وبها نقرأ، لأن الهاء لا يكسرها إلا ياء، أو كسرة، ومن العرب من يهمز ويكسر، وهي قراءة، وهي رديئة في القياس فإذا خفّفت الهمزة فكسر الهاء أمثل شيئا لشبهها بالياء). [الحجة للقراء السبعة: 2/14]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن رحمه الله: [أَنْبِهِمْ] بوزن أَعْطِهِم، ورُوي عنه: [أَنبيهُمُ] بلا همز، ورُوي عن ابن عامر: [أَنْبِئْهِم] بهمز وكسر الهاء. قال ابن مجاهد: وهذا لا يحوز.
قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن: [أَنْبِهِمْ] كأعطهم، فعلى إبدال الهمزة ياء على أنه يقول: أَنْبَيْتُ كأَعْطَيْتُ، وهذا ضعيف في اللغة؛ لأنه بدل لا تخفيف، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر.
[المحتسب: 1/66]
وحدثنا أبو علي قال: لقي أبو زيد سيبويه فقال: سمعت العرب تقول: قَرَيْتُ وتوضيت، فقال له سيبويه: فكيف تقول في المضارع؟ قال: أَقرأُ. هذا آخر الحكاية عن أبي علي.
وزاد أبو العباس محمد بن يزيد فيها: فقال له سيبويه: فقد تركت إذن مذهبك.
ونحوه قراءة: [أن تَبَوَّيَا].
ويجوز على هذه القراءة [أَنْبِهُم] على أصل حركة الهاء وهو الضم؛ كقراءة مَن قرأ: [فخسفنا بِهُو وبدارِهُو الأرض].
وأما قراءته على الرواية الأخرى: [أَنبيهُم] فهو على قياس التخفيف الصريح، ولك في هذه الهاء على هذه القراءة الضم والكسر.
أما الضم فمن وجهين:
أحدهما: وهو الأظهر؛ إخراجها على الأصل فيه.
والآخر: وفيه الصنعة؛ وهو أن هذه الياء ليست بلازمة؛ وإنما اجتلبها تخفيف الهمزة؛ وذلك أن الهمزة إذا سكنت مكسورًا ما قبلها فتخفيفها القياسي أن تخلصها في اللفظ ياء، وذلك قولك في ذئب: ذيب، وفي بئر: بير، فقوله: [أَنبِيهم] بياء ساكنة ينبغي أن يكون على التخفيف القياسي، لا على أنه أبدل الهمزة ياء إبدالًا مستكرهًا على حد قولهم في البدل: قريب كأعطيت، فإنما كان ذلك كذلك من قِبَل أنه لو أَبدل لكان قد أَخرج الهمزة على أصلها إلى ذوات الياء، ولو كان فعل ذلك لوجب حذفه كما تحذف لام: أَعطيت وأَغزيت للوقف والجزم، كما حذفها في القراءة الأخرى لما أبدل فقال: [أَنْبِهِمْ]، ولو اعتقد أنه قد أبدل ألبتة لما جاز إثبات الياء في موضع الوقف، كما لا يجوز: أَعطيهم ولا أَغزيهم، إلا أن يحمل ذلك على الضرورة، وإثبات الياء في موضع الجزم والوقف؛ كقوله:
ألم يأْتيك والأنباء تنمي ... بما لاقت لبونُ بني زياد
[المحتسب: 1/67]
فإن فعل ذلك ففيه على هذا ضرورتان:
إحداهما: الإبدال، ولا ضرورة إليه.
والآخر: إثبات حرف العلة في موضع الوقف، وذلك ضرورة أفحش من الأولى؛ لكثرة الإبدال على قبحه، وقلة إثبات حرف اللين في موضع الوقف؛ لكن إذا اعتقد أنه خُفف لم يكن في هذه القراءة ضرورة ألبتة، وفي هذا كافٍ.
وإذا كان [أَنبيهِم] إنما هو على التخفيف القياسي، فكأن الهمزة حاضرة لأنها هي الأصل؛ إذ كان التخفيف له أحكام التحقيق، ألا ترى إلى صحة الواو والياء في تخفيف ضوء وفيء؛ وذلك قولك: هذا ضَوٌ وفَيٌ ونَوٌ وشَيٌ، بضمة الواو والياء مع تحركهما وانفتاح ما قبلهما، وترك قبلهما ألفين لذلك يدل على أن الواو والياء لما تحركتا بحركة الهمزة المحذوفة للتخفيف كانتا لذلك في حكم الساكنين، فكما تصحان هنا سكانتين في ضوء ونوء وفيء وشيء، كذلك صحتا متحركتين في ضَوٍ ونَوٍ وشَيٍ، وعلى ذلك صحت الواو والياء أيضًا في تخفيف نحو: جَيْئَل وحَوْءَب إذا خَففت فقلت: جَيَل وحَوَب، فكما تكون الياء مضمومة مع التحقيق في قوله: {أَنْبِئْهُم}، فكذلك تكون مضمومة مع التخفيف في قولك: [أَنبيهُم]؛ لما بيناه من أن حكم الهمزة المخففة حكم المحققة.
وسألت أبا علي -رحمه الله- فقلت: من أجرى غير اللازم مجرى اللازم فقال: في تخفيف الأحمر: لَحْمر، أيجوز له على هذا أن يقلب الواو والياء في حَوَب وجَيَل ألفًا، فيقول: حاب وجال؟ فقال: لا، وأومأ إلى أن حكم القلب أقوى من حكم الاعتداد بالحركة في لَحمر؛ أي: فلا يبلغ في الجواز ذلك لشناعته، وهو كما ذكر.
وقد يجوز عندي في قراءة الحسن -رحمه الله- هذه أن يكون أراد [أَنبهم] كقراءته في الأخرى، إلا أنه أشبع الكسرة فأنشأ عنها ياء، فقال: [أَنْبِيهم]، كما قد يجوز ذلك في قوله: [أَلَم يَأْتِيَك]؛ فإنه أشبع الكسرة فمطها، فبلغت ياء، وعليه الرواية
[المحتسب: 1/68]
الأخرى التي ذكرها أبو الحسن وهي قوله: [أَلَمْ يَأْتِك]، وعليه أيضًا ما وجه بعضهم قوله:
كأن لم ترا قبلي أسيرًا يمانيا
قال: أراد لم ترَ، ثم أشبع الفتحة فأنشا عنها ألفًا.
فإذا جاز ذلك ساغ الضم في الهاء أيضًا على أصل ضمتها.
فإن قلت: فهل يجوز أن تقول: إنه لم يعتدد بالياء لما كانت زائدة مجتلبة للإشباع، فجرت لذلك مجرى ما ليس موجودًا، كما أن من مد "أوائل" إتباعًا كما ترى، على حد قوله:
نفي الدنانير تنقادُ الصياريف
قال على هذا: أَوائيل، أقر الهمزة بحالها بدلًا من واو أواول؛ لبعدها من الطرف بالياء الحاجزة؛ لأن هذه الياء لَحَقٌ ونَيِّفٌ مجتلبة للإشباع، وليست لها عصمة ولا مُسكة، فجرت مجرى المنفردة ألبتة، كما يهمز فيقول: أوائل، فكذلك يهمز، فتقول: أوائيل، ولا يحفل بالياء حاجزًا لما ذكرنا، ولا يجرى عندي مجرى ياء طواويس ونواويس؛ إذ كانت الياء هناك ثابتة القدم؛ لكونها بدلًا من واو ناووس وطاووس الثانية؟
فالجواب: أنه إن ذهب إلى هذا على ما رمته كسر الهاء أيضًا؛ وذلك أن أقصى ما في
[المحتسب: 1/69]
هذا أن تكون الياء في [أنبيهم] مدة إشباعًا لا حكم لها، فكأنها ليست هناك، وإذا لم تكن هناك كسرة الياء -وهي تدعو إلى كسر الهاء- فعلى أي الوجهين حملته، فكسر الهاء هو الكلام.
وأما حديث كسرها من القسمة الأولى -وأنت تنوي بأنبيهم التخفيف القياسي- فهو على معاملة اللفظ؛ وذلك أن الملفوظ به الآن وإن كان تخفيفًا إنما هو الياء ألبتة، فعومل لفظها معاملة نحوه ونظيره، فكُسِرَت الهاء مع هذه الياء كما تكسر في نحو: عليهم وإليهم، كما أن قول الله عز وجل: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ} أصله: لكن أنا، فخففت الهمزة وألقيت حركتها على النون فانفتحت، فصارت في التقدير: [لكنَنَا]، فلما التقى الحرفان المثلان متحركين كُره ذلك، وإن كانت حركة النون الأولى غير لازمة من حيث كانت من أعراض التخفيف، وأجريت مجرى اللازمة، فأُسكنت الأولى وأدغمت في الثانية؛ حملًا على حاضر الحال وإجراء غير اللازم مجرى اللازم.
وقد كتبنا في الخصائص بابًا مفردًا في إجراء العرب غير اللازم مجرى اللازم، وإجراء اللازم مجرى غير اللازم، فاكتفينا به عن إعادته؛ لئلا يطول هذا الكتاب.
نعم، وإذا كانت العرب قد أجرت الحرف الصحيح في نحو هذا مجرى ما لا يعتد به حتى لم يحفلوا بلفظ، نحو قولهم: منهِم واضربهِم، فأن يجروا الياء الساكنة مجرى ذلك لخفائها، ولأن لفظها نفسها داعٍ إلى الكسر -أجدر.
وأما الرواية عن ابن عامر: [أَنبئهِم] بالهمز وكسر الهاء، فطريقه أن هذه الهمزة ساكنة، والساكن ليس بحاجز حصين عندهم، فكأنه لا همزة هناك أصلًا، وكأن كسرة الباء على هذا مجاورة للهاء، فلذلك كسرت فكأنه على هذا قال: [أَنبهِم].
ويدل على ما ذكرناه من ضعف الساكن أن يكون حاجزًا حصينًا قولهم: قِنْيَة، وهي وهي من قَنَوْت، وصِبْيَة وهي من صَبَوْت، وعِلْية وهي من عَلَوْت، وعِذْي وهو من قولهم: أَرَضُون عَذَوات، وبِلْيُ سفر لقولهم في معناه: بِلْوُ، وهو من بلوت، ومنه ناقة عِلْيَان وهي من علوت، ودَبَّة مهيار وهو من تهور، وفلان قِدْيَة في هذا الأمر وهو من القِدْوة، وأصله
[المحتسب: 1/70]
كله: قِنْوُ، وصِبْوة، وعِلْوة، وعِذْوُ، وبِلْو سفر، وناقة عِلْوان، ودَبة مِهْوَار، فقلبت الواو في ذلك كله للكسرة قبلها، ولم يعتدد الساكن بينهما حاجزًا لضعفه، فكأن الكسرة تباشر الواو فتقلبها لذلك ياء، كما تقلبها لو لم تجد بينهما حاجزًا، فكذلك الهمزة في [أَنْبِئهِم] لا تحجز على هذا النحو الذي ذكرناه.
وروينا عن أبي زيد فيما أخذناه عن أبي علي، وعن غير أبي زيد: منهِم ومنهِ ومنكِم وبِكِم، وأجرى كاف المضمر مجرى هائه، وسترى هذا فيما بعد إن شاء الله.
فقد علمت بذلك أن قول ابن مجاهد: هذا لا يجوز لأوجه له؛ لما شرحناه من حاله.
ورحم الله أبا بكر؛ فإنه لم يأْلُ فيما علمه نصحًا، ولا يلزمه أن يُرِي غيره ما لم يُره الله تعالى إياه، وسبحان قاسم الأرزاق بين عباده، وإياه نسأل عصمة وتوفيقًا وسدادًا بفضله). [المحتسب: 1/71]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (13- {أَنْبِئْهُمْ} [آية/ 33]:-
بالهمز وضم الهاء، اتفق القراء عليه كلهم إلا ابن عامر فانه قرأ «أنبئهم» بالهمز وكسر الهاء.
أما وجه قراءة الجمهور، فهو أن أصل هذه الهاء الضم كما قدمناه قبل، وإنما تكسر لكسرة أو ياءٍ تقع قبلها، وليس قبلها هنا كسرة ولا ياء، فلا نظر في وجوب ضمة الهاء.
وأما وجه قراءة ابن عامر بكسر الهاء مع تحقيق الهمزة قبلها فهو أنه أتبع كسرة الهاء كسرة الباء في «أنبئهم»، وإن حجز الهمز الساكن بينهما؛ لأن حركة الإتباع قد جاءت مع حجز السكون بين الحركتين، نحو ما روي من قولهم: المرء والمرء والمرء، بإتباع حركة الميم حركة الإعراب، وما روى أبو زيد عن العرب: أخذت هذا منه، بكسر الهاء إتباعًا لكسرة الميم،
[الموضح: 267]
ويجوز أن يكون أجرى هذه الهاء مجرى ما تليه الكسرة نحو: بهم، ولم يعتد بالحاجز لسكونه، كما قلبوا الواو ياءً في قولهم: ابن عمي دنيا، لكسرة الدال ولم يعتدوا بالنون حاجزًا لسكونه، فكأن الكسرة تلي الواو؛ لأن الأصل: دنوًا). [الموضح: 268]
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: [لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا].
قال أبو الفتح: هذا ضعيف عندنا جدًّا؛ وذلك أن "الملائكة" في موضع جر، فالتاء إذن مكسورة، ويجب أن تسقط ضمة الهمزة من "اسجدوا" لسقوط الهمزة أصلًا إذا كانت وصلًا، وهذا إنما يجوز ونحوه إذا كان ما قبل الهمزة حرف ساكن صحيح، نحو قوله عز وجل: [وَقَالَتُ اخْرُج]، وادخلُ ادخلُ، فضُم لالتقاء الساكنين لتخرج من ضمة إلى ضمة، كما كنت تخرج منها إليها في قولك: اخرج.
فأما ما قبل همزته هذه متحرك -ولا سيما حركة إعراب- فلا وجه لأن تحذف حركته ويحرك بالضم، ألا تراك لا تقول: قل للرجلُ ادخُل، ولا: قل للمراةُ ادخُلي؛ لأن حركة الإعراب لا تُستهلك لحركة الإتباع إلا على لغة ضعيفة، وهي قراءة بعض البادية: [الْحَمْدِ لِلَّه] بكسر الدال، ونحو منه ما حكاه لي أبو علي: أن أبا عبيدة حكاه من قول بعضهم: دعه في حِرُمِّه، فحذف كسرة راء "حر"، وألقى عليها ضمة همزة أمه، وهذا عندنا على شذوذه أعذر من قوله: [لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا]؛ وذلك أنه خفف همزة تثبت في الوصل وهو قولك: في هنِ أمه، فإذا كانت تثبت في الوصل جاز تخفيفها فيه؛ بل لا يكون التخفيف بإلقاء الهمزة ونقل الحركة إلا في الوصل، وليس فيه إلا شيء واحد؛ وهو حذفه حركة الإعراب لحركة غير ملازمة؛ وإنما هي للهمزة.
[المحتسب: 1/71]
وأما قوله: [لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا] فإن همزة "اسجدوا" يحذفها في الواصل ألبتة، وإذا كانت محذوفة ألبتة لم يكن إلى تخفيفها سبيل؛ لأن الوصل يستهلكها أصلًا، فحركة ماذا -يا ليت شعري! - تنقل وقد حُذف المتحرك بحركته أصلًا فلم يبقَ إلا الإتباع، وحركة الإتباع لا تبلغ مبلغ حركة تخفيف الهمز؛ من حيث كانت حركة الهمزة موجودة فيها في الابتداء والوصل جميعًا، فعلمت بذلك قوتها، وحركة الإتباع تجري مجرى الصدى الذي لا اعتداد به، ولا هو عندهم مما يعقد على مثله، فإذا ضعفت الحركة القوية فما ظنك بالحركة الضعيفة؟
ونحو من هذه الحكاية عن أبي عبيدة: مارواه أحمد بن يحيى: قال: كنا عند سعيد بن سَلْم أنا وابن الأعرابي فخرجا لصلاة العصر، وتأخَّرت لتجديد الطهر بعدهما، فلما خرجتُ قال لي ابن الأعرابي: أين أنت؟ ألا تسمع لهذا؟ قلت: ما هو؟ وإذا أبو سَرَّار الغنوي يتحدث، قال:
كنت أحضر العراق فإذا أردت أهلي وقد اشتريت منها وتبتَّتُّ أجتاز بامرأة عجوز لها بنيَّات، فإذا نزلت عليها بَهَشْن إلَيَّ وأَطَفْن بِي، فأَفرز لهن مما اشتريت شيئًا أدفعه إليهن، فغبرت زمانًا، ثم جئت العجوز فوجدتها غائبة عن بيتها، وإذا أولئك الجواري قد صرن نساء، فبهشن إليَّ على عادتهن، وجاءت العجوز فوجدَتني خاليًا معهن، فقالت: ما هذا؟ أفي السَّوَتَنْتُنَّه؟ أفي السوتنتنه؟ فقلت: وما في هذا؟ أردات: أفي السوءة أنتنه؟ فحذفت الهمزة من السوءة تخفيفًا، وألقت حركتها على الواو فانفتحت الواو، وألقت حركة الهمزة في أنتنه على كسرة التاء من السوءة فانفتحت، وحذفت همزة أنتنه فصارت: أفي السوتنتنه؟
هكذا قال أحمد بن يحيى على كسرة التاء، وله وجه، إلا أنه مع هذا ضعيف؛ وذلك أن هذه الهمزة إذا خففت فحذفت، وألقيت حركتها على ما قبلها، لم يكن ذلك الذي قبلها إلا ساكنًا، نحو قوله تعالى في قراءة ورش عن نافع: [قَدَ افْلَحَ الْمُومِنُونَ]، [وَالَارْض].
وحكى أبو زيد في خُبَأَة: انه سمع بعضهم يقرأ: [ويمسك السماء أن تقع عَلَّرضِ]، يريد: على
[المحتسب: 1/72]
الأرض، فحُذفت همزة أرض تخفيفًا، وأُلقي حركتها على اللام وهي ساكنة كما ترى، فصارت عَلَلَرض، فكره اجتماع اللامين متحركتين، فأسكن اللام الأولى وأدغمها في الثانية فصارت [علَّرض]، كما أسكن أبو عمرو: [لَكنَ نَا] حتى صار لذلك "لكنَّا"، فهذا التحفيف مع النقل إنما يكون إذا كان الأول الملقي عليه ساكنًا، فأما إذا كان متحركًا فقد حَمَتْه حركته أن يَقبل حركة أخرى غيرها.
والتاء من السوءة محركة، فكيف يمكن إلقاء الحركة عليها مع وجود حركتها فيها؟ وعليه قراءة الكسائي فيما حدثنا به أبو علي سنة إحدى وأربعين: [بما أُنزلَّيك] قياسًا -فيما قال أبو علي- على لكنَّا.
قال أبو علي ما نحن عليه ونعى هذه القراءة، وقال لحركة لام أُنزل: فإذا قبح ذلك مع أن حركة اللام بناء، فما الظن بما حركته إعراب، وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء، فالجناية إذن عليها فوقها عليها.
وقول أحمد بن يحيى: إنه ألقى فتحة أَنْتُنه على كسرة الهاء، طريقه: أنه لما نقل فتحة همزة أنتن إلى ما قبلها صادفت كسرة السوءة على شناعة النقل مع ذلك، فهجمت الفتحة على الكسرة فابتزَّتها موضعَها، وكلا القولين خبيث وضعيف، وعلى أننا قد أفردنا في كتاب الخصائص بابًا لهجوم الحركات على الحركات، مختلفات كن أو متفقات؛ لكنه ليس على هذا الذي كرهناه واستضعفناه.
فهذا كله يشهد بضعف قوله: [قُلْنَا لِلْمَلائِكَةُ اسْجُدُوا]. وفيه أكثر من هذا، ولولا تحامي الإملال لجئنا به، وفيما أوردناه كافٍ مما حذفناه). [المحتسب: 1/73]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107218#post107218)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:31 AM
سورة البقرة
[من الآية (35) إلى الآية (39) ]
{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}
قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال عباس: سألت أبا عمرو عن [الشِّجَرة] فكرهها، وقال: يقرأ بها برابر مكة وسودانها.
[المحتسب: 1/73]
وقال هارون الأعور عن بعض العرب: تقول الشِّجرة، وقال ابن أبي إسحاق: لغة بني سُليم الشِّجرة.
قال أبو الفتح: حكى أبو الفضل الرياشي قال: كنا عند أبي زيد وعندنا أعرابي فقلت له: إنه يقول الشِّيَرَة، فسأله فقالها، فقالت له: سله عن تصغيرها، فسأله فقال: شُيَيْرَة.
وأنشد الأصمعي لبعض الرجاز في أرجوزة طويلة:
تحسبه بين الإكام شِيَرة
وإذا كانت الياء فاشية في هذا الحرف -كما ترى- فيجب أن تجعل أصلًا يساوق الجيم، ولا تُجعل بدلًا من الجيم، كما تجعل الجيم بدلًا من الياء في قولهم: رجل فُقَيْمِج؛ أي: فُقَيْمِي، وعَربَانِج؛ أي: عَرَبَانِيّ، وقوله:
حتى إذا ما أمسجت وأمسجا
يريد أمست وأمسى. قال أبو علي: هذا يدلك على أن ما حذف لالتقاء الساكنين في حكم الحاضر الملفوظ به. قال: ألا ترى أنه أبدل من لام أمسيت بعد أن قدرها ملفوظًا بها، ولو كان الحذف ثابتًا هنا لما جاز أن يبدل من اللام شيء؛ لأن البدل إنما هو من ملفوظ به، كما أن البدل ملفوظ به.
قال: وليست كذلك لام عَشِيَّة إذا حقرتها فقلت: عُشيَّة؛ لأن الياء الثانية من عُشَيِّية لم تحذف لالتقاء الساكنين؛ لأنه لا ساكنين هناك، وإنما حذفت حذفًا للتخفيف؛ فلذلك سقط
[المحتسب: 1/74]
قول أبي العباس في تحقير العرب عَشِيَّة على عُشَيْشِيَة؛ لأن الياء لم تثبت هنا فتبدل منها.
وقال أبو الحسن: إن قومًا يقولون في تحقير فَعلية من الياء: إن المحذوف منها الياء الثانية، فعلى هذا قال أبو علي ما قال.
ومما أبدلت فيه الجيم من الياء قوله -ورويناه عن غير وجه:
خالي عُوَيف وأبو عَلِجِّ ... المطعمان اللحمَ بالعَشجِّ
وبالغدواة فلق البَرْنِجِّ ... يُقْلَع بالوَد وبالصِّيصِجِّ
وروينا أيضًا قوله:
يا رب إن كنتَ قلبت حِجَّتِج ... فلا يزال شاحج يأتيك بِج
[المحتسب: 1/75]
قال أبو النجم:
كأن في أذنابهن الشُّوَّلِ ... من عبس الصيف قرون الإجَّل
يريد: الإيَّل.
فقد يجوز أن تكون الجيم في شِجرَة بدلًا من الياء في شيرة لفشو شيرة، وقلة شِجرة). [المحتسب: 1/76]
قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فأزلّهما الشّيطان)
قرأ حمزة وحده: (فأزالهما) بألف مع التخفيف.
وسائر القراء قرأوا: (فأزلّهما) بالتشديد بغير ألف.
قال أبو منصور: من قرأ: (فأزالهما) فهو من زال يزول، ومعناه: فنحّاهما.
ومن قرأ: (فأزلّهما) فهو من زللت أزلّ، وأزلني غيري، ولزللت وجهان: يصلح أن يكون الخطيئة، فأزلهما الشيطان، أي: كسبهما الزلة.
ويصلح أن يكون (فأزلّهما) أي: نحاهما.
وكلتا القراءتين جيدة حسنة، قال ذلك أبو إسحاق الزجاج، والله أعلم بما أراد). [معاني القراءات وعللها: 1/147]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (25- وقوله تعالى: {فأزلهما الشيطان عنها}
قرأ حمزة وحده: {فأزالهما}.
وقرأ الباقون: {فأزلهما} فحجة من قرأ {فأزلهما} أنه جعل من الزلل في
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/81]
الدين، ومن ذلك قولهم: «زلة العالم»، ومن قرأ {فأزالهما} أي: أزالهما عن مكانهما من الجنة، ومعنى قوله {فأزلهما الشيطان} أي: زلاهما بقبولهما من الشيطان، كما تقول: تعلم زيد من عمرو كلمة أهلكته، وإنما معناه: هلك هو بقبولها منه.
فأما رواية أبي عبيد عن حمزة {فأزالهما} بالإمالة فإنه غلط على حمزة؛ لأن من شرط حمزة أن يميل من نحو هذا ما كانت فاء الفعل مكسورة إذا ردها المتكلم إلى نفسه نحو: خاف وخفت، وضاق وضقت، وزال وزلت، {وأما فأزالهما} فإنك تقول: أزلت، فالزاي مفتوحة كما قرأ: {فلما زاغوا} بالإمالة {أزاغ الله} بالفتح). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/82]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: فأزلّهما الشّيطان عنها [البقرة/ 36].
فقرأ حمزة وحده: فأزالهما بألف خفيفة، وقرأ الباقون: فأزلّهما مشدّدا بغير ألف.
قال أبو بكر أحمد: وروى أبو عبيد: أنّ حمزة قرأ:
فأزالهما بالإمالة، وهذا غلط.
بسم الله: حجة حمزة في قراءته (فأزالهما الشيطان
[الحجة للقراء السبعة: 2/14]
عنها) أن قوله: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة وكلا منها [البقرة/ 35] تأويله: أثبتا فثبتا، فأزالهما الشيطان، فقابل الثبات بالزوال، الذي هو خلافه. ومثل ذلك قوله تعالى:
فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق [الشعراء/ 63] تأويله: فضرب فانفلق، ومثله: فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففديةٌ [البقرة/ 196] أي:
فحلق، فعليه فدية. ونسب الفعل إلى الشيطان، لأن زوالهما عنها إنما كان بتزيينه ووسوسته، وتسويله، فلما كان ذلك منه سبب زوالهما عنها أسند الفعل إليه. ومثل هذا قوله تعالى:
وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17] فالرمي
كان للنبي صلّى الله عليه وسلم حيث رمى فقال: «شاهت الوجوه»
إلا أنه لما كان بقوة الله وإرادته نسب إليه. ومما يقوي قراءته قوله تعالى:
فأخرجهما ممّا كانا فيه [البقرة/ 36] فقوله: فأخرجهما في المعنى قريب من أزالهما، ألا ترى أن إخراجه إياهما منها، إزالة منه لهما عما كانا فيه. فإن قال قائل: ما ننكر أن يكون فاعل أخرجهما، لا يكون ضمير الشيطان ولكن المصدر الذي ذكر فعله كقولهم: من كذب كان شرّا له، فالدّلالة على أن فاعله ضمير الشيطان، قوله في الأخرى: يا بني آدم لا يفتننّكم الشّيطان كما أخرج أبويكم من الجنّة [الأعراف/ 27].
[الحجة للقراء السبعة: 2/15]
ففاعل أخرجهما: الشيطان، كما بيّن ذلك في هذه.
ويقوي قراءته أيضا تأويل من تأوّل أن: فأزلّهما من زلّ، الذي هو عثر، ألا ترى أن ذلك قريب من الإزالة في المعنى.
فإن قال قائل: فإنه إذا قرأ: فأزالهما كان قوله بعد:
فأخرجهما تكريرا، فالقراءة الأخرى أرجح، لأنها لا تكون على التكرير، قيل: إن قوله: أخرجهما، ليس بتكرير لا فائدة فيه، ألا ترى أنه قد يجوز أن يزيلهما عن مواضعهما، ولا يخرجهما مما كانا فيه من الدعة والرفاهية، وإذا كان كذلك لم يكن تكريرا غير مفيد. وعلى أن التكرير في مثل هذا الموضع لتفخيم القصّة وتعظيمها بألفاظ مختلفة ليس بمكروه ولا مجتنب، بل هو مستحبّ مستعمل، كقول القائل: أزلت نعمته، وأخرجته من ملكه، وغلّظت عقوبته. وقالوا: زال عن موضعه وأزلته، وفي التنزيل: إنّ اللّه يمسك السّماوات والأرض أن تزولا [فاطر/ 41]. وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال [إبراهيم/ 46] وقال الهذليّ:
فأزال خالصها بأبيض ناصح... من ماء ألهاب بهنّ التّألب
[الحجة للقراء السبعة: 2/16]
فهذا على ضربين أحدهما: أن يريد: أزال خلوص خالصها بماء أبيض شاب هذه العسل به، فحذف المضاف. أو يكون وضع خالصها موضع خلوصها، كقولهم: العاقبة والعافية، وقوله:
ولا خارجا من فيّ زور كلام في قول من جعل «لا أشتم» جوابا للقسم. والخالص من الماء: الأبيض الصافي، فاستعاره للعسل، لأنهم يصفونها بالبياض في نحو:
وما ضرب بيضاء يأوي مليكها وأنشد السّكّريّ للعجاج:
من خالص الماء وما قد طحلبا حجة من قرأ فأزلّهما الشّيطان [البقرة/ 36] أن أزلّهما يحتمل تأويلين، أحدهما: كسبهما الزّلّة. والآخر: أن يكون أزلّ من زلّ الذي يراد به: عثر. فالدّلالة على الوجه الأول ما جاء في التنزيل من تزيينه لهما تناول ما حظر عليهما جنسه،
[الحجة للقراء السبعة: 2/17]
بقوله: ما نهاكما ربّكما عن هذه الشّجرة [الأعراف/ 20] إلى قوله: لمن النّاصحين وقوله: فوسوس لهما الشّيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما [الأعراف/ 20].
وقد نسب كسب الإنسان الزلّة إلى الشيطان في قوله تعالى:
إنّما استزلّهم الشّيطان ببعض ما كسبوا [آل عمران/ 55] واستزلّ وأزلّ كقولهم: استجاب وأجاب، واستخلف لأهله وأخلف، فكما أنّ استزلّهم من الزّلّة، والمعنى فيه كسبهم الشيطان الزّلّة، كذلك قوله تعالى: فأزلّهما الشّيطان والوجه الآخر أن يكون فأزلّهما من: زل عن المكان، إذا عثر فلم يثبت عليه، ويدل على هذا قوله تعالى:
فأخرجهما ممّا كانا فيه [البقرة/ 36] فكما أن خروجه عن الموضع الذي هو فيه انتقال منه إلى غيره، كذلك عثاره فيه وزليله.
فأما قوله تعالى: فإن زللتم من بعدما جاءتكم البيّنات فاعلموا [البقرة/ 209] فيحتمل وجهين، أحدهما: زللتم من الزّلة، كأن المعنى: فإن صرتم ذوي زلّة، ويجوز أن يراد به العثار، فشبّه المعنى بالعين، فاستعمل الذي هو العثار، والمراد به: الخطأ، وخلاف الصواب.
ومن هذا الباب قول ابن مقبل:
[الحجة للقراء السبعة: 2/18]
يكاد ينشقّ عنه سلخ كاهله... زلّ العثار وثبت الوعث والغدر
السّلخ: مصدر سلخته سلخا، إلا أنه أريد به في هذا المكان المسلوخ، ألا ترى أن المنشقّ إنما يكون الإهاب دون الحدث. وقوله: زلّ العثار، أي: زلّ عند العثار، يريد أنه لفطنته يزل عن الموضع الذي يعثر فيه فلا يعثر، ويكون المصدر في هذا الموضع يراد به المفعول كأنه: المكان المعثور فيه، ومثل ذلك قوله:
على حتّ البراية...
أي: عند البراية.
وقول النابغة:
رابي المجسّة...
أي: عند المجسّة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/19]
ومثله: بضّة المتجرّد أي: عند المتجرّد، أي: التجريد.
ومثله للبيد:
صائب الجذمة أي: صائب عند الجذمة، يقول: هو قاصد عند القطع، ومثله قول أوس:
كشف اللّقاء أي: عنده.
فأما قوله: زلّ، فإنه صفة، ككهل، وغيل، وفسل، مما يدلّك على ذلك مقابلته بثبت الذي هو خلافه.
والغدر فيما فسّر عن أبي عمرو في أكثر ظني: مكان متعاد.
والوعث: السهل الذي تسوخ فيه أخفاف الإبل، والمعنى في:
ثبت الوعث، أي: ثبت عند الوعث كما كان في المعنى في:
زلّ العثار، أي: زلّ عند العثار، وإذا كان الغدر هذا الذي فسر،
[الحجة للقراء السبعة: 2/20]
فما أنشده أبو زيد:
يخبطن بالأيدي مكانا ذا غدر تقديره: مكانا غدرا. وتأويل إدخال قوله: «ذا» فيه أنه يوصف بهذا، كأنه قال: مكانا صاحب هذا الوصف. ومن هذا الباب قولهم: «من أزلّت إليه نعمة فليشكرها» كأنه زلّت النعمة إليه، أي: تعدّت. وأزللتها أنا إليه، عدّيتها، كما أنّ قوله:
قام إلى منزعة زلخ فزل معناه: تعدّى من مكانه إلى مكان آخر. وكذلك قوله:
وإنّي وإن صدّت لمثن وقائل... عليها بما كانت إلينا أزلّت
تقديره: أزلّته، ليعود الضمير إلى الموصول.
[الحجة للقراء السبعة: 2/21]
وأما الشيطان فهو فيعال من شطن مثل البيطار، والغيداق.
وليس بفعلان من قوله:
وقد يشيط على أرماحنا البطل ألا ترى أن سيبويه حكى: شيطنته فتشيطن، فلو كان من يشيط لكان شيطنته فعلنته، وفي أنّا لا نعلم هذا الوزن جاء في كلامهم ما يدلك أنه: فيعلته، مثل بيطرته، ومثل هينم، وفي قول أمية أيضا دلالة عليه، وهو قوله:
أيّما شاطن عصاه عكاه... ثم يلقى في السّجن والأكبال
فكما أنّ شاطن فاعل، والنون لام، كذلك شيطان فيعال.
ولا يكون فعلان من يشيط. فإن قلت: فقد أنشد الكسائيّ أو غيره:
[الحجة للقراء السبعة: 2/22]
وقد منّت الخذواء منّا عليهم... وشيطان إذ يدعوهم ويثوّب
ففي ترك صرف شيطان دلالة على أنه مثل: سعدان وحمدان. قيل: لا دلالة في ترك صرف شيطان على ما ذكرت، ألا ترى أنه يجوز أن يكون قبيلة، ويجوز أن يكون اسم مؤنّث؟
فلا يلزم صرفها لذلك، لا لأنّ النون زائدة). [الحجة للقراء السبعة: 2/23]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فأزلهما الشّيطان عنها فأخرجهما ممّا كانا فيه}
قرأ حمزة (فأزالهما الشّيطان عنها) بالألف أي نحاهما عن الحال الّتي كانا عليها من قول القائل أزال فلان فلانا عن موضعه إذا نحاه عنه وزال هو وحجته قوله {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنّة} أي اثبتا فثبتا فأزالهما الشّيطان فقابل الثّبات بالزوال الّذي هو خلافه وممّا يقوي قراءته قوله {فأخرجهما ممّا كانا فيه} فإخراجهما في المعنى قريب من إزالتهما
وقرأ الباقون فأزلهما من زللت وأزلني غيري أي أوقعهما في الزلل وهو أن يزل الإنسان عن الصّواب إلى الخطأ والزلة وحجتهم قوله إنّما استزلهم الشّيطان ونسب الفعل إلى الشّيطان لأنّهما زلا بإغواء الشّيطان إيّاهما فصار كأنّه أزلهما). [حجة القراءات: 94]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (19- قوله: {فأزلهما} قرأ حمزة بألف مخففة، وقرأه الباقون بغير ألف مشددًا.
وعلة من قرأ بالألف أنه جعله من الزوال، وهو التنحية، واتبع في ذلك مطابقة معنى ما قبله على الضد، وذلك أنه قال تعالى ذكره لآدم: {اسكن أنت وزوجك الجنة} «35» فأمرها بالثبات في الجنة، وضد الثبات الزوال، فسعى
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/235]
إبليس اللعين فأزالهما بالمعصية عن المكان الذي أمرهما الله بالثبات فيه مع الطاعة، فكان الزوال به أليق، لما ذكرنا، وأيضًا فإنه مطابق لما بعده في المعنى لأن بعده {فأخرجهما مما كانا فيه} والخروج عن المكان هو الزوال عنه، فلفظ الخروج عن الجنة يدل على الزوال عنها، وبذلك قرأ الحسن والأعرج وطلحة.
20- وعلة من قرأ بغير ألف الإجماع في قولهم: {إنما استزلهم الشيطان} «آل عمران 155»، أي: أكسبهم الزلة، فليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان، إنما قدرته على إدخال الإنسان في الزلل، فيكون ذلك سببًا إلى زواله من مكان إلى مكان بذنبه، ويقوي ذلك أنه قال في موضع آخر: {فوسوس لهما الشيطان} «الأعراف 20»، والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية، وليست الوسوسة بإزالة منه لهما من مكان إلى مكان، إنما هي تزين فعل المعصية، وهي الزلة لا الزوال، وايضًا فإنه قد يحتمل أن يكون معنى «فأزلهما» من: زل عن المكان، إذا تنحى عنه، فيكون في المعنى كقراءة من قرأ بألف من الزوال، والاختيار القراءة بغير ألف، لما ذكرنا من العلة، ولأنه قد يكون بمعنى «فأزالهما» فيتفق معنى القراءتين، ولأنه إجماع من القراء غير حمزة، ولأنه مروي عن ابن عباس، وبه قرأ أبو جعفر يزيد وشيبة، وأبو عبد الرحمن السلمي وقتادة ومجاهد وابن أبي إسحاق، وهي قراءة أهل المدينة، وأهل مكة، وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد، قال أبو عبيد من قرأ بغير ألف ذهب إلى الزلل في الدين كقوله: {فتزل قدم بعد ثبوتها} «النحل 94» ومن خفف أراد إزالتهما عن موضعهما). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/236]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (14- {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ} [آية/ 36]:-
بالألف، قرأها حمزة وحده.
ووجه قراءته هذه أنه عز وجل قال أمام ذلك {يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ}، وتأويل ذلك: أثبتا في الجنة فثبتا فأزالهما الشيطان، فحصل في ذلك مقابلة الثبات بالزوال الذي هو خلافه؛ لأن الثبات في المكان استقرار فيه، والزوال مفارقة عنه، ويقوي ذلك قوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}؛ لأن الإخراج قريب المعنى من الإزالة.
وقرأ الباقون {فَاَزَلَّهمَا} مشددة اللام من غير ألف.
فيجوز أن يكون المراد كسبهما الزلة، كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}، وأزل واستزل واحد، كأجاب
[الموضح: 268]
واستجاب.
ويجوز أن يكون {أَزَلَّهما} من قولهم: زل عن المكان إذا عثر عنه فلم يثبت عليه، فيكون حينئذٍ قريبًا في المعنى من أزالهما وأخرجهما؛ لأن الزلول عن الموضع انتقال عنه كالخروج). [الموضح: 269]
قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ).
اتفق القراء على هذه القراءة، إلا ما روي عن ابن كثير أنه قرأ: (فتلقّى آدم من ربّه كلماتٌ).
[معاني القراءات وعللها: 1/147]
قال أبو منصور: والقراءة برفع (آدم) ونصب (كلمات)؛ لأن آدم تعلم الكلمات من ربه، فقيل: تلقى الكلمات.
والعرب تقول: تلقيت هذا من فلان.
معناه: أن فهمي قبله من لفظه.
والذي قرأ به ابن كثير جائز في العربية، لأن ما تلقيته فقد تلقاك.
والقراءة الجيدة ما عليه العامة). [معاني القراءات وعللها: 1/148]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (27- وقوله تعالى: {فتلقى ءادم من ربه كلمات}.
قرأ ابن كثير، {فتلقى ءادم} بالنصب {كلمت} بالرفع، جعل الفعل للكلمات.
وقرأ الباقون {ءادم من ربه كلمات} بالنصب وإنما كسرت التاء، لأنها غير الأصلية، فمن جعل الفعل لآدم فحجته أن الله تعالى علم آدم الكلمات وأمره بهن فقبلها آدم وتلقاها.
وأخبرنا ابن دريد رحمه الله عليه قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/82]
قال: تلا أبو مهدي يوما آية فقال: تلقيتها عن عمرو، تلقاها عن أبيه تلقاها عن أبي هريرة، تلقاها عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، أي: أخذها وقبلها.
فأما ابن كثير فإنه جعل الفعل للكلمات؛ لأن كل من لقيته فقد لقيك، وكل من استقبلته فقد استقبلك، وفي ذلك قراءة ابن مسعود: {لا ينال عهدي الظالمون}، لأن العهد لما نال الظالمين، نال الظالمون العهد، وينشد:
قد سالم الحيات منه القدما
الأفعوان والشجاع الشجعما
لأن القدم لما سالمت الحيات سالمت الحيات القدم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/83]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ [البقرة/ 37].
في رفع الاسم ونصب الكلمات، ونصب الاسم ورفع الكلمات. فقرأ ابن كثير وحده: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ بنصب الاسم ورفع الكلمات. وقرأ الباقون: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ برفع الاسم ونصب الكلمات.
قال أبو علي: قالوا: لقي زيد خيرا، فتعدى الفعل إلى مفعول واحد، وفي التنزيل: فإذا لقيتم الّذين كفروا [الأنفال/ 15] وفيه إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا اللّه [الأنفال/ 45] ولقد لقينا من سفرنا هذا نصباً [الكهف/ 62] فإذا ضعّفت العين منه، تعدى إلى مفعولين،
[الحجة للقراء السبعة: 2/23]
فقلت: لقّيت زيدا خيرا، فيصير الاسم الذي كان الفاعل المفعول الأول، قال: ولقّاهم نضرةً وسروراً [الدهر/ 11] وليس تضعيف العين هنا، على حدّ فرّح وأفرحته، وخرّج وخرّجته وأخرجته، ألا ترى أنك إذا قلت: ألقيت كذا، فليس بمنقول من لقيته، كأشربته من شربته يدل على أنه ليس بمنقول منه، أنه لو كان كذلك لتعدى إلى مفعولين، كما تعدى لقّيت، فلما لم يتعدّ إلى الثاني إلا بحرف الجر نحو ألقيت بعض متاعك بعضه على بعض، علمت أنه استئناف بناء على حدة، وليست الهمزة همزة نقل كالتي في قولك:
ضربت زيدا، أو: أضربته إياه، وشربت الماء وأشربته الماء، فجعلوا ألقيته بمنزلة طرحته، في تعدّيه إلى مفعول واحد. فأما مصدر لقيت، فقال أبو زيد: لقيته لقية واحدة في التلاقي والقتال، ولقيته لقاء ولقيانا ولقاة.
فأمّا قوله: إنّ الّذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدّنيا [يونس/ 7] أي: بدلا من الآخرة كما قال: أرضيتم بالحياة الدّنيا من الآخرة [التوبة/ 38] ومعنى من الآخرة أي:
بدلا منها، كما قال: ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض يخلفون [الزخرف/ 60] أي: بدلا منكم، ومثل هذا قوله: إن يشأ يذهبكم أيّها النّاس ويأت بآخرين
[الحجة للقراء السبعة: 2/24]
[النساء/ 133] وقوله: إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرّيّة قومٍ آخرين [الأنعام/ 134].
وقال الراعي:
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة... ظلما ويكتب للأمير أفيلا
وقال آخر:
كسوناها من الرّيط اليماني... ملاء في بنائقها فضول
أي: بدلا من الريط.
ويكون قوله: لا يرجون لقاءنا [يونس/ 7]. أي: لا يخافون ذلك، لأنهم لا يؤمنون بها، فلا يوجلون منها كما يوجل المؤمنون المصدقون بها، المعنيون بقوله: إنّما أنت منذر من يخشاها [النازعات/ 45] وقال: وهم من السّاعة مشفقون [الأنبياء/ 49] فيكون الرجاء هنا الخوف كما قال:
... لا ترجون للّه وقاراً [نوح/ 13] وكما قال:
إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها
[الحجة للقراء السبعة: 2/25]
وقد يكون لا يرجون الرجاء الذي خلافه اليأس، كما قال: قد يئسوا من الآخرة كما يئس الكفّار من أصحاب القبور [الممتحنة/ 13] أي: من الآخرة، فحذف من الآخرة لتقدم ذكرها كما قال: يوم تبدّل الأرض غير الأرض والسّماوات [إبراهيم/ 48] فحذف المتأخّر لدلالة ما تقدم عليه، ويجوز أن تكون: كما يئس الكفار من حشر أصحاب القبور.
ومن ذلك قوله: وقال الّذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربّنا [الفرقان/ 21] وقال: قد خسر الّذين كذّبوا بلقاء اللّه [الأنعام/ 31] فالمعنى والله أعلم:
بالبعث، كما قال: بل كانوا لا يرجون نشوراً [الفرقان/ 40] ويقوي ذلك حتّى إذا جاءتهم السّاعة بغتةً [الأنعام/ 31] وعلى هذا قوله: بل هم بلقاء ربّهم كافرون [السجدة/ 10].
فأما قوله: تحيّتهم يوم يلقونه سلامٌ [الأحزاب/ 44] فالمعنى: يوم يلقون ثوابه، فهم خلاف من وصف بقوله:
فسوف يلقون غيًّا [مريم/ 59] وقوله: واتّقوا اللّه واعلموا أنّكم ملاقوه [البقرة/ 223] أي: ملاقون جزاءه، إن ثوابا وإن عقابا. وقوله: الّذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم [البقرة/ 46] أي ملاقو ثواب ربّهم، خلاف من وصف بقوله: لا يقدرون على شيءٍ ممّا كسبوا [البقرة/ 264] وقوله: حتّى إذا جاءه لم يجده شيئاً [النور/ 39]
[الحجة للقراء السبعة: 2/26]
ونحو ذلك مما يدل على إحباط الثّواب وأنهم إليه راجعون، أي: يصدّقون بالبعث ولا يكذبون به، كما حكي عن المنكرين له في نحو: أإذا متنا وكنّا تراباً وعظاماً أإنّا لمبعوثون [الواقعة/ 47] ونحو قولهم فيه: إن هذا إلّا أساطير الأوّلين [الأنعام/ 25].
والظنّ هاهنا العلم، وكذلك قول المؤمن: إنّي ظننت أنّي ملاقٍ حسابيه [الحاقة/ 20] فأما الآية الأولى التي هي قوله:
الّذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم [البقرة/ 46] أي: ثوابه، فقد يجوز أن لا يكون منهم القطع على ذلك والحتم به، بدلالة قول إبراهيم: والّذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدّين [الشعراء/ 82] فأما قوله: إنّي ظننت أنّي ملاقٍ حسابيه [الحاقة/ 20] فلا يكون إلا على العلم والتيقّن، لأن صحة الإيمان إنما يكون بالقطع على ذلك والتّيقّن به والشاكّ فيه لا إيمان له.
ويقال: لقيته ولاقيته، فمن لاقيت قوله: واعلموا أنّكم ملاقوه [البقرة/ 223] والّذين يظنّون أنّهم ملاقوا ربّهم [البقرة/ 46] وقال: تحيّتهم يوم يلقونه سلامٌ [الأحزاب/ 44] ولو كان يلاقونه كقوله: أنّكم ملاقوه [البقرة/ 223] كان حسنا، وقال: وإذا لقوا الّذين آمنوا
[الحجة للقراء السبعة: 2/27]
[البقرة/ 14] وقال:
يا نفس صبرا كلّ حيّ لاق كأنه: لاق منيّته وأجله.
وقال آخر:
فلاقى ابن أنثى يبتغي مثل ما ابتغى... من القوم مسقيّ السّمام حدائده
وقال:
وكان وإيّاها كحرّان لم يفق... عن الماء إذ لاقاه حتّى تقدّدا
وأما قوله: ولقد آتينا موسى الكتاب فلا تكن في مريةٍ من لقائه [السجدة/ 23] فيكون على إضافة المصدر إلى المفعول، مثل: بسؤال نعجتك [ص/ 24] وهم من بعد غلبهم
[الحجة للقراء السبعة: 2/28]
[الروم/ 3] لأن الضمير للرّوم وهم المغلوبون كأنه: لمّا قيل:
فخذها بقوّةٍ [الأعراف/ 145] أي بجد واجتهاد، أعلمنا أنه أخذ بما أمر به، وتلقاه بالقبول، فالمعنى: من لقاء موسى الكتاب، فأضيف المصدر إلى ضمير الكتاب، وفي ذلك مدح له على امتثاله ما أمر به، وتنبيه على الأخذ بمثل هذا الفعل كقوله: اتّبع ما أوحي إليك من ربّك [الأنعام/ 106] وفإذا قرأناه فاتّبع قرآنه [القيامة/ 18] ويجوز أن يكون الضمير لموسى، والمفعول به محذوف، كقوله: إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم [فاطر/ 14] فالدعاء مضاف إلى الفاعل، والمفعولون محذوفون. ومثل ذلك في إضافة المصدر إلى الفاعل، وحذف المفعول به قوله: لمقت اللّه أكبر من مقتكم أنفسكم [المؤمن/ 10] وهذا على قياس من قرأ: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ لأن موسى هو اللاقي، كما أن آدم هو المتلقّي.
ويجوز أن يكون الضمير لموسى في قوله: من لقائه ويكون الفاعل محذوفا، والمعنى من لقائك موسى، ويكون ذلك في الحشر والاجتماع للبعث، أو في الجنة، فيكون كقوله: فلا يصدّنّك عنها من لا يؤمن بها [طه/ 16] فأما قوله: لينذر يوم التّلاق [المؤمن/ 15] فإنه يكون يوم تلاقي الظالم والمظلوم، والجائر والعادل، وتلاقي الأمم مع شهدائها كقوله: ونزعنا من كلّ أمّةٍ شهيداً [القصص/ 75] ومثل يوم التلاقي قوله: يوم يجمعكم ليوم الجمع [التغابن/ 9] وقوله: ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه [النساء/ 87]. ونحو ذلك من الآي.
وقوله: ويوم تقوم السّاعة يومئذٍ يتفرّقون [الروم/ 14]، فإن
[الحجة للقراء السبعة: 2/29]
هذا التفرق بعد الاجتماع والتلاقي الذي أضيف اليوم إليهما، وذلك بعد الأخذ للمظلوم من الظالم، وقد بيّن هذا بقوله:
فريقٌ في الجنّة وفريقٌ في السّعير [الشورى/ 7] فأما قوله:
يوم يفرّ المرء من أخيه، وأمّه وأبيه [عبس/ 34، 35] وقد قال: يوم الجمع ويوم التّلاق، فليس يراد بالفرار المضاف إليه اليوم الشّراد ولا النّفار، وأنت قد تقول لمن تكلّم: فررت مما لزمك، لا تريد بذلك بعادا في المحل.
وتقدير يوم يفرّ المرء من أخيه: يوم يفر المرء من موالاة أخيه، أو من نصرته. كما كانوا، أو من مساءلة أخيه لاهتمامه بشأنه، فالفرار من موالاته يدل عليه قوله: إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا [البقرة/ 166] وأما الفرار من نصرته على حد ما كانوا يتناصرون في الدنيا، فيدل عليه قوله:
يوم لا يغني مولًى عن مولًى شيئاً ولا هم ينصرون إلّا من رحم اللّه [الدخان/ 41، 42] والمسألة يدل عليها قوله: ولا يسئل حميمٌ حميماً [المعارج/ 10].
وقد روي أنّ بعضهم قرأ: يوم التّناد [المؤمن/ 32] وكأنه اعتبر يوم يفرّ المرء من أخيه، فجعل التنادّ تفاعلا من ندّ البعير: إذا شرد ونفر، وليس ذلك بالوجه، ألا ترى أنه ليس يسهل أن تقول: نددت من ما لزمك، ولا ناددت منه، كما تقول: فررت منه؟ ونرى سيبويه يستعمل في هذا المعنى فرّ كثيرا، ولا يستعمل ندّ، فليس هذا الاعتبار إذا بالوجه. وأما
[الحجة للقراء السبعة: 2/30]
التنادي الذي عليه الكثرة والجمهور، فإنه يدل عليه قوله: يوم يدع الدّاع إلى شيءٍ نكرٍ [القمر/ 6] وقوله: يوم ندعوا كلّ أناسٍ بإمامهم [الإسراء/ 71] ويوم يدعوكم فتستجيبون بحمده [الاسراء/ 52]. فالتنادي أشبه بهذه الآي. ألا ترى أن الدعاء والنداء يتقاربان به، إذ نادى ربّه نداءً خفيًّا [مريم/ 3] فنادته الملائكة [آل عمران/ 39] وقال: فدعا ربّه أنّي مغلوبٌ [القمر/ 10] فقد استعمل كلّ واحد من النداء والدعاء في موضع الآخر، وليس التنادّ والفرار كذلك.
وأما قوله: (كلمات) فالكلمات: جمع كلمة، والكلمة:
اسم الجنس، لوقوعها على الكثير من ذلك والقليل، قالوا:
قال امرؤ القيس في كلمته، يعنون قصيدته، وقال قسّ في كلمته، يعنون خطبته. وقال ابن الأعرابي: يقال: لفلان كلمة شاعرة، أي: قصيدة. وقد قيل لكل واحد من الكلم الثلاث:
كلمة، فالكلمة كأنها اسم الجنس، لتناولها الكثير والقليل.
كما أن الليل لما كان كذلك وقع على الكثير منه أو القليل، فالكثير نحو قوله: وجعلنا اللّيل لباساً [النبأ/ 10] ومن رحمته جعل لكم اللّيل والنّهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله [القصص/ 73] ومن ثمّ جعله سيبويه في جواب كم، إذا قيل: سير عليه الليل والنهار.
وأما وقوعه على القليل وما هو دون ليلة فنحو قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/31]
وإنّكم لتمرّون عليهم مصبحين وباللّيل [الصافات/ 137 - 138].
فكذلك الكلمة قد وقعت على القليل والكثير. فأما وقوعها على الكثير فنحو ما قدمناه، وأما وقوعها على القليل، فإنّ سيبويه قد أوقعها على الاسم المفرد، والفعل المفرد، والحرف المفرد. فأما الكلام: فإن سيبويه قد استعمله فيما كان مؤلّفا من هذه الكلم، فقال: لو قلت: إن يضرب يأتينا، لم يكن كلاما، وقال أيضا: إنما يحكى: فقلت ونحوه، ما كان كلاما، لا قولا. فأوقع الكلام على المتألّف، وعلى هذا الذي استعمله جاء التنزيل، قال تعالى: سيقول المخلّفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتّبعكم يريدون أن يبدّلوا كلام اللّه قل لن تتّبعونا [الفتح/ 15] فالكلام المذكور هنا والله أعلم يعنى به قوله: فإن رجعك اللّه إلى طائفةٍ منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوًّا [التوبة/ 83] ألا ترى قوله: كذلكم قال اللّه من قبل [الفتح/ 15]. والكلمات المذكورة في قوله: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ [البقرة/ 37] فيما فسّر هي قولهما: ربّنا ظلمنا أنفسنا الآية [الأعراف/ 22]. وسئل بعض سلف المسلمين عما يقوله المذنب، فقال: يقول ما قال أبوه:
ظلمنا أنفسنا وما قاله موسى: قال ربّ إنّي ظلمت نفسي [القصص/ 16] وما قاله يونس: لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين [الأنبياء/ 87]
[الحجة للقراء السبعة: 2/32]
وما قالته الملكة: إنّي ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان [النمل/ 44] وأما الكلمات في قوله تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ فأتمّهنّ [البقرة/ 124] فالمراد بها انقياده لأشياء امتحن بها وأخذت عليه، منها: الكوكب، والشمس، والقمر، والهجرة، في قوله: إنّي مهاجرٌ إلى ربّي [العنكبوت/ 26] والختان، وعزمه على ذبح ابنه، فالمعنى: وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بإقامة كلمات [أو بتوفية كلمات، والتقدير ذوي كلمات] أي: يعبّر بها عن هذه الأشياء المسمّيات وعلى هذا وصف في قوله: وإبراهيم الّذي وفّى [النجم/ 37].
فإن قلت: فهل يجوز أن يكون الكلم المتكلّم به، كما أنّ الصيد هو المصيد، والضرب المضروب، والنسخ المنسوخ؟ فالقول: إنّ هذا إنما جاء في المصادر، وليس قولهم الكلم بمصدر. فإن قلت: فقد أجرى قوم من العلماء ما كان من بناء المصدر مجرى المصدر، واستشهدوا على ذلك بأشياء، منها قولهم:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا
[الحجة للقراء السبعة: 2/33]
فالقول: إنا لم نعلم لهم نصّا على ذلك. ومما ينبغي أن يحمل فيه الكلمات على الشرع كقوله: وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلماتٍ قوله: وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه [التحريم/ 12] فالكلمات والله أعلم تكون: الشرائع التي شرعت لها دون القول، لأن ذلك قد استغرقه قوله تعالى: وكتبه فكأن المعنى صدّقت بالشرائع فأخذت بها وصدّقت بالكتب فلم تكذّب بها. ومما يحمل من الكلم على أنّه قول، قوله تعالى: إنّما المسيح عيسى ابن مريم رسول اللّه وكلمته ألقاها إلى مريم [النساء/ 171] فهذا- والله أعلم- يعني به.
قوله: خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون [آل عمران/ 59] أي: قال من أجل خلقه: كن، فيكون، فسمّي كلمة لحدوثه عند قول ذلك.
وقوله: وتمّت كلمت ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا [الأعراف/ 137] هي- والله أعلم- قوله: ونريد أن نمنّ على الّذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّةً الآية [القصص/ 5] وقوله: وتمّت كلمة ربّك صدقاً وعدلًا لا مبدّل لكلماته [الأنعام/ 115] وهو كقوله: ما يبدّل القول لديّ [ق/ 29] أي: لا خلف فيه ولا تبديل له، والكلمات تقديرها: ذوي الكلمات أي ما عبر عنه بها من وعد ووعيد، وثواب وعقاب. وقوله: وألزمهم كلمة التّقوى
[الحجة للقراء السبعة: 2/34]
[الفتح/ 26] [حدثنا يوسف بن يعقوب الأزرق بإسناده] عن مجاهد، قال: لا إله إلا الله. وقد يجوز أن تكون كلمة التقوى: شرائعه، التي أمروا بالأخذ لها والتمسك بها. وأما قوله: واللّه أعلم بأعدائكم وكفى باللّه وليًّا وكفى باللّه نصيراً من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه [النساء/ 45 - 46].
فسألني أحد شيوخنا عنه، فأجبت بأنّ التقدير: وكفى بالله نصيرا من الذين هادوا، فقوله: من الّذين هادوا متعلق بالنّصرة، كقوله: فمن ينصرنا من بأس اللّه إن جاءنا [المؤمن/ 29] أي: من يمنعنا؟ فيكون: يحرّفون الكلم- على هذا- حالا من الذين هادوا، تقديره: وكفى بالله مانعا لهم منكم محرّفين الكلم. وأكثر الناس فيما علمت يذهبون إلى أن المعنى: من الذين هادوا يحرّفون الكلم، أي: فريق يحرفون الكلم، فحذف الموصوف، وأقيمت الصفة مقامه، كقوله: ومن آياته يريكم البرق [الروم/ 24] أي:
أنه يريكم فيها البرق، أو يريكموها البرق، وهذا أشبه لقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/35]
ومن الّذين هادوا سمّاعون للكذب سمّاعون لقومٍ آخرين لم يأتوك، يحرّفون الكلم [المائدة/ 41] فكما أن يحرفون في هذه الآية صفة لقوله: سمّاعون كأنه قال: ومن الذين هادوا فريق سمّاعون للكذب، أي: يسمعون ليكذبوا فيما يسمعونه منه، ويحرّفونه عنه، سمّاعون لقوم آخرين لم يأتوك، يحرفون الكلم.
فكما أن يحرفون هنا، صفة لقوله: سمّاعون، كذلك يكون في الآية الأخرى. فإن قلت: فلم لا يكون حالا من الضمير الذي في قوله: لم يأتوك؟ فإن ذلك ليس بالسهل في المعنى، ألا ترى أن المعنى: ومن الذين هادوا فريق يسمعون من النبي صلّى الله عليه وسلّم، ليكذبوا فيما يسمعونه، ويحرفون بكذبهم فيه، فإذا كان كذلك لم يكن حالا من الضمير الذي في: لم يأتوك، لأنهم إذا لم يأتوا لم يسمعوا فيحرفوا، فإذا كان كذلك، كان وصفا ولم يكن حالا، وتكون، يحرفون: على قياس ما قلناه، في قوله: وكفى باللّه نصيراً، من الّذين هادوا يحرّفون [النساء/ 45 - 46] حالا من الضمير الذي في اسم الفاعل، كأنه: سمّاعون محرفين للكلم، أي: مقدرين تحريفه، كقوله: معه صقر صائدا به غدا. وهدياً بالغ الكعبة [المائدة/ 95] وقد يجوز أن يكون التحريف المعنيّ بقوله:
من الّذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه [النساء/ 46] ما كانوا يقصدونه في قولهم: راعنا [البقرة/ 104] من السّب، وخلاف ما يقصده المسلمون، إذا خاطبوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من المراعاة. قال أبو زيد: «قال الصّقيل: ما كلّمت فلانا إلا
[الحجة للقراء السبعة: 2/36]
مشاورة، تقول: أشرت إليه وأشار إليّ» فهذا على أمرين:
أحدهما: أن يكون استثناء منقطعا، والآخر على: كلامك المشاورة، كقولك: عتابك السيف. فأما النطق والمنطق فكان القياس في المنطق فتح العين، لأنه من نطق، لكنه قد جاء على الكسر كما قال: إليّ مرجعكم [آل عمران/ 55، لقمان/ 15] وقال: ويسئلونك عن المحيض [البقرة/ 222] وقد استعمل رؤبة الكلام في موضع النطق فقال:
لو أنني أوتيت علم الحكل... علم سليمان كلام النمل
فهذا إنما أراد به قوله: وورث سليمان داود وقال يا أيّها النّاس علّمنا منطق الطّير [النمل/ 16] فعبّر بالكلام بما عبّر عنه بالمنطق. وقول أوس:
ففاءوا ولو أسطو على أمّ بعضهم... أصاخ فلم ينطق ولم يتكلّم
على هذا تكرير وقال: لقد علمت ما هؤلاء ينطقون [الأنبياء/ 65] لأنها جماد لا كلام لها. وقال: يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون
[الحجة للقراء السبعة: 2/37]
[النور/ 24] والشهادة: كلام وقول. وقال: وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا اللّه الّذي أنطق كلّ شيءٍ [فصلت/ 21].
ومن ذلك قوله: يومئذٍ يودّ الّذين كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون اللّه حديثاً [النساء/ 42] لأن ما ذكر من جوارحهم تشهد عليهم، فقيل: لا يكتمون، لمّا كان إظهار ذلك وإبداؤه بجوارحهم.
والقول، والكلام، والمنطق، يستعمل كل واحد من ذلك في موضع الآخر ويعبر بكل واحد منها كما عبر بالآخر، قال:
وأنّهم يقولون ما لا يفعلون [الشعراء/ 226] وقال: علّمنا منطق الطّير [النمل/ 16] وقال عن الهدهد: فقال أحطت بما لم تحط به [النمل/ 22] فأما قوله: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقّ [الجاثية/ 28] فهو في المعنى: كقوله: مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلّا أحصاها [الكهف/ 49] وقوله: وكلّ شيءٍ أحصيناه كتاباً [النبأ/ 29] أي: كل شيء من أعمالهم، كما قال: وكلّ شيءٍ فعلوه في الزّبر، وكلّ صغيرٍ وكبيرٍ مستطرٌ [القمر/ 52 - 53] وقال: أحصاه اللّه ونسوه [المجادلة/ 6] وقال: وكلّ إنسانٍ ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً [الإسراء/ 13] وقال: هنالك تبلوا كلّ نفسٍ ما أسلفت [يونس/ 30].
وأنشد أبو الحسن:
[الحجة للقراء السبعة: 2/38]
صدّها منطق الدّجاج عن القص*- د وصوت الناقوس فاجتنبتنا وأنشد:
فصبّحت والطير لم تكلّم خابية طمّت بسيل مفعم وقال:
فلم ينطق الديك حتى ملأ... ت كوب الرّباب له فاستدارا
فوضع كلّ واحد من الكلام والنطق موضع الصوت في قوله:
لمّا تذكّرت بالدّيرين أرّقني... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
وإنما يعني: انتظاره صوت الديكة. ولم نر النطق مسندا إلى القديم. كما أضيف إليه الكلام في قوله: حتّى يسمع كلام اللّه [التوبة/ 6] وقد جاءت هذه الكلمة في اللغة فيما يطيف بالشيء ويحيط به كقوله: النّطاق والمنطقة. وقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/39]
من خمر ذي نطف أغنّ منطّق... وافى بها لدراهم الأسجاد
فإذا كان كذلك لم يكن قول أوس: «لم ينطق ولم يتكلّم» تكريرا، وكان كلّ واحد منهما لمعنى غير الآخر.
وأنشد بعض البغداذيين:
فإن تنطق الهجراء أو تشر في الخنا... فإنّ البغاث الأطحل اللّون ينطق
فأسند إلى البغاث النطق.
الإعراب
الأفعال المتعدية إلى المفعول به على ثلاثة أضرب:
منها ما يجوز فيه أن يكون الفاعل له مفعولا به. ومنها: ما يجوز أن يكون المفعول به فاعلا له، نحو: أكرم بشر بكرا، وشتم زيد عمرا وضرب عبد الله زيدا.
ومنها: ما لا يكون فيه المفعول به فاعلا له نحو: دققت
[الحجة للقراء السبعة: 2/40]
الثوب، وأكلت الخبز، وسرقت درهما وأعطيت دينارا، وأمكنني الغوص.
ومنها: ما يكون إسناده إلى الفاعل في المعنى، كإسناده إلى المفعول به، وذلك نحو: أصبت، ونلت، وتلقّيت، تقول: نالني خير، ونلت خيرا، وأصابني خير، وأصبت خيرا، ولقيني زيد، ولقيت زيدا، وتلقاني، وتلقيته، قال:
إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنا... أصبت حليما أو أصابك جاهل
وقال: وقد بلغني الكبر [آل عمران/ 40] وقد بلغت من الكبر عتيًّا [مريم/ 8]. وكذلك: أفضيت إليه، وأفضى إليّ، وقال: وقد أفضى بعضكم إلى بعضٍ [النساء/ 21]. وإذا كانت معاني هذه الأفعال على ما ذكرنا، فنصب ابن كثير لآدم ورفعه الكلمات في المعنى، كقول من رفع آدم ونصب الكلمات.
ومن حجّة من رفع: أنّ عليه الأكثر، ومما يشهد للرفع قوله: إذ تلقّونه بألسنتكم [النور/ 15] فأسند الفعل إلى المخاطبين والمفعول به كلام يتلقّى، كما أنّ الذي تلقّاه آدم كلام متلقّى. فكما أسند الفعل إلى المخاطبين، فجعل التلقّي
[الحجة للقراء السبعة: 2/41]
لهم، كذلك يلزم أن يسند الفعل إلى آدم، فيجعل التّلقّي له دون الكلمات. ومن ذلك قول القائل: في آيات تلقّيتها عن عمّي، تلقّاها عن أبي هريرة. فجعل الكلام مفعولا به، وأسند الفعل إلى الآخذ له دون الكلام، فكذلك ينبغي أن يكون في الآية.
ومما يقوّي الرفع في آدم أنّ أبا عبيدة قال في تأويل قوله: فتلقّى آدم من ربّه كلماتٍ [البقرة/ 37] أي: قبلها.
فإذا كان آدم القابل، فالكلمات مقبولة. ومثل هذه الآية في إسناد الفعل فيها مرّة إلى الكلمات ومرة إلى آدم قوله: لا ينال عهدي الظّالمين [البقرة/ 124] وفي حرف عبد الله فيما قيل:
(لا ينال عهدي الظالمون) فلمن رفع أن يقول: ولا ينالون من عدوٍّ نيلًا [التوبة/ 120] فأسند الفعل إليهم، ولم يقل: ولا ينالهم من عدو نيل، والنّيل: يكون مصدرا كالبيع. ويكون الشيء الذي ينال، مثل الخلق، والصّيد، وضرب الأمير. وقوله:
تفرجة القلب قليل النيل.
يجوز أن يكون المعنى: قليل ما ينال، كما يقال: قليل الكسب، ويكون قليل النيل: قليل ما ينيل، وكلاهما ذمّ.
وقال: لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون [آل عمران/ 92].
[الحجة للقراء السبعة: 2/42]
وحجّة من قرأ بالنصب قوله: لا ينالهم اللّه برحمةٍ [الأعراف/ 49] ولم يقل لا ينالون الله برحمة كما قال: ولكن يناله التّقوى منكم [الحج/ 37] فكما أسند الفعل إلى التقوى دون اسم الله سبحانه، كذلك كان يمكن لا ينالون الله برحمة أي: مرحوما به، يرحمون عباده به، وكأنّ المعنى في: لن ينال اللّه لحومها [الحج/ 37] لن ينال قربة الله أو ثواب الله قربة لحومها ودمائها، أو ثوابهما، لأن ذلك ليس بقربة على حدّ ما يتقرّبون به، ويتنسّكون فلا يقبله، ولا يثيب عليه، من حيث كان معصية، ولكن يقبل من ذلك ما كان عن تقوى الله وطاعته دون ما كان من المعاصي التي قد كرهها ونهى عنها. وكأنّ المراد بينال: معنى القبول. كما قال: ألم يعلموا أنّ اللّه هو يقبل التّوبة عن عباده ويأخذ الصّدقات [التوبة/ 104] فمعنى قبوله التوبة أن يبطل به ما كان يستحقّ من العقوبات التي تكفّرها التوبة، وأخذ الصّدقات هو الجزاء عليها والإثابة من أجلها). [الحجة للقراء السبعة: 2/43]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فتلقى آدم من ربه كلمات} 37
قرأ ابن كثير فتلقى آدم نصب كلمات رفع جعل الفعل للكلمات لأنّها تلقت آدم عليه السّلام وحجته أن العرب تقول تلقيت زيدا وتلقاني زيد والمعنى واحد لأن من لقيته فقد لقيك وما نالك فقد نلته
[حجة القراءات: 94]
وقرأ الباقون {فتلقى آدم من ربه كلمات} آدم رفع بفعله لأنّه تلقى من ربه الكلمات أي أخذها منه وحفظها وفهمها والعرب تقول تلقيت هذا من فلان المعنى إن فهمي قبلها منه وحجتهم ما روي في التّفسير في تأويل قوله {فتلقى آدم من ربه كلمات} أي قبلها فإذا كان آدم القابل فالكلمات مقبولة). [حجة القراءات: 95]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (21- قوله: {فتلقى آدم من ربه كلمات} قرأه ابن كثير بنصب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/236]
«آدم» ورفع «كلمات» وقرأه الباقون برفع آدم، ونصب «الكلمات» والتاء مكسورة في حال النصب، على سنن العربية.
وعلة من نصب «آدم» ورفع «الكلمات» أنه جعل الكلمات استنقذت «آدم» بتوفيق الله له، لقوله إياها، والدعاء بها، فتاب الله عليه، وأيضًا فإنه لما كان الله، جل ذكره، من أجل الكلمات تاب الله عليه، بتوفيقه إياه لقوله لها كانت هي التي أنقذته، ويسرت له التوبة من الله، فهي الفاعلة، وهي المستنقذ بها، وكان الأصل أن يقال على هذه القراءة: فتلقت آدم من ربه كلمات لكن لما كان بعد ما بين المؤنث وفعله حسن حذف علامة التأنيث، وهو أصل يجري في كل القرآن، إذا جعل فعل المؤنث بغير علامة، وقيل: إنما ذكر، لأنه محمول على المعنى؛ لأن الكلام والكلمات واحد، فحمل على الكلام فذكر، وقيل: ذكر لأن تأنيث الكلمات غير حقيقي؛ إذ لا ذكر لها من لفظها، وبذلك قرأ ابن عباس ومجاهد وأهل مكة.
22- وعلة من قرأ برفع «آدم» ونصب «الكلمات» أنه جعل «آدم» هو الذي تلقى الكلمات؛ لأنه هو الذي قبلها ودعا بها، وعمل بها، فتاب الله عليه، فهو الفاعل لقبوله الكلمات، فالمعنى على ذلك، وهو الخطاب وفي تقديم «آدم» على الكلمات تقوية أنه الفاعل، وقد قال أبو عبيد في معنى {فتلقى آدم من ربه كلمات} معناه: قبلها، فإذا كان آدم قابلا فالكلام مقبول، فهو المفعول وآدم الفاعل، وعليها الجماعة، وهي قراءة الحسن والأعرج وشيبة وأهل المدينة وعيسى بن عمر والأعمش، وهي قراءة العامة، وهي اختيار أبي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/237]
عبيد وغيره). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/238]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (15- {فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} [آية/ 37]:-
بنصب {آدَمَ} ورفع الكلمات، قرأها ابن كثير وحده.
ووجهه أن {تَلَقّى} من الأفعال التي مفعولها فاعل، وفاعلها مفعول، وذلك لأنك إذا أسندتها إلى أيهما شئت لا يتغير المعنى، وذلك نحو: أصبت خيرًا وأصابني خير، ونلت مالاً ونالني مال، وتلقيت زيدًا وتلقاني زيد؛ لأن ما تلقيته فقد تلقاك، فإذن هذه وقراءة الجمهور سواءً في المعنى.
وقرأ الباقون {آدَمُ} بالرفع و{كَلِمَاتٍ} بالنصب، وهو أقوى وأحسن في العربية؛ لأن التلقي ههنا بمعنى التلقن والقبول، فآدم هو القابل والمتلقن، والكلمات مقبولة متلقنة، يؤيد ذلك قوله تعالى {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} فأسند الفعل إلى المخاطبين، وجعل القول مفعولاً به). [الموضح: 269]
قوله تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون (38)
فالقراءة بتنوين (فلا خوفٌ).
قال أبو منصور: وهو الجيد عند النحويين، المختار إذا تكرر حرف النفي، وقرأ يعقوب وحده (فلا خوف) وهو جائز في العربية، وإن كان المختار ما عليه الجماعة). [معاني القراءات وعللها: 1/148]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (28- وقوله تعالى: {فمن اتبع هداي}
اتفق القراء السبعة على فتح الياء من {هداي} لالتقاء الساكنين، وهما الألف والياء، ففتحت الياء على أصل الكلمة، ومثله: {بشراي}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/83]
{ومحياي} إلا ورشًا فإنه روى عن نافع {هداي} {وبشراي} بإسكان الياء، وإنما جمع بين ساكنين؛ لأن الألف قبل الياء حرف لين، كما فعل ذلك أبو عمرو في قوله {واللائي يئسن} بإسكان الياء، والاختيار فتح الياء، ومما لا يجوز ...... بحذف الياء الأخيرة، وقد ذكرته في (الأعراف).
وأما قوله: {وقولوا للناس حسنا} بالتنوين فالألف في الوقف عوض من التنوين ولا يجوز الإمالة فيها، قال الأخفش: وقرأ بعضهم {وقولوا للناس حسنى}، مثل: {ولله الأسماء الحسنى}، جعلها ألف التأنيث، قال البصريون: هذا غلط؛ لأن الاسم الذي على (فعلى) لا يجوز إلا بالألف واللام مثل: الصغرى والكبرى.
قال أبو عبد الله: قد يجوز؛ لأن الخليل وسيبويه ذكرا أن قوله: {وأخر متشابهات} جمع أخرى ولم يصرف آخر لأنه معدول من الألف واللام فيجوز أن يكون (حسنى) معدولاً، وقوله: {قولوا للناس حسنا} اليهود والنصارى، أي: لا تجادلوهم إلا بالتي هي أحسن. وقال آخرون: يعني جميع الناس.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/84]
قال أبو عبد الله: والاختيار {وقولوا للناس حسنا} وإن كان حمزة قد قرأ {حسنى} لأن جعفر بن محمد – عليهما السلام – سأل رجلاً كيف تقرأ: {وقولوا للناس حسنا} أو {حسنى} فقال: ابن سيرين أقرأني {حسنا} فقال: أما نحن معشر أهل البيت فنقرأ {حسنى}.
وأما قوله: {ولا ءآمين البيت الحرام} فالياء التي قبل النون علامة الجميع، وقرأ الأعمش {ولا ءآمي البيت الحرام} مثل: {حاضري المسجد الحرام} فأسقط النون للإضافة، والياء سقطت لسكونها ولسكون اللام لفظًا، وتثبت خطا، فالوقف على هذه القراءة {آمي} بالياء، ولولا خلاف المصحف لكانت قراءة جيدة.
وأما قوله: {من نبإي المرسلين} و{من تلقائي نفسي} فكتبتا في المصحف {من نباي} و{تلقاي} بالياء، وقد ذكرت علته في (الأعراف).
وأما قوله: {وهو عليهم عمى} فالوقف عليها بالألف ولا تكون عوضًا في التنوين، وهي لام الفعل أصلية، والأصل: عمي، فانقلبت الياء ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
وقرأ ابن عباس: {وهو عليهم عم} فعلى هذه القراءة هي بالألف، وأما قوله: {يا ويلتا أعجزت} هذه الألف مبدلة من ياء والأصل يا ويلتي، كما قالوا: «يا ربي» و«يا ربا»، و«يا عجبي»، و«يا عجبا»، و«يا حسرتي»
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/85]
و «يا حسرتا»، فأما قوله: {يا أبت إني رأيت} فيجوز أن يكون أراد: «يا أبتي» ثم قلب فقال: «يا أبتا ثم حذف الألف».
ويجوز أن يكون أراد: «يا أبتاه».
وفيه قول ثالث: قال قطرب: أراد يا أبتا بالتنوين فحذف، كما قال الشاعر:
* يا دار أقوت بعد ساكنيها *
أراد: دارًا، وقال غيره من البصريين: أخطأ قطرب: لأن المنادي، المنكور منصوب معرب منون، ولا يجوز حذف التنوين فالرواية:
* يا دار أقوت .... *
بالرفع. وأما قوله: {هذا صراط علي مستقيم} الياء الأخيرة ياء الإضافة أدغمت فيها الياء الأولى التي في {على} وقرأ ابن سيرين: {صراط علي مستقيم} أي: رفيع، فالياء في هذه القراءة مبدلة من واو، والأصل: عليو، لأنه من علا يعلو فانقلبت الواو ياء، لسكون الياء، وأدغمت الياء في الياء. وأما قوله: {إنها لإحدى الكبر} «فإحدى» مونثة أحد، والياء التي في آخرها ألف مقصورة علامة التأنيث، وقرأ ابن كثير {لاحدى الكبر} بغير همزة، حدثنا بذلك ابن مجاهد، عن ابن أبي خيثمة، وإدريس، عن
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/86]
خلفٍ؛ عن أهل مكة كأنه حذف الهمزة اختصارًا و{نذيرًا للبشر} نصب على الحال، وقال الفراء: معناه: قم يا محمد نذيرًا للبشر، وفي قراءة أُبَيِّ {نذير للبشر} بالرفع.
وكل ما ورد في القرآن من نحو هذا فيجوز فيه الرفع على البدل، والنصب على الحال، والمدح والذم كقوله: {إنها لظى * نزاعة للشوى} و{نزاعة} و{إن هذه أمتكم أمة واحدة}، قرأ الحسن: {أمة واحدة} وأما قوله: {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى} أي: مختلفة متفرقة، فالياء في آخر {شتى} ألف مقصورة علم التأنيث، وقرأ عبد الله: {وقلوبهم أشت} أي: أشد اختلافًا، وفي هذه السورة حرفان أيضًا عن عبد الله، {خالدان فيها} وفي قراءتنا {خالدين} لأن الخبر إذا وقع بين
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/87]
صفتين متفقتين كان الاختيار فيه النصب كقولك: إن زيدًا في الدار قائمًا فيها، ويجوز الرفع عند البصريين، ولا يجوز عند الكوفيين الرفع إلا مع الصفة المختلفة كقولك: إن زيدًا في الدار راغب فيك.
والحرف الثاني: {ولا تجعل في قلوبنا غمرا للذين آمنوا} وفي قراءتنا: {غلا}.
وحرف ثالث عن ابن مسعود: {أو تركتموها قوما}.
وأما قوله: {ولا يأتل أولو الفضل منكم} يفتعل من الألية وهو القسم، سقطت الياء للجزم، وقرأ أبو جعفر المدني {ولا يتأل أولو الفضل منكم} بفتح اللام، فالألف ساقطة للجزم في هذه القراءة والأصل: يتألى يتفعل من الألية أيضًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من يتأل على الله يكذبه» وتقول العرب في الإيلاء من قوله: {للذين يؤلون من نسائهم} الألوة والألوة والألية، وفي العود يقال: مجامرهم الألوة بتشديد الواو.
حدثني ابن عرفة قال: حدثنا محمد بن يونس، عن الأصمعي قال:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/88]
اطلع أعرابي في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ألا دفنتم رسول الله في سفط = من الألوة أحوى ملبسًا ذهبا
يقال للعود الذي يتبخر به الكباء والمندل والألوة، والمجمر والقطر، قال امرؤ القيس:
كأن المدام وصوب الغمام = وريح الخزامى ونشر القطر
يعل به برد أنيابها = إذا طرب الطائر المستحر
وأما قوله {سرابيلهم من قطران} فالقطران اسم واحد آخره نون مثل الظربان وهي: دويبة منتنة الريح، ومن قرأ على قراءة عكرمة: {من قطر آن} فالقطر: النحاس، والآني: الذي قد انتهى حره، من قوله تعالى: {من عين آنية} أي: حارة، ففي هذه القراءة آخر الاسم ياء سقطت لسكونها وسكون التنوين مثل {فاقض ما أنت قاض}
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/89]
حدثني ابن مجاهد عن السمري عن الفراء عن أبي بكر بن عياش عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنه قرأ: {قطر آن}.
وأما قوله: {واستوت على الجودي} بتشديد الياء فهو (فُعْلِيٌّ) مثل: بُخْتِيّ وكرسي وهو اسم جبلٍ. ذكر الفراء أن بعضهم. قرأ {على الجودي} بإرسال ........................................................................................................................................................
كانت عاملة جعلت «لا» عاملة، ولما كانت جوابا لـ «هل» ولم تعملها إذ كانت «هل» غير عاملة، فإذا رفعت نوَّنتَ، وإذا نصبتَ لم يجز التنوين، أعني فيما ولى «لا» وقد مرَّت علَّةُ هذا في قوله: {فلا رفث ولا فسوق}.
فإن سأل سائل فقال: فإن كان الأمر على ما قد زعمت فما وجه قول جرير:
ألم تعلم مسرحي القوافي = فلا عيا بهن ولا اجتلابا؟
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/90]
فالجواب في ذلك: ما قال سيبويه: إن عيا واجتلابا هما مصدران، ومعناه: فلا أعيا عيا ولا أجتلب اجتلابا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/91]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأبي الطفيل، وعبد الله بن أبي إسحاق، وعاصم الجحدري، وعيسى بن عمر الثقفي: [هُدَيَّ].
قال أبو الفتح: هذه لغة فاشية في هذيل وغيرهم؛ أن يقلبوا الألف من آخر المقصور إذا أضيف إلى ياء المتكلم ياء. قال الهذلي:
سبقوا هَوَيَّ وأعنقوا لهواهم ... فتُخِرِّمُوا ولكل جنب مَصْرَعُ
وروينا عن قطرب قول الشاعر:
يطوف بي عِكَبٌّ في مَعَدٍّ ... ويطعن بالصُّمُلَّة في قَفَيَّا
فإن لم تَثْأَرَا لي من عِكَبٍّ ... فلا أرويتما أبدًا صَدَيَّا
قال لي أبو علي: وجه قلب هذه الألف لوقوع ياء ضمير المتكلم بعدها، أنه موضع ينكسر فيه الصحيح، نحو: هذا غلامي، ورأيت صاحبي، فلما لم يتمكنوا من كسر الألف قلبوها ياء، فقالوا: هذه عَصَيّ، وهذا فتيّ؛ أي: عصاي وفتاي، وشبهوا ذلك بقولك: مررت بالزيدين، لما لم يتمكنوا من كسر الألف للجر قلبوها ياء، ولا يجوز على هذا أن تقلب ألف التثنية لهذه الياء، فتقول: هذان غلاميّ؛ لما فيه من زوال علم الرفع، ولو كانت ألف عصا ونحوها علمًا للرفع لم يجز فيها عصَيّ.
[المحتسب: 1/76]
ومنهم من يبدل هذه الألفات في الوقف ياءات، فيقول: هذه عصيْ، ورأيت حبليْ، وهذه رَجَيْ؛ أي: الناحية؛ يريد رجًا.
ومنهم من يبدلها في الوقف أيضًا واوًا، فيقول: هذه عَصَو وأَفعَو وحُبَلَو.
ومنهم من يبدلها في الوصل واوًا أيضًا، فيقول: هذه حُبْلَو يا فتى.
ومن البدل في الوقف ياء ما أنشده بعض أصحابنا؛ وهو محمد بن حبيب:
إن لِطيٍّ نسوة الفَضيْ ... يمنعهن الله ممن قد طغيْ
بالمشرفيات وطعن بالقَنيْ ... يا حبذا جفانك ابن قَحْطَبيْ
وحبذا قدورك الْمُنْصَّبيْ ... كأن صوت غليها إذا غَلَيْ
صوت جمال هَدَرَيْ فَقَبْقَبيْ
أراد: ابن قحطبة، فإما أن يكون حذف الهاء للترخيم في غير النداء، فبقيت الباء مفتوحة، فأشبع الفتحة للقافية؛ فصارت قحطبًا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، وإما أن يكون أبدل الهاء ألفًا؛ فصارت قحطبة إلى قحطبا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، وعلى ذلك يجوز أيضًا أن يكون قوله:
كفعل الْهِرِّ يحترِشُ العَظايا
أراد: العَظَاية، ثم أبدل الهاء ألفًا؛ فصار العظايا.
وإن شئت قلت: شبه ألف النصب بهاء التأنيث فقال: العظايا، كما تقول: العظاية، وهذا قول أبي عثمان.
[المحتسب: 1/77]
وفيه قول لي ثالث؛ وهو أن يكون العَظايا جمع عَظَاية على التكسير، كما تقول في حمامة حمائم، فعظايا على هذا كمطايا وحوايا جمع حَوِيَّة.
وأما قوله: الْمُنَصَّبَيْ فأراد المنصبة، فأبدل الهاء ألفًا، ثم أبدل الألف ياء على ما مضى، ولا يجوز أن يكون أراد هنا الترخيم؛ لأنه فيه لام التعريف، وما فيه هذه اللام فلا يجوز نداؤه أصلًا، فهو من الترخيم أبعد، وهذا يفسد قول من قال في قول العجاج:
أَوالِفًا مكة من وُرْقِ الْحَمِي
إنه أراد الحمام ثم رخم؛ لأن ما فيه لام التعريف لا يُنادى اصلًا فكيف يرخم؟
وأما قوله: هَدَرَيْ، فإنه أراد هدر، ثم أشبع الفتحة على حد قوله:
ينباع من ذِفرى غضوب جَسْرَةٍ
فصار هدَرَا، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فقال: هدَرَيْ.
وكذلك قوله: قَبْقَبيْ أراد قبقب، ثم أشبع فصار قبقبا، وعلى هذا التخريج يسقط قول سيبويه عن يونس في قوله محتجًّا عليه بقول الشاعر:
دعوت لما نا بني مِسْوَرًا ... فَلَبَّى فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْورِ
[المحتسب: 1/78]
قال سيبويه: لو كان لبيك اسمًا واحدًا -كما يقول يونس، وإنما قُلب في لبيك لاتصاله بالمضمر كما يُقلب في إليك وعليك -لما قال: فَلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ، ولقال: فَلَبَّى يدَيْ مِسْوَرِ، على حد قولك: على يَدَيْ فلان، وإلى يَدَيْ جعفر، فثبات الياء مع المظهر يدلك على أنه لم يقلب في لبيك على حد ما قلب في إليك وعليك، وفي ذلك رد لقول يونس: إن لبيك مفرد كإلبيك وعليك.
قال أبو علي: يمكن يونس أن يقول: إنه أجرى الوصل مجرى الوقف، فكما تقول في الوقف: عَصيْ وفَتيْ كذلك قال: فَلَبَّيْ، ثم وصل على ذلك، هذا ما قاله أبو علي.
وعليه أن يقال: كيف يحسن تقدير الوقف على المضاف دون المضاف إليه؟
وجوابه: أن ذلك قد جاء، إلا ترى إلى ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
ضَخْمٌ نجارى طيِّب عُنْصُرِّي
أراد: عنصري، فثقَّل الراء لنية الوقف، ثم أطلق بالإضافة من بعد.
نعم، وإذا جاز هذا التوهم مع أن المضاف إليه مضمر، والمضمر المجرور لا يجوز تصور انفصاله، فأن يجوز ذلك مع المظهر الذي هو "يَدي" أولى وأجدر، من حيث كان المظهر أقوى من المضمر.
ومثله قوله:
يا ليتها قد خرجت من فَمِّه
أراد: من فمه، ثم نوى الوقف على الميم فثقلها، على حد قوله في الوقف: هذا خالدّ، وهو يجعلّ، ثم أضاف على ذلك فهذا كقولهم: عنصرِّي.
ويُروى من فُمِّه بضم الفاء أيضًا، وفيه أكثر من هذا). [المحتسب: 1/79]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
قرأ ورش عن نافع {فمن تبع هداي} ساكنة الياء وقرأ الباقون بفتح الياء وإنّما فتحت لأنّها أتت بعد ساكن واصلها الحركة الّتي هي الفتح وقد ذكرته عند قوله إنّي أعلم). [حجة القراءات: 95]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (16- {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [آية/ 38]:
بالفتح من غير تنوينٍ، قرأها يعقوب وحده في جميع القرآن.
[الموضح: 269]
ووجهه أنه أراد نفي جميع أنواع الخوف؛ لأن {لا} إذا بني مع النكرة على الفتح كان النفي به عامًا نحو: لا رجل في الدار، فإنه نفي كون جميع أجناس الرجال في الدار؛ لأنه جواب: هل من رجل في الدار؟، فكما أن: هل من رجل في الدار عام في الاستفهام، كذلك: لا رجل، عام في النفي، فإذن {لا خوف} آكد في نفي الخوف، لما فيه من عموم النفي بجنس الخوف.
وقرأ الباقون {لا خَوْفٌ} بالرفع والتنوين، على الابتداء؛ لأنه يكون جواب: هل فيه خوف؟
والمعنيان يتقاربان في أن الفي يراد به العموم والكثرة؛ لأن النكرة فيها عموم، وإذا كانت في النفي فلا نظر في كونها عامة، يدل على ذلك قول أمية:-
7- فلا لغو ولا تأثيم فيها = وما فاهوا به أبدًا مقيم
[الموضح: 270]
لأنه أراد من نفي اللغو ما أراده من نفي التأثيم). [الموضح: 271]
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107219#post107219)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:33 AM
سورة البقرة
[من الآية (40) إلى الآية (43) ]
{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن والزهري وابن أبي إسحاق وعيسى الثفقي والأعمش: [إسْراييل] بلا همز.
[المحتسب: 1/79]
قال أبو الفتح: إن لم يكن ذلك همزًا مخففًا فخَفِيَ بتخفيفه فعُبر عنه بترك الهمز، فذلك من تخليط العرب في الاسم الأعجمي.
قال أبو علي: العرب إذا نطقت بالأعجمي خلَّطت فيه، أنشدنا:
هل تعرف الدار لأم الخزرج ... منها فظَلْتَ اليوم كالْمُزَرَّج
قال: وقياسه كالمزرجَن؛ لأنه من الزَّرَجون وهو الخمر، والنون في زَرَجون ينبغي أن يكون أصلًا بمنزلة السين من قَرَبُوس.
وأنشدنا لرؤبة:
في خِدْرِ ميَّاسِ الدُّمى الْمُعَرجن
فهذا من العُرجون، وكذا كان قياسه أن يقول: المزرجن. وإذا جاز للعرب أن تخلِّط في العربي وهو من لغتها، فكيف يكون -ليت شعري- فيما ليس من لغتها؟!
ومما خلطت فيه من لغتها قول لبيد:
دَرَس المنا بِمُتالع فأَبان
[المحتسب: 1/80]
يريد: المنازل. وقال علقمة:
مُفدَّم بسَبَا الكَتان مَلْثُومُ
أراد: بسبائب، وهو كثير، ونكره الاستكثار من الشواهد والنظائر؛ تحاميًا لطول الكتاب). [المحتسب: 1/81]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الزهري: [وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوَفِّ بِعَهْدِكُمْ] مشددة.
قال أبو الفتح: ينبغي -والله أعلم- أن يكون قرأ بذلك؛ لأن فَعَّلت أبلغ من أفعلت؛ فيكون على {أوفوا بعهدي} أبالغ في توفيتكم؛ كأنه ضمان منه سبحانه أن يعطي الكثير عن القليل، فيكون ذلك كقوله سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}، وهو كثير). [المحتسب: 1/81]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (17- {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [آية/ 40]:-
بإثبات الياء في الوصل والوقف، قرأها يعقوب وحده، وكذلك {فاتّقُونِي} و{لا تَكْفُرُونِي} و{فَاسْمَعُونِي} و{أطِيعُونِي} و{يَسْقِيني} و{يَشْفِيني}، وكذلك {التَّلاقي} و{التّنادِي} و{بالوادِي} و{المُتعالِي} جميعًا سواء كانت فواصل أم غيرها، إلا في المنون نحو {واقٍ} و{والٍ}، وفي المنادى نحو: {يَا قَوْمِ} و{يَا رَبّ} و{يَا عِبادِ} إلا فيما أثبتت الياء منه في الكتاب وهو {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} و{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا}.
اعلم أن يعقوب إنما قرأ ما قرأه بالياء من هذه الحروف تمسكًا بالأصل؛ لأن الأصل في {فارْهَبُونِ} وأمثاله، هو إثباتُ الياءِ؛ لأن الياء هو ضمير
[الموضح: 271]
المنصوب في هذا الموضع، والنون دعامة أدخلت ليبقى آخر الكلمة التي لحقتها هذه الياء على حاله من حركةٍ أو سكونٍ أو واوٍ أو ياء، ولا يتغير، إذ لولا هذه النون لانكسر ما كان قبل الياء من حرف صحيح وانقلب ما كان من حرف علة، فأدخلت النون لتكسر لأجل الياء، ويسلم ما قبلها من التغيير، فإذا كان كذلك فالياء هي الأصل في الضمير، وإثبات الياء في هذه المواضع هو الأصل الذي عليه الوضع، وإنما حذفها من حذفها من رؤوس الآي؛ لأنها فواصل، وهي مثل القوافي في الشعر تطلب لها الموافقة والمشاكلة كما قال الأعشى:
8- ومن شانئٍ كاسفٍ وجهه = إذا ما انتسبت له أنكرن
ألا ترى أنه حذف الياء من أنكرني، وأسكن النون؛ لأنها قافية، وهي أيضًا موضع وقف، والوقف موضع تغيير.
وأما إثباته الياء في {التَلاَقِي} ونحوه مما فيه الألف واللام فإنه هو الأصل المنقاس أيضًا؛ لأن هذه الياء تحذف منها الحركة استثقالاً لها عليها، ولا تنوين يسقط لأجله الياء، فتثبت الياء ساكنة.
[الموضح: 272]
وإنما يحذفها من حذفها إرادة التخفيف، والأصل هو الإثبات.
وأما حذفه الياء من المنون والمنادى، فإن المنون تحذف (منه) الياء لاجتماعها مع التنوين؛ وهما ساكنان، فتحذف الياء لالتقاء الساكنين، وهي أولى بالحذف من التنوين؛ لأن التنوين إنما دخل لمعنىً، فلو حذف لزال ذلك المعنى، وهو علم التمكن، وإذا وقف عليه فالأولى أيضًا حذف الياء؛ لأن التنوين وإن زال في الوقف فهو في حكم الثبات.
وأما المنادى فإنه موضع حذفٍ، ألا ترى أنه يحذف منه التنوين للبناء، نحو: يا زيد، والحرف الأخير للترخيم نحو: يا حار.
وأما إثباته الياء فيما أثبت منه في الكتاب، فإنما تبع في ذلك المصحف وهو الإمام المتبع). [الموضح: 273]
قوله تعالى: {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)}
قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)}
قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107222#post107222)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:34 AM
سورة البقرة
[من الآية (44) إلى الآية (48) ]
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) }
قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}
قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)}
قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)}
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ولا يقبل منها شفاعةٌ)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (ولا تقبل) - بالتاء -، وروي عن عاصم مثل ذلك. وقرأ الباقون بالياء.
قال أبو منصور: من قرأ بالتاء فلتأنيث الشفاعة، ومن قرأ بالياء فلأن الشفاعة كالمصدر وإن كان لفظها مؤنثا، وهو كقول الله جلّ وعزّ: (وأخذت الذين ظلموا الصيحة)، وقال في موضع آخر: (وأخذ الذين ظلموا الصيحة)، لأن الصيحة وإن كان لفظها مؤنثا فهي مصدر، وكل ذلك جائز في كلام العرب). [معاني القراءات وعللها: 1/149]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: ولا تقبل منها شفاعة [البقرة/ 48].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولا تقبل بالتّاء. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائيّ: ولا يقبل بالياء. وروى يحيى بن آدم وابن أبي أميّة والكسائي وغيرهم عن أبي بكر وحفص عن عاصم بالياء. وروى الحسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم بالتاء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/43]
قال أبو عليّ: المعنى في قوله: لا يقبل منها شفاعةٌ. لا يقبل فيه منها شفاعة، فمن ذهب إلى أن (فيه) محذوفة من قوله: واتّقوا يوماً لا تجزي نفسٌ عن نفسٍ [البقرة/ 48] جعل (فيه) محذوفة بعد قوله: يقبل. ومن ذهب إلى أنه حذف الجارّ وأوصل الفعل إلى المفعول، ثم حذف الرّاجع من الصّفة. كما يحذف من الصّلة، كان مذهبه في قوله: لا يقبل أيضا مثله.
وحذف الهاء من الصفة يحسن، كما يحسن حذفها من الصلة، ألا ترى أن الفعل لا يتسلّط بحذف المفعول منه على الموصوف كما لا يتسلّط بذلك على الموصول؟
فممّا حذف منه الراجع من الصّفة قوله:
وما شيء حميت بمستباح وقول الأسود بن يعفر:
وفاقر مولاه أعارت رماحنا... سنانا كقلب الصّقر في الرّمح منجلا
[الحجة للقراء السبعة: 2/44]
فالهاء العائدة إلى المنكور الموصوف محذوفة، وهي المفعول الأوّل لأعارت. وموضع الجملة جرّ، كما أن موضع الجملة التي هي تقبل نصب بالعطف على الجملة التي هي وصف قبلها. ومن الحذف قوله:
تروّحي أجدر أن تقيلي... غدا بجنبي بارد ظليل
المعنى: تأتي مكانا أجدر أن تقيلي فيه. فحذف الجارّ، فوصل الفعل ثم حذف الضمير. وممّا لم يحذف فيه الرّاجع من الصفة قوله:
في ساعة يحبّها الطّعام وهذا في المعنى قريب من قوله: وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظّالمين من حميمٍ ولا شفيعٍ يطاع [المؤمن/ 18].
فالمعنى: ما للظالمين فيه من حميم ولا شفيع يطاع، وليست الجملة التي هي: ما للظّالمين من حميمٍ صفة كما
[الحجة للقراء السبعة: 2/45]
كانت في الآية الأخرى صفة. ومثل ذلك قوله: يوم لا يغني مولًى عن مولًى شيئاً ولا هم ينصرون إلّا من رحم اللّه [الدخان/ 41 - 42]. وقبول الشيء: هو تلقّيه والأخذ به
وخلاف الإعراض عنه، ومن ثم قيل لتجاه الشيء: قبالته، وقالوا: أقبلت المكواة الداء، أي: جعلتها قبالته. قال:
وأقبلت أفواه العروق المكاويا ويجوز أن يكون المخاطبون بذلك اليهود، لأنهم زعموا أن آباءها الأنبياء تشفع لها، فأويسوا من ذلك.
وقريب من هذا قوله: قل فلم يعذّبكم بذنوبكم [المائدة/ 18]. فأما الشفاعة فنراها من الشّفع الذي هو خلاف الوتر، قال:
وأخو الأباءة إذ رأى خلّانه... تلّى شفاعا حوله كالإذخر
فكأنه سؤال من الشفيع، يشفع سؤال المشفوع له.
وليس معنى لا تقبل منها شفاعة أنّ هناك شفاعة لا تقبل، ألا
[الحجة للقراء السبعة: 2/46]
ترى أن في قوله: ولا يشفعون إلّا لمن، ارتضى [الأنبياء/ 28] انتفاء الشفاعة عمن سوى المرتضين، فإذا كان كذلك، كان المعنى لا تكون شفاعة فيكون لها قبول، كما أن قوله: لا يسئلون النّاس إلحافاً [البقرة/ 273] معناه: لا يكون منهم سؤال فيكون منهم إلحاف، كقوله:
على لا حب لا يهتدى لمناره... إذا سافه العود الدّيافيّ جرجرا
وقوله:
لا يفزع الأرنب أهوالها... ولا ترى الضبّ بها ينجحر
[الحجة للقراء السبعة: 2/47]
فأما قوله: وكم من ملكٍ في السّماوات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلّا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى [النجم/ 26] فالمعنى: لا تغني شفاعتهم أن لو شفعوا، ليس أنّ هناك شفاعة مثبتة، ومثله: ولا تنفع الشّفاعة عنده إلّا لمن أذن له [سبأ/ 23] ومثله: يومئذٍ لا تنفع الشّفاعة إلّا من أذن له الرّحمن ورضي له قولًا [طه/ 109] فأطلق على المعنى الاسم، وإن لم يحدث كما قال:
لما تذكّرت بالدّيرين أرّقني... صوت الدّجاج وقرع بالنّواقيس
والمعنى: انتظار أصواتها، فأوقع عليه الاسم، ولمّا يكن. فإضافة الشفاعة إليهم كإضافة الصوت إليها. ويدلك على أن المعنى في قوله: لا تغني شفاعتهم ما ذكرنا، الآية التي تقدم ذكرها. وقوله: يوم يقوم الرّوح والملائكة صفًّا لا يتكلّمون إلّا من أذن له الرّحمن [النبأ/ 38] والشفاعة: كلام.
فأما قوله: إلّا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى [النجم/ 26] فالمعنى: لمن يشاء شفاعته على إضافة المصدر إلى المفعول به، الذي هو مشفوع له، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، فصار اللفظ: لمن يشاؤه. أي يشاء شفاعته، ثم حذف الهاء من الصلة. فأما قوله: ويرضى.
فتقديره: يرضاه، كما أنّ قوله: ولا يشفعون إلّا لمن ارتضى [الأنبياء/ 28] العائد منه إلى الموصول محذوف،
[الحجة للقراء السبعة: 2/48]
فكذلك العائد من يرضى. وأما قوله: ويعبدون من دون اللّه ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه [يونس/ 18] فإنما يعنون بقولهم: عند الله، في البعث. لأن منهم من قد كان معترفا بالبعث والنشور كالأعشى في قوله:
بأعظم منك تقى للحساب... إذا النّسمات نفضن الغبارا
وقول زهير:
يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر... ليوم الحساب أو يعجّل فينقم
وقد كذّبهم الله في قولهم ذلك بقوله: قل أتنبّئون اللّه بما لا يعلم في السّماوات ولا في الأرض [يونس/ 18] وقوله: وإذا حشر النّاس كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين [الأحقاف/ 60]. فالمصدر مضاف إلى الفاعلين، والمعنى: كانوا بعبادتهم إياها كافرين. ومثل هذا قوله:
وقال شركاؤهم ما كنتم إيّانا تعبدون [يونس/ 28] فالشركاء في هذه الآية هم الآلهة التي كانوا يعبدونها. وكذلك في قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/49]
وإذا رأى الّذين أشركوا شركاءهم، قالوا ربّنا هؤلاء شركاؤنا الّذين كنّا ندعوا من دونك [النحل/ 86] فإنما أضيف الشركاء إلى الذين أثبتوهم شركاء لادّعائهم شركتهم للقديم سبحانه وتعالى عن ذلك. وقد جاء إضافة هؤلاء الشركاء أيضا إلى الله تعالى في قوله: ويوم يناديهم أين شركائي [فصلت/ 47] فهذا لم يثبت به شركاء الله تعالى، وإنما أضافهم إليه على حسب ما كانوا يضيفونهم إليه، فحكى ذلك.
وعلى هذا قوله: وقالوا يا أيّها السّاحر ادع لنا ربّك [الزخرف/ 49] وهذا مما يعلم به أنّ المضاف إذا كان له ضرب من الملابسة بالمضاف إليه، جازت إضافته إليه، وعلى هذا قوله:
لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا فأضاف الإناء إلى الشارب لشربه منه وإن كان ملكا للمشروب لبنه، أو في يده على غير وجه الملك.
[الحجة للقراء السبعة: 2/50]
ومن ذلك قوله: أم اتّخذوا من دون اللّه شفعاء، قل أولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، قل للّه الشّفاعة جميعاً [الزمر/ 43 - 44] فهذا مثل قوله: ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه [يونس/ 18]. وقوله: قل للّه الشّفاعة جميعاً معناه: في الآخرة. وإنما نسبت الشفاعة إليه سبحانه إبطالا لشفاعة من ادّعيت شفاعتهم لهم من الآلهة، ونفيا لها، وإعلاما أن الملائكة في الآخرة لا يشفعون إلا لمن أذن لهم في الشفاعة له، فنسبت الشفاعة إلى الله لمّا لم تكن إلا بأمره وإذنه فيها، وإن كانت الملائكة فاعليها في الحقيقة، فأما في الدنيا فقد تكون الشفاعة لغير الله. والضمير في (منها) من قوله: ولا تقبل منها عائد إلى نفس على اللفظ، وفي قوله: ولا هم ينصرون على المعنى، لأنه ليس المراد المفرد فلذلك جمع.
فأما حجة من قال: ولا تقبل فألحق علامة التأنيث، فهي أنّ الاسم الذي أسند إليه هذا الفعل مؤنّث، فيلزم أن يلحق المسند أيضا علامة التأنيث، ليؤذن لحاق العلامة بتأنيث
الاسم، كما ألحق الفصل حيث ألحق، ليؤذن بأنّ الخبر معرفة أو قريب من المعرفة.
ومما يقوي ذلك أن كثيرا من العرب إذا أسندوا الفعل إلى المثنى أو المجموع، ألحقوه علامة التثنية أو الجمع كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/51]
ألفيتا عيناك....
وقوله:... يعصرن السّليط أقاربه فكما ألحقوا هاتين العلامتين لتؤذنا بالتثنية والجمع، كذلك ألحقت علامة التأنيث الفعل ليؤذن بما في الاسم منه، وكانت هذه العلامة أولى من لحاق علامتي التثنية والجمع، للزوم علامة التأنيث الاسم، وانتفاء لزوم هاتين العلامتين الاسم، وبحسب لزوم المعنى تلزم علامته، ألا ترى أن ما لا يلزم في كلامهم قد لا يعتدّ به اعتداد اللازم، كالواو الثانية في قوله: (ووري) فبحسب لزوم علامة التأنيث الاسم يحسن إلحاقه الفعل، وقد قال: فأخذتهم الصّيحة مشرقين [الحجر/ 73]. فأخذتهم الصّيحة بالحقّ [المؤمنون/ 41].
فكما تثبت العلامة في هذا النحو، كذلك ينبغي أن تثبت في نحو قوله: تقبّل.
ومن حجة من لم يلحق: أن التأنيث في الاسم ليس بحقيقي، وإذا كان كذلك حمل على المعنى فذكّر، ألا ترى أن الشفاعة والتشفّع بمنزلة، كما أن الوعظ والموعظة، والصيحة والصوت كذلك، وقد قال: فمن جاءه موعظةٌ من ربّه [البقرة/ 275] وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة [هود/ 67].
فكما لم تلحق العلامة هنا، كذلك يحسن أن لا تلحق في
[الحجة للقراء السبعة: 2/52]
قوله: ولا تقبل لاتفاق الجميع في أن ذلك تأنيث غير حقيقي. وكلا الأمرين قد جاء به التنزيل كما رأيت.
ومما يقوّي التّذكير أنه قد فصل بين الفعل والفاعل بقوله: منها. والتذكير يحسن مع الفصل، كما حكي من قولهم: حضر القاضي اليوم امرأة. فإذا جاء التذكير في الحقيقي مع الفصل فغيره أجدر بذلك. فأما ما قاله أحمد بن يحيى: من أن التذكير أجود لقول ابن مسعود: «ذكّروا القرآن» فإنّ قول ابن مسعود لا يخلو من أن يريد به التذكير الذي هو خلاف التأنيث، أو يريد به معنى غير ذلك. فإن أراد به خلاف التأنيث، فليس يخلو من أن يريد: ذكّروا فيه التأنيث الذي هو غير حقيقي، أو التأنيث الذي هو حقيقي، فلا يجوز أن يريد التأنيث الذي هو غير حقيقيّ لأن ذلك قد جاء منه في القرآن ما يكاد لا يحصى كثرة، كقوله: وللدّار الآخرة [الأنعام/ 32] وكقوله: النّار وعدها اللّه [الحج/ 72] وقوله: والتفّت السّاق بالسّاق [القيامة/ 29] و: قالت رسلهم [إبراهيم/ 10] و: كأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ [الحاقة/ 7] والنّخل باسقاتٍ [ق/ 10] وشجرةً تخرج من طور سيناء [المؤمنون/ 20] ينشئ السّحاب الثّقال [الرعد/ 12].
فإذا ثبت هذا النحو في القرآن على الكثرة التي تراها، لم يجز أن يريد هذا. وإذا لم يجز أن يريد ذلك، كان إرادته به
[الحجة للقراء السبعة: 2/53]
التأنيث الحقيقيّ أبعد، كقوله: إذ قالت امرأت عمران [آل عمران/ 35] وقوله: ومريم ابنت عمران الّتي أحصنت [التحريم/ 12] وكانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما [التحريم/ 10] وقالت لأخته قصّيه فبصرت به عن جنبٍ [القصص/ 11].
فإن قلت: إنّما يريد: إذا احتمل الشيء التأنيث والتذكير، فاستعملوا التذكير وغلّبوه. قيل: هذا أيضا لا يستقيم، ألا ترى أن فيما تلونا: والنّخل باسقاتٍ وكأنّهم أعجاز نخلٍ خاويةٍ فأنّث مع جواز التذكير فيه، يدلك على ذلك قوله في الأخرى: أعجاز نخلٍ منقعرٍ [القمر/ 20] وقوله: من الشّجر الأخضر ناراً [يس/ 80] ولم يقل: الخضر ولا الخضراء، وقوله: السّحاب الثّقال ولم يقل: الثقيل، كما قال: منقعرٍ. فهذه المواضع يعلم منها أنّ ما ذكرت ليس بمراد ولا بمذهب. فإذا لا يصحّ أن يريد بقوله: «ذكّروا القرآن». التذكير الذي هو خلاف التأنيث، وإذا لم يرد ذلك، كان معنى غيره. فممّا يجوز أن يصرف إليه قول ابن مسعود، أنه يريد به الموعظة والدعاء إليه، كما قال: فذكر بالقرآن من يخاف وعيدى [ق/ 45] إلا أنّه حذف الجار، وإن كان قد ثبت في الآية، وفي قوله: وذكّرهم بأيّام اللّه [إبراهيم/ 5] على القياس الذي ينبغي أن يكون عليه، ألا ترى أنك تقول:
ذكر زيد العذاب والنار. فإذا ضعّفت العين، قلت: ذكّرت زيدا
[الحجة للقراء السبعة: 2/54]
العذاب، وذكّرته النار. فإذا ألحقت الجارّ كان كقوله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة [البقرة/ 195] وإذا حذف كان كقوله: وألقى في الأرض رواسي [النحل/ 15] فمما جاء بغير الجار قولها:
يذكّرني طلوع الشّمس صخرا... وأذكره لكلّ غروب شمس
ومما يدل على صحة ما ذكرنا من أن الأصل أن لا يلحق الجار، أن النسيان الذي هو خلاف الذكر، لمّا نقل بالهمزة التي هي في حكم تضعيف العين، لم تلحق الباء المفعول الثاني، وذلك قوله: وما أنسانيه إلّا الشّيطان أن أذكره [الكهف/ 62] ويمكن أن يكون معنى قوله: «ذكّروا القرآن» أي: لا تجحدوه ولا تنكروه، كما أنكره من قال فيه:
أساطير الأوّلين [النحل/ 24] لإطلاقهم عليه لفظ التأنيث، فهؤلاء لم يذكّروه، لكنّهم أنّثوه بإطلاقهم التأنيث على ما كان مؤنث اللفظ، كقوله: إن يدعون من دونه إلّا إناثاً [النساء/ 117] فإناث جمع أنثى، وإنما يعني به ما اتخذوه آلهة، كقوله: أفرأيتم اللّات والعزّى. ومناة الثّالثة الأخرى [النجم/ 19، 20]. وقال العجّاج في صفة المنجنيق:
أورد حذّا تسبق الأبصارا وكلّ أنثى حملت أحجارا
[الحجة للقراء السبعة: 2/55]
فسمّاها أنثى، لتأنيثهم للفظها، وكذلك قول الفرزدق:
وكنّا إذا الجبّار صعّر خدّه... ضربناه تحت الأنثيين على الكرد
والأنثيان يريد بهما: الأذنين، وهذا النحو كثير في كلامهم). [الحجة للقراء السبعة: 2/56]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ولا يقبل منها شفاعة}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ولا تقبل منها بالتّاء وقرأ الباقون بالياء من قرأ بالتّاء فلتأنيث الشّفاعة وسقط السّؤال فصار كقوله {وأخذت الّذين ظلموا الصّيحة}
وحجّة من قرأ بالياء هي أن تأنيث الشّفاعة ليست حقيقيّة فلك في لفظه في الفعل التّذكير والتأنيث تقول قد قبل منك الشّفاعة وقبلت منك وكذلك {فمن جاءه موعظة} لأن معنى موعظة ووعظ وشفاعة وتشفع واحد فلذلك جاز التّذكير والتأنيث على اللّفظ والمعنى
[حجة القراءات: 95]
وحجّة أخرى لما فصل بين اسم المؤنّث وفعله بفاصل ذكر الفعل لأن الفاصل صار كالعوض منه ومثله {لئلّا يكون للنّاس عليكم حجّة} ). [حجة القراءات: 96]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (23- قوله: «ولا يُقبل» قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالتاء، وقرأه الباقون بالياء.
وعلة من قرأه بالتاء أنه أتت لتأنيث لفظ الشفاعة، فهو ظاهر التلاوة، وبه قرأ الأعرج وابن محيصن وأهل مكة، وهو الأصل.
24- وعلة من قرأه بالياء أنه ذكر لأربع علل: الأولى أنه لما فرّق بين المؤنث وفعله، قام التفريق مقام التأنيث، وحسن التذكير، والثانية أنه لما كان تأنيث الشفاعة غير حقيقي، إذ لا ذكر لهما من لفظها ذكر؛ لأن التذكير هو الأصل، والتأنيث داخل عليه أبدًا، والثالثة أنه لما كان الشفاعة والشفيع بمعنى واحد، حمل التذكير على الشفيع، والرابعة أن ابن مسعود وابن عباس قالا: إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياء، وذكر أبو عبيد عن ابن مسعود أنه قال: ذكروا القرآن، وإذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياء، فإنه أكثر ما جاء في القرآن، وإذا اختلفتم في الياء والتاء من القراء، قال الله جل ذكره: {قد كان لكم آية} «آل عمران 13» وقال:
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/238]
{قد جاءكم بينة} «الأنعام 153» وقال: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} «هود 67» وقال: {لولا أن تداركه نعمة} «القلم 49» وهو كثير، أتى على التذكير إجماع، فكان حمل هذا على ما أجمعوا عليه أولى، ويقوى التذكير إجماع القراء على تذكير الفعل مع ملاصقته للمؤنث في قوله: {وقال نسوة} «يوسف 30» وقوله: {وإن كان طائفة} «الأعراف 87» فإذا جاء التذكير بغير حائل فهو مع الحائل أجود وأقوى، والاختيار الياء، لما ذكرنا من العلة، ولأن به قرأ أكثر القراء، وذلك حجة، وكل ما وقع مثل هذا في التأنيث والتذكير أقول: علته كعلة {ولا يقبل}، فيستغنى عن إعادة هذه العلل وتكريرها، فاعلم ذلك). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/239]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (18- {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} [آية/ 48]:-
بالتاء، قرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب.
لأن الشفاعة مؤنثة لمكان التاء، فينبغي أن يكون في الفعل المسند إليها علامة التأنيث؛ لتكون العلامة مؤذنة بأن الفاعل مؤنث، وهذا هو القياس في جميع الكلام.
وقرأ الباقون {يُقْبَلُ} بالياء.
ووجه ذلك أن تأنيث الشفاعة ليس بحقيقي؛ لأنها مصدر، فهي بمنزلة
[الموضح: 273]
التشفع كالموعظة في قوله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} إذ هي في معنى الوعظ، وكالصيحة في قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} إذ هي في معنى الصوت.
ثم إنه فصل بين الشفاعة وبين فعلها بقوله {مِنْها} فازداد التذكير حسنًا، إذ جاء التذكير مع الفصل في الحقيقي نحو: حضر القاضي اليوم امرأة، فلأن يجيء في غير الحقيق أولى). [الموضح: 274]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107225#post107225)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:42 AM
سورة البقرة
[من الآية (49) إلى الآية (53) ]
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
قوله تعالى: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن محيصن: [يَذْبَحُونَ أَبْنَاءَكُمْ].
قال أبو الفتح: وجه ذلك أن فعَلت بالتخفيف قد يكون فيه معنى التكثير؛ وذلك لدلالة الفعل على مصدره، والمصدر اسم الجنس، وحسبك بالجنس سَعَة وعمومًا، ألا ترى إلى قول عبد الرحمن بن حسان:
وكنتَ أذلَّ من وتِد بقاعٍ ... يشجِّجُ رأسه بالفِهْرِاوجِي
ولم يقل: مُوجِّئ، فكأنه قال: يشجج رأسه بالفهر شاج؛ لأن واجئ فاعل كشاج. وأنشد أبو الحسن:
أنت الفداء لقِبْلَة هدَّمتَها ... ونقرتَها بيديك كلَّ مُنَقَّر
[المحتسب: 1/81]
كأنه قال: ونقرتها؛ لأن قوله: كل منقَّر عليه جاء، وبعده قوله:
فطار كل مطير
فهذا على أنه كأنه قال: فطَيَّرَ كُلَّ مُطَيَّر، ولما في الفعل من معنى المصدر الدال على الجنس ما لم يجز تثنيته ولا جمعه؛ لاستحالة كل واحد من التثنية والجمع في الجنس.
فأما التثنية والجمع في نحو قولك: قمت قيامين، وانطلقت انطلاقين، وعند القوم أفهام، وعليهم أشغال. فلم يُثَن شيء من ذلك، ولا يُجمع ولم يرد وهو مُرادٌ به الجنس؛ ولكن المراد به النوع. وقد شرحنا ذلك في غير موضع من كتبنا، وما خرج من التعليق عنا). [المحتسب: 1/82]
قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الزهري أيضًا: [وَإِذْ فَرَّقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ] مشددة.
قال أبو الفتح: معنى [فرَّقنا] أي: جعلناه فِرَقًا، ومعنى {فرَقنا}: شققنا بكم البحر، وفرَّقنا أشد تبعيضًا من فرَقنا، وقوله تعالى: {فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} يحتمل أن يكون فرقين، ويحتمل أن يكون أفراقًا؛ ألا ترى أنك تقول: قسمت الثوب قسمين، فكان كل قسم واحد منهما عشرين ذراعًا، كما تقول ذلك وهو جماعة أقسام.
ومن ذلك فرَقتُ شعره أي: جعلته فرقين، وفرَّقت شعره أي: جعلته فِرَقًا، وجاز هنا لفظ الجمع؛ لأن كل رجل منهم قد خرق من البحر وفَرَق خَرْقًا وفِرْقًا.
وقد يكون أيضًا في فرَقنا مخففة معنى فرَّقنا مشددة على ما مضى آنفًا في: [يَذْبَحُونَ أَبْنَاءَكُمْ] ). [المحتسب: 1/82]
قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وإذ واعدنا موسى أربعين ليلةً)
[معاني القراءات وعللها: 1/149]
قال أبو عمرو ويعقوب: (وإذ وعدنا)، وكذلك قوله: (ووعدنا موسى ثلاثين ليلة) و(وعدناكم) بغير ألف.
وقرأ سائر القراء: (وواعدناكم) بألف.
قال أبو منصور: من قرأ (وعدنا) بغير ألف فإنما اختار وعدنا لأن المواعدة إنما تكون بين الآدميين، واستدل بقوله تعالى: (إنّ اللّه وعدكم وعد الحقّ)، وهذا يشبه بعضه بعضا.
ومن قرأ (واعدنا) و(واعدناكم) فحجته أن الطاعة في القبول بمنزلة المواعدة، فهو من الله وعدٌ، ومن موسى قبول واتباع، فجرى مجرى المواعدة). [معاني القراءات وعللها: 1/150]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في إلحاق الألف وإخراجها من قوله تعالى: وإذ وعدنا [البقرة/ 51] ووعدناكم [طه/ 80] فقرأ أبو عمرو وحده ذلك كلّه بغير ألف، وقرأ الباقون ذلك كلّه بالألف.
قال أبو علي: قالوا: وعدته، أعده، وعدا، وعدة، وموعدا وموعدة. قال: إلّا عن موعدةٍ وعدها إيّاه [التوبة/ 114] وجاء وعد في الخير والشر. قال: وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات [المائدة/ 9] وقال: ألم يعدكم ربّكم وعداً حسناً [طه/ 86] فتقول على هذا: وعدته خيرا.
وقال: النّار وعدها اللّه الّذين كفروا [الحج/ 72] فتقول على هذا: وعدته شرّا. وقال: وجعلنا لمهلكهم موعداً [الكهف/ 59]
[الحجة للقراء السبعة: 2/56]
فالموعد: مصدر وعد، وهو في الإهلاك.
فأما الإيعاد فإنه يكون في التهديد، قال:
أوعدني بالسّجن والأداهم وقال:
وموعدنا بالقتل يحسب أنّه... سيخرج منّا القتل ما القتل مانع
والوعيد: نحو من الإيعاد في أنه تهديد بشرّ، قال:
ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيدي [إبراهيم/ 14] وقال فذكر بالقرآن من يخاف وعيدي [ق/ 45] وقال أحمد بن يحيى: أوعدته، وتسكت. أو تجيء بالباء: أوعدته بشرّ، ولا تقول: أوعدته الشرّ.
قال أبو علي: ولا يمتنع في نحو هذا في القياس أن يحذف الحرف فيصل الفعل، ويدلّ على ذلك ما قدمناه. من قوله: أوعدني بالسجن، فأما الميعاد في قوله: إنّ اللّه لا يخلف الميعاد [آل عمران/ 9] فإن هذا البناء قد جاء في
[الحجة للقراء السبعة: 2/57]
الأسماء والصفات، فالاسم نحو: المصباح والمفتاح. والصفة نحو: المطعان، والمطعام. والميعاد: اسم، كما أن الميقات كذلك، وليس يخلو من أن يكون من أوعد، أو وعد. فإن كان من أوعد، فإن أوعد تختصّ بالتهديد. وإن كان من وعد في التهديد وخلافه كما تقدم ذكره، فلا إخلاف للميعاد، وقد أوقع على الإخلاف الكذب. أنشد أبو عبيدة:
أتوعدني وراء بني رياح... كذبت لتقصرنّ يداك دوني
فإن قلت: إن التكذيب واقع في الاستفهام، والاستفهام لا يحتمل الصدق ولا الكذب. فإن هذا الاستفهام تقرير والتّقرير عندهم مثل الخبر، ألا ترى أنهم لم يجيبوه بالفاء كما لم يجيبوا الخبر، وقد قال: لا تختصموا لديّ وقد قدّمت إليكم بالوعيد. ما يبدّل القول لديّ وما أنا بظلّامٍ للعبيد [ق/ 28، 29] وأما الموعود فصفة قال:
لعلّك والموعود حق لقاؤه... بدا لك في تلك القلوص بداء
التقدير: الأمر الموعود حق لقاؤه.
[الحجة للقراء السبعة: 2/58]
ومن جوّز مجيء المصدر على مفعول، جاز عنده أن يكون الموعود مثل الوعد. وقولهم: وعدت: فعل يتعدى إلى مفعولين يجوز فيه الاقتصار على أحدهما كأعطيت، وليس كظننت، قال: وواعدناكم جانب الطّور الأيمن [طه/ 80] فجانب مفعول ثان، ولا يكون ظرفا لاختصاصه، والتقدير:
وعدناكم إتيانه، أو مكثا فيه، وكذلك قول الشاعر:
فواعديه سرحتي مالك إنما هو: واعديه إتيانهما أو مكثا عندهما، أو نحو ذلك من الأحداث التي يقع الوعد عليها دون الأعيان، فأما قوله:
وعدكم اللّه مغانم كثيرةً تأخذونها [الفتح/ 20] فإن المغنم يكون الغنم كما أنّ المغرم يكون الغرم في قوله: فهم من مغرمٍ مثقلون [ن/ 46] فإن قلت فقد قال: تأخذونها والغنم الذي هو حدث لا يؤخذ، إنما يقع الأخذ على الأعيان دون المعاني. فالقول: إنه قد يجوز أن يكون المغنوم الذي هو العين، سمي باسم المصدر مثل الخلق والمخلوق، ونحو ذلك. وأنشد أحمد بن يحيى:
[الحجة للقراء السبعة: 2/59]
ضوامن ما جار الدّليل ضحى غد... من البعد ما يضمن فهو أداء
أي: مؤدّى أو ذو أداء. وجمعك للمغانم، وهو مصدر، إنما هو كالمذاهب والمجاري، ونحو ذلك من المصادر المجموعة، فإذا كان كذلك وجب أن تقدّر مضافا محذوفا، كأنه: وعدكم الله تمليك مغانم أو إيراثها، وكذلك لو جعلت المغنم اسما للأعيان المغنومة كالأموال والأرضين. فأما قوله: وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات لهم مغفرةٌ [المائدة/ 9] وقوله: وعد اللّه الّذين آمنوا ثم قال: ليستخلفنّهم [النور/ 55] فإن الفعل لم يعدّ فيه إلى مفعول ثان وقوله: لهم مغفرةٌ وليستخلفنّهم تفسير للوعد وتبيين له، كما أنّ قوله للذّكر مثل حظّ الأنثيين [النساء/ 11] تفسير للوصية في قوله:
يوصيكم اللّه في أولادكم [النساء/ 11].
وأما قوله: ألم يعدكم ربّكم وعداً حسناً [طه/ 86] وقوله: إنّ اللّه وعدكم وعد الحقّ [إبراهيم/ 22] فإنّ هذا ونحوه يحتمل أمرين: يجوز أن يكون انتصاب الوعد بالمصدر.
ويجوز أن يكون انتصابه بأنّه المفعول الثاني. وسمّي الموعود به الوعد، كما سمّي المخلوق بالخلق، فإذا حملته على هذا فينبغي أن تقدر حذف المضاف، ويؤكّد الوجه الأول قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/60]
ألم يعدكم ربّكم وعداً حسناً [طه/ 86].
وأما قوله: وإذ يعدكم اللّه إحدى الطّائفتين أنّها لكم [الأنفال/ 7] فإن إحدى الطائفتين في موضع نصب بأنه المفعول الثاني، وأنها لكم: بدل منه، والتقدير: وإذ يعدكم الله ثبات إحدى الطّائفتين أو ملك إحدى الطائفتين. ونحو هذا مما يدل عليه (لكم) ألا ترى أنّ (أنّ) وما بعدها في تأويل المصدر، والطائفتان: العير والنفير.
وأما قوله: أيعدكم أنّكم إذا متّم وكنتم تراباً الآية [المؤمنون 35] فمن قدر في أن الثانية البدل. فإنه ينبغي أن يقدر محذوفا ليتم بذلك الكلام، فيصح البدل، فيكون التقدير عنده: أيعدكم أن إخراجكم إذا متم، ليكون اسم الزمان خبرا عن الحدث المراد، إذ لا يصح أن يكون خبرا عن المخاطبين من حيث كانوا أعيانا، فيكون أنّكم الثانية بدلا من الأولى.
ومن قدّر في الثانية التكرير لم يحتج إلى تقدير محذوف، ومن رفع أنّكم الثانية بالظّرف- كأنه قال: أيعدكم أنكم يوم الجمعة إخراجكم- لم يحتج إلى ذلك أيضا وقد قلنا فيها في مواضع من مسائلنا.
وأما قوله: وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلّا عن موعدةٍ وعدها إيّاه [التوبة/ 114] فالجملة في موضع جرّ لأنها صفة للنكرة وقد عاد الذكر منها إلى الموصوف، والفعل متعدّ إلى مفعول واحد ألا ترى أن الذكر يعود إلى المصدر، وقد قال
[الحجة للقراء السبعة: 2/61]
إبراهيم لأبيه: سأستغفر لك ربّي [مريم/ 47]، وقال واغفر لأبي إنّه كان من الضّالّين [الشعراء/ 86] وقال: ربّنا اغفر لي ولوالديّ [إبراهيم/ 41] وقال: قد كانت لكم أسوةٌ حسنةٌ في إبراهيم والّذين معه إذ قالوا لقومهم إنّا برآؤا منكم وممّا تعبدون من دون اللّه إلى قوله إلّا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرنّ لك [الممتحنة/ 4].
والمعنى: لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة في تبرّئهم من كفار قومهم، وإن كانوا ذوي أنساب منهم وأرحام، فتأسّوا بهم في ذلك، ألا تراه قال: لا تجد قوماً يؤمنون باللّه واليوم الآخر يوادّون من حادّ اللّه ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم [المجادلة/ 22] وقال: لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين [آل عمران/ 28] وقال: ومن يتولّهم منكم فإنّه منهم [المائدة/ 51] فالمعنى: تأسّوا بإبراهيم وبقومه في معاداتهم لأنسبائهم وذوي قرابتهم، وترك موالاتهم لهم لمخالفتهم إياهم في دينهم وكفرهم.
فأما استغفار إبراهيم لأبيه مع أنه كان مخالفا له في التوحيد، فلا ينبغي لكم أن تستغفروا لمن كفر من آبائكم كما استغفر، لأن الاستغفار كان منه بشرط وعلى تقييد، فلا تطلقوا أنتم ذلك لمن خالفكم في توحيد الله، فإنّ استغفاره لأبيه كان مقيّدا، وإن كان قد جاء مطلقا في بعض المواضع،
[الحجة للقراء السبعة: 2/62]
فإنه إنما كان من إبراهيم على التقييد الذي جاء في مواضعه.
وقال: وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أنّ وعد اللّه حقٌّ وأنّ السّاعة لا ريب فيها [الكهف/ 21] فالمعنى فيه، وفي قوله: وإذا قيل إنّ وعد اللّه حقٌّ والسّاعة لا ريب فيها [الجاثية/ 32]: أنّ وعد الله بالبعث حق في نحو قوله: قل بلى وربّي لتبعثنّ [التغابن/ 7] فإذا عاينوا ذلك وشاهدوه وجب أن يعلموا: أن الذي وعدوا به من البعث والنشور بعد الموت، مثل الذي عاينوه، فيلزمهم الاعتراف به لمشاهدتهم له وعلمهم إياه من الوجه الذي لا يدخله ارتياب ولا تشكّك، والساعة لا ريب فيها، لأنها إنما هي يوم البعث، وقد علموا البعث والإحياء بعد الموت على ما ذكرناه. ومثل هذه قوله:
فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحي اللّه الموتى [البقرة/ 73] المعنى: فقلنا: اضربوا المقتول ببعض البقرة، فضربوه به فحيي، كذلك يحيي الله الموتى، أي: يحييهم للبعث مثل هذا الإحياء الذي عوين وشوهد، ومثل ذلك، إلّا أنه في النبات قوله: فأخرجنا به من كلّ الثّمرات كذلك نخرج الموتى [الأعراف/ 57] وقوله: بل زعمتم ألّن نجعل لكم موعداً [الكهف/ 48] أي: موعدا للبعث، فجحدتم ذلك فقال: إنّ ما توعدون لآتٍ [الأنعام/ 134] وقال: بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلًا [الكهف/ 58] وقال: واليوم الموعود [البروج/ 2] وقال: كما بدأنا أوّل خلقٍ نعيده وعداً
علينا [الأنبياء/ 104]
[الحجة للقراء السبعة: 2/63]
دل قوله: نعيده على وعد فانتصب الوعد لدلالة الإعادة عليه في قياس قول سيبويه.
فأما قوله: ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا [البقرة/ 235] فالمعنى: لا تصرّحوا للمعتدة بلفظ النكاح والتزويج، ولكن عرّضوا به، ولا تصرحوا، وذلك نحو ما حدّثنا أحمد بن محمد البصري: قال: حدثنا المؤمّل بن هشام، قال: حدثنا إسماعيل بن عليّة عن ليث عن مجاهد في قوله: ولا جناح عليكم فيما عرّضتم به من خطبة النّساء [البقرة/ 235] قال: يقول: إنك لجميلة، وإنّك لنافقة، وإنك إلى خير. وقوله: إلّا أن تقولوا قولًا معروفاً [البقرة/ 235] أي: معروفا منه الفحوى، والمعنى دون التصريح ويكون: إلّا أن تقولوا قولًا معروفاً فتعرّضوا بذلك، لأن التصريح به مزجور عنه، فهو منكر غير معروف.
فأما قوله: وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة [البقرة/ 51] فليس يخلو تعلّق الأربعين بالوعد من أن يكون على أنه ظرف أو مفعول ثان، فلا يجوز أن يكون ظرفا، لأن الوعد ليس فيها كلها، فيكون جواب كم، ولا في بعضها، فيكون كما يكون جوابا لمتى، وإنما الموعد تقضّي الأربعين، فإذا لم يكن ظرفا، كان انتصابه بوقوعه موقع المفعول الثاني.
والتقدير: وعدنا موسى انقضاء أربعين ليلة، أو: تتمة
[الحجة للقراء السبعة: 2/64]
أربعين ليلة، فحذفت المضاف، كما تقول: اليوم خمسة عشر من الشهر، أي: تمامه، وفسّر أن الأربعين: ذو القعدة، وعشر من ذي الحجّة.
ومثل ذلك في المعنى قوله: وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً [الأعراف/ 142] أي: انقضاء ثلاثين وأتممناها بعشرٍ فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلةً [الأعراف/ 142] فالميقات هو الأربعون، وإنما هو ميقات وموعد، لما روي من أن القديم سبحانه وعده أن يكلّمه على الطور. فأما انتصاب الأربعين في قوله: فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلةً [الأعراف/ 142] فكقولك: تم القوم عشرين رجلا، والمعنى: تم القوم معدودين هذا العدد، وتم الميقات معدودا هذا العدد وقد جاء الميقات في موضع الميعاد، كما جاء الوقت في موضع الوعد في قوله: إلى يوم الوقت المعلوم [الحجر/ 38] ومما يبين تقاربهما قوله: فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلةً [الأعراف/ 142] ولمّا جاء موسى لميقاتنا [الأعراف/ 143] وفي الأخرى وإذ وعدنا موسى أربعين ليلة [البقرة/ 51] وقال: واليوم الموعود [البروج/ 2] وقال: إلى يوم الوقت المعلوم [الحجر/ 38] وقال: إلى ميقات يومٍ معلومٍ [الواقعة/ 50].
فإن قلت: لم لا يكون الوقت في قوله: إلى يوم الوقت الوقت الذي يراد به الزمان، كقولك: هذا وقت قدوم الحاج، تريد به: الأوان الذي يقدمون فيه؟
[الحجة للقراء السبعة: 2/65]
فإنّ ذلك يبعد. ألا ترى أن اليوم لا يخلو من أن تريد به وضح النهار، أو البرهة من الزمان، ولو قلت: برهة الزمان أو يوم الزمان، لم يكن ذلك بالسهل. وليس هذا كقوله:
ولولا يوم يوم..
ولا كقوله:
حين لا حين محنّ وأنت تريد به حين حين، لأن إضافة الاسمين هنا كإضافة البعض إلى الكل.
الحجة لمن قرأ: واعدنا [البقرة/ 51] أن يقول:
قد ثبت أن الله تعالى قد كان منه وعد لموسى، ولا يخلو موسى من أن يكون قد كان منه وعد، أو لم يكن. فإن كان منه وعد، فلا إشكال في وجوب القراءة بواعدنا. وإن لم يكن منه وعد، فإنّ ما كان منه من قبول الوعد والتّحرّي لإنجازه، والوفاء به، يقوم مقام الوعد، ويجري مجراه، فإذا كان كذلك كان بمنزلة الوعد، وإذا كان مثله، وفي حكمه، حسن القراءة بواعدنا، لثبات التواعد من الفاعلين، كما قال:
ولكن لا تواعدوهنّ [البقرة/ 235] لمّا كان الوعد من
[الحجة للقراء السبعة: 2/66]
الخاطب والمخطوبة. ومما يؤكد حسن القراءة بواعدنا، أنّ «فاعل» قد يجيء من فعل الواحد نحو: عافاه الله، وطارقت النعل، وعاقبت اللصّ. فإن كان الوعد من الله سبحانه، ولم يكن من موسى كان من هذا الباب. وإن كان من موسى موعد، كان الفعل من فاعلين، فإذا كان منهما لم يكن نظر في حسن واعدنا.
وحجة من قرأ وعدنا بلا ألف قوله: وعد اللّه الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات لهم مغفرةٌ [المائدة/ 9] وعد اللّه الّذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم [النور/ 55] وقال: ألم يعدكم ربّكم وعداً حسناً [طه/ 86] وإذ يعدكم اللّه إحدى الطّائفتين [الأنفال/ 7] إنّ اللّه وعدكم وعد الحقّ [إبراهيم/ 22] وعدكم اللّه مغانم كثيرةً تأخذونها [الفتح/ 20].
فكلّ هذا وعد من الله عباده، وهو على «فعل» دون «فاعل». فكذلك الموضع المختلف فيه، ينبغي أن يحمل على المتفق عليه، وعلى ما كثر في التنزيل من لفظ وعد دون واعد في هذا الموضع.
واختلفوا في قوله تعالى: اتّخذتم [البقرة/ 51] وأخذتم [آل عمران/ 81] ولاتّخذت [الكهف/ 77].
[الحجة للقراء السبعة: 2/67]
فأظهر الذّال في ذلك كلّه ابن كثير وعاصم في رواية حفص، وأدغمها الباقون وأبو بكر بن عياش عن عاصم أيضا معهم.
قال أبو زيد: تقول: اتخذنا مالا، فنحن نتّخذه اتّخاذا، وتخذت اتخذ تخذا.
قال أبو علي: اتّخذ: افتعل، وفعلت منه: تخذت، قال:
لو شئت لاتّخذت عليه أجراً [الكهف/ 77] وقال:
وقد تخذت رجلي إلى جنب غرزها... نسيفا كأفحوص القطاة المطرّق
ولم أعلم تخذت تعدّى إلا إلى مفعول واحد، فأما اتّخذت فإنه في التعدي على ضربين: أحدهما: أن يتعدى إلى مفعول واحد. والآخر: أن يتعدى إلى مفعولين.
فأمّا تعدّيه إلى مفعول واحد فنحو قوله: يا ليتني اتّخذت مع الرّسول سبيلًا [الفرقان/ 27] وأم اتّخذ ممّا يخلق بناتٍ [الزخرف/ 16] واتّخذوا من دون اللّه آلهةً [طه/ 82] لو أردنا أن نتّخذ لهواً لاتّخذناه من لدنّا [الأنبياء/ 17].
[الحجة للقراء السبعة: 2/68]
وأمّا ما تعدّى إلى مفعولين، فإن الثاني منهما الأول في المعنى قال: اتّخذوا أيمانهم جنّةً [المجادلة/ 16].
وقال: لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء [الممتحنة/ 1] فاتّخذتموهم سخريًّا [المؤمنون/ 110].
فأمّا قوله: واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى [البقرة/ 125] فإن من أجاز زيادة (من) في الإيجاب، جاز على قوله أن يكون قد تعدى إلى مفعولين، ومن لم يجز ذلك، كان عنده متعديا إلى مفعول واحد.
ونظير اتّخذ فيما ذكرناه من تعديه إلى مفعول واحد مرة، وأخرى إلى مفعولين الثاني منهما الأول في المعنى: «جعلت» قال: وجعل الظّلمات والنّور [الأنعام/ 1] أي: خلقهما.
فإذا تعدى إلى مفعولين كان الثاني الأول في المعنى، كقوله: واجعلوا بيوتكم قبلةً [يونس/ 87] وجعلناهم أئمّةً يدعون إلى النّار [القصص/ 41] وجعلنا منهم أئمّةً يهدون بأمرنا [السجدة/ 24].
فعلى الخلاف الذي تقدم ذكره: وجعلوا الملائكة الّذين هم عباد الرّحمن إناثاً [الزخرف/ 19].
فأمّا قوله: ثمّ اتّخذتم العجل من بعده [البقرة/ 51].
وقوله: باتّخاذكم العجل [البقرة/ 54]، اتّخذوه وكانوا ظالمين [الأعراف/ 148] واتّخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلًا [الأعراف/ 148]. فالتقدير في ذلك كله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/69]
اتخذوه إلها، فحذف المفعول الثاني، الدليل على ذلك: أن الكلام لا يخلو من أن يكون على ظاهره كقوله: كمثل العنكبوت اتّخذت بيتاً [العنكبوت/ 41] وقوله:
متّخذا من عضوات تولجا أو يكون على إرادة المفعول، فلا يجوز أن يكون على ظاهره دون إرادة المفعول الثاني لقوله: إنّ الّذين اتّخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربّهم وذلّةٌ في الحياة الدّنيا [الأعراف/ 152]، ومن صاغ عجلا، أو نجره، أو عمله بضرب من الأعمال، لم يستحقّ الغضب من الله، والوعيد عند المسلمين. فإذا كان كذلك علم أنه على ما وصفنا من إرادة المفعول الثاني المحذوف في هذه الآي.
فإن قال قائل:
فقد جاء في الحديث: «يعذّب المصوّرون يوم القيامة»
وفي بعض الحديث: «فيقال لهم: أحيوا ما خلقتم».
[الحجة للقراء السبعة: 2/70]
قيل: «يعذّب المصورون» يكون على من صوّر الله تصوير الأجسام. وأما الزيادة فمن أخبار الآحاد التي لا توجب العلم، فلا يقدح لذلك في الإجماع على ما ذكرنا.
ومن زعم أنّ «تخذت» أصله من: أخذت، لم يكن هذا القول بمستقيم ولا قريب منه، ولو قلب ذلك عليه لم يجد فصلا، ألا ترى أنّ الهمزة لم تبدل من التاء، ولا التاء أبدلت منها.
فإن قلت: فلم لا يكون اتّخذت: افتعلت، من اخذت، كأنّ الهمزة لمّا أبدلت منها التاء لالتقائها مع همزة الوصل، أدغمت في التاء الزائدة كما أبدلوا في قولهم اتّسروا الجزور وإنما هو من اليسر ؟
فالقول: إنّ ما ذكرته من الإبدال لا يجوز في قياس قول أصحابنا، والذين أجازوا من ذلك شيئا لا ينبغي أن يجوز ذلك على قولهم، لاختلاف معنى الحرفين وقد قدمنا ذكر ذلك في ذكر قوله: الّذين يؤمنون بالغيب [البقرة/ 3].
[الحجة للقراء السبعة: 2/71]
فأما «أخذتم» فإن الأخذ قد استعمل منه فعل وفاعل وفعّل واستفعل:
فأما فعل منه فيتصرّف على ضروب:
منها: أنه يوجب الضّمان على المعترف به، كما يوجبه غصبت، يدلّ على ذلك ما أنشده أبو زيد:
أخذن اغتصابا خطبة عجرفيّة... وأمهرن أرماحا من الخطّ ذبّلا
فالقول في أخذن اغتصابا على ضربين: أحدهما: أن أخذن بمنزلة غصبن، فانتصب اغتصابا بعده، كما ينتصب باغتصبن، والآخر: أنه ينتصب بما يدل عليه أخذن من الاغتصاب، وما يدل على الغصب بمنزلته، وفي حكمه.
ومنها: أن يدل على العقاب، كقوله: وكذلك أخذ ربّك إذا أخذ القرى وهي ظالمةٌ، إنّ أخذه أليمٌ شديدٌ [هود/ 103] فأخذناهم بالبأساء والضّرّاء [الأنعام/ 42] وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة [هود/ 67] وأخذنا الّذين ظلموا بعذابٍ بئيسٍ [الأعراف/ 165] فأخذناهم أخذ عزيزٍ مقتدرٍ [القمر/ 42].
[الحجة للقراء السبعة: 2/72]
ومنها: أن يستعمل للمقاربة، قالوا: أخذ يقول، كما قالوا: جعل يقول، وكرب يقول، [وطفق يفعل].
ومنها: أن يتلقّى بما يتلقّى به القسم، نحو قوله: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس [آل عمران/ 187]، وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم [البقرة/ 84].
ومن ذلك قوله: خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ [البقرة/ 93] فليس معنى هذا: تناولوه، كما تقول: خذ هذا الثوب، ولكن معناه:
اعملوا بما أمرتم فيه، وانتهوا عمّا نهيتم عنه فيه بجدّ واجتهاد.
ومثل أخذ في ما ذكرنا من معنى العقاب: «آخذ». قال:
لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب، [الكهف/ 58] ولو يؤاخذ اللّه النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّةٍ [فاطر/ 45] لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [البقرة/ 286] لا يؤاخذكم اللّه باللّغو [البقرة/ 225].
وقال أبو زيد: إنّ الحمّى لتخاوذ فلانا. إذا كانت تأخذه في الأيام، وفلان يخاوذ فلانا بالزيارة: إذا كان يتعهّده بالزيارة في الأيام. والقول في ذلك: إنه ليس من الأخذ على القلب، ولو كان منه لكان يخائذ إذا حقّقت، فإذا خفّفت قلت يخايذ، فتجعلها بين بين، فإذا كانت من الواو، لم يكن منه.
إلا أن أخذ قد جاء فيه لغتان في الفاء: الواو والهمزة، كما
[الحجة للقراء السبعة: 2/73]
جاء أكدت ووكّدت، وأوصدت وآصدت. وحكى أبو زيد في هذا الكتاب أيضا: وهو نابه ونبيه، أوسد فلان كلبه على الصيد يوسده إيسادا، وقد آسده إذا أغراه. فكذلك يكون يخاوذ، كأنه قلبه عن وخذ، فثبتت الواو التي هي فاء في القلب، فصار يخاوذ: يعافل في القلب.
وقال أبو زيد: في المصادر ائتخذنا في القتال، نأتخذ ائتخاذا.
قال أبو علي: فهذا افتعل من الأخذ، ولا يجوز الإدغام في هذا، كما جاز في قولنا: اتخذنا مالا.
وأما فعّل فقالوا: رجل مؤخّذ عن امرأته.
وقال أبو حنيفة في الرجل المؤخّذ عن امرأته: يؤجّل كما يؤجّل العنّين. وللنساء كلام فيما زعموا يسمّينه الأخذ.
وأما استفعل، فقال الأصمعي فيما روى عنه الزّياديّ الاستئخاذ: أشد الرّمد.
وقال الهذليّ:
[الحجة للقراء السبعة: 2/74]
يرمي الغيوب بعينيه ومطرفه... مغض كما كسف المستأخذ الرّمد
كما كسف المستأخذ، أي: عين المستأخذ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. والرمد: الفاعل.
ويجوز: كما كسف المستأخذ الرّمد، أي: كسف عينه، فحذف المفعول كما يحذف في غير هذا.
وأما حجّة من لم يدغم أخذتم، واتخذتم، فلأن الذّال ليس من مخرج التاء والطاء، والذّال إنما هي من مخرج الظاء والثاء، فتفاوت ما بينهما، إذ كان لكل واحد من هذين القبيلين حيز ومخرج غير مخرج الآخر. وأيضا فإن الذال مجهورة، والتاء مهموسة، والمجهور يقرّب منه المهموس بأن يبدل مجهورا، ألا ترى أنّهم قالوا: في افتعل من الزين والذّكر:
ازدان وادّكر، ومزدان ومدّكر. فلمّا قرّبوا المهموس من المجهور بأن قلبوه إليه، لم يدغم المجهور في المهموس، لأنه تقريب منه، وهذا عكس ما فعل في مزدان، لأنهم في مزدان، إنّما قرّبوا المهموس من المجهور، وأنت إذا أدغمت الذّال في التاء، قرّبت المجهور من المهموس، قال سيبويه: حدثنا من لا نتّهم أنه سمع من يقول: أخذت، فيبيّن.
وحجّة من أدغم: أنّ هذه الحروف لمّا تقاربت، فاجتمعت في أنها من طرف اللسان وأصول الثنايا، قرب كلّ
[الحجة للقراء السبعة: 2/75]
حيّز منها من الحيّز الآخر. ألا ترى أنهم أدغموا الظاء والثاء والذال في الطاء والتاء والدال، وكذلك أدغموهنّ في الظاء، وأختيها في الانفصال، نحو: ابعث داود وأنفذ ثابتا، فإذا أدغمت في الانفصال، كان إدغامها فيما يجري مجرى المتّصل أولى). [الحجة للقراء السبعة: 2/76]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة} 51
قرأ ابو عمرو وإذ وعدنا موسى بغير ألف وكذلك في الأعراف وطه
وحجته أن المواعدة إنّما تكون بين الآدميّين وأما الله جلّ وعز فإنّه المنفرد بالوعد والوعيد ويقوّي هذا قوله {إن الله وعدكم وعد الحق}
وقرأ الباقون وإذ واعدنا بالألف وحجتهم أن المواعدة كانت من الله ومن موسى فكانت من الله أنه واعد موسى لقاءه على الطّور ليكلمه ويكرمه بمناجاته وواعد موسى ربه المصير إلى الطّور لما أمره به ويجوز أن يكون المعنى على إسناد الوعد إلى الله نظير ما تقول طارقت نعلي وسافرت والفعل من واحد على ما تكلّمت به العرب). [حجة القراءات: 96]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (25- قوله: {وإذ واعدنا} قرأ أبو عمرو بغير ألف، ومثله في الأعراف وطه، وقرأه الباقون بألف بعد الواو.
26- وعلة من قرأ بغير ألف إجماعهم على قوله: {ألم يعدكم} «طه 86» ولم يقل «يواعدكم» فالوعد من الله جل وعز وعده لموسى، وأيضًا فإن المفاعلة أكثر ما تكون من اثنين بين البشر، والوعد من الله وحده كان لموسى فهو منفرد بالوعد والوعيد، وعلى ذلك جاء القرآن، قال تعالى ذكره: {وعدكم} «إبراهيم 22»، و{إذ يعدكم} «الأنفال 7»، و{النار وعدها} «الحج 72» و{ألم يعدكم} «طه 86» وأيضًا فإن ظاهر اللفظ فيه وعد من الله لموسى، وليس فيه وعد من موسى فوجب حمله على الواحد بظاهر النص، لأن الفعل مضاف إلى الله وحده، وهو اختيار أبي عبيد، وهي قراءة الحسن وأبي رجاء وأبي جعفر وشيبة وعيسى بن عمر، وبه قرأ قتادة وابن أبي إسحاق، قال أبو حاتم: قراءة العامة عندنا «وعدنا» بغير ألف، وقال: إن المواعدة أكثر ما تكون بين المخلوقين والمتكافئين، كل واحد يعد صاحبه.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/239]
27- وعلة من قرأ بألف أنه جعل المواعدة من الله ومن موسى، وعد الله موسى لقاءه على الطور ليكلمه ويناجيه، ووعد موسى الله المسير لما أمره به، والمواعدة أصلها من اثنين، وكذلك هي في المعنى، ويجوز أن تكون المواعدة من الله جل ذكره وحده، فقد تأتي المفاعلة من واحد في كلام العرب، قالوا: طارقت النعل، وداويت العليل، وعاقبت اللص، والفعل من واحد، فيكون لفظ المواعدة من الله خاصة لموسى كمعنى «وعدنا» فتكون القراءاتان بمعنى واحد، وليس يبعد أن تكون المواعدة في هذا من اثنين، فيصح «واعدنا»، لأن موسى لابد أن يكون منه وعد لإتيانه ما أمر به، فيكون من باب «واعدنا» أو يكون موسى كان منه قبول الوعد التحري لإنجازه، والوفاء به، فيقوم ذلك منه مقام الوعد، ويجري منه قبول إلى معنى المفاعلة، فتلزم القراءة بالألف في الوجهين جميعًا، وقد قال الله: {ولكن لا تواعدوهن سرًا} «البقرة 235» فأتى بالمواعدة لأن التواعد كان من الخاطب ومن المخطوبة والاختيار «واعدنا» بالألف لأنه بمعنى «وعدنا» في أحد معنييه، ولأنه لابد لموسى من وعد أو قبول، يقوم مقام الوعد، فتصح المفاعلة على الوجهين جميعًا، ولأنه عليه أكثر القراء، وهو اختيار أبي طاهر). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/240]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (19- {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى} [آية/ 51]:-
بالألف، قرأها ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي.
وهو من المواعدة التي تكون من اثنين، إذ كان من الله تعالى لموسى وعد، وكان من موسى عليه السلام قبول له، فجرى ذلك مجرى المواعدة، ويجوز أن يكون من موسى أيضًا وعد بالحضور في الطور أو بالصوم أو بشيءٍ من ذلك، فتصح المواعدة.
ويجوز أن يكون الوعد في {واعدنا} من الله تعالى فحسب، فيكون فاعل من واحدٍ كعاقبت اللص وطارقت النعل.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب {وَعَدْنا} بغير ألف.
لأن أكثر ما في القرآن من هذا اللفظ قد جاء على وعد دون واعد نحو: {وَعَدَ الله الَّذِينَ آَمَنُوا} و{أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ} {وَعَدَكُمُ
[الموضح: 274]
الله مَغَانِمَ}، وكل هذا على أن الواعد هو الله تعالى، فإلحاق ذلك أيضًا بما كثر مثله في التنزيل أحرى.
ثم إذا حمل {وَاعَدْنَا} في بعض وجوهِهِ على {وَعَدْنا} فلأن يختار {وَعَدْنَا} الذي هو الأصل المحمول عليه أولى). [الموضح: 275]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (20- {اتَّخَذْتُمُ} [آية/ 51]:-
بإظهار الذال، وكذلك {أَخَذْتُمْ} و{لتّخَذْتَ}، قرأها ابن كثير و- ص- عن عاصم.
ووجه ذلك أن الذال ليس من مخرج التاء، ثم إنها مجهورة، والتاء مهموسة، وهما متباينان، ثم إن المهموس قد يقرب من المجهور بأن يقلب إياه في نحو: ادكر وازدان حيث قلب التاء وهو مهموس دالاً وهو مجهور، فلو كنت تدغم الذال في التاء لكنت قربت المجهور من المهموس، وهذا عكس ما ذكرناه، وإدغام الأقوى صوتًا في الأضعف صوتًا ليس بقياس عندهم.
وقرأ الباقون بالإدغام في ذلك كله في جميع القرآن.
ووجهه أن الحرفين اجتمعا في أنهما جميعًا من طرف اللسان وأصول الثنايا، وحيز أحدهما قريب من حيز الآخر وإن تباينا في المخرج وتخالفا
[الموضح: 275]
في الهمس والجهر، وقد فعلوا مثل هذا الإدغام في: أنقذ ثابتًا، والحرفان منفصلان، فلأن يفعل فيما هو كالمتصل أولى). [الموضح: 276]
قوله تعالى: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)}
قوله تعالى: {وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107227#post107227)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:43 AM
سورة البقرة
[من الآية (54) إلى الآية (57) ]
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) }
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فتوبوا إلى بارئكم)
روى اليزيدي عن أبي عمرو (بارئكم) بجزم الهمزة.
وروى عباس عن أبي عمرو أنه قال: قراءتي (بارئكم) مهموزة لا يثقّلها. وقال سيبويه: كان أبو عمرو يختلس الحركة من (بارئكم)، وهو صحيح، وسيبويه أضبط لما
[معاني القراءات وعللها: 1/150]
روى عن أبي عمرو من غيره، لأن حذف الكسر في مثل هذا إنما يأتي في اضطرار الشعر، ولا يجوز ذلك في القرآن، وسائر القراء قرأوا بالإشباع، وكسر الهمزة، وهي القراءة المختارة، وليس كل لسان يطوع ما كان يطوع له لسان أبي عمرو، لأن صيغة لسانه صارت كصيغة ألسنة العرب الذين شاهدهم وألف عادتهم). [معاني القراءات وعللها: 1/151]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في بارئكم [البقرة/ 54] في كسر الهمز واختلاس حركتها.
فكان عبد الله بن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ يكسرون العين من غير اختلاس ولا تخفيف.
واختلف عن أبي عمرو، فقال العباس بن الفضل الأنصاريّ: سألت أبا عمرو كيف تقرأ: إلى بارئكم مهموزة مثقّلة، أو إلى بارئكم مخففة؟ فقال: قراءتي مهموزة غير مثقّلة بارئكم.
وروى اليزيديّ وعبد الوارث عنه: إلى بارئكم ولا يجزم الهمزة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/76]
قال أحمد: وقال سيبويه: كان أبو عمرو يختلس الحركة من: بارئكم ويأمركم [البقرة/ 67] وما أشبه ذلك، مما تتوالى فيه الحركات، فيري من يسمعه أنه قد أسكن ولم يكن يسكن، وهذا مثل رواية عباس بن الفضل عنه التي ذكرتها أنه لا يثقّلها. وهذا القول أشبه بمذهب أبي عمرو، لأنه كان يستعمل التخفيف في قراءته كثيرا. من ذلك ما حدثني عبيد الله بن عليّ الهاشميّ عن نصر بن علي عن أبيه عنه أنه كان يقرأ ويعلّمهم الكتاب [البقرة/ 129] ويلعنهم [البقرة/ 159] يشمّ الميم والنون التي قبل الهاء الضمّ من غير إشباع. وكذلك: عن أسلحتكم وأمتعتكم [النساء/ 102] يشمّ التاء فيها شيئا من الخفض. أخبرني بذلك أبو طالب عبد الله بن أحمد بن سوادة قال: حدّثنا إبراهيم بن سعد الزّهراني، قال: حدثنا عبيد بن عقيل عن أبي عمرو بذلك.
قال: وكذلك: ويزكّيكم ويعلّمكم [البقرة/ 151] يشمّها شيئا من الضم، وكذلك: يوم يجمعكم [التغابن/ 9] يشمّ العين شيئا من الضم، وكذلك قوله: وأرنا مناسكنا [البقرة/ 128] لا يسكن الراء ولا يكسرها.
روى ذلك عنه علي بن نصر وعبد الوارث واليزيديّ وعباس بن الفضل وغيرهم، أعني: وأرنا وكذلك قراءته
[الحجة للقراء السبعة: 2/77]
في: يأمركم [البقرة/ 67] ويأمرهم [الأعراف/ 157] وينصركم [آل عمران/ 160] وما أشبه ذلك من الحركات المتواليات.
وروى عبد الوهاب بن عطاء وهارون الأعور عن أبي عمرو: وأرنا ساكنة الراء. وقال اليزيدي في ذلك كله:
إنه كان يسكّن اللام من الفعل في جميعه. والقول: ما خبرتك من إيثاره التخفيف في قراءته كلها، والدليل على إيثاره التخفيف أنه كان يدغم من الحروف ما لا يكاد يدغمه غيره، ويليّن الساكن من الهمز، ولا يهمز همزتين وغير ذلك.
وقال عليّ بن نصر: عن أبي عمرو: ولا يأمركم [آل عمران/ 80] برفع الراء مشبعة.
قال أبو علي: حروف المعجم على ضربين: ساكن ومتحرك. والساكن على ضربين:
أحدهما: ما أصله في الاستعمال السّكون مثل راء برد، وكاف بكر.
والآخر: ما أصله الحركة في الاستعمال فيسكن عنها.
وما كان أصله الحركة يسكن على ضربين، أحدهما: أن تكون حركته حركة بناء، والآخر: أن تكون حركة الإعراب.
[الحجة للقراء السبعة: 2/78]
وحركة البناء التي تسكن على ضربين:
أحدهما: أن يكون الحرف المسكن من كلمة مفردة، نحو: فخذ وسبع وإبل، وضرب وعلم. يقول من يخفف:
سبع، وفخذ، وعلم وضرب.
والآخر: أن يكون هذا المثال من كلمتين، فيسكن على تشبيه المنفصل بالمتصل، كما جاء ذلك في مواضع من كلامهم نحو الإمالة والإدغام، وذلك قولهم: «أراك منتفخا» ويخش اللّه ويتّقه [النور/ 52] ومن ذلك قول العجاج:
فبات منتصبا وما تكردسا ألا ترى أنّ نفخا من منتفخ، مثل كتف، وكذلك تقه من يتّقه، وكذلك ما أنشده أبو زيد من قوله:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا فنزّل مثل كتف. فأما حركة البناء فلا خلاف في تجويز إسكانها في نحو ما ذكرنا من قول العرب والنحويين. وأما حركة الإعراب فمختلف في تجويز إسكانها، فمن الناس من ينكره فيقول إن إسكانها لا يجوز من حيث كان علما للإعراب.
وسيبويه يجوّز ذلك، ولا يفصل بين القبيلين في الشعر، وقد روى ذلك عن العرب، وإذا جاءت الرواية لم تردّ بالقياس، فمن ما أنشده في ذلك قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/79]
وقد بدا هنك من المئزر وقوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب وقال: إذا اعوججن قلت صاحب قوّم ومما جاء في هذا النحو قول جرير:
سيروا بني العمّ فالأهواز منزلكم... ونهر تيرا ولا تعرفكم العرب
ومن ذلك قول وضاح اليمن:
[الحجة للقراء السبعة: 2/80]
إنما شعري شهد... قد خلط بالجلجلان
فأسكن الفتحة في مثال الماضي، وهذه الفتحة تشبه النصبة. كما أن الضمة في: صاحب قوّم، تشبه الرفعة. وجاز إسكان حركة الإعراب، كما جاز تحريك إسكان البناء، فشبّه ما يدخل على المعرب من المتحركات من الحركة بما يدخل على المبني، كما شبهوا حركات البناء بحركات الإعراب، فمن ثمّ أدغم نحو: ردّ، وفرّ، وعضّ ونحو ذلك، كما أدغموا نحو:
يردّ، ويشدّ. وذلك أن حركة غير الإعراب لما كانت تعاقب على المبني، كما تعاقب حركة الإعراب على المعرب أدغموه، كما أدغموا المعرب، والحركات المتعاقبة على
ذلك، نحو:
حركة الهمزة إذا سكن ما قبلها، نحو: اضرب أخاك، ونحو:
حركة التقاء الساكنين، وحركة النونين الخفيفة والشديدة فكما شبهوا تعاقب هذه الحركات التي للبناء على أواخر الكلم بتعاقب حركات الإعراب، حتى أدغم من أدغم نحو: ردّ، واستعدّ، كما يدغم نحو: يردّ، ويستعدّ، كذلك شبهوا حركة الإعراب بالبناء في نحو ما ذكرنا فأسكنوا.
فأما من زعم أن حذف هذه الحركة لا يجوز من حيث كانت علما للإعراب، فليس قوله بمستقيم، وذلك أن حركات
[الحجة للقراء السبعة: 2/81]
الإعراب قد تحذف لأشياء، ألا ترى أنها تحذف في الوقف، وتحذف من الأسماء والأفعال المعتلّة. فلو كانت حركة الإعراب لا يجوز حذفها من حيث كانت دلالة الإعراب، لم يجز حذفها في هذه المواضع، فإذا جاز حذفها في هذه المواضع لعوارض تعرض، جاز حذفها أيضا في ما ذهب إليه سيبويه وهو التشبيه بحركة البناء، والجامع بينهما: أنهما جميعا زائدان. وأنها قد تسقط في الوقف والاعتلال، كما تسقط التي للبناء للتخفيف.
فإن قلت: إن سقوطها في الوقف إنما جاز لأنه إذا وصلت الكلمة ظهرت الحركة ويستدل عليه بالموضع.
قيل: وكذلك إذا أسكن نحو: هنك، استدلّ عليه بالموضع، وإذا فارقت هذه الصّيغة التي شبّهت لها بسبع، ظهرت كما تظهر التي للإعراب في الوصل.
ومما يدل على أن هذه الحركة إذا أسكنت كانت مرادة، كما أن حركة الإعراب مرادة، قولهم: رضي، ولقضو الرجل، فأسكنوا، ولم يرجعوا الياء والواو إلى الأصل، حيث كانت مرادة. كذلك تكون حركة الإعراب لمّا كانت مرادة، وإن حذفت لم يمتنع حذفها، وكان حذفها بمنزلة إثباتها في الجواز كما كانت الحركة فيما ذكرنا كذلك.
فإن قلت: إنّ حركات الإعراب تدل على المعنى، فإذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/82]
حذفت اختلّت الدّلالة عليه، قيل: وحركات البناء أيضا قد تدل على المعنى وقد حذفت، ألا ترى أن تحريك العين بالكسر في نحو: ضرب يدل على معنى، وقد جاز إسكانها، فكذلك يجوز إسكان حركة الإعراب. وكذلك الكسر في مثل حذر، والضمة في نحو: حذر.
واعلم أن الحركات التي تكون للبناء والإعراب يستعملون في الضمة والكسرة منهما ضربين، أحدهما: الإشباع والتمطيط، والآخر: الاختلاس والتخفيف، وهذا الاختلاس والتخفيف إنما يكون في الضمة والكسرة، فأما الفتحة فليس فيها إلا الإشباع ولم تخفّف الفتحة بالاختلاس، كما لم تخفّف بالحذف، في نحو: جمل، وجبل، كما خفّف نحو: سبع وكتف، وكما لم يحذفوا الألف في الفواصل والقوافي من حيث حذفت الياء والواو فيهما، نحو: واللّيل إذا يسر [الفجر/ 4] وقوله:
... ثم لا يفر وكما لم يبدل الأكثر من التنوين الياء ولا الواو في الجر والرفع كما أبدلوا الألف في النصب، وهذا الاختلاس، وإن كان الصوت فيه أضعف من التمطيط، وأخفى، فإن الحرف المختلس حركته بزنة المتحرك، وعلى هذا المذهب حمل
[الحجة للقراء السبعة: 2/83]
سيبويه قول أبي عمرو: إلى بارئكم [البقرة/ 54] فذهب إلى أنه اختلس الحركة ولم يشبعها فهو بزنة حرف متحرك.
فمن روى عن أبي عمرو الإسكان في هذا النحو، فلعلّه سمعه يختلس فحسبه لضعف الصوت به والخفاء إسكانا، وعلى هذا يكون قوله: ويعلّمهم الكتاب [البقرة/ 129] ويلعنهم اللّه [البقرة/ 159] وكذلك عن أسلحتكم [النساء/ 102] وكذلك يزكّيكم ويعلّمكم [البقرة/ 151] ويوم يجمعكم [التغابن/ 9] ولا يأمركم [آل عمران/ 80] هذا كله على الاختلاس مستقيم حسن، ومن روى عنه الإسكان فيها، وقد جاء ذلك في الشعر، فلعله ظن الاختلاس إسكانا.
فأمّا قوله: وأرنا مناسكنا [البقرة/ 128] فالإسكان فيه حسن على تشبيه المنفصل بالمتصل، والاختلاس حسن، وليس إسكان هذا مثل إسكان: يأمركم، وأسلحتكم لأن الكسرة في: أرنا ليست بدلالة إعراب، ومثل ذلك قول من قال: ويتّقه ومن روى الإسكان في حروف الإعراب فقال:
تسكن لام الفعل، فعلى تجويز ما جاء في الشعر وفي الكلام، وقد تقدم ذكر ذلك.
فإن قال قائل: فهلا لم تسكن أرنا لأنّ الراء متحركة بحركة الهمزة فإذا حذفها لم تدلّ على الهمزة كما تدلّ إذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/84]
أثبتها عليها، قيل: ليس هذا بشيء، ألا ترى أن الناس أدغموا: لكنّا هو اللّه ربّي [الكهف/ 28] فذهاب الحركة في أرنا في التخفيف ليس بدون ذهابها في الإدغام). [الحجة للقراء السبعة: 2/85]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال ابن مجاهد: حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثنا خالد بن مرداس قال: حدثنا الحكم بن عمر الرُّعَيْني قال: أرسلني خالد بن عبد الله القسري إلى قتادة أسأله
[المحتسب: 1/82]
عن حروف من القرآن؛ منها قوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}، فقال قتادة: [فاقتالوا أنفسكم] من الاستقالة.
قال أبو الفتح: اقتال هذه افتعل، ويصلح أن يكون عينها واوًا كاقتاد، وأن يكون ياء كاقتاس.
وقول قتادة: إنها من الاستقالة، يقتضي أن يكون عينها ياء؛ لما حكاه أصحابنا عمومًا: من قِلت الرجل في البيع بمعنى أقلته، وليس في قِلت دليل على أنه من الياء؛ لقولهم: خِفت ونِمت، وهما من الخوف والنوم؛ لكنه في قولهم في مضارعه: أقيله.
وليس يحسن أن يحمله على مذهب الخليل في طِحت أطيح وتهت أتيه، أنهما فَعِلت أَفْعِل من الواو؛ لقلة ذلك.
وعلى أن أبا زيد قد حكى: ما هت الركِيَّةُ تميهُ، ودامت السماء تديم؛ لقلة ما هت تميه، ولأن أبا زيد قد حكى في دامت تديم المصدر وهو دَيْمًا، فقد يكون هذا على أن أصل عينه ياء.
وحدثني أبو علي بحلب سنة ست وأربعين قال: قال بعضهم: إن قِلت الرجل في البيع ونحوه إنما هو من: قُلْتُ له افسخ هذا العقد، وقال لي: قد فعلتُ، فهي عند من ذهب إلى ذلك من الواو.
قال أبو علي: ويفسد هذا ما حكوه في مضارعه من قولهم: أقيله، فهذا دليل الياء.
قال: ولا ينبغي أن يحمل على أنه فَعِلَ يَفْعِلُ من الواو -يريد مذهب الخليل- لقلة ذلك.
قال: لكنه من قولهم: تَقَيَّلَ فلان أباه، إذا رَجَعَتْ إليه أشباه منه. فمعنى أقلته على هذا: أني رجعت له عما كنت عقدته معه، ورجع هو أيضًا؛ فقد ثبت بذلك أن عين استقال من الياء، ولا يعرف في اللغة افتعلت من هذا اللفظ في هذا المعنى ولا غيره؛ وإنما هو استفعلت استقلت.
وقد يجوز أن يكون قتادة عرف هذا الحرف على هذا المثال، وعلى أنه لو كان بمعنى استقلت لوجب أن يُستعمل باللام، فيقال: استقلت لنفسي أو على نفسي، كما يقال: استعطفت فلانًا
[المحتسب: 1/83]
لنفسي وعلى نفسي، وليس معناه أن يسأل نفسه أن يُقِيلَه؛ وإنما يريد: أن يسأل ربه -عز وجل- أن يعفو عن نفسه. وكان له حرى -لو كان على ذلك- أن يقال: فاقتالوا لأنفسكم؛ أي: استقيلوا لها، واستصفحوا عنها.
فأما اقتال متعديًا، فإنما هو في معنى ما يجتره الإنسان لنفسه من خير أو شر ويقترحه، وهو من القول. قال:
بما اقتال من حُكْم عَلَيَّ طبيبُ
أي: بما أراده واقترحه واستامه، وليس معنى هذا معنى الآية، بل هو بضده؛ لأنه بمعنى استَلِينُوا واستعطفوا. هذا ما يُحْضِرُه طريق اللغة، ومذهب التصريف والصنعة، إلا أن قتادة ينبغي أن يحسن الظن به، فيقال: إنه لم يورد ذلك إلا بحجة عنده فيه من رواية أو دراية). [المحتسب: 1/84]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فتوبوا إلى بارئكم} {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}
[حجة القراءات: 96]
قرأ أبو عمرو إلى بارئكم ويأمركم وينصركم بالاختلاس وحجته في ذلك أنه كره كثرة الحركات في الكلمة الواحدة وروي عنه إسكان الهمزة قال الشّاعر:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
والكلام الصّحيح يا صاحب أقبل أو يا صاحب اقبل
وقرأ الباقون بارئكم ويأمركم بالإشباع على أصل الكلمة وهو الصّواب ليوفى كل حرف حقه من الإعراب). [حجة القراءات: 97] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (28 قوله: «ينصركم، وبارئكم» وشبهه، قرأه أبو عمرو في رواية الرقيين عنه بإسكان الراء والهمزة في «بارئكم» و«يأمرهم» و«يشعركم» و«ينصركم» و«بارئكم» على ما ذكرنا في الكتاب الأول، وقرأ في رواية العراقيين عنه باختلاس حركة الراء والهمزة في ذل، واختيار اليزيدي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/240]
الإشباع كالباقين، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو في رواية الرقيين عنه «أرني، وأرنا» بإسكان الراء، وقرأ أبو عمرو في رواية العراقيين عنه بالاختلاس، وقرأ ابن عامر وأبو بكر بإسكان الراء في السجدة في قوله: {أرنا اللذين} «29»، خاصة، وقرأ الباقون بحركة تامة في ذلك كله.
29- وعلة من أسكن أنه شبه حركة الإعراب بحركة البناء، فأسكن حركة الإعراب استخفافًا، لتوالي الحركات، تقول العرب: «أراك منتفخًا» بسكون الفاء، استخفافًا لتوالي الحركات، وأنشدوا:
وبات منتصبًا وما تكردسا
فأسكن الصاد لتوالي الحركات فشبه حركات الإعراب بحركات البناء، فأسكنها وهو ضعيف مكروه.
30- وعلة من اختلس الحركة أنها لغة للعرب في الضمات والكسرات تخفيفًا لا ينقص ذلك الوزن، ولا يتغير المعرب، ولما كان تمام الحركة مستثقلًا، لتوالي الحركات وكثرتها، والإسكان بعيدًا؛ لأنه يغير الإعراب عن جهته فتوسط الأمرين، فاختلس الحركة، فلم يخل بالكلمة من جهة الإعراب، ولا ثقلها من جهة توالي الحركات، فتوسط الأمرين.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/241]
31- وعلة من أتم الحركة، لم يسكن، ولا اختلس أنه أتى بالكلمة على أصلها، وأعطاها حقها من الحركات، كما يفعل بسائر الكلام، ولم يستثقل توالي الحركات؛ لأنها في تقدير كلمتين، المضمر كلمة، وما قبله كلمة، ولأن حذف الإعراب إنما يجوز في الشعر، ولا يحمل القرآن على ما يجوز في الشعر، وأيضًا فإنه فرق بين حركة الإعراب، التي تدل على معنى، وبين حركة البناء، التي لا تدل على معنى في أكثر الكلام، وأنه فرق أيضًا بين حركة البناء، التي لا تتغير عن حالها، وبين حركة الإعراب، التي تتغير، وتنتقل عن حالها، فألزم حركة الإعراب ترك التغييرين، إذ هي تتغير، فلم يجز أن يلحقها تغيير آخر، وجوز ذلك في حركة البناء إذ لا تتغير، وأجاز أن تغير بالإسكان استخفافًا، وأيضًا فإن عليه الجماعة، والإسكان في «أرنا» و«أرني» أخف من الإسكان في «يأمركم، وبارئكم» وشبهه لأن تلك حركة بناء، لا تتغير، وهذه حركة إعراب تتغير، وتنتقل، وإسكان حرف الإعراب بعيد ضعيف، وإسكان حركة البناء، إذا استثقلت، مستعمل كثير؛ لأن قولك: «أرني» بمنزلة «كتفي»، و«أرنا» بمنزلة «كتفا» والعرب تسكن الثاني من هذا استخفافًا، فحمل «أرني، وأرنا» على ذلك، لأن الكسرة في كل ذلك بناء، والاختيار تمام الحركات لأنه الأصل، وعليه جماعة القراء، وهو اختيار اليزيدي، ولأن الإسكان إخلال بالكلام، وتغيير للإعراب، والاختلاس فيه تكلف وتعمد ومؤونة، وهو خارج عن الأصول، قليل العمل به، قليل الرواية له، وقد اختار أبو أيوب إشباع الحركة في «أرنا»، وهو الأصل والاختيار). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/242]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (21- {بَارِئِكُمْ} [آية/ 54]:-
مختلسة الهمز، قرأها أبو عمرو، وكذلك {يَنْصُرُكُمْ} و{يَأْمُرُكُمْ} بالاختلاس في هذه الأحرف الثلاثة.
وذلك لأن العرب تستعمل في الضمة والكسرة الإشباع مرة للتحقيق، والاختلاس أخرى للتخفيف، ولا تختلس الفتحة لما فيها من الخفة، إذ الخفيف لا يخفف، فيقولون: سبع وكتف، ولا يقولون: جمل وجبل، والاختلاس وإن كان قريبًا من الإسكان لضعف الصوت فيه، فإنه بمنزلة التحريك؛ لأن المختلس على وزن المتحرك، فلا يبلغ أن يكون ساكنًا.
ومن روى عن أبي عمرو الإسكان في ذلك، فإنه ظن الاختلاس إسكانًا لقربه منه؛ فإن الإسكان في مثل هذا إنما بابه الشعر.
[الموضح: 276]
وقرأ الباقون {بَارِئِكُمْ} بحركةٍ بينةٍ، وكذلك في أمثاله في جميع القرآن.
وذلك أنه هو الأصل، ولا اعتراض على من تمسك بالأصل، ولم يعدل عنه إلى غيره). [الموضح: 277]
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة سهل بن شعيب النهمي: [جَهَرةً] "وزَهَرةً"، كل شيء في القرآن محرَّكًا.
قال أبو الفتح: مذهب أصحابنا في كل شيء من هذا النحو مما فيه حرف حلقي ساكن بعد حرف مفتوح: أنه لا يحرك إلا على أنه لغة فيه؛ كالزَّهْرة والزَّهَرة، والنَّهْر والنهَر، والشَّعْر والشَّعَر، فهذه لغات عندهم كالنشْز والنشَز، والحلْب والحلَب، والطرْد والطرَد.
ومذهب الكوفيين فيه أنه يحرك الثاني لكونه حرفًا حلقيًّا، فيجيزون فيه الفتح وإن لم يسمعوه؛ كالبحْر والبحَر والصخْر والصخَر.
وما أرى القول من بعد إلا معهم، والحق فيه إلا في أيديهم؛ وذلك أنني سمعت عامة عُقَيل تقول ذاك ولا تقف فيه سائغًا غير مستكره، حتى لسمعت الشجري يقول: أنا محَموم بفتح الحاء، وليس أحد يدعي أن في الكلام مفَعول بفتح الفاء.
[المحتسب: 1/84]
وسمعته مرة أخرى يقول -وقد قال له الطبيب: مَصَّ التفاح وارم بثُفله: والله لقد كنت أبغي مصه وعِلْيَتُهُ تَغَذُو بفتح الغين، ولا أحد يدعى أن في الكلام يفَعَل بفتح الفاء.
وسمعت جماعة منهم -وقد قيل لهم: قد أقيمت لكم أَنزالكم من الخبز- قالوا: فاللحَم -يريدون: اللحْم- بفتح الحاء.
وسمعت بعضهم وهو يقول في كلامه: ساروا نَحَوه بفتح الحاء، ولو كانت الحاء مبنية على الفتح أصلًا لما صحت اللام لتحركها وانفتاح ما قبلها؛ ألا تراك لا تقول: هذه عصَوٌ ولا فتَوٌ؟ ولعمري إنه هو الأصل؛ لكن أصل مرفوض للعلة التي ذكرنا، فعلى هذا يكون جَهَرة وزَهَرة -إن شئت- مبنيًّا في الأصل على فَعَلة، وإن شئت كان إتباعًا على ما شرحنا الآن). [المحتسب: 1/85]
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}
قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107229#post107229)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:44 AM
سورة البقرة
[من الآية (58) إلى الآية (59) ]
{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) }
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (نغفر لكم خطاياكم)
قرأ نافع: (يغفر لكم خطاياكم) - بالياء -.
وقرأ ابن عامر (تغفر لكم) بالتاء مضمومة -.
وقرأ الباقون (نغفر لكم خطاياكم) بالنون -.
قال أبو منصور: من قرأ (يغفر لكم خطاياكم) - بالياء - فلتقدم فعل الجماعة، ومن قرأ (تغفر) - بالتاء - فلتأنيث الخطايا، وهي جمع خطيئة وخطايا، ومن قرأ (نغفر لكم خطاياكم) فالفعل لله جلّ وعزّ، نغفر نحن، وخطاياكم على هذه القراءة في موضع النصب؛ لوقوع الفعل عليها.
ومن قرأ بالتاء والياء فخطاياكم في موضع الرفع، لأنه لم يسم فاعلها، والإعراب لا يتميز فيها؛ لأنها مقصورة.
والخطايا هي: الآثام التي تعمدها كاسبها). [معاني القراءات وعللها: 1/152]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في نغفر لكم خطاياكم [البقرة/ 58] في النون والتاء والياء.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي: نغفر لكم بالنون. وقرأ نافع: يغفر لكم بالياء مضمومة على ما لم يسمّ فاعله. وقرأ ابن عامر تغفر لكم مضمومة التاء.
ولم يختلفوا في: خطاياكم في هذه السورة، غير أن الكسائي كان يميلها وحده، والباقون لا يميلون.
قال أبو علي: حجة من قال: نغفر لكم بالنون أنه أشكل بما قبله. ألا ترى أنّ قبله: وإذ قلنا ادخلوا هذه [البقرة/ 58] فكأنه قال: قلنا ادخلوا، نغفر.
وحجة من قال: يغفر أنه يؤول إلى هذا المعنى، فيعلم من الفحوى أن ذنوب المكلفين وخطاياهم لا يغفرها إلا الله، وكذلك القول في من قرأ: تغفر. إلا أنّ من قال: يغفر لم يثبت علامة التأنيث في الفعل لتقدّمه، كما لم يثبت لذلك في نحو قوله: وقال نسوةٌ في المدينة [يوسف/ 30].
ومن قال: تغفر فلأن علامة التأنيث قد ثبتت في هذا النحو نحو قوله: قالت الأعراب [الحجرات/ 14] وكلا
[الحجة للقراء السبعة: 2/85]
الأمرين قد جاء به التنزيل قال: وأخذ الّذين ظلموا الصّيحة [هود/ 67] وفي موضع فأخذتهم الصّيحة [الحجر/ 83] والأمران جميعا كثيران.
فأما إمالة الكسائي الألف في: خطاياكم فجوازها حسن، وحسنها: أن الألف إذا كانت رابعة فصاعدا اطّردت فيها الإمالة، والألف في خطايا خامسة، ومما يبين جواز الإمالة في ذلك، أنك لو سمّيت بخطايا ثم ثنّيته، لأبدلت الياء من الألف، كما تبدل من ألف قرقرى وجحجبى، وألف مرامى، ونحو ذلك. ويقوي ذلك أن غزا ونحوها قد جازت إمالة ألفها، وإن كانت الواو تثبت فيها وهي على هذه العدّة، فإذا جاز في باب غزا مع ما ذكرناه، فجوازها في خطايا أولى، لأنها بمنزلة ما أصله الياء، ألا ترى أن الهمزة لا تستعمل هنا في قول الجمهور والأمر الكثير الشائع.
ومما يبين ذلك أن الألف قد أبدلت من الهمزة في العدّة التي يجوز معها تحقيق الهمزة. وذلك إذا كانت ردفا في نحو:
ولم أورا بها
[الحجة للقراء السبعة: 2/86]
ونحو:
... على رال فلو لم تنزّل منزلة الألف التي لا تناسب الهمزة، لم يجز وقوعها في هذا الموضع، فإذا جاز ذلك فيها، مع أن الهمزة قد يجوز أن تخفف في نحو: أورا، إذا لم يكن ردفا، فأن تجوز الإمالة في خطايا أولى). [الحجة للقراء السبعة: 2/87]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين}
قرأ نافع يغفر لكم بالياء وفتح الفاء على ما لم يسم فاعله خطاياكم في موضع رفع لأنّه مفعول ما لم يسم فاعله وحجته في الياء أن الفعل متقدم وقد حيل بينه وبين الخطايا ب لكم فصار الحائل كالعوض من التّأنيث وحجّة أخرى وهي أن الخطايا جمع وجمع ما لا يعقل يشبه بجمع ما يعقل من النّساء كما قال وقال
[حجة القراءات: 97]
نسوة في المدينة فلمّا ذكر فعل جميع النّساء ذكر فعل الخطايا ونحوه أم هل يستوي الظّلمات
وقرأ ابن عامر تغفر بالتّاء وقد ذكرنا إعرابها وحجته في التّاء أنه فعل متقدم نحو قوله قالت الأعراب
وقرأ الباقون نغفر بالنّون وحجتهم في ذلك أن نغفر بين خبرين من أخبار الله عن نفسه قد أخرجا بالنّون وذلك قوله {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية} فخرج ذلك بالنّون ولم يقل وإذ قيل فيقال تغفر ويغفر والآخر قوله {وسنزيد المحسنين} ولم يقل وسيزاد المحسنون
واعلم أن من قرأ يغفر فهو يؤول أيضا إلى هذا المعنى فيعلم من الفحوى أن ذنب الخلائق وخطاياهم لا يغفره إلّا الله ويقوّي هذا قوله {قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} ). [حجة القراءات: 98]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (32- قوله: {يغفر لكم} قرأه نافع بالياء، وقرأه ابن عامر بالتاء، وقرأه الباقون بالنون، وأدغم أبو عمرو في رواية الرقيين عنه، الراء في اللام، وأظهرها الباقون.
33- ووجه القراءة بالنون أنه مردود على ما قبله، وهو قوله: {وإذ قلنا}، فجرى «نغفر» على الإخبار عن الله جل ذكره، كما أتى «قلنا» على الإخبار، فالتقدير: وقلنا ادخلوا الباب سجدًا نغر لكم.
34- ووجه القراءة بالتاء أنه أنث، لتأنيث لفظ «الخطايا» لأنها جمع «خطية» على التكسير.
35- ووجه القراءة بالياء أنه ذَكَّرَ لما حال بين المؤنث وفعله، والعلل المذكورة في ولا «يقبل» تحسن في هذا على قراءة من قرأ بالياء، وحسن فيه الياء والتاء، وإن كان قبله إخبار عن الله، جل ذكره، في قوله: {وإذ قلنا} لأنه قد علم أن ذنوب الخاطئين لا يغفرها إلا الله، فاستغنى عن النون، ورد الفعل إلى الخطايا المغفورة، فأما من أدغم الراء في اللام فقد ذكرنا أنه قبيح لزوال تكرير الراء، ولأن الحرف ينتقل في الإدغام إلى أضعف من حاله قبل الإدغام، وذلك مرفوض قبيح والإظهار هو الأصل، وعليه الجماعة، فهو أبقى لقوة الحذف). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/243]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (22- {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [آية/ 58]:-
بالياء مضمومةً، قرأها نافع وحده.
وهذا على إسناد الفعل إلى المفعول به؛ لأنه معلوم أن خطايا العباد لا يغفرها إلا الله سبحانه، وتذكير الفعل إنما هو على حد تذكيره في قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} إذ كان جمعًا وقد تقدم فعله، وزاده الفصل ههنا جوازًا وحسنًا.
وقرأ ابن عامر {تُغْفَرْ لَكُمْ} بالتاء مضمومة، فأثبت علامة التأنيث؛ لأن العلامة قد ثبتت في نحو ذلك وهو {قَالَت الأعْرَابُ} وهذا لأنه إذا جاز ترك
[الموضح: 277]
العلامة في ذلك فإثبات العلامة أجوز؛ لأن معنى التأنيث حاصل فيه بكونه جماعة.
وقرأ الباقون {نَغْفِرْ لَكُمْ} بالنون مفتوحةً.
لأنه أليق بما تقدمه، وهو قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} كأنه قال: قلنا ادخلوا نغفر.
وأمال الكسائي {خَطَايَاكُمْ} و{خَطَايَاهُمْ} و{خَطَايَانَا} في جميع القرآن، وقد تقدمت علة هذا النحو؛ وذلك أن الألف إذا وقعت رابعةً فصاعدًا حسنت فيها الإمالة، وهذه الألف وقعت خامسة فلا نظر في حسن الإمالة فيها). [الموضح: 278]
قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107231#post107231)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:45 AM
تفسير سورة البقرة
[من الآية (60) إلى الآية (61) ]
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) }
قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا)
اتفق القراء على تسكين الشين من "عشرة" ها هنا، وهي لغة العالية
الفصيحة، وفيها لغة أخرى "عشرة) بكسر الشين، وقد قرأ بها
[معاني القراءات وعللها: 1/152]
بعض القراء،: هي قليلة.
وأما (عشرة) في مثل هذا الموضع فإن أهل اللغة لا يعرفونها، وقد قرأ بها الأعمش، والعرب لا تعرفها. والقراءة المختارة (عشرة) بسكون الشين.
وانتصب قوله: (عيناً) على التمييز، وجاء في التفسير: أن الله تبارك وتعالى فجّر لهم من حجر واحد اثنتا عشرة عينا لاثني عشر فريقا، لكل فريق عين يشربون منها، تنفجر إذا نزلوا، وتغور إذا ارتحنوا). [معاني القراءات وعللها: 1/153]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعمش: [اثْنَتَا عَشَرَةَ] بفتح الشين.
قال أبو الفتح: القراءة في ذلك: {عَشْرة} و[عَشِرة]، فأما [عَشَرة] فشاذ، وهي قراءة الأعمش.
وعلى الجملة فينبغي أن يعلم أن ألفاظ العدد قد كثر فيها الانحرافات والتخليطات، ونُقضت في كثير منها العادات؛ وذلك أن لغة أهل الحجاز في غير العدد نظير عشْرة: عشِرة، وأهل الحجاز يكسرون الثاني، وبنو تميم يسكنونه، فيقول الحجازيون: نَبِقة وفَخِذ، وبنو تميم تقول: نبْقة وفخذ، فلما ركب الاسمان استحال الوضع فقال بنو تميم: إحدى عشِرة وثنتا عشِرة إلى تسع عشِرة بكسر الشين، وقال أهل الحجاز: عشْرة بسكونها، ومنه قولهم في الواحد: واحد وأَحد، فلما صاروا إلى العدد قالوا: إحدى عشرة، فبنوه على فِعْلَى، ومنه قولهم: عشْر وعَشرة، فلما صاغوا منه اسمًا للعدد بمنزلة ثلاثون وأربعون قالوا: عشرون، فكسروا أوله، ومنه قولهم: ثلاثون وأربعون إلى التسعون، فجمعوا فيه بين لفظين ضدين؛ أحدهما يختص بالتذكير والآخر بالتأنيث.
أما المختص بالتذكير فهو الواو والنون، وأما المختص بالتأنيث فهو قولهم: ثلاث وأربع وتسع في صدر ثلاثون وأربعون وتسعون. وكل واحد من ثلاث وأربع وخمس وست إلى تسع هكذا بغير هاء مختص بالتأنيث. ولما جمعوا في هذه الأعداد -من عشرين إلى تسعين- بين لفظي التذكير والتأنيث صلحت لهما جميعًا، فقيل: ثلاثون رجلًا، وثلاثون امرأة، وخمسون جارية وخمسون غلامًا، وكذلك إلى التسعين.
ومنه أيضًا اختصارهم من ثلثمائة إلى تسعمائة على أن أضافوه إلى الواحد، ولم يقولوا: ثلاث مئين،
[المحتسب: 1/85]
ولا أربع مئات إلا مستكرهًا وشاذًّا، فكما ساغ هذا وغيره في أسماء العدد قالوا أيضًا: [اثنتا عَشَرَة] في قراءة الأعمش هذه، وينبغي أن يكون قد روى ذلك رواية، ولم يره رأيًا لنفسه.
وعلى ذلك ما يُروى: من أن أبا عمرو حضر عند الأعمش فروى الأعمش: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتخولنا بالموعظة، فقال أبو عمرو: إنما هو يتخوننا بالنون، فأقام الأعمش على اللام، فقال له أبو عمرو: إن شئت أعلمتك أن الله لم يعلمك من هذا الشأن حرفًا فعلت، فسأل عنه الأعمش، فلما عرف أبا عمرو وكبر عنده وأصغى إليه، وعلى أن هذا الذي أنكره أبو عمرو صحيح عندنا؛ وذلك أن معنى يتخولنا: يتعهدنا، فهو من قوله:
يساقِطُ عنه ورقُه ضارياتِها ... سِقاط حديد القَين أَخول أَخولا
أي: شيئًا بعد شيء، ومنه قولهم: فلان يَخُولُ على أهله: أي يتفقدهم، ويتعهد أحوالهم، ومنه قولهم: خالُ مالٍ، وخائل مال: إذا كان حسن الرِّعْيَة والتفقد للمال. والتركيب مما تُغير فيه أوضاع الكلم عن حالها في موضع الإفراد؛ من ذلك حكاية أبي عمرو الشيباني من قول بعضهم في حضَرَمَوْت: حضْرَمُوت بضم الميم؛ ليصير على وزن المفردات نحو عَضْر فُوط ويَسْتَعُور.
ومن تحريف ألفاظ العدد ما أنشده أبو زيد في نوادره:
علام قتل مسلم تعمُّدا ... مذ سنة وخَمِسُون عددا
بكسر الميم من خمسون، وعذره وعلته عندي أنه احتاج إلى حركة الميم لإقامة الوزن، فلم ير أن يفتحها فيقول: خَمَسون؛ لأنه كان يكون بين أمرين: إما أن يُظن أنه كان الأصل فتحها ثم أُسكنت، وهذا غير مألوف؛ لأن المفتوح لا يسكن لخفة الفتحة، وإما أن يقال: إن الأصل السكون فاضظر ففتحها، وهذا ضرورة إنما جاء في الشعر، نحو قوله:
مُشْتَبِهِ الأَعلَامِ لَمَّاعِ الْخَفَق
[المحتسب: 1/86]
أي: الْخَفْق. ومنه قول زهير:
ثم استمروا وقالوا إن مشرَبكم ... ماء بشرقي سلمى فَيْدُ أو رَكَكُ
قال أبو عثمان: قال الأصمعي: سألت أعرابيًّا -ونحن في الموضع الذي ذكره زهير- يعني هذا البيت؛ فقلت له: هل تعرف رككًا؟ فقال: قد كان هاهنا ماء يسمى رَكًّا.
قال الأصمعي: فعلمت أن زهيرًا احتاج إليه فحركه، فعدل عن الفتح؛ لئلا يُعرف بأثر الضرورة، فعدله إلى موضع آخر فكسر الميم، فكأنه راجَع بذلك أصلًا حتى كأنه كان خمِسون ثم أسكن تخفيفًا، فلما اضطر إلى الحركة كسر، فكان بذلك كمراجع أصلًا لا مستَكرَهًا على أن يُرى مضطرًّا.
وأنَّسه أيضًا بذلك: ما جاء عنهم من قولهم: إحدى عشْرة وعشِرة، فصار خَمِس من خَمِسون بمنزلة عَشِرة، وصار خَمْسون بمنزلة عَشْر). [المحتسب: 1/87]
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (النّبيّين)، و(الأنبياء)
قرأ نافع وحده: (النّبيّئين) و(الأنبئاء)، و: (النبيئون)، و(النبيء) بالهمز في كل القرآن إلا في موضعين في سورة الأحزاب: (إن وهبت نفسها للنّبيّ إن أراد النّبيّ)، وقوله: (لا تدخلوا بيوت النّبيّ إلّا أن يؤذن لكم).
وسائر القراء لم يهمزوا (النبي).
[معاني القراءات وعللها: 1/153]
قال أبو منصور: من همز (النبيء) و(الأنبئاء) و(النبيئين) فهو من النبأ، ومن أنبأ عن الله، أي: أخبر، وكأنه على هذا (فعيل) بمعنى (مفعل)، مثل (نذير) بمعنى (منذر)، ولها نظائر في القرآن.
ومن لم يهمز (النبي) ذهب به إلى: نبا الشيء ينبو إذا ارتفع، ويقال للمكان المرتفع: نبى.
وكذلك النبوة والنباوة، وأكثر العرب على ترك الهمز في (النبي)، وهو اختيار أهل اللغة؛ لأنه لو كان مهموزا لجمع على النبئاء، وقد جمعه الله على (الأنبياء). مثل (تقي) و(أتقياء) و(غني) و(أغنياء).
وحجة من همز وإن كان مجموعا على الأنبياء، أنه مثل: نصيب وأنصباء، وجمع ربيع: النهر على أربعاء.
والقراءة المختارة ترك الهمز). [معاني القراءات وعللها: 1/154]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في قوله: النّبيّين [البقرة/ 61] والنّبيّون [البقرة/ 136] والنّبوّة [آل عمران/ 79] والأنبياء [آل عمران/ 112] والنّبيّ [آل عمران/ 68] في الهمز، وتركه.
فكان نافع يهمز ذلك كلّه في كلّ القرآن إلا في موضعين في سورة الأحزاب: قوله: وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنّبيّ إن أراد [الآية/ 50] بلا مدّ ولا همز. وقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/87]
لا تدخلوا بيوت النّبيّ إلّا [الآية/ 53] وإنما ترك همز هذين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد، هذا قول المسيبي وقالون، وقال ورش عن نافع: إنه كان يهمزها جميعا، إلا أنه كان يروي عن نافع: أنه كان يترك الهمزة الثانية في المتّفقتين والمختلفتين، وتخلف الأولى الثانية، فيقول فيه للنبيء ان اراد، مثل: النّبيعن راد و: بيوت النبيء يلا، وكان الباقون لا يهمزون من ذلك شيئا.
قال أبو زيد: نبأت من أرض إلى أخرى، فأنا أنبأ نبأ ونبوءا: إذا خرجت منها إلى أخرى، وليس اشتقاق النبيء من هذا وإن كان من لفظه، ولكن من النبأ الذي هو الخبر، كأنه المخبر عن الله سبحانه. فإن قلت: لم لا يكون من النباوة، ومما أنشده أبو عثمان قال: أنشدني كيسان:
محض الضّريبة في البيت الذي وضعت... فيه النّباوة حلوا غير ممذوق
أو يجوّز فيه الأمرين، فتقول: إنه يجوز أن يكون من النباوة، ومن النبأ، كما أجزت في عضة أن تكون من الواو، لقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/88]
وعضوات تقطع اللهازما ومن الهاء لقوله:
.. لها بعضاه الأرض تهزيز فالقول: إن ذلك ليس كالعضة، لأن سيبويه زعم: أنهم يقولون في تحقير النّبوّة: كان مسيلمة نبوّته نبيّئة سوء، وكلّهم يقول: تنبّأ مسيلمة، فلو كان يحتمل الأمرين جميعا ما أجمعوا على تنبّأ، ولا على النّبيّئة، بل جاء فيه الأمران: الهمز وحرف اللين، فأن اتفقوا على تنبّأ والنّبيّئة دلالة على أن اللام همزة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/89]
ومما يقوّي أنه من النبأ الذي هو الخبر أن النباوة الرفعة، فكأنه قال: في البيت الذي وضعت فيه الرّفعة. وليس كلّ رفعة نبوءة، وقد تكون في البيت رفعة ليست بنبوءة. والمخبر عن الله بوحي إليه المبلّغ عنه نبيء ورسول، فهذا الاسم أخصّ به وأشدّ مطابقة للمعنى المقصود إذا أخذ من النّبأ. فإن قلت: فلم لا تستدلّ بقولهم: أنبياء، على جواز الأمرين في اللام من النبي، لأنهم قالوا: أنبياء ونباء، قال:
يا خاتم النّباء إنّك مرسل بالحقّ......
قيل: ما ذكرته لا يدلّ على تجويز الأمرين فيه، لأن أنبياء إنما جاء لأن البدل لما لزم في نبيّ صار في لزوم البدل له، كقولهم: عيد وأعياد، فكما أن أعيادا لا تدل على أن عيدا من الياء، لكونه من عود الشيء، كذلك لا يدل أنبياء على أنه من النباوة، ولكن لمّا لزم البدل جعل بمنزلة تقيّ وأتقياء، وصفيّ وأصفياء ونحو ذلك، فلما لزم صار كالبريّة والخابية، ونحو ذلك مما لزم الهمز فيه حرف اللين بدلا من الهمزة. فما دل على أنه من الهمز قائم لم يعترض فيه شيء، فصار قول من حقّق الهمزة في النبيّ، كردّ الشيء إلى الأصل المرفوض استعماله
[الحجة للقراء السبعة: 2/90]
نحو: وذر، وودع، فمن ثمّ كان الأكثر فيه التخفيف. فإن قلت فقد قال سيبويه: بلغنا أن قوما من أهل الحجاز من أهل التحقيق يحققون: نبيئا وبريئة. قال: وذلك رديء، وإنما استردأه لأن الغالب في استعماله التخفيف على وجه البدل من الهمز، وذلك الأصل كالمرفوض، فردؤ عنده ذلك لاستعمالهم فيه الأصل الذي قد تركه سائرهم، لا لأن النبيء الهمز فيه غير الأصل، ولا لأنه يحتمل وجهين كما احتمل عضة وسنة.
ومن زعم أن البريّة من البرا الذي هو التراب كان غالطا، ألا ترى أنه لو كان كذلك لم يحقّق همزه من حقق من أهل الحجاز، فتحقيقهم لها يدل على أنها من برأ الله الخلق، كما أن تحقيق النبيء يدل على أنه من النبأ، وكما كان اتفاقهم على تنبأ يدل على أن اللام في الأصل همزة.
فالحجة لمن همز النبيء [حيث همز] أن يقول: هو أصل الكلمة، وليس مثل عيد، الذي قد ألزم البدل، ألا ترى أن ناسا من أهل الحجاز قد حققوا الهمزة في الكلام، ولم يبدلوها. كما فعل أكثرهم، فإذا كان الهمز أصل الكلمة وأتى به قوم في كلامهم على أصله لم يكن كماضي يدع، ونحوه مما رفض استعماله واطّرح.
فأما ما
روي في الحديث: «من أن بعضهم. قال: يا
[الحجة للقراء السبعة: 2/91]
نبيء الله! فقال: «لست بنبيء الله، ولكني نبيّ الله»
فأظنّ أن من أهل النقل من ضعّف إسناد الحديث. ومما يقوي تضعيفه أنّ من مدح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يا خاتم النبآء لم يؤثر فيه إنكار عليه فيما علمنا، ولو كان في واحده نكير لكان الجمع كالواحد، وأيضا فلم نعلم أنه عليه السّلام أنكر على الناس أن يتكلموا بلغاتهم.
ولمن أبدل ولم يحقّق أن يقول: مجيء الجمع في التنزيل على أنبياء يدل على أن الواحد قد ألزم فيه البدل، وإذا ألزم فيه البدل ضعف التحقيق. وقال الفرّاء في قراءة عبد الله النبية إلى (ال ن ب ي ي). قال الفراء: لا يخلو من أن يكون النبيّة مصدرا للنبإ، أو يكون النبيّة مصدرا نسبه إلى النبي عليه السلام.
[قال أبو علي]: والقول في ذلك أنه لا يخلو من أن يكون من النباوة التي في قول ابن همام، أو يكون من النّبأ وقلبت الهمزة. أو يكون نسبا، فلا يكون من النباوة، فيكون
[الحجة للقراء السبعة: 2/92]
مثل مطيّة، لأنّ فيما حكاه سيبويه من أنهم كلّهم يقولون: تنبّأ مسيلمة، دلالة على أنه من الهمزة [فإذا لم يجز ذلك ثبت أنه من الهمز] وجاز أن يكون ياء ألزمت البدل من الهمزة، وعلى ذلك قالوا: أنبياء، وجاز أن يكون من قول من حقّق، إلا أنه خفف فوافق لفظ التخفيف عن التحقيق لفظ من يرى القلب. وقد حكى سيبويه كما رأيت أن بعضهم يحقق النبيء، فإذا كان نسبا أمكن أن يكون إلى قول من حقق، وإلى قول من خفّف، وأمكن أن يكون إلى قول من أبدل. فلا يجوز أن يكون على قول من حقّق ثم خفّف لأنه لو كان كذلك لكان:
النبئيّة، لأنه نسب إلى فعيلة، فرددت الهمزة لمّا حذفت الياء التي كنت قلبت الهمزة في التخفيف من أجلها، فلما لم يردّ، وقال النبيّة، علمت أن النسب إليه على قول من قلب الهمزة ياء، وهم الذين قالوا: أنبياء، فحذفت الياءين لياءي النسب، فبقيت الكلمة على فعيّة. هذا على قياس قولهم: عبد بيّن العبديّة، وقد حكاه الفرّاء.
وأما تخفيف نافع: النبيّ في الموضعين اللذين خفف فيهما في رواية المسيّبي وقالون، فالقول في ذلك أنه لا يخلو من أن يكون ممن يحقّق الهمزتين أو يخفّف إحداهما، فإن حقّق الهمزتين جاز أن يجعل الثانية بين بين، لأن الهمزة إذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/93]
كانت بين بين كانت في حكم التحقيق، فتقول: (للنّبيء إن)، وإن لم يحقّق الهمزتين قلب الثانية منهما ياء قلبا فقال: (للنّبيء ين) كما قلبوا في: (أيمّة)، وكما قلبوا في: جاء وشاء ويجعل المنفصل بمنزلة المتصل في أيمّة وجاء.
ووجه رواية قالون، والمسيّبيّ: أنه إذا خفّف الهمزة من النبيء لم يجتمع همزتان، فإن شاء حقق الهمزة المكسورة من (إلّا) ومن (إن) وإن آثر التخفيف جعلهما بين
الياء والهمزة). [الحجة للقراء السبعة: 2/94]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يحيى بن وثاب والأشهب: [وَقُثَّائِهَا].
قال أبو الفتح: بالضم في القُثاء حسن الطريقة؛ وذلك أنه من النوابت، وقد كثر عنهم في هذه النوابت الفُعَّال كالزُّبَّاد والقُلَّام والعُلَّام والثُّقاء، ومن هاهنا كان أبو الحسن يقول في رمان: أنه فُعَّال؛ لأنه من النبات، وقد كثر فيه الفعال على ما مضى، وأما قياس مذهب سيبيويه: فأن يكون فُعلان بزيادة النون؛ لغلبة زيادة النون في هذه المواضع بعد الألف.
وله أيضًا وجه من القياس: أنه من معنى رَمَتْتُ الشيء: غذا جمعت أجزاءَه، وهذه حال الرمان، وقد جاء بهذا الموضع نفسه بعض المولدين فقال:
ما يُحسِن الرُّمان يجمع نفسه ... في قِشِره إلا كما نحن
[المحتسب: 1/87]
ويدل على أنه من معنى الاجتماع والتضام تسميتهم لرمان البر: الْمَظَّ؛ وذلك لقوة اجتماعه، واتصال أجزائه، فهو من معنى المماظَّة المعازَّة، وهو إلى الشدة، ويدل على صحة مذهب سيبويه في أن الألف والنون إذا جاءتا بعد المضاعف كانتا بحالهما وهما بعد غير المضاعف، ما ورد في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن قومًا وردوا عليه فقال لهم: "مَن أنتم؟ " فقالوا: بنو غيَّان، فقال عليه السلام: "بل أنتم بنو رَشْدان"، أفلا تراه كيف اشتق الاسم من الغي والغَوَاية حتى حكم بزيادة النون؛ لأنه قابله بضده وهو قوله: "رشدان"، وترك أن يشتقه من الغَيْن، وهو إلباس الغيم؟ ألا ترى إلى قوله:
كأني بَيْنَ خافِيتى عُقاب ... أصاب حَمامة في يوم غَيْن
فصار "غَيَّان" عنده مع التضعيف الذي فيه بمنزلة ما لا تضعيف فيه من نحو: مَرْجان وسَعْدان، فكما يحكم بزيادة النون في مثل هذا من غير التضعيف، كذلك حكم بزيادتها مع التضعيف). [المحتسب: 1/88]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن مسعود وابن عباس: [وثُومِها] بالثاء.
قال أبو الفتح: يقال: الثُّوم والفُوم بمعنى واحد؛ كقولهم: جدث وجدف، وقام زيد ثم عمرو، ويقال أيضًا: فم عمرو؛ فالفاء بدل فيهما جميعًا؛ ألا ترى إلى سَعَة تصرف الثاء في جدث، لقولهم: أجداث، ولم يقولوا: أجداف، وإلى كثرة ثُمَّ وقلة فُمَّ؟ ويقال: الفوم: الحنطة، قال:
قد كنت أحسبني كأغنى واجد ... وَرَد المدينة عن زراعة فُوم
أي: حنطة). [المحتسب: 1/88]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة زهير الفُرقُبي: [الذي هو أَدْنَأ] بالهمز.
قال أبو الفتح: أخبرنا أبو علي عن أبي الحسن علي بن سليمان عن أبي العباس محمد بن يزيد
[المحتسب: 1/88]
عن الرياشي عن أبي زيد قال: تقول: دَنُؤ الرجل يَدْنُؤ دناءَة، وقد دَنأ يدنأ إذا كان دنيئًا لا خير فيه، غير أن القراءة بترك الهمز: {أدنى}، وينبغي أن يكون من دنا يدنو؛ أي: قريب.
ومنه قولهم في المعنى: هذا شيء مقارب للشيء ليس بفاخر ولا موصوف في معناه، ومن هذه المادة قولهم: هذا شيء دونٌ؛ أي: ليس بذاك، وقولهم: هذا دونك، فينتصب هذا على الظرف؛ أي: هو في المحل الأقرب، وينبغي أن يكون "دون" من قولك: هذا رجل دون، وصفًا على فُعْل كحُلْو ومُر، ورجل جُدٍّ؛ أي: ذي جَدٍّ.
وقد يجوز أن يكون في الأصل ظرفًا ثم وصف به، ويُؤنِّسُ هذا المذهب الثاني أنَّا لا نعرف فعلًا تصرف من هذا اللفظ كدان يدون ولا نحوه، ولو كان في الأصل وصفًا لكان حرى أن يستعملوا منه فِعلا؛ كقولهم: قد حلا يحلو، ومن يَمَرُّ وأَمَرَّ يُمِرُّ، وقد جَدِدْتَ يا رجل. قال الكميت:
وجدت الناس غير ابني نزار ... ولم أذمهم شرطًا ودُونَا). [المحتسب: 1/89]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم: [ما سِأَلْتم] بكسر السين.
قال أبو الفتح: فيه نظر؛ وذلك أن هذه الكسرة إنما تكون في أول ما عينه معتلة كبِعت وخِفت، أو في أول فُعِل إذا كانت عينه معتلة أيضًا كقِيل وبِيع وحِلَّ وبِلَّ؛ أي: حُلَّ وبُلَّ، وصِعْق الرجل نحوه، إلا أنه لا تكسر الفاء في هذا الباب إلا والعين ساكنة أو مكسورة كنعم وبئس وصِعْق، فأما أن تكسر الفاء والعين مفتوحة في الفعل فلا.
فإذا كان كذلك فقراءتهما [سِأَلْتم] مكسورة السين مهموزة غريب، والصنعة في ذلك: أن في سأل لغتين: سِلْتَ تَسَال كخِفْتَ تَخَاف، وسأَلْتَ تَسْأَل كسَبَحَتَ تَسْبَح، فإذا أَسندت الفعل إلى نفسك قلت على لغة الواو: سِلْتُ كخِفْتُ، وهي من الواو؛ لما حكاه أصحابنا من قولهم: هما يتساولان.
ومن همز قال: سألت، فأما قراءته: [سِأَلْتم]، فعلى أنه كسر الفاء على قول مَن قال: [سِلْتُم] كخِفْتُم، ثم تنبه بعد ذلك للهمزة، فهمز العين بعدما سبق الكسر في الفاء فقال: [سِأَلْتم]؛ فصار ذلك من تركيب اللغة.
[المحتسب: 1/89]
ومثله ما رويناه عن أبي بكر محمد بن الحسن عن أبي العباس أحمد بن يحيى من قول بلال بن جرير:
إذا جِئْتَهم أو سآيلْتَهُم ... وجدتَ بِهِمْ علَّة حاضِرَه
وذلك أنه أراد فاعلتهم ساءلتهم.
ومن العادة أيضًا أن تُقلب الهمزة في هذا الثاني، فيقال: سايلت زيدًا، ثم إنه أراد الجمع بين العوض والمعوض منه، فلم يمكنه أن يجمع بينهما في موضع واحد كالعرف في ذلك؛ لأنه لا يكون حرفان واقعين في موضع واحد عينين كان أو غيرهما، فأجاءه الوزن إلى تقديم الهمزة التي هي العين قبل ألف فاعلت، ثم جاء بالياء التي هي بدل منها بعدها؛ فصار سآيلتهم.
فإن قيل ما مثال: سآيلتهم؟
قلت: هو فعاعلتهم؛ وذلك لأن الياء بدل من الهمزة التي هي عين، والبدل من الشيء يوزن بميزانه، ألا ترى أن من اعتقد في ياء أَيْنُق أنها عين أبدلت قال هي أَعْفُل؛ لأن الياء بدل من الواو التي هي عين نُوق، فالياء إذن عين في موضع العين، كما كانت الواو لو ظهرت في موضع العين، كما أن ياء ريح وعيد في المثال عين فِعْل، كما كانت الواو التي الياء بدل منها عين فعل في رِوْح وعِوْد، وهذا واضح.
وكذلك قوله أيضًا: [سِأَلْتم] بكسر الفاء على حد كسرها في سِلتم، ثم استذكر الهمزة في اللغة الأخرى فقال: سِأَلْتم، ويجوز أيضًا أن يكون أراد سَأَلْتم، فأبدل العين ياء كما أبدلها الآخر في قوله:
سالَتْ هذيلٌ رسول الله فاحشةً ... ضلَّتْ هذيلٌ بما قالت ولم تُصِبِ
فصار تقديره على هذا إلى سِلْتُم من الوجه؛ أي: من طريق البدل، لا على لغة مَن قال: هما يتساولان، فلما كسر السين استذكر الهمزة فراجعه هنا، كما راجعه في القول الأول.
[المحتسب: 1/90]
وقد أفردنا في كتاب الخصائص بابًا في أن صاحب اللغة قد يعتبر لغة غيره ويراعيها؛ فأغنى عن إعادته هنا). [المحتسب: 1/91]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ويقتلون النّبيين بغير الحق}
قرأ نافع (ويقتلون النبيئين) بالهمز من أنبأ أي أخبر عن الله كما قال جلّ وعز من أنبأك هذا فالنبي صلى الله عليه وسلم ينبئ أي يخبر عن الله وهو فعيل من أنبأ وإنّما كان الاسم منه منئ ولكنه صرف عن مفعل إلى فعيل
[حجة القراءات: 98]
وحجته في أن النبئ مهموز قول عبّاس بن مرداس في مدحه نبي الله صلى الله عليه وسلم:
يا خاتم النباء إنّك مرسل ... بالحقّ خير هدى السّبيل هداكا
فقال يا خاتم النباء فجمعه على فعلاء لأن الواحد مهموز فقد صحّ على أن أصله الهمز وأنه من باب الصّحيح لا من باب المعتل لأن الصّحيح كذا يجمع كما تجمع النعوت الّتي على فعيل من غير ذوات الياء والواو مثل الشّريك والشركاء والحكيم والحكماء والعليم والعلماء ولو كان النّبي غير مهموز لم يجمع على فعلاء لأن النعوت الّتي تكون على فعيل من ذوات الياء والواو إنّما تجمع على أفعلاء كفعلهم ذلك في ولي ووصي ودعي إذا جمع يجمع أولياء وأوصياء وأدعياء ولا يجمع على فعلاء
وقرأ الباقون النّبيين بغير همز من نبانبو إذا ارتفع فيكون فعيلا من الرّفعة والنبوة الارتفاع وإنّما قيل للنّبي نبي لارتفاع منزلته وشرفه تشبيها له بالمكان المرتفع على ما حوله وحجتهم في ذلك أن كل ما في القرآن من جميع ذلك على أفعلاء نحو أنبياء الله وفي ذلك الحجّة الواضحة على أن الواحد منه بغير همز كما جمع ولي وأولياء ووصي وأوصياء ولو كان في التّوحيد مهموزا لكان الجمع منه فعلاء وحجّة أخرى روي أن رجلا قال للنّبي صلى الله عليه وسلم يا نبيء الله قال
لست بنيء الله ولكنّي
[حجة القراءات: 99]
نبي الله قال أبو عبيد كأنّه كره الهمز). [حجة القراءات: 100]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (36- قوله: «النبي، والنبوة، والأنبياء، والنبيين» قرأه نافع وحده
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/243]
بالهمز، وقرأ الباقون بغير همز إلا في موضعين في سورة الأحزاب، فإن قالون لا يهمزهما ويشدد الياء على أصله في الهمزتين المكسورتين، وتسهيله للأولى منها، فهذه همزة قبلها ياء زائدة، زيدت للم، فحكمها أن تبدل منها ياء، وتدغم فيها الياء الزائدة التي قبلها، على الأصول المتقدمة في تخفيف الهمزة.
37- وحجة من همز أنه أتى به على الأصل، لأنه من النبأ الذي هو الخبر؛ لأن النبي مخير عن الله جل ذكره، فهي تبنى على «فعيل» بمعنى «فاعل» أي: منبئ عن الله، أي مخبر عنه بالوحي الذي يأتيه من الله، فأصله بالهمز، فأتى به على أصله، ومعناه من الله، قال سيبويه: وكلٌ يقول تنبأ مسيلمة فيهمزون، وأجمعوا على الهمزة في «النبآء» جمع «نبيء»، فدل ذلك على أنه من «النباء»، وليس من النباوة، التي هي الرفعة، وأيضًا فإن وقوع اسم الأخبار عن الرسول أولى من وقوع اسم الرفعة؛ لأنه للإخبار عن الله أرسل، فأما من ترك همزة فإنه أجراه على التخفيف، لكثرة دوره واستعماله، فأبدل من الهمزة حرفًا من جنس ما قبلها، وأدغم ما قبلها في البدل، فقال: «النبي، والنبوة» ولما أتى الجمع المكسر، ولم يكن قبل الهمزة حرف زائد، وجب أن يجري على الأصول في التخفيف، فأبدل منها ياء مفتوحة؛ لانكسار ما قبلها، وذلك «الأنبياء» فهو مثل قوله: «من الشهادايِن تضل» في قراءة الحرميين
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/244]
وأبي عمرو، فأما الهمزة الثانية التي بعد الألف فهي همزة ثابتة، بدل من ياء «فعيل» كـ «صديق وأصدقاء» فلا اختلاف في همزة إلا لحمزة وهشام فإنها إذا وقفا يبدلان من الهمزة ألفًا، لأنهما يقفان بالسكون، ثم يحذفان إحدى الألفين لاجتماعهما، على ما قدمنا من الاختلاف في ذلك، وتمد إن قدرت الألف الثانية هي المحذوفة، ولا تمد إن قدرت الأولى هي المحذوفة، وكان الأصل أن يجعلاها في التخفيف بين الهمزة والواو، في حال روم الحركة، إذا كانت الهمزة مضمومة، وبين الهمزة والياء إذا كانت الهمزة مكسورة، لكن يؤدي ذلك إلى مخالفة الخط، فيرجع إلى السكون والبدل، وقد بينا هذا فيما تقدم، وزدناه بيانًا في هذا الموضع، فأما إذا كانت الهمزة مفتوحة فبالإسكان تقفن ثم تبدل من الهمزة ألفًا، على ما ذكرنا، لأن الفتح خفيف، فترك الروم فيه القراء. ترك الهمز، في هذا الباب كله، أحب إلي لأنه أخف، ولإجماع القراء عليه، ولما روي عن النبي عليه السلام من كراهة همز «النبي»، وهو اختيار أبي عبيد، ويجوز أن يكون من لم يهمز جعله من «النباوة» وهي الارتفاع فيون لا أصل له في الهمز). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/246]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (23- {النَّبِيِّينَ} [آية/ 61]:-
بالمد والهمز، قرأها نافع وحده، وكذلك همز: الأنبياء، والنبوة، والنبي، إلا في موضعين من الأحزاب: {للنَبِيِّ إِنْ} و{بُيُوتَ النَبِيِّ إِلاّ} في رواية –ن- و- يل-.
[الموضح: 278]
ووجه الهمز هو أن {النبيء} فعيل من النبأ وهو الخبر، ومعناه: المخبر عن الله تعالى، فهو فعيل بمعنى مفعل، كأليم بمعنى مؤلم، فالهمز إذن أصل الكلمة، وليست هذه الكلمة مما ألزم فيه البدل كعيد وأعياد، إلا أن بعض العرب قد خفف فيها الهمزة، والمخفف في حكم المحقق.
وقد جاء جمع نبي على نبئاء على وزن فعلاء، قال:-
9- يا خاتم النبئاء إنك مرسل = بالخير كل هدى السبيل هداكا
فمجيء جمعه على فعلاء يدل على أن الكلمة مهموزة؛ لأن ما كان من الصحيح على فعيل فجمعه في الأغلب على فعلاء، وهمز النبئاء ظاهر.
وقد جاء فعيل في الصحيح على أفعلاء وإن كان قليلاً نحو نصيب وأنصباء.
وقرأ الباقون {النبِيِّينَ} ونحوه بغير همز.
لأن جمع النبي قد جاء في القرآن على أنبياء، كصفي وأصفياء وتقي وأتقياء، فمجيء جمعه على هذا المثال يدل على أنه قد ألزم فيه البدل، حتى صار كأن آخره ياء؛ لأن هذا المثال إنما يأتي غالبًا في جمع المعتل.
وقد قيل في النبي بغير همز أنه مشتق من النباوة وهي المرتفع من الأرض.
وأما رواية –ن- و- يل- عن نافع في الأحزاب من ترك همز {للنّبِيِّ إِنْ}
[الموضح: 279]
و {بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا} فلأنهما ذهبا في الهمزتين المكسورتين إذا التقيا إلى تخفيف الأولى منهما وتحقيق الثانية. وتخفيف الهمزة ههنا هو أن تقلب حرفًا من جنس الذي قبلها وهو الياء، ثم يدغم الياء في الياء، ولا تجعل الهمزة بين بين؛ لأن في ذلك تقريبًا لها من الساكن ولا يجوز ذلك؛ لأن ما قبلها ساكن، ولا يجوز أيضًا حذفها بعد نقل حركتها إلى ما قبلها؛ لأن ما قبلها مدة زائدة، ولا يجوز نقل حركة الهمزة إلى حرف زائدٍ). [الموضح: 280]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107260#post107260)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:28 PM
سورة البقرة
[من الآية (62) إلى الآية (64) ]
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) }
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (الصّابئين)
قرأ نافع وحده (الصابين " و(الصابون) - بغير همز - في كل القرآن.
وهمز الباقون (الصّابئين).
والهمز فيها هي اللغة الجيدة، ومن قولك: صبأ فلان يصبأ: إذا خرج من دين إلى دين.
وصبأ نابه، أي: خرجت، وصبأت النجوم: إذا طلعت كل ذلك مهموز.
ومن قرأ بغير الهمز ففيه قولان:
أحدهما: أنه من صبا يصبو؟ إذا مال إلى هواه.
والقول الآخر: أنه على تخفيف الهمز على لغة من يخففها.
والقراءة المختارة أن يهمز الباب لاتفاق أكثر القراء). [معاني القراءات وعللها: 1/155]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الصّابئين [البقرة/ 62]، والصّابئون [المائدة/ 69]. في الهمز وتركه فقرأ نافع: الصابين والصابون في كلّ القرآن بغير همز، ولا خلف للهمز، وهمز ذلك كلّه الباقون.
[قال أبو علي]: قال أبو زيد: صبأ الرجل في دينه، يصبأ صبوءا: إذا كان صابئا. وصبأ ناب الصبي يصبأ صبأ: إذا طلع.
وقال أبو زيد: صبأت عليهم، تصبأ، صبأ، وصبوءا: إذا طلعت عليهم، وطرأت على القوم أطرأ طرءا وطروءا مثله.
فكأنّ معنى الصابئ: التارك دينه الذي شرع له إلى دين غيره، كما أن الصابئ على القوم تارك لأرضه، ومنتقل إلى سواها والدّين الذي فارقوه، هو تركهم التوحيد إلى عبادة النجوم أو تعظيمها، ومن ثمّ خوطب المسلمون بقوله:... ولا تكونوا من المشركين من الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا
[الحجة للقراء السبعة: 2/94]
[الروم/ 31 - 32] فالدّين الذي فارقه المشركون هو: التوحيد الذي نصب لهم عليه أدلّته، لأنّ المشركين لم يكونوا أهل كتاب، ولا متمسكين بشريعة، فهم في تركهم ما نصب لهم الدليل عليه، كالصابئين في صبوئهم إلى ما صبئوا إليه. ومثل قوله: فارقوا دينهم قوله كذلك زيّنّا لكلّ أمّةٍ عملهم [الأنعام/ 108] أي: عملهم الذي فرض عليهم ودعوا إليه، وكذلك قوله: وكذلك زيّن لكثيرٍ من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم [الأنعام/ 137] أي:
دينهم الذي دعوا إليه، وشرع لهم، ألا ترى أنهم لا يلبسون عليهم التّديّن بالإشراك، وإنما سمّي شريعة الإسلام دينهم، وإن لم يجيبوا إليه ولم يأخذوا به، لأنهم قد شرع لهم ذلك ودعوا إليه، فلهذا الالتباس الذي لهم به جاز أن يضاف إليهم، كما أضاف الشاعر الإناء إلى الشارب لشربه منه وإن لم يكن ملكا له في قوله:
إذا قال قدني قلت بالله حلفة... لتغني عنّي ذا إنائك أجمعا
وهذا النحو من الإضافة كثير، فالمعنى: على أن لام الكلمة همزة، فالقراءة بالهمز هو الوجه الذي عليه المعنى.
فأما من قال: الصابون فلم يهمز، فلا يخلو من أحد أمرين: إمّا أن يجعله من صبا، يصبو، وقول الشاعر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/95]
صبوت أبا ذيب وأنت كبير أو تجعله على قلب الهمزة فلا يسهل أن تأخذ، من صبا إلى كذا، لأنه قد يصبو الإنسان إلى الدين فلا يكون منه تديّن به مع صبوّه إليه، فإذا بعد هذا، وكان الصابئون منتقلين من دينهم الذي أخذ عليهم إلى سواه، ومتدينين به، لم يستقم أن يكون إلّا من صبأ الذي معناه: انتقال من دينهم الذي شرع لهم إلى آخر لم يشرع لهم، فيكون الصابون إذا: على قلب الهمزة، وقلب الهمز على هذا الحدّ لا يجيزه سيبويه إلا في الشعر، ويجيزه غيره، فهو على قول من أجاز ذلك، وممن أجازه أبو زيد، وحكي عن أبي زيد قال: قلت لسيبويه:
سمعت: قريت، وأخطيت قال: فكيف تقول في المضارع؟
قلت: أقرأ، قال: فقال: حسبك. أو نحو هذا، يريد سيبويه: أنّ قريت مع أقرأ، لا ينبغي، لأن أقرأ على الهمز وقريت على القلب. فلا يجوز أن يغيّر بعض الأمثلة دون بعض، فدلّ ذلك على أن القائل لذلك غير فصيح، وأنه مخلّط في لغته.
الإعراب:
من حقق الهمزة فقال: الصابئون، مثل: الصابعون، ومن خفّفها جعلها في قول سيبويه، والخليل: بين بين، وزعم
[الحجة للقراء السبعة: 2/96]
سيبويه أنه قول العرب، والخليل. وفي قول أبي الحسن:
يقلبها ياء قلبا، وقد تقدم ذكر ذلك في هذا الكتاب. ومن قلب الهمزة التي هي لام ياء، فقال: الصابون. نقل الضمة التي كانت تلزم أن تكون على اللام إلى العين فسكنت الياء فحذفها لالتقاء الساكنين هي وواو الجمع، وحذف كسرة عين فاعل، فحرّكها بالضمة المنقولة إليها، كما أن من قال: خفت، وحبّ بها، وحسن ذا أدبا، فنقل الحركة من العين إلى الفاء حذف الحركة التي كانت للفاء في الأصل، وحرّكها بالحركة المنقولة كما حرّك العين من فاعل بالحركة المنقولة، وقياس نقل الحركة التي هي ضمة إلى العين أن تحذف كسرة عين فاعل، وتنقل إليها الكسرة التي كانت تكون للّام، ألا ترى أن الضمة منقولة إليها بلا إشكال، وإن شئت قلت لا أنقل حركة اللام التي هي الكسرة كما نقلت حركتها التي هي الضمة، لأني لو لم أنقل الحركة التي هي الضمة، وقررت الكسرة، لم يصحّ واو الجميع، فليس الكسرة مع الياء كالكسرة مع الواو، فإذا كان كذلك أبقيت الحركة التي كانت تستحقّها اللام فلم أنقلها، كما أبقيت حركة المدغم، ولم أنقلها في قول من قال: يهدي فحرّك الهاء بالكسر لالتقاء الساكنين، ولم ينقلها كما نقل من قال: يهدي، [يونس/ 35].
ومثل ذلك في أنّك تنقل الحركة مرة ولا تنقل أخرى قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/97]
وحبّ بها مقتولة وحبّ بها مقتولة! وحسن ذا أدبا، وحسن ذا أدبا، ونحو ذلك.
فإن قلت: فلم لا تنقل الحركة التي تستحقّها اللام إذا انقلبت ألفا نحو: المصطفى والمعلّى إلى ما قبلها، كما نقلت حركة الياء في نحو قولك: فأولئك هم العادون [المعارج/ 31] فجاء: وأنتم الأعلون [آل عمران/ 139] وهم المصطفون، مفتوحا ما قبل الواو منه، وهلّا نقلت الحركة كما نقلت في نحو: هم العادون [المعارج/ 31]، فالقول في ذلك أنّ المحذوف لالتقاء الساكنين في حكم الثابت في اللفظ، كما كان المحرّك لالتقائهما في حكم السكون، يدلك على ذلك نحو: رمت المرأة، واردد ابنك، فإذا كان كذلك، كان الألف في الأعلون، في حكم الثبات، وإذا كان في حكمه لم يصحّ تقدير نقل الحركة منها، لأنّ ثبات الألف
[الحجة للقراء السبعة: 2/98]
ألفا في تقدير الحركة فيها. وإذا كان في تقديرها، لم يجز نقلها، لأنه يلزم منه تقدير ثبات حركة واحدة في موضعين، وليس كذلك الياء لأنها قد تنفصل عن الحركة، وتحرّك بالضمة والكسرة في نحو:
ألم يأتيك والأنباء..
و: غير ماضي فإن قال: فهلّا إذا كان الأمر على ما وصفت لم يجز أن يجمع ما كان آخره ألف التأنيث، نحو: حبلى، إذا سمّيت به رجلا أن تقول في جمعه: حبلون، لأنه
يلزم من ذلك اجتماع علامة التذكير والتأنيث في اسم، فيلزم أن يمتنع كما امتنع أن يجمع طلحة بالواو والنون- اسم رجل- في قول العرب والنحويين، إذا أثبتّ التاء فيه لاجتماع علامة تأنيث وتذكير في اسم واحد.
فالقول في ذلك أن الألف في حبلى اسم رجل، إذا قلت: حبلون، إنما جاز لأنك إذا سميت به لا تريد به معنى التأنيث، كما أردت به ذلك قبل التسمية، فجاز لأنك تخلع منها علامة التأنيث، فتجعل الألف لغيره، ألا ترى أن في كلامهم ألفا ليست للتأنيث، ولا للإلحاق ولا هي منقلبة نحو: قبعثرى،
[الحجة للقراء السبعة: 2/99]
ونحو: ما حكاه سيبويه: من أن بعضهم يقول: بهماه، فإذا قدّرت خلع علامة التأنيث منها جاء جمع الكلمة بالواو والنون، كما أنك لما قلبتها ياء جاز جمعها بالألف والتاء نحو: حبليات وحباريات، فخلع علامة التأنيث منها في التسمية بما هي فيه كقلبها إلى ما قلبت إليه في حبليات، وصحراوات، وخضراوات). [الحجة للقراء السبعة: 2/100]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي السَّمَّال، رواها أبو زيد فيما رواه ابن مجاهد: [وَالَّذِينَ هَادَوْا] بفتح الدال.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون فاعَلوا من الهداية؛ أي: رامُوا أن يكون أهدى من غيرهم، كقولك: رامَوْا من رميت، وقاضَوْا من قضيت، وساعَوْا من سعيت، فيقول في مصدر هادَوا: مهاداة؛ كقاضوا مقاضاة، وساعوا مساعاة، وقد هودِي الرجل يُهَادى مهاداة، إذا كان حوله من يمسكه ويهديه الطريق، ومنه قولهم في الحديث: "مر بنا يهادى بين اثنين"، ومنه قوله:
من أن يرى تهديه فتـ ... يان المقامة بالعشيه). [المحتسب: 1/91]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({إن الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى والصّابئين من آمن باللّه واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
قرأ نافع والصابين والصابون بغير همز من صبا يصبو أي مال إلى دينه وحجته قوله تعالى وإلّا تصرف عني كيدهن أصب إليهنّ أي أمل إليهنّ ومنه سمي الصّبي صبيا لأن قلبه يصبو إلى كل لعب لفراغ قلبه
وقرأ الباقون الصابئين بالهمز أي الخارجين من دين إلى دين يقال صبأ فلان إذا خرج من دينه يصبأ ويقال صبأت النّجوم إذا ظهرت وصبأ نابه إذا خرج). [حجة القراءات: 100]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (38- قوله: «والصابئين، والصابئون» قرأه نافع بغير همز، وهمزه الباقون.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/245]
39- فمن همز جعله من «صبا الرجل في دينه» إذا خرج منه وتركه، ومنه قولهم: صبأ ناب الصبي، إذا طلع، وصبأت النجوم إذا ظهرت، والصابئ التارك لدينه الخارج منه، فلام الفعل همزة، فكذلك يجب أن تكون في الصابئين.
40- فأما من لم يهمز فهو على أحد وجهين، إما أن يكون خفف الهمزة على البدل، فأبدل منه ياء مضمومة، أو واوًا مضمومة، في الرفع، فلما انضمت الياء إلى الواو ألقى الحركة على الياء استثقالًا للضم على حرف علة، فاجتمع حرفان ساكنان، فحذف الأول لالتقاء الساكنين، وهذا الحذف والاعتلال كالحذف والاعتلال في «العاصين والعاصون» فقسه عليه، وكذلك أبدل منه ياء في النصب مكسورة، ثم حذف الكسرة لاجتماع ياءين الأولى مكسورة، فاجتمع له ياءان ساكنتان، فحذف احداهما لالتقاء الساكنين، فقال: «الصابين» والبدل في مثل هذا للهمزة في التخفيف، مذهب الأخفش وابي زيد، فأما سيبويه فلا يجيز البدل في المتحركة ألبتة، إلا إذا كانت مفتوحة وقبلها ضمة أو كسرة، وقد ذكرنا ذلك وبيناه، فإن وقع في شعر أجازه سيبويه.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/246]
والوجه الثاني أن يكون من «صبا، يصبو» إذا فعل ما لا يجب له فعله، كما يفعل الصبي، فيكون في الاعتلال، قد حذف لامه في الجمع، وهي واو مضمومة في الرفع، وواو مكسورة في الخفض والنصب، فجرى الاعتلال على إلقاء حركة الواو على الياء، وحذف الواو الأولى لسكونها وسكون واو الجمع أو يائه بعدها، فهي في الاعتلال مثل اعتلال قولك: رأيت الغازين، وهؤلاء الغازون، فقسه عليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/247]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (24- {الصَّابِئِينَ} [آية/ 62] و{الصَابِئُون} بالهمز فيهما حيثما وقعا:-
اتفق عليه القراء كلهم إلا نافعًا وحده فإنه قرأ: {الصَابِينَ} و{الصَابُونَ} بلا همز.
ووجه قراءة الجماعة أن الكلمة من صبأ الرجل في دينه إذا ترك دينه وانتقل إلى دين آخر، وأصل ذلك من قولهم: صبأ ناب البعير إذا طلع، وصبأت على القوم إذا طلعت عليهم؛ لأن الصابئ ينتقل من عبادة الله إلى عبادة النجوم، كما أن الصابئ على القوم ينتقل من أرض إلى أرضٍ أخرى، فالوجه على هذا هو القراءة بالهمز؛ لما أريتك من كون الهمزة لام الكلمة.
ووجه قراءة نافع هو أن الكلمة وإن كانت من الهمزة على ما سبق فإنه قلب منها الهمزة قلبًا، وقلب الهمزة وإن كان لا يجيزه سيبويه إلا في الشعر، فإن أبا زيدٍ يجيزه، على أنه أيضًا لا يجعله لغة جيدة.
[الموضح: 280]
فإذا قلب الهمزة على مذهب أبي زيد قال في صبأت: صبيت، كما قال في قرأت: قريت، وفاعله على هذا صاب كقاضٍ، والجمع الصابون مثل القاضون، وفي الجر والنصب الصابين مثل القاضين سواء.
وإن جعل نافع الكلمة مأخوذةً من صبا إلى الشيء يصبو إذا مال إليه لم يستقم المعنى؛ لأنه ليس كل من يصبو إلى دين كان متدينًا به). [الموضح: 281]
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)}
قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107261#post107261)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:29 PM
سورة البقرة
[من الآية (65) إلى الآية (66) ]
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)}
قوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107263#post107263)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:31 PM
سورة البقرة
[من الآية (67) إلى الآية (74) ]
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (أتتّخذنا هزوًا)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي (هزؤًا)، و(كفؤًا) بالهمز والتخفيف، واختلف عن نافع وعاصم، وأما
[معاني القراءات وعللها: 1/155]
حمزة فإنه قرأ (كفؤا) " و(هزؤا)، وهما لغتان جيدتان، فاقرأ كيف شئت). [معاني القراءات وعللها: 1/156]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله: أتتخذنا هزؤا [البقرة/ 67] في الهمز وتركه، والتخفيف والتثقيل، وكذلك جزا وكفواً [الإخلاص/ 4].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر والكسائيّ: هزواً، وكفواً بضمّ الفاء والزّاي والهمز، وجزا بإسكان الزاي والهمز.
وروى القصبيّ عن عبد الوارث عن أبي عمرو، واليزيديّ أيضا عن أبي عمرو: أنه خفّف «جزا» وثقل «هزواً، وكفواً».
وروى عليّ بن نصر وعباس بن الفضل عنه أنه خفّف «جزءا وكف ءا».
[الحجة للقراء السبعة: 2/100]
وروى محبوب عنه «كف ءا» خفيفا.
وروى أبو زيد وعبد الوارث في رواية أبي معمر أنه خيّر بين التّثقيل والتّخفيف.
وروى الأصمعيّ أنّه خفّف «هزءا وجزءا». وقرأهنّ حمزة ثلاثهنّ بالهمز أيضا. غير أنه كان يسكّن الزّاي من قوله «هزءا»، والفاء من قوله: «كف ءا» والزّاي من «جزء»، وإذا وقف قال: «هزوا» بلا همز، ويسكّن الزاي والفاء، ويثبت الواو بعد الزّاي وبعد الفاء، ولا يهمز، ووقف على قوله: «جزّا» بفتح الزّاي من غير همز، حكى ذلك أبو هشام عن سليم عن حمزة يرجع في الوقف إلى الكتاب.
واختلف عن عاصم، فروى يحيى عن أبي بكر عنه:
«جزؤا وهزؤا وكفؤا» مثقّلات مهموزات. وروى حفص:
أنه لم يهمز «هزوا ولا كفوا» ويثقّلهما، وأثبت الواو وهمز «جزءا» وخفّفها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/101]
[حدثنا أبو بكر بن مجاهد قال]: حدثني وهيب بن عبد الله، عن الحسن بن المبارك، عن عمرو بن الصّباح، عن حفص، عن عاصم: «هزوا وكفوا» يثقّل ولا يهمز. ويقرأ «جزءا» مقطوعا بلا واو، يهمز ويخفّف. وكذلك قال هبيرة عن حفص عن عاصم «جزءا» خفيف مهموز. وحدّثني وهيب بن عبد الله المروذيّ قال: حدّثنا الحسن بن المبارك قال: قال أبو حفص: وحدّثني سهل أبو عمرو عن أبي عمر عن عاصم أنه كان يقرأ: «هزؤا وكفوا» يثقّل، فربما همز، وربّما لم يهمز. قال: وكان أكثر قراءته ترك الهمز.
حدّثني محمد بن سعد العوفيّ عن أبيه، عن حفص عن عاصم أنه لا ينقص، نحو «هزؤا وكفؤا» ويقول: أكره أن تذهب عني عشر حسنات بحرف أدعه إذا همزته. وذكر عاصم أن أبا عبد الرحمن السلميّ كان يقول ذلك، وروى حسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم «هزوا وكفوا» بواو ولم يذكر الهمز.
[الحجة للقراء السبعة: 2/102]
وروى المفضّل عن عاصم «هزءا» مهموزا ساكنة الزاي في كل القرآن.
واختلفوا عن نافع في ذلك، فروى ابن جمّاز وورش وخلف بن هشام عن المسيّبي وأحمد بن صالح المصري عن قالون: أنه ثقّل «هزؤا وكفؤا» وهمزهما [وخفف جزءا وهمزها] وكذلك قال يعقوب بن حفص عنه.
وقال إسماعيل بن جعفر عن نافع وأبو بكر بن أبي أويس عن نافع «هزءا وجزءا وكف ءا» مخففات مهموزات.
وأخبرني محمد بن الفرج، عن محمد بن إسحاق، عن أبيه، عن نافع، وحدثنا القاضي عن قالون، عن نافع: أنه ثقّل (هزؤا) وهمزها، وخفّف (جزءا وكفؤا) وهمزهما.
وقال الحلوانيّ عن قالون: أنّه ثقّل (كفؤا) أيضا.
حدثني أبو سعيد البصريّ الحارثيّ عن الأصمعيّ عن
[الحجة للقراء السبعة: 2/103]
نافع أنه قرأ: «هزؤا» مثقّلة مهموزة.
وروى أبو قرّة عن نافع: هزءا خفيفة مهموزة. ولم يذكر غير هذا الحرف.
قال أبو زيد: هزئت هزءا ومهزأة. وقال: [أبو علي:
قوله تعالى] أتتّخذنا هزواً فلا يخلو من أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون المضاف محذوفا، لأن (الهزء) حدث، والمفعول الثاني في هذا الفعل يكون الأول، قال: لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء [الممتحنة/ 1] أو يكون: جعل الهزء المهزوء به مثل: الخلق، والصيد في قوله: أحلّ لكم صيد البحر [المائدة/ 96] ونحوه.
فأما قوله: لا تتّخذوا الّذين اتّخذوا دينكم هزواً ولعباً [المائدة/ 57]. فلا تحتاج فيه إلى تقدير محذوف مضاف كما احتجت في الآية الأخرى، لأن الدّين ليس بعين.
وقول موسى عليه السلام: أعوذ باللّه أن أكون من الجاهلين [البقرة/ 67]
[الحجة للقراء السبعة: 2/104]
في جواب: أتتخذنا هزؤا يدلّ على أن الهازئ جاهل.
قال أبو الحسن: زعم عيسى أنّ كلّ اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، فمن العرب من يثقّله ومنهم من يخفّفه، نحو: العسر واليسر والحكم والرّحم، فممّا يقوي هذه الحكاية أن ما كان على فعل من الجموع، مثل: كتاب، وكتب، ورسول ورسل، قد استمرّ فيه الوجهان، فقالوا: رسل، ورسل، حتى جاء ذلك في العين إذا كانت واوا نحو:
...... سوك الإسحل ونحو قوله:
وفي الأكفّ اللامعات سور
[الحجة للقراء السبعة: 2/105]
وحكى أبو زيد: قوم قول. فأما فعل في جمع أفعل نحو: أحمر وحمر: فكأنهم ألزموه الإسكان للفصل بين الجمعين. وقد جاء فيه التحريك في الشعر، وإذا كان الأمر على هذا يجب أن يكون ذلك مستمرا في نحو: الجزء، والكفء، والهزء. إلّا أنّ من ثقّل فقال: رأيت جزؤا، وكفؤا، فجاء به مثقّل العين محقّق الهمزة، فله أن يخفّف الهمزة، فإذا خفّفها وقد ضمّ العين لزم أن يقلبها واوا فيقول: رأيت جزوا، ولم يكن له كفواً أحدٌ [الإخلاص/ 4]. فإن خفّف كما يخفف الرحم فأسكن العين، قال: هزواً وجزوا فأبقى الواو التي انقلبت عن الهمزة لانضمام ما قبلها، وإن لم تكن ضمة العين في اللفظ لأنها مرادة في المعنى، كما قالوا: لقضو الرجل، فأبقوا الواو ولم يردّوا اللام التي هي ياء من قضيت، لأن الضمة وإن كانت محذوفة من اللفظ مرادة في المعنى.
وكذلك قالوا: رضي زيد، فيمن قال: علم ذاك، فلم يردّوا الواو التي هي لام لزوال الكسرة، لأنها مقدّرة مرادة، وإن كانت محذوفة من اللفظ. ومما يقوي أنّ هذه الحركة، وإن كانت محذوفة في اللفظ، مرادة في التقدير- رفضهم جمع كساء، وغطاء، ونحوه من المعتل اللام على فعل. ألا ترى أنّهم رفضوا جمعه على فعل لمّا كان في تقدير فعل، واقتصروا على أدنى العدد، نحو: أغطية وأكسية، وخباء وأخبية، فكذلك تقول: رأيت كفوا، فتثبت الواو وإن كنت قد حذفت الضمة الموجبة لاجتلابها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/106]
فأما من أسكن فقال: (الجزء والكفء)، كما تقول:
اليسر، فتكلّم به مسكّن العين، وخفّف الهمزة على هذا، فإنّ تخفيف الهمزة في قوله: أن يحذفها ويلقي حركتها على الساكن الذي قبلها. فيقول: رأيت جزا، كما يقول: يخرج الخب في السماوات [النمل/ 25] فإذا وقف على هذا في القول الشائع، أبدل من التنوين الألف كما تقول: رأيت زيدا، فإذا وقف في الرفع والجرّ، حذف الألف كما يحذف من يد، وغد، فيهما. وعلى ما وصفنا تقول: لبؤة، فإذا خففت الهمزة قلت: لبوة، فإن أسكنت العين في من قال: عضد، وسبع، قلت: لبوة فلم تردّ الهمزة لتقدير الحركة،
وزعموا أنّ بعضهم قال: لباة، فهذا كأنّه كان: لبأة، ساكن العين ولم يقدّر فيها الحركة التي في لبؤة فخفّفها على قول من قال: «المراة والكماة» وليس هذا مما يقدح فيما حكاه عيسى. ألا ترى أنّهم قد قالوا: رضيوا، فجعلوا السكون الذي في تقدير الحركة بمنزلة السكون الذي لا تقدّر فيه الحركة، ولولا ذلك للزم حذف الياء التي هي لام كما لزم حذفها في قول من حرّك العين ولم يسكن.
فإذا كان الأمر في هذه الحروف على ما ذكرنا، فقراءة من قرأ بالضم وتحقيق الهمز في الجواز والحسن، كقراءة من
[الحجة للقراء السبعة: 2/107]
قرأ بالإسكان وقلب الهمزة واوا، لأنه تخفيف قياسيّ. ويجوز أن يأخذ الآخذ باللغتين جميعا كما روى أبو زيد عن أبي عمرو، أنه خيّر بين التخفيف والتثقيل. فأمّا قراءة حمزة للحروف الثلاثة بالإسكان والهمز فعلى قول من قال: اليسر والرّحم.
فأما اختياره في الوقف: هزواً بإسكان الزاي، وإثبات الواو بعدها، وبعد الفاء من كفو ورفضه الهمز في الوقف، فإنه ترك الهمز في الوقف هنا كما تركه في غير هذا الموضع ووجه تركه الهمز في الوقف أن الهمزة حرف قد غيّر في الوقف كثيرا. ألا ترى أنها لا تخلو من أن تكون ساكنة أو متحركة، فإذا كانت ساكنة، لزمها بدل الألف إذا انفتح ما قبلها. وبدل الياء إذا انكسر ما قبلها، وبدل الواو إذا انضمّ ما قبلها في لغة أهل الحجاز، وذلك قولك: لم أقرأ، تبدلها ألفا، ولم أهني تبدلها ياء، وهذه أكمو، تبدلها واوا.
فإذا كانت متحركة لزمها القلب في نحو: هذا الكلو، وبالكلي، ورأيت الكلا. فلما رأى هذه التغييرات تعتقب عليها في الوقف، غيّرها فيه. ألا ترى أن الهمزة الموقوف عليها لا تخلو من أن تكون في الوصل ساكنة أو متحركة، وقد تعاورها ما ذكرنا من التغيير في حال حركتها وسكونها، ألزمها التغيير في الوقف ولم يحقّقها فيه، لأن الوقف موضع يغيّر فيه الحروف التي لم تتغيّر تغيّر الهمزة فألزمها في الوقف التغيير، ولم يستعمل فيه التحقيق، لما رأى من حال الهمز في الوقف.
[الحجة للقراء السبعة: 2/108]
فإن قلت: فإنه قد غيّر ذلك في الوقف وإن لم يكن الهمز آخر الحرف الموقوف عليه: نحو يستهزؤن [النحل/ 34].
قيل: إن الوقف قد يغيّر فيه الحرف الذي قبل الحرف الموقوف عليه نحو: النقر والرّحل، فصار لذلك بمنزلة الموقوف عليه في التغيير.
فإن قلت: إن الهمزة في يستهزؤن ليس على حدّ النّقر.
قيل: يجوز أن تكون النون لما كانت تسقط للجزم والنصب عنده لم يعتدّ بها كما لا يعتدّ بأشياء كثيرة لا تلزم.
ويؤكد ذلك، أن النون إعراب وأنها بمنزلة الحركة من حيث كان إعرابا مثلها، فلم يعتدّ بها كما لا يعتدّ بالحركة.
فاختياره في الدّرج التحقيق، وفي الوقف التخفيف، مذهب حسن متجه في القياس. فأمّا وقفه على قوله: جزا بفتح الزاي من غير همز، فعلى قياس قوله: كفوا وهزوا.
ألا ترى أن (الجزء)، من أسكن العين منه فقياسه في الوقف في النصب جزا إذا وقف على قوله: وجعلوا له من عباده جزا [الزخرف/ 15] فإن وقف في الجرّ والرّفع، أسكن الزّاي في اللغة الشائعة فقال: هذا جز، ومررت بجز، وإن كان ممّن يقول: هذا فرجّ، فثقّل، لزمه أن يثقّل الحرف
[الحجة للقراء السبعة: 2/109]
الذي ألقى عليه حركة الهمزة. فإذا عضد هذا القياس أن يكون الكتاب عليه، جمع إليه موافقة الكتاب، وإنما جاء الكتاب فيما نرى على هذا القياس. وكذلك قراءة عاصم، وما روي عنه في ذلك، ليس يخرج من حكم التحقيق والتخفيف، والتخيير فيهما. وكذلك قول نافع ليس يخرج عما ذكرنا من حكم التحقيق والتخفيف). [الحجة للقراء السبعة: 2/110]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فتوبوا إلى بارئكم} {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}
[حجة القراءات: 96]
قرأ أبو عمرو إلى بارئكم ويأمركم وينصركم بالاختلاس وحجته في ذلك أنه كره كثرة الحركات في الكلمة الواحدة وروي عنه إسكان الهمزة قال الشّاعر:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم
والكلام الصّحيح يا صاحب أقبل أو يا صاحب اقبل
وقرأ الباقون بارئكم ويأمركم بالإشباع على أصل الكلمة وهو الصّواب ليوفى كل حرف حقه من الإعراب). [حجة القراءات: 97] (م)
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قالوا أتتخذنا هزوا}
قرأ حمزة وإسماعيل عن نافع هزءا ساكنة الزّاي وقرأ
[حجة القراءات: 100]
الباقون هزؤا بضم الزّاي وهما لغتان التّخفيف لغة تميم والتثقيل لغة أهل الحجاز
قال الأخفش وزعم عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه نحو اليسر واليسر والعسر والعسر فمن خفف طلب التّخفيف لأنّه استثقل ضمتين في كلمة واحدة
وقرأ حفص هزوا بغير همز لأنّه كره الهمز بعد ضمتين في كلمة واحدة فلينها). [حجة القراءات: 101]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (41- قوله: «هزوا، وكفوا، وجزءا» قرأه حمزة بإسكان الزاي والفاء، وضمها الباقون، وكلهم همز إلا حفصًا، فإنه أبدل من الهمزة واوًا مفتوحة، على أصل التخفيف؛ لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة، فهي تجري على البدل كقوله: «السفهاء لا» في قراءة الحرميين وأبي عمرو، كذلك يفعل حمزة إذا وقف كأنه يعمل الضمة التي كانت على الزاي والفاء في الأصل، وكان يجب عليه على أصل التخفيف لو تابع لفظه، أن يُلقي حركة الهمزة على الساكن الذي قبلها، كما يفعل في «جزءا» فقال في الوقف «جُزا» فكان يجب أن يقول: «كفا، وهزا» لكنه رفض ذلك لئلا يخالف الخط، فأعمل الضمة الأصلية التي كانت على الزاي والفاء في الهمزة، فأبدل منها واوًا مفتوحة، ليوافق الخط، ثم يأتي بالألف التي هي عوض من التنوين، بعد ذلك. وكل القراء أسكن الزاي من «جزءا» إلا أبا بكر فإنه ضمها، فأما «جزء» المرفوع فأبو بكر يضم الزاي وحده، وكلهم همزه إلا حمزة وهشامًا إذا وقفا،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/247]
فإنهما يُلقيان حركة الهمزة على الزاي، ويقفان بالروم لتلك الحركة، أو بالإشمام، فمن ضم الزاي والفاء أتى بهما على الأصل، ومن أسكنهما فعلى الاستخفاف، وهي لغة للعرب، حكى الأخفش عن عيسى بن عمر أن كل اسم على ثلاثة أحرف، أوله مضموم، ففيه لغتان: التثقيل والتخفيف نحو: «اليسر، والعسر، والهزؤ» ومثله ما كان من المجموع على «فعل» لك فيه التخفيف والتثقيل أيضًا، وقد تقدم ذكر علل تخفيف الهمزة وأحكامه، لكن لتخفيف الهمزة في: «هزوا وكفوا» مزية على ما تقدم، وذلك لما فيه من الثقل، لهمزة وضمتان في الأصل). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/248]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (25- {هُزُوًا} [آية/ 67] و{جُزْؤًا} و{كُفْؤًا}:-
قرأها حمزة و- يل- عن نافع مخففات مهموزات.
وقرأ –ياش- عن عاصم بالهمز والتثقيل في الأحرف الثلاثة.
و- ص- عن عاصم بالواو والتثقيل في {هُزُوًا} و{كُفُوًا} فقط، وهَمَزَ {جُزْءًا} وخففها.
وقرأ يعقوب {هُزُؤًا} بالتثقيل والهمز، وخفف {جُزْءًا} و{كُفْؤًا} وهمزهما.
و- ش- و- ن- عن نافع {كُفُؤًا} و{هُزُؤًا} بالتثقيل والهمز، و{جزْءًا} بالتخفيف والهمز.
وكذلك قراءة الباقين.
وكان حمزة يترك الهمز في الوقف، فيقف في {هزوًا} و{كفوًا} على التثقيل والواو، وفي {جُزَا} على فتح الزاي من غير همز.
[الموضح: 281]
الباقون يقفون كما يصلون إلا في المنون يبدلون من التنوين ألفًا كسائر الأسماء.
اعلم أن كل ما كان على فعل مضموم الفاء، فإن للعرب فيه وجهين:
أحدهما: تسكين عينه، والآخر: تحريكها بالضم، وذلك كاليسر واليسر ونحوه.
وقد استمرت هذه الطريقة في الجمع أيضًا فقالوا: كتب وكتب ونحوه، فإذا صح ذلك فإن تسكين العين في هزو وجزو وكفو وتحريكها معًا جائزان، ثم إن آخر الكلمة همزة، وتحقيق الهمزة وتخفيفها معًا فيها جائزان، وقد تمسك بكل واحد من هذه الأوجه الجائزة قوم، ومن ذلك حصل الاختلاف، فاذا حركت العين بالضم وأريد تخفيف الهمزة وجب قلبها واوًا لضمة ما قبلها، فيقال: رأيت كفوًا، فإن سكنت العين بعد تخفيف الهمزة أبقيت الواو المنقلبة عن الهمزة بحالها فيقال: كفوًا؛ لأن الضمة وإن زالت في اللفظ فهي في حكم الثبات؛ لأنها مرادة في المعنى، فأما إذا سكنت العين من أول الأمر على لغة من قال: اليسر بالإسكان، فأريد تخفيف الهمزة من الهزء، فإن تخفيفها إنما هو بحذفها وإلقاء حركتها على الساكن قبلها، وذلك أن تقول: رأيت جزًا وكفًا بغير همز، وهذا جز وكف، ومررت بجز وكفٍ كيد ودم.
وأما ترك حمزة الهمزة في حال الوقف؛ فلأن الهمزة كثيرًا ما تغير في الوقف، ألا ترى أنك تبدل منها في حال الوقف حروف العلة على حسب حركات ما قبلها إن كانت ساكنةً، وعلى حسب حركات أنفسها إن كانت متحركةً.
فالساكنة نحو: لم أقرا ولم أهني وهذه أكمو، والمتحركة: هذا الكلو
[الموضح: 282]
ومررت بالكلي ورأيت الكلا، فإنما ذلك لأن الوقف موضع تغييرٍ، والهمزة قد تغير في غير حال الوقف فلأن تغير في حال الوقف أولى.
فلما كان كذلك اختار حمزة ترك الهمزة في حال الوقف). [الموضح: 283]
قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68)}
قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)}
قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70)}
قوله تعالى: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)}
قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)}
قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (من خشية اللّه وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون (74)
قرأ ابن كثير ها هنا: (عمّا يعملون) - بالياء -.
وقوله: (إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (85) ) - بالياء - وقوله: (الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (144)) - بالياء - في هذه الثلاثة المواضع، وقرأ الباقي - بالتاء - وقرأ أبو عمرو في موضعين بالياء، قوله: (الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (144)، وقوله: (للحقّ من ربّك وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (149). والباقي بالتاء.
وقرأ نافع وعاصم في رواية
[معاني القراءات وعللها: 1/156]
أبي بكر ويعقوب في موضعين بالياء، وهو قوله: (إلى أشدّ العذاب وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (85)، و: (الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون).
وروى حفص عن عاصم موضعا بالياء، قوله: (الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون (144).
هذه وحدها بالياء.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: (وما الله بغافل عما تعملون) بالتاء وهي ستة مواضع: خمسة في البقرة، وواحدة في آل عمران، رأس تسع وتسعين منها.
قال أبو منصور: من قرأ (يعملون) فعلى الإخبار عنهم، ومن قرأ بالتاء فهو مخاطبة لهم). [معاني القراءات وعللها: 1/157]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في التاء والياء في قوله: وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون [البقرة/ 74]. فقرأ ابن كثير كلّ ما في القرآن من قوله: وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء، إلا ثلاثة أحرف: قوله: لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما يعملون [البقرة/ 74] بالياء وقوله: يردون إلى أشد العذاب، وما الله بغافل عما يعملون [البقرة/ 85] بالياء.
وقوله: ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون [البقرة/ 144]، بالياء. وقرأ ما كان من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون بالياء [الأنعام/ 132 والنمل/ 93].
وقرأ نافع من هذه الثلاثة الأحرف حرفين بالياء: قوله:
إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون بالياء، وكذلك:
ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء، وسائر القرآن بالتاء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/110]
وكذلك قرأ ما كان من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا تعملون. بالتاء، وهما حرفان في آخر سورة هود، [الآية/ 123]، وآخر سورة النّمل [الآية/ 93] فهما عنده بالتاء.
وقرأ في سورة الأنعام: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون بالياء [الآية/ 132].
وقرأ ابن عامر كلّ ما جاء في القرآن من قوله: وما الله بغافل عما تعملون بالتاء. وقرأ في سورة الأنعام وآخر سورة هود وما ربّك بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء، وقرأ في آخر سورة النّمل، وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون بالياء فهذه حروف كذلك في كتابي عن أحمد بن يوسف عن ابن ذكوان. ورأيت في كتاب موسى بن موسى الختّلي عن ابن ذكوان: بالتاء.
وفي آخر النمل: بالتاء أيضا.
وقال الحلوانيّ عن هشام بن عمار بإسناده عن ابن عامر ذلك كلّه بالتاء وما ربّك بغافلٍ، وما اللّه بغافلٍ.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء في موضعين، قوله: يردّون إلى أشدّ العذاب، وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء. وقوله: ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء، وسائر القرآن بالتاء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/111]
وكلّ ما في القرآن من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون فهو بالياء، وهذا قول أبي بكر بن عيّاش عن عاصم. وقال حفص عن عاصم في رأس الأربع والأربعين والمائة: ليعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون [البقرة] بالياء، هذه وحدها، وسائر القرآن بالتاء.
وقال حفص: قرأ عاصم في سورة الأنعام: ولكلٍّ درجاتٌ ممّا عملوا وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون [الآية/ 132] بالياء، وقرأ في آخر هود وآخر النّمل: وما ربّك بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء مثل قراءة نافع.
وقرأ أبو عمرو رأس الأربع والأربعين والمائة، والتسع والأربعين والمائة: وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون بالياء، وسائر القرآن من قوله: وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء.
وما كان من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون فهو بالياء.
وقرأ حمزة والكسائيّ كلّ ما كان من قوله: وما ربّك بغافلٍ عمّا يعملون بالياء، وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون بالتاء.
وكلّ ما في القرآن من قوله: وما اللّه بغافلٍ فهو ستّة مواضع. خمسة منها في سورة البقرة، وحرف في آل عمران عند المائة. وما ربّك بغافلٍ ثلاثة مواضع: في الأنعام وآخر هود وآخر النّمل.
[الحجة للقراء السبعة: 2/112]
قال أبو عليّ: القول في جملة ذلك أنّ ما كان قبله خطاب جعل بالتاء، ليكون الخطاب معطوفا على خطاب مثله- كقوله: ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة [البقرة/ 74] وما اللّه بغافلٍ عمّا تعملون، فالتاء هنا حسن، لأنّ المتقدّم خطاب. ولو كان: وما اللّه بغافلٍ عمّا يعملون على لفظ الغيبة. أي: وما الله بغافل عما يفعل هؤلاء الذين اقتصصنا عليكم قصصهم أيها المسلمون، لكان حسنا.
وإن كان الذي قبله غيبة، حسن أن يجعل على لفظ الغيبة، ليعطف ما للغيبة على مثله، كما عطفت ما للخطاب على مثله.
ويجوز فيما كان قبله لفظ غيبة الخطاب. ووجه ذلك أن تجمع بين الغيبة والخطاب، فتغلّب الخطاب على الغيبة، لأنّ الغيبة يغلب عليها الخطاب فيصير كتغليب المذكّر على المؤنّث، ألا ترى أنّهم قد بدءوا بالخطاب على الغيبة في باب الضمير، وهو موضع يردّ فيه كثير من الأشياء إلى أصولها؟
نحو: لك، ونحو قوله:
فلا بك ما أسال ولا أغاما فلمّا قدّموا المخاطب على الغائب فقالوا: أعطاكه ولم
[الحجة للقراء السبعة: 2/113]
يقولوا: أعطاهوك. علمت أنه أقدم في الرّتبة. كما أن المذكّر مع المؤنث كذلك. فإذا كان الأمر على هذا، أمكن في الخطاب في هذا النحو أن يعنى به الغيب والمخاطبون، فيغلّب الخطاب على الغيبة ويكون المعنى: ما الله بغافل عمّا تعملون.
أي فيجازي المحسن على إحسانه والمسيء على إساءته.
ويجوز في الخطاب بعد الغيبة وجه آخر، وهو أن يراد به: قل لهم أيها النبيّ: ما الله بغافل عمّا تعملون، فعلى هذا النحو تحمل هذه الفصول). [الحجة للقراء السبعة: 2/114]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة قتادة: [وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ]، وكذلك قراءته: [وَإِنْ مِنْهَا] مخففة.
قال ابن مجاهد: أحسبه أراد بقوله مخففة الميم؛ لأني لا أعرف لتخفيف النون معنى.
قال أبو الفتح: هذا الذي أنكره ابن مجاهد صحيح؛ وذلك أن التخفيف في إِنَّ المكسورة شائع عنهم؛ ألا ترى إلى قول الله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا}، {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} أي: إنهم على هذه الحال. وهذه اللام لازمة مع تخفيف النون
[المحتسب: 1/91]
فرقًا بين إِنْ مخففة من الثقيلة، وبين إِنْ التي للنفي بمنزلة "ما" في قوله سبحانه: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ}، وقوله:
فما إنْ طبنا جُبْنٌ ولكن ... منايانا ودولة آخرينا
وهذا واضح). [المحتسب: 1/92]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعمش: [لما يَهْبُطُ] بضم الباء.
قال أبو الفتح: قد بينا في كتابنا "المنصف" -وهو تفسير تصريف أبي عثمان- أن باب فَعَل المتعدي أن يجيء على يفعِل مكسور العين؛ كضرب يضرب وحبس يحبس، وباب فَعَل غير المتعدي أن يكون على يفعُل مضموم العين؛ كعقد يقعد وخرج يخرج، وأنهما قد يتداخلان فيجيء هذا في هذا، وهذا في هذا؛ كقتل يقتُل، وجليس يجلِس، إلا أن الباب ومجرى القياس على ما قدمناه، فهبط يهبُط على هذا بضم العين أقوى قياسًا من يهبِط، فهو كسقط يسقط؛ لأن هبط غير متعدٍّ في غالب الأمر كسقط.
وقد ذُهب في هذا الموضع إلى أن هبط هنا متعد، قالوا ومعناه: لما يهبُطُ غيره في طاعة الله عز وجل؛ أي: إذا رآه الإنسان خشع لطاعة خالقه، إلا أنه حُذف هنا المفعول تخفيفًا، ولدلالة المكان عليه، ونسب الفعل إلى الحجر؛ لأن طاعة رائيه لخالقه إنما كانت مسببة عن النظر إليه؛ أي: منها ما يهبُط الناظر إليه؛ أي: يُخْضِعه ويُخْشِعه، وقد جاء هبطته متعديًا كما ترى، قال:
ما راعني إلا جناح هابطا ... على البيوت قَوطَهُ العلابِطَا
وأعمله في القوط، فعلى هذا تقول: هبط الشيء وهبطته، وهلك الشيء وهلكته، قالوا في قول العجاج:
ومهمهٍ هالِك من تَعرَّجا
[المحتسب: 1/92]
قولين؛ أحدهما: أنه كأنه قال: هالكِ المتعرجين، والآخر: هالكِ مَن تعرجا؛ أي: مهلك من تعرج، فتقول على هذا: أصبحت ذا مال مهلوك، وهلكه الله يهلِكه هُلكًا. وإذا كانت كذلك، وكانت هبط هنا قد تكون متعدية، فقراءة الجماعة: {لما يَهْبِطُ} بكسر الباء أقوى قياسًا من يهبُط؛ لأن معناه لما يهبِط مبصرَه ويحطه من خشية الله.
ومن ذهب فيه إلى أن يهبط هنا غير متعد فكأنه قال: وإن منها لما لو هبط شيء غير ناطق من خشية الله لهبط هو، لا أن غير الناطق تصح منه الخشية؛ ألا ترى أن قوله:
لها حافِرٌ مثل قُعب الوليـ ... ـد تتخذُ الفار فيه مَغَارا
أي: لو اتخذت فيه مغارًا لغوره وتقعبه لوسعها وصلح لها، لا أنها هي تتخذ ألبتة.
ومثله مسألة الكتاب: أَخَذَتْنَا بالْجَودِ وفوقَه؛ أي: لو كان فوق الجود شيء من المطر لكانت قد أخذتْنا به.
وكلام العرب لمن عرفه، ومَن الذي يعرفه؟ ألطف من السحر، وأنقى ساحة من مشوف الفكر، وأشد تساقطًا بعضًا على بعض، وأمس تساندًا نفلًا إلى فرض). [المحتسب: 1/93]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وما الله بغافل عمّا تعملون * أفتطمعون أن يؤمنوا لكم}
قرأ ابن كثير {وما الله بغافل عمّا يعملون} بالياء أي وما الله بغافل عمّا يعمل هؤلاء الّذين اقتصصنا عليكم قصصهم أيها المسلمون
وقرأ الباقون بالتّاء على الخطاب وحجتهم قوله قبلها {ثمّ قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة} {وما الله بغافل عمّا تعملون} ). [حجة القراءات: 101] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (42- قوله: {وما الله بغافل عما تعملون} قرأه ابن كثير بالياء رده على قوله تعالى: {وما كادوا يفعلون} «71» ورده أيضًا على ما بعده من قوله: {وقد كان فريقٌ منهم}، وقوله: {يحرفون}، وقوله: {وهم يعملون} «75» فلما أتى ما قبله وما بعده على لفظ الغيبة، أجراه على ذلك، ولم يجره على قوله: {أفتطمعون}؛ لأنه خطاب للمؤمنين، و«يعلمون» يُراد به اليهود، وقرأه الباقون بالتاء، ردوه على الخطاب الذي قبله في قوله: {ويريكم آياته} «73» وقوله: {ثم قست قلوبكم} «74» فجرى آخر الكلام على أوله بالخطاب كله لليهود، وهو الاختيار؛ لأن عليه الجماعة، وهو اختيار أبي عبيد). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/248]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (26- {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آية/ 74]:-
بالياء، قرأ ابن كثير في ثلاثة مواضع بالياء ههنا وهو بعد قوله: {مِنْ خَشْيَةِ الله}، وقوله {إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}، وقوله {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، والباقي بالتاء. وقرأ أبو عمرو في موضعين بالياء بعد {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، والباقي بالتاء. وقرأ أبو عمرو في موضعين بالياء بعد {الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} و{لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، والباقي بالتاء. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} بالتاء في جميع القرآن.
[الموضح: 283]
أما القراءة بالياء فمحمولة على لفظ الغيبة، كأنه قال: وما الله بغافل عما يعمل هؤلاء الذين أخبرناكم عن حالهم وقصصنا عليكم قصتهم أيها المؤمنون.
وأما القراءة بالتاء فإنها على الخطاب؛ لأن ما قبله خطاب، فيكون معطوفًا على مثله، وهو قوله تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً}). [الموضح: 284]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107264#post107264)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:32 PM
سورة البقرة
[من الآية (75) إلى الآية (77) ]
{أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}
قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعمش: [يَسْمَعُونَ كَلِمَ اللَّهِ].
الكلام كل ما استقل برأسه؛ أعني: الجمل المركبة، نحو: قام محمد، وأبوك منطلق. وقد فَصَلْنَا في أول باب من الخصائص بين الكلام والقول، وأن كل كلام قول، وليس كل قول كلامًا.
فأما الكلم فلا يكون أقل من ثلاث، وذلك أنه جمع كلمة كثَفِنَة وثَفِن، ونَبِقَة ونَبِق، وسَلِمَة وسَلِم؛ ولذلك ما اختاره صاحب الكتاب على الكلام، فقال: هذا باب علم ما الكلم من العربية، ولم يقلك: ما الكلام؛ وذلك لأن الكلام كما قد يكون فوق الاثنين فكذلك أيضًا قد يكون اثنين، وسيبويه إنما أراد هنا ثلاثة أشياء:
[المحتسب: 1/93]
الاسم والفعل والحرف، فترك اللفظ الذي قد يكون أقل من الجماعة إلى اللفظ الذي لا يكون إلا جماعة). [المحتسب: 1/94]
قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)}
قوله تعالى: {أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107267#post107267)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:34 PM
سورة البقرة
[من الآية (78) إلى الآية (82) ]
{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (إلّا أمانيّ)
روى هارون عن أبي عمرو (إلّا أماني) مخففة الياء، وسائر القراء قرأوا بتشديد الياء، لأن الواحدة منها أمنية.
قال أبو منصور: سمعت المنذري عن أبي العباس، أحمد بن يحيى أنه قال: من شدد الأماني فهو مثل قولهم: قرقور وقراقير، ومن خفف الأماني فهو مثل قولهم: قرقور وقراقر، غير أن القراءة بالتشديد لاجتماع القراء عليه.
ومعنى الأماني: الأكاذيب، يقال: أنت تمنيت هذا القول، أي: اختلقته.
[معاني القراءات وعللها: 1/158]
وقال غيره: تكون الأماني أيضًا جمع الأمنية، وهي التلاوة، ومنه قول الله جلّ وعزّ (وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته) أي: في تلاوته). [معاني القراءات وعللها: 1/159]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي جعفر وشيبة والحسن بخلاف والحكم بن الأعرج: [إِلَّا أَمَانِيْ وَإِنْ هُمْ]، و[لَيْسَ بِأَمَانِيْكُمْ وَلا أَمَانِيْ أَهْلِ الْكِتَابِ] الياء فيه كله خفيفة ساكنة.
قال أبو الفتح: أصل هذا كله التثقيل -أَمَانِيُّ جمع أُمْنِيَّة- والتخفيف في هذا النحو كثير وفاشٍ عندهم.
قال أبو الحسن في قولهم أثاف: لم يسمع من العرب بالتثقيل ألبتة.
وقال الكسائي: قد سمع فيها التثقيل، وأنشد:
أثافي سُفعًا في مُعَرَّسِ مِرجل
والمحذوف من نحو هذا هو الياء الأولى التي هي نظيرة ياء المد مع غير الإدغام، نحو ياء قراطيس، وجراميق، وأراجيح، وأعاجيب، جمع أرجوحة وأعجوبة، ألا تراها قد حذفت في قوله:
والبكراتِ الفُسَّجَ العطامسا
[المحتسب: 1/94]
وقوله:
وغير سُفْع مثل يحامِم
يريد: يحاميم وعطاميس.
وروينا لعبيد الله بن الحر قوله:
وبُدِّلْتُ بعد الزَّعْفَران وطيبه ... صَدا الدِّرع من مستحكِماتِ الْمَسامِر
وعلى أن حذف الياء مع الإدغام أسهل شيئًا من حذفه ولا إدغام معه؛ وذلك أن هذه الياء لما أُدغمت خفيت وكادت تستهلك، فإذا أنت حذفتها فكأنك إنما حذفت شيئًا هو في حال وجوده في حكم المحذوف. نعم، وقد يحذف هذا الحرف ويؤتى بالعوض منه حرفًا في حال وجوده في حكم ما ليس موجودًا، وهو تاء التأنيث في نحو قولهم: فرازنة وزنادقة وجحاجحة، فالتاء عوض من ياء فرازين وجحاجيح وزناديق، وكذلك قالوا مع الإدغام، وذلك قولهم في أثاني وأناسي: أثانية وأناسية، رواها أبو زيد. وإذا كانوا قد رضوا بالكسرة قبلها دليلًا عليها، وعوضًا منها فهم بأن يقنعوا بالتاء عوضًا منها أجدر). [المحتسب: 1/95]
قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)}
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)}
قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وأحاطت به خطيئته)
قرأ نافع وحده: (وأحاطت به خطيئاته).
وقرأ سائر القراء: (خطيئته).
قال أبو منصور: والخطيئة تنوب عن الخطيئات، وقد تجمع الخطيئة خطايا وخطيئات). [معاني القراءات وعللها: 1/159]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: وأحاطت به خطيئته [البقرة/ 81]، فقرأ نافع وحده: خطيئاته، وقرأ الباقون:
خطيئته واحدة.
قال أبو علي: قوله: وأحاطت به خطيئته لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون المعنى أحاطت بحسنته خطيئته أي:
أحيطتها من حيث كان المحيط أكبر من المحاط به فيكون بمنزلة قوله: وإنّ جهنّم لمحيطةٌ بالكافرين [العنكبوت/ 54]، وقوله أحاط بهم سرادقها [الكهف/ 29]، أو يكون المعنى في: أحاطت به خطيئته:
أهلكته، من قوله: لتأتنّني به إلّا أن يحاط بكم [يوسف/ 66] وقوله: وظنّوا أنّهم أحيط بهم [يونس/ 22] وأحيط بثمره [الكهف/ 42] فهذا كلّه في معنى البوار والهلكة.
ويكون للإحاطة معنى ثالث وهو: العلم. كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/114]
كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً [الكهف/ 91] و: ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربّهم وأحاط بما لديهم [الجن/ 28].
وقال: واللّه بما يعملون محيطٌ [الأنفال/ 47] أي: عالم.
وأما الخطيئة: فقال أبو زيد: خطئت، من الخطيئة.
أخطأ خطئا والاسم الخطء، وأخطأت إخطاء، والاسم الخطاء.
وقال أبو الحسن: الخطء: الإثم، وهو ما أصابه متعمّدا والخطأ: غير التعمّد. ويقال من هذا: أخطأ يخطئ وقال:
وليس عليكم جناحٌ فيما أخطأتم به ولكن ما تعمّدت قلوبكم [الأحزاب/ 5] واسم الفاعل من هذا مخطئ.
فأمّا خطئت: فاسم الفاعل فيه: خاطئ، وهو المأخوذ به فاعله، وفي التنزيل: لا يأكله إلّا الخاطؤن [الحاقة/ 37] وقد قالوا: خطئ في معنى أخطأ، قال:
يا لهف نفسي إذ خطئن كاهلا المعنى: أخطأتهم، ويدلّك على هذا قول الأعشى:
[الحجة للقراء السبعة: 2/115]
فأصبن ذا كرم ومن أخطأنه... جزأ المقيظة خشية أمثالها
يصف أيضا خيلا.
ومما جاء فيه: خطئ في معنى أخطأ قول الشاعر:
والناس يلحون الأمير إذا هم... خطئوا الصّواب ولا يلام المرشد
فأما الخطيئة فتقع على الصغير وعلى الكبير، فمن وقوعها على الصغير قوله: والّذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدّين [الشعراء/ 82] ومن وقوعها على الكبير قوله: وأحاطت به خطيئته [البقرة/ 81].
فأمّا قولهم: خطيئة يوم لا أصيد فيه، فالمعنى فيه:
قلّ يوم لا أصيد فيه.
وأما قوله: ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [البقرة/ 286] فالمعنى أن يكون أخطأنا في معنى: خطئنا،
[الحجة للقراء السبعة: 2/116]
ونسينا في معنى تركنا. لأن الخطأ والنسيان موضوعان عن الإنسان وغير مؤاخذ بهما. فيكون أخطأنا بمنزلة خطئنا كما جاء خطئنا في معنى أخطأنا.
ويجوز أن تكون أخطأنا في قوله: أو أخطأنا على غير التعمّد. والنّسيان: خلاف الذّكر، وليس التّرك، ولكن تعبّدنا بأن ندعو لذلك، كما جاء في الدعاء: قال ربّ احكم بالحقّ [الأنبياء/ 112] والله سبحانه لا يحكم إلا بالحقّ.
وكما قال: ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك [آل عمران/ 194] وما وعدوا به على ألسنة الرّسل يؤتونه. وكذلك قول الملائكة في دعائهم للمسلمين: ربّنا وسعت كلّ شيءٍ رحمةً وعلماً، فاغفر للّذين تابوا واتّبعوا سبيلك، وقهم عذاب الجحيم [غافر/ 7] وكذلك قوله: ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به [البقرة/ 286] يكون على ما يكرثهم ويثقل على طباعهم، وتكون الطاقة: الاستطاعة.
وقد يكون: أخطأنا: أتينا بخطإ. كقولك: أبدعت: أتيت ببدعة. ونحو هذا مما يراد به هذا النّحو.
وتقول: خطّأته فأخطأ. فيكون هذا كقولهم: فطّرته فأفطر.
فأمّا ما روي عن ابن عباس من قوله: خطّ الله نوءها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/117]
فقال أبو عبد الله اليزيديّ وغيره. ليس ذلك من الخطأ، وإنّما هو خطّ مثل ردّ، من الخطيطة قال: وهي أرض لم تمطر بين أرضين ممطورتين.
السيئة في قوله: بلى من كسب سيّئةً [البقرة/ 81] يجوز أن يكون. الكفر. ويجوز أن يكون: كبيرا يوتغ ويهلك، ويجوز أن يكون: من للجزاء الجازم، ويجوز أن يكون للجزاء غير الجازم، فتكون: السيّئة. وإن كانت مفردة، تراد بها الكثرة فكذلك تكون خطيئة مفردة... وإنما حسن أن تفرد لأنه مضاف إلى ضمير مفرد، وإن كان يراد به الكثرة كما قال: من أسلم وجهه للّه وهو محسنٌ فله أجره عند ربّه [البقرة/ 112] فأفرد الوجه والأجر، وإن كان في المعنى جمعا في الموضعين. فكذلك المضاف إليه: الخطيئة، لما لم يكن جمعا لم تجمع كما جمعت في قوله: نغفر لكم خطاياكم [البقرة/ 58]
[الحجة للقراء السبعة: 2/118]
لأنه مضاف إلى جماعة لكل واحد منهم خطيئة. وكذلك قوله: إنّا نطمع أن يغفر لنا ربّنا خطايانا [الشعراء/ 51] وقوله: إنّا آمنّا بربّنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السّحر [طه/ 73] وكذلك قوله: وقولوا حطّةٌ نغفر لكم خطاياكم [البقرة/ 58] لأن كل لفظة من ذلك مضافة إلى جمع. فجمعت كجمع ما أضيف إليه.
فأمّا قوله: وأحاطت به خطيئته. فمضاف إلى مفرد.
فكما أفردت السيئة ولم تجمع، وإن كانت في المعنى جمعا، فكذلك ينبغي أن تفرد الخطيئة، وأنت إذا أفردته لم يمتنع وقوعه على الكثرة وإن كان مضافا. ألا ترى أنّ في التنزيل:
وإن تعدّوا نعمة اللّه لا تحصوها [إبراهيم/ 34] فالإحصاء إنما يقع على الجموع والكثرة، وكذلك ما أثر في الحديث من قوله: «منعت العراق درهمها وقفيزها. ومصر إردبّها» فهذه أسماء مفردة مضافة، والمراد بها الكثرة فكذلك الخطيئة. ومما يرجّح به قول من أفرد ولم يجمع لأنه مضاف إلى مفرد، فأفرد لذلك وكان الوجه: قوله: بلى من أسلم وجهه للّه وهو محسنٌ فله أجره عند ربّه [البقرة/ 112]
[الحجة للقراء السبعة: 2/119]
فأفرد الأجر لما كان مضافا إلى مفرد، ولم يجمع كما جمع قوله: وآتوهنّ أجورهنّ بالمعروف [النساء/ 25] فكما لم يجمع الأجر في الإضافة إلى الضمير المفرد، كما جمع لمّا أضيف إلى الضمير المجموع، كذلك ينبغي أن تكون الخطيئة مفردة إذا أضيفت إلى الضمير المفرد، وإن كان المراد به الجميع. ومن قال «خطيئاته» فجمع، حمله على المعنى، والمعنى: الجمع والكثرة. فكما جمع ما كان مضافا إلى جمع كذلك جمع ما كان مضافا إلى مفرد، يراد به الجمع من حيث اجتمعا في أنهما كثرة، ويدلّك على أنّ المراد به الكثرة. فيجوز من أجل ذلك أن تجمع خطيئة على المعنى لأن الضمير المضاف إليه جمع في المعنى.
قوله: فأولئك أصحاب النّار [البقرة/ 81] فأولئك خبر المبتدأ الذي هو: من في قول من جعله جزاء غير مجزوم كقوله: وما بكم من نعمةٍ فمن اللّه [النحل/ 53] أو مبتدأ في قول من جعله جزاء مجزوما. وفي كلا الوجهين يراد به: من في قوله: بلى من كسب سيّئةً [البقرة/ 81].
ومما يدلّ على أن من يراد به الكثرة فيجوز لذلك أن تجمع خطيئة لأنها مضافة إلى جمع في المعنى. قوله بعد هذه: والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات أولئك أصحاب الجنّة هم فيها خالدون [البقرة/ 82]، ألا ترى أن الّذين جمع، وهو معادل به من. فكذلك المعادل به يكون جمعا مثل ما عودل به.
[الحجة للقراء السبعة: 2/120]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئته}
قرأ نافع وأحاطت به خطيئاته بالألف وحجته أن الإحاطة لا تكون للشّيء المنفرد إنّما تكون لأشياء كقولك أحاط به الرّجال وأحاط النّاس بفلان إذا داروا به ولا يقال أحاط زيد بعمرو وحجّة أخرى جاء في التّفسير قوله بلى من كسب سيّئة وأحاطت به خطيئاته أي الكبائر أي أحاطت به كبائر ذنوبه
وقرأ الباقون خطيئته على التّوحيد وحجتهم أن الخطيئة ليست بشخص فإذا لم تكن شخصا واشتملت على الإنسان جاز أن يقال أحاطت به خطيئته وحجّة أخرى جاء في التّفسير من كسب سيّئة أي الشّرك وأحاطت به خطيئته أي الشّرك الّذي هو سيّئة). [حجة القراءات: 102]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (43- قوله: «خطيئته» قرأه نافع بالجمع، حمله على معنى الإحاطة، والإحاطة إنما تكون بكثرة المحيط، فحمله على معنى الكبائر، والسيئة الشرك، فالمعنى: بلى من كسب شركًا وأحاطت بن كبائره فأحبطت أعماله، فأولئك أصحاب النار، والهاء في «خطيآته» بمعنى الجمع، تعود على «من»، و«من» للجماعة، يدل على ذلك قوله: {فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}، وقرأ الباقون بالتوحيد على أن تأويل الخطيئة الشرك، فوحَّدوه على هذا المعنى، وتكون السيئة الذنوب، وهي بمعنى السيئات، ويجوز أن تكون الخطيئة في معنى الجمع، لكن وُحِّدت، كما وُحِّدت السيئة، وهي بمعنى الجمع، فتكون كالقراءة بالجمع في المعنى، وحسن انفراد لفظ الخطيئة، وهي بمعنى الجمع؛ لإضافتها إلى مفرد في اللفظ بمعنى الجمع، وقد يجوز أن يكون لفظ الخطيئة مفردًا، يُراد به الكثرة، كما قال: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} «إبراهيم 34» أي: نعم الله؛ لأن المعدود لا يكون إلا كثيرًا، فتكون «الخطيئة» الكبائر و«السيئة» الذنوب). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/249]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (27- {وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ} [آية/ 81]:-
بالجمع، قرأها نافع وحده.
وذلك لأنه حمله على المعنى، ومعناه على الكثرة؛ لأن المخبر عنهم جماعة وإن عبر عنهم بلفظ المفرد، ألا ترى أن قوله: {مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} ليس يريد به واحدًا، وإنما يدخل تحته كل كاسب للسيئة محيط به خطاياه لما يتضمنه من معنى الشرط، فالمعنى على الكثرة والعموم، والدليل على أن المراد به الكثرة قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ}؛ لأن هؤلاء هم كاسبو السيئة الذين تقدم ذكرهم، ويدل على ذلك أيضًا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا} وهم جماعة عودل بهم من تقدمهم، والمعادل ينبغي أن يكون مثل من عودل به.
ويقوي هذه القراءة أنه وصف الخطيئة بالإحاطة، والإحاطة بالشيء شمول
[الموضح: 284]
له فهي تقتضي الكثرة في حقيقة الأصل؛ لأن الجسم لا يحيط بالجسم حتى يكون كثير الأجزاء.
وقرأ الباقون {خَطِيئتُهُ} على الإفراد.
ووجه ذلك أنها لما كانت مضافة إلى مفردٍ في اللفظ كان الإفراد فيها أولى، لا سيما وقد أفردت السيئة في قوله تعالى: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً} لما كان مسندًا إلى لفظ {مَنْ}، ولفظه واحد وإن كان المراد به الجمع والكثرة ولا يمتنع في المفرد أن يقع للكثرة والجمع نحو قوله تعالى {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا} فإن الإحصاء يقتضي الكثرة، فإن لم يمتنع نحو هذا لا يمتنع أيضًا أن يراد بالخطيئة وإن كانت واحدةً معنى الجمع، وكذلك السيئة). [الموضح: 285]
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107269#post107269)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:35 PM
سورة البقرة
[من الآية (83) إلى الآية (86) ]
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (لا تعبدون إلّا اللّه)
قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي (لا يعبدون إلّا اللّه) - بالياء - وقرأ الباقون (لا تعبدون) بالتاء.
من قرأ: (لا يعبدون) فعلى أنهم غيّب، وعلامة الغائب الياء.
[معاني القراءات وعللها: 1/159]
وكان في الأصل (أن لا يعبدوا)، فلما حذف (أن) رفعه، مثل قول طرفة:
ألا أيّهذا اللائمي أحضر الوغى... وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
أراد: أن أحضر، فلما حذف (أن) رفعه.
ومن قرأ بالتاء فهو خطاب، ومثله في الكلام: تقدمت إلى فلان لا تشرب الخمر ولا يشرب الخمر.
قوله جلّ وعزّ: (وقولوا للنّاس حسنًا).
قرأ حمزة والكسائي ويعقوب (حسنًا) بفتح الحاء والسين.
وقرأ الباقون: (حسنًا).
[معاني القراءات وعللها: 1/160]
قال أبو منصور: (حسنًا) فالمعنى: قولوا للناس قولاً ذا حسن.
والخطاب لعلماء اليهود، قيل لهم: اصدقوا في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومن قرأ (حسنًا) فالمعنى: قولوا لهم قولاً حسنًا.
واتفق القراء على قوله في العنكبوت: (حسنًا)
وافترقوا في الأحقاف.
فقرأ حمزة وعاصم والكسائي (إحسانًا) بالألف، وقرأ الباقون (حسنًا) بغير ألف، مضمومة الحاء، ومعنى إحسانا، أي: أحسنوا بالوالدين إحسانًا، فإحسانًا بدل من اللفظ بـ (أحسنوا).
[معاني القراءات وعللها: 1/161]
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: قال بعض أصحابنا: اخترنا (حسنًا) لأنه يريد: قولا حسنًا.
قال: ومن قرأ (حسنًا) فهو مصدر حسن يحسن حسنًا، قال: وهو جائز، ونحن نذهب إلى أن الحسن شيء من الحسن، وبجوز هذا وهذا). [معاني القراءات وعللها: 1/162]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في التاء والياء من قوله تعالى: لا تعبدون إلّا اللّه [البقرة/ 83] فقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ: لا يعبدون بالياء.
وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر لا تعبدون بالتاء.
قال أبو علي: الألفاظ التي جرت في كلامهم مجرى القسم، حتى أجيبت بجوابه. تستعمل على ضربين: أحدهما:
أن يكون كسائر الأخبار التي ليست بقسم، فلا يجاب كما لا يجاب.
والآخر: أن يجري مجرى القسم فيجاب كما يجاب القسم. فممّا لم يجب بأجوبة القسم قوله: وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين [الحديد/ 8].
ومنه قوله: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور، خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ [البقرة/ 63] وقال: فيحلفون له كما يحلفون لكم، ويحسبون.
فما جاء بعد من ذلك فيه ذكر الأوّل ممّا يجوز أن يكون حالا احتمل ضربين: أحدهما: أن يكون حالا، والآخر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/121]
أن يكون قسما، وإنما جاز أن تحمله على الحال دون جواب القسم، لأنه قد جاز أن يكون معرّى من الجواب، وإذا جعلت ما يجوز أن يكون حالا، فقد عرّيتها من الجواب. فمما يجوز أن يكون حالا قوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور خذوا... [البقرة/ 63] فقوله: ورفعنا يجوز أن يكون حالا وتريد فيه قد. وإن شئت لم تقدّر فيه الحال.
ومما يجوز أن يكون ما بعده فيه حالا غير جواب، قوله:
وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا اللّه [البقرة/ 83] فهذا يكون حالا كأنه أخذ ميثاقهم موحّدين، وكذلك: وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم [البقرة/ 84] أي: غير سافكين، فيكون حالا من المخاطبين المضاف إليهم. وإنما جاز كونهما لما ذكرنا من أجل أن هذا النحو قد تعرّى من أن يجاب بجواب القسم. ألا ترى أن قوله (خذوا) في الآية ليس بجواب قسم، ولا يجوز أن يكون جوابا له؛ وكذلك من قرأ:
«لا تعبدوا» فجعل لا للنهي كما كان: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه [آل عمران/ 187] قسما- وكذلك:
وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لا يبعث اللّه [النحل/ 38] فكما أن لتبيّننّه لا يكون إلا جوابا، كذلك يكون قوله: لا تعبدون ولا تسفكون. يجوز أن يكون جوابا للقسم. ويجوز أن يكون «لا تسفكون» ونحوه في تقدير: أن لا تسفكوا كأنّ تقديره: أخذنا ميثاقهم بأن لا يسفكوا. ولا يكون ذلك جواب
[الحجة للقراء السبعة: 2/122]
قسم كما كان فيمن قدّره حالا غير جواب قسم. إلا أنه لما حذف (أن) ارتفع الفعل.
واعلم أن ما يتصل بهذه الأشياء الجارية مجرى القسم في أنّها أجيبت بما يجاب به القسم. لا يخلو من أن يكون لمخاطب أو لمتكلم، أو لغائب جاز أن يكون على لفظ الغيبة من حيث كان اللفظ لها. وجاز أن يكون على لفظ المخاطب.
وإنما جاز كونه على لفظه، لأنّك تحكي حال الخطاب، وقت ما يخاطب به، ألا ترى أنهم قد قرءوا: قل للذين كفروا سيغلبون ويحشرون إلى جهنم [آل عمران/ 12] على لفظ الغيبة، وبالتاء على لفظ الخطاب على حكاية حال الخطاب في وقت الخطاب، فإذا كان هذا النحو جائزا، جاز أن تجيء القراءة بالوجهين جميعا، وجاز أن تجيء بأحدهما، كما جاء قوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون [البقرة/ 83] بالوجهين كما جاء سيغلبون، ويحشرون بالوجهين، ويجوز في قياس العربية في قوله: إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [الأنفال/ 38] على الوجهين اللذين قرئ بهما في «سيغلبون، وستغلبون».
وإن كان الكلام على الخطاب لم يجز فيما يكون في تقدير ما يتلقّى به القسم إلا الخطاب، كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/123]
وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم [البقرة/ 84] فهذا لا يجوز أن يكون إلا على الخطاب، لأن المأخوذ ميثاقهم مخاطبون ولأنّك إن حكيت الحال التي يكون الخطاب فيها فيما يأتي لم يجز أن تجعل المخاطبين كالغيب، كما جاز في الغيب الخطاب من حيث قدّرت الحال التي يكون فيها الخطاب فيما تستقبل، ألا ترى أنّه لا يجوز أن تجعل المخاطبين غيبا، فتقول:" أخذنا ميثاقكم لا يسفكون" لأنك إذا قدّرت الحكاية، كان التقدير:
أخذنا ميثاقكم فقلنا لكم: لا تسفكون، كان بالتاء ولم يجز الياء، كما لا يجوز أن تقول للمخاطبين: هم يفعلون، وأنت تخاطبهم. وإن لم تقدّر الحكاية فهو بالتاء، فلا مذهب إذن في ذلك غير الخطاب.
فقوله: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون [البقرة/ 83] لا يخلو قوله: تعبدون من أن يكون حالا، أو يكون تلقّي قسم، أو يكون على لفظ الخبر. والمعنى معنى الأمر، أو تقدّر الجارّ في (أن) فتحذفه ثم تحذف أن فإن جعلته حالا جعلته على قول من قرأ بالياء فقال: لا يعبدون ليكون في الحال ذكر من ذي الحال.
فإن قلت: وإذا قرئ بالياء فالمراد به هو بنو إسرائيل، والحال مثل الصفة، وقد حملت الصفة في هذا النحو على المعنى. فإن هذا قول، والأول البيّن.
وإن جعلته تلقّي قسم، فإنّ هذا اللفظ الذي هو: أخذنا ميثاقكم
[الحجة للقراء السبعة: 2/124]
مجاز ما يقع بعده على ثلاثة أضرب: أحدها: أن لا يتبع شيئا مما يجري مجرى الجواب كقوله: وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين [الحديد/ 8] والآخر: أن يتلقّى بما يتلقّى به القسم. نحو: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس [آل عمران/ 187] والثالث: أن يكون أمرا نحو: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور، خذوا. ولم يجيء شيء من هذا النحو فيما علمنا تلقّي بجواب قسم، ووقع بعده أمر فإن جعلت: لا تعبدون جواب قسم وعطفت عليه الأمر جمعت بين أمرين لم يجمع بينهما.
فإن قلت: لا أحمل الأمر على القسم، ولكن أضمر القول كأنّه: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا يعبدون إلّا الله... وقلنا لهم: وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
فالقول: إن إضمار القول في هذا النحو لا يضيق، وقلنا على هذا معطوف على: أخذنا، وأخذ الميثاق قول، وكأنّه: قلنا لهم كذا، وقلنا لهم كذا.
فإن جعلته على أنّ اللفظ في: لا تعبدون لفظ خبر.
والمعنى معنى الأمر، فإن ذلك يقويه ما زعموا من أنّ في إحدى القراءتين: ولا تعبدوا ومثل ذلك قوله: تؤمنون باللّه ورسوله [الصف/ 11] يدلّك على ذلك قوله يغفر
لكم
[الصف/ 12] وزعموا أن في بعض المصاحف آمنوا، ويؤكد ذلك أنه قد عطف عليه بالأمر، وهو قوله: وبالوالدين إحساناً، [البقرة/ 83]
[الحجة للقراء السبعة: 2/125]
وأقيموا الصّلاة [البقرة/ 43] وإن حملته على أن المعنى:
أخذنا ميثاقهم بأن لا تعبدوا، فإن هذا قول، إن حملته عليه كان فيه حذف بعد حذف. وزعم سيبويه أن حذف (أن) من هذا النحو قليل.
وحجة من قرأ: «لا تعبدون» بالخطاب، قوله: وإذ أخذ اللّه ميثاق النّبيّين لما آتيتكم من كتابٍ وحكمةٍ. ثمّ جاءكم رسولٌ مصدّقٌ لما معكم [آل عمران/ 81].
فجاء على الخطاب وقولوا. قال: وإذ أخذ اللّه ميثاق الّذين أوتوا الكتاب لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه [آل عمران/ 187].
ومما يقوّيه قوله: ثمّ تولّيتم إلّا قليلًا منكم وأنتم معرضون [البقرة/ 83] فإذا كان خطابا لا يحتمل غيره، وهو عطف على ما تقدّم، وجب أن يكون المعطوف عليه في حكمه.
ومن قرأ: لا يعبدون بالياء فإنه يدل عليه قوله: قل للّذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [الأنفال/ 38] فحمله على لفظ الغيبة فكلّ واحد من المذهبين قد جاء التنزيل به.
اختلفوا في ضم الحاء والتخفيف وفتحها والتثقيل من قوله: وقولوا للنّاس حسناً [البقرة/ 83] فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع وعاصم وابن عامر، حسناً بضم الحاء والتخفيف.
وقرأ حمزة والكسائيّ حسناً بفتح الحاء والتثقيل.
[الحجة للقراء السبعة: 2/126]
وقرأ الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائيّ في سورة الأحقاف إحساناً [الآية/ 15] بألف.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر حسناً خفيفة بغير ألف.
قال أبو علي: من قرأ حسناً احتمل قوله وجهين: يجوز أن يكون الحسن لغة في الحسن، كالبخل والبخل والرّشد والرّشد، والثّكل والثّكل، وجاء ذلك في الصفة، كما جاء في الاسم، ألا تراهم قالوا: العرب والعرب، وهو صفة يدلّك على ذلك: مررت بقوم عرب أجمعون. فيكون الحسن على هذا صفة، كالحسن ويكون: كالحلو والمرّ، ويجوز أن يكون الحسن مصدرا كالكفر والشّكر والشّغل، وحذف المضاف معه كأنّه: قولا ذا حسن.
ويجوز أن تجعل القول نفسه الحسن في الاتّساع، وعلى هذا: زورة وعدلة، فأنّثوا كما يؤنّثون الصفة التي تكون إياها، نحو: ظريفة وشريفة وحسنة، والدّليل على أن زورا مصدر، وليس كراكب وركب ما أنشده أحمد بن يحيى:
ومشيهنّ بالخبيب مور... كأنهنّ الفتيات الزور
[الحجة للقراء السبعة: 2/127]
يسألن عن غور وأين الغور والغور منهنّ بعيد جور ومن قال: حسنا جعله صفة، وكان التقدير عنده: وقولوا للنّاس قولا حسنا. فحذف الموصوف وحسن ذلك في حسن لأنها ضارعت الصفات التي تقوم مقام الأسماء.
نحو الأبرق، والأبطح، وعبد، ألا تراهم يقولون: هذا حسن، ومررت بحسن، ولا يكادون يذكرون معه الموصوف.
ومثل ذلك في حذف الموصوف قوله: قال ومن كفر فأمتّعه قليلًا [البقرة/ 126] أي متاعا قليلا. يدلك على ذلك قوله:
قل متاع الدّنيا قليلٌ [النساء/ 77] وقوله: لا يغرّنّك تقلّب الّذين كفروا في البلاد. متاعٌ قليلٌ [آل عمران/ 197] فحسن هذا وإن كان قد جرى على الموصوف في قوله: إنّ هؤلاء لشرذمةٌ قليلون [الشعراء/ 54] فكذلك يحسن في قوله:
وقولوا للنّاس حسناً. فأمّا قوله: ثمّ بدّل حسناً بعد سوءٍ [النمل/ 11] فينبغي أن يكون اسما، لأنه قد عودل به ما لا يكون إلا اسما وهو «السّوء».
وأمّا قوله: وإمّا أن تتّخذ فيهم حسناً [الكهف/ 86] فيمكن أن يكون أمرا ذا حسن، ويمكن أن يكون الحسن مثل الحلو.
وأما قراءة الكوفيين في الأحقاف إحساناً وهو قوله: ووصّينا الإنسان بوالديه إحساناً [الآية/ 15] فيدل عليه قوله: وبالوالدين إحساناً [البقرة/ 83] والتقدير:
[الحجة للقراء السبعة: 2/128]
وأحسنوا بالوالدين إحسانا. كأنّه لما قال: أخذنا ميثاقهم قال:
وقلنا لهم أحسنوا بالوالدين إحسانا، كما قال: وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطّور، خذوا ما آتيناكم بقوّةٍ [البقرة/ 63] فالجارّ متعلق بالفعل المضمر، ولا يجوز أن يتعلّق بالمصدر، لأن ما يتعلّق بالمصدر لا يتقدّم عليه، وأحسن: يصل بالباء كما يصل بإلى، يدلّك على ذلك قوله:
وقد أحسن بي إذ أخرجني من السّجن [يوسف/ 100] كما تعدّى بإلى في قوله: وأحسن كما أحسن اللّه إليك [القصص/ 77] والتقدير أنه لمّا قال: ووصّينا الإنسان، فكان هذا الكلام قولا صار كأنّه قال: وقلنا أحسن أيّها الإنسان بالوالدين إحسانا. وممّا يؤكّد ذلك ويحسّنه قوله في الأخرى:
واعبدوا اللّه ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً...
[النساء/ 36].
ووجه من قرأ في الأحقاف: بوالديه حسناً [الآية/ 15] أن يكون أراد بالحسن الإحسان، فحذف المصدر وردّه إلى الأصل كما قال الشاعر:
فإن يبرأ فلم أنفث عليه... وإن يهلك فذلك كان قدري
أي: تقديري.
[الحجة للقراء السبعة: 2/129]
ويجوز أن يكون وضع الاسم موضع المصدر كما قال:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا والباء في هذين الوجهين متعلق بالفعل المضمر كما تعلّقت به في قول الكوفيين في قراءتهم إحسانا، ويدلّك على ذلك قولهم: عمرك الله. فنصب المصدر محذوفا كما ينصبه غير محذوف.
ويجوز أن تكون الباء متعلقة ب وصّينا ويكون حسناً محمولا على فعل كأنه «وصيناه» فقلنا: اتّخذ فيهم حسنا، واصطنع حسنا. كما قال: وإمّا أن تتّخذ فيهم حسناً [الكهف/ 86] وحكى أبو الحسن: حسنى ولا أدري أهي قراءة أم لغة غير قراءة. إلا أنّه يحتمل ضربين: أحدهما: أن تكون فعلى الأفعل، إلا أنّه استعمل استعمال الأسماء، فأخرج منها لام المعرفة حيث صارت بمنزلة الأسماء نحو قوله:
في سعي دنيا طال ما قد مدّت والآخر: أن يكون بمنزلة: الرّجعى والشّورى والبشرى). [الحجة للقراء السبعة: 2/130]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلّا الله وبالوالدين إحسانا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للنّاس حسنا}
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائيّ {وما يعبدون إلّا الله} بالياء
وقرأ الباقون بالتّاء وحجتهم قوله {وقولوا للنّاس حسنا وأقيموا الصّلاة} {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم} فحكى ما خاطبهم به فجرى الكلام على لفظ المواجهة
واحتج من قرأ بالياء أن قال أول الآية إخبار عن غيب يعنون
[حجة القراءات: 102]
بذلك قوله {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل} قالوا فإجراء الكلام على ما ابتدئ به أول الآية وافتتح به الكلام أولى وأشبه من الإنصراف عنه إلى الخطاب
قرأ حمزة والكسائيّ {وقولوا للنّاس حسنا} بفتح الحاء والسّين وحجتهم أن حسنا وصف للقول الّذي كف عن ذكره لدلالة وصفه عليه كأن تأويله وقولوا للنّاس قولا حسنا فترك القول واقتصر على نعته وقد نزل القرآن بنظير ذلك فقال جلّ وعز وجعل فيها رواسي ولم يذكر الجبال وقال {أن اعمل سابغات} ولم يذكر الدروع إذ دلّ وصفها على موصوفها
وقرأ الباقون حسنا بضم الحاء وحجتهم أن الحسن يجمع والحسن يتبعّض أي قولا للنّاس الحسن في الأشياء كلها فما يجمع أولى ممّا يتبعّض قال الزّجاج وفي قوله {حسنا} قولان المعنى قولا للنّاس قولا ذا حسن وزعم الأخفش أنه يجوز أن يكون حسنا في معنى حسن كما قيل البخل والبخل والسقم والسقم وفي التّنزيل {إلّا من ظلم ثمّ بدل حسنا} {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} ). [حجة القراءات: 103]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (44- قوله: {لا تعبدون إلا الله} قرأه ابن كثير وحمزة والكسائي بالياء، وردوه إلى لفظ الغيبة الذي قبله، في قوله: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون}، وقرأه الباقون بالتاء حملوه على الخطاب، وعلى ما بعده من الخطاب في قوله: {ثم توليتم}، وقوله: {وأنتم معرضون}، وقوله: {ومن يفعل ذلك منكم} «85» ووقوع الأمر بعده يدل على قوة الخطاب، وذلك قوله: {وقولوا للناس حسنًا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} فجرى صدر الكلام في ذلك على حكم آخره، وأيضًا فإن نظائر هذا المعنى أتى على لفظ المخاطبة في
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/249]
القرآن، قال الله جل ذكره: {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم} «آل عمران 81»، وقال: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} «آل عمران 187» والقراءة بالتاء أحب إلي لما ذكرنا، وقد ذكرنا وجه رفع هذا الفعل في كتاب «مشكل الإعراب»). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/250]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (45- قوله: {حُسنا} قرأه حمزة والكسائي بفتح الحاء والسين، جعلاه صفة لمصدر محذوف تقديره: وقولوا للناس قولًا حسنًا، وقرأه الباقون بضم الحاء وإسكان السين على أنها لغة في «الحسن»، يقال: الحُسن والحَسن، والبُخل والبَخل، والرُشد والرَشد، فهو كالأول، وتقديره: وقولوا للناس قولًا حسنًا، ويجوز أن يكون «الحسن» مصدرًا كالكفر والشكر، فيلزم تقدير حذف مضاف، تقديره: وقولوا للناس قولًا ذا حسن، ويؤول في المعنى إلى حسن). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/250]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (28- {لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا الله} [آية/ 83]:-
بالتاء، قرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو وعاصم ويعقوب.
ووجه ذلك أن أخذ أن أخذ الميثاق لما يتضمنه من معنى القول يحسن بعده وقوع الخطاب كالأمر، تقول: أخذت على فلانٍ العهد لا يضرب زيدًا ولا تضرب زيدًا، وأمرته لا يشرب الخمر ولا تشرب الخمر، وأكد حسن الخطاب في هذا الموضع قوله في آخر الآية {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} على الخطاب، وهو معطوف على الأول فوجب كون الأول أيضًا خطابًا.
[الموضح: 285]
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {لا يَعْبُدُونَ} بالياء.
لأن مبنى الكلام على الغيبة، وهو قوله {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}، وقد جاء على الغيبة ما وقع بعد القول في نحو قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} فلأن يجيء سواه على الغيبة أولى). [الموضح: 286]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (29- {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [آية/ 83]:-
بفتح (الحاء) والسين، قرأها حمزة والكسائي ويعقوب.
ووجه ذلك أنه صفة حذف موصوفها، وتقدير الكلام: قولوا للناس قولاً حسنًا فحذف الموصوف، وهذه الصفة أعني {حَسَنًا} يكثر حذف موصوفها نحو قولهم: هذا حسن ومررت بحسن ورأيت حسنًا، وقلما يذكر معه الموصوف.
وقرأ الباقون {حُسْنًا} بضم الحاء وإسكان السين.
وفي علته وجهان:
أحدهما: أن الحسن مصدر كالشكر والكفر، فيكون على حذف المضاف، والتقدير: قولوا للناس قولاً ذا حسن، أو يكون على أن القول جعل الحسن نفسه على الاتساع، كما قالت الخنساء:
10- فإنما هي إقبال وإدبار
[الموضح: 286]
جعلها إقبالاً وإدبارًا لكثرة وقوعهما منها.
والثاني: أن الحسن صفة كالحسن، وذلك نحو: الحلو والمر، وقد جاء الحسن والحسن بمعنى، كقولك عرب وعرب، وكثيرًا ما يقع ف عل وفعل بمعنى واحد كالبخل والبخل والرشد والرشد). [الموضح: 287]
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)}
قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (تظاهرون عليهم)
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب: (تظّاهرون) مشددة، وقرأ الكوفيون: (تظاهرون) بتخفيف الظاء.
من قرأ (تظّاهرون) بالتشديد فالأصل فيه تتظاهرون، فأدغمت التاء في الظاء لقرب المخرجين، وشددت الظاء، ومن قرأ بالتخفيف فالأصل فيه (تتظاهرون) بتاءين أيضًا، فحذفت التاء الثانية لاجتماعهما.
وتفسير تظاهرون: تتعاونون، يقال: ظاهر فلان فلانا: إذا عاونه.
وقال الله تعالى: (وإن تظاهرا عليه) معناه: وإن تعاونا.
والظهير: المعين، وقال الله تعالى: (وكان الكافر على ربه ظهير)، أي: معينا.
[معاني القراءات وعللها: 1/162]
قوله جلّ وعزّ: (أسارى تفادوهم)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (أسارى) بألف "تفدوهم، بغير ألف. وقرأ نافع وعاصم والكسائي ويعقوب (أسارى تفادوهم)، بألفين فيهما. وقرأ حمزة "أسرى تقدوهم" بغير ألف فيهما.
ولم يقرأ أحد (أسارى) بفتح الألف.
فمن قرأ (أسارى) جمع الأسير على أسارى، على (فعالى).
ومن قرأ (أسرى) جمعه على (فعلى).
وقال نصير الرازي: أسارى جمع أسرى، والأصل: أسارى، فضمت الألف، كما قالوا: سكارى وسكارى، وكسالى وكسالى.
قال: ومثل أسير وأسرى: قتيل وقتلى، وجريح وجرحى.
وأما قوله: (تفدوهم) و(تفادوهم) فمن قرأ (تفادوهم) فإن العرب تقول: فاديت الأسير، وكان أخي أسيراً ففاديته بأسير
وقال نصيب:
ولكنّني فاديت أمّي بعدما... علا الرأس كبرةٌ ومشيب
بعبدين مرضيّين لم يك فيهما... لئن عرضا للناظرين معيب
ومن قرأ (تفدوهم) فهو على وجهين:
أحدهما: تفدوهم بالمال، كقوله: (وفديناه بذبحٍ عظيمٍ).
والوجه الثاني: أن يكون معنى فديته: خلصته مما
[معاني القراءات وعللها: 1/163]
كان فيه.
وقال أبو معاذ النحوي: من قرأ (تفدوهم) فمعناه: تشترونهم من العدو وتنقذونهم، ومن قرأ (تفادوهم) فمعناه تماكسون من هم في أيديهم بالثمن ويماكسونكم). [معاني القراءات وعللها: 1/164]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تشديد الظّاء وتخفيفها من قوله تعالى: تظاهرون عليهم [البقرة/ 85]. فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر تظاهرون عليهم مشددة الظاء بألف،
[الحجة للقراء السبعة: 2/130]
وكذلك في سورة الأحزاب والتحريم.
وروى عليّ بن نصر عن أبي عمرو تظاهرون بفتح التاء والظاء خفيفة.
[وقرأ عاصم وحمزة والكسائيّ تظاهرون خفيفا].
وفي التحريم تظاهرا عليه [الآية/ 4] خفيفة أيضا. وفارقهما عاصم في التي في سورة الأحزاب فقرأ: تظاهرون منهنّ [الآية/ 4] بضم التاء مع التخفيف.
وقرأ حمزة والكسائيّ تظاهرون بفتح التاء مع التخفيف مثل سورة البقرة.
قال أبو علي: تظّاهرون: تعاونون. وإن تظّاهرا عليه:
إن تتعاونا عليه.
وقال الأصمعي: اتخذ معك بعيرا، أو بعيرين ظهريّين.
يقول: عدّة وقال: والملائكة بعد ذلك ظهيرٌ [التحريم/ 4] أي معين، فالتقدير فيه الجمع، واللفظ على الإفراد من التنزيل: وحسن أولئك رفيقاً [النساء/ 69].
وقال رؤبة:
دعها فما النّحويّ من صديقها
[الحجة للقراء السبعة: 2/131]
أي: من أصدقائها. وقال: قالوا ساحران تظاهرا [القصص/ 48] أي: تعاونا على سحرهما، وسحران تظاهرا [القصص/ 48] أي: تعاون أصحابهما، لأنه إنما يتعاون السّاحران لا السّحران.
وأما قوله: وكان الكافر على ربّه ظهيراً [الفرقان/ 55]. فإنه يحتمل تأويلين:
أحدهما: وكان الكافر على أولياء ربه معينا. أي يعادونهم ولا يوالونهم. كما قال: تعرف في وجوه الّذين كفروا المنكر يكادون يسطون بالّذين يتلون عليهم آياتنا [الحج/ 72] وقال: وإن يكاد الّذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لمّا سمعوا الذّكر [القلم/ 51].
والآخر: أن يكون هينا عليه لا وزن له ولا منزلة.
وكأنه من قولهم: ظهرت بحاجتي: إذا لم تعن بها قال الشاعر:
تميم بن مرّ لا تكوننّ حاجتي... بظهر ولا يعيا عليّ جوابها
المعنى: لا يعيا عليّ جواب ردّها، فحذف المضاف.
[الحجة للقراء السبعة: 2/132]
ويمكن أن يكون من هذا قوله:
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها أي: تلك شكاة هي عنك بظهر فلا يعبأ بها.
والكافر في قوله: وكان الكافر على ربّه ظهيراً [الفرقان/ 55] كقولهم: كثر الشاه والبعير، في أنه يراد به الكثرة، وقد جاء ذلك في اسم الفاعل، كما جاء في سائر أسماء الأجناس. أنشد أبو زيد:
إن تبخلي يا جمل أو تعتلّي... أو تصبحي في الظاعن المولّي
وقال: فأيّدنا الّذين آمنوا على عدوّهم فأصبحوا ظاهرين [الصف/ 14] أي غالبين لهم. قاهرين. ومنه ظهر المسلمون على دور الحرب.
فأما قول الشاعر:
مظاهرة نيّا عتيقا وعوططا... فقد أحكما خلقا لها متباينا
[الحجة للقراء السبعة: 2/133]
فمن قولهم: ظاهر بين درعين. إذا لبس إحداهما فوق الأخرى. وكذلك مظاهرة نيّا. أي: كأنّها قد لبست الجديد على العتيق، وقال:
هل هاجك الليل كليل على... أسماء من ذي صبر مخيل
ظاهر نجدا فترامى به... منه توالي ليلة مطفل
ظاهر نجدا، أي: علا نجدا، وتوالي السحاب: أواخره، ومطفل، أي: مطر لنتاج ليلته، أي: نشأ الغيم فيها ومطر.
فقراءة الفريقين من ابن كثير ونافع وأبي عمرو وابن عامر، ومن عاصم وحمزة والكسائي، في البقرة وفي التحريم في المعنى سواء. ألا ترى أن الكلمة: تتفاعلون في المعنى، فأما في اللفظ، فمن قال: تظاهرون أدغم التاء في الظاء لمقاربتها لها، ومن قال: تظاهرون حذف التاء التي أدغمها الآخرون من اللفظ فكلّ واحد من الفريقين كره اجتماع الأمثال والمقاربة. فمن قال: تظاهرون خفّف بالإدغام. ومن قال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/134]
تظاهرون خفّف بالحذف. فالتاء التي أدغمها ابن كثير، ومن قرأ كقراءته، حذفها عاصم وصاحباه، والدليل على أنها هي المحذوفة: أنها كما اعتلّت بالإدغام اعتلّت بالحذف. قال سيبويه: الثانية أولى بالحذف لأنها هي التي تسكن وتدغم في نحو: فادّارأتم [البقرة/ 72]، وازّيّنت [يونس/ 24] وممّا يقوّي ذلك أن الأولى لمعنى، فإذا حذفت لم يبق شيء يدلّ على المعنى. والثانية من جملة كلمة إذا حذفت دلّ ما بقي من الكلمة عليها.
وتفاعل مطاوع فاعل، كما أنّ تفعّل مطاوع فعّل. فتفاعل نحو: تضارب، وتمادى. وفعّل نحو: قطّعته فتقطّع، وملّأته فتملّأ.
وقد جاء (ظاهر) متعديا. قال: وأنزل الّذين ظاهروهم [الأحزاب/ 26] والتي في البقرة والتحريم في المعنى واحد، وإنّما هما من المعاونة. فأما التي في الأحزاب فليس من المعاونة لكنّها من الظّهار.
قال أبو الحسن: قالوا: ظاهر من امرأته. ومعنى الظّهار أن يقول لامرأته: أنت عليّ كظهر أمّي. أو يشبهها بعضو منها غير الظّهر مما يحرم على الرجل من أمّه.
وخالف عاصم الفريقين في ما معناه الظّهار. فقرأ الذي معناه: الظّهار على فاعل. وزعموا أنه قراءة الحسن، وكذلك قرأ هذا المعنى في المجادلة على فاعل فقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/135]
الّذين يظاهرون بضم الياء وبالألف.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو في المجادلة: الذين يظهرون [الآية/ 2] بغير ألف.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: يظاهرون بفتح الياء بألف مشدّدة الظّاء.
فمن قرأ يظهرون جعله مطاوع ظهّر.
ومن قال يظاهرون جعله مطاوع ظاهر.
فإن قلت: فإن (ظهّر) لم يتعدّ، فكيف يكون له مطاوع؟. فإنّه قد يجيء على لفظ المطاوع ما لا يكون منه فعل متعد نحو: انطلق وفعّل وفاعل قد يستعملان بمعنى كقولهم:
ضاعف وضعّف. فكذلك ظاهر وظهّر.
فأمّا من ذهب من المتأخّرين إلى أنّ الظهار لا يقع في أول مرّة حتى يعيد لفظ الظّهار مرة أخرى، فيقول: «أنت عليّ كظهر أمّي»، لأن ذلك عنده هو الظاهر لقوله: والّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا فتحرير رقبةٍ [المجادلة/ 3] فليس في ذلك ظاهر كما ادّعاه، وذلك أنّ قوله: يعودون العود على ضربين: أحدهما: أن يصير إلى شيء قد كان عليه قبل- فتركه ثم صار إليه، والآخر: أن يصير إلى شيء وإن لم يكن على ذلك قبل. وكأن هذا الوجه غمض على هذا القائل. وهذا عند من خوطب بالقرآن مثل الوجه
[الحجة للقراء السبعة: 2/136]
الأول في الظّهور، وفي أنّهم يعرفونه كما يعرفون ذاك. فمن ذلك ما أنشده أبو عثمان أو الرّياشيّ:
إذا التّسعون أقصدني سراها... وسارت في المفاصل والعظام
وصرت كأنني أقتاد عيرا... وعاد الرأس مني كالثّغام
ومنه قول الهذلي:
وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل... سوى الحقّ شيئا واستراح العواذل
المعنى: وصار لون الرأس كلون الثّغام، ولم يكن ثمّ لون ثغام عاد إليه. وإنما المعنى صار لون الرأس كلون الثّغام. فكذلك قوله: ثمّ يعودون لما قالوا [المجادلة/ 3] أي: يصيرون إليه، ومن ذلك قول العجّاج:
[الحجة للقراء السبعة: 2/137]
وقصب حنّي حتى كادا يعود بعد أعظم أعوادا وسمّيت الآخرة المعاد، ولم يكن فيها ثمّ صار إليها.
فالمعاد كقوله: وإليك المصير [البقرة/ 285] في المعنى.
وقال ساعدة أو غيره:
فقام ترعد كفّاه بمحجنه... قد عاد رهبا رذيّا طائش العدم
وقال امرؤ القيس:
وماء كلون البول قد عاد آجنا... قليل بها الأصوات ذي كلأ مخلي
وقال آخر:
فإن تكن الأيام أحسنّ مرّة... إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
وهذا إذا تتبّع وجد كثيرا. وفي بعض ما ذكر منه كفاية تدلّ على غلط من ذهب إلى: أنّ العود لا يكون إلا أن يفارق
[الحجة للقراء السبعة: 2/138]
شيئا كان عليه ثم يصير إليه بعد.
وقد قيل في الآية قولان: يجوز أن يكون في كلّ واحد منهما على غير ما قاله هذا القائل.
قال أبو الحسن: تقديرها: والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا ثم يعودون إلى نسائهم. وقال عبيد الله بن الحسين. تأويلها: الّذين يظاهرون من نسائهم ثمّ يعودون لما قالوا المعنى: ثم يعودون إلى المقول فيه. والمقول فيه هو النساء. فتحرير رقبةٍ أي: فتحرير رقبة لكفّارة التحريم الواقع من الزوج.
فتقدير قول أبي الحسن الأخفش: والذين يظّاهرون من نسائهم فعليهم تحرير رقبة لما قالوا أي: لما نطقوا به من لفظ التحريم الموجب الامتناع من الوطء إلّا بعد التكفير، فيكون قوله: لما قالوا الجارّ فيه متعلق بالمحذوف الذي هو خبر المبتدأ- والجارّ قد يتعلق بالمعنى. وإن تقدم عليه لكونه بذلك مثل الظرف في نحو: أكلّ يوم لك ثوب. ومعنى: يعودون إلى نسائهم، أي: إلى وطئهنّ الذي كانوا حرّموه على أنفسهم بالظّهار منهنّ.
فأمّا التقديم والتأخير الذي قدّره في الآية فهو كثير جدا.
فمثل الآية قوله: اذهب بكتابي هذا، فألقه إليهم ثمّ تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون [النمل/ 28]
[الحجة للقراء السبعة: 2/139]
فالمعنى: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم، فانظر ماذا يرجعون، ثم تولّ عنهم فكما قدم قوله: ثمّ تولّ عنهم والتقدير به التأخير، كذلك في آية الظّهار، التقدير بثمّ وما تعلّق به التأخير.
وقال أبو الحسن عبيد الله بن الحسين: التأويل: والذين يظّاهرون ثمّ يعودون [لما قالوا] أي: يعودون إلى المقول فيه، والمقول فيه: هو القول. فما قالوا والمقالة والقول بمعنى، والمراد بقوله: لما قالوا هو المقول فيه. كما أنّ قولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير، يراد به مضروبه. وهذا الثوب نسج اليمن. يراد به منسوج اليمن. وهذا النحو كثير في كلامهم، كأنّهم وصفوا المفعول في هذا النحو بالمصدر كما وصفوا الفاعل به في قولهم: «رجل عدل» يراد به عادل. وماء غور أي غائر، فسوّوا بين الفاعل والمفعول في هذا كما سوّوا بينهما في إضافة المصدر إليهما. وفي بناء الفعل لكل واحد منهما.
ومما جاء فيه- المقالة يراد به القول قول كثير:
وإنّ ابن ليلى فاه لي بمقالة... ولو سرت فيها كنت ممّن ينيلها
فالمقالة هنا يراد بها: المقول فيه. ألا ترى أنّ المعنى ولو سرت في طلبها، كنت ممن ينيله إيّاها. فإنما يسأل ويطلب
[الحجة للقراء السبعة: 2/140]
ما تعد به الملوك من صلاتها وجوائزها لا ما تلفظ به. وكان أبو الحسن يقول: إنّ ذلك بمنزلة قوله: «العائد في هبته كالعائد في قيئه» أي: العائد في موهوبه. قال: ألا ترى أن العود لا يكون إلى الهبة التي هي نطق بلفظ يوجب التمليك مع القبض. فإذا لم يجز ذلك، كان المراد الموهوب.
قال: ومن ثمّ لم يوجب أبو حنيفة الكفّارة على من حلف بعلم الله ثم حنث، لأن العلم صار في تعارف الناس:
المعلوم، ألا تراهم يقولون: غفر الله لك علمه فيك، وإنما يراد معلومه. فكذلك قوله: لما قالوا يراد به المقول فيه. ومن ذلك قوله: وهو الّذي يبدؤا الخلق ثمّ يعيده
[الروم/ 27] والخلق هنا المخلوق، فهذا في المعنى كقوله: كما بدأكم تعودون [الأعراف/ 29] ألا ترى أن الذي يعاد هو الأجسام المنشرة.
فاللّام في قوله: ثمّ يعودون لما قالوا [المجادلة/ 3] على قول أبي الحسن عبيد الله بن الحسين بمعنى إلى. وإلى واللام يتعاقبان في هذا النحو. ويقع كلّ واحد منها موقع الآخر. قال: الحمد للّه الّذي هدانا لهذا [الأعراف/ 43] وقال فاهدوهم إلى صراط الجحيم [الصافات/ 23] وقال:
قل اللّه يهدي للحقّ، أفمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع
[الحجة للقراء السبعة: 2/141]
[يونس/ 35] فوصل الفعل مرة باللام ومرة بإلى كما قال:
بأنّ ربّك أوحى لها [الزلزلة/ 5] وقال: وأوحي إلى نوحٍ [هود/ 26].
فأمّا قوله: يعودون في الآية، فهو في القولين يجوز على كلّ واحد من المذهبين اللّذين ذكرناهما في العود، من أنّه يكون للحال التي يكون عليها الشيء، ثم ينتقل عنها، ثم يصير إليها.
ويكون للمصير إلى الشيء، وإن لم يكن فيه قبا.
فقول أبي الحسن الأخفش تقديره: فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوه من لفظ الظهار الموجب للتحريم، ثم يعودون إلى نسائهم على ما كانوا عليه من قبل من وطئهنّ، ويجوز أن يكون: فتحرير رقبة لما قالوا، ثمّ يصيرون إلى استباحة وطئهنّ الذي كان قد حرم عليهم. وكذلك قول أبي الحسن: أي يصيرون إلى الحالة التي كانوا عليها من فعل الوطء. كما كانوا من قبل أن يحدثوا التحريم بالظّهار.
ويجوز أن يكون المعنى: ثمّ يصيرون إلى استباحة الوطء برفع الكفّارة التحريم الحادث ويخرجون عنه.
فإذا أمكن في الآية كلّ واحد من التأويلين اللذين تحتملهما الكلمة، لم يجز أن يدّعى: أنّ أحدهما هو الظاهر دون الآخر.
[الحجة للقراء السبعة: 2/142]
اختلفوا في: أسارى تفدوهم [البقرة/ 85] في إثبات الألف في الحرفين وإسقاطها وفي فتح الراء وإمالتها.
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر: أسارى تفدوهم.
وقرأ نافع وعاصم والكسائيّ: أسارى تفادوهم بألف فيهما.
وقرأ حمزة: أسرى تفدوهم بغير ألف فيهما. وكان أبو عمرو وحمزة والكسائيّ يكسرون الراء، وكان ابن كثير وعاصم يفتحان الراء. وكان نافع يقرأ بين الفتح والكسر.
قال أبو علي: أسير، فعيل، بمعنى مفعول. ألا ترى أنّك تقول: أسرته، كما تقول: قتلته، وفعيل إذا كان بمعنى مفعول، لم يجمع بالواو والنون كما لم يجمع فعول بهما، ولكن يكسّر على فعلى، نحو لديغ ولدغى. وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، وعقير وعقرى. فإذا كان كذلك، فالأقيس:
الأسرى وهو أقيس من أسارى، كما كان أقيس من قولهم:
أسراء، ألا ترى أنّهم قد قالوا: أسراء، فشبّهوه بظرفاء، كما قالوا في جمع قتيل: قتلاء، فكما أن أسراء وقتلا في جمع قتيل، وأسير، ليس بالقياس، كذلك أسارى ليس بالقياس.
ووجه قول من قال: أسارى أنّه شبّهه بكسالى، وذلك أن الأسير لما كان محبوسا عن كثير من تصرّفه للأسر، كما أن الكسلان محتبس عن ذلك لعادته السيّئة شبّه به، فقيل في جمعه:
أسارى كما قيل: كسالى، وأجري عليه هذا الجمع للحمل
[الحجة للقراء السبعة: 2/143]
على المعنى، كما قيل: مرضى وموتى وهلكى ووجيا. لما كانوا مبتلين بهذه الأشياء ومدخلين فيها مكرهين عليها مصابين بها، فأشبه في المعنى فعيلا الذي بمعنى مفعول. فلما أشبهه في المعنى أجري عليه في الجمع اللفظ الذي لفعيل بمعنى مفعول، كما قالوا: امرأة حميدة فألحقوها الهاء، وإن كان بمعنى مفعول لمّا كان بمعنى رشيدة ورشيد- فهذه الأشياء مما تحمل على المعنى. وإن لم يكن حملها على المعنى الأصل. عند سيبويه، قال: ولو كان أصلا قبح: هالكون وزمنون، وكذلك أسارى ليس بالأصل في هذا الباب، ولكنه قد استعمل كثيرا في هذا النحو، وإن لم يكن مستمرا كاستمرار فعلى في جمع فعيل الذي بمعنى مفعول. قال سيبويه: وقالوا كسلى، فشبّهوه بأسرى، كما قالوا: أسارى، فشبّهوه بكسالى.
فهذا يعلم منه أنّ الأصل في فعيل الذي يراد به مفعول أن يجمع على فعلى، وأنّ فعلان نحو: سكران، وكسلان، يجمع على فعالى أو فعالى. وقالوا: كسالى. وكسالى، فكأنّهم جمعوه على فعالى، وإن كانت من أبنية الآحاد نحو: حبارى ورخامى، لما كان فعال قد جاء في بعض أبنية الجموع نحو:
رخال وظؤار وثناء، وقد لحقته تاء التأنيث فقالوا في جمع نقوة نقاوة، كما قالوا: الحجارة والذّكارة، فكما لحق التاء في هذا النحو الّذي يراد به الجمع، كذلك لحق علامة التأنيث في
[الحجة للقراء السبعة: 2/144]
سكارى وكسالى. فجعلت الألف بمنزلة التاء. كما جعلت بمنزلتها في نحو قولهم: قاصعاء وقواصع، ودامّاء ودوامّ فصار بمنزلة: حاوية وحوايا، وجابية وجوابي، كما صارت، الدّني والقصا بمنزلة الظّلم والثّقب، وقلّ مغالى في الجمع كما قلّ فعالة فيه.
الرّبيع عن أبي العالية في قوله: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم الآية [البقرة/ 85] قال: كان بنو إسرائيل إذا استضعف قوم قوما أخرجوهم من ديارهم وقد أخذ عليهم الميثاق. أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق إن أسر بعضهم بعضا أن يفادوهم، فأخرجوهم من ديارهم ثم فادوهم. فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض: آمنوا بالفداء ففدوا، وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوهم. ومرّ عبد الله بن سلّام على رأس الجالوت بالكوفة، وهو يفادي من النساء من لم تقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليها العرب فقال ابن سلام:
أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهنّ كلّهنّ.
قتادة: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعضٍ [البقرة/ 85] كان إخراجهم كفرا، وفداؤهم إيمانا.
غيره: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم الآية [البقرة/ 85] كانت قريظة والنضير
[الحجة للقراء السبعة: 2/145]
أخوين، وكانوا من اليهود، وكان الكتاب بأيديهم، وكان الأوس والخزرج أخوين، فافترقا وافترقت قريظة والنّضير، فكانت النّضير مع الخزرج، وكانت قريظة. مع الأوس فاقتتلوا، وكان بعضهم يقتل بعضا. قال الله: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم [البقرة/ 85] قال أبو علي: ثمّ أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم: أي:
يقتل بعضكم بعضا. كقوله: فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم [النور/ 61] أي ليسلّم [بعضكم على بعض].
فديت: فعل يتعدّى إلى مفعولين، ويتعدّى إلى الثاني بالجارّ كقوله: وفديناه بذبحٍ عظيمٍ [الصافات/ 107] وكقوله:
يودّون لو يفدونني بنفوسهم... ومثنى الأواقي والقيان النواهد
فإذا ثقّلت العين زدت على المفعولين ثالثا، كقوله:
لو يستطعن إذا نابتك مجحفة... فدّينك الموت بالأبناء والولد
وقالوا: فادى الأسير: إذا أطلقه وأخذ عنه شيئا.
قال الأعشى:
عند ذي تاج إذا قيل له... فاد بالمال تراخى ومزح
[الحجة للقراء السبعة: 2/146]
المفعول الأول محذوف. التقدير: فاد الأسرى بالمال.
ومما يؤكّد فاعل في هذا الباب ويثبته أنّه، قد جاء تفادى، وتفاعل إنما هو مطاوع فاعل، كما أن تفعّل مطاوع فعّل. قال:
تفادى إذا استذكى عليها وتتّقي... كما يتّقي الفحل المخاض الجوامز
فأمّا الفداء: فيجوز أن يكون مثل الكتاب، ويجوز أن يكون مصدر فاعل، وقد قالوا: فديته، وافتديته، وأنشد أبو زيد:
ولو أنّ ميتا يفتدى لفديته... بما اقتال من حكم عليّ طبيب
فافتدى يجوز أن يكون بمعنى تفاعل، مثل: ازدوجوا وتزاوجوا، واعتونوا وتعاونوا، ودلّ على ذلك تصحيح العين في افتعلوا، ويجوز أن يكون: فدى وافتدى، مثل: حفر واحتفر، وقلع واقتلع، والأخلق في البيت أن يكون بمنزلة فعلت، على تقدير: ولو أنّ ميتا يفدى لفديته. فمن قرأ: تفادوهم فلأنّ من كلّ واحد من الفريقين فعلا، فمن الآسر دفع الأسير، ومن
[الحجة للقراء السبعة: 2/147]
المأسور منهم دفع لفدائه، فإذا كان كذلك فوجه. تفادوهم ظاهر.
والمفعول الثاني الذي يصل إليه الفعل بالحرف محذوف، كما كان المفعول الأوّل الذي يصل إليه الفعل بلا حرف محذوفا في قوله: فاد بالمال.
ومن قرأ تفدوهم فالمعنى فيه مثل معنى من قرأ:
تفادوهم إلا أنّه جاء بالفعل على يفعل، ألا ترى أنّ في هذا الوجه أيضا دفعا من كلّ واحد من الآسرين والمأسور منهم على وجه الفدية للأسير، والاستنقاذ له من الأسر.
فأمّا الإمالة في الرّاء من أسارى، والتفخيم، فكلاهما حسن، فالإمالة لأن هذه الألف إذا كانت الكلمة على هذه العدّة، لم تكن الألف إلا مثل الألف المنقلبة عن الياء). [الحجة للقراء السبعة: 2/148]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم
[حجة القراءات: 103]
إلّا خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون} 85
- قرأ عاصم وحمزة والكسائيّ {تظاهرون عليهم} بالتّخفيف وقرأ الباقون {تظاهرون} بالتّشديد الأصل فيه تتظاهرون فمن قرأ بالتّشديد أدغم التّاء في الظّاء لقرب المخرجين وأتى بالكلمة على أصلها من غير حذف ومن قرأ {تظاهرون} بالتّخفيف والأصل أيضا فيه تتظاهرون حرف التّاء الثّانية لاجتماع تاءين إحداهما تاء الاستقبال والثّانية تاء تزاد في الفعل فأسقط الثّانية وحجته قوله {ولقد كنتم تمنون الموت} فطرح الثّانية منها
قرأ حمزة {وإن يأتوكم أسارى} بغير ألف جمع أسير وحجته أن كل فعيل من نعوت ذوي العاهات إذا جمع فإنّما يجمع على فعلى وذلك كجمعهم المريض مرضى والجريح جرحى والقتيل قتلى والصريع صرعى وكذلك اسير وأسرى لأنّه قد ناله المكروه والأذى
وقرأ الباقون {أسارى} قال بعض علمائنا هما لغتان كما يقال سكران وسكارى وقال أبو عمرو إذا أخذوا فهم عند الأخذ أسارى وما لم يؤسر بعد منهم أسرى كقوله {ما كان لنبيّ أن يكون له أسرى}
قرأ نافع وعاصم والكسائيّ {تفادوهم} بالألف وحجتهم
[حجة القراءات: 104]
أن هذا فعل من فريقين أي يفدي هؤلاء أساراهم من هؤلاء وهؤلاء أساراهم من هؤلاء وكان أبو عمرو يقول تعطوهم ويعطوكم وتفدوهم تعطوهم فقط
وقرأ الباقون (تفدوهم) أي تشتروهم من العدو وحجتهم في ذلك أن في دين اليهود ألا يكون أسير من أهل ملتهم في إسار غيرهم وأن عليهم أن يفدوهم بكل حال وإن لم يفدهم القوم الآخرون كا قال ابن عبّاس
قرأ نافع وابن كثير وأبو بكر {وما الله بغافل عمّا يعملون} بالياء وحجتهم قوله {ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب} فيكون قوله {عمّا يعملون} إخبارًا عنهم
وقرأ الباقون {عمّا تعملون} بالتّاء وحجتهم قوله {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} ). [حجة القراءات: 105]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (46- قوله: {تظاهرون} قرأه الكوفيون مخففًا، ومثله في التحريم: {وإن تظاهرا عليه} «التحريم 4»، وشددهما الباقون.
47- وعلة ذلك لمن خفف أن الأصل «تتظاهرون» بتاءين، فاستثقل التكرير في فعل، والفعل ثقيل في الجمع، والجمع ثقيل، فحذف إحدى التاءين استخفافًا، وكأنه استثقل الإدغام، لأن الحرف باق بدله مع الإدغام، والمحذوف هي التاء الثانية عند سيبويه، لأن بها يقع التكرير والاستثقال؛ لأن التاء الأولى تدل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/250]
على الاستثقال، ولو حذفت لذهبت الدلالة، والتاء الأولى هي المحذوفة عند الكوفيين لزيادتها.
48- وعلة من شدد أنه كره الحذف، فأدغم التاء الثانية في الظاء، فزال لفظ التكرير، وحسن الإدغام؛ لأنك تبدل من التاء في الإدغام حرفًا أقوى من التاء، وهو الظاء). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/251]
85
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (49- قوله: {أسارى تفادوهم} قرأ حمزة «أسرى» على وزن «فعلى» وقرأ الباقون «أسارى» على وزن «فعالى» وقرأ نافع وعاصم والكسائي «تفادوهم» بضم التاء وبالألف، وقرأ الباقون «تفدوهم» بفتح التاء وإسكان الفاء من غير ألف.
50- وعلة من قرأ «أسرى» على «فعلى» أنه جمع أسير كـ «جريح، وقتيل» بمعنى مأسور ومجروح ومقتول، فلما كان «جريح وقتيل» يُجمعان على «فعلى»، ولا يجمعان على «فعالى» فعل بـ «أسير» ذلك فهو أصله، وبه قرأ الحسن وابن وثاب وابن أبي إسحاق والنخعي وطلحة وعيسى والأعمش.
51- وحجة من قرأ «أسارى» على وزن «فعالى» أنه شبهه بـ «كسالى» وذلك أن الأسير لما كان محبوسًا عن كثير من تصرفاته، صار كالكسلان، الذي حبسه الكسل عن كثير من تصرفه، فلما اشتبها في هذا المعنى حملا في الجمع على بناء واحد، فجمع «كسلان» على «كسلى» وهو باب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/251]
أسير، وجمع «أسير» على «أسارى» وهو باب «كسلان»، فكل واحد محمول على الآخر.
52- وعلة من قرأ «تفادوهم» بألف وضمه التاء أنه ناه على أصل المفاعلة من اثنين لأن كل واحد من الفريقين يدفع من عنده من الأسارى ويأخذ من عند من الآخرين من الأسرى فكل واحد مفادٍ فاعل، والفاعلان بابهما المفاعلة، وأيضًا فإن المفاعلة قد تكون من واحد، فيكون معناه معنى قراءة من قرأ بغير ألف، فيتفق معنى القراءتين، فأما من قرأه بفتح التاء من غير ألف فإنه بناه على أن أحد الفريقين يفدي أصحابه من الفريق الآخر، بمال أو غيره، من عرض، وكذلك العادة في المغلوب، هو يفدي ما أخذ له الغالب، فالفعل من واحد؛ إذ لا يكون كل واحد من الفريقين غالبًا، وإنما تحمل المفاعلة على القراءة بالألف أن لكل واحد من الفريقين أسيرًا فيفادي كل واحد منهما ويدفع ما عنده من الأسرى بما عند الفريق الآخر من الأسرى، ويجوز أن يكون تقاتلا فغلب أحدهما الآخر، وأسرى الغالب، ثم تقاتلا فغلب المغلوب وأسر، ثم تفادوا، وإنما أسروا أسرى هؤلاء وأسرى هؤلاء، والاختيار «أسارى» على «فعالى» وتفدوهم بغير ألف لما ذكرنا من العلة، ولأن القراءتين قد ترجعان إلى معنى، ولأن أكثر القراء على ذلك، وبذلك قرأ مجاهد وابن محيصن والأعرج وشبل، وبه قرأ قتادة وأبو عبد الرحمن وغيرهم، وكان أبو عمرو يقول: الأسرى الذين جاؤوا مستأمنين، والأسارى الذين في الوثاق والسجون أُخذوا قسرا). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/252]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (53- قوله: {تعملون أولئك} قرأه الحرميان وأبو بكر بالياء،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/252]
ردوه على قوله: {يردون} وعلى قوله: {أولئك الذين}، وقوله: {عنهم}، {ولاهم} فلما أتى كله بلفظ الغائب، حمل صدر الكلام عليه، وقرأ الباقون بالتاء، حملوه على ما تقدم من الخطاب في قوله: {يأتوكم أسارى}، و{محرم عليكم}، وقوله: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض}، وقوله: {فما جزاء من يفعل ذلك منكم}، فلما تكرر الخطاب حُمل عليه، وهو الاختيار لكثرة ما قبله من الخطاب؛ ولأن أكثر القراء عليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/253]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (30- {تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ} [آية/ 85]:-
بتخفيف الظاء، قرأها الكوفيون: عاصم وحمزة والكسائي، وكذلك {تَظَاهَرَا} في المتحرم.
ووجه ذلك أن الأصل تتظاهرون، فاستثقلوا اجتماع التاءين سيما مع حرف مقارب لهما في المخرج وهو الظاء، فحذفوا التاء الثانية كراهة اجتماع المثلين مع المقارب. وإنما حذفوا الثانية دون الأولى؛ لأن هذه الثانية هي التي يلحقها الإعلال بالإسكان والإدغام في الماضي نحو: {ادّارَأْتُمْ}
[الموضح: 287]
و {ازَّيَّنَتْ} في تدارأتم وتزينت، ثم إن الأولى جاءت لمعنى المضارعة، فلو حذفت لزال ذاك المعنى.
وقرأ الباقون (تَظَّاهَرُون) بتشديد الظاء، والأصل: تتظاهرون كما سبق، فأدغموا التاء الثانية في الظاء للمقاربة التي بينهما كراهة ما كرهه الآخرون من اجتماع المثلين والمقارب، فخفف هؤلاء بالإدغام ما خفف أولئك بالحذف). [الموضح: 288]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (31- (أسْرى) [آية/ 85]:
قرأ حمزة وحده (أسْرى) بغير ألف.
وذلك لأن أسرى أقيس من الأسارى؛ لأن فعيلاً إنما جاء جمعه على فعلى نحو: قتيل وقتلى وجريح وجرحى، وأصل ذلك إنما يكون لما كان بمعنى مفعول، وقد حمل عليه أشياء وقعت مقاربة له في المعنى نحو مرضى وموتى وهلكى، لما كان هؤلاء مبتلين بهذه الأشياء التي وقعت على غير اختيارهم شبهوا بالجرحى والقتلى إذ كانوا أيضًا كذلك.
وقرأ الباقون {أُسارى} بالألف وضم الهمزة.
ووجه ذلك أن أسيرًا جمع ههنا على أُسارى تشبيهًا بكُسالى، لما كان الأسير ممنوعًا عن الكثير من تصرفه شبه بالكسلان الذي يمتنع عن ذلك بما فيه من العادة المذمومة التي هي الكسل، فلما أشبهه في المعنى شاركه في الجمع على فعالى). [الموضح: 288]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (32- (تفدُوهُمْ) [آية/ 85]:-
بغير ألف، قرأها ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وابن عامر.
وذلك لأنه يقال: فديت الأسير بالمال، قال الله تعالى {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ}، وجاء في ذلك أيضًا: فاديته، وقد قيل: إن فديت يكون بالمال، وفاديت بالأسير يقال فاديت أسيري بأسيرٍ آخر، وقيل فديته اشتريته من العدو وفاديته ما كسبت به العدو في الثمن.
وقرأ الباقون، تُفَادوُهُمْ} بالألف.
ووجهه عند من لم يفرق في المعنى بينهما، أن هذا من باب المفاعلة؛ لأنه يكون من كل واحدٍ من الآسر والمستنقذ فعل، فأحدهما يدفع الفداء والآخر يدفع الأسير، فلفظ المفاعلة به أليق). [الموضح: 289]
قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107271#post107271)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:37 PM
سورة البقرة
[من الآية (87) إلى الآية (88) ]
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87) وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ (بروح القدس)
قرأ ابن كثير وحده، (بروح القدس) ساكنة الدال في جميع القرآن.
وقرأ الباقون: (القدس) مثقلا حيث وقع.
قال أبو منصور: والقدس: الطهارة، وقيل: البركة.
وفيه لغتان:
قدس وقدس، والتخفيف والتثقيل جائزان، وأنشدني أعرابي:
لا نوم حتى تهبطي أرض القدس
وتشربي من خير ماءٍ بقدس
فثقّل كما ترى). [معاني القراءات وعللها: 1/164]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تحريك الدّال وتسكينها من قوله: بروح القدس.
فقرأ ابن كثير وحده: وأيّدناه بروح القدس [البقرة/ 87، 253] مسكّنة الدّال وكذلك في جميع القرآن.
وقرأ الباقون: القدس مضمومة القاف والدّال.
[قال أبو عليّ]: قوله: وأيّدناه بروح القدس أيّدناه: فعّلناه، من الأيد والآد، وهو القوة، ومثل الأيد والآد في
[الحجة للقراء السبعة: 2/148]
بنائهما على فعل وفعل: العيب والعاب، والذّيم والذام، وجاء في أكثر الاستعمال على فعّلناه لتصحّ العين الثانية لسكون الأولى، وعلى هذا قوله: إذ أيّدتك بروح القدس [المائدة/ 110] ومن قال آيدناه صحّح العين، لأنه إذا صحّت في مثل: أجود، وأطيب، لزم تصحيحها في آيدناه لما كان يلزم من توالي الإعلالين. فمن التصحيح قوله:
ناو كرأس الفدن المؤيد ونظير هذا في كراهتهم توالي الإعلالين، ورفضهم ما يؤدي إليه قولهم: يودّ وتودّون أنّ غير ذات الشّوكة [الأنفال/ 7] فبنوا الماضي على فعل، ليلزمه في المضارعة يفعل. ولو كان الماضي فعل لكان المضارع مثل: يعد. فيلزم اجتماع إعلالين.
فأمّا روح القدس، فقال قتادة والسّدّيّ، والرّبيع والضّحّاك في روح القدس أنّه جبريل- وقال بعض المفسرين:
روح القدس: الإنجيل، أيّد الله عيسى به روحا، كما جعل القرآن روحا في قوله: وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا
[الحجة للقراء السبعة: 2/149]
[الشورى/ 52] والقدس والقدس التخفيف والتّثقيل فيه حسنان... وكذلك ما كان مثله نحو: العنق والعنق والطنب والطنب. والحلم والحلم.
وحكى أبو الحسن عن عيسى اطّراد الأمرين فيهما. ومما يدلّ على حسن التثقيل جمعهم ما كان على فعلة على فعلات.
نحو غرفة وغرفات- وركبة وركبات وهذا الأكثر في الاستعمال.
ومنهم من كره الضمّتين- فأسكن العين أو أبدل منها الفتحة نحو: ركبات. وكذلك من أسكن العين منه، والضمّ أكثر كما كان ظلمات أكثر. وأسكن أبو عمرو خطوات وحرّك القدس لأن الحركات في الجمع أكثر منها في الفعل، فأسكن لتوالي الحركات واجتماع الأمثال، ولا يلزمه على هذا الإسكان في الظلمات.
وأما القدس في اللغة فإن أبا عبيدة وغيره قالوا في قوله: ونقدّس لك [البقرة/ 30] التّقديس: التطهير. وقال غيره: إن ابن عباس كان يقول: المقدس: الطاهر، وقال الرّاجز:
الحمد لله العليّ القادس قال: وقالوا: قدّس عليه الأنبياء، أي: برّكوا.
وقال رؤبة:
دعوت ربّ القوّة القدّوسا
[الحجة للقراء السبعة: 2/150]
قال: والمقدّس: المعظّم. وقال: قدّس عليه، أي:
برّك.
قال أبو عليّ: فكأنّ معنى نقدّس لك. ننزّهك عن السوء. فلا ننسبه إليك. ولا ما لا يليق بالعدل. وهذا الوصف في المعنى كقول أمية:
سلامك ربّنا في كلّ فجر... بريئا ما تغنّثك الذّموم
قال أبو عمر: سألت أبا مالك عن قوله: ما تغنّثك.
قال لا تعلّق بك. فاللام فيها على حدها في قوله:
ردف لكم [النمل/ 72] ألا ترى أن المعنى تعظيمه وتنزيهه.
وليس المعنى أنه ينزّه شيء من أجله. ومثل ذلك في المعنى قولهم: سبحان الله، إنما هو براءة الله من السوء وتطهيره منه، ثم صار علما لهذا المعنى، فلم يصرف في قوله:
سبحان من علقمة الفاخر
[الحجة للقراء السبعة: 2/151]
وروح القدس: جبريل كأنّه منسوب إلى الطّهارة، وذلك أنّه ممّن لا يقترف ذنبا، ولا يأتي مأثما، كما قد يكون ذلك من غيره.
وقولنا في صفة الله تعالى: القدّوس: أي: الطاهر المنزّه عن أن يكون له ولد، أو يكون في حكمه وفعله ما ليس بعدل.
فأمّا قولهم: بيت المقدس وقول الراجز:
الحمد لله العليّ القادس فيدلّ على أنّ الفعل قد استعمل من التقديس بحذف الزيادة، أو قدّر ذلك التقدير. فإذا كان كذلك لم يخل المقدس من أن يكون مصدرا أو مكانا. فإن كان مصدرا كان كقوله:
إليّ مرجعكم [لقمان/ 15] ونحوه من المصادر التي جاءت على هذا المثال. وإن كان مكانا فالمعنى فيه: بيت المكان الذي فعل فيه الطهارة، وأضيف إلى الطهارة لأنه منسك كما جاء: أن طهّرا بيتي للطّائفين [البقرة/ 125] وتطهيره على إخلائه من الأصنام وإبعاده منها، وكما جاء: فاجتنبوا الرّجس من الأوثان [الحج/ 30] كذلك وصف بخلاف الرّجس إذا أخلي منها، ومما لا يليق بمواضع النّسك، وإن قدّرت «المقدس» المكان لا المصدر كان المعنى: بيت مكان الطّهارة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/152]
فأمّا ما حكاه قطرب: من أنّهم يقولون قدّس عليه الأنبياء. أي: برّكوا عليه فليس يخلو هذا المقدّس عليه من أن يكون موضع منسك، أو يكون إنسانا. فإن كان موضع نسك، فهو كدعاء إبراهيم عليه السلام للحرم ربّ اجعل هذا البلد آمناً [إبراهيم/ 35]، فكذلك يجوز أن يكون تبريك الأنبياء دعاء منهم له بالتّطهير. وإن كان إنسيّا فهو كقوله:
واجعله ربّ رضيًّا [مريم/ 6] وكما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من دعائه للحسن والحسين، وهذا يؤول إلى ذلك المعنى، وكذلك من قال: المقدّس: المعظّم، إنما هو تفسير على المعنى، وكثيرا ما يفعل المفسّرون من غير أهل اللغة، ذلك لمّا رأوا ذلك لا يفعلون إلا بشيء يراد تعظيمه وتبرئته من غير الطّهارة. فسّروه بالمعظّم على هذا المعنى. والأصل: كأنّه التطهير الذي فسّره أبو عبيدة). [الحجة للقراء السبعة: 2/153] (م)
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن أبي عمرو [وَآيَدْنَاه].
قال ابن مجاهد -على ما علمناه: ممدوة الألف خفيفة الياء. وقد رُوى عن مجاهد في قوله: {إِذْ أَيَّدْتُك} آيدتك، قال ابن مجاهد: على فاعلتك.
قال أبو الفتح: هذا الذي توهمه ابن مجاهد، وأن آيدتك فاعلتك لا وجه له، وإنما آيدتك أفعلتك من الأَيْد؛ وهو القوة.
وقال أبو علي: إنما كثر فيه أيَّدتك فعَّلتك؛ لما يعرض في آيدتُك من تصحيح العين مخافة توالي إعلالين في آيدتك. وأنشدنا قوله:
يُنْبي تجاليدي وأَقتادَها ... ناوٍ كرأس الفدَنِ الْمُويَد
[المحتسب: 1/95]
فهذا من آيدته؛ أي: قويته؛ لأنه مُفعَل كمُكْرَم ومُقتَل ومُؤدَم، ولو كان آيدتك -كما ظن ابن مجاهد فاعلتك- لكان اسم المفعول منه مُؤايَد كمقاتَل ومضارَب؛ ولكن قراءة من قرأ: [آتَيْنَا بِهَا] فاعلنا، ولو كان أفعلنا لما احتاج إلى حرف الجر؛ لأنه إنما يقال: أتيت زيدًا بكذا وآتيته؛ كقولك: أعطيته كذا، فكذاك لو كان آتينا أفعلنا لكان آتيناها كقولك: أعطيناها، أنت لا تقول: آتيته بكذا، كما لا تقول: أعطيته بكذا، فقوله في تلك القراءة: [آتيناها] كقولك: حاضرنا بها، وشاهدنا بها، وهذا واضح.
ومعنى قول أبي علي: لو جاء آيدتك على ما يجب في مثله من إعلال عين أفعلت إذا كانت حرف علة فأقمت زيدًا وأشرته وأبعته -أي: عرضته للبيع- لتتابع فيه إعلالان؛ لأن أصل آيدت: أَأْيدت، كما أن أصل آمن: أَأْمن، فانقلبت الهمزة الثانية ألفًا لاجتماع الهمزتين في كلمة واحدة، والأولى منهما مفتوحة والثانية ساكنة، فهي كآمن وآلف، وفي الأسماء نحو: آدم وآدر.
فكان يجب أيضًا أن تلقى حركة العين على الفاء وتحذف العين، فكان يجب على هذا أن تقلب الفاء هنا واوًا؛ لأنها قد تحركت وانفتح ما قبلها، ولَا بُدَّ من بدلها لوقوع الهمزة الأولى قبلها، كما قلبت في تكسير آدم أوادم، فكان يلزم على هذا أن تقول: أَوَدتُه كأَقَمْتُه وأدرته، فتحذف العين كما ترى، وتقلب الفاء التي هي في الأصل همزة واوًا فتعتل الفاء والعين جميعًا، وإذا أدى القياس إلى هذا رُفض، وكثر فيه فعَّلْتُ أيدت ليؤمن ذانك الاعتلالان، فلما استُعمل شيء منه جاء قليلا شاذًّا؛ أعني: آيدت.
وإذا كانوا قد أخرجوا عين أفعلت، وهي حرف علة على الصحة نحو قوله:
صددت فأَطولتِ الصدود
وقولهم: أغيلت المرأة، وأغيمت السماء، وأَخْوصَ الرِّمثُ، وأعوز القوم،
[المحتسب: 1/96]
وأليث الشجر، وأسوأَ الرجل. ولو خرج على منهج إعلال مثله لم يُخَفْ فيه توالي إعلالين كان خروج آيدت على الصحة لما كان يعقب إعلال عينه من اجتماع إعلالها مع إعلال الفاء قبلها أولى وأجدر؛ فقد ثبت أن قراءة مجاهد: [إذ آيدتك] إنما هو أفعلتك لا فاعلتك، كما ظن ابن مجاهد). [المحتسب: 1/97]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس}
قرأ ابن كثير {وأيدناه بروح القدس} بإسكان الدّال في جميع القرآن كأنّه استثقل الضمتين وحجته قول الشّاعر
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس له كفاء
[حجة القراءات: 105]
وقرأ الباقون بضم الدّال وهو الأصل). [حجة القراءات: 106]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (54- قوله: {القدس} هذا الكلام وقع بعد قصة «يعملون» قرأه ابن كثير بالإسكان حيث وقع على الاستخفاف لتوالي ضمتين، وهي لغة، تقول العرب، الحُلْم والحُلُم، والطُنْب والطُنُب، والقُدْس والقُدُس، وقرأه الباقون بالضم على الأصل، وهو الاختيار؛ لإجماع القراء عليه، ولقلة حروف الكلمة وخفتها، وبذلك قرأ الحسن ومجاهد وابن أبي إسحاق ويحيى وطلحة والأعمش، وهو اختيار أبي حاتم وغيره). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/253]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (33- (الْقُدْسِ) [آية/ 87]:-
ساكنة الدال، قرأها ابن كثير وحده في جميع القرآن.
[الموضح: 289]
ووجهه أن القدس والقدس لغتان، وهو الطهارة، والقدس بإسكان الدال مخففة من القدس بضم الدال.
وقرأ الباقون {القُدُسِ} مضمومة الدال، وقد ذكرنا أن التخفيف والتثقيل في هذه الكلمة لغتان، والتثقيل هو الأصل، فأجراها هؤلاء على الأصل). [الموضح: 290]
قوله تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ (قلوبنا غلفٌ)
قرأ أبو عمرو في رواية اللؤلؤي عنه (غلفٌ) بضم اللام.
وأسكنها الباقون.
قال أبو منصور: من قرأ (غلفٌ) فهو جمع غلاف، المعنى: قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم عنك (قالها اليهود).
ومن قرأ (غلفٌ) بسكون اللام فهو جمع أغلف وغلفا، المعنى: قلوبنا في أوعية، كما قال آخرون: (قلوبنا في أكنّةٍ ممّا تدعونا إليه)، وهذا أعجب إليّ أن يقرأ به الشاهد الذي ذكرت من الكتاب، مع أن غلف إذا كان جمع غلاف جاز تسكين اللام معه، كما يقال: مثالٌ ومثلٌ). [معاني القراءات وعللها: 1/165]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال أحمد: وكلّهم قرأ (غلف) مخففة [البقرة/ 88].
وروى أحمد بن موسى اللؤلؤيّ، عن أبي عمرو أنه
[الحجة للقراء السبعة: 2/153]
قرأ: غلفٌ بضم اللام والمعروف عنه التخفيف.
قال أبو علي: ما يدرك به المعلومات من الحواسّ وغيرها من الأعضاء إذا ذكر بأنّه لا يعلم به، وصف بأنّ عليه مانعا من ذلك، ودونه حائلا. فمن ذلك قوله: أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها [محمد/ 24] كأنّ القفل لما كان حاجزا من المقفل عليه، وحائلا من أن يدخله ما يدخل إذا لم يكن مقفلا، جعل مثلا للقلوب في أنّها لا تعي ولا تفقه. وكذلك قوله: لقالوا إنّما سكّرت أبصارنا [الحجر/ 15] أي: قد حارت وحسرت، فلا تدرك ما تدركه على حقيقة. فكأنّ شدة عنادهم يحملهم على الشكّ في المشاهدات. وكذلك قوله:
الّذين كانت أعينهم في غطاءٍ عن ذكري [الكهف/ 101] فهذا كقوله: بل هم منها عمون [النمل/ 66] وكقوله: صمٌّ بكمٌ عميٌ [البقرة/ 18] لأن العين إذا كانت في غطاء لم ينفذ شعاعها، فلم يقع بها إدراك، كما أن الثّقل إذا كان في الأذن لم يسمع بها. فقوله: وفي آذاننا وقرٌ [فصلت/ 5] المعنى فيه: أنها لا تسمع للوقر فيها، كما لا تبصر العين في الغطاء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/154]
فقوله: وقالوا قلوبنا غلفٌ [البقرة/ 88] فيمن أسكن اللام التي هي عين جمع أغلف، كما أن حمرا جمع أحمر.
فإذا كان جمع أفعل لم يجز تثقيله إلا في الشّعر.
قال أبو عبيدة: كلّ شيء في غلاف فهو أغلف. قالوا:
سيف أغلف وقوس غلفاء ورجل أغلف: لم يختن.
فقوله: (أغلف): إذا كان في غلاف في المعنى، كقوله:
وقالوا قلوبنا في أكنّةٍ [فصلت/ 5] كأنها إذا كانت في أكنّة لم ينتفع بها فيما [ينتفع فيه] بالقلب. كما أن العين إذا كانت عليها غشاوة أو كانت في غطاء، لم تبصر. فإذا كان كذلك، كان الوجه الإسكان في اللام التي هي عين، كما اتفقوا عليه، إلا ما رواه اللّؤلؤيّ عن أبي عمرو من تحريك العين.
ومجازه على وجهين: أحدهما أن يكون قوله: قلوبنا غلفٌ أي ذوات غلف فيكون في المعنى كقوله: غلفٌ، وأنت تريد به جمع أغلف. لأنها إذا كانت ذوات غلفٌ فهي في المعنى غلفٌ فتكون كلتا القراءتين تؤول إلى معنى واحد، إلا أن الإسكان أولى، لأن الكلام يحمل على ظاهره من غير حذف مضاف إليه فيه.
والوجه الآخر ما روي عن ابن عباس: من أنّهم قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «قلوبنا أوعية للعلم فما بالها لا تفهم ما أتيت به ممّا تدعونا إليه» أو نحو ذلك- فغلف في المعنى مثل الأوعية،
[الحجة للقراء السبعة: 2/155]
ألا ترى أنّ وعاء الشيء غلاف له). [الحجة للقراء السبعة: 2/156]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107274#post107274)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 02:38 PM
سورة البقرة
[من الآية (89) إلى الآية (91) ]
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)}
قوله تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (أن ينزّل اللّه من فضله)
قرأ ابن كثير:، ينزل، و(منزلها) و، منزلٌ من ربّك) و(منزلين) و(نزل به) ونحو هذا من الفعل الذي أوله ياء أو نون
[معاني القراءات وعللها: 1/165]
أو ميم كالتخفيف في كل القرآن، إلا في ثلاثة مواضع فإنه يشددهن، قوله في الحجر: (وما ننزّله إلّا بقدرٍ معلومٍ)، وقوله في بني إسرائيل: (وننزل من القرآن) وقوله: (حتّى ينزل علينا كتابًا نقرأه).
وقرأ أبو عمرو بالتخفيف أيضًا إلا حرفين قوله في الأنعام: (قادرٌ على أن ينزّل آيةً) وفي الحجر: (وما ننزّله إلّا بقدرٍ معلومٍ).
وقرأ نافع وعاصم بتشديد كل ما في أوله ياء وتاء أو نون، إلا قوله: (نزل به الروح الأمين) و(وما نزل من الحقّ) فإن نافعا وحفصا خففاهما، وقد شددهما أبو بكر.
وخفف نافع ما أوله ميم، إلا قول: (إنّي منزّلها عليكم) فإنهما شددا.
وزاد حفصٌ على أبي بكر: (أنّه منزّلٌ من ربّك بالحقّ)، في الأنعام فشدد.
وقرأ ابن عامر بتشديد ذلك كله.
[معاني القراءات وعللها: 1/166]
وقرأ حمزة والكسائي بتشديد ما أوله تاء أو نون أو ياء في جميع القرآن إلا في حرفين:
أحدهما في لقمان: (وينزل الغيث)، والآخر في: عسق: (وهو الّذي ينزل الغيث) خففا هذين الحرفين، وخففا ما في أوله ميم حيث وقع في القرآن.
قال أبو منصور: العرب تقول: نزّلت القوم منازلهم، وأنزلتهم منازلهم بمعنى واحد.
ومنهم من يستعمل التشديد فيما يتكرر ويكثر العمل فيه، ويخفف فيما لا يكثر ولا يتكرر). [معاني القراءات وعللها: 1/167]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تشديد الزاي من ينزّل [البقرة/ 90] وتخفيفها.
فقرأ نافع ينزّل مشدّدة الزاي إذا كان فعلا في أوله ياء أو تاء أو نون. فإذا كان في أول الفعل ميم لم يستمرّ فيه على وجه واحد، فكان يشدّد حرفا واحدا في «المائدة»: إنّي منزّلها عليكم [الآية/ 115] ويخفّف ما سواه، فإذا كان ماضيا ليس في أوّله ألف، وكان فعل ذكر خفّف الزاي مثل قوله: نزل به الرّوح الأمين [الشعراء/ 193] ومثل قوله: وما نزل من الحقّ [الحديد/ 16] ويشدّد سائر القرآن.
وكان ابن كثير يخفّف الفعل الذي في أوله ياء أو تاء أو نون في كلّ القرآن، إلا في ثلاثة مواضع: في الحجر: وما ننزّله إلّا بقدرٍ معلومٍ [الآية/ 21] وفي بني إسرائيل: وننزّل من القرآن ما هو شفاءٌ [الآية/ 82] وفيها أيضا: حتّى تنزّل علينا كتاباً نقرؤه [الآية/ 93] ولا يخفف: وما نزل من الحقّ [الحديد/ 16] ويخفّف منزّلها [المائدة/ 115] وينزّل [البقرة/ 90] ومنزلون [العنكبوت/ 34] ومنزلين [آل عمران/ 124]. ويخفّف: نزل به الرّوح الأمين [الشعراء/ 193].
[الحجة للقراء السبعة: 2/156]
وقرأ أبو عمرو: ينزّل [البقرة/ 90] وما أشبهه بالتخفيف في جميع القرآن إلا حرفين: أحدهما في سورة الأنعام: قل إنّ اللّه قادرٌ على أن ينزّل آيةً [الآية/ 37] وفي الحجر: وما ننزّله إلّا بقدرٍ معلومٍ [الآية/ 21]. ويخفف منزّلٌ، ومنزّلها، ومنزلون، ويشدّد: نزّل، في كل القرآن إلّا في قوله: نزل به الرّوح الأمين، فإنه يخفّفه.
وكان عاصم في رواية أبي بكر يشدّد: ينزّل وننزّل ومنزّلها في المائدة. ونزل من الحقّ [الحديد/ 16] ونزل به الرّوح الأمين [الشعراء/ 193] في كلّ القرآن.
وقال حفص عن عاصم: نزل به الرّوح الأمين خفيفة، وكذلك: وما نزل من الحقّ أيضا خفيفة.
وقال أبو بكر بن عياش: هما مشدّدان. وروى حفص عن عاصم أنه يشدّد أنّه منزّلٌ من ربّك بالحقّ في سورة الأنعام [الآية/ 114] ولا يشدّد منزّلها.
وقرأ ابن عامر بتشديد ذلك كلّه في جميع القرآن من منزّل وينزّل وينزّلون ومنزّلين. وفي الأنعام: أنّه منزّلٌ من ربّك بالحقّ. وفي سورة الشّعراء: نزل به الرّوح الأمين
[الحجة للقراء السبعة: 2/157]
[الآية/ 193] وما نزل من الحقّ في سورة الحديد [الآية/ 16] يشدّد ذلك كلّه.
وقرأ حمزة والكسائيّ: وننزّل وينزّل، ونزل به الرّوح الأمين وما نزل من الحقّ مشدّدا في كل القرآن، إلا حرفين في سورة لقمان: وينزّل الغيث [لقمان/ 34] وفي سورة (عسق): وهو الّذي ينزّل الغيث [الشورى/ 28] ويخفّفان منزّلٌ ومنزلون ومنزلين حيث وقع.
قال أبو علي: نزل فعل غير متعدّ إلى مفعول به. فإذا أردت تعديته إليه عدّيته بالأضرب الثلاثة التي يتعدّى بها الفعل وهي النّقل بالهمزة، وبحرف الجرّ، وبتضعيف
العين. يدلّك على أنّه غير متعدّ قولهم في مصدره: النزول. فالنّزول كالصّعود والخروج والقفول، ونحو ذلك من المصادر التي لا تتعدى أفعالها في أكثر الأمر. فممّا نقل بالهمزة قوله: وأنزل الّذين ظاهروهم من أهل الكتاب. [الأحزاب/ 26] وممّا عدّي بالجارّ قولهم: نزلت به، ويكون منه: نزل به الرّوح الأمين [الشعراء/ 193] فيمن رفع الروح. وقال: الحمد للّه الّذي أنزل على عبده الكتاب [الكهف/ 1] وقال وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم [النحل/ 44] وقال: نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً.... وأنزل التّوراة.... وأنزل الفرقان وقرآناً فرقناه لتقرأه على النّاس على مكثٍ ونزّلناه تنزيلًا [الإسراء/ 106]
[الحجة للقراء السبعة: 2/158]
فقد رأيت مرّة يجيء التنزيل على أنزل ومرّة على نزّل.
ومما يبيّن ذلك أنه قد جاء في بعض القراءة: وأنزل الملائكة تنزيلا [الفرقان/ 25] كأنّه لما كان نزّل وأنزل بمعنى، حمل مصدر أحدهما على الآخر، وقد كثر مجيء التنزيل في القرآن، فهذا يقوي (نزّل) ولم نعلم فيه الإنزال.
وقد جاء فيه أنزل كثيرا.
فأمّا قوله: نزّل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقاً [آل عمران/ 3] فالكتاب مفعول به.
وقوله: بالحقّ في موضع نصب بالحال وهو متعلّق بمحذوف، ومصدّقاً حال من الضمير الذي في قولك:
بالحقّ والعامل فيه المعنى، ولا يجوز أن تجعله بدلا لأنّ الاسم إنّما يبدل من الاسم. وقال: وبالحقّ أنزلناه وبالحقّ نزل [الإسراء/ 105] فقوله: بالحقّ أنزلناه حال من الضمير. فأمّا قوله: وبالحقّ نزل. فيحتمل الجارّ فيه ضربين: أحدهما: أن يكون التقدير نزل بالحقّ، كما تقول:
نزلت بزيد، ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في نزل، يدلّك على جواز ذلك قوله: وبالحقّ نزل، وقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/159]
أنزل عليك الكتاب بالحق [آل عمران/ 3] وهذا اتفاق في مذهب الفريقين، ومثل ذلك في احتماله الوجهين قوله: نزل به الرّوح الأمين [الشعراء/ 193] في من رفع الرّوح. يكون الجارّ مثل الذي في مررت بزيد، ويكون حالا، كما تقول: نزل زيد بعدّته، وخرج بسلاحه وفي التنزيل: وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به [المائدة/ 61].
ومما لا يكون إلا حالا قوله: والّذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنّه منزّلٌ من ربّك [الأنعام/ 114] ألا ترى: أنّ أنزلت يتعدّى إلى مفعول واحد؟ فإذا بنيته للمفعول لم يبق له متعدّى إلى مفعول به، وقوله: من ربّك على حدّ ولمّا جاءهم كتابٌ من عند اللّه وبالحقّ حال من الذّكر الذي في منزّلٌ، والعامل فيه منزل.
ومما جاء الجارّ فيه حالا، كما جاء في الآي الأخر:
أنزله بعلمه [النساء/ 166] المعنى: أنزله وفيه علمه، كما أنّ: خرج بعدّته، تقديره: خرج وعليه عدّته. والعلم:
المعلوم، أي: أنزله وفيه معلومه. ومثل ذلك الصيد يراد به:
المصطاد. يدلّك على إرادتهم به المصطاد قوله: ليبلونّكم اللّه بشيءٍ من الصّيد تناله أيديكم ورماحكم [المائدة/ 94] فالأيدي والرّماح إنما تلحق الأعيان ولا تلحق الأحداث.
وأما قوله: وما نزل من الحقّ [الحديد/ 16] فمن
[الحجة للقراء السبعة: 2/160]
خفّف نزل كان (ما) بمنزلة الذي، وفيه ذكر مرفوع يعود إلى ما، ولا يجوز فيمن خفّف أن يجعل (ما) بمنزلة المصدر مع الفعل كأن، لأنّ الفعل يبقى بلا فاعل ولا يجوز فيمن جوّز زيادة (من) في الإيجاب أن يكون: الحقّ مع الجارّ في موضع الفاعل.
وقد جعلت (ما) بمنزلة الذي، لأنه لا يعود إلى الموصول شيء. ومن شدّد كان الضمير الذي في نزل لاسم الله، والعائد محذوف من الصّلة.
فأمّا دخول الجارّ فلأن (ما) لما كان على لفظ الجزاء حسن دخول (من) معه، كما دخلت في نحو فما يك من خير أتوه...
فإذا كان كلّ واحد من نزل وأنزل يستعمل كما يستعمل الآخر، ويعنى به ما يعنى بالآخر، لم ينكر أن يوقع كل واحد منهما موضع الآخر، وكذلك ما تصرّف من ذلك. كأسماء الفاعلين، فتقرأ: (منزلون ومنزلون) لأن كل واحد منهما بمنزلة الآخر، كما أنّ الفعل الذي جريا عليه كذلك. وهذا مما يعلم منه أنّ (فعّل) بمنزلة (أفعل)، وأن تضعيف العين للتعدّي وليس يراد به الكثرة كما أريد في نحو: وغلّقت الأبواب
[الحجة للقراء السبعة: 2/161]
[يوسف/ 23] ولكن فعّل بمنزلة أفعل.
وقد قال سيبويه: قد يجيء فعّلت، وأفعلت بمعنى واحد مشتركين وذلك نحو: وعزت إليه، وأوعزت، وخبّرت وأخبرت، وسمّيت وأسميت.
فأمّا تخفيف حمزة والكسائي في لقمان: وينزّل الغيث [الآية/ 34] وفي (عسق) وهو الّذي ينزّل الغيث [الشورى/ 28] فلو شدّدا ذلك كما شدّدا غيره كان حسنا، ولو خفّفا بعض ما شدّدا كان كذلك. ويشبه أن يكونا اعتبرا في تخفيف ذلك كثرة ما جاء في التنزيل في ذكر الغيث فحملا اسم الفاعل على ذلك. فمن ذلك قوله: وأنزلنا من السّماء ماءً بقدرٍ فأسكنّاه في الأرض [المؤمنون/ 18]، ألم تر أنّ اللّه أنزل من السّماء ماءً فتصبح الأرض مخضرّةً [الحج/ 63] أنزل من السّماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض [الزمر/ 21] يشبه أن يكونا لمّا رأياه بهذه الكثرة، حملا اسم الفاعل عليه.
فأمّا قوله: وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ [الزمر/ 6] وقوله: وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ [الحديد/ 25] فكأنّ المعنى فيه: خلق، ألا ترى أنه قد جاء في الأخرى ثمانية أزواج وذلك محمول على أنشأ، كأنه: وأنشأ ثمانية أزواج). [الحجة للقراء السبعة: 2/162]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {أن ينزل الله} بالتّخفيف في جميع القرآن وحجتهما في الآية {أن يكفروا بما أنزل الله} ولم يقل نزل الله وأبو عمرو قرأ في الأنعام بالتّشديد {قل إن الله قادر على أن ينزل آية} بالتّشديد لأن قبلها {لولا نزل عليه} وما ننزله إلّا بقدر معلوم لأنّه شيء بعد شيء فكأنّه لما تردد وطال نزوله شدده لتردده وابن كثير خالف مذهبه في سورة سبحان فقرأ بالتّشديد كأنّه أراد أن يجمع بين اللغتين
وقرأ الباقون جميع ذلك بالتّشديد وحجتهم أن نزل وأنزل لغتان مثل نبأته وأنبأته وأعظمت وعظمت وفي التّنزيل {ويقول الّذين آمنوا لولا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة} فجاء باللغتين وقرأ حمزة والكسائيّ في لقمان وعسق بالتّخفيف وحجتهما قوله {وأنزلنا من السّماء ماء}). [حجة القراءات: 106]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (55- قوله: {ينزل}، {وتنزل} قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف حيث وقع، إذا كان رباعيًا جعلاه مستقبلًا من «أنزل»، وذلك في القرآن كثير بإجماع نحو: {وأنزل الفرقان} «آل عمران 4» و{أنزل التوراة} «آل عمران 3»، و{الحمد لله الذي أنزل} «الكهف 1»، و{بالحق أنزلناه} «الإسراء 105» وخالف ابن كثير في موضعين في سبحان فشددهما، وجعلهما من «نزل» وهما قوله تعالى: {وننزل من القرآن} «الإسراء 82»، {حتى
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/253]
تنزل علينا} «الإسراء 93» وكذلك المشدد المشدد في الحجر في قوله: {وما ننزله إلا بقدر} «21» وإنما خص هذين الموضعين، ليبين بالتشديد معنى التكرير في النزول؛ لأن التشديد يدل على التكرير، فلما كان القرآن ينزل شيئًا بعد شيء شدد، ليدل على هذا المعنى، إذ لو خفف لجاز أن ينزل مرة واحدة على النبي عليه السلام، ولم يكن كذلك، وشدد {وما ننزله إلا بقدر} ليدل على نزول المطر شيئًا بعد شيء، إذ لو خفف لجاز أن ينزل المطر مرة واحدة، وليس الأمر كذلك، والتشديد للتكرير في الفعل، فهو يدل على هذه المعاني، وخالف أيضًا أبو عمرو في موضعين، فشدد قوله في الأنعام: {قادر على أن ينزل} «37» فشدده حملًا على صدر الكلام لأن قبله: {وقالوا لولا نزل عليه}، ومستقبل «نزّل» «ينزّل» فحمله على ما قبله، وأجراه عليه، وعلى لفظه، والموضع الثاني في الحجر: {وما ننزله إلا بقدر} «21» وقد مضت علته، وقرأ الباقون بالتشديد في ذلك كله، حملوه على «نزّل» والتشديد أبلغ؛ لأنه يدل على تكرير الفعل غير أن حمزة والكسائي خففا موضعين في لقمان: {وينزل الغيث} «24» وفي الشورى: {يُنزِّل الغيث} «28» جعلاه من «أنزل»، وحمله على قوله تعالى: {أنزل من السماء ماء فسالت} «الرعد 17» وكله في نزول القطر). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/254]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (34- {أَنْ يُنَزِّلَ الله مِنْ فَضْلِهِ} [آية/ 90]:-
بالتشديد، قرأها نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي، وقرأ الباقون {يُنْزِلاَ} بالتخفيف، وهما لغتان في متعدي نزل، أعني نزلته وأنزلته، وبعضهم يجعل المشدد لما يتكرر إنزاله، والمخفف فيما لا يتكرر، وقد ضعفه المحققون). [الموضح: 290]
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107276#post107276)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:05 PM
سورة البقرة
[من الآية (92) إلى الآية (96) ]
{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)}
قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)}
قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)}
قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)}
قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (أن يعمّر واللّه بصيرٌ بما يعملون (96).
اتفق القراء على (بما يعملون) بالياء إلا الحضرمي فإنه قرأ بالتاء). [معاني القراءات وعللها: 1/167]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (35- {وَالله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آية/ 96]:-
بالتاء في عشر المائة، قرأها يعقوب وحده؛ لأنه جعل ذلك من جملة القول، وجعله متصلاً بقوله تعالى {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآَخِرَةُ عِنْدَ الله خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} وجعل ما بينهما
[الموضح: 290]
اعتراضًا، فلهذا صيره خطابًا.
وقرأ الباقون بالياء، على الغيبة، حملاً له على ما يليه وهو قوله تعالى {وَلَتَجِدَنَّهُمْ} إلى آخر الآية). [الموضح: 291]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107280#post107280)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:06 PM
سورة البقرة
[من الآية (97) إلى الآية (100) ]
{قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}
قوله تعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (من كان عدوًّا لجبريل.. (97).
قرأ ابن كثير: (جبريل) بفتح الجيم وكسر الراء بغير همز، و(ميكائيل) مهموزا ممدودا.
وروى شبل: (ميكائل) مقصورا مهموزا.
[معاني القراءات وعللها: 1/167]
مثل نافع، وقرأ نافع: (جبريل) بكسر الجيم والراء.
وقرأ حمزة والكسائي (جبرئيل) مثل (جبرعيل).
وقرأ أبو بكر: (وجبرئل، مثل (جبرعل).
وقرأ الباقون (جبريل)، بغير همز، إلا أن ابن كثير فتح الجيم، وكسرها الباقون.
قرأ أبو عمرو وحفص (ميكال) بغير ياء، وقرأ نافع بالهمز (ميكائل)، الباقون (ميكائيل) بياء بعد همزة). [معاني القراءات وعللها: 1/168]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يحيى بن يعمر: [جَبرَئِلّ] مشددة اللام، بوزن جبرَعِل، وعنه أيضًا وعن فياض بن غزوان: [جَبْرَائيل] بوزن جَبْرَاعيل، بهمزة بعد الألف، وبهذا الوزن من غير همز بياءين عن الأعمش، و[مِيكاييل] من غير همز أيضًا ممدود، وقرأ [مِيكَئِلَ] بوزن ميكعل ابن هرمز الأعرج وابن محيصن.
قال أبو الفتح: أما على الجملة فقد ذكرنا في كتابنا هذا وفي غيره من كتبنا: أن العرب إذا نطقت بالأعجمي خلَّطت فيه، وأنشدنا في ذلك ما أنشدَناه أبو علي من قول الراجز:
هل تعرف الدار لأم الخزرج ... منها فظَلْت اليومَ كالمزَرَّج
يريد: الذي شرب الزَّرجون وهي الخمر، وأنه كان قياسه المزرجن؛ من حيث كانت النون في الزرجون أصلية. نعم، وذكرنا أنهم قد يحرفون ما هو من كلامهم، فكيف ما هو من كلام غيرهم؟ إلا أن جبرَئِل قد قيل فيه: إن معناه عبد الله؛ وذلك أن الجبر بمنزلة الرجل، والرجل عبد الله، ولم يسمع الجبر بمعنى الرجل إلا في شعر ابن أحمر، وهو قوله:
اشرب براووق حُبيت به ... وانْعم صباحًا أيها الجبر
قالوا: وإلٌّ بالنبطية: اسم الله تعالى، ومن ألفاظهم في ذلك أن يقولوا: كورِيال، الكاف بين القاف والكاف، فغالب هذا أن تكون هذه اللغات كلها في هذا الاسم إنما يراد بها جبريال الذي هو كوريال، ثم لحقها من التحريف على طول الاستعمال ما أصارها إلى هذا التفاوت، وإن كانت على كل أحوالها متجاذبة يتشبث بعضها ببعض.
[المحتسب: 1/97]
واستدل أبو الحسن على زيادة الهمزة في [جَبْرَئيل] بقراءة مَن قرأ {جبْريل} ونحوه، وهذا كالتعسف من أبي لحسن لما قدمناه من التخليط في الأعجمي، ويلزم فيه زيادة النون في زرجون؛ لقوله: كالمزرج، والقول ما قدمناه.
وأما [جَبْرايِيل ومِيكاييل] بباءين بعد الألف والمد فيقْوَى في نفسي أنها همزة مخففة وهي مكسورة، فخفيت وقربت من الياء فعبر القراء عنها بالياء، كما ترى في قوله عز وجل: [آلاء] عند تخفيف الهمز "آلاي" بالياء؛ وسبب ذلك ما ذكرناه من خفاء الهمزة المكسورة وقربها بذلك من لفظ الياء، كما قالوا في "شهر رمضان" في إدغام أبي عمرو: إن الراء من شهر مدغمة في راء رمضان، وهيهات ذلك مذهبًا، وعز مطلبًا، حتى كأنا لم نعلم أن الهاء في شهر ساكنة، وإذا أُدغمت الراء في راء رمضان التقى ساكنان ليس الأول منهما حرف مد كشبابَّة ودابَّة، ولا يكون ذلك إلا أن تنقل حركة الراء الأولى إلى الهاء قبلها، ولو فُعل ذلك لوجب أن يقال: شَهُرّ رمضان بضم الهاء، وليس أحد من القراء يدَّعي هذا فيه: مَن أدغم ومَن لم يدغم.
وأيضًا، فإنه إذا كان هذا النقل فإنما يكون في المتصل، نحو: يستعدّ ويردّ ويفرّ، فأما في المنفصل فإن ذلك لن يجيء في شيء منه إلا في حرف واحد شاذ اجتمع فيه شيئان، كل واحد منهما يحتمل التغيير له:
أحدهما: كونه علمًا، والأعلام فيما يكثر فيه ما لا يكون في غيره، نحو: معديكرب ومَوْهَب وتَهْلَل وحَيْوَة.
والآخر: كثرة استعماله، وهم لما كثر استعماله أشد تغييرًا، وذلك الحرف قولهم في عبد شمس: هذه عَبُشَمسَ بفتح السين، وأنت لا تقول في نحو هذا قوم موسى: هذا قَوْمُّوسى؛ لما ذكرناه من أن المنفصل في هذا النحو لم تنقله العرب كما نقلت المتصل.
فعلى هذا ينبغي أن نوجه قولهم في [جَبْرايِيل وميكاييل] ببياءين والمد؛ وذلك لأن المد إنما كان فيه لبقاء نية الهمزة المخففة ولفظه فيه، هذا هو القول؛ كقولهم بالمد، وإن كانت الألف والياء بعدها أتَمَّ صوتًا وأبعد ندى منها وبعدها غيرها من الحروف الصحاح، نحو: غرابيل وسرابيل وسراحين وميادين، وقد يجوز من بعد هذا أن تكون ياء صريحة من حيث كان الأعجمي يُتلَعَّبُ فيه بالحروف تَلَعُّبًا، فاعرف ذلك). [المحتسب: 1/98] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (56- قوله: {جبريل} قرأه ابن كثير بفتح الجيم، وبياء بعد الراء، مع كسرها من غير همز، ومثله أبو بكر، غير أنه همز همزة مكسورة بعد الراء، وفتح الراء، ومثله حمزة والكسائي، غير أنهما زادا ياء بعد الهمزة، وقرأ الباقون
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/254]
«جبريل» بكسر الجيم والراء، وبياء بعد الراء من غير همز، وهذه كلها لغات فيه، و«جبريل» اسم أعجمي، فمن كسر الجيم أتى به على مثال كلام العرب، فهو كـ «قنديل ومنديل» ومن فتح أتى به على خلاف كلام العرب، ليعلم أنه ليس من كلام العرب، وأنه أعجمي، وكذلك فعل من همز، ومن أثبت ياء بعد الهمزة أتى به على خلاف كلام العرب، ليُعلم أنه أعجمي، ليس من أبنية كلام العرب، وفيه لغات غير هذا). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/255]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (36- {جِبْرِيلَ} [آية/ 97 و98]:-
بكسر الجيم والراء غير مهموز، قرأها نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب و- ص- عن عاصم.
اعلم أن الأحسن عندهم في بناء الاسم الأعجمي ما وافق أبنيتهم؛ لأنه يكون حينئذٍ أذهب في باب التعريب، فجبريل بوزن قنديل وشمليل.
وروى –ياش- عن عاصم (جَبْرَئِلَ) بفتح الجيم والراء وبالهمز على وزن: جبرعل، وهذا أيضًا موافق لبناء قهبلس وجحمرش.
وقرأ حمزة والكسائي (جَبْرَئِيل) بفتح الجيم والراء وبهمزةٍ بعدها ياء على
[الموضح: 291]
وزن: جبرعيل، وهذا قد وافق قولهم: دردبيس وقمطرير، وهذه لغة مشهورة في هذا الاسم.
وقرأ ابن كثير (جَبريل) بفتح الجيم وكسر الراء غير مهموز، وهو مثال خارجٌ عن أبنية العرب وأمثلتهم، فهو يجري مجرى الابريسم والفرند والآجر ونحو ذلك مما تمحض في وزن الأعجمي ولم يوافق شيئًا من أبنيتهم، وقد تكلموا على ما نقل إليهم ولم يتصرفوا فيه). [الموضح: 292]
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)}
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله: جبريل وميكال [البقرة/ 98] في كسر الجيم وفتحها، والهمز وتركه. والهمز في ميكائيل، والياء بعد الهمز من (جبرئيل وميكائيل).
فقرأ ابن كثير (جبريل) بفتح الجيم وكسر الراء من غير همز، و (ميكائيل) مهموز في وزن ميكاعيل بعد الألف همزة، وياء بعد الهمزة. وروى محمد بن صالح البزّي عن شبل بن عباد عن عبد الله بن كثير: (جبريل) بلا همز و (ميكائل) مهموز مقصور. وكذلك روى محمد بن سعدان عن عبيد بن عقيل عن شبل بن عبّاد عن عبد الله بن كثير (ميكائل) مهموز مقصور بزنة ميكاعل مثل نافع.
وحدّثني الحسين بن بشر الصوفيّ عن روح بن عبد المؤمن عن محمّد بن صالح عن شبل عن ابن كثير قال:
رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المنام وهو يقرأ: جبريل وميكال فلا أقرأهما أبدا إلا هكذا.
وقرأ نافع: (جبريل) بكسر الجيم والراء من غير همز (وميكائل) بهمزة بعد ألف وقبل اللام، ليس بعدها ياء، في وزن ميكاعل.
وقرأ أبو عمرو: (جبريل وميكال) بغير همز. وكذلك روى حفص عن عاصم. وقرأ ابن عامر: (جبريل) مثل أبي عمرو (وميكائيل) بهمز بين الألف والياء ممدودة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/163]
وقرأ عاصم في رواية يحيى عن أبي بكر وحماد بن سلمة عن عاصم (جبرئل) بفتح الجيم والراء، وهمزة بين اللام والراء غير ممدودة في وزن: جبرعل، خفيفة اللام و (ميكائيل) في رواية يحيى بهمزة بعدها ياء.
وقال الكسائيّ وحسين الجعفيّ عن أبي بكر عنه. وأبان عن عاصم: (جبرئيل وميكائيل) مثل حمزة، وكذلك روى أبان بن يزيد العطار عن عاصم، وحسين الجعفيّ عن أبي بكر عن عاصم.
وروى (ميكائل) مهموزة مقصورة في وزن ميكاعل مثل نافع.
وروى محمّد بن سعدان عن محمّد بن المنذر عن يحيى بن آدم عن أبي بكر عنه مثل حمزة.
وقرأ حمزة والكسائيّ (جبرئيل) و (ميكائيل) ممدودتين مهموزتين.
قال أبو علي: روينا عن أبي الحسن من طريق أبي عبد الله اليزيدي عن عمّه عنه أنه قال: في (جبريل) ستّ لغات: (جبرائيل، وجبرئيل، وجبرال، وجبريل، وجبرال، وجبريل) وهذه أسماء معرّبة، فإذا أتي بها على ما في أبنية العرب مثله، كان أذهب في باب التعريب.
يقوّي ذلك تغييرهم للحروف المفردة التي ليست من
[الحجة للقراء السبعة: 2/164]
حروفهم، كتغييرهم الحرف الذي بين الفاء والباء في قلبهم إياه إلى الباء المحضة، أو الفاء المحضة، كقولهم: البرند والفرند، وكذلك تغييرهم الحركة التي ليست في كلامهم كالحركة التي في قول العجم: «زور وآشوب» يخلّصونها ضمّة، فكما غيّروا الحروف والحركات إلى ما في كلامهم، فكذلك القياس في أبنية هذه الكلم، إلا أنّهم قد تركوا أشياء من العجمية على أبنية العجم التي ليست من أبنية العرب.
كالآجرّ، والإبريسم، والفرند، وليس في كلام العرب على هذه الأبنية، فكذلك قول من قال: (جبريل) إذا كسر الجيم كان على لفظ (قنديل، وبرطيل) وإذا فتحها فليس لهذا البناء مثل في كلام العرب، فيكون هذا من باب الآجرّ، والفرند، ونحو ذلك من المعرّب الذي لم يجيء له مثل في كلامهم. فكلا المذهبين حسن لاستعمال العرب لهما جميعا، وإن كان الموافق لأبنيتهم أذهب في باب التعريب. وكذلك القول في (ميكال وميكائيل) وميكال: بزنة قنطار وسرداح و (ميكائيل) خارج عن أبنية كلام العرب.
فأمّا القول في زنة (ميكال) فلا يخلو من أن يكون فيعالا أو مفعالا أو فعلالا. فلا يجوز أن يكون فيعالا، لأن هذا بناء يختصّ به المصدر كالقيتال، والحيقال، وليس هذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/165]
الاسم بمصدر، ولا يجوز أن يكون مفعالا، فيكون من أكل أو وكل، لأنّ الهمزة المحذوفة من ميكائيل محتسب بها في البناء، فإذا ثبت ذلك صارت الكلمة من الأربعة، وبنات الأربعة لا تلحقها الزيادة من أوائلها، إلا الأسماء الجارية على أفعالها، وليس هذا على ذلك الحدّ. فإذا لم يكن كذلك، ثبت أن الميم أصل كما كانت الهمزة في إبراهيم ونحوه أصلا ليست بزيادة.
ولا يجوز أيضا أن يكون فعلالا، لأنّ الهمزة المحذوفة من البناء مقدرة فيه. ونظير ذلك في حذف الهمزة منه والاعتداد بها، مع الحذف [في البناء] قولهم: سواية، إنما هي سوائية: كالكراهية، وكذلك الهمزة المحذوفة من أشياء- على قول أبي الحسن- مقدّرة في البناء فكذلك الهمزة في ميكائيل.
فإن قلت: فلم لا تجعلها بمنزلة التي في حطائط وجرائض ؟
فإن ذلك لا يجوز، لأن الدّلالة لم تقم على زيادتها كما قامت في قولهم: جرواض. فهو إذن بمنزلة التي في برائل، وكذلك (جبريل) الهمزة التي تحذف منها ينبغي أن
[الحجة للقراء السبعة: 2/166]
يقدّر حذفها للتخفيف وحذفها للتخفيف لا يوجب إسقاطها من أصل البناء، كما لم يجز إسقاطها في سواية من أصل البناء، وإذا كان كذلك كانت الكلمة من بنات الخمسة.
وهذا التقدير يقوّي قول من قرأ: (جبريل وميكائيل) بالهمز لأنّه يقول: إن الذي قرأ: (جبريل) وإن كان في اللفظ مثل: برطيل، فتلك الهمزة عنده مقدرة. وإذا كانت مقدرة في المعنى، فهي مثل ما ثبت في اللفظ.
فأمّا (إسرافيل) فالهمزة فيه أصل، لأن الكلمة من بنات الأربعة، كما كانت الميم من ميكائيل كذلك.
فإسرافيل من الخمسة كما كان جبرئيل كذلك. والقول في همزة إسرافيل وإسماعيل وإبراهيم مثل القول في همزة إسرافيل في أنها من نفس الكلمة، والكلمة بها من بنات الخمسة. وقد جاء في أشعارهم الأمران: ما هو على لفظ التعريب، وما هو خارج عن ذلك قال:
عبدوا الصّليب وكذّبوا بمحمّد... وبجبرئيل وكذّبوا ميكالا
وقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/167]
وجبريل رسول الله منّا... وروح القدس ليس له كفاء
وقال:
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة... يد الدّهر إلا جبرئيل أمامها
وقال كعب بن مالك:
ويوم بدر لقيناهم لنا مدد... فيه لدى النّصر ميكال وجبريل
وأما ما روي عن أبي عمرو من أنّه كان يخفف (جبريل) أو (ميكال) ويهمز (إسرائيل)، فما أراه إلا لقلّة مجيء (إسرال) بلا همز وكثرة مجيء (جبريل وميكال) في كلامهم والقياس فيهما واحد، وقد جاء في شعر أميّة (إسرال) قال:
لا أرى من يعيشني في حياتي... غير نفسي إلا بني إسرال
[الحجة للقراء السبعة: 2/168]
وليس قول من قال: إنّ (إيل، وإل) اسم الله، وأضيف ما قبلهما إليهما، كما يقال: عبد الله- بمستقيم من وجهين: أحدهما: أنّ (إيل، وإل) لا يعرفان في أسماء الله سبحانه في اللغة العربية، والآخر أنّه لو كان كذلك لم يتصرّف آخر الاسم في وجوه العربيّة، ولكان الآخر مجرورا، كما أنّ آخر عبد الله كذلك، ولو كان مضافا لوقع التعريب عليه على حدّ ما وقع في غيره من الأسماء المضاف إليها). [الحجة للقراء السبعة: 2/169]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة يحيى بن يعمر: [جَبرَئِلّ] مشددة اللام، بوزن جبرَعِل، وعنه أيضًا وعن فياض بن غزوان: [جَبْرَائيل] بوزن جَبْرَاعيل، بهمزة بعد الألف، وبهذا الوزن من غير همز بياءين عن الأعمش، و[مِيكاييل] من غير همز أيضًا ممدود، وقرأ [مِيكَئِلَ] بوزن ميكعل ابن هرمز الأعرج وابن محيصن.
قال أبو الفتح: أما على الجملة فقد ذكرنا في كتابنا هذا وفي غيره من كتبنا: أن العرب إذا نطقت بالأعجمي خلَّطت فيه، وأنشدنا في ذلك ما أنشدَناه أبو علي من قول الراجز:
هل تعرف الدار لأم الخزرج ... منها فظَلْت اليومَ كالمزَرَّج
يريد: الذي شرب الزَّرجون وهي الخمر، وأنه كان قياسه المزرجن؛ من حيث كانت النون في الزرجون أصلية. نعم، وذكرنا أنهم قد يحرفون ما هو من كلامهم، فكيف ما هو من كلام غيرهم؟ إلا أن جبرَئِل قد قيل فيه: إن معناه عبد الله؛ وذلك أن الجبر بمنزلة الرجل، والرجل عبد الله، ولم يسمع الجبر بمعنى الرجل إلا في شعر ابن أحمر، وهو قوله:
اشرب براووق حُبيت به ... وانْعم صباحًا أيها الجبر
قالوا: وإلٌّ بالنبطية: اسم الله تعالى، ومن ألفاظهم في ذلك أن يقولوا: كورِيال، الكاف بين القاف والكاف، فغالب هذا أن تكون هذه اللغات كلها في هذا الاسم إنما يراد بها جبريال الذي هو كوريال، ثم لحقها من التحريف على طول الاستعمال ما أصارها إلى هذا التفاوت، وإن كانت على كل أحوالها متجاذبة يتشبث بعضها ببعض.
[المحتسب: 1/97]
واستدل أبو الحسن على زيادة الهمزة في [جَبْرَئيل] بقراءة مَن قرأ {جبْريل} ونحوه، وهذا كالتعسف من أبي لحسن لما قدمناه من التخليط في الأعجمي، ويلزم فيه زيادة النون في زرجون؛ لقوله: كالمزرج، والقول ما قدمناه.
وأما [جَبْرايِيل ومِيكاييل] بباءين بعد الألف والمد فيقْوَى في نفسي أنها همزة مخففة وهي مكسورة، فخفيت وقربت من الياء فعبر القراء عنها بالياء، كما ترى في قوله عز وجل: [آلاء] عند تخفيف الهمز "آلاي" بالياء؛ وسبب ذلك ما ذكرناه من خفاء الهمزة المكسورة وقربها بذلك من لفظ الياء، كما قالوا في "شهر رمضان" في إدغام أبي عمرو: إن الراء من شهر مدغمة في راء رمضان، وهيهات ذلك مذهبًا، وعز مطلبًا، حتى كأنا لم نعلم أن الهاء في شهر ساكنة، وإذا أُدغمت الراء في راء رمضان التقى ساكنان ليس الأول منهما حرف مد كشبابَّة ودابَّة، ولا يكون ذلك إلا أن تنقل حركة الراء الأولى إلى الهاء قبلها، ولو فُعل ذلك لوجب أن يقال: شَهُرّ رمضان بضم الهاء، وليس أحد من القراء يدَّعي هذا فيه: مَن أدغم ومَن لم يدغم.
وأيضًا، فإنه إذا كان هذا النقل فإنما يكون في المتصل، نحو: يستعدّ ويردّ ويفرّ، فأما في المنفصل فإن ذلك لن يجيء في شيء منه إلا في حرف واحد شاذ اجتمع فيه شيئان، كل واحد منهما يحتمل التغيير له:
أحدهما: كونه علمًا، والأعلام فيما يكثر فيه ما لا يكون في غيره، نحو: معديكرب ومَوْهَب وتَهْلَل وحَيْوَة.
والآخر: كثرة استعماله، وهم لما كثر استعماله أشد تغييرًا، وذلك الحرف قولهم في عبد شمس: هذه عَبُشَمسَ بفتح السين، وأنت لا تقول في نحو هذا قوم موسى: هذا قَوْمُّوسى؛ لما ذكرناه من أن المنفصل في هذا النحو لم تنقله العرب كما نقلت المتصل.
فعلى هذا ينبغي أن نوجه قولهم في [جَبْرايِيل وميكاييل] ببياءين والمد؛ وذلك لأن المد إنما كان فيه لبقاء نية الهمزة المخففة ولفظه فيه، هذا هو القول؛ كقولهم بالمد، وإن كانت الألف والياء بعدها أتَمَّ صوتًا وأبعد ندى منها وبعدها غيرها من الحروف الصحاح، نحو: غرابيل وسرابيل وسراحين وميادين، وقد يجوز من بعد هذا أن تكون ياء صريحة من حيث كان الأعجمي يُتلَعَّبُ فيه بالحروف تَلَعُّبًا، فاعرف ذلك). [المحتسب: 1/98] (م)
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدو للكافرين}
[حجة القراءات: 106]
قرأ نافع وابن عامر وأبو عمرو وحفض {وجبريل} بكسر الجيم والرّاء جعلوا جبريل اسما واحدًا على وزن قطمير وحجتهم قول الشّاعر
وجبريل رسول الله فينا ... ورورح القدس ليس له كفاء
وقرأ حمزة والكسائيّ (جبرئيل) بفتح الجيم والرّاء مهموزا قال الشّاعر
شهدنا فما تلقى لنا من كتيبة ... مدى الدّهر إلّا جبرئيل أمامها
وحجتهم ما روي عن النّبي صلى الله عليه أنه قال: إنّما جبرئيل وميكائيل كقولك عبد الله وعبد الرّحمن جبر هو العبد وإيل هو الله فأضيف جبر إليه وبني فقيل جبرئيل
وقرأ ابن كثير (جبريل) بفتح الجيم وكسر الرّاء مثل سمويل وهو اسم طائر قال عبد الله بن كثير رأيت رسول الله صلى الله عليه في المنام فأقرأني جبريل فأنا لا أقرأ إلّا كذلك
وقرأ يحيى عن أبي بكر (جبرئل) على وزن جبرعل وهذه لغة تميم وقيس
[حجة القراءات: 107]
وقرأ أبوعمرو وحفص {وميكال} بغير همز على وزن سربال وحجتهما قول من مدح النّبي صلى الله عليه
ويوم بدر لقيناكم لنا مدد ... فيه مع النّصر ميكال وجبريل
وقرأ نافع (ميكائل) بهمزة مختلسة ليس بعدها ياء كأنّه كسرة الإشباع
وقرأ الباقون (ميكائيل) ممدودا وحجتهم ما روي عن النّبي صلى الله عليه أنه قال في صاحب الصّور
جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره قال الكسائي قوله جبرئيل وميكائيل وإبراهيم فإنّها أسماء أعجميّة لم تكن العرب تعرفها فلمّا جاءتها أعربتها فلفظت بها بألفاظ مختلفة). [حجة القراءات: 108]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (57- قوله: {ميكال} قرأه أبو عمرو وحفص «ميكال» على وزن «مفعال» ومثلهما نافع، غير أنه زاد همزة مكسورة بين الألف واللام، ومثله قرأ الباقون، غير أنهم زادوا ياء بعد الهمزة، وهذه القراءات لغات في هذا الاسم، وهو اسم أعجمي، غير أن من قرأه، على وزن «مفعال» أتى به على وزن أبنية العرب، فهو مثل «مفتاح»، ومن قرأه بغير ذلك أتى به على غير أبنية العرب، ليُعلم أنه أعجمي، خارج عن أبنية العرب، وقولنا في قراءة أبي عمرو وحفص أنه «مفعال» تمثيل؛ لأنه ليس بقوي، وإلا فلا يجوز أن يكون «مفعالًا»؛ لأنه رباعي إذ الهمزة المحذوفة يعتد بها، وبنات الأربعة لا يلحقها الزيادة في أولها، إلا في الأشياء الجارية على أفعالها، نحو: «مكرم، ومحسن» وليس «ميكال» من هذا الصنف، ولا يجوز أن يكون «فيعالا» لأن هذا الوزن قد اختصت به المصادر نحو: «القيتال، والحيقال»، وليس «ميكال» بمصدر،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/255]
ولا يجوز أن يكون «فعلالا» لأن الهمزة مقدرة فيه، فإنما هو اسم أعجمي كـ «إبراهيم، وإسماعيل»). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/256]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (36- {جِبْرِيلَ} [آية/ 97 و98]:-
بكسر الجيم والراء غير مهموز، قرأها نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب و- ص- عن عاصم.
اعلم أن الأحسن عندهم في بناء الاسم الأعجمي ما وافق أبنيتهم؛ لأنه يكون حينئذٍ أذهب في باب التعريب، فجبريل بوزن قنديل وشمليل.
وروى –ياش- عن عاصم (جَبْرَئِلَ) بفتح الجيم والراء وبالهمز على وزن: جبرعل، وهذا أيضًا موافق لبناء قهبلس وجحمرش.
وقرأ حمزة والكسائي (جَبْرَئِيل) بفتح الجيم والراء وبهمزةٍ بعدها ياء على
[الموضح: 291]
وزن: جبرعيل، وهذا قد وافق قولهم: دردبيس وقمطرير، وهذه لغة مشهورة في هذا الاسم.
وقرأ ابن كثير (جَبريل) بفتح الجيم وكسر الراء غير مهموز، وهو مثال خارجٌ عن أبنية العرب وأمثلتهم، فهو يجري مجرى الابريسم والفرند والآجر ونحو ذلك مما تمحض في وزن الأعجمي ولم يوافق شيئًا من أبنيتهم، وقد تكلموا على ما نقل إليهم ولم يتصرفوا فيه). [الموضح: 292] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (37- {وَمِيكّالَ} [آية/ 98]:-
غير مهموز، قرأها أبو عمرو ويعقوب و- ص- عن عاصم، وهو أكثر ارتضاءً عندهم؛ لأنه على وزن: فعلال من أبنيتهم كسرداح وقنطار وشملال.
وقرأ نافع (مِيكَائِل) ممدود بهمزة ليست بعدها ياء بوزن: ميكاعل.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي و- ياش- عن عاصم {ميكائيل}
[الموضح: 292]
بياء بعد الهمزة بوزن: ميكاعيل.
وهذان المثالان لا نظير لهما في أمثلة العرب، فهما أقعد في العجمة، والاسم الأعجمي إذا تكلمت به العرب أجرت عليه أحكام الأعراب، فصار مثل العربي في كثير من الأشياء وإن لم يوافق أمثلتهم فميكائيل، كميكاعيل أكثر في كلامهم وأشهر). [الموضح: 293]
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}
قوله تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن رَوْح عن أبي السمال أنه قرأ: [أَوْ كُلَّمَا عَهِدُوا] ساكنة الواو.
قال أبو الفتح: لا يجوز أن يكون سكون الواو في "أو" هذه على أنه في الأصل حرف عطف كقراءة الكافة: {أوَكلما}؛ من قِبَل أن واو العطف لم تُسكن في موضع علمناه، وإنما يسكن بعدها مما يُخلَط معها فيكونان كالحرف الواحد، نحو قول الله تعالى: [وَهْوَ اللَّه]، وقوله سبحانه: [وَهْوَ وَلِيُّهُم] بسكون الهاء، فأما واو العطف فلا تسكن من موضعين:
أحدهما: أنها في أول الكلمة، والساكن لا يبتدأ به.
والآخر: أنها هنا وإن اعتمدت على همزة الاستفهام قبلها فإنها مفتوحة، والمفتوح لا يسكن استخفافًا إنما ذلك في المضموم والمكسور نحو: كرْم زيد وعلْم الله، وقد مضى ذكر ذلك، فإذا كان كذلك كانت "أو" هذه حرفًا واحدًا، إلا أن معناها معنى بل للترك والتحول بمنزلة أم المنقطعة، نحو قول العرب: إنها لأبل أم شاء؛ فكأنه قال: بل أهي شاء؟ فكذلك معنى "أو" هاهنا، حتى كأنه قال: "وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ بل كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ"، يؤكد ذلك قوله تعالى من بعده: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُون}، فكأنه قال: "بل كلما عاهدوا عهدًا.... بل أكثرهم لا يؤمنون".
و"أو" هذه التي بمعنى أم المنقطعة -وكلتاهما بمعنى بل- موجودة في الكلام كثيرًا، يقول الرجل لمن يتهدده: والله لأفعلن بك كذا، فيقول له صاحبه: أَوْ يُحسن الله رأيك، أو يغير الله ما في نفسك؛ معناه: بل يحسن الله رأيك، بل يغير الله ما في نفسك، وإلى نحو هذا ذهب الفراء في قول ذي الرمة:
بدت مثلَ فرنِ الشمس في رَونَقِ الضُّحى ... وصورتِها أو أنت في العين أملحُ
[المحتسب: 1/99]
قال: معناه بل أنت في العين أملح، وكذلك قال في قوله الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قال: معناه بل يزيدون، وإن كان مذهبنا نحن في هذا غير هذا؛ فإن هذا طريق مذهوب فيه على هذا الوجه.
وقراءته هنا: [عَهِدُوا عَهْدًا] كأنه أشبه بجريان المصدر على فعله؛ لأن عهِدت عهدًا أشبه في العادة من عاهدت عهدًا، ومن ذلك الحديث المأثور: "مَن وعد وعدًا فكأنما عَهِدَ عهدًا"، وقراءة الكافة: {عاهَدُ واعَهْدا} على معنى أعطَوا عهدًا، فعهدًا على مذهب الجماعة كأنه مفعول به.
وعلى قراءة أبي السمال هو منصوب نصب المصدر، وقد يجوز أن ينتصب على قراءة الكافة على المصدر؛ إلا أنه مصدر محذوف الزيادة؛ أي: معاهدة أو عِهاداً؛ كقاتلت مقاتلة وقتالًا، إلا أنه جاء على حذف الزيادة كقوله:
عمرَكِ الله ساعةً حدِّثِينَا ... ودَعِينَا من قولِ مَن يؤذينا
إنما هو: عمَّرتُكِ الله تعميرًا -دعاء لها- فحذفت زيادة التاء والياء، وعليه: جاء زيد وحده؛ أي: أُوحِدَ بهذه الحال إيحادًا، ومررت به وحده؛ أي: أَوحدته بمروري إيحادًا.
وقد يمكن أن يكون وحده مصدر هو يَحِد وحدًا فهو واحد، والمصدر على حذف زيادته كثير جدًّا، إلا أنه ليس منه قولهم: سلمت عليه سلامًا وإن كان في معنى تسليمًا؛ من قِبَل أنه لو أريد مجيئه على حذف الزيادة لما أُقِرَّ عليه شيء من الزيادة، وفيه ألف سلام زائدة، ومثله: كملته كلامًا، والسلام والكلام ليسا على حذف الزيادة؛ لكنهما اسمان على فَعال بمعنى المصدر، فاعرف ذلك). [المحتسب: 1/100]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107283#post107283)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:09 PM
سورة البقرة
[من الآية (101) إلى الآية (103) ]
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103) }
قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)}
قوله تعالى: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله - عزّ وجلّ -: (ولكنّ.. (102)
بكسر النون وتخفيفها.
(الشّياطين.. (102)
بالرفع ابن عامر وحمزة والكسائي). [معاني القراءات وعللها: 1/169]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في كسر النّون مع التخفيف والتشديد من قوله: ولكنّ الشّياطين كفروا [البقرة/ 102]، ولكنّ اللّه قتلهم [الأنفال/ 17]، ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17]، ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون [يونس/ 44].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم: ولكنّ الشّياطين كفروا، ولكنّ اللّه قتلهم، ولكنّ اللّه رمى، ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون مشدّدات في ذلك كلّه.
وقرأ نافع وابن عامر ولكنّ البرّ من آمن باللّه [البقرة/ 177] ولكنّ البرّ من اتّقى [البقرة/ 189] خفيفتي النون، ويرفعان (البرّ). وشدّد النون في هذين الموضعين
[الحجة للقراء السبعة: 2/169]
ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائيّ. وقرأ حمزة والكسائيّ: ولكنّ الشّياطين كفروا، ولكنّ اللّه قتلهم، ولكنّ اللّه رمى، ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون خفيفات كلهنّ. وقرأ ابن عامر وحده: ولكنّ الشّياطين بالتخفيف.
وشدّد النون من: ولكنّ اللّه قتلهم، ولكنّ اللّه رمى، ولكنّ النّاس أنفسهم يظلمون، ولم يختلفوا إلّا في هذه الستة الأحرف.
قال أبو علي: اعلم أن لكن حرف لا نعلم شيئا على مثاله في الأسماء والأفعال، فلو كانت اسما لم يخل من أن يكون فاعلا أو فعلا، ولا نعلم أحدا ممن يؤخذ بقوله يذهب إلى أنّ الألفاظ في الحروف زائدة، فكذلك ينبغي أن تكون الألف في هذا الحرف، وهو مثل إنّ في أنّها مثقّلة ثم يخفّف إلا أنّ «إنّ وأنّ» إذا خفّفتا فقد ينصب بهما كما كان ينصب بهما مثقّلتين وإن كان غير الإعمال أكثر. ولم نعلم أحدا حكى النصب في «لكن» إذا خففت فيشبه أن النصب لم يجيء في هذا الحرف مخففا، ليكون ذلك دلالة على أن الأصل في هذه الحروف أن لا تعمل إذا خفّفت لزوال اللفظ الذي به شابه الفعل في التخفيف، وأنّ من خفّف ذلك، فالوجه أن لا يعمله.
ومثل ذلك في أنّه لم يجيء فيه الجزاء؛ وإن كان القياس لا
[الحجة للقراء السبعة: 2/170]
يمنع منه: «كيف»؛ ألا ترى أنّ الخليل وأصحابه لم يحكوا فيه الجزاء؟ وإن كان المعنى لا يمنع ذاك، ليعلم أنّ الجزاء ليس حكمه أن يكون بالأسماء، فكذلك لم يجيء النصب مع التخفيف في هذا الحرف كما جاء في «إنّ، وأنّ، ولعلّ، وليت» وقد لحقتها «ما» كافة كما لحقت «إنّ وأنّ ولعلّ وليت» وذلك في نحو قوله: قل إنّما أنذركم بالوحي [الأنبياء/ 45]، وكأنّما يساقون إلى الموت [الأنفال/ 6] وقول الشاعر:
.... لعلما... أضاءت لك النار الحمار المقيّدا
فممّا جاءت فيه (ما) كافة قول الشاعر:
ولكنّما أهلي بواد أنيسه... ذئاب تبغّى الناس مثنى وموحد
ومما جاءت فيه لكن مخفّفة غير معملة ما أنشده أبو زيد:
[الحجة للقراء السبعة: 2/171]
وما دهري بشتمك فاعلمنه... ولكن أنت مخذول كبير
ومثله قول زهير.
لقد باليت مظعن أمّ أوفى... ولكن أمّ أوفى لا تبالي
وقول الآخر:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا... ولكن على أقدامنا تقطر الدّما
ولا يدلّ نحو ما أنشده أبو زيد من قول عمران:
ولكنّا الغداة بنو سبيل... على شرف نيسّر لانحدار
وكذلك الحذف في إنّ في نحو قوله: قالوا إنّا معكم [البقرة/ 14] وقوله: إنّي أنا ربّك [طه/ 12] لولا أنّ الحرف المحذوف مراد لم يوصل بضمير المنصوب، ألا ترى أنّ (إنّ) إذا خفّفت، دخلت الأفعال، وفي دخولها على
[الحجة للقراء السبعة: 2/172]
الأفعال، دلالة على إخراجها من الإعمال، وعلى ذلك جاء التنزيل في نحو: إن كاد ليضلّنا [الفرقان/ 42] وإن كنّا عن عبادتكم لغافلين [يونس/ 29] ونحو هذا مما كثر مجيئه في التنزيل. فأمّا إنشاد من أنشد:
فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني... فراقك لم أبخل وأنت صديق
فهو قليل، وقياسه قياس من أعملها مخففة في المظهر، وإن كان ذلك في المضمر أقبح لأنّ المضمر كثيرا ما يردّ معه الشيء إلى أصله نحو قوله: أنشده أبو زيد:
فلا بك ما أسال ولا أغاما والأصل في هذه الحروف إذا خفّفت أن لا تعمل لزوال المعنى الذي به كان يعمل، ولذلك لم تعمل (لكن) مخففة.
فإن قلت: إنّ لكنّ لا تشبه الأفعال، ألا ترى أنه ليس شيء على مثاله في الأسماء ولا في غيره؟.
فإنّ فيه ما يشبه الفعل إذا نزّلته منفصلا كقولهم: «أراك منتفخا».
وقد جاء حذف ضمير القصة والحديث معها في نحو
[الحجة للقراء السبعة: 2/173]
قول أميّة:
ولكنّ من لا يلق أمرا ينوبه... بعدّته ينزل به وهو أعزل
كما جاء في قوله:
فلو أنّ حقّ اليوم منكم إقامة فلولا أنّ الضمير معه مراد لما دخل على الجزاء، كما أنّه لو لم يكن مرادا مع ليت، لم تدخل على الفعل، في نحو ما أنشده أبو زيد:
فليت دفعت الهمّ عني ساعة... فبتنا على ما خيّلت ناعمي بال
[الحجة للقراء السبعة: 2/174]
فأما ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر:
ندمت على لسان كان منّي... فليت بأنّه في جوف عكم
فيحتمل أمرين: أحدهما أن تكون الباء زائدة، ويكون (أنّ) مع الجارّ في موضع نصب، ويكون ما جرى من صلة (أنّ) قد سدّ مسدّ خبر ليت. كما أنّها في ظننت أنّ زيدا منطلق، كذلك.
ويحتمل أن تكون الهاء مرادة ودخلت الباء على المبتدأ، كما دخلت في قولهم: بحسبك أن تفعل ذلك، ولا يمتنع هذا من حيث امتنع الابتداء بأنّ لمكان الباء، ألا ترى أنّ (أنّ) قد وقعت بعد لولا في نحو: لولا أنّك منطلق، ولم يجر، ذلك [في الامتناع]. مجرى: أنّك منطلق بلغني.
لأن المعنى الذي له لم يبتدأ بالمفتوحة مع لولا معدوم.
فأمّا ما أنشده من قول الشاعر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/175]
فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوة... لعلّ أبي المغوار منك قريب
ولعلّ أبي المغوار منك قريب. فينبغي أن يكون على إضمار القصة والحديث كأنه خفّف لعلّ. وأعملها كما يخفف أنّ ويعمل، فمن فتح اللّام وجرّ الاسم فقال: لعلّ أبي المغوار، فاللّام لام الجرّ إلّا أنّه فتحها مع المظهر كما يفتح مع المضمر.
وزعم أبو الحسن أنه سمع فتح اللام مع المظهر من يونس وأبي عبيدة وخلف الأحمر.
وزعم أنه سمع ذلك أيضا من العرب، فيكون الجرّ في أبي المغوار على هذه اللغة. ومن قال:
لعلّ أبي المغوار منك قريب حذف لام لعلّ وأضمر القصة أو الحديث. وكسر اللام مع المظهر على اللغة التي هي أشيع، والتقدير: لعلّ لأبي المغوار منك جواب قريب، أي لعلّ نصره لا يبعد عليك، ولا يتأخّر عنك.
فإن قلت: إنه حذف اللام لاجتماع اللامين، كما حذف من (إنّا معكم) ونحو ذلك، كان قولا.
[الحجة للقراء السبعة: 2/176]
وحكى أبو عمر أنّ يونس لم يكن يرى (لكن) الخفيفة من حروف العطف. ويقوّي هذا القول أنّ أخوات لكن ممّا حذف منهنّ لم يخرج بالتخفيف عن ما كان عليه قبل التخفيف. ألا ترى أنّ: (إنّ) و (أنّ) و (كأنّ) كذلك؛ ومثلها (لعلّ).
فالقياس في (لكن) أن يكون في التخفيف على ما عليه أخواتها، ولا تخرج بالتخفيف عما كانت عليه، كما لم تخرج أخواتها عنه.
ويقوي ذلك أن معناها مخففة كمعناها مشدّدة، فإذا وافق حال التخفيف حال التشديد في اللفظ والمعنى، وجب أن تكون في التخفيف مثلها في التشديد.
فإن قلت: لم لا تكون مثل حتّى التي تكون لمعان مختلفة مع أنّ اللفظ واحد.
قيل: إنّ (حتّى) وإن كانت على لفظة واحدة، فإن المعاني التي تدلّ عليها مختلفة. ألا ترى أن العطف فيها غير الجرّ ووقوع الابتداء كما يقع الابتداء بعد إذا نحو: خرجت فإذا زيد، غير الجرّ والعطف. وكذلك الواو إذا كانت عاطفة معناها غير الجارّة. وكذلك إذا كانت في نحو: جاء البرد والطيالسة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/177]
وكذلك (ما) إذا كانت زائدة أو نافية أو كافّة، أو عوضا من الفعل في نحو: إمّا لا. وكذلك اللّام في: (لتفعلنّ)، وفي (لعمرو منطلق) وليس كذلك (لكن) لأنها إذا كانت مشددة كان معناها كمعناها إذا كانت مخففة؛ فإذا كان كذلك وجب أن لا تخرج بعد التخفيف عما كانت عليه قبل. كما أنّ سائر أخواتها كذلك.
فإن قلت: أليس قوم قد ذهبوا إلى أنّ (ليس) من حروف العطف، ويحملون قوله:
إنّما يجزي الفتى ليس الجمل فيمن أنشده بليس، فمعناها عاطفة كمعناها غير عاطفة في النفي.
قيل: إنها في هذا البيت يستقيم أن تكون نافية ويكون خبرها مضمرا. فكأنّ التقدير: إنّما يجزي الفتى ليس الجمل الذي يجزي. فحذف الخبر.
فليس لا تثبت حرف عطف من هذا البيت الذي استدلّوا
[الحجة للقراء السبعة: 2/178]
به على ذلك، وكذلك يجوز أن يقول يونس في نحو: ما مررت برجل صالح لكن طالح. إنّه يجرّه بباء يضمرها دلّت المتقدّمة لها عليها. كما حكى سيبويه عنه نحو هذا. ويضمر القصة في (لكن) وإن كانت مخففة. كما أضمروا في أن وإن في نحو: أما إن يغفر الله لك، وإذا قال: ما مررت برجل صالح لكن طالح، كان على قوله: ولكن هو طالح، فإنّه يقول:
لمّا خفّفته صارت من حروف الابتداء، كما صارت (إنّ) كذلك، ولذلك وقع بعدها الفعل، فكذلك صار (لكن) من حروف الابتداء، كما كان قوله:
ولكن على أقدامنا تقطر الدما وقوله:
ولكن أمّ أوفى لا تبالي على ذلك.
فأمّا تشديد لكنّ إذا دخلت عليها الواو- وتخفيفها معها، فالقياس لا يوجب دخول التثقيل فيها- كما أنّ انتفاء دخولها لا يوجب التخفيف. ومن شدّد مع دخول الواو كان كمن خفّف مع دخولها. ألا ترى أنّ الواو لا توجب تغييرا فيما بعدها في المعنى، وإذا كان كلّ واحد منهما لا ينافي الآخر في المساغ
[الحجة للقراء السبعة: 2/179]
والجواز كانوا كلّهم قد أحسن فيما أخذ به لتساوي الأمرين في ذلك كله في القياس. ولم يكن في دخول الواو عليها معنى يوجب التشديد. كما لم يكن في انتفاء دخولها عليها معنى يوجب التخفيف). [الحجة للقراء السبعة: 2/180]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن وابن عباس والضحاك بن مزاحم وعبد الرحمن بن أَبزَى: [وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلِكَيْنِ] بكسر اللام.
قيل: أراد [بالملِكين] داود وسليمان عليهما السلام.
قال أبو الفتح: إن قيل: كيف أطلق الله سبحانه على داود وسليمان اسم الملِك؛ وإنما هما عبدان له تعالى كسائر عبيده من الأنبياء وغيرهم؟
[المحتسب: 1/100]
قيل: جاز ذلك لأنه أَطلق عليهما اللفظ الذي يُعتاد حينئذ فيهما، ويطلقه الناس عليهما، فخوطب الإنسان على ذلك باللفظ الذي يعتاده أهل الوقت إذ ذاك، ونظيره قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}؛ وإنما هو في النار الذليل المهان؛ لكنه خوطب بما يخاطب به في الدنيا، وفيه مع هذا ضرب من التبكيت له، والإذكار بسوء أفعاله، وقد مضى نحو هذا). [المحتسب: 1/101]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن وقتادة: [بَيْنَ الْمَرِ وَزَوْجِهِ] بفتح الميم وكسر الراء خفيفة من غير همز.
وقراءة الزهري: [الْمَرِّ] بفتح الميم وتشديد الراء.
وقراءة ابن أبي إسحاق: [الْمُرْء] بضم الميم وسكون الراء والهمز.
وقراءة الأشهب: [الْمِرْء] بكسر الميم والهمز.
قال أبو الفتح: أما قراءة الحسن وقتادة: [بينَ الْمَرِ] بفتح الميم وخفة الراء من غير همز فواضح الطريق؛ وذلك أنه على التخفيف القياسي؛ كقولك في الخبء: هذا الْخَبُ، ورأيت الْخَبَ، ومررت بالْخَبِ، تخذف الهمزة وتلقى حركتها على الباء قبلها. وتقول في الجزء: هذا الْجُزُ، ورأيت الْجُزَ، ومررت بالْجُزِ، وعليه القراءة: [الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ].
وأما قراءة الزهري: [الْمَرِّ] بتشديد الراء فقياسه: أن يكون أراد تخفيف المرء على قراءة الحسن وقتادة، إلا أنه نوى الوقف بعد التخفيف؛ فصار [الْمَر] ثم ثقل للوقوف على قول من قال: هذه خالدّ، وهو يجعلّ، ومررت بفرجّ، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف فأقر التثقيل بحاله، كما جاء عنهم قوله:
[المحتسب: 1/101]
بِبازلٍ وجناء أو عَيْهَلِّ ... كأن مهواها على الكَلْكَلِّ
يريد: العيهل والكلكل، وكبيت الكتاب:
ضخما يحب الخُلق الأضخمَّا
فيمن فتح الهمزة، يريد: الأضخم، فثقل ثم أطلق.
وفي هذا شذوذان؛ أحدهما: التثقيل في الوقف، والآخر: إجراء الوصل مجرى الوقف؛ لأنه من باب ضرورة الشعر.
وأما قراءة ابن أبي إسحاق: الْمُرْء بضم الميم والهمز فلغة فيه، وكذلك من قرأ: الْمِرء بكسر الميم، ومنهم من يضم الميم في الرفع ويفتحها في النصب ويكسرها في الجر فيقول: هذا الْمُرء، ورأيت الْمَرء، ومررت بالْمِرء؛ وسبب صنعة هذه اللغة: أنه قد أُلِف الإتباع في هذا الاسم في نحو قولك: هذا امرؤٌ، ورأيت امرأً، ومررت بامرئٍ، فيتُبع حركة الراء حركة الهمزة، فلما أن تحركت الميم وسكنت الراء لم يمكن الإتباع في الساكن فنُقل الإتباع من الراء إلى الميم؛ لأنها متحركة، فجرى على الميم لمجاورتها الراء ما كان يجري على الراء، كما يقول ناس في الوقف: هذا بكُر، ومررت ببكِر؛ لما جفا عليهم اجتماع الساكنين في الوقف وشحوا على حركة الإعراب أن يستهلكها الوقوف عليها نقلوها إلى الكاف، وكما قال من قال في صُوَّم: صُيَّم، وفي قُوَّم:
[المحتسب: 1/102]
قُيَّم، لما جاورت العين اللام أجراها في الاعتلال مجرى عات وعُتي وجاث وجُثي، وقد ذكرنا في تفسير ديوان المتنبي ما في هذا الحرف؛ أعني: المرء والمرأة من اللغات). [المحتسب: 1/103]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الأعمش: [وَمَا هُمْ بِضَارِّي بِهِ مِنْ أَحَدٍ].
قال أبو الفتح: هذا من أبعد الشاذ؛ أعني: حذف النون هاهنا، وأمثل ما يقال فيه: أن يكون أراد: وما هم بضارِّي أحدٍ، ثم فصَل بين المضاف والمضاف إليه بحرف الجر.
وفيه شيء آخر وهو أن هناك أيضًا "مِن" في من أحد، غير أنه أجرى الجار مجرى جزء من المجرور؛ فكأنه قال: وما هم بضاري به أحد، وفيه ما ذكرنا). [المحتسب: 1/103]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وما كفر سليمان ولكن الشّياطين كفروا}
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ {ولكن} خفيفة {الشّياطين} رفع وكذلك {ولكن الله قتلهم} {ولكن الله رمى} وحجتهم أن العرب تجعل إعراب ما بعد لكن كإعراب ما قبلها في الجحد فتقول ما قام عمرو ولكن أخوك وتصير لكن نسقا إذا كان ما قبلها جحد
وقرأ الباقون {ولكن} بالتّشديد {الشّياطين} نصب وحجتهم في ذلك أن دخول الواو في {ولكن} يؤذن باستئناف الخبر بعدها وأن العرب تؤثر تشديدها ونصب الأسماء بعدها وفي التّنزيل {ولكن الظّالمين بآيات الله يجحدون}
[حجة القراءات: 108]
{ولكن أكثرهم لا يعلمون} {ولكن أكثركم للحق كارهون} أنّها بالتّشديد للواو الّتي في أولها ثمّ أجمعوا على تخفيف لكن الراسخون و{لكن الله يشهد} لما لم يكن في أولها واو
أعلم أن لكن كله تحقيق ولكن بالتّخفيف كلمة استدراك بعد نفي تقول ما جاء عمرو ولكن زيد خرج). [حجة القراءات: 109]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (58- قوله: {ولكن الشياطين} ونظائره، قرأ نافع وابن عامر: {ولكن البر} في الموضعين في هذه السورة بكسر النون، ورفع «البر» مخففًا، وقرأ الباقون بتشديد النون ونصب «البر» وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر: {ولكن الشياطين}، و{لكن الله قتلهم}، و{لكن الله رمى} في الأنفال «17» بتخفيف النون وكسرها ورفع ما بعدها، وقرأ حمزة والكسائي: {ولكن الناس} في يونس «44» بتخفيف النون وكسرها، ورفع «الناس» وقرأ الباقون بتشديد النون في الأربعة وفتحها، ونصب ما بعدها.
59- وحجة من خفف النون، ورفع ما بعد «لكن»، أن «لكن» حرف إذا شددت نونه كانت من أخوات «إن» تنصب الاسم وترفع الخبر، إذا كان «هو» الاسم وإذا خففت نونه كان حرف عطف، لا عمل له، وربما أتى خفيفًا كأن يرتفع ما بعده بالابتداء والخبر، ويجوز أن تعمل «أن» مخففة، كما يعمل الفعل محذوفًا نحو: لم يك زيد قائمًا، ولا يحسن أن تعمل «لكن» مخففة لاختلاف مواقعها، إذ لم تلزم موضعا واحدًا، بل تكون عاطفة، وتكون للاستدراك، مخففة ومشددة، وتعمل عمل «إن» إذا شددت، فلما لم تلزم ولم تعمل مخففة رجع الكلام بعدها إلى أصله، وهو الابتداء والخبر، لأن «إن» وأخواتها إنما يدخلن على الابتداء والخبر، وأيضًا فإنها لما غيرت بالتخفيف، وكانت تُحدث في الكلام معنى الاستدراك فارقت «أن» الخفيفة
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/256]
لأنها لا تحدث في الكلام معنى غير التأكيد، فلم تعمل عمل «أن» الخفيفة.
60- وحجة من شدد النون ونصب بها ما بعد «لكن» أنه أجرى الكلام على أصله، فأعمل «لكن» لأنها من أخوات «إن» فشددها على أصلها، وحاول في ذلك معنى التأكيد، الذي فيه معنى الاستدراك). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/257]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (38- {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [آية/ 102]:-
بتشديد {لكِنّ} ونصب ما بعده، وكذلك {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ} {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} {وَلَكِنَّ الله قَتَلَهُمْ} {وَلَكِنَّ الله رَمَى} جميعًا في الأنفال {وَلَكِنَّ النَّاسَ} في يونس، قرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب في الستة جميعًا، ونافع أيضًا إلا في حرفين بالتخفيف والرفع فيما بعده «البر» و«البر» وحمزة والكسائي بتشديد هذين الحرفين وتخفيف البواقي بخلاف نافع، وابن عامر بتشديد ما في يونس وتخفيف البواقي.
ووجه قراءة هؤلاء في تشديد {لكِنَّ} ونصب الاسم الذي بعده، هو أن {لكِنَّ} من أخوات إن، فهي تنصب الاسم وترفع الخبر لشبهها بالفعل بانفتاح آخرها كما ينفتح آخر الفعل الماضي، فلذلك عملت إن وأخواتها في المبتدأ والخبر، فنصبت المبتدأ على أنه اسمها ورفعت الخبر على أنه خبرها
[الموضح: 293]
على العكس من باب كان، فقوله {الشَيَاطين} نصب؛ لأنه اسم {لكِنّ}، وقوله {كَفَرُوا} في موضع رفعٍ، لأنه خبرها.
وأما قراءة من قرأ بتخفيف {لكِنْ} ورفع الاسم بعده، فوجهها أن {لكِنْ} مخففة من {لكِنّ} المشددة، ولما خففت زال شبه الفعل عنها بسكون آخرها فبطل عملها الذي استحقته بمشابهة الفعل وصار ما بعدها مرفوعًا بالابتداء، وقد يجوز في إن الذي هو الأصل في الباب الإعمال بعد التخفيف، ولا يجوز ذلك في {لكِنْ} تنبيهًا على أن الأصل في هذه الحروف ترك الإعمال بعد التخفيف، وإنما خفف من خفف البعض، وشدد البعض أخذًا باللغتين). [الموضح: 294]
قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة قتادة وابن بُريدة وأبي السمال: [لَمثْوَبَةٌ].
قال أبو الفتح: قد ذكرنا شذوذ صحتها عن القياس فيما مضى). [المحتسب: 1/103]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107286#post107286)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:12 PM
سورة البقرة
[من الآية (104) إلى الآية (105) ]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)}
قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107289#post107289)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:13 PM
سورة البقرة
[من الآية (106) إلى الآية (110) ]
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) }
قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله - عزّ وجلّ -: (ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها... (106).
بضم النون وكسر السين ابن عامر.
(أو ننسها... (106).
بالفتح والهمز ابن كثير وأبو عمرو). [معاني القراءات وعللها: 1/169]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في فتح النون وضمّها وفتح السين وكسرها من قوله جلّ وعزّ: ما ننسخ من آيةٍ [البقرة/ 106].
فقرأ ابن عامر وحده: (ما ننسخ) بضم النون الأولى وكسر السين.
وقرأ الباقون: (ما (ننسخ) بفتح النون الأولى والسين مفتوحة.
قال أبو علي: النسخ في التنزيل: رفع الآية وتبديلها.
ورفعها على ضروب: منها أن ترفع تلاوتها. وحكمها، كنحو ما روي عن أبي بكر الصديق أنّه قال: كنا نقرأ: «لا ترغبوا عن آبائكم إنّه كفر» ومنها أن تثبت الآية في الخطّ ويرتفع حكمها كقوله: وإن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إلى الكفّار فعاقبتم فآتوا الّذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا [الممتحنة/ 11]. فهذه ثابتة اللفظ في الخطّ مرتفعة الحكم.
ونسخ حكمها يكون على ضربين: بسنّة أو بقرآن، مثل الآية المنسوخة. فممّا نسخ بالسنّة الآية التي تلوناها- ومنه قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/180]
يا أيّها الّذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهنّ، اللّه أعلم بإيمانهنّ [الممتحنة/ 10].
وأمّا المنسوخ بقرآن مثله؛ فقوله في الأنفال: إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائةٌ يغلبوا ألفاً [الأنفال/ 65]. فنسخ بقوله: الآن خفّف اللّه عنكم وعلم أنّ فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائةٌ صابرةٌ يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألفٌ يغلبوا ألفين [الأنفال/ 66] وقوله:
والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراجٍ [البقرة/ 240] فهذا نسخ بقوله:
والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهرٍ وعشراً [البقرة/ 234]. ومنها ما يرتفع اللفظ من التنزيل ويثبت الحكم، كالحكم برجم الثيّبين، وما روي عن عمر من أنّه قال: لا تهلكوا عن آية الرّجم، فإنّا كنا نقرأ:
(الشيخ والشيخة فارجموهما).
ومما جاء في التنزيل من ذكر النّسخ قوله: وما أرسلنا من قبلك من رسولٍ ولا نبيٍّ إلّا إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته، فينسخ اللّه ما يلقي الشّيطان ثمّ يحكم اللّه آياته [الحج/ 52].
[الحجة للقراء السبعة: 2/181]
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم. قرأ سورة النجم فأتى على قوله:
أفرأيتم اللّات والعزّى، ومناة الثّالثة الأخرى [الآية/ 19] وصل به: (تلك الغرانقة الأولى. وإن شفاعتهن لترتجى) فسّر المشركون بذلك وقالوا: قد أثنى على آلهتنا. فهذا حديث مرويّ من أخبار الآحاد التي لا توجب العلم. وذهب عامة أهل النظر فيما علمت إلى إبطاله وردّه، وأنّ ذلك لا يجوز على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على وجه ما رووا، ولو صحّ الحديث وثبت لم يكن في هذا الكلام ثناء على آلهة المشركين، ولا مدح لها. ولكن يكون التقدير فيه: تلك الغرانقة الأولى. وإنّ شفاعتهنّ لترتجى عندكم، لا أنها في الحقيقة كذلك كما قال: ذق إنّك أنت العزيز الكريم [الدخان/ 49] أي: العزيز الكريم عند نفسك. وكما حكي عن من آمن من السحرة سحرة فرعون: وقالوا يا أيّها السّاحر ادع لنا ربّك [الزخرف/ 49]، ومن آمن من السحرة وصدّق موسى. لا يعتقدون فيه أنه ساحر وإنما التقدير: قالوا يا أيها
[الحجة للقراء السبعة: 2/182]
الساحر فيما يذهب إليه فرعون وقومه أو فيما يظهرون من ذلك، وكما قال: وردّ اللّه الّذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً [الأحزاب/ 25] فسمّي ما كان يناله المشركون من المسلمين- لو نالوا- خيرا على ما كان عندهم، وكما قال وقالوا يا أيّها الّذي نزّل عليه الذّكر إنّك لمجنونٌ [الحجر/ 6] فهذا على: يا أيّها الذي نزّل عليه الذّكر عنده وعند من تبعه، ولو اعترفوا بتنزيل الذّكر عليه لم يقولوا ما قالوه، وقال زهرة اليمن:
أبلغ كليبا وأبلغ عنك شاعرها... أنّي الأغرّ وأنّي زهرة اليمن
فأجابه جرير:
ألم تكن في وسوم قد وسمت بها... من حان- موعظة يا زهرة اليمن
وهذا النحو في الكلام الذي يطلق، والمراد به التقييد على صفة واسع غير ضيّق. فعلى هذا كان يكون تأويل هذا الكلام لو صحّ [أو سلم] لراويه، وإن لم يصحّ فالمعنى في قوله: (فينسخ اللّه ما يلقي الشّيطان) أي: يرفعه ويبيّن إبطاله
[الحجة للقراء السبعة: 2/183]
بالحجج الظاهرة. وقد يجوز أن يكون: ألقى الشّيطان في أمنيّته أي: في حال تلاوته، ولا دلالة على أنّ إلقاء ذلك في حال التلاوة، إنما هو من التالي. لكن ممّن يريد التلبيس من شياطين الإنس، فيبيّن الله ذلك، ويظهره عند من نظر واعتبر، ثم يحكم الله آياته عن أن يجوز فيها ما لا يجوز في دينه من تمويه المموّهين، وتلبيس الملبسين، ومن ذلك قوله: هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقّ، إنّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون [الجاثية/ 29] فقوله: (نستنسخ) يجوز أن يكون ننسخ كقوله:
وإذا رأوا آيةً يستسخرون [الصافات/ 14] أي يسخرون، ويجوز أن يكون يستدعي ذلك، واستدعاء ذلك إنّما هو بأمر الملائكة بكتابته وحفظه ليحتجّ عليهم بأعمالهم كقوله: بلى ورسلنا لديهم يكتبون [الزخرف/ 80] وقوله: ما يلفظ من قولٍ إلّا لديه رقيبٌ عتيدٌ [ق/ 18] وإنّ عليكم لحافظين، كراماً كاتبين، يعلمون ما تفعلون [الانفطار/ 10] وقوله: هنالك تبلوا كلّ نفسٍ ما أسلفت [يونس/ 30] وكقوله: اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً [الإسراء/ 14] وكقوله تعالى: فأولئك يقرؤن كتابهم [الإسراء/ 71] ونحو ذلك من الآي التي تدلّ على أنّ أعمال العباد مكتوبة محصاة.
فأمّا قراءة ابن عامر ما ننسخ من آيةٍ بضمّ النون، فالقول فيها: أنها لا تخلو من ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون أفعل لغة في هذا الحرف كقولهم: حلّ من إحرامه، وأحلّ.
وقولهم: بدأ الخلق وأبدأهم. أو تكون الهمزة للنقل كقولك: قام
[الحجة للقراء السبعة: 2/184]
وأقمته، وضرب وأضربته، ونسخ الكتاب وأنسخته الكتاب. أو يكون المعنى في أنسخت الآية: وجدتها منسوخة، كقولهم:
أحمدت زيدا وأجبنته وأبخلته، أي: أصبته على بعض هذه الأحوال. فلا يجوز أن يكون لغة على حدّ حلّ وأحلّ، وبدأ وأبدأ لأنّا لم نعلم أحدا حكى ذلك، ولا رواه عن أحد، ولا تكون الهمزة لمعنى النقل، لأنّك لو جعلته كذلك، وقدّرت المفعول محذوفا من اللّفظ مرادا في المعنى كقولك: «ما أعطيت من درهم فلن يضيع عندك» لكان المعنى: ما ننزّل عليك من آية أو ننسها نأت بخير منها. وذلك أن إنساخه إياها إنما هو إنزال في المعنى، ويكون معنى الإنساخ: أنه منسوخ من اللوح المحفوظ أو من الذّكر،
وهو الكتاب الذي نسخت الكتب المنزلة منه. وإذا كان كذلك فالمعنى: ما ننزل من آية، أو: ما ننسخك من آية، أو ننسها، لأنّ ابن عامر يقرأ:
أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها [البقرة/ 106] وليس هذا المراد ولا المعنى، ألا ترى أنه ليس كلّ آية أنزلت أتي بآية أذهب منها في المصلحة. وإنما قوله: نأت بخيرٍ منها تقديره نأت بخير من المنسوخ، أي أصلح لكم أيها المتعبّدون. وأقلّ الآي هي المنسوخة وأكثرها غير منسوخ، فإذا كان تأويلها هذا التأويل يؤدي إلى الفساد في المعنى، والخروج عن الغرض الذي قصد به الخطاب؛ علمت أنّ توجيه التأويل إليه لا يصحّ، وإذا لم يصحّ ذلك، ولا الوجه الذي ذكرناه قبله، ثبت أن وجه قراءته إنما هو على القسم الثالث وهو: أنّ قوله
[الحجة للقراء السبعة: 2/185]
ننسخ: نجده منسوخا، وإنما نجده كذلك لنسخه إياه، فإذا كان كذلك كان قوله: ننسخ بضم النون، كقراءة من قرأ ننسخ بفتح النون، يتفقان في المعنى وإن اختلفا في اللفظ.
وقول من فتح النون فقرأ: ما ننسخ من آيةٍ أبين وأوضح.
اختلفوا في ضمّ النون الأولى وترك الهمزة وفتح النون مع الهمز في قوله: ننسأها [البقرة/ 106].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ننسأها: بفتح النون الأولى مع الهمز، وقرأ الباقون: ننسها بضم النون الأولى وترك الهمز.
قال أبو علي: أما قراءة ابن كثير وأبي عمرو: ننسأها بفتح النون وهمز لام الفعل. ففسّر على التأخير، أي:
نؤخرها.
وقال: بعض من لا [ينبغي أن] يعبأ بقوله: إن التأخير هنا لا معنى له. وقد قرأ بذلك من السّلف فيما ذكر، عمر وابن عباس، ومن التابعين إبراهيم وعطاء، وقرأ به عبيد بن عمير.
وروى ابن جريج عن مجاهد ما ننسخ من آيةٍ قال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/186]
«نمحاها أو ننسأها» قال: نثبت خطّها ونبدل حكمها.
وقال أبو زيد: نسأت الإبل عن الحوض، فأنا انسؤها نس ءا: إذا أخّرتها عنه. ونسأت الإبل، فأنا أنسؤها نس ءا. إذا زدتها في ظمئها يوما أو يومين أو أكثر من ذلك، وتقول:
انتسأت عنك انتساء. إذا تباعدت عنه، وأنسأته الدّين إنساء:
إذا أخّرته عنه واسم ذلك النّسيئة.
فأما معنى التأخير في قوله: ننسأها فقال ناس من أهل النظر فيه: إنّ التأخير في الآية يتوجّه على ثلاثة أنحاء منها: أن يؤخّر التنزيل فلا ينزل البتّة، ولا يعلم ولا يعمل به، ولا يتلى. فالمعنى على هذا: ما ننسخ من آية أو ننسأها أي: نؤخّر إنزالها، فلا ننزلها.
والوجه الثاني: أن ينزل القرآن فيعمل به ويتلى ثم يؤخّر بعد ذلك بأن ينسخ فترفع تلاوته البتة، ويمحى فلا يتلى ولا يعمل بتأويله وذلك مثل ما روى يونس عن الحسن أنّ أبا بكر الصديق قال: كنا نقرأ: لا ترغبوا عن آبائكم إنه كفر. ومثل ما روي عن زرّ بن حبيش أنّ أبيّا قال له: كم تقرءون الأحزاب؟ قلت: بضعا وسبعين آية. قال: قد قرأتها ونحن مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أطول من سورة البقرة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/187]
والوجه الثالث: أن يؤخّر العمل بالتأويل لأنه نسخ ويترك خطّه مثبتا وتلاوته قرآن يتلى، وهو ما حكي عن مجاهد أنّه قال: يثبت خطّها ويبدل حكمها. وهذا نحو قوله: وإن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إلى الكفّار فعاقبتم، فآتوا الّذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا [الممتحنة/ 11] فهذا مثبت اللفظ مرفوع الحكم.
وأما من قرأ ننسها من النسيان فإنّ لفظ (نسي) المنقول منه أنسي على ضربين: أحدهما أن يكون بمعنى الترك، والآخر: النسيان الذي هو مقابل الذكر، فمن الترك قوله:
نسوا اللّه فنسيهم [التوبة/ 67] أي: تركوا طاعة الله فترك رحمتهم، أو ترك تخليصهم. وإضافة الترك إلى القديم سبحانه في نحو هذا اتساع. كقوله: وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون [البقرة/ 17] وتركنا بعضهم يومئذٍ يموج في بعضٍ [الكهف/ 99] أي: خلّيناهم وذاك.
وقال جويبر عن الضحّاك في قوله: اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [الجاثية/ 34] قال: اليوم نترككم في النار كما تركتم أمري.
فأمّا قوله: ربّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [البقرة/ 286] فقوله نسينا يحتمل الوجهين: يجوز أن يكون من النسيان الذي هو خلاف الذكر، والخطأ: من الإخطاء الذي
[الحجة للقراء السبعة: 2/188]
ليس التعمّد، ومجاز ذلك على أنهم تعبّدوا بأن يدعوا على أن لا يؤاخذوا بذلك، وإن كانوا قد علموا أن القديم سبحانه لا يؤاخذ بهما.
وقد جاء في الحديث المأثور: «رفع عن أمتي الخطأ والنّسيان وما أكرهوا عليه»
كما جاء في الدعاء قال ربّ احكم بالحقّ [الأنبياء/ 112] وهو سبحانه لا يحكم إلا بالحقّ، وكما قال: ربّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك [آل عمران/ 194] وما وعدهم الله به على ألسنة الرّسل يؤتيهم الله إياه، وكذلك تعبّد الله الملائكة بالدّعاء بما يفعله الله لا محالة فقال: يسبّحون بحمد ربّهم ويؤمنون به، ويستغفرون للّذين آمنوا، ربّنا وسعت كلّ شيءٍ رحمةً وعلماً، فاغفر للّذين تابوا واتّبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم إلى قوله: وقهم السّيّئات [غافر/ 9]. وعلى هذا يمكن أن يكون قوله: ربّنا ولا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به [البقرة/ 286] الاستطاعة ويكون على قوله لا تحمّلنا ما يثقل علينا ويشقّ وإن كنّا مستطيعين له.
ويجوز أن يكون إن نسينا على: إن تركنا شيئا من اللازم لنا.
ومن التّرك قوله: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي [طه/ 115] أي ترك ما عهدنا إليه. ومنه قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/189]
ولا تكونوا كالّذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم [الحشر/ 19] أي: كالذين تركوا طاعة الله وأمره، فأنساهم أنفسهم، أي: لم يلطف لهم كما يلطف للمؤمنين في تخليصهم أنفسهم من عقاب الله، والتقدير: ولا تكونوا كالذين نسوا أمر الله أو طاعته، فأنساهم تخليص أنفسهم من عذاب الله وجاز أن ينسب الإنساء إليه. وإن كانوا هم الفاعلون له والمذمومون عليه، كما قال:
وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17]، فأضاف الرمي إلى الله سبحانه لما كان بقوته، وإقداره، فكذلك نسب الإنساء إليه، لمّا لم يلطف لهذا المنسى كما لطف للمؤمن الذي قد هدي، وكذلك قوله: وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [الجاثية/ 34] أي:
نسيناكم كما نسيتم الاستعداد للقاء يومكم هذا، والعمل في التخلص من عقابه. وأما قوله: واذكر ربّك إذا نسيت [الكهف/ 24] فعلى معنى التّرك، لأنه إذا كان المقابل للذكر لم يكن مؤاخذا. ومما هو خلاف الذكر، قوله: في كتابٍ لا يضلّ ربّي ولا ينسى [طه/ 52] فقوله: لا يضلّ ربّي هو في تقدير حذف الضمير العائد إلى الموصوف. وقال: فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسي [طه/ 88] ففي قوله: نسي، ضمير السامري، أي: ترك التوحيد باتخاذه العجل.
[الحجة للقراء السبعة: 2/190]
وقال بعض المفسرين: نسي موسى ربّه عندنا، وذهب يطلبه في مكان آخر. وأما قوله: اذكرني عند ربّك فأنساه الشّيطان ذكر ربّه [يوسف/ 42] فإن إنساء الشيطان هو أن يسوّل له، ويزيّن الأسباب التي ينسى معها. وكذلك قوله:
فإنّي نسيت الحوت وما أنسانيه إلّا الشّيطان أن أذكره [الكهف/ 63] يجوز أن يكون الضمير في أنساه ليوسف أي أنسى يوسف ذكر ربه كما قال: وإمّا ينسينّك الشّيطان فلا تقعد بعد الذّكرى [الأنعام/ 68].
ويجوز أن يكون الضمير في أنساه للذي ظنّ أنه ناج، ويكون ربّه ملكه. وفي الوجه الأول يكون ربّه الله سبحانه، كأنه أنساه الشيطان أن يلجأ إلى الله في شدته. وأما قوله:
فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون [الأنعام/ 41] فالتقدير: تنسون دعاء ما تشركون فحذف المضاف، أي: تتركون دعاءه، والفزع إليه، إنما تفزعون إلى الله سبحانه، ويكون من النسيان الذي هو خلاف الذكر كقوله: وإذا مسّكم الضّرّ في البحر ضلّ من تدعون إلّا إيّاه [الإسراء/ 67] أي تذهلون عنه فلا تذكرونه.
وقال: فاتّخذتموهم سخريًّا حتّى أنسوكم ذكري [المؤمنون/ 110]. فهذا يجوز أن يكون منقولا من الذي بمعنى الترك، ويمكن أن يكون من الذي هو خلاف الذكر،
[الحجة للقراء السبعة: 2/191]
واللفظ على أنهم فعلوا بكم النسيان، والمعنى: أنكم أنتم أيها المتخذون عبادي سخريّا نسيتم ذكري باشتغالكم باتخاذكم إياهم سخريا وبالضحك منهم، أي: تركتموه من أجل ذلك، وإن كانوا ذاكرين وغير ناسين، فنسب الإنساء إلى عباده الصالحين وإن كانوا لم يفعلوه لمّا كانوا كالسبب لإنسائهم، فهذا كقوله: ربّ إنّهنّ أضللن كثيراً من النّاس [إبراهيم/ 36] وعلى هذا قوله: فأنساهم أنفسهم [الحشر/ 19] فأسند النسيان إليه، والمعنى على أنهم نسوا ذلك.
فأمّا قوله: ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها [البقرة/ 106] فمنقول من نسيت الشيء: إذا لم تذكره، قال الفراء: والنسيان هنا على وجهين:
أحدهما: على الترك، نتركها ولا ننسخها.
والوجه الآخر: من النسيان كما قال: واذكر ربّك إذا نسيت [الكهف/ 24].
قال أبو علي: قول الفراء نتركها ولا ننسخها، لا يستقيم هنا، وإنما هو من النسيان الذي ينافي الذكر، ألا ترى أنه قد قال:
نأت بخيرٍ منها أو مثلها [البقرة/ 106] وليس كل ما أخّرت من الآي فلم تنسخ ولم يبدل حكمها يؤتى بخير من المنسوخة بآية أو المنسأة، وليس المعنى: ما ننسخ من آية أو نقرّها فلا ننسخها نأت بخير منها، إنما المعنى: أنّا إذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/192]
رفعناها من جهة النسخ بآية، أو الإنساء؛ أتينا بخير من التي ترفع وتبدل على أحد هذين الوجهين، ومعنى نأت بخير منها:
أنه أصلح لمن تعبّد بها، وليس المعنى في قوله: نأت بخير منها، أن الناسخة خير من المنسوخة أو المنساة، أي: أفضل منها، ولكن أصلح لمن تعبّد بها وأدعى لهم.
وقال أبو إسحاق: قال أهل اللغة في معنى: أو ننسها قولين: قال بعضهم: أو ننسها من النسيان، قال: وقالوا:
ودليلنا على ذلك قوله: سنقرئك فلا تنسى، إلّا ما شاء اللّه [الأعلى/ 6] فقد أعلم أنّه شاء أن ينسى، قال: وهذا القول عندي ليس بجائز، لأن الله قد أنبأ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك [الإسراء/ 86] أنه لا يشاء أن يذهب بما أوحى إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قال أبو علي: هذا الذي احتجّ به على من ذهب إلى أنّ ننسها من النسيان، لا يدل على فساد ما ذهبوا إليه من أن ذلك من النسيان، وذلك أن قوله: ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك [الإسراء/ 86] إنما هو على ما لا يجوز عليه النسخ والتبديل من الأخبار وأقاصيص الأمم، ونحو ذلك مما لا يجوز عليه التبديل. والذي ينساه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هو ما يجوز أن ينسخ من الأوامر والنواهي الموقوفة على المصلحة في الأوقات التي يكون ذلك فيها أصلح.
[الحجة للقراء السبعة: 2/193]
ويدلك على أن ننسها من النسيان الذي هو خلاف الذكر من قولك: نسيت الشيء وأنسانيه غيري، قراءة من قرأ: ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها. وقراءة من قرأ: أو ننسكها.
فأمّا قوله: تنسها فقراءة سعد بن أبي وقاص. روى هشيم قال: أخبرني يعلى بن عطاء عن القاسم بن ربيعة بن قائف الثقفي قال: سمعت سعد بن أبي وقاص يقرؤها: ما ننسخ من آية أو تنسها. قال: فقلت له: إنّ سعيد بن المسيب يقرأ: أو تنسها أو: ننساها قال: إنّ القرآن لم ينزل على آل المسيّب، قال الله لنبيه: سنقرئك فلا تنسى [الأعلى/ 6] واذكر ربّك إذا نسيت [الكهف/ 24]. وقرأ أيضاً تنسها أوّلها تاء مفتوحة من النسيان: سعد بن مالك، حكاها أبو حاتم.
[الحجة للقراء السبعة: 2/194]
وأما ننسكها فإنّ الكسائيّ قال: رأيت في مصاحف على قراءة سالم مولى أبي حذيفة: ما ننسخ من آية أو ننسكها النون الأولى مضمومة والثانية ساكنة.
قال أبو علي: فالمفعول المراد المحذوف في قراءة من قرأ أو ننسها مظهر في قراءة من قرأ: ننسكها ويؤكد ذلك ويبيّنه قراءة من قرأ: أو تنسها.
قال أبو عبيد: حدثنا محمد بن الحسن عن قرة بن خالد، عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأها: تنسها. ألا ترى أن الفعل يتعدّى إلى مفعولين، فلما بني الفعل للمفعول قام أحدهما مقام الفاعل، فبقي الفعل متعديا إلى مفعول واحد. ويؤكد ذلك أيضا، ما روي من قراءة ابن مسعود: ما ننسك من آية أو ننسخها. وبقراءة ابن مسعود، قرأ الأعمش، وروى عبد الله بن كثير عن مجاهد، قال: قراءة أبيّ: ما ننسخ من آية أو ننسك.
فهذا كله يثبت قول من جعل ننسها على أنه من النسيان، وليس ذلك مما أريد بقوله: ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك [الإسراء/ 86] لأن ذلك إنما هو فيما لا يجوز عليه النسخ. فأما ما يجوز عليه النسخ والرفع فقد يجوز أن يرفع بالنسيان كما يرفع بالنسخ، وذلك أنه يرفع من التلاوة والخط فينسى، وليس ذلك على وجه سلب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، شيئاً
[الحجة للقراء السبعة: 2/195]
أوتيه من الحكمة، كما أنّ نسخ ما نسخ بآية أو بسنّة لا يكون سلبا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم شيئاً أوتيه من الحكمة.
ومما يؤكد ذلك أن سعيداً روى عن قتادة أنه قال:
كانت الآية تنسخ بالآية وينسي الله نبيّه من ذلك ما يشاء. وقد قدمنا أن ننسها لا يجوز أن يكون منقولًا من نسي الذي معناه ترك.
وقول أبي إسحاق وفي قوله: فلا تنسى إلّا ما شاء اللّه [الأعلى/ 6، 7] قولان يبطلان هذا القول الذي حكيناه عن بعض أهل اللغة، أحدهما: فلا تنسى، أي: فلست تترك، إلا ما شاء الله أن تترك. ويجوز أن يكون إلّا ما شاء اللّه أن يلحق بالبشريّة ثم يذكر بعد.
قال أبو علي: فالقول فيه أن قوله: سنقرئك فلا تنسى إن حمل فيه لا تنسى على النسيان الذي يقابل الذكر أشبه من أن يحمل على ما يراد به الترك، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا نزل عليه القرآن أسرع القراءة وأكثرها، مخافة النسيان فقال:
سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله أن تنساه، لرفعه ذلك بالنسيان، كرفعه إياه بالنسخ بآية أو سنّة. ويؤكد ذلك قوله:
لا تحرّك به لسانك لتعجل به، إنّ علينا جمعه وقرآنه، فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه [القيامة/ 16 - 17] وقوله: ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه [طه/ 114] فحمل قوله: فلا
[الحجة للقراء السبعة: 2/196]
تنسى على الترك، إذا كان يسلك به هذا المسلك- ليس بالوجه. فإن قال: أحمله على الترك دون النسيان. قيل: فإن للذي أنكرت قوله- في أنه من النسيان، وقلت إن قوله: لا يجوز، لقوله: ولئن شئنا لنذهبنّ بالّذي أوحينا إليك [الإسراء/ 86] وأنه لا يجوز أن يذهب بما أوحي إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم- أن يقول: ولا يجوز له أن يترك شيئا مما أوحى إليه، كما قلت أنت: لا يجوز أن ينسى شيئاً مما يوحى إليه.
فإن جاز أن يترك منه شيئاً؛ جاز أن ينسى منه شيئاً. ولا يكون نسيانه له على وجه الرّفع منكراً، كما لم يكن تركه إذا شاء الله تركه منكراً. فإذا كان الأمر على هذا، فقد صار هو أيضاً إلى مثل ما أنكره من قول من أنكر قوله.
فأمّا قوله: ويجوز أن يكون ما شاء الله مما يلحق بالبشريّة ثم يذكر بعد، فإنّ هذا الضرب من النسيان، وإن كان جائزاً على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم- لما
روي من أنه قام في الثانية، فسبّح به فلم يرجع، وسجد للسهو.
ونحو ما روي من حديث ذي اليدين ونحو ما
روي من أنه صلى فنسي آية، فلما فرغ من صلاته، قال: «أفي القوم أبيّ؟ قيل: نعم يا رسول الله، أنسخت آية كذا أم نسيتها؟ فضحك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/197]
نسيتها».
من حديث عبد الرحمن بن أبزى -.
فليس المراد في هذا الموضع، لأنه في حكم الذكر من حيث كان المأثم فيه موضوعا، وإنما المراد به النسيان الذي هو رفع من التلاوة والخط، وعلى هذا استدلّ به سعد بن أبي وقاص، وعليه حمل ناس من أهل النظر فهذا أولى، وإن كان ما ذهب إليه أبو إسحاق غير ممتنع في غير هذا الموضع.
قال أبو إسحاق: وقالوا في: ننسها قولًا آخر، وهو خطأ. قالوا: أو نتركها، وهذا إنما يقال فيه: نسيت إذا تركت، ولا يقال: أنسيت تركت، وإنما معنى أو ننسها أي:
أو نتركها. أي: نأمركم بتركها.
والقول في ذلك: أنّ من فسر أنسيت بتركت، لا يكون مخطئاً، وذلك أنك إذا قلت: أنساني الشيطان ذكر كذا، فإنه إذا أنساك نسيت، وإذا قال: أضربت زيداً عمراً، فكأن المعنى: جعلت زيداً يضرب عمراً، فزيد يضرب إذا أضربته، كما ينسى إذا أنسيته، فإذا عبّر عن ذلك بما يوجبه فعله لم يكن خطأ، وإن كان إذا عبر عن تنسي بيترك، كان أشدّ موافقة له في اللفظ، ومطابقة فيما تريد من المعنى. ويدلّك على أن ذلك ليس بخطإ، أن المفعول الأول من الفعل المتعدي إلى
[الحجة للقراء السبعة: 2/198]
مفعول واحد، إذا نقل بالهمزة فاعل المفعول الثاني، فإذا عبّرت عنه بنسيت، فقد جئت بشيء دلّ كلامك عليه، كما أنك إذا عبّرت عنه على التحقيق فقد أتيت بما دلّ كلامك عليه.
فإذا اتفقا في دلالة الكلام على كل واحد منهما لم يكن خطأ. وهذا النحو يستعمله المتقدمون من السلف المفسرون وغيرهم كثيراً على أنّ أتركت وإن كان يوجبه القياس فإنّا لم نعلم الاستعمال جاء به، وإذا لم يأت به الاستعمال لم يمتنع أن يكون مثل أشياء من هذا الباب يوجبه القياس، ولم يأت به الاستعمال، فرفض لذلك. ألا ترى أنهم قالوا: دفعت زيداً بعمرو ولم يقولوا: أدفعت.
وذهب سيبويه إلى أن ذلك مرفوض وكذلك صككته بكذا، ورفضوا استعمال الهمزة، وكذلك لقيت زيداً، لم يستعملوا نقله بالهمزة، وليس ألقيت منقولًا من لقيت، ألا ترى أنه لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، وكذلك ميّزت ليس بمنقول من مزت، فإذا رفض النقل بالهمزة في هذه الأشياء ونحوها، أمكن أن يكون تركت أيضاً مثلها فلم تنقل بالهمزة، ويقوي ذلك أنّا لم نعلمه ثبت في سمع كما لم تثبت هذه الأشياء.
فإذا لم يرد به سمع دل ذلك على الرفض له. ففسر الذي فسر ذلك على ما جاء السمع به دون ما أوجبه القياس الذي لعله رآه المفسّر مرفوضاً غير مأخوذ به.
وقوله: وإنما معنى أو ننسها أو: نتركها، أي: نأمركم
[الحجة للقراء السبعة: 2/199]
بتركها؛ فالقول في ذلك: لا يخلو من أن يكون المراد بنتركها الذي يراد به تقرير الشيء، كما تقول: اترك هذا في موضعه، أي: قرره فيه ولا ترفعه منه، أو يكون المراد بنتركها أي: نرفعها ونبدلها. فإن كان المراد الوجه الأول الذي هو التقرير في موضعه، وأن لا يرفع؛ فهذا لا يقع الأمر به، لأنه ليس إلى النبي ولا إلى المسلمين تقرير الآي في مواضعها، إنّما ذلك إلى الله إذا أنزل آية كانت مقرّرة حتى يرفعها بنسخ أو إنساء، فالأمر لنا بتقرير ذلك لا يصحّ إلا أن يراد الاعتقاد، لأن ذلك ثابت غير منسوخ، وهذا الأمر ليس بالكثير الفائدة، لأن النبي، صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمسلمين إذا أنزل الله تعالى آية قرروها في موضعها، واعتقدوا أنه قرآن منزل وكلام لرب العالمين قد ثبت، حتى يرفع بنسخ أو نسيان إن كان ذلك يجوز فيها. وإن كان المراد بقوله: نأمركم بتركها، نأمركم بأن ترفعوا ذلك وتتركوه؛ فذلك ليس إلى النبي ولا إلى المسلمين، وإنما تبديلها ونسخها إلى الله، يدل على ذلك قوله: قل ما يكون لي أن أبدّله من تلقاء نفسي إن أتّبع إلّا ما يوحى إليّ [يونس/ 15] فإن قال قائل: ما معنى تركها غير النسخ، وما الفصل بين الترك والنسخ؟ فالجواب في ذلك: أن النسخ أن يأتي في الكتاب نسخ آية بآية فتبطل الثانية العمل بالأولى، ومعنى الترك: أن تأتي الآية بضرب من العمل فيؤمر المسلمون بترك ذلك بغير آية تنزل ناسخة التي قبلها، نحو قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/200]
إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ فامتحنوهنّ [الممتحنة/ 10] ثم أمر المسلمون بعد بترك المحنة، فهذا يدل على معنى الترك ومعنى النسخ، وقد بيناه فهذا هو الحق.
قال أبو علي: القول في ذلك أن ما ذكره من أن النسخ: أن يأتي في الكتاب نسخ الآية بالآية فتبطل الثانية العمل بالأولى؛ ليس بحقيقة النسخ، لكن هذا ضرب من النسخ. وقد يكون النسخ للآية والتبديل لها على ضروب أخر، وما أعلم فيه رواية ولا قياسا يدلّ على ما ذكره. وقد ينسخ القرآن عند عامّة الفقهاء بسنّة غير آية، ولا يمتنعون من أن يسموا ذلك نسخا، ولا يمتنع أن يسمى الضرب الذي سماه أبو إسحاق تركا نسخا.
ومما يدل على ذلك أن الزهري روى عن عروة عن عائشة قالت: نزل في أصحاب بئر معونة قرآن منه: «بلّغوا قومنا أن قد لقينا ربّنا فرضي عنا وأرضانا» ثمّ نسخ، فسمّت عائشة ذلك نسخا، ولم تسمّه تركا، وسمته نسخا وإن لم ينسخ بآية فهذا يفسد القسمين اللذين قسمهما. ألا ترى أنها سمت ذلك نسخا، وإن لم ينسخ ذلك بآية ولم تسمه تركا. كما زعم أنه يسمّى نحو قوله: إذا جاءكم المؤمنات مهاجراتٍ [الممتحنة/ 10] تركا من حيث أمر المسلمون بترك الامتحان لهنّ من غير آية نزلت. ويفسد ذلك أيضا ما روي عن
[الحجة للقراء السبعة: 2/201]
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من
حديث حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوما قاعد في أصحابه إذ ذكر حديثا، فقال: ذاك وأن ينسخ القرآن، فقال رجل كالأعرابي:
يا رسول الله ما ينسخ القرآن؟ وكيف ينسخ؟ قال: «يذهب أهله الذين هم أهله، ويبقى رجال كأنهم النعام. يعني في خفة الطير».
فقد سمّى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم هذا نسخا، وإن لم ينسخ بآية فإذا لم يثبت بتسميته النسخ سماع ولا قياس، وجاءت اللغة بخلاف ما ذكره، علمت أنه قول لا وجه له). [الحجة للقراء السبعة: 2/202]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي رجاء: [مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنَسِّهَا] مشددة السين.
وقرأ سعد بن أبي وقاص والحسن ويحيى بن يعمر: [أو تَنْسَها] بتاء مفتوحة.
وقراءة سعيد بن المسيب والضحاك [تُنْسَها] مضمومة التاء مفتوحة السين.
وفي حرف ابن مسعود: [ما نُنْسِكَ من آية أو نَنسخْها].
قال أبو الفتح: أما [نُنَسِّها] فنُفَعِّلها من النسيان، فيكون فَعَّلْت في هذا كأفعلت في قراءة أكثر القراء: {نُنْسِها}، وهو في الموضعين على حذف المفعول الأول؛ أي: أو ننس أحدًا إياها؛ كقولك: ما نَهبُ من قرية أو نُقْطِعُها؛ أي: أو نُقطع أحدًا إياها.
ومن قرأ: [تَنْسَها] أراد: أو تَنْسها أنت يا محمد.
[المحتسب: 1/103]
ومن قرأ [تُنْسَها] مر أيضًا على تنسها أنت، إلا أن الفاعل في المعنى هنا يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون الْمُنْسِي لها هو الله تعالى.
والآخر: أن يكون الْمُنْسِي لها ما يعتاد بني آدم من أعراض الدنيا غمًّا أو همًّا، أو عدواة من إنسان، أو وسوسة من شيطان.
فأما قوله عز اسمه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} فقد يمكن أن يكون ما يحدثه من النسيان أعراض الدنيا مما شاء الله زيادة في التكليف، وتعرضًا بمقاساته ومقاومته للثواب.
ويدل على جواز كون المنسي هو الله تعالى -وإن كانت التلاوة [أو تُنْسَها]- قوله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، وقوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} مع قوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ}، وقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}.
ويؤكد هذا قراءة ابن مسعود: [ما نُنْسِك من آية]، وفيه بيان، وقد يقول الإنسان: ضُرب زيد، وإن كان القائل لذلك هو الضارب، وهذا يدل على أن الغرض هنا: أن يُعلم أنه مضروب، وليس الغرض أن يعلم مَن ضربه؛ ولذلك بُني هذا الفعل للمفعول، وأُلغي معه حديث الفاعل؛ فقام في ذلك مقامه ورُفع رفعه، فهذه طريق ما لم يُسم فاعله). [المحتسب: 1/104]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}
قرأ ابن عامر {ما ننسخ من آية} بضم النّون وكسر السّين بمعنى ما ننسخك يا محمّد ثمّ حذف المفعول من النّسخ ومعناه ما آمرك بنسخها أي بتركها تقول نسخت الكتاب وأنسخت غيري أي حملته على النّسخ
وقرأ الباقون ما ننسخ بفتح النّون والسّين من نسخ إذا غير الحكم وبدل يقول نسخ الله الكتاب ينسخه نسخا وهو أن يرفع حكم آية بحكم آخرى قال ابن عبّاس {ما ننسخ من آية} أي ما نبدل من حكم آية بحكم آخر
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (أو ننسأها) أي نؤخر حكمها وحجتهما أن ذلك من التّأخير فتأويله ما ننسخ من آية فنبدل حكمها أو نؤخر تبديل حكمها فلا نبطله نأت بخير منها ويكون المعنى ما نرفع من آية أو نؤخرها فلا نرفعها
[حجة القراءات: 109]
وقرأ الباقون {أو ننسها} بضم النّون وحجتهم في ذلك قراءة أبي وسعد بن أبي وقاص وقرأ أبي بن كعب {أو ننسها} معناه ننسك نحن يا محمّد وقرأ سعد أو تنسها المعنى أو تنسها أنت يا محمّد وقراءتهما تدل على النسيان وإن كان بعضهم أضافه إلى النّبي صلى الله عليه وبعضهم أخبر أن الله فعل ذلك به وليس بين القولين اختلاف لأنّه ليس يفعل النّبي صلى الله عليه إلّا ما وفقه الله له إذا أنساه نسي قال أبو عبيد أو ننسها من النسيان ومعناه أن الله إذا شاء أنسى من القرآن من يشاء أن ينسيه وقال آخرون منهم ابن عبّاس أو ننسها أو نتركها فلا نبدلها
قال علماؤنا يلزم قائله أن يقرأها أو ننسها بفتح النّون ليصح معنى نتركها فأما إذا ضمت النّون فإنّما معناه ننسك يا محمّد وهذا لا يكون بمعنى التّرك
الجواب عنه يقال نسيت الشّيء أي تركته وأنسيته أي أمرت بتركه فتأويل الآية {ما ننسخ من آية} أي نرفعها بآية أخرى ننزلها {أو ننسها} أي نأمرك بتركها). [حجة القراءات: 110]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (61- قوله: {ما ننسخ} قرأه ابن عامر بضم النون الأولى، وكسر السين، جعله رباعيًا من «أنسخت الكتاب» على معنى: وجدته منسوخًا، مثل: أحمدت الرجل، وجدته محمودًا، وأبخلت الرجل، وجدته بخيلًا، ولا يجوز أن يكون «أنسخت» بمعنى «نسخت» إذ لم يُسمع ذلك، ولا يحسن أن تكون الهمزة للتعدي، لأن المعنى يتغير، ويصير المعنى: ما نسختك يا محمد من آية وإنساخه إياها إنزالها عليه، فيصير المعنى: ما ننزل عليك من آية أو ننسخها نأت بخير منها، يؤول المعنى إلى أن كل آية أنزلت أتى بخير منها، فيصير القرآن كله منسوخًا، وهذا لا يمكن؛ لأنه لم ينسخ إلا اليسير من القرآن، فلما امتنع أن يكون «أفعل» و«فعل» فيه بمعنى؛ إذ لم يُسمع، وامتنع أن تكون الهمزة للتعدي، لفساد المعنى، لم يبق إلا أن يكون من باب «أحمدته وأبخلته»، وجدته محمودًا وبخيلًا، فأما من قرأه بفتح النون فهو المعنى الظاهر المستعمل، على معنى ما نرفع من حكم آية، ونبقي تلاوتها، نأت بخير منها لكم أو مثلها،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/257]
ويحتمل أن يكون المعنى: ما نرفع من حكم آية وتلاوتها أو ننسكها يا محمد، فلا تحفظ تلاوتها، نأت بخير منها، أو مثلها، أي: نأتي بأصلح منها لكم، وأصلح في التعبد، أو نأت بمثلها في التعبد، وقد بينا هذا في الكتاب «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه» بأقسامه ومعانيه، والاختيار فتح النون في «ننسخ» لأنه الأصل، ولأنه ظاهر التلاوة، ولأنه قد أجمع عليه القراء، وهو اختيار أبي عبيد وغيره). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/258]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (62- قوله: {أو ننسها} قرأه أبو عمرو وابن كثير بفتح النون الأولى، وفتح السين والهمز، جعلاه من التأخير على معنى: أو نؤخر نسخ لفظها نأت بخير منها، فهو من: نسأ الله في أجلك، أي: أخَّر فيه، وتأخير النسخ على وجهين: أحدهما أن يؤخر التنزيل للآية، فلا ينزل من اللوح المحفوظ، والثاني: أن ينزل القرآن، فيُتلى، ويُعمل به، ثم يؤخر، فينسخ العمل به دون اللفظ أو ينسخ العمل به واللفظ، أو ينسخ اللفظ ويبقى العمل. وكل هذا قد فُسر ومُثل وبُين في كتاب «الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه»، وبه قرأ عمر وابن عباس ومجاهد وأبي بن كعب وعبيد بن عمير
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/258]
والنخعي وعطاء بن أبي رباح وابن محيصن، وقرأ الباقون بضم النون الأولى وكسر السين من غير همز، جعلوه من النسيان الذي هو ضد الذكر، على معنى: أو ننسكها يا محمد، فلا تذكرها، فهو من النسيان الذي هو ضد الذكر، نقل بالهمزة فتعدى الفعل إلى مفعولين، وهما «النبي» والهاء، الذي هو ضد الذكر، فيكون المعنى إذا رفعنا «آية» بـ «نسخ» أو بـ «نسيان» نقدره عليك يا محمد، أتينا بخير منها في الصلاح لكم، وأو بمثلها باللفظين عما في اللوح المحفوظ، فإن كان الإخبار عمّا قد نزل وتلي من القرآن، فلا يصلح لقوله: {نأت بخير منها}، والأقوى البين أن يكون من النسيان الذي هو ضد الذكر، فيكون المعنى إذا رفعنا «آية» بـ «نسخ» أو بـ «نسيان» نقدره عليك يا محمد، أتينا بخير منها في الصلاح لكم، أو بمثلها في التعبد، ويدل على أنه من النسيان قوله: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} «الأعلى 6، 7» فقد أعلمه الله أنه لا ينسى شيئًا، مما نزل عليه، إلا ما شاء الله أن ينساه، مما قدر أن يبدله بأصلح منه للعباد، أو بمثله، ويدل على أنه من النسيان أن الضحاك قرأ: «أو تنسها» بتاء مضمومة، وفتح السين، فهو من النسيان لا يجوز غيره، وقد قرأ ابن مسعود: «ما ننسك من آية أو ننسخها» فهذا أيضًا من النسيان لا غير، وأيضًا فإن «تنسى» الذي بمعنى الترك، لم يستعمل «أفعل» إنما استعمل فيه «فعل» فكان يجب أن تكون القراءة بفتح النون الأولى والسين، ولم يأت ذلك والاختيار «ننسها» من النسيان، لصحة المعنى، ولأن جماعة القراء عليه، وبه قرأ ابن المسيب وأبو عبد الرحمن وقتادة والأعرج وأبو جعفر يزيد
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/259]
وشيبة والضحاك وابن أبي إسحاق وعيسى والأعمش). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/260]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (39- {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ} [آية/ 106]:-
بضم النون وكسر السين، قرأها ابن عامر وحده.
ووجه ذلك أن معناه ننسخك إياها، أي نأمرك بإزالة حكمها بإنزال آيةٍ ناسخةٍ، وهو من باب الحمل على الشيء، فمعنى {نُنْسِخْ} أي نحملك على النسخ.
والنسخ في اللغة: الإزالة، وقيل معناه نجده منسوخًا كقولك: أحمدت الرجل، إذا وجدته محمودًا، وإنما يجده منسوخًا لنسخه إياه، فهو يرجع في المعنى إلى قراءة الباقين.
[الموضح: 294]
وقرأ الباقون {نَنْسَخْ} بفتح النون والسين.
ومعناه ظاهر؛ لأن الله تعالى ينسخ الآيات، فهو الناسخ). [الموضح: 295]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (40- {أَوْ نَنْسَأْهَا} [آية/ 106]:-
بفتح النون الأولى وبالهمزة، قرأها ابن كثير وأبو عمرو، ومعناه: نؤخرها، من قولهم: نسأت الإبل عن الحوض أي أخرتها.
وقرأ الباقون {نُنْسِها} بضم النون الأولى وكسر السين غير مهموز.
ومعناه: ننسكم إياها، وهو منقول من نسي الذي هو خلاف ذكر، وقيل بل من نسي إذا ترك أي نأمركم بتركها، وهو أيضًا من باب الحمل على الشيء كننسخ، قال:
11- لست بناسيها ولا منسيها
أي آمر بتركها). [الموضح: 295]
قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)}
قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (كما سئل موسى من قبل... (108).
اتفق القراء على التثقيل والهمز، إلا ما روي عن ابن عامر أنه قرأ: (سئل) مهموزا بغير إشباعٍ.
[معاني القراءات وعللها: 1/171]
والقراءة بالهمز.
ومن قرأ (سئل) فإنه كان يجعلها بين بين، يكون بين الهمز والياء، فتلفظ (سئل)، وهنا إنما تحكمه المشافهة -، لأن الكتاب فيه غير فاصل بين المحقق والمليّن). [معاني القراءات وعللها: 1/172]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال أحمد بن موسى: كما سئل [البقرة/ 108] مضمومة السين، مكسورة الهمزة في قراءتهم جميعاً.
قال: وروى هشام بن عمّار بإسناده عن ابن عامر:
سئل مهموزة بغير إشباع.
[الحجة للقراء السبعة: 2/217]
قال أبو علي: القول في سئل: أنّ في سألت لغتين:
سألت أسأل، العين همزة، وهي الفاشية الكثيرة وسلت أسال لغة، وعليها جاء قول الشاعر:
سألت هذيل رسول الله فاحشة... ضلّت هذيل بما قالت ولم تصب
فحمل سيبويه سالت على قلب الهمزة ألفا للضرورة.
كما قال الآخر:
راحت بمسلمة البغال عشيّة... فارعي فزارة لا هناك المرتع
قال سيبويه: لأن الذي قال: سالت هذيل، ليست لغته سلت أسال. وحكى أبو عثمان عن أبي زيد: هما يتساولان، في هذه اللغة، فدل أن العين منها واو، وليست المهموزة. ومن قرأ: قال قد أوتيت سؤلك يا موسى [طه/ 36] لا ينبغي أن يحمله على هذه اللغة لقلّتها، ولكن على تخفيف الهمز، والتحقيق سؤلك.
والقول في قراءتهم: كما سئل مثل سعل، أنه على تحقيق الهمزة، وقياس من خفف الهمزة أن يجعل هذه بين
[الحجة للقراء السبعة: 2/218]
بين، فيقول، سئيل، ومعنى بين بين، أن يجعلها بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها.
فإن قلت: فهلّا كان تخفيف الهمزة في سئل أن يقلبها واواً إذا انضم ما قبلها وانكسرت، كما أنها إذا كانت على عكس هذا قلبتها واواً في قولك: جون والتودة، وفي المنفصل: هذا غلام وبيك.
فالقول: إن الهمزة في سئل لم يلزم قلبها واواً، كما لزم في جون ونحوه، لأن جون إنما لزم قلبها واواً، لأنك في التخفيف لا تخلو من أن تقلبها واواً، أو تجعلها بين بين، فلم يصحّ أن تجعلها في جون بين بين، لأنك لو جعلتها كذلك نحوت بها نحو الألف، فلا يكون ما قبل الألف ضمة، كما لم يكن قبلها كسرة؛ فلما لم تكن قبلها ضمة، كذلك لم يكن قبل ما قرّبته منها. فلما لم يكن ذلك، أخلصتها واواً إذا انضم ما قبلها، كما أخلصتها ياء إذا انكسر ما قبلها في نحو: مير وذيبة وذيب، وفي المنفصل: من غلام يبيك، ولم يلزم ذلك في سئل، ولم يمتنع أن يجعلها بين بين، لأنّ في الكلام ياء مكسورة قبلها ضمّة نحو: صيد في هذا المكان، وعيي بالأمر، وحيي في هذا المكان. كما لم يلزم أن تبدل منها الياء في عكس ذئب، ومئر، وهو نحو: سئم، وجئز، ومن المنفصل نحو: وإذ قال إبراهيم [البقرة/ 126] لأن في الكلام
[الحجة للقراء السبعة: 2/219]
مثل: صيد، وعيي. فلذلك جعلت التي في سئل بين بين ولم تقلبها). [الحجة للقراء السبعة: 2/220]
قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)}
قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107291#post107291)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:15 PM
سورة البقرة
[من الآية (111) إلى الآية (113) ]
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) }
قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)}
قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}
قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107294#post107294)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:18 PM
سورة البقرة
[من الآية (114) إلى الآية (119) ]
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)}
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}
قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): ( (قالوا اتّخذ اللّه ولدًا... (116).
بغير واوٍ ابن عامر.
والباقون بالواو.
قال أبو منصور: المعنى واحد في إثبات الواو ها هنا. وحذفها، غير أن القراءة بالواو أعجب إليّ لأنه زيادة حرف يستوجب به القارئ عشر حسناتٍ.
والواو تعطف بها جملة على جملة). [معاني القراءات وعللها: 1/170]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قرأ ابن عامر وحده قالوا اتّخذ اللّه ولداً سبحانه [البقرة/ 116] بغير واوٍ. وكذلك هي في مصاحف أهل الشام، وقرأ الباقون بواو.
قال أبو علي: حذف الواو في ذلك يجوز من وجهين:
أحدهما أن الجملة التي هي قالوا اتّخذ اللّه ولداً ملابسة بما قبلها، من قوله: ومن أظلم ممّن منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها [البقرة/ 114] ومن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه: جميع المتظاهرين على الإسلام من صنوف الكفار، لأنهم بقتالهم المسلمين وإرادتهم غلبتهم والظهور عليهم مانعون لهم من مواضع متعبداتهم، والمساجد
[الحجة للقراء السبعة: 2/202]
هي جميع المواضع التي يتعبد فيها.
وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».
وإذا كان التأويل على هذا، فالذين قالوا: اتخذ الله، من جملة هؤلاء الذين تقدم ذكرهم، فيستغنى عن الواو لالتباس الجملة بما قبلها كما استغني عنها في نحو قوله: والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون [البقرة/ 39] ولو كان وهم فيها خالدون، كان حسنا إلا أن التباس إحداهما بالأخرى وارتباطها بها أغنى عن الواو. ومثل ذلك قوله: سيقولون ثلاثةٌ رابعهم كلبهم [الكهف/ 22] ولم يقل: ورابعهم، كما جاء: ويقولون سبعةٌ وثامنهم كلبهم [الكهف/ 22] ولو حذفت الواو منها كما
حذفت من التي قبلها واستغني عن الواو بالملابسة التي بينها كان حسنا.
والوجه الآخر أن تستأنف الجملة فلا تعطفها على ما تقدم). [الحجة للقراء السبعة: 2/203]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ( {وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه} 116
وقرأ ابن عامر {قالوا اتخذ الله} بغير واو كذا مكتوب
[حجة القراءات: 110]
مصاحف أهل الشّام وحجته أن ذلك قصّة مستانفة غير متعلقة بما قبلها كما قال {وإذ قال موسى لقومه} ثمّ قال {قالوا أتتخذنا هزوا} وقرأ الباقون {وقالوا} بالواو لأنّه مثبتة في مصاحفهم وهي عطف جملة على جملة). [حجة القراءات: 111]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (63- قوله: {وقالوا اتخذ الله ولدا} قرأه ابن عامر بغير واو، جعله مستأنفًا غير معطوف على ما قبله، وقد علم أن المخبر عنه بهذا القول هو المخبر عنه، بمنع ذكر الله في المساجد، والسعي في خرابها، وكذلك هي في مصاحب أهل الشام بغير واو، وقرأ الباقون: «وقالوا» بالواو على العطف على ما قبله؛ لأن الذين أخبر الله عنهم بمنع ذلك في المساجد، والسعي في خرابها هم الذين قالوا: اتخذا الله ولدا، فوجب عطف آخر الكلام على أوله، لأنه كله إخبار عن النصارى، وكذلك هي في جميع المصاحف بالواو إلا في مصحف أهل الشام، وإثبات الواو هو الاختيار، لثباتها في أكثر المصاحف، ولأن الكلام عليه كله قصة واحدة، ولإجماع القراء عليه سوى ابن عامر). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/260]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (41- {وَقَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَدًا} [آية/ 116]:-
بغير واو عطف، قرأها ابن عامر وحده.
ووجه ذلك أنه استأنف الجملة، ولم يجعلها معطوفة على ما قبلها.
ويجوز أن يكون لما وجد بين الجملتين هي والتي قبلها ملابسة، وتلك أن الذين قالوا اتخذ الله ولدًا هم الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، استغني بهذه الملابسة عن الواو، كما في قوله تعالى {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ} للملابسة، ولو ألحقها بهذه لكان حسنًا، كما لو حذفها من تلك لكان حسنًا.
وقرأ الباقون {وَقَالُوا} بالواو.
ووجهه واضح، وذلك أنه عطف جملة على جملة بالواو، فهو الأظهر جوازًا، مع أن المعنى في القراءتين لا يتغير). [الموضح: 296]
قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (كن فيكون (117)
اتفق القراء على رفع النون عن قوله: (فيكون) في جميع القرآن، إلا ابن عامر فإنه قرأ: (فيكون) بالنصب في جميع القرآن إلا في ثلاثة مواضع: موضعين في آل عمران، قوله: (فيكون طيرًا) بالرفع،
وقوله: (فيكون (59) الحقّ من ربّك)، والثالث في الأنعام، قوله: (ويوم يقول كن فيكون قوله الحقّ) بالرفع.
[معاني القراءات وعللها: 1/172]
وتابع الكسائي ابن عامر على نصب النون في موضعين؛ رأس أربعين من النحل (فيكون)، وآخر يس: (يكون).
قال أبو منصور: من قرأ: (فيكون) بالرفع فمعناه: فهو يكون، أو: فإنه يكون.
وقال الزجاج: من قرأ: (فيكون) فإن شئت عطفته على (يقول)، وإن شئت فعلى الإيناف، المعنى: فهو يكون.
قال: ومعنى قوله: (إنما يقول له كن فيكون): إنما يريد فيحدث كما أراد.
وقيل معناه: إنما يقول له (كن فيكون) يقول هل وإن لم يكن حاضرا: (كن) لأن ما هو معلوم عند الله كونه بمنزلة الحاضر.
وقال بعض النحويين: (إنّما يقول له): من أجله.
فكأنه إنما يقول من أجل إرادته إياه: (كن)، أي: احدث فيحدث.
ومن قرأ: (فيكون) بالنصب فهو على جواب الأمر بالفاء، كما تقول: زرني فأزورك.
وهذا عند القراء ضعيف، والقراءة بالرفع هو المختار). [معاني القراءات وعللها: 1/173]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في قوله عز وجل: كن فيكون [البقرة/ 117] في فتح النون وضمّها، فقرأ ابن عامر وحده: كن فيكون بنصب النون.
وقرأ الباقون: فيكون رفعا.
قال أبو علي: لا يخلو قوله: يقول [البقرة/ 117] من أن يكون المراد به القول الذي هو كلام ونطق، أو يكون
[الحجة للقراء السبعة: 2/203]
الذي يتّسع فيه فلا يراد به النطق ولا الكلام، ولا الظنّ ولا الرأي ولا الاعتقاد، ولكن نحو قول الشاعر:
قد قالت الانساع للبطن الحق ونحو قول العجاج في صفة ثور:
فكّر ثمّ قال في التفكير إنّ الحياة اليوم في الكرور وقول الآخر:
امتلأ الحوض وقال قطني فلا يكون على القول الذي هو خطاب ونطق، لأن المنتفي الذي ليس بكائن لا يخاطب كما لا يؤمر، فإذا لم يجز ذلك حملته على نحو ما جاء في الأبيات التي قدمت ونحوها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/204]
وأما قوله: كن فإنه وإن كان على لفظ الأمر فليس بأمر، ولكن المراد به الخبر، كأن التقدير يكوّن فيكون وقد قالوا: أكرم بزيد، فاللفظ لفظ الأمر، والمعنى والمراد: الخبر، ألا ترى أنه بمنزلة: ما أكرم زيدا، فالجار والمجرور في موضع رفع بالفعل. وفي التنزيل: قل من كان في الضّلالة فليمدد له الرّحمن مدًّا [مريم/ 75] فالتقدير: مدّه الرحمن. وإذا لم يكن قوله: كن أمرا في المعنى، وإن كان على لفظه؛ لم يجز أن تنصب الفعل بعد الفاء بأنه جوابه، كما لم يجز النصب في الفعل الذي تدخله الفاء بعد الإيجاب نحو: آتيك فأحدّثك، إلّا أن يكون في شعر نحو قوله:
ويأوي إليه المستجير فيعصما ومما يدل على امتناع النصب في قوله: فيكون أن الجواب بالفاء مضارع للجزاء. يدلّ على ذلك أنه يؤول في المعنى إليه. ألا ترى أن: اذهب فأعطيك معناه: إن تذهب أعطيتك [والأجود إن ذهبت أعطيتك] فلا يجوز: اذهب فتذهب. لأن المعنى يصير: إن ذهبت ذهبت، وهذا كلام لا يفيد، كما يفيد إذا اختلف الفاعلان والفعلان، نحو: قم فأعطيك، لأن المعنى: إن قمت
[الحجة للقراء السبعة: 2/205]
أعطيتك، ولو جعلت الفاعل في الفعل الثاني فاعل الفعل الأول، فقلت: قم فتقوم، أو: أعطني فتعطيني، على قياس قراءة ابن عامر لكان المعنى: إن قمت تقم، وإن تعطني تعطني، وهذا كلام في قلة الفائدة على ما تراه، وإذا كان الأمر على هذا لم يكن ما روي عنه من نصبه فيكون متجها.
وقد يمكن أن تقول في قول ابن عامر: إنّ اللفظ لما كان على لفظ الأمر وإن لم يكن المعنى عليه حملته على صورة اللفظ، فقد حمل أبو الحسن نحو قوله: قل لعبادي الّذين آمنوا يقيموا الصّلاة [إبراهيم/ 31] ونحو ذلك من الآي، على أنه أجري مجرى جواب الأمر، وإن لم يكن جوابا له في الحقيقة. فكذلك على قول ابن عامر: يكون قوله: فيكون بمنزلة جواب الأمر نحو: ايتني فأحدّثك، لما كان على لفظه، وقد يكون اللفظ على شيء والمعنى على غيره، ألا ترى أنهم قد قالوا: ما أنت وزيدا؟ والمعنى: لم تؤذيه؟ وليس ذلك في اللفظ.
ومثل قوله: كن فيكون في أن المعطوف ليس محمولا على لفظ الأمر وإن كان قد وليه، قوله: فلا تكفر فيتعلّمون [البقرة/ 102] ليس قوله: فيتعلّمون بجواب لقوله: فلا تكفر ولكنه محمول على قوله: يعلمون فيتعلمون، أو يعلّمان فيتعلمون منهما، إلا أن قوله: فلا تكفر في هذه الآية نهي عن الكفر، وليس قوله: كن من قوله: كن فيكون أمرا.
ومن ثمّ أجمع الناس على رفع يكون، ورفضوا فيه النصب،
[الحجة للقراء السبعة: 2/206]
إلا ما روي عن ابن عامر وهو من الضعف بحيث رأيت، فالوجه في يكون الرفع. فإن قلت: فهلا قلت: إن العطف في قوله:
فيكون على يقول دون ما قلت من أنه معطوف على كن، ألا ترى أنه عطف على الفعل الذي قبل كن في قوله: إنّما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون [النحل/ 40] حمل النصب في فيكون على الفعل المنتصب ب (أن). فكما جاز عطفه على الفعل المنتصب بأن الذي قبل قوله: كن فكذلك يجوز أن يحمل المرتفع عليه، كأنه قال: فإنما يقول فيكون.
قيل: ما ذكرناه أسوغ مما قلت، وأشدّ اطّرادا، ألا ترى أن قوله: إنّ مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من ترابٍ ثمّ قال له كن فيكون [آل عمران/ 60] لا يستقيم هذا المذهب فيه، لأن قال ماض، وفيكون مضارع فلا يحسن عطفه عليه لاختلافهما. فإن قلت: فلم لا يجوز عطف المضارع على الماضي، كما جاز عطف الماضي على المضارع في قوله:
ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني... فمضيت ..........
[الحجة للقراء السبعة: 2/207]
ألا ترى أنه مضارع ومضيت ماض، فكما جاز عطف الماضي على المضارع كذلك يجوز عطف فيكون على خلقه. قيل: لا يكون هذا بمنزلة البيت، لأن المضارع فيه في معنى المضي، والمراد به: ولقد مررت فمضيت، فجاز عطف الماضي على المضارع، من حيث أريد بالمضارع المضيّ وليس المراد بقوله: فيكون في الآية المضيّ، فيعطف فيها على الماضي. فإذا كان كذلك تبينت بامتناع العطف في قوله: ثمّ قال له كن فيكون. على أن العطف في قوله:
فإنّما يقول له كن فيكون إنما هو على كن، الذي يراد به يكوّن، فيكون خبر مبتدأ محذوف كأنه: فهو يكون.
فإن قلت؛ فهلا قلت: إن العطف على كن إذا كان المراد به يكوّنه غير سهل، لأنّ قوله فيكون حينئذ قليل الفائدة، ألا ترى أن يكوّنه يدل على أنه يكون. قيل له: ليس بقليل الفائدة، لأن المعنى: فيكون بتكوينه، أي بإحداثه، لا يكون حدوثه ووجوده على خلاف هذا الوجه، فإذا كان كذلك كان مفيدا، كما أن قولهم: لأضربنّه كائن ما كان، بالرفع في كائن كلام قد استعملوه وحسن عندهم، وإن كان قد علم أنّ ما يكون فهو كائن، ولكن لما دخله من المعنى أي لا أبالي بذلك، حسن، فاستعمل، ولم يكن عندهم بمنزلة ما لا يفيد
[الحجة للقراء السبعة: 2/208]
فيطرح فكذلك لمّا كان المعنى في الآية يكون بإحداثه جاز وحسن، ولم يكن بمنزلة ما لا يفيد.
...). [الحجة للقراء السبعة: 2/209]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون}
قرأ ابن عامر {فيكون} نصب كأنّه ذهب إلى أنه الأمر تقول أكرم زيدا فيكرمك
وقرأ الباقون بالرّفع قال الزّجاج رفعه من جهتين إن شئت على العطف على يقول وإن شئت على الاستئناف المعنى فهو يكون). [حجة القراءات: 111]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (64- قوله: {كن فيكون} قرأه ابن عامر بالنصب ومثله في آل عمران {فيكون، ويعلمه}«47، 48» وفي النحل: {فيكون. والذين هاجروا} «40، 41»، وفي مريم: {فيكون. وإن الله} «35، 36» وف ياسين: {فيكون. فسبحان} «82، 83» وفي المؤمن: {فيكون. ألم تر} «68، 69» ووافقه الكسائي على النصب في النحل وياسين، وقرأ ذلك الباقون بالرفع.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/260]
65- فوجه النصب مشكل ضعيف، وذلك أنه جعله جوابًا بالفاء للفظ «كن» إذا كان لفظه لفظ الأمر، وإن كان معناه غير الأمر فهو ضعيف، لأن «كن» ليس بأمر، إنما معناه الخبر، إذ ليس ثم مأمور، يكون «كن» أمرًا له، والمعنى: فإنما يقول له: كن فيكون فهو يكون، ويدل على أن «فيكون» ليس بجواب لـ «كن» أن الجواب بالفاء، مضارع به الشرط، وإلى معناه يؤول في التقدير، فإذا قلت: اذهب فأكرمك، فمعناه: إن تهذب فأكرمك، ولا يجوز أن تقول: اذهب فتذهب؛ لأن المعنى يصير: إن تذهب تذهب، وهذا لا معنى له، وكذلك «كن فيكون» يؤول معناه، إذا جعلت «فيكون» جوابًا أن تقول له: أن يكون فيكون، ولا معنى لهذا؛ لأنه قد اتفق فيه الفاعلان؛ لأن الضمير الذي في «كن» وفي «يكون» الشيء ولو اختلفا لجاز كقولك: اخرج فأحسن إليك، أي: إن تخرج أحسنت إليك، ولو قلت: قم فتقوم، لم يحسن، إذ لا فائدة فيه؛ لأن الفاعلين واحد، ويصير التقدير: إن تقم تقم، فالنصب في هذا على الجواب بعيد في المعنى.
66- ووجه قراءة من رفع «فيكون» في ذلك أنه جعل «فيكون» منقطعًا مما قبله مستأنفًا؛ لما امتنع أن يكون جوابًا في المعنى، رفعه على الابتداء، فتقديره: فهو يكون، وهو وجه الكلام، والاختيار، وعليه جماعة القراء وبه يتم المعنى، فأما اختصاص الكسائي للنصب في النحل وياسين فهو حسن قوي، لأن فيه «أن يقول» فعطف «فيكون» على «يقول»، وكذلك آخر «يس» فيه «أن يقول» فعطف على «يقول» وهو حسن، لكن الرفع عليه
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/261]
الجماعة، وهو على الاستئناف والقطع والابتداء كالأول). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/262]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (42- {كُنْ فَيَكُون} [آية/ 117]:-
بالنصب، قرأها ابن عامر وحده، وكذلك في جميع القرآن إذا كان قبله {كُنْ}، إلا في موضعين في آل عمرن {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} بالرفع،
[الموضح: 296]
وفي الأنعام {كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} بالرفع.
ووجه النصب ههنا أنه لما وقع قبله لفظ أمر أجراه مجرى جواب الأمر، وإن لم يكن جوابًا للأمر؛ لأنه ليس المعنى في هذا الموضع على الجواب، ألا ترى أنك إذا قلت: إئتني فأحدثك، كان جوابًا؛ لأن الحديث سببه الإتيان، والمعنى: إن تأتني أحدثك، ولا يستقيم ذلك ههنا، فبطل أن يكون جوابًا، إلا أنه شبهه بالجواب لفظًا فنصبه.
وقرأ الباقون {فَيَكُونُ} بالرفع.
عطفًا على قوله {يَقُولُ}.
ويجوز أن يحمل على جملة مستأنفة، والتقدير: فهو يكون). [الموضح: 297]
قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آَيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم (119).
حدثنا السعدي قال: حدثنا على بن خشرم عن عيسى عن يونس عن موسى عن عبيدة عن محمد بن كعب قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ليت شعري: ما فعل أبواي.
فأنزل الله: (إنّا أرسلناك بالحقّ بشيرًا ونذيرًا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم (119).
قرأ نافع ويعقوب: (ولا تسأل) بفتح التاء وجزم اللام.
وقرأ الباقون: (ولا تسأل) بضم التاء واللام.
[معاني القراءات وعللها: 1/170]
قال أبو منصور: من قرأ: (ولا تسأل) - بالجزم - جزمه بـ (لا) النهي، وله معنيان: أحدهما: أن الله أمره بترك المسألة عنهم.
والآخر: أن في النهي تفخيما مما أعدّ الله لهم من العقاب، كما يقول لك القائل الذي يعلم أنك تحب أن يكون من تسأله عنه في حالٍ جميلة أو قبيحة فيقول: لا تسأل عن فلان، أي: قد صار إلى أكثر مما تريد، والله أعلم بما أراد.
وفيه وجهٌ آخر: أن يكون الله أمره بترك المسألة عنه.
ومن قرأ: (ولا تسأل عن أصحاب الجحيم)
فإنه بمعني: ولست تسأل عن أصحاب الجحيم). [معاني القراءات وعللها: 1/171]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضم التاء ورفع اللام، وفتحها وجزم اللام من قوله جل وعز: ولا تسئل عن أصحاب الجحيم [البقرة/ 119] فقرأ نافع وحده: ولا تسئل مفتوحة التاء مجزومة اللام.
وقرأ الباقون ولا تسئل مضمومة التاء، مرفوعة اللام.
قال أبو علي: القول في سألت إنه فعل يتعدى إلى مفعولين مثل أعطيت قال:
سالتاني الطّلاق أن رأتاني... قلّ مالي قد جئتماني بنكر
وقال:
سألناها الشفاء فما شفتنا... ومنّتنا المواعد والخلابا
[الحجة للقراء السبعة: 2/209]
وأنشد أحمد بن يحيى:
سألت عمرا بعد بكر خفّا والدلو قد تسمع كي تخفّا ويجوز أن يقتصر فيه على مفعول واحد، فإذا اقتصرته في التعدي على مفعول واحد كان على ضربين:
أحدهما: أن يتعدى بغير حرف، والآخر: أن يتعدى بحرفٍ.
فأما تعديه بغير حرف فقوله: وسئلوا ما أنفقتم وليسئلوا ما أنفقوا [الممتحنة/ 10]. وقال: فسئلوا أهل الذّكر [النحل/ 43].
وأما تعديه بحرف؛ فالحرف الذي يتعدي به حرفان:
أحدهما الباء كقوله: سأل سائلٌ بعذابٍ [المعارج/ 1].
وقال:
وسائلة بثعلبة بن سير... وقد أودت بثعلبة العلوق
[الحجة للقراء السبعة: 2/210]
والآخر: عن كقولك: سل عن زيد.
فإذا تعدى إلى مفعولين كان على ثلاثة أضرب: أحدها:
أن يكون بمنزلة أعطيت، وذلك كقوله:
سألت زيداً بعد بكر خفّا فمعنى هذا: استعطيته، أي: سألته أن يفعل ذلك.
والآخر: أن يكون بمنزلة: اخترت الرجال زيداً، وذلك قوله:
ولا يسئل حميمٌ حميماً [المعارج/ 10] فالمعنى هنا: ولا يسأل حميم عن حميمه، لذهوله عنه واشتغاله بنفسه، كما قال:
لكلّ امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يغنيه [عبس/ 37]. فهذا على هذه القراءة كقوله: وسئلهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر [الأعراف/ 162].
والثالث: أن يتعدّى إلى مفعولين، فيقع موقع المفعول الثاني منهما استفهام، وذلك كقوله: سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيةٍ بيّنةٍ [البقرة/ 211] وقوله: وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرّحمن آلهةً يعبدون [الزخرف/ 45].
فأما قول الأخطل:
[الحجة للقراء السبعة: 2/211]
واسأل بمصقلة البكريّ ما فعلا فما: استفهام، وموضعه نصب بفعل، ولا يكون جراً على البدل من مصقلة على تقدير: سل بفعل مصقلة، ولكن تجعله مثل الآيتين اللتين تلوناهما، وإن شئت جعلته بدلًا، فكان بمنزلة قوله: فسئلوا أهل الذّكر [النحل/ 43] ولو جعلت المفعول مراداً محذوفاً من قوله: واسأل بمصقلة، فأردت:
واسأل الناس بمصقلة ما فعل؟ لم يسهل أن يكون ما استفهاماً، لأنه لا يتصل بالفعل، ألا ترى أنه قد استوفى مفعوليه فلا تقع الجملة التي هي استفهام موقع أحدهما كما تقع موقعه في قوله: سل بني إسرائيل كم آتيناهم [البقرة/ 211]. فإن جعلت ما موصولة، وقدرت فيها البدل من مصقلة لم يمتنع.
وإن قلت: أجعل قوله: ما فعل، استفهاماً وأضمر يقول، لأني إذا قلت: اسأل الناس بمصقلة، فإنه يدل على قل، لأن السؤال قول، فأحمله على هذا الفعل، لا على أنه في موضع المفعول، لاستغناء الفعل بمفعولين؛ فهو قول.
يدل على ذلك قوله: يسئلونك عن السّاعة أيّان مرساها [النازعات/ 42] ألا ترى أنه قد استوفى مفعوليه أحدهما:
الكاف، والآخر: قد تعدى إليه الفعل بعن؛ فلا يتعلق به أيّان إلا على الحدّ الذي ذكرنا.
ومن ذلك قول سيبويه: «اذهب فاسأل: زيد أبو من
[الحجة للقراء السبعة: 2/212]
هو؟» فزيد داخل في حيز الاستفهام، وليس المعنى: سل زيداً، ولكن التقدير: سل الناس: أأبو بشر زيد أم أبو عمرو؟
ولو قلت: سل زيداً على هذا الحد، لم يجز؛ لأن زيداً ليس بمسئول، إنما هو مسئول عنه، وإنما يأمر المخاطب أن يسأل غيره عنه، فلهذا قال: لو قلت: سل زيداً على هذا الحد لم يجز، وذلك لما ذكرناه من انقلاب المعنى. وهذا مما يقوي قول يونس: قد علمت زيداً أبو من هو. ألا ترى أن هذا من المواضع التي ليس يجوز فيها أن يعمل الفعل في الاسم الداخل في حيز الاستفهام، فإذا أتت مواضع ليس يجوز فيها ذلك، جاز أن لا يعمل الفعل في المفعول الذي يجوز أن يعمل فيه نحو: علمت زيداً أبو من هو.
فالمفعول في هذا الموضع محذوف، لأن المعنى: اسأل إنساناً زيد أبو من هو؟ وكذلك قوله: سأل سائلٌ بعذابٍ...
[المعارج/ 1] كأن المعنى: سأل سائل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أو المسلمين بعذاب واقع، فلم يذكر المفعول الأول. وسؤالهم عن العذاب، إنما هو استعجالهم له لاستبعادهم لوقوعه، ولردهم ما يوعدون به منه، وعلى هذا قال: ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف اللّه وعده [الحج/ 47] يستعجلونك بالعذاب وإنّ جهنّم لمحيطةٌ بالكافرين [العنكبوت/ 54] ويستعجلونك بالسّيّئة قبل الحسنة، وقد خلت من قبلهم المثلات [الرعد/ 6]
[الحجة للقراء السبعة: 2/213]
ويدلك على ذلك قوله: فاصبر صبراً جميلًا، إنّهم يرونه بعيداً، ونراه قريباً [المعارج/ 5] وقال: قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً ماذا يستعجل منه المجرمون
[يونس/ 50]. وقال: أتى أمر اللّه فلا تستعجلوه [النحل/ 1].
فأما قوله: وسئلوا اللّه من فضله [النساء/ 32] فيجوز أن يكون من فيه في موضع المفعول الثاني على قياس قول أبي الحسن، ويكون المفعول محذوفاً في قياس قول سيبويه، والصفة قائمة مقامه.
وأما قوله: كأنّك حفيٌّ عنها [الأعراف/ 187] فإنه يحتمل أمرين، أحدهما: أن تجعل عنها متعلقاً بالسؤال، كأنه: يسألونك عنها، كأنك حفي بها، فحذف الجارّ والمجرور. وحسن ذلك لطول الكلام بعنها التي من صلة السؤال. ويجوز أن يكون عنها بمنزلة بها وتصل الحفاوة مرّة بالباء ومرة بعن. كما أن السؤال يعمل مرة بالباء ومرة بعن فيما ذكرنا. ويدلك على أنه يصل بالباء قوله: إنّه كان بي حفيًّا [مريم/ 47]. وقال: ثمّ استوى على العرش الرّحمن فسئل به خبيراً [الفرقان/ 59] فقوله: فسئل به مثل: اسأل عنه خبيراً.
فأما خبيراً فلا يخلو انتصابه من أن يكون على أنه حال، أو مفعول به، فإن كان حالًا لم يخل أن يكون حالًا من
[الحجة للقراء السبعة: 2/214]
الفاعل أو من المفعول، فلو جعلته حالا من الفاعل السائل لم يسهل لأن الخبير لا يكاد يسأل إنما يسأل، ولا يسهل الحال من المفعول أيضاً لأن المسئول عنه خبير أبداً فليس للحال كبير فائدة. فإن قلت: يكون حالًا مؤكدة فغير هذا الوجه إذا احتمل أولى، فيكون خبيراً إذا مفعولًا به كأنه: قال فاسأل عنه خبيراً أي مسئولًا خبيراً. وكأن معنى سل: تبيّن بسؤالك وبحثك من تستخبره ليتقرر عندك ما اقتصّ عليك من خلقه ما خلق وقدرته على ذلك، وتعلمه بالفحص عنه والتبيّن له. ومما يقوي أن السؤال إنما أريد به ما وصفنا قول أمية:
واسأل ولا بأس إن كنت امرأ عمها... إنّ السؤال شفا من كان حيرانا
فيشبه أن يكون أراد باسأل: اسأل حتى تتبيّن بسؤالك، ألا ترى أنه قال:
إن السؤال شفا من كان حيرانا والسؤال إذا خلا من العلم لم يكن شفاء لمن كان حيران، إنما يكون شفاء إذا اقترن به العلم والتبيّن، فكذلك المراد في قوله: فسئل به خبيراً [الفرقان/ 59]: اسأل سؤالًا تبحث به لتتبين.
[الحجة للقراء السبعة: 2/215]
فالحجة لمن قرأ: ولا تسئل بالرفع أن الرفع يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون حالًا فيكون مثل ما عطف عليه من قوله: بشيراً ونذيراً [البقرة/ 119] وغير مسئول. ويكون ذكر تسئل- وهو فعل بعد المفرد الذي هو قوله: بشيراً- كذكر الفعل في قوله: ويكلّم النّاس في المهد [آل عمران/ 46] بعد ما تقدم من المفرد. وكذلك قوله: ومن المقرّبين [آل عمران/ 45] وهو قد يجري مجرى الجمل.
والآخر: أن يكون منقطعاً من الأول مستأنفاً به، ويقوي هذا الوجه ما روي من أن عبد الله أو أبيّا قرأ أحدهما: وما تسأل، والآخر: ولن تسأل، فكل واحدة من هاتين القراءتين يؤكد حمله على الاستئناف. ويؤكّد وجهي الرفع قوله: ليس عليك هداهم ولكنّ اللّه يهدي من يشاء [البقرة/ 171] وقوله: ما على الرّسول إلّا البلاغ [المائدة/ 99].
ومما يجعل للفظ الخبر مزية على النهي أن الكلام الذي قبله وبعده خبر فإذا كان أشكل بما قبله وما بعده كان أولى.
ووجه قراءة نافع بالجزم للنهي: ما روي أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
[الحجة للقراء السبعة: 2/216]
سأل: أيّ أبويه كان أحدث موتاً، وأراد أن يستغفر له، فأنزل الله: ولا تسئل عن أصحاب الجحيم [البقرة/ 119] وهذا إذا ثبت معنى صحيح. ويذكر أن في إسناد
الحديث شيئاً.
فأما قوله من قال: إنه لو كان نهياً لكانت الفاء في قوله:
فلا تسأل أسهل من الواو. فالقول فيه: إن هذا النحو إنما يكون بالفاء، إذا كانت الرسالة بالبشارة والنّذارة علّة لأن لا يسأل عن أصحاب الجحيم، كما يقول الرجل: قد حملتك على فرس فلا تسألني غيره. فيكون حمله على الفرس علة لأن لا يسأل غيره. وليس البشارة والنذارة علة لأن لا يسأل.
وقد جوز أبو الحسن في قراءة من جزم أن يكون على تعظيم الأمر كما تقول: لا تسلني عن كذا، إذا أردت تعظيم الأمر فيه. فالمعنى أنهم في أمر عظيم، وإن كان اللفظ لفظ الأمر). [الحجة للقراء السبعة: 2/217]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({إنّا أرسلناك بالحقّ بشيرا ونذيرا ولا تسأل عن أصحاب الجحيم}
قرأ نافع {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} بفتح التّاء والجزم على النّهي وحجته ما روي في التّفسير أن النّبي صلى الله عليه قال ليت شعري ما فعل أبواي فنزلت {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} فنهاه الله عن المسألة قيل إنّه ما ذكرهما حتّى توفاه الله
وقرأ الباقون {ولا تسأل عن أصحاب الجحيم} برفع التّاء
[حجة القراءات: 111]
واللّام وحجتهم أن في قراءة ابن مسعود (ولن تسأل) ورفعه من وجهين أحدهما أن يكون {ولا تسأل} استئنافا كأنّه قيل ولست تسأل عن أصحاب الجحيم كما قال {فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب} والوجه الثّاني على الحال فيكون المعنى وأرسلناك غير سائل عن أصحاب الجحيم). [حجة القراءات: 112]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (67- قوله: {ولا تُسأل عن أصحاب الجحيم} قرأه نافع بفتح التاء والجزم، على النهي من السؤال عن ذلك، وفي النهي معنى التعظيم لما هم فيه من العذاب، أي: لا تسأل يا محمد عنهم، فقد بلغوا غاية العذاب التي ليس بعدها مستزاد، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل: أي أبويه أحدث موتًا ليستغفر له، فنزلت الآية على النهي، عن السؤال، عن أصحاب الجحيم، وروي أنه قال: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنزل النهي عن السؤال عنهما، فدل النهي على الصحة الجزم، وبذلك قرأ ابن عباس، وقرأه الباقون بضم التاء، والرفع على النفي والعطف على {بشيرًا ونذيرًا} فهو في موضع الحال تقديره: إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا، وغير سائل عن أصحاب الجحيم، ويجوز أن يرفع على الاستئناف، والرفع هو الاختيار، لأن عليه جماعة القراء، ولأن ابن مسعود قرأه: «وما تسأل» فهذا يُبين معنى الرفع ويقويه، وأيضًا فإن في قراءة أبي: {وإن تسأل}، فهذا أيضًا يبين معنى الرفع والاستئناف، ويقوي الرفع أن قبله خبرًا، وبعده خبر، فيجب أن يكون هذا خبرًا ليطابق ما قبله وما بعده ويدل على قوة الرفع قوله: {ليس عليك هداهم} «البقرة 272» وقوله: {ما على الرسول إلا البلاغ} «المائدة 99» ويقوي الرفع أيضًا أنه لو كان نهيًا لكان بالفاء، كما تقول: أعطيتك مالا فلا تسألني غيره، وبالرفع قرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وابن أبي إسحاق والجحدري وعيسى بن عمر وغيرهم). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/262]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (43- {وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} [آية/ 119]:-
مفتوحة التاء، مجزومة اللام، قرأها نافع ويعقوب.
ووجه ذلك أنه وإن خرج مخرج النهي، فإنه إخبار عن تعظيم العقوبة لأهل النار، كما تقول: لا تسل عن فلانٍ، إذا أردت تعظيم ما هو فيه، وقيل:
[الموضح: 297]
إنه صلى الله عليه وسلم سأل أي أبويه كان أحدث موتًا، وأراد الاستغفار لهما، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهى عن المسألة عنهما.
وقرأ الباقون {وَلا تُسْأَلُ} مضمومة التاء واللام.
والرفع فيه إما أن يكون لكونه في موضع حالٍ، عطفًا على ما قبله، كأنه قال: إنا أرسلناك بالحق بشيرًا ونذيرًا وغير مسؤولٍ.
وإما أن يكون منقطعًا عن الأول على سبيل الاستئناف، والمعنى في هذه القراءة: انك لا تسأل عن ذنوبهم، وإنما هم يسألون عنها). [الموضح: 298]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107311#post107311)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:20 PM
سورة البقرة
[من الآية (120) إلى الآية (123) ]
{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}
قوله تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}
قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (نعمتي الّتي (122).
اتفق القراء على تريك الياء من قوله (نعمتي الّتي)، إلا ما روى المفضل عن عاصم). [معاني القراءات وعللها: 1/176]
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107312#post107312)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:21 PM
سورة البقرة
[من الآية (124) إلى الآية (126) ]
{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}
قوله تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله - عزّ وجلّ -: (إبراهيم... (124)
[معاني القراءات وعللها: 1/174]
قرأ ابن عامر وحده: (إبراهام) بالألف في سورة البقرة، وفي سورة آل عمران بالياء، وفي سورة النساء بألف إلا قوله: (فقد آتينا آل إبراهيم)، وفي الأنعام بالياء، إلا قوله: (ملّة إبراهام) وفي سورة التوبة بالألف إلا موضعا واحدا قوله: (وقوم إبراهيم)، وفي سورة هود بالياء، وفي سورة يوسف بالياء، وفي سورة إبراهيم بالياء إلا موضعا: (إذ قال إبراهام)، وليس في كلام العرب (إفعالال).
وقرأ الباقون بالياء في جميع القرآن.
[معاني القراءات وعللها: 1/175]
قال أبو منصور: القراءة بالياء لتتابع القراءة عليه، ومن قرأ: (إبراهام) فهي لغة عبرانية تركت على حالها ولم تعرب). [معاني القراءات وعللها: 1/176]
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (لا ينال عهدي الظّالمون (124).
قرأ حمزة وحفص عن عاصم: (عهدي الظّالمين) بإرسال الياء). [معاني القراءات وعللها: 1/176]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله عز وجل: إبراهيم [124] في الألف والياء.
فقرأ ابن عامر في جميع سورة البقرة بغير ياء وطلب الألف إبراهام.
وقراءة القرّاء في كل مصر غير ابن عامر إبراهيم بالياء.
وقراءة ابن عامر: إبراهام بألف بعد الهاء وقال الأخفش الدمشقي عن ابن ذكوان عن ابن عامر: إبراهام بألف بعد الهاء.
قال أبو عليّ: مما يثبت قراءة ابن عامر قول أمية:
مع إبراهم التّقيّ وموسى... وابن يعقوب عصمة في الهزال
[الحجة للقراء السبعة: 2/226]
فهذا كأنه إبراهام، إلّا أنه حذف الألف، كما يقصر الممدود في الشعر. وأنشدوا:
عذت بما عاذ به إبراهم وقيل: إنهم كتبوا ما في البقرة بغير ياء، فهذا يدل على أنه إبراهام، وحذفت الألف من الخطّ، كما حذفت من دراهم، ونحو ذلك، فيشبه أنّه قرأ إبراهام وما ثبت فيه مما يدلك على ذلك. وقد روي أنّه سمع ابن الزبير يقرأ: صحف إبراهام [الأعلى/ 19] بألف). [الحجة للقراء السبعة: 2/227]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قال لا ينال عهدي الظّالمين}
قرأ حمزة وحفص {لا ينال عهدي الظّالمين} بإرسال الياء وقرأ الباقون بفتح الياء وحجتهم في ذلك أن لو لم تتحرك الياء ذهبت في الوصل فلم يكن لها أثر على اللّسان فحركوهها ليعلم أن في الحرف ياء فإذا ظهر على اللّسان أرسلوها فقالوا {وطهر بيتي للطائفين} ). [حجة القراءات: 112]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (45- {إبْراهام} بالألف {آية/ 124]:-
قرأها ابن عامر في جميع سورة البقرة، وكذلك في سورة النساء إلا قوله
[الموضح: 299]
{فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ}، وفي الأنعام {مِلّة إبراهام} والباقي بالياء، وفي التوبة {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} بالياء، والباقي بالألف، وفي إبراهيم واحد بالألف، وفي النحل ما فيها جميعًا بالألف، وفي مريم كله بالألف، وفي العنكبوت واحد بالألف {ولَمّا جاءَتْ رُسُلُنا إبراهام} والباقي بالياء، وفي عسق واحد بالألف، وفي المفصل كله إبراهام بالألف إلا حرفين فإنهما بالياء، أحدهما في الممتحنة {إلا قَوْل إبراهيم} والآخر في الأعلى {صُحُفِ إبراهيم}، وباقي القرآن {إبراهيم} بالياء.
والوجه أن إبراهيم اسم عجمي فيه لغات للعرب؛ لأن العرب إذا تكلمت
[الموضح: 300]
بالأعجمية تلاعبت بها، فيجوز فيه إبراهام وإبراهيم وإبراهم وإبرهم، ولا يمتنع أن يجوز فيه أكثر من ذلك لما ذكرنا من اضطراب العرب في التكلم بالأعجمي والتفنن فيه.
وقيل إن معنى إبراهيم بالسريانية: أب رحيم). [الموضح: 301]
قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى... (125).
قرأ نافع وابن عامر: (واتّخذوا) على الخبر، بفتح الخاء.
وقرأ الباقون بكسر الخاء على الأمر.
وكل ذلك جائز.
وروي عن عمر أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم – وقد وقفا على مقام إبراهيم: أليس هذا مقام خليل الله؟ أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله: (واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى) فكان الأمر على هذا الخبر أبين وأحسن.
وليس يمتنع قراءة من قرأ: (واتّخذوا)؛ لأن الناس اتخذوه، وقال الله جل وعزّ: (وإذ جعلنا البيت مثابةً للنّاس) ثم قال: (واتّخذوا) فعطف بجملة على جملة). [معاني القراءات وعللها: 1/174]
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله - عزّ وجلّ -: (بيتي للطّائفين... (125).
[معاني القراءات وعللها: 1/176]
حرك الياء من (بيتي) نافع وحفص، وأسكنها الباقون.
وقال الزجاج: أجود اللغتين في قوله: (نعمتي التي) فتح الياء؛ لأن الذي بعدها ساكن وهو لام المعرفة، واستعمالها كثير في الكلام، فاختير فتح الياء معهما لالتقاء الساكنين ولأن الياء لو لم يكن بعدها ساكن كان فتحها أصوب في اللغة.
قال: ويجوز أن تحذف الياء في اللفظ لالتقاء الساكنين فيقرأ: (نعمت الّتي) بغير إثبات الياء.
قال: والاختيار إثبات: الياء وفتحها لأنه أقوى في العربية، وأجزل في اللفظ، وأتم للثواب). [معاني القراءات وعللها: 1/177]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في فتح الخاء وكسرها من قوله عز وجل: واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى [البقرة/ 125].
فقرأ نافع وابن عامر: واتّخذوا مفتوحة الخاء على الخبر.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائيّ:
واتّخذوا مكسورة الخاء.
قال أبو علي: وجه قراءة من قرأ: واتّخذوا أنه معطوف على ما أضيف إليه، إذ كأنه: «وإذ اتّخذوا»، ومما يؤكد الفتح في الخاء أن الذي بعده خبر، وهو قوله: وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل [البقرة/ 125].
ومن قرأ: واتّخذوا بالكسر، فلأنهم ذهبوا إلى أثر جاء فيه،
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أخذ بيد عمر، [رحمه الله]، فلما أتى على المقام قال عمر: أهذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم.
قال عمر: أفلا نتّخذه مصلّى؟ فأنزل الله عز وجل: واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلًّى.
فهذا تقديره: افعلوا. والأمر- إذا ثبت هذا الخبر- آكد، لأنه يتحقق به اللزوم، وإذا أخبر ولم يقع الأمر به فقد يجوز أن لا يلزم المخاطبين بذلك الفرض، لأنه
[الحجة للقراء السبعة: 2/220]
قد يجوز أن يكون ناس اتخذوه فلا يلزم غيرهم). [الحجة للقراء السبعة: 2/221]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإذ جعلنا البيت مثابة للنّاس وأمنا واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى}
[حجة القراءات: 112]
قرأ ابن عامر ونافع {واتّخذوا من مقام إبراهيم} بفتح الخاء وحجتهما أن هذا إخبار عن ولد إبراهيم صلى الله عليهم أنهم أتخذوا مقام إبراهيم مصلى وهو مردود إلى قوله {وإذ جعلنا البيت مثابة للنّاس وأمنا واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى}
وقرأ الباقون {واتّخذوا} بكسر الخاء وحجتهم في ذلك ما روي في التّفسير أن النّبي صلى الله عليه أخذ بيد عمر فلمّا أتى على المقام قال له عمر هذا مقام أبينا إبراهيم صلى الله عليه قال
نعم قال أفلا نتخذه مصلى فأنزل الله جلّ وعز {واتّخذوا من مقام إبراهيم مصلى} يقول وافعلوا
قرأ ابن عامر (إبراهام) بألف كل ما في سورة البقرة وفي النّساء بعد المئة وفي الأنعام حرفا واحدًا (ملّة إبراهام) وفي التّوبة بعد المئة (إبراهام) وفي سورة إبراهيم (إبراهام) وفي النّحل ومريم كلها (إبراهام) وفي العنكبوت الثّاني (إبراهام) وعسق (إبراهام) وفي سور المفصل كلها (إبراهام) إلّا في سورة المودّة {إلّا قول إبراهيم} بالياء وفي سبح {صحف إبراهيم}
[حجة القراءات: 113]
وما بقي في جميع القرآن بالياء وحجته في ذلك أن كل ما وجده بألف قرأ بألف وما وجده بالياء قرأ بالياء اتّباع المصاحف
واعلم أن إبراهيم اسم أعجمي دخل في كلام العرب والعرب إذا أعربت اسما أعجميا تكلّمت فيه بلغات فمنهم من يقول إبراهام ومنهم من يقول أبرهم قال الشّاعر
نحن آل الله في بلدته ... لم يزل ذاك على عهد ابرهم). [حجة القراءات: 114]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (68- قوله: {إبراهيم} قرأه هشام بألف في موضع الياء في ثلاثة وثلاثين موضعًا في البقرة خمسة عشر موضعًا، وقد ذكرنا مواضع الباقي منها في الكتاب الأول، وروي عن ابن ذكوان أنه قرأ في البقرة خاصة بألف، وبالوجهين قرأت، وقرأ باقي القراء، في ذلك كله، بالياء، وهو الاختيار، اتباعًا للمصحف، ولأن عليه لغة العامة، وعليه الجماعة، والألف لغة شامية قليلة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/263]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (69- {واتخذوا من} قرأه نافع وابن عامر بفتح الخاء، على الخبر، عمن كان قبلنا من المؤمنين، أنهم اتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، فهو مردود على ما قبله من الخبر وما بعده، والتقدير: واذكر يا محمد إذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا، واذكر إذ اتخذ الناس من مقام إبراهيم مصلى، واذكر إذ عهدنا إلى إبراهيم فكله خبر، فيه معنى التنبيه والتذكير لما كان، فحمل على ما قبله وما بعده، ليتفق الكلام ويتطابق، فـ «إذ» محذوفة مع كل خبر؛ لدلالة «إذ» الأولى الظاهرة على ذلك، وقرأ باقي القراء بكسر الخاء على الأمر، بأن يتخذ من مقام إبراهيم مصلى، وبذلك أتت الروايات على النبي عليه السلام وروي أن النبي عليه السلام أخذ بيد عمر رضي الله عنه فلما أتيا المقام قال عمر: هذا مقام أبينا إبراهيم؟ فقال النبي: نعم. فقال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله جل ذكره: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} على الأمر بذلك، أي افعلوه وروي
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/263]
مالك عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي عليه السلام أتى مقام إبراهيم، فسبقه إليه عمر، فقال عمر: يا رسول الله، هذا مقام أبيك إبراهيم الذي قال الله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}؟ قال النبي: نعم هذا مقام أبينا إبراهيم الذي قال الله: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، فسُئل مالك أهكذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: واتخذوا، قال: نعم، يعني بكسر الخاء، على الأمر، وروى أبو عبيد عن جابر بن عبد الله أن النبي عليه السلام استلم الحجر، ورمل ثلاثة أشواط، ومشى أربعة حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين، وقرأ {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى}، وقال أبو عبيد: فلا أعلمه قرأها في حديثه، إلا بكسر الخاء، وكسر الخاء على الأمر هو الاختيار، لما ذكرنا عن النبي عليه السلام في ذلك، ولأن عليه جماعة القراء، وهو اختيار أبي عبيد وابي حاتم وغيرهما، وهي قراءة العامة في أكثر الأمصار، وأسند القراءة بها أبو حاتم إلى النبي عليه السلام وإلى عمر، وبذلك قرأ أبو جعفر يزيد وعطاء وابن محيصن وشبل والأعرج وطلحة والأعمش والجحدري وابن وثاب وأصحاب ابن مسعود). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/264]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (44- {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [آية/ 125]:-
بفتح الخاء، قرأها نافع وابن عامر.
ووجه ذلك أنه معطوف على قوله تعالى {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ}، وهو خبر، ويقويه أن ما بعده أيضًا خبر، وهو قوله تعالى
[الموضح: 298]
{وَعَهِدْنا}، فلما وقع بين خبرين كان الأحسن عندهما فيه أن يكون خبرًا.
وقرأ الباقون {وَاتّخِذُوا} بكسر الخاء على الأمر؛ لما جاء في الأثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد عمر، فلما أتيا على المقام، قال عمر: أهذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، قال عمر: أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}). [الموضح: 299]
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فأمتّعه قليلًا... (126).
قرأ ابن عامر وحده: (فأمتعه) بالتخفيف، من (أمتعت).
وقرأ الباقون: (فأمتّعه) مشددًا، من (متّعت).
وهما لغتان جيدتان: أمتعت، ومتّعت بمعنى واحدٍ. ومعنى: فأمتعه
[معاني القراءات وعللها: 1/177]
قليلًا: أملي به المدة إملاءً قليلا.
وعلة الرفع في قوله (فأمتعة) أن الفاء جواب للمجازاة في قوله: (ومن كفر)، وإذا كانت الفاء هي الجواب رفع ما بعدها). [معاني القراءات وعللها: 1/178]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تسكين الميم وكسر التاء وتحريك الميم وتشديد التاء في قوله تعالى: فأمتّعه قليلًا [البقرة/ 126].
فقرأ ابن عامر وحده: فأمتّعه قليلًا خفيفة من أمتعت.
وقرأ الباقون فأمتّعه مشددة التاء من متّعت.
قال أبو علي: التشديد أولى لأن التنزيل عليه، قال تعالى: فقال تمتّعوا في داركم [هود/ 65] فتمتّع مطاوع متّع، وعامّة ما في التنزيل على التثقيل.
قال جلّ اسمه: يمتّعكم متاعاً حسناً [هود/ 3].
كمن متّعناه متاع الحياة الدّنيا [القصص/ 61]. ومتّعناهم إلى حينٍ [يونس/ 98].
فكما أن هذه الألفاظ على متّع دون أمتع، فكذلك الأولى بالمختلف فيه أن يكون على متّع دون أمتع.
ووجه قراءة ابن عامر: أنّ أمتع لغة، وأن فعّل قد يجري في هذا النحو مجرى أفعل، نحو: فرّحته وأفرحته، ونزّلته وأنزلته. وزعموا أنّ في حرف عبد الله: ونزّل الملائكة تنزيلًا [الفرقان/ 25] وأنشدوا للراعي:
خليلين من شعبين شتّى تجاورا... قديماً وكانا بالتفرّق أمتعا
[الحجة للقراء السبعة: 2/221]
قال الأصمعي: ليس من أحد يفارق صاحبه إلا أمتعه بشيء يذكره به. قال: فكان ما أمتع كل واحد من هذين صاحبه أن فارقه.
وقال أبو زيد: أمتعا أراد تمتّعاً. ويقال: متع النهار إذا ارتفع.
فأمّا قليلًا من قوله سبحانه: فأمتّعه قليلًا [البقرة/ 126] فيحتمل ضربين: يجوز أن يكون قليلًا صفة للمصدر، ويجوز أن يكون صفة للزمان.
فالدّلالة على جواز كونه صفة للمصدر قوله تعالى: يمتّعكم متاعاً حسناً [هود/ 3] فوصف المصدر به. قال سيبويه: ترى الرجل يعالج شيئاً فتقول: رويداً، أي: علاجاً رويداً. فإن قلت: فكيف يحسن أن يكون صفة للمصدر، وفعّل يدل على التكثير، فكيف يستقيم وصف الكثير بالقليل في قوله: فأمتّعه قليلًا، وهلّا كان قول ابن عامر أرجح، لأن هذا السؤال لا يعترض عليه فيه. فالقول: إن ما ذكرت لا يدل على ترجيح قراءته، وإنما وصفه الله تعالى بالقليل من حيث كان إلى نفاد ونقص وتناه، ألا ترى قوله جل وعز: قل متاع الدّنيا قليلٌ [النساء/ 76] فعلى هذا النحو وصف المتاع في قوله: فأمتّعه قليلًا.
[الحجة للقراء السبعة: 2/222]
وأمّا جواز كون قليل صفة للزمان فيدل عليه قوله تعالى: قال عمّا قليلٍ ليصبحنّ نادمين [المؤمنون/ 40]؛ فتقدير هذا: ليصبحنّ نادمين بعد زمان قليل، كما قال: عرق عن الحمّى، وأطعمه عن الجوع، أي: بعد جوع، وبعد الحمّى). [الحجة للقراء السبعة: 2/223]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن عباس فيما رواه سليمان بن أرقم عن أبي يزيد المدني عن ابن عباس: [فَأَمْتِعْهُ قَلِيلًا ثُمَّ اضْطَّرَّهُ]، على الدعاء من إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
قال أبو الفتح: أما على قراءة الجماعة: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} فإن الفاعل في "قال" هو اسم الله تعالى؛ أي: لما قال إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قال الله: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ} .
وأما على قراءة ابن عباس: [فَأَمْتِعْهُ قَلِيلًا ثُمَّ اضْطَّرَّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ] فيحتمل أمرين:
[المحتسب: 1/104]
أحدهما: وهو الظاهر، أن يكون الفاعل في "قال" ضمير إبراهيم عليه السلام؛ أي: قال إبراهيم أيضًا: ومن كفر فأَمْتِعه يارب ثم اضطرَّه يا رب.
وحَسُنَ على هذا إعادة "قال" لأمرين:
أحدهما: طول الكلام، فلما تباعد آخره من أوله أُعيدت "قال" لبُعْدِها، كما قد يجوز مع طول الكلام ما لا يحوز مع قصره.
والآخر: أنه انتقل من الدعاء لقوم إلى الدعاء على آخرين، فكأن ذلك أَخْذٌ في كلام آخر، فاستؤنف معه لفظ القول، فجرى ذلك مجرى استئناف التصريع في القصيدة إذا خرج من معنى إلى معنى؛ ولهذا ما يقول الشاعر في نحو ذلك:
فدع ذا ولكن هل ترى ضوء بارق
ويقول:
دع ذا وبهج حَسَبا مُبهَّجا
فإذا جاز أن يصُرِّع وهو في أثناء المعنى الواحد نحو قوله:
ألا نادِ في آثارهن الغوانيا ... سُقين سِمَامًا ما لهن وما ليا
كان التصريع مع الانتقال من حال إلى حال أحرى بالجواز، فهذا أحد الوجهين.
وأما الآخر: فهو أن يكون الفاعل في "قال" ضمير اسم الله تعالى؛ أي: فأَمْتِعه يا خالق، أو فأمتعه يا قادر أو يا مالك أويا إله، يخاطب بذلك نفسه -عز وجل- فجرى هذا على ما تعتاده العرب من أمر الإنسان لنفسه؛ كقراءة من قرأ: [قَالَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] أي: اعلم يا إنسان، وكقول الأعشى:
وهل تُطيق وداعًا أيها الرجل
[المحتسب: 1/105]
وهذا يتصل بباب من العربية غريب لطيف وهو باب التجريد؛ كأنه يجرد نفسه منه ثم يخاطبها، وقد ذكرنا هذا الباب في كتابنا الخصائص.
وهذا وإن كان مما لا ينبغي أن يُجرى في الحقيقة مثله على الله -سبحانه- لأنه لا تجزؤ هناك؛ فإنه يُجرى على عادة القوم ومذهب خطابهم، وقد نطقوا بهذا نفسه معه -تقدست أسماؤه- أنشدنا أبو علي:
أفاءت بنو مروان ظلمًا دماءنا ... وفي الله إن لم يَعدلوا حَكَمٌ عدل
فجرى اللفظ على أنه جُرد منه شيء يسمى حكَمًا عدلًا، وهو مع التحصيل على حذف المضاف؛ أي: وفي عدل الله حَكَمٌ عدل. فتفهَّم هذه المواضع، فإن قدر الإعراب يضيع إلى معناها، وإن كان هو أول الطريق ونهجه إليها.
ويجوز في العربية: [ثم اضطَرِّهِي] بكسر الراء لالتقاء الساكنين، ثم تُبَيَّن الهاء بياء بعدها.
ويجوز أيضًا: [ثم اضطَرِّهِ] تكسر الهاء ولا تتم الياء.
ويجوز: [اضطَرِّهْ] بكسر الراء وفتحها والهاء الساكنة.
ويجوز: [ثم اضطَرُّهُو] بضم الراء كما روينا عن قطرب أن بعضهم يقول: شَمُّ يا رجل.
ويجوز الضم بلا واو.
ويجوز مع ضم الراء وفتحها تسكين الهاء. وقد ذكرت ذلك كله في أماكنه). [المحتسب: 1/106]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن محصين: ثم [أَطَّرُّه] يدغم الضاد في الطاء.
قال أبو الفتح: هذه لغة مرذولة؛ أعني: إدغام الضاد في الطاء؛ وذلك لما فيها من الامتداد والفشو؛ فإنها من الحروف الخمسة التي يدغم فيها ما يجاورها، ولا تدغم هي فيما يجاورها.
وهي: الشين والضاد والراء والفاء والميم، ويجمعها في اللفظ قولهم: ضُمَّ شَفْر، وقد أخرج بعضهم الضاد من ذلك وجمعها في قولهم: مِشفر.
قال: لأنه قد حُكي إدغام الضاد في الطاء في قولهم في "اضطجع": اطَّجع.
[المحتسب: 1/106]
وأنشدوا قوله:
يا رُبَّ أبَّاز من العُفْر صدع ... تقبَّض الظلُّ إليه واجتمع
لما رأى أن لا دعه ولا شِبع ... مال إلى أرطاة حِقْف فاطجع
ويُروى: "فاضطجع" وهو الأكثر والأقيس.
ويُروى أيضًا: "فالْطَجع" يبدل أيضًا اللام من الضاد.
فإن قيل: فقد أحطنا علمًا بأن أصل هذا الحرف اضتجع افتعل من الضجعة، فلما جاءت الضاء قبل تاء افتعل أُبدلت لها التاء طاء، فهلا لما زالت الضاد فصارت بإبدالها إلى اللام رُدت التاء فقيل: التجع، كما تقول: التجم والتجأ؟
قيل: هذا إبدال عَرَضَ للضاد في بعض اللغات، فلما كان أمرًا عارضًا، وظِلًّا في أكثر اللغات خالصًا؛ أقروا الطاء بحالها إيذانًا بقلة الحفل بما عرَض من البدل، ودلالة على الأصل المنحو المتعمد، وله غير نظير.
ألا ترى إلى قوله:
وكَحَل العينين بالعَوَاوِر
وكيف صحح الواو الثانية وإن كان قبلها الواو الأولى بينهما ألف وقد جاوزت الثانية
[المحتسب: 1/107]
الطرف، ولم يقلبها كما قلبها في أوائل، وأصلها أواول لما ذكرنا؛ إذ كان الأصل هاهنا العواوير، وإنما حذفت الياء تخفيفًا وهي مرادة، فجعل تصحيح الواو في العواور دليلًا على إرادة الياء في عواوير، وكما جعل حذف النون من قوله:
إرهن بنيك عنهم أراهن بني
أراد: بني، فحذف الياء الثانية لتخفيف القافية، وترك أن يرد النون من "بنين"؛ لأنه لم يَبْنِ الأمر على حذف الياء الثانية ألبتة؛ وإنما حذفها للوقف على الحرف المشدد في الروي المقيد، وكما أنشدنا أبو علي للفرزدق من قوله:
تنظرت نصرًا والسِّماكين أيهما ... علَيَّ من الغيث استهَلَّت مواطرُهُ
أراد: أيهما، فاضطر إلى تخفيف الحروف فحذف الياء الثانية، وكانت ينبغي أن يرد الياء الأولى إلى الواو؛ لأن أصلها الواو، وأن يكون قياسًا واشتقاقًا جميعًا أولى، ولم يقل: أوهما، فيرد الواو الأصلية؛ لأنه لم يَبْنِ الكلمة على حذف الياء ألبتة، فيرد الواو، فيقول: أوهما؛ لأنه إنما اضطر إلى التخفيف هناك وهو ينوي الحرف المحذوف كما ينوي الملفوظ به، ويأتي نظيره في سورة القصص، وقد ذكرنا أخوات لهذا أكثر من عشر في كتاب الخصائص؛ فلذلك قال: فالطجع، فترك الطاء بحالها كما قدمنا ذكره). [المحتسب: 1/108]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قال ومن كفر فأمتعه قليلا}
قرأ ابن عامر {فأمتعه قليلا} بالتّخفيف وقرأ الباقون بالتّشديد وهما لغتان يقال متع الله به وأمتع به والتّشديد هو الاختيار لأن القرآن يشهد بذلك في قوله {ومتعناهم إلى حين} ولم يقل أمتعناهم). [حجة القراءات: 114]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (70- قوله: «فأمتعه» قرأه ابن عامر مخففا، وشدده الباقون.
71- ووجه التخفيف أنه جعله من «أمتع»، و«أمتع» لغة في «متع» وكلاهما بمعنى، غير أن التشديد فيه معنى تكرير الفعل، وبالتخفيف قرأ ابن عباس وابن محيصن وشبل.
72- فأما من شدده فإنه حمله على إجماعهم على التشديد في قوله: {تمتعوا في داركم} «هود 56» و{تمتع بكفرك} «الزمر 8» و{يمتعكم متاعًا} «هود 3» وهو كثير في القرآن من «متع» فحمل هذا عليه، وهو الاختيار، لما فيه من معنى التكرير، ولإجماع القراء عليه، وليُلحق بنظائره، مما لم يختلف في تشديده مما ذكرنا، وبالتشديد قرأ أبو عبد الرحمن السلمي والأعرج وأبو جعفر يزيد وشيبة، وبه قرأ أبي والحسن ومجاهد وأبو رجاء والجحدري وعيسى بن عمر والأعمش والأعرج، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، وعليه قراءة العامة في الأمصار). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/265]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (46- {فَأُمْتِعُهُ} [آية/ 126]:-
بسكون الميم وتخفيف التاء، قرأها ابن عامر وحده، لأنه جعله من أمتع، فإن أمتعه ومتعه واحد، كأفرحه وفرحه، والإمتاع كثير في كلام العرب. وقرأ الباقون {فَأُمَتِّعُهُ} بفتح الميم وتشديد التاء، على أنه من متع دون أمتع؛ لأن كل ما في القرآن من هذا النظم فهو على لفظ التمتيع دون الإمتاع نحو: {يُمَتِّعْكُمْ} و{مَتَّعْنَاهُ} و{مَتّعْنَاهُمْ}، فهذه القراءة أولى؛ لأن عامة ما في القرآن عليها). [الموضح: 301]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107313#post107313)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:23 PM
سورة البقرة
[من الآية (127) إلى الآية (129) ]
{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}
قوله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن ابن عباس في مصحف ابن مسعود: [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ وَيَقُولَانِ رَبَّنَا]، وفيه: [وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ]، وفيه: [وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ يَقُولُونَ أَخْرِجُوا].
قال أبو الفتح: في هذا دليل على صحة ما يذهب إليه أصحابنا من أن القول مراد مقدَّر
[المحتسب: 1/108]
في نحول هذه الأشياء، وأنه ليس كما يذهب إليه الكوفيون من أن الكلام محمول على معناه، دون أن يكون القول مقدرًا معه؛ وذلك كقول الشاعر:
رَجْلانِ من ضبة أخبرانا ... إنا رأينا رجلا عريانا
فهو عندنا نحن على: قالا: إنا رأينا، وعلى قولهم لا إضمار قول هناك؛ لكنه لما كان أخبرانا في معنى قالا لنا؛ صار كأنه: قالا لنا، فأما على إضمار قالا في الحقيقة فلا.
وقد رأيت إلى قراءة ابن مسعود كيف ظهر فيها ما نقدره من القول؛ فصار قاطعًا على أنه مراد فيما يجري مجراه.
وكذلك قوله:
يدعون عنترُ والرماح كأنها
فيمن ضم الراء من عنتر؛ أي: يقولون: يا عنتر، وكذلك من فتح الراء، وهو يريد: يا عنترة.
وكذلك {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ} أي: يقولون، وقد كثر حذف القول من الكلام جدًّا). [المحتسب: 1/109]
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وأرنا مناسكنا... (128).
قرأ ابن كثير ويعقوب: (وأرنا) و(ربّ أرني) و(أرنا اللّذين أضلّانا)، ونحو ذلك، بتسكين الراء.
وروى شبل عن ابن كثير: (وأرنا) بين الإسكان والكسر.
وقرأ أبو عمرو في رواية اليزيدي، وعبد الوارث، وهارون، وعبيد، وعلي بن نصر: (وأرنا) و(أرني) بين الإسكان والكسر، وهو مذهب أبي عمرو في هذا الباب، لا يجزم ولا يثقل.
[معاني القراءات وعللها: 1/178]
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم مثل قراءة ابن كثير ويعقوب في (حم السجدة) فقط.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص بالتثقيل في جميع القرآن.
قال أبو منصور: القراءة (أرنا) بالكسرة لأن الأصل فيه (أرئنا)، فالكسرة إنما هي كسرة الهمزة التي ألقيت وطرحت حركتها على الراء، وإذا كانت الكسرة دليل الهمزة قبح حذفها. وقراءة أبي عمرو بالكسرة المختلسة جيدة، مأخوذة عن العرب الذين يكرهون التثقيل). [معاني القراءات وعللها: 1/179]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في كسر الراء وإسكانها واشمامها الكسر في قوله تعالى: وأرنا مناسكنا [البقرة/ 128].
فقرأ ابن كثير: وأرنا مناسكنا، وربّ أرني [الأعراف/ 142]، وأرنا الّذين [حم السجدة/ 29] ساكنة الراء.
وقال خلف عن عبيد عن شبل عن ابن كثير: وأرنا بين الكسر والإسكان.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي: أرنا بكسر الراء في كل ذلك.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر بكسر الراء:
أرنا مناسكنا، وربّ أرني، وأرنا اللّه جهرةً [النساء/ 152] [بكسر الراء]، وأسكنا الراء في قوله:
أرنا اللذين في هذه وحدها. وروى حفص عنه: أرنا مكسورة الراء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/223]
واختلف عن أبي عمرو في ذلك، فقال عباس بن الفضل: سألت أبا عمرو، فقرأ [وأرنا] مدغمة، كذا قال.
وسألته عن: وأرنا مثقّلة، فقال: لا. فقلت أرني فقال: لا.
كل شيء في القرآن بينهما ليست أرنا ولا أرنا.
وقال عبد الوارث اليزيديّ وهارون الأعور، وعبيد بن عقيل وعلي بن نصر: أرني وأرنا بين الكسر والإسكان.
وقال أبو زيد والخفّاف عن أبي عمرو وأرنا بإسكان الراء.
قال أبو علي: قوله عز وجل: أرنا مناسكنا يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون منقولًا من رأيت الذي يراد به إدراك البصر، نقلت بالهمزة فتعدت إلى مفعولين، والتقدير حذف المضاف، كأنه: أرنا مواضع مناسكنا.
والمناسك: جمع منسك، وهو مصدر جمع لاختلاف ضروبه، والمعنى: عرّفنا هذه المواضع التي يتعلق النسك بها لنفعله، ونقضي نسكنا فيها على حدّ ما يقتضيه توقيفنا عليها، وذلك نحو: المواقيت التي يحرم منها، ونحو الموضع الذي يوقف به من عرفات، وموضع الطواف، وموضع رمي الجمار، فهذا من: رأيت الموضع، وأريته زيداً.
والآخر: أن يكون أرنا منقولًا من رأيت التي لا يراد بها رؤية العين، ولكن التوقيف على الأمر، وضرب من العلم.
[الحجة للقراء السبعة: 2/224]
وأنت تقول فلان يرى رأي الخوارج، فتقصر على مفعول واحد، وليس هناك شيء يبصر. وإلى هذا ذهب أبو عبيدة في تأويل الآية فقال: وأرنا مناسكنا أي: علّمنا. وأنشد لحطائط بن يعفر:
أريني جواداً مات هزلا لأنني * أرى ما ترين أو بخيلًا مخلّداً قال: أراد: دلّيني، ولم يرد رؤية العين. وأما قوله تعالى: ربّ أرني أنظر إليك [الأعراف/ 142] فهو من رأيت الذي يتعدى إلى مفعول واحد، يراد به إدراك البصر، والمفعول الثاني حذف من اللفظ، لأن ما يتعلق بالفعل الثاني يدل عليه، ومعنى الكلام يقتضيه.
وقوله تعالى: أرنا الّذين أضلّانا من الجنّ والإنس [السجدة/ 29] فهو من رأيت المتعدية إلى مفعول واحد، فلما نقل بالهمزة تعدى إلى اثنين.
وجاء في الحديث: أرنا الّذين أضلّانا من الجنّ والإنس قال: هما ابن آدم الذي قتل أخاه وإبليس.
[الحجة للقراء السبعة: 2/225]
وقد ذكرنا وجه الإسكان فيما تقدم. فأما من اعتلّ بأن الوجه الإشباع أو الإخفاء دون الإسكان لأن الحرف قد حذف منه؛ فليس اعتلاله بذاك، لأن الحذف إذا وجب بقياس، وعلى باب مطّرد، كان هو والإثبات سواء في المساغ. ألا ترى أنهم قالوا:
ر رأيك، وش ثوبك، وف بوعدك. فبقي في ذلك كلّه الكلمة على حرف واحد. فكذلك إذا أوجب ضرب من القياس فيه الإسكان فهو بمنزلة ما يوجب حذف الهمزة من التخفيف، وأوجب حذف اللام للأمر، ويقوي ذلك اتفاقهم، أو اتفاق أكثرهم، في قوله: لكنّا هو اللّه ربّي [الكهف/ 38] فلزم فيه حذف بعد حذف). [الحجة للقراء السبعة: 2/226]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وأرنا مناسكنا وتب علينا}
قرأ أبو عمرو {وأرنا} مختلسا وقرأ ابن كثير {وأرنا} ساكنة في جميع القرآن وحجته أن الرّاء في الأصل ساكنة وأصلها أرئينا على وزن أكرمنا فحذفت الياء للجزم ثمّ تركت الهمزة كما تركت في يرى وترى وبقيت الياء محذوفة كما كانت والأجود أن تقول نقلنا حركة الهمزة إلى الرّاء ثمّ حذفنا لكثرة الحركات
وقرأ الباقون {أرنا} بكسر الرّاء وحجتهم في ذلك أن الكسرة
[حجة القراءات: 114]
إنّما هي كسرة همزة ألغيت وطرحت حركتها على الرّاء فالكسرة دليل الهمزة فحذفها قبيح). [حجة القراءات: 115]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (47- {وَأَرْنا} [آية/ 128]:-
بسكون الراءِ، قرأها ابن كثير ويعقوبُ، وكذلك {أَرْنا} و{أَرْنِي} في كل القرآن، ووافقهما ابن عامر و- ياش- عن عاصم في {أَرْنا} فقط.
[الموضح: 301]
وأبو عمرو يختلس في الجميع.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي و- ص- عن عاصم بكسر الراء في الجميع.
القراءة بالسكون ههنا حسنة، وليست تقبح قبح الإسكان في {يَأْمُرْكُمْ} و{يَنْصُرْكُمْ} و{بَارِئكُم} وأمثالها؛ لأن الحركات في هذه الكلم حركات الإعراب فيقبح الإسكان فيها كراهة زوال علم الإعراب، وليست حركة {أرْنا} و{أَرْنِي} بحركة الإعراب، فالإسكان ههنا حسن، إلا أنه على تشبيه المنفصل بالمتصل، وذلك أن {أَرْنِي} بمنزلة: فخذ، فلهذا جاز الإسكان.
وأما اختلاس أبي عمرو فقد مضى الكلام فيه.
وأما كسر الباقين فعلى الأصل). [الموضح: 302]
قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال ابن مجاهد: قال عباس: سألت أبا عمرو عن {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} فقال: أهل الحجاز يقولون: [يعلِّمُهم ويلْعَنُهم] مثقلة، ولغة تميم: [يُعْلِمْهم ويلْعَنْهم].
قال أبو الفتح: أما التثقيل فلا سؤال عنه ولا فيه؛ لأنه استيفاء واجب الإعراب؛ لكن من حذف فعنه السؤال، وعلته توالي الحركات مع الضمات، فيثقل ذلك عليهم فيخففون بإسكان حركة الإعراب، وعليه قراءة أبي عمرو: [فَتُوبُوا إِلَى بَارِئْكُمْ] فيمن رواه بسكون الهمزة. وحكى أبو زيد: [بَلَى وَرُسُلْنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ] بسكون اللام.
وأنشدنا أبو علي لجرير:
[المحتسب: 1/109]
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى فلا تعرفْكم العرب
يريد: تعرفُكم. ومن أبيات الكتاب:
فاليوم أشربْ غير مُستَحقِبٍ ... إثمًا من الله ولا واغِلِ
أي: أشربُ.
وأما اعتراض أبي العباس هنا على الكتاب، فإنما هو على العرب لا على صاحب الكتاب؛ لأنه حكاه كما سمعه، ولا يمكن في الوزن أيضًا غيره.
وقول أبي العباس: إنما الرواية: "فاليوم فاشرب"، فكأنه قال لسيبويه: كذبتَ على العرب، ولم تَسمع ما حكيته عنهم. وإذا بلغ الأمر هذا الحد من السرَف فقد سقطت كلفة القول معه.
وكذلك إنكاره عليه أيضًا قول الشاعر:
"وقد بدا هَنْكِ من المئزر
[المحتسب: 1/110]
فقال: إنما الرواية:
وقد بدا ذاك من المئزر
وما أطيب العرس لولا النفقة!
وكذلك الاعتراض عليه في إنشاده قوله:
لا بارك الله في الغواني هل ... يُصبحن إلا لهن مُطَّلَبُ
وقول الأصمعي: "في الغواني ما" يريد: في الغواني أَما، ويخفف الهمزة. وقول غيره: "في الغوان أَما"، ولو كان إلى الناس تخير ما يحتمله الموضع والتسبب إليه لكان الرجل أقوم من الجماعة به، وأوصل إلى المراد منه، وأنفى لشغب الزيغ والاضطراب عنه.
فأما قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حِمامُها
فحملوه على هذا؛ أي: أو يرتبط بعض النفوس حمامها؛ معناه: إلا أن يرتبط، فأسكن المفتوح لإقامة الوزن واتصال الحركات.
وقد يمكن عندي أن يكون يرتبط عطفًا على أرضها؛ أي: أنا تراك أمكنة إذا لم أرضها ولم يرتبط نفسي حمامها؛ أي: ما دمت حيًّا فأنا متقلقل في الأرض من هذه إلى هذه، ألا ترى إلى قوله:
قَوَّال مُحكَمَة جوَّاب آفاق
وهو كثير في الشعر، فكذلك قول بني تميم: [يُعلِّمْهم ويلْعَنْهم] على ما ذكرنا). [المحتسب: 1/111] (م)
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107314#post107314)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:24 PM
سورة البقرة
[من الآية (130) إلى الآية (134) ]
{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}
قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)}
قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)}
قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ووصّى بها إبراهيم... (132).
قرأ نافع وابن عامرٍ: (وأوصى بها) بالألف.
وقرأ الباقون بغير ألف.
[معاني القراءات وعللها: 1/179]
قال أبو منصور: هما لغتان: أوصي، ووصى، فاقرأ كيف شئت). [معاني القراءات وعللها: 1/180]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في زيادة الألف ونقصانها من قوله تعالى: ووصّى بها [البقرة/ 132].
فقرأ نافع وابن عامر وأوصى بها على أفعل.
وقرأ الباقون: ووصّى بغير ألف على فعّل.
قال أبو عليّ: حجة من قرأ: وصّى بغير ألف قوله عز وجل: فلا يستطيعون توصيةً [يس/ 50] فتوصية مصدر وصّى، مثل: قطّع تقطعة، ولا يكون فيه تفعيل نحو: التقطيع، لأنك لو جئت به على تفعيل للزم في حيّيت، ونحوه، إذا
[الحجة للقراء السبعة: 2/227]
أتيت به على فعّل، أن يكون المصدر على تفعيل أيضاً، فتجتمع ثلاث ياءات، وإذا كانوا قد رفضوا في نحو: عطاء، التحقير على الإتمام، لأنه كان يجتمع ثلاث ياءات، الوسطى منهنّ متحركة بالكسر، فكذلك رفض هذا في تفعيل، لأنه على تلك العدّة وفيهن الكسرة، وإن كانت الكسرة في تفعيل أوّلا، وفي عطاء إذا حقّرت ثانية.
وحجة من قرأ: وأوصى قوله تعالى: يوصيكم اللّه في أولادكم [النساء/ 11] ومن بعد وصيّةٍ توصون بها [النساء/ 11]. وقد قالوا: وصى النّبت: إذا اتصل بعضه ببعض. فالوصيّة كأنّ الموصي بالوصيّة وصل جلّ أمره إلى الموصى إليه). [الحجة للقراء السبعة: 2/228]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب}
قرأ نافع وابن عامر (وأوصى بها) بالألف وحجتهما أن أوصى يكون للقليل والكثير ووصى لا يكون إلّا للكثير
وقرأ الباقون {ووصى} التّشديد وحجتهم أن وصّى أبلغ من أوصى لأن أوصى جائز أن يكون مرّة ووصى لا يكون إلّا مرّات كثيرة وقال الكسائي هما لغتان معروفتان تقول وصيتك وأوصيتك كما تقول كرمتك وأكرمتك والقرآن ينطق بالوجهين قال الله {ولقد وصينا الّذين أوتوا الكتاب من قبلكم} {ما وصّى به نوحًا} {ذلكم وصّاكم به} وقال {يوصيكم الله} و{من بعد وصيّة توصون} والتّشديد أكثر). [حجة القراءات: 115]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (73- قوله: {ووصى} قرأه نافع وابن عامر بهمزة مخففًا، وشدد الباقون من غير همز، وهما لغتان: وصى وأوصى بمعنى واحد، وقوله: {توصية} «يس 50» يدلى على «وصى» مشددًا، وكذلك قوله: {وصاكم} «الأنعام 144» وقوله: {يوصيكم} «النساء 11» و{يوصي بها} «النساء 11» و{توصون} «النساء 12» يدل على «أوصى» مخففًا، فالقراءتان متوافقتان، غير أن التشديد، فيه معنى تكرير الفعل، فكأنه أبلغ في المعنى، وهو الاختيار، لإجماع أكثر القراء عليه، ولزيادة الفائدة التي فيه، وبالتشديد قرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وشبل، وفي حرف ابن مسعود «فوصى»
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/265]
بالفاء مشددًا، والتشديد اختيار أبي حاتم، والمصاحف تختلف فيه، فمصاحف أهل المدينة والشام فيها ألف بين الواوين، وسائر مصاحف الأمصار لا ألف فيها بين الواوين). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/266]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (48- {وَأَوْصَى} [آية/ 132]:-
بالألف، قرأها نافع وابن عامر.
وذلك لأن أوصى ووصى لغتان، وقال الله تعالى {يُوصِيكُمُ الله} و{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ} و{تُوصُونَ}، فهذا من أوصى.
وقرأ الباقون {وَوَصّى} بالتشديد، فقد جاء في قول الله تعالى أيضًا
[الموضح: 302]
نحو: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً}، فهذا من وصى، لأن التفعلة إنما تجيء مصدرًا لفعل بالتشديد، كالتفعيل، إلا أنه يأتي من هذا الضرب أعني معتل اللام التفعلة دون التفعيل، لئلا يجتمع في باب حييت ثلاث ياءات). [الموضح: 303]
قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آَبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن عباس والحسن ويحيى بن يعمر وعاصم الجحدري وأبي رجاء بخلاف: [وإلَه أَبِيكَ] بالتوحيد.
قال أبو الفتح: قول ابن مجاهد بالتوحيد لا وجه له؛ وذلك أن أكثر القراءة: {وَإِلَهَ آبَائِكَ} جمعًا كما ترى، فإذا كان أبيك واحدًا كان مخالفًا لقراءة الجماعة؛ فتحتاج حينئذ إلى أن يكون أبيك هنا واحدًا في معنى الجماعة، فإذا أمكن أن يكون جمعًا كان كقراءة الجماعة، ولم يحتج فيه إلى التأول لوقوع الواحد موقع الجماعة، وطريق ذلك أن يكون "أبيك" جمع أب على الصحة، على قولك للجماعة: هولاء أبون أحرار؛ أي: آباء أحرار، وقد اتسع ذلك عنهم. ومن أبيات الكتاب:
فلما تبين أصواتنا ... بكين وفدَّيْنَنَا بالأبينا
وقال أبو طالب:
ألم ترَ أني بعد همٍّ هممته ... لفرقة حرمن أبين كرام
وقال الآخر:
فهو يُفَدَّى بالأبين والخالْ
[المحتسب: 1/112]
وقد أشبعنا هذا الموضع في شرح ديوان المتنبي.
ويؤكد أن المراد به الجماعة ما جاء بعده من قوله: {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} فأبدل الجماعة من أبيك، فهو جماعة لا محالة؛ لاستحالة إبدال الأكثر من الأقل؛ فيصير قوله تعالى: [وإله أبيك] كقوله: وإله ذويك، هذا هو الوجه، وعليه فليكن العمل). [المحتسب: 1/113]
قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107315#post107315)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:26 PM
سورة البقرة
[من الآية (135) إلى الآية (138) ]
{وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}
قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)}
قوله تعالى: {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)}
قوله تعالى: {فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما حكاه ابن مجاهد عن ابن عباس: أنه قال: لا تقرأ {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ}؛ فإن الله ليس له مثل؛ ولكن اقرأ: [بما آمنتم به].
قال: وروى عنه أيضًا أنه كان يقرأ: [بالذي آمنتم به].
قال: وقال عباس في مصحف أنس وأبي صالح وابن مسعود: [فإن آمنوا بما آمنتم به].
قال أبو الفتح: هذا الذي ذهب إليه ابن عباس حسن؛ لكن ليس لأن القراءة المشهورة مردودة. وصحة ذلك أنه إنما يراد: فإن آمنوا بما آمنتم به، كما أرداه ابن عباس وغيره، غير أن العرب قد تأتي بمثل في نحو هذا توكيدًا وتسديدًا، يقول الرجل إذا نفى عن نفسه القبيح: مثلي لا يفعل هذا؛ أي: أنا لا أفعله، ومثلك إذا سئل أعطى؛ أي: أنت كذاك، قال:
مثلي لا يُحسن قولًا فَعْ فَعْ
أي: أنا لا أحسنه. وفي حديث سيف بن ذي يزن: "أيها الملك، مثل من سَرَّ وبَر" أي: أنت كذاك. وهو كثير في الشعر القديم والمولد جميعًا.
[المحتسب: 1/113]
وسبب توكيد هذه المواضع "بمثل" أنه يراد أن يُجعل من جماعة هذه أوصافهم تثبيتًا للأمر وتمكينًا له، ولو كان فيه وحده لقلق منه موضعه، ولم تَرْسُ فيه قدمه، ولم يؤمن عليه انتقاله إلى ضده.
ومثل ذلك أيضًا قولهم في مدح الإنسان: أنت من القوم الكرام، ومنْزِعُك إلى السادة؛ أي: لك في هذا الفعل سابقة وأول، فأنت مقيم عليه ومحقوق به، ولست دخيلًا فيه عن غير أول ولا أصل، فيخشى عليك نُبوك عنه.
ولما أريد مثل هذا في الثناء على الله -تعالى- ولم يجز أن يكون تابعًا لسلف، ولا موجودًا له فيه نظير؛ عدلوا به إلى وجه ثالث غير الاثنين المذكورين؛ وهو أن جُعل قديمًا فيه، راسخًا عليه، فكان أثبت له من أن يكون -عز وجهه- مبتدئه أو مرتجله، وذلك قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} ونحو ذلك من الآى، فاعرف ذلك أولًا ومبتكرًا. فكذلك قوله عز وجل: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} أي: كانوا ممن يؤمن بالحق هذا الجنس على سَعته وانتشار جهاته فقد اهتدوا.
ورحم الله ابن عباس! فإن هذا القول وإن كان اعتراضًا عليه، فعنه أيضًا أُخذ وإليه رُد، وغير ملوم مَن نصر الجماعة، وبالله الحول والاستطاعة). [المحتسب: 1/114]
قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107316#post107316)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:27 PM
سورة البقرة
[من الآية (139) إلى الآية (141) ]
{قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}
قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}
قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (أم يقولون إنّ إبراهيم... (140).
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو: (أم يقولون) بالياء، رواه عاصم لأبي بكر، وقرأ الباقون وحفص عن عاصم بالتاء.
قال أبو منصور: من قرأ بالتاء فهو مخاطبة.
ومن قرأ بالياء فهو إخبار عن غائب.
ومعنى أم: ألف الاستفهام، أيقولون؟). [معاني القراءات وعللها: 1/180]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الياء والتاء من قوله تعالى: أم تقولون [البقرة/ 140].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو بالياء: يقولون.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: تقولون بالتاء.
قال أبو علي: حجة قراءة من قرأ بالتاء: أن ما قبلها وبعدها على المخاطبة، فالمخاطبة المتقدمة قوله عز وجل:
[الحجة للقراء السبعة: 2/228]
أتحاجّوننا في اللّه [البقرة/ 139] والمتأخرة قوله تعالى:
قل أأنتم أعلم أم اللّه [البقرة/ 140].
ومن قرأ بالياء فلأن المعنى لليهود والنصارى، وهم غيب). [الحجة للقراء السبعة: 2/229]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({أم تقولون إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودا أو نصارى}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر {أم يقولون} بالياء وحجتهم أن هذا إخبار عن اليهود أراد أم يقول اليهود والنّصارى
وقرأ الباقون بالتّاء وحجتهم المخاطبة الّتي قبلها والّتي بعدها فالمتقدمة قوله {قل أتحاجوننا في الله} 139 والمتأخرة قوله
[حجة القراءات: 115]
{قل أأنتم أعلم أم الله} فتأويل الآية قل يا محمّد للقائلين لكم {كونوا هودا أو نصارى} أتحاجوننا أم تقولون إن إبراهيم وأولاده كانوا يهودا). [حجة القراءات: 116]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (74- قوله: {أم تقولون} قرأه ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بالتاء على المخاطبة، وحسن ذلك لأنه أتبعه ما قبله من الخطاب وما بعده، وذلك قوله: {أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم} «139» وقوله: {أأنتم أعلم أم الله}، فأجرى الكلام على نسق واحد في المخاطبة، وقرأه الباقون بالياء على أنه إخبار عن اليهود والنصارى، وهم غيب، فجرى الكلام على لفظ الغيبة، وأيضًا فإن قبله كلامًا في معناه بلفظ الغيبة وهو قوله: {فإن آمنوا} «137» وقوله: {فقد اهتدوا}، وقوله: {فإن تولوا فإنما هو في شقاق}، وقوله: {فسيكفيكهم الله} كله بلفظ الغيبة، إخبارًا عن اليهود والنصارى، فجرى «أم يقولون» بالياء على ذلك كله، والاختيار الياء، وبه قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وأبو رجاء وقتادة وأبو جعفر يزيد وشيبة، وهو اختيار أبي حاتم). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/266]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (49- {أَمْ تَقُولُونَ} {آية/ 140]:-
بالتاء، قرأها ابن عامر والكسائي و- ص- عن عاصم و- يس- عن يعقوب.
ووجهه أن الخطاب ههنا أليق بما قبله وما بعده، فما قبله قوله تعالى {قُلْ أَتُحاجّونَنَا} وهو على الخطاب، وما بعده قوله تعالى {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ}.
وقرأ الباقون و- ياش- عن عاصم و- ح- و- ان- عن يعقوب بالياء تحتها نقطتان؛ لأن المراد بهم اليهود والنصارى، فهو على الغيبة، ويدل على ذلك أنه فصل بين الكلامين بـ {قُلْ أَأَنْتُمْ} ). [الموضح: 303]
قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107317#post107317)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:29 PM
سورة البقرة
[من الآية (142) إلى الآية (144) ]
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}
قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ما ولّاهم عن قبلتهم... (142).
قرأ حمزة والكسائي: (ما ولّيهم) ممالًا.
ورواه أبو بكر عن عاصم بالإمالة أيضًا.
وفخّمه الباقون.
قال أبو منصور: هما لغتان، والتفخيم أفصحهما). [معاني القراءات وعللها: 1/181]
قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (لرءوفٌ رحيمٌ (143).
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحفص: (لرءوفٌ) بوزن رعوف في كل القرآن.
وقرأ الباقون: (لرءوفٌ) بوزن رعف
قال أبو منصور: هما لغتان، ورءوفٌ على (فغول) أشبه بالصفات). [معاني القراءات وعللها: 1/181]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في قوله عز وجل: لرؤفٌ [البقرة/ 143].
فقرأ ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم: لرؤفٌ على وزن: «لرعوف» في كل القرآن، وكذلك ابن عامر.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو وحمزة والكسائي: لرؤف على وزن «لرعف».
قال أبو زيد: رأفت بالرجل أرأف به رأفة ورآفة، ورؤفت به أرؤف به، كلّ من كلام العرب.
قال أبو علي: وجه قراءة من قرأ: رؤف أن فعولًا بناء أكثر في كلامهم من فعل، ألا ترى أن باب ضروب وشكور أكثر من باب حذر، وحدث، ويقظ، وإذا كان أكثر على ألسنتهم كان أولى مما هو بغير هذه الصفة. ويؤكد ذلك أن هذا البناء قد جاء عليه من صفات، غير هذا الحرف نحو: غفور وشكور، ولا نعلم فعلا فيها. وقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/229]
نطيع إلهنا ونطيع ربّا... هو الرّحمن كان بنا رءوفا
ومن قرأ: رؤف فقد زعموا أن ذلك الغالب على أهل الحجاز، قالوا: ومنه قول الوليد بن عقبة [بن أبي معيط لمعاوية بن أبي سفيان]:
وشرّ الطالبين فلا تكنه... يقاتل عمّه الرّؤف الرحيما
وقد اتّسع ذلك حتى قاله غيرهم. وقال جرير:
ترى للمسلمين عليك حقّا... كفعل الوالد الرّؤف الرحيم). [الحجة للقراء السبعة: 2/230]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الزهري: [إلا لِيُعْلَم من يتبع الرسول] بياء مضمومة وفتح اللام.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون يُعلم هنا بمعنى يعرف؛ كقوله: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ
[المحتسب: 1/111]
اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} أي: عرفتم، وتكون "مَن" بمعنى الذي؛ أي: ليُعرف الذي يتبع الرسول، ولا تكون "مَن" هاهنا استفهامًا؛ لئلا يكون الكلام جملة، والجمل لا تقوم مقام الفاعل؛ ولذلك لم يجيزوا أن يكون قوله: "هذا باب علم ما الكلم" أي: أي شيء الكلم، وعلم في معنى: أن يُعلَم، وقد ذكرنا ذاك هناك). [المحتسب: 1/112]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الزهري: [لرَوُوف] بلا همز، ويُثقِّل.
قال أبو الفتح: ينبغي أن تكون الهمزة فيه مخففة، فلما أخفاها التخفيف ظُنت واوًا للطف هذا الموضع أن تضبطه القراء؛ وذلك أنا لا نعرف في غير هذه اللفظة إلا الهمز، يقال: رؤُف به، ورأَف به، ورئِف، ولم نسمع فيه راف ولا رُفْتُ، والهمزة إذا خففت في نحو هذا لم تبدل، وإنما تُخْفَى، كقولك في سئول فعول من سألت: سَوُول، فاعرف ذلك). [المحتسب: 1/114]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({إن الله بالنّاس لرؤوف رحيم}
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ وأبو بكر {إن الله بالنّاس لرؤوف} على وزن رعف وحجتهم أن هذا أبلغ في المدح كما تقول رجل حذق ويقظ للمبالغة قال الشّاعر
يرى للمسلمين عليه حقًا ... كفعل الوالد الرؤف الرّحيم
وقرأ الباقون {لرؤوف} على وزن فعول وحجتهم في ذلك أن أكثر أسماء الله على فعول وفعيل مثل غفور وشكور ورحيم وقدير قال الشّاعر
نطيع نبينا ونطيع ربًّا ... هو الرّحمن كان بنا رؤوفا). [حجة القراءات: 116]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (75- قوله: {لرؤوف} قرأه الحرميان وحفص وابن عامر بواو بعد الهمزة، وقرأه الباقون بغير واو، وهما لغتان، يأتي اسم الفاعل على «فعول»
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/266]
وعلى «فعل» لكن باب «فعول» أكثر من باب «فعل» في الاستعمال، يقول: رجل ضروب وشكور، فهو أكثر من قولك: رجل حذر، والقراءتان متوازنتان، لكن حذف الواو أخف في القراءة وإثباتها أكثر في الاستعمال لنظائره). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/267]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (50- {لَرَءُوفٌ} [آية/ 143]:-
بواو بعد الهمزة على فعول، قرأها ابن كثير ونافع وابن عامر و- ص- عن عاصم.
[الموضح: 303]
وذلك أن فعولاً أكثر في كلام العرب من فعل، فإن باب شكور أشهر عندهم من باب يقظ، ألا ترى أنه قد جاء في باب فعول ما لا يعرف فعل فيه نحو غفور وشكور، لا تقول غفر وشكر مثل يقظ.
وقرأ الباقون {لَرَؤُوفٌ} بغير واو بعد الهمز في جميع القرآن على مثال يقظ وحذر.
وهذه لغة فاشية في أهل الحجاز، أعني في هذه الكلمة وهي الغالبة عليهم). [الموضح: 304]
قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإن الّذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عمّا يعملون}
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ {وما الله بغافل عمّا يعملون} بالتّاء وحجتهم قوله قبلها {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره} فكان ختم الآية بما افتتحت به من الخطاب عندهم أولى من العدول عن الخطاب إلى الغيبة
[حجة القراءات: 116]
وقرأ الباقون بالياء وحجتهم قوله {وإن الّذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} والكلام خبر عنهم). [حجة القراءات: 117]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (79- قوله: {يعملون} «144»، {ولئن أتيت} «145» قرأه ابن
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/267]
عامر وحمزة والكسائي بالتاء، وقرأه الباقون بالياء.
ووجه القراءة بالتاء أنه أجراه على المخاطبة التي قبله في قوله: {وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وما الله بغافل عما تعملون}، أي: من توليتكم.
80- ووجه القراءة بالياء أنه أجراه على ما قرب منه، من لفظ الغيبة في قوله: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون} ثم قال: {وما الله بغافل عما يعملون} أي عما يعمل الذين أوتوا الكتاب في أمر القبلة، وقراءة أيضًا ما بعده في قوله: {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب} «145» وقوله: {ما تبعوا قبلتك}، وقوله: {وما أنت بتابع قبلتهم – ولئن اتبعت أهواءهم} فكله أتى على لفظ الغيبة، فحمل «يعملون» عليه، والتقدير: وما الله بغافل عما يعملون، ولئن أتيتهم بكل آية ما تبعوا قبلتك، يعني بذلك كله اليهود، وهم غيب، والياء في ذلك كله الاختيار، لتطابق الكلام من قبل ومن بعد، على لفظ الغيبة، ولأن المراد بذلك كله اليهود، وهم غُيب، ولما قدّمنا من اختيار الياء إذا وقع الاختلاف على الياء والتاء في قول ابن مسعود وابن عباس). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/268]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (81- قوله: {تعملون. ومن حيث} قرأه أبو عمرو بالياء، وقرأ الباقون بالتاء.
82- ووجه القراءة بالياء أنه أجراه على لفظ الغيبة والإخبار عن اليهود الذين يخالفون النبي في القبلة وهم غُيب، فالتقدير: ول وجهك يا محمد نحو المسجد الحرام، وما الله بغافل عما يعمل من يخالفك من اليهود في القبلة.
83- ووجه القراءة بالتاء أنه مردود على ما قبله، من الخطاب للنبي عليه السلام وأصحابه، في قوله: {فول وجهك}، والمعنى: فولوا وجوهكم شطر
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/268]
المسجد الحرام، وما الله بغافل عما تعملون، أيها المؤمنون من توليتكم نحو المسجد الحرام، وأيضًا فإن بعده مخاطبة أخرى في قوله: {فولوا وجوهكم شطره} وقوله: {عليكم حجة}، وقوله: {فلا تخشوهم}، وقوله: {ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون}، فكله خطاب، فحمل «تعملون» عليه في الخطاب للحمل على ما قبله وما بعده، من المخاطبة، وهو الاختيار، للإجماع عليه، ولأنه أحسن مطابقة لما قبله وما بعده). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/269]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107318#post107318)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:39 PM
سورة البقرة
[من الآية (145) إلى الآية (148) ]
{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}
قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)}
قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (مولّيها... (148).
قرأ ابن عامر وحده: (هو مولّاها). وقرأ الباقون: (هو مولّيها).
من قرأ: (هو مولّيها) فمعناه: مستقبلها، كأنه قال: هو موليها وجهه.
وقال أحمد بن يحيى: التولية ها هنا: إقبال.
وقال الزجاج: قال قوم:
[معاني القراءات وعللها: 1/181]
هو موليها: إن الله يولي أهل كل ملة القبلة التي يريد.
قال: ومن قرأ: (هو مولّاها) فالمعنى: لكل إنسان قبلة ولّاه الله إياها، وهي قراءة ابن عباس وأبي جعفر محمد بن علي، والقراءتان جيدتان، وموليها أكثر وأفصح). [معاني القراءات وعللها: 1/182]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في فتح اللام وكسرها من قوله جل وعز: هو مولّيها [البقرة/ 148].
فقرأ ابن عامر وحده: هو مولاها بفتح اللام.
وقرأ الباقون بكسر اللام.
قال أبو علي: قال تعالى: فلنولّينّك قبلةً ترضاها [البقرة/ 144] يقال: ولّيتك القبلة إذا صيّرتك تستقبلها
[الحجة للقراء السبعة: 2/230]
بوجهك. وليس هذا المعنى في فعلت منه، ألا ترى أنك إذا قلت: وليت الحائط، ووليت الدار، لم يكن في فعلت منه دلالة على أنك واجهته. كما أن في قولك: ولّيتك القبلة، وولّيتك المسجد الحرام دلالة على أن المراد واجهته، ففعّلت في هذه الكلمة ليس بمنقول من فعلت الذي هو وليت، فيكون على حدّ قولك: فرح وفرّحته، ولكنّ هذا المعنى الذي هو المواجهة عارض في فعّلت، ولم يكن في فعلت. وإذا كان كذلك كان فيه دلالة على أن النقل لم يكن من فعلت، كما كان قولهم: ألقيت متاعك بعضه على بعض، لم يكن النقل فيه من لقي متاعك بعضه بعضاً، ولكنّ ألقيت كقولك:
أسقطت، ولو كان منه زاد مفعول آخر في الكلام، ولم يحتج في تعديته إلى المفعول إلى حرف الجر وإلحاقه المفعول الثاني في قولك: ألقيت بعض متاعك على بعض، كما لم يحتج إليه في:
ضرب زيد عمراً، وأضربته إياه، ونحو ذلك، فكذلك: ولّيتك قبلة، من قولك: وليت كألقيت، من قولك: لقيت وقال تعالى: فلنولّينّك قبلةً ترضاها فولّ وجهك شطر المسجد الحرام [البقرة/ 144].
فهذا على المواجهة له، ولا يجوز على غير المواجهة مع العلم أو غلبة الظن التي تنزّل منزلة العلم في تحري القبلة، وقد جاءت هذه الكلمة مستعملة على خلاف المقابلة والمواجهة وذلك في نحو قوله جل وعز: ثمّ تولّيتم إلّا قليلًا منكم وأنتم معرضون [البقرة/ 83]
[الحجة للقراء السبعة: 2/231]
، ثمّ تولّيتم من بعد ذلك فلولا فضل اللّه عليكم ورحمته [البقرة/ 64]. عبس وتولّى أن جاءه الأعمى [عبس/ 1] أي: أعرض عنه، وقال تعالى:
وتولّى عنهم وقال: يا أسفى على يوسف [يوسف/ 84] فأعرض عن من تولّى عن ذكرنا [النجم/ 29] فهذا مع دخول الزيادة الفعل وفي غير الزيادة قوله: ثمّ ولّيتم مدبرين [التوبة/ 25] والحال مؤكّدة لأن في وليتم دلالة على أنهم مدبرون، فهذا على نحوين: أما ما لحق التاء أوله، فإنه يجوز أن يكون من باب: تحوّب وتأثّم إذا ترك الحوب والإثم، وكذلك إذا ترك الجهة التي هي المقابلة، ويجوز أن تكون الكلمة استعملت على الشيء وعلى خلافه، كالحروف المروية في الأضداد. فأما قوله تعالى: وإن يقاتلوكم يولّوكم الأدبار [آل عمران/ 111] وقوله: ولئن نصروهم ليولّنّ الأدبار ثمّ لا ينصرون [الحشر/ 12] وقوله: سيهزم الجمع ويولّون الدّبر [القمر/ 45] فهذا منقول من فعل، تقول: داري تلي داره، ووليت داري داره، وإذا نقلته إلى فعّل قلت: وليت مآخيره، وولّاني مآخيره، ووليت ميامنه. وولّاني ميامنه، فهو مثل: فرح وفرّحته،
وليس مثل: لقي وألقيته، وقوله تعالى: ليولّنّ الأدبار [الحشر/ 12] ويولّون الدّبر [القمر/ 45] المفعول الثاني الزائد في نقل «فعل» إلى «فعّل» محذوف فيه، ولو لم يحذف كان كقوله: يولّوكم الأدبار [آل عمران/ 111]
[الحجة للقراء السبعة: 2/232]
وقوله تعالى: والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعضٍ [التوبة/ 71] المعنى فيه: أن بعضهم يوالي بعضاً، ولا يبرأ بعضهم من بعض، كما يبرءون ممن خالفهم وشاقّهم، ولكنهم يد واحدة في النصرة والموالاة، فهم أهل كلمة واحدة لا يفترقون فرقة مباينة ومشاقّة، ومن ثمّ قالوا في خلاف الولاية:
العداوة، ألا ترى أنّ العداوة من عدا الشيء: إذا جاوزه فمن ثمّ كانت خلاف الولاية.
فأمّا قوله عزّ وجلّ وإن تلووا أو تعرضوا [النساء/ 135] فيمن قرأ تلووا فمعناه والله أعلم: الإقبال عليهنّ والمقاربة لهنّ في العدل في قسمهنّ، ألا ترى أنه قد عودل بالإعراض في قوله تعالى: أو تعرضوا فكأنّ قوله تعالى: (إن تلوا) كقوله: إن أقبلتم عليهنّ، ولم تعرضوا عنهنّ.
فإن قلت: فهل يجوز أن يكون في تلووا دلالة على المواجهة فتجعل قوله: فلنولّينّك منقولًا من هذا، فمن ثمّ اقتضى المواجهة، وتستدلّ على ذلك بمعادلته لخلافه الذي هو الإعراض؟
فالقول: إن ذلك في هذه الكلمة ليس بالظاهر، ولا في الكلمة دلالة على هذه المخصوصة التي جاءت في قوله:
فلنولّينّك قبلةً ترضاها [البقرة/ 144] وإذا لم تكن عليها دلالة، لم تصرفها عن الموضع الذي جاءت فيه، فلم تنفذها إلى سواها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/233]
فأما قوله عز وجل: أولى لك فأولى [القيامة/ 34] فقد كتبناه في «كتاب الشعر» وقوله: يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه ورسوله ولا تولّوا عنه وأنتم تسمعون [الأنفال/ 20] فالضمير في عنه إذا جعلته للرسول، احتمل أمرين: لا تولّوا عنه:
لا تنفضّوا عنه كما قال تعالى: انفضّوا إليها وتركوك قائماً [الجمعة/ 11] وقال سبحانه: وإذا كانوا معه على أمرٍ جامعٍ لم يذهبوا حتّى يستأذنوه [النور/ 62] وقال عز اسمه: قد يعلم اللّه الّذين يتسلّلون منكم لواذاً [النور/ 63] وعلى هذا المعنى قوله تعالى: بعد أن تولّوا مدبرين [الأنبياء/ 57] أي: بعد أن تتفرقوا عنها. ويكون:
لا تولّوا عنه لا تعرضوا عن أمره: وتلقّوه بالطاعة والقبول، كما قال: فليحذر الّذين يخالفون عن أمره [النور/ 63] وزعموا أن بعضهم قرأ: ولا تولّوا عنه واللفظتان تكونان بمعنى واحد، قال تعالى: ولّى مدبراً ولم يعقّب [القصص/ 31] وقال: ثمّ ولّيتم مدبرين [التوبة/ 25] وقال: فأعرض عن من تولّى عن ذكرنا [النجم/ 29] وقال فتولّوا عنه مدبرين [الصافات/ 90]. وقوله: واللّه وليّ المؤمنين [آل عمران/ 68] أي ناصرهم، ومثله في أنّ المعنى فيه النّصرة قوله: فإنّ اللّه هو مولاه [التحريم/ 4] أي ناصره. وكذلك قوله: ذلك بأنّ اللّه مولى الّذين آمنوا، وأنّ الكافرين لا مولى لهم [محمد/ 11]
[الحجة للقراء السبعة: 2/234]
أي: لا ناصر لهم؛ ومعنى المولى من النّصرة؛ من ولي عليه: إذا اتصل به ولم ينفصل عنه. وعلى هذا قوله تعالى: إنّ اللّه معنا [التوبة/ 40] أي: ناصرنا، وكذلك قوله: فاذهبا
بآياتنا إنّا معكم
[الشعراء/ 15] في موضع آخر إنّني معكما [طه/ 46] وعلى هذا المعنى قولهم:
صحبك الله.
وروينا عن ابن سلّام عن يونس قال: المولى: له في كلام العرب مواضع منها: المولى من الدّين، وهو الوليّ، وذلك قوله: ذلك بأنّ اللّه مولى الّذين آمنوا وأنّ الكافرين لا مولى لهم [محمد/ 11] أي: لا وليّ. ومنه قوله: فإنّ اللّه هو مولاه [التحريم/ 4]، ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»
أي: وليّه.
وقوله: «مزينة وجهينة وأسلم وغفار موالي الله ورسوله»
قال العجّاج:
الحمد لله الذي أعطى الظّفر موالي الحقّ إن المولى شكر أي: أولياء الحقّ.
[الحجة للقراء السبعة: 2/235]
ومنها العصبة، وبنو العمّ هم الموالي، قال تعالى: وإنّي خفت الموالي من ورائي [مريم/ 5] أي العصبة. وقال الزّبرقان:
ومن الموالي موليان فمنهما... معطي الجزيل وباذل النّصر
ومن الموالي ضبّ جندلة... لحز المروءة
ظاهر الغمر الغمر: العداوة.
وقال آخر:
ومولى كداء البطن لو كان قادراً... على الدّهر أفنى الدّهر أهلي وماليا
وقال آخر:
ومولى قد رعيت الغيب منه... ولو كنت المغيّب ما رعاني
وقال اللهبيّ الفضل بن عباس لبني أمية:
مهلا بني عمّنا مهلًا موالينا... امشوا رويدا كما كنتم تكونونا
الله يعلم أنا لا نحبّكم... ولا نلومكم أن لا تحبّونا
[الحجة للقراء السبعة: 2/236]
وكان الزّبرقان بن بدر تكثّر في مواليه وبني عمّه فقال رجل من بني تميم:
ومولى كمولى الزبرقان ادّملته... كما ادّمل العظم المهيض من الكسر
ومن انضمّ إليك فعزّ بعزّك، وامتنع بمنعتك أو بعتق، وبهذا سمّي المعتقون: موالي. قال الراعي:
جزى الله مولانا غنياً ملامة... شرار موالي عامر في العزائم
نبيع غنيّاً رغبة عن دمائها... بأموالها بيع البكار المقاحم
البكار: الصغيرة، والمقاحم: التي لم تقو على العمل.
وغنيّ: حلفاء بني عامر، قال الأخطل لجرير:
أتشتم قوماً أثّلوك بنهشل... ولولاهم كنتم كعكل مواليا
وعكل من الرّباب حلفاء بني سعد.
وقال الفرزدق لعبد الله بن أبي إسحاق النحوي، وكان
[الحجة للقراء السبعة: 2/237]
مولى لحضرمي، وبنو الحضرميّ حلفاء بني عبد شمس بن عبد مناف:
فلو كان عبد الله مولى هجوته... ولكنّ عبد الله مولى مواليا
الإعراب:
قوله عزّ وجلّ: ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها [البقرة/ 148] موضع الجملة رفع لكونها وصفاً للوجهة، فمن قرأ: هو مولّيها؛ فالضمير الذي هو هو لاسم الله تعالى، تقديره: ولكلّ وجهة، الله مولّيها. ومعنى توليته لهم إياها: إنما هو أمرهم بالتوجّه نحوها في صلاتهم إليها، يدلّك على ذلك قوله تعالى: فلنولّينّك قبلةً ترضاها [البقرة/ 144]، فكما أنّ فاعل، نولّينّك الله عزّ وجلّ، فكذلك الابتداء في قوله: هو مولّيها ضمير اسم الله تعالى، والتقدير: الله مولّيها إياه، ف «إياه» المراد المحذوف ضمير المولّى، وحذف المفعول الثاني لجري ذكره المظهر وهو كلّ في قوله: ولكلٍّ وجهةٌ فإذا قرئ: ولكل وجهة هو مولاها فالضمير لكلٍّ وقد جرى ذكره في قوله: ولكلٍّ وجهةٌ، وفي القراءة الأخرى لم يجر الذّكر، ولكن عليه دلالة، وقد استوفى الاسم الجاري على الفعل المبني للمفعول مفعوليه اللذين يقتضيهما، أحدهما:
[الحجة للقراء السبعة: 2/238]
الضمير المرفوع في مولّى، والآخر: ضمير المؤنّث، وهو الذي هو ضمير كلّ ابتداء وخبره مولّاها. ولو قرأ قارئ: ولكل وجهة هو مولاها فجعل هو ضمير ناس، أو قبيل، أو فريق، أو نحو ذلك فأضمر العلم به، كما أضمر اسم الله سبحانه، فيمن قرأ:
هو مولّيها لكان ذلك على ضربين: إن جعل الهاء لكلٍّ فأنّث كلا على المعنى، لأنّه في المعنى للوجهة كما قال:
وكلٌّ أتوه داخرين [النمل/ 87] فجمع على المعنى؛ فإنّ ذلك لا يجوز، لأن اسم المفعول قد استوفى مفعوليه اللذين يقتضيهما. فلا يكون حينئذ لكلٍّ وجهةٌ متعلّق، فبقيت اللام لا عامل فيها، وإن جعل الهاء في مولاها كناية عن المصدر الذي هو التولية؛ جاز، لأن الجارّ حينئذ يتعلق باسم المفعول الذي هو (مولي) كأنه قال: الفريق أو القبيل مولّى لكلّ وجهة تولية، واللام على هذا زيادة كزيادتها في:
ردف لكم [النمل/ 72] ونحوه.
وقد قلنا في هذه المسألة بعبارة أخرى في وقت آخر:
قوله جلّ وعزّ: ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها هو: ضمير اسم الله سبحانه، فإذا كان كذلك فقد حذف من الكلام أحد مفعولي الفعل الذي يتعدّى إلى مفعولين في قوله عزّ وجلّ:
فلنولّينّك قبلةً ترضاها. التقدير: الله مولّيها إياه، وإيّاه ضمير كلّ الموجّه المولّى، وتولية الله إيّاه، إنّما هو بأمره له بالتوجّه إليها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/239]
وقراءة ابن عامر مولاها تدلّك على ما ذكرنا من إرادة مفعول محذوف من الكلام، ألا ترى أنّه لما بنى الفعل للمفعول به، فحذف الفاعل أسند الفعل إلى أحد المفعولين، وأضاف اسم الفاعل إلى المفعول الآخر وهو ضمير المؤنث العائد إلى الوجهة، فقوله: هو على قراءته ضمير كلّ، أي كل ولّي جهة، وهذه التولية بأمر الله سبحانه إياهم بتوجّههم إليها، وقراءته في المعنى تؤول إلى قراءة من قرأ: هو مولّيها.
ألا ترى أنّ في مولّيها ضمير اسم الله عزّ وجلّ، فإذا أسند الفعل إلى المفعول به، وبناه له، ففاعل التولية هو الله تعالى كما كانت في القراءة الأخرى كذلك.
وقد قرئ فيما ذكر أبو الحسن: ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها. فضمير المؤنث في قوله: مولّيها يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون ضمير المصدر الذي هو التولية، وجاز إضمارها لدلالة الفعل عليها، كما جاز إضمار البخل في قوله تعالى: ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيراً لهم [آل عمران/ 180] أي: البخل. ويكون هو ضمير اسم الله تعالى. فيكون المعنى: الله مولّ لكلّ وجهة تولية، فأوصل الفعل باللام كما تقول: لزيد ضربت وإن كنتم للرّءيا تعبرون [يوسف/ 43].
والآخر: أن لا تجعل الهاء ضميراً للتولية، ولكن ضميراً لوجهة، فإذا جعلته كذلك لم يستقم، لأنّك إذا أوصلت الفعل
[الحجة للقراء السبعة: 2/240]
إلى المفعول الذي يقتضيه الفعل مرة لم توصله مرة أخرى إلى مفعول آخر- ألا ترى أنّك لو قلت: لزيد ضربته لم يجز أن تجعل الهاء ضمير زيد، لأنّك قد عدّيت إليه الفعل مرّة باللّام، فلا تعدّيه إليه مرة أخرى، كما لا يتعدّى الفعل إلى حالين، ولا اسمين للزمان، ولا نحو ذلك مما يقتضيه الفعل.
فأما قوله:
هذا سراقة للقرآن يدرسه فالهاء للمصدر ولا تكون للقرآن الذي تعدى إليه الفعل باللام، وقد تصحّ هذه القراءة على تقدير حذف المضاف، وهو أن تقدّر: ولكلّ ذوي وجهة هو مولّيها فيكون المعنى: الله مولّ لكلّ ذوي: وجهة؛ وجهتهم؛ فيكون في المعنى كقراءة من قرأ: ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها، إذا قدّرت حذف المفعول الثاني الذى هو إياه، إلا أنّ المفعول الثاني المحذوف في قول من قرأ: ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها مظهر في هذه القراءة، وهو قوله: ولكلٍّ وجهةٌ إذا قدّرته: ولكلّ ذوي وجهة، فيصير التقدير: الله مولّ كلّ ذوي وجهة وجهتهم. فكلّ هم المولّون، والهاء ضمير الجهة التي أخذوا بالتوجه إليها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/241]
وما ذكرته من أنّ هو ضمير اسم الله تعالى، وإن لم يجر له ذكر، قول أبي الحسن. وقد روي عن مجاهد أنه قال:
أراد: ولكلّ صاحب ملّة وجهة، أي: قبلة هو مستقبلها، فالضمير عنده على هذا لكلّ.
وقد حكى أبو الحسن القولين جميعاً: أن يكون هو ضمير اسم الله تعالى، وأن يكون لكلّ. وجاء قوله: هو مولّيها فيمن ذهب إلى هذا القول على لفظ كل، ولو قيل:
هم مولّوها على المعنى، كما قال تعالى: وكلٌّ أتوه [النمل/ 87] كان حسناً. وقال بعضهم: اخترت مولّيها على مولّاها لأنه قراءة الأكثر، ولأنه إذا قرئ مولّاها ظنّ أن جميع ذلك شرعه الله لهم.
وقوله: مولاها اسم جار على فعل مبني للمفعول، ولم يسند إلى فاعل بعينه؛ فيجوز أن يكون فاعل التولية الله عزّ وجلّ، ويجوز أن يكون بدعة، حملهم عليها بعض رؤسائهم ومفتيهم، فليس إذا صرفه إلى أحد الوجهين، بأولى من صرفه إلى الآخر.
فأمّا قوله: وجهةٌ فقد اختلف أهل العربية فيها، فمنهم من يذهب إلى أنّه مصدر شذّ عن القياس فجاء مصححاً، ومنهم من يقول: إنه اسم ليس بمصدر جاء على أصله، وأنه لو
كان مصدراً جاء مصحّحاً، للزم أن يجيء فعله أيضاً
[الحجة للقراء السبعة: 2/242]
مصحّحا، ألا ترى أن هذا المصدر إنما اعتلّ على الفعل حيث كان عاملًا عمله؛ وكان على حركاته وسكونه؟ فلو صحّ لصحّ الفعل، لأن هذه الأفعال المعتلات، إذا صحت في موضع تبعها باقي ذلك، وفي أن لم يجيء شيء من هذه الأفعال مصحّحا دلالة على أن وجهةٌ إنما صحّ من حيث كان اسماً للمتوجّه، لا كما رآه أبو عثمان من أنّه مصدر جاء على الأصل، وما شبّهه به من «ضيون وحيوة وبنات ألببه» لا يشبه هذا، لأن ذلك ليس شيء منه جارياً على فعل كالمصدر.
فإن قيل: فيما استدللنا به من أنّ الفعل إذا اعتلّ وجب اعتلال مصدره، أليس قد جاء القول والبيع صحيحين؛ وأفعالهما معتلّة؛ فما ننكر أن يصحّ: وجهةٌ، وإن كان فعله معتلًا؟.
قيل: إن القول والبيع لا يدخل على هذا، ألا ترى أنّ وجهةٌ على وزن الفعل، وليس القول والبيع كذلك؟ والموافقة في الوزن توجب الإعلال، ألا ترى «بابا وعاباً». لمّا وافقا بناء الفعل أعلّا، ولم يعلّ نحو عيبة وعوض وحول؟ فالقول والبيع ليسا على وزن شيء من الأفعال فيلحقهما اعتلالها.
على أن للقائل أن يقول: إن القول والبيع ونحوهما، لما سكنا أشبها بالإسكان المعتلّ، إذ الاعتلال قد يكون بالسكون يدلك على ذلك أنهم أعلّوا نحو: سياط وحياض، وإن صحت الآحاد
[الحجة للقراء السبعة: 2/243]
منها بحيث كانا في السكون في الواحد بمنزلة المعتل نحو:
«ديمة وديم» فكما جرى ما ذكرنا مجرى المعتلّ للسكون، كذلك يجري: قول وبيع مجرى ذلك، وقد قالوا: وجّه الحجر جهة ماله» فجاء المصدر بحذف الزيادة، وكأنّ «ما» زائدة، والظّرف وصف للنكرة، ولزمت الزيادة كما لزمت في: آثرا ما، ونحوه). [الحجة للقراء السبعة: 2/244]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ولكل وجهة هو موليها}
قرأ ابن عامر (هو مولاها) بفتح اللّام أي هو موجهها وحجته أنه قدر له أن يتولاها ولم يسند إلى فاعل بعينه فيجوز أيكون هو كناية عن الاسم الّذي أضيفت إليه كل وهو الفاعل ويجوز أن يكون فاعل التّولية الله وهو كناية عنه والتّقدير ولكل ذي ملّة قبلة الله موليها وجهه ثمّ رد ذلك إلى ما لم يسم فاعله
وقرأ الباقون {هو موليها} أي متبعها وراضيها وحجتهم ما قد جاء في التّفسير عن مجاهد {ولكل وجهة هو موليها} أي لكل صاحب ملّة وجهة أي قبلة هو موليها هو مستقبلها قوله {هو موليها} هو كناية عن الاسم الّذي اضيفت إليه كل في المعنى لأنّها وإن كانت منونة فلا بد من أن تسند إلى اسم). [حجة القراءات: 117]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (76- قوله: {هو موليها} قرأه ابن عامر بالألف بعد اللام، وقرأ الباقون بالياء.
77- ووجه القراءة بالألف أنه جعل الفعل للمفعول، فهو فعل لم يُسم فاعله، فعدى الفعل إلى مفعولين: الأول قام مقام الفاعل، مستتر في «موليها» وهو ضمير «هو» والثاني الهاء في «موليها»، تعود على الوجهة، أي: الله يوليه إياها، والهاء والألف لوجهة، والتقدير: ولكل فريق وجهة الله موليها إياه، ويجوز أن يكون الضمير المرفوع لكبرائهم وساداتهم، هم يولونهم إياها، كما قال عنهم: {إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا} «الأحزاب 67» وبالألف قرأ ابن عباس وأبو رجاء.
78- ووجه القراءة بالياء أنه بنى الفعل للفاعل، وهو الله جل ذكره، والمفعول الثاني محذوف تقديره: ولكل فريق وجهة الله موليها إياه، فالقراءتان ترجعان إلى معنى، ودل على ذلك قوله: {فلنولينك قبلة ترضاها} «144» ويجوز في هذه القراءة، أن يكون الضمير المرفوع، ويكون التقدير: هو موليها نفسه، وحسن حذف المفعول الثاني، لتقدم ذكره في أول الكلام، والاختيار القراءة بالياء لإجماع القراء على ذلك، وعليه قراءة العامة في الأمصار). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/267]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (51- {هُوَ مُوَلاّها} [آية/ 148]:-
بالألف، قرأها ابن عامر وحده.
ووجه ذلك أن قوله {هُوَ} راجع إلى {كلّ}، والتقدير: الكل مولى إياها؛ لأنه يقال: وليت فلانًا الجهة فهو مولى إياها، فالمفعول الأول هو الضمير المرفوع في: مولى، والثاني هو ضمير المؤنث المضاف إليه.
وقرأ الباقون {مُوَلِّيها} بالياء، وقوله {هُوَ} ضمير اسم الله تعالى، والتقدير: ولكل وجهة الله موليها إياه، فحذف المفعول الثاني لجري ذكره وهو {كلّ}، وجاز إ1مار اسم الله تعالى، وإن لم يجر له تعالى ههنا الذكر للعلم به). [الموضح: 304]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107319#post107319)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:40 PM
سورة البقرة
[من الآية (149) إلى الآية (152) ]
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}
قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)}
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإنّه للحق من ربك وما الله بغافل عمّا تعملون ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام}
قرأ أبو عمرو (وما الله بغافل عمّا يعملون ومن حيث) بالياء وحجته قوله قبلها {يعرفونه كما يعرفون أبناءهم}
وقرأ الباقون بالتّاء وحجتهم قوله وإنّه للحق من ربك). [حجة القراءات: 117]
قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (لئلّا يكون... (150)
اتفقوا على همز (لئلّا)، إلا ما روى ورش على نافع: (ليلّا) غير مهموز، كذلك قال أحمد بن صالح ويونس عن ورش.
قال أبو منصور: الاختيار (لئلّا) بالهمز، لأن الأصل (لأن لا)، فأدغمت النون في اللام، والهمزة على حالها، لئلّا يحل بالحرف حذف حرفين. وما روي عن نافع فهو جائز على تليين الهمزة). [معاني القراءات وعللها: 1/182]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في همز لئلّا [البقرة/ 150].
فروي عن نافع أنه لم يهمزها، والباقون يهمزون.
قال أبو علي: تخفيف الهمزة في لئلّا أن تخلص ياء، ولا يجوز أن تجعل بين بين، ألا ترى أنه بمنزلة «مئر» جمع: مئرة. من قولك مأرت بين القوم: إذا أفسدت.
وقد تقدّم ذكر طرف من ذلك في قوله عز وجلّ: كما سئل موسى من قبل [البقرة/ 108] ). [الحجة للقراء السبعة: 2/244]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة زيد بن علي عليه السلام: [أَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا] بفتح الهمزة خفيفة اللام، تنبيه.
[المحتسب: 1/114]
قال أبو الفتح: وجهه أن الوقوف في هذه القراءة على قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ثم استأنف مُنبِّهًا فقال: [أَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي]، كقولك مبتدئًا: ألا زيد فأعرض عنه وأقبل عليَّ، وكأنه -عليه السلام- إنما رأى لقول الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} ؛ فلو قال: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} لم يقوَ معناه عنده؛ لأنه لا حجة للظالمين على المطيعين، والذي يقوِّي قراءة الجماعة قوله تعالى: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} فهو معطوف على قوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} . وإذا كان عطفًا عليه فأن يكون فهي عقد واحد معه أولى من أن يتراخى عنه، ويكون قوله على هذا: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} استثناء منقطعًا؛ أي: لكن الذين ظلموا منهم يعتقدون أن لهم حجة عليكم، فأما في الحقيقة وعند الله تعالى فلا.
فإن قلت: فقد فَصَل بقوله: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} ثم عطف بقوله: {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}، وقد كرهت الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه.
قيل: لما كان الأمر للمسلمين بترك خشية الظالمين إنما هو مسبب عن ظلمهم اتصل به اتصال المسبَّب بسببه، فجرى مجرى الجزء من جملته، وليس كذلك استئناف التنبيه بأَلَا، ألا تراها إنما تقع أبدًا في أول الكلام ومرتجلة؟ فاعرف ذلك فرقًا). [المحتسب: 1/115]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (84- قوله: {لئلا} قرأه ورش بياء مفتوحة، هي بدل من همزة مفتوحة لانكسار ما قبلها، فهي بمنزلة الثانية في قوله: {من الشهداء أن تضل} «البقرة 282» واعتد باللام وبحركتها، فسهل الهمزة على حكمها، وقرأه الباقون بالهمز على الأصل؛ لأنها «أن» الناصبة للفعل، دخلت عليها اللام، فهي في تقدير المبتدأ بها، لأن اللام زائدة، وحق الهمزة المبتدأ بها التحقيق، فأجروها على التحقيق لذلك وهو الاختيار، لأنه الأصل، ولأن اللام زائدة، ولأنه إجماع من القراء، غير ورش، وغير حمزة، إذا وقف فإنه يبدل من الهمزة ياء مفتوحة كورش، وعنه فيه اختلاف وقد ذكرناه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/269]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (52- {لِيَلاّ} [آية/ 150]:-
غير مهموزٍ، قرأها نافع –ش- في جميع القرآن.
وذلك أنه خفف الهمزة، وتخفيفها ههنا هو أن تقلب الهمزة ياءً خالصةً، ولا تجعل بين بين؛ لأنها لو جعلت بين بين لجعلت بين الهمزة والألف؛ لأن حركة الهمزة فتحة، ولو جعلت بين الهمزة والألف لم يجز؛ لأن الألف لا يكون ما قبلها كسرة أبدًا، وهذا نحو مئرٍ جمع مئرةٍ بالهمز، ألا ترى أنه لا يجوز في تخفيف الهمزة فيها إلا قلبها ياءً خالصةً.
وقرأ الباقون {لِئَلاّ} مهموز، وكذلك –ن- و- يل- عن نافع.
ووجهه أنه هو الأصل؛ لأن الأصل: لأن لا، فأدغمت نون لأن في لام لا، فزالت النون من اللفظ، فكتبت أيضًا بغير نونٍ على اللفظ). [الموضح: 305]
قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}
قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فاذكروني أذكركم... (152).
حرك الياء ابن كثير، وأبو قرة عن نافع، وأرسلها الباقون). [معاني القراءات وعللها: 1/183]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107320#post107320)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:42 PM
سورة البقرة
[من الآية (153) إلى الآية (158) ]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}
قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}
قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)}
قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}
قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ومن تطوّع خيرًا... (158).
قرأ حمزة والكسائي: (ومن يطّوّع) بالياء والجزم في الموضعين.
[معاني القراءات وعللها: 1/182]
وقرأ الحضرمي: (ومن يطّوّع) في الأولى مثل قراءة حمزة، وقرأ الثاني: (ومن تطوّع) مثل قراءة أبي عمرو.
وقرأ الباقون مثل قراءة أبي عمرو بالتاء والنصب في الحرفين.
قال أبو منصور: من قرأ (ومن يطّوّع) بالياء والجزم جعل (من) مجازاة و(يطّوّع) كان في الأصل (يتطوع) فأدغمت التاء في الطاء، وجعلتا طاء شديدةً.
ومن قرأ (تطوّع) بالتاء والنصب فهو على لفظ الماضي، ومعناه المستقبل، وكل جائز حسن). [معاني القراءات وعللها: 1/183]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة علي وابن عباس -كرم الله وجوههما- بخلاف وسعيد بن جبير، وأنس بن مالك، ومحمد بن سيرين، وأبي بن كعب، وابن مسعود، وميمون بن مهران: [أَلَّا يَطَّوف بهما].
قال أبو الفتح: أما قراءة الجماعة: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} تقرُّبًا بذاك؛ أي: فلا جناح عليه أن يطوف بهما تقربا بذاك إلى الله تعالى؛ لأنهما من شعائر الحج والعمرة، ولو لم يكونا من شعائرهما لكان التطوف بهما بدعة؛ لأنه إيجاب أمر لم يتقدم إيجابه، وهذا
[المحتسب: 1/115]
بدعة، كما لو تطوف بالبصرة أو بالكوفة أو بغيرهما من الأماكن على وجه القربة والطاعة كما تطوف بالحرم؛ لكان بذلك مبتدعًا.
وأما قراءة مَن قرأ: [فلا جُناح عليه ألَّا يطَّوَّف بهما]، فظاهره أنه مفسوح له في ترك ذلك، كما قد يفسح للإنسان في بعض المنصوص عليه المأمور به تخفيفًا؛ كالقصر بالسفر، وترك الصوم، ونحو ذلك من الرخص المسموح فيها.
وقد يمكن أيضًا أن تكون "لا" على هذه القراءة زائدة؛ فيصير تأويله وتأويل قراءة الكافة واحدًا؛ حتى كأنه قال: فلا جناح عليه أن يطَّوف بهما، وزاد "لا"، كما زيدت في قوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي: ليعلم.
وكقوله:
من غير لا عَصْف ولا اصطرافِ
أي: من غير عصف، وهو كثير). [المحتسب: 1/116]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم}
قرأ حمزة والكسائيّ (ومن يطوع) بالياء وجزم العين وكذلك الّذي بعده وحجتهما أن حروف الجزاء وضعت لما يستقبل من الأزمة في سنن العربيّة وأن الماضي إذا تكلم به بعد أحرف الجزاء فإن المراد منه الاستقبال نحو قول القائل من أكرمني أكرمته أي من يكرمني أكرمه ويقوّي قراءتهما قراءة عبد الله (ومن يتطوّع) على محض الاستقبال فأدغمت التّاء في الطّاء في قراءتهما لقرب مخرجها منها
وقرأ الباقون {ومن تطوع} بالتّاء وفتح العين على لفظ المضيّ ومعناه الاستقبال لأن الكلام شرط وجزاء لفظ الماضي فيه يؤول إلى معنى الاستقبال كما قال جلّ وعز {من كان يريد الحياة الدّنيا وزينتها نوف إليهم} وحجتهم في ذلك أن الماضي أخف من المستقبل ولا إدغام فيه). [حجة القراءات: 118]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (85- قوله: {ومن تطوع} قرأه حمزة والكسائي بالياء، وتشديد الطاء، والجزم ومثله الثاني في هذه السورة، وقرأه الباقون بالتاء وتخفيف الطاء، وفتح العين.
86- ووجه القراءة بالجزم والياء أنه حمل على لفظ الاستقبال في اللفظ والمعنى، وأصله «يتطوع» فجزم بالشرط بـ «من» وأدغمت التاء في الطاء، فشددت الطاء لذلك، وحسن الإدغام لنقل التاء إلى القوة، وكان لفظ الاستقبال
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/269]
أولى به، لأن الشرط لا يكون إلا بمستقبل، فطابق بذلك بين اللفظ والمعنى، والتقدير: فمن تطوع فيما يستقبل خيرًا فهو خير له، فإن الله شاكر لفعله، عليهم به.
87- ووجه القراءة بالتاء وفتح العين، أنه استغنى بحرف الشرط عن لفظ الاستقبال؛ لأن حرف الشرط يدل على الاستقبال، فأتى بلفظ الماضي، وكان ذلك أخف من لفظ المستقبل، الذي تلزمه الزيادة والإدغام والتشديد، والماضي في موضع جزم بالشرط، ويجوز في هذه القراءة أن تكون خبرًا غير شرط، و«من» بمعنى الذي، والماضي لفظه كمعناه، ماض أيضًا، والمعنى: فالذي تطوع فيما مضى خيرًا فإن الله شاكر لفعله عليم به، و{فهو خير له} أي: مؤخر له، ولا يكون للماضي موضع الإعراب على هذا، والاختيار القراءة بالتاء وفتح العين؛ لأنها أعم؛ إذ تحتمل معنيين، ولأن أهل الحرمين وعاصمًا عليها، ولخفتها، وهي اختيار أبي حاتم وأبي عبيد). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/270]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (53- {ومَنْ يَطَّوَّعْ} [آية/ 158]:-
بالياء وتشديد الطاء وجزم العين، قرأها حمزة والكسائي، وكذلك في الثاني {فَمَنْ يَطَّوَّعْ}، ووافقهما يعقوبُ في الأول دون الثاني.
ووجه ذلك أن أصله: يتطوع، فأدغم التاء في الطاء لتقارب الحرفين، فبقي: يطوع، ثم جزم العين للشرط.
[الموضح: 305]
وقرأ الباقون {تَطَوَّعَ} بالتاء وتخفيف الطاء وفتح العين.
ووجهه أنه فعل ماضٍ، وموضعه جزم بمن الذي هو للشرط، والفاء وما بعدها أيضًا في موضع جزم على الجواب، ويجوز أن تكون {مَنْ} موصولةً بمنزلة الذي، ولا موضع للفعل الماضي، وموضع {مَنْ} رفعٌ بالابتداء، والفاء مع ما بعدها في وضع رفع على خبر المبتدأ، ويكون المعنى معنى المجازاة، كما في قوله تعالى {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ} ). [الموضح: 306]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107321#post107321)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 03:44 PM
سورة البقرة
[من الآية (159) إلى الآية (162) ]
{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال ابن مجاهد: قال عباس: سألت أبا عمرو عن {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} فقال: أهل الحجاز يقولون: [يعلِّمُهم ويلْعَنُهم] مثقلة، ولغة تميم: [يُعْلِمْهم ويلْعَنْهم].
قال أبو الفتح: أما التثقيل فلا سؤال عنه ولا فيه؛ لأنه استيفاء واجب الإعراب؛ لكن من حذف فعنه السؤال، وعلته توالي الحركات مع الضمات، فيثقل ذلك عليهم فيخففون بإسكان حركة الإعراب، وعليه قراءة أبي عمرو: [فَتُوبُوا إِلَى بَارِئْكُمْ] فيمن رواه بسكون الهمزة. وحكى أبو زيد: [بَلَى وَرُسُلْنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ] بسكون اللام.
وأنشدنا أبو علي لجرير:
[المحتسب: 1/109]
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى فلا تعرفْكم العرب
يريد: تعرفُكم. ومن أبيات الكتاب:
فاليوم أشربْ غير مُستَحقِبٍ ... إثمًا من الله ولا واغِلِ
أي: أشربُ.
وأما اعتراض أبي العباس هنا على الكتاب، فإنما هو على العرب لا على صاحب الكتاب؛ لأنه حكاه كما سمعه، ولا يمكن في الوزن أيضًا غيره.
وقول أبي العباس: إنما الرواية: "فاليوم فاشرب"، فكأنه قال لسيبويه: كذبتَ على العرب، ولم تَسمع ما حكيته عنهم. وإذا بلغ الأمر هذا الحد من السرَف فقد سقطت كلفة القول معه.
وكذلك إنكاره عليه أيضًا قول الشاعر:
"وقد بدا هَنْكِ من المئزر
[المحتسب: 1/110]
فقال: إنما الرواية:
وقد بدا ذاك من المئزر
وما أطيب العرس لولا النفقة!
وكذلك الاعتراض عليه في إنشاده قوله:
لا بارك الله في الغواني هل ... يُصبحن إلا لهن مُطَّلَبُ
وقول الأصمعي: "في الغواني ما" يريد: في الغواني أَما، ويخفف الهمزة. وقول غيره: "في الغوان أَما"، ولو كان إلى الناس تخير ما يحتمله الموضع والتسبب إليه لكان الرجل أقوم من الجماعة به، وأوصل إلى المراد منه، وأنفى لشغب الزيغ والاضطراب عنه.
فأما قول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حِمامُها
فحملوه على هذا؛ أي: أو يرتبط بعض النفوس حمامها؛ معناه: إلا أن يرتبط، فأسكن المفتوح لإقامة الوزن واتصال الحركات.
وقد يمكن عندي أن يكون يرتبط عطفًا على أرضها؛ أي: أنا تراك أمكنة إذا لم أرضها ولم يرتبط نفسي حمامها؛ أي: ما دمت حيًّا فأنا متقلقل في الأرض من هذه إلى هذه، ألا ترى إلى قوله:
قَوَّال مُحكَمَة جوَّاب آفاق
وهو كثير في الشعر، فكذلك قول بني تميم: [يُعلِّمْهم ويلْعَنْهم] على ما ذكرنا). [المحتسب: 1/111] (م)
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن: [أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ].
قال أبو الفتح: هذا عندنا مرفوع بفعل مضمر يدل عليه قوله سبحانه: [لَعْنَةُ اللَّهِ] أي: وتعلنهم الملائكة والناس أجمعون؛ لأنه إذا قال: عليهم لعنة الله، فكأنه قال: يلعنهم الله، كما أنه قال:
تذكَّرت أرضًا بها أهلها ... أخوالَها فيها وأعمامَها
[المحتسب: 1/116]
فقد عُلم أنها إذا تذكرت الأرض التي فيها أخوالها وأعمامها فقد دخلوا في جميع ما وقع الذكر عليه، فقال بعد: تذكرت أخوالها وأعمامها.
وكأنه لما قال:
أسقَى الإله عُدُوات الوادي ... وجوفَه كل مُلِثٍّ غادي
كل أجش حالك السواد
فقد سقى الأجش فرفعه بفعل مضر؛ أي: سقاها كل أجش. وهو كثير جدًّا). [المحتسب: 1/117]
قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107322#post107322)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 06:16 PM
سورة البقرة
[من الآية (163) إلى الآية (164) ]
{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}
قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}
قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وتصريف الرّياح... (164).
قرأ نافع: الرياح " في البقرة، و: (وتصريف الرّياح)، وفي الأعراف (يرسل الرياح)، وفي إبراهيم: (اشتدّت به الرّياح).
[معاني القراءات وعللها: 1/183]
وفي الحجر: (الرّياح لواقح)، وفي الكهف: (تذروه الرّياح)، وفي الفرقان: (أرسل الرّياح)، وفي النمل: (ومن يرسل الرّياح)، وفي الروم: (اللّه الّذي يرسل الرّياح)، وفي فاطر: (أرسل الرّياح) وفي الجاثية: (وتصريف الرّياح) وفي عسق: (إن يشأ يسكن الرّياح) قرأهن كلهن نافع على الجمع.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم: (الرياح) منها في تسعة مواضع في البقرة والأعراف، والحجر، والكهف، والفرقان،
[معاني القراءات وعللها: 1/184]
والنمل، والروم، وفي فاطر، والجاثية.
وقرأوا في إبراهيم، وعسق على التوحيد.
ووافقهم ابن كثير في أربعة مواضع في البقرة، والحجر، والكهف، والجاثية، والباقي على التوحيد - وقرأ حمزة واحدة منها على الجمع في الفرقان، والباقي على التوحيد.
ولم يختلفوا في التي في سورة الروم: (الرّياح مبشّراتٍ) على الجمع.
وقرأ الكسائي (الرياح) في موضعين في الحجر وفي الفرقان، والباقي على التوحيد.
قال أبو منصور: قوله: (وتصريف الرّياح) فاختلف القراء في هذا الحرف فقرئ مرة (الرياح)، ومرة (الريح)، والريح يقوم مقام الرياح.
[معاني القراءات وعللها: 1/185]
وكذلك قرئت، فمن قرأ الرياح فهو جمع الريح، ومن قرأ الريح أراد بها: الرياح. ولذلك أنثت، لأن معناها الجماعة.
وقال بعضهم ما كان من رياح رحمة فهي رياح، وما كان من ريح عذاب فهي واحدة.
واتفق القراء على توحيد ما ليس فيه ألف ولام، كقوله: (ولئن أرسلنا ريحًا) وكذلك: (ريحًا صرصرًا) وما أشبهه، وما كان فيه الألف واللام فقد اختلف القراء فيها على ما بينا، وكل ذلك جائز). [معاني القراءات وعللها: 1/186]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في قوله عز وجل: الرّياح في الجمع والتوحيد.
فقرأ ابن كثير: الرّياح على الجمع في خمسة مواضع: في البقرة هاهنا [الآية/ 164] وفي الحجر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/248]
أرسلنا الرّياح لواقح [الآية/ 22] وفي الكهف: تذروه الرّياح [الآية/ 45] وفي سورة الروم الحرف الأول: الرّياح مبشّراتٍ [الآية/ 46]، وفي الجاثية: وتصريف الرّياح [الآية/ 5]، والباقي: الرّيح.
وقرأ نافع: الرّياح في اثني عشر موضعاً: هاهنا وفي الأعراف: يرسل الرّياح [الآية/ 57]، وفي سورة إبراهيم:
كرماد اشتدت به الرياح [الآية/ 18] وفي الحجر: وأرسلنا الرّياح لواقح [الآية/ 22] وفي الكهف: تذروه الرّياح [الآية/ 45] وفي الفرقان: أرسل الرّياح [الآية/ 48] [وفي النمل يرسل الرّياح] [63]، وفي الروم موضعين الرّياح [46، 48] وفي فاطر الرّياح [الآية/ 9]، وفي عسق يسكن الرياح [الآية/ 33] وفي الجاثية: الرّياح [الآية/ 5].
وقرأ أبو عمرو من هذه الاثني عشر حرفا حرفين:
الرّيح في إبراهيم [الآية/ 18]، وفي عسق الرّيح [33] والباقي الرياح على الجمع مثل نافع.
وقرأ عاصم وابن عامر مثل قراءة أبي عمرو.
وقرأ حمزة الرّياح على الجمع في موضعين: في الفرقان: أرسل الرّياح [الفرقان/ 48] وفي سورة الروم، الحرف الأول: الرّياح مبشّراتٍ [الروم/ 46] وسائرهنّ على التوحيد.
[الحجة للقراء السبعة: 2/249]
وقرأ الكسائيّ: كقراءة حمزة وزاد عليه في الحجر:
الرّياح لواقح [الحجر/ 22].
ولم يختلفوا في توحيد ما ليست فيه ألف ولام.
قال أبو علي: قال أبو زيد: قال القيسيّون الرّياح أربع:
الشّمال والجنوب والصّبا والدّبور. فأما الشّمال فمن عن يمين القبلة، والجنوب من عن شمالها. والصّبا والدّبور متقابلتان، فالصّبا من قبل المشرق، والدّبور من قبل
المغرب. وأنشد أبو زيد:
إذا قلت هذا حين أسلو يهيجني... نسيم الصّبا من حيث يطّلع الفجر
وإذا جاءت الريح بين الصّبا والشّمال فهي النّكباء التي لا يختلف فيها. والتي بين الجنوب والصّبا يقال لها:
الجربياء.
وقال السّكّريّ فيما روى عنه بعض شيوخنا قال: أخبرني أبو الحسن عليّ بن عبد الله الطوسيّ قال: أخبرنا ابن الأعرابي وأصحابنا عن الأصمعيّ وغيره قالوا: الرياح أربع: الجنوب والشّمال والصّبا والدّبور.
قال ابن الأعرابيّ: كلّ ريح بين ريحين فهي نكباء، وقال الأصمعيّ: إذا انحرفت واحدة منهنّ فهي نكباء، والجميع:
نكب.
[الحجة للقراء السبعة: 2/250]
فأمّا مهبّهنّ فإن ابن الأعرابيّ قال: مهبّ الجنوب من مطلع سهيل إلى مطلع الثّريّا، والصّبا من مطلع الثريّا إلى بنات نعش، والشمال من بنات نعش إلى مسقط النّسر الطائر [وقال: والدبور من مسقط النسر الطائر] إلى مطلع سهيل، قال: والجنوب والدّبور لهما هيف. والهيف: الريح الحارّة.
قال: والشّمال والصّبا لا هيف لهما.
وقال الأصمعيّ ما بين سهيل إلى طرف بياض الفجر جنوب، وما بإزائها مما يستقبلها من الغرب شمال، وما جاء من وراء البيت الحرام فهو دبور، وما جاء قبالة ذلك فهو صبا، والصّبا: القبول. قال: وإنما سمّيت قبولًا. لأنها استقبلت الدّبور، قال الهذليّ، وأنشد البيت الذي أنشده أبو زيد.
قال الطوسيّ: وقال غير الأصمعي وابن الأعرابي:
الجنوب التي تجيء من قبل اليمن- والشمال التي تهبّ من قبل الشام، والدّبور التي تجيء من عن يمين القبلة شيئاً والصّبا بإزائها، والجنوب تسمى الأزيب وتسمى النّعامى: قال أبو ذؤيب:
مرته النّعامى فلم يعترف... خلاف النّعامى من الشّؤم ريحا
[الحجة للقراء السبعة: 2/251]
اقل: وتسمى الشّمال: محوة، ولا تجرى. وتسمى الجربياء.
قال ابن أحمر:
بواد من قسا ذفر الخزامى... تحنّ الجربياء به الحنينا
سمّيت محوة لأنها تمحو السحاب وتذهب به.
وتسمى مسعاً ونسعاً، قال:
قد حال دون دريسيه مؤوّبة... مسع لها بعضاه الأرض تهزيز
وأنشد عن الطوسيّ للطّرمّاح:
قلق لأفنان الريا... ح للاقح منها وحائل
فاللاقح: الجنوب، والحائل: الشّمال. وتسمى الشّمال عقيماً، كما سمّاها الطّرمّاح حائلًا، وقد وصفت الصّبا بالعقم.
قال جرير:
[الحجة للقراء السبعة: 2/252]
مطاعيم الشّمال إذا استحنّت... وفي عرواء كلّ صباً عقيم
وفي التنزيل: وفي عادٍ إذ أرسلنا عليهم الرّيح العقيم [الذاريات/ 41].
قال الطوسيّ: العقيم: التي لا تلقح السحاب. قال:
والرياح اللواقح: تثير السحاب بإذن الله، وتلقح الشجر.
والذاريات: التي تذر التراب ذروا، فأما قول الطّرمّاح:
للاقح منها وحائل. فاللاقح على معنى النسب، وليس الجاري على الفعل، وكذلك حائل، تقديره: ذات حيال. يريد بالحيال أنّها لا تلقح كما تلقح الجنوب.
قال أبو دؤاد يصف سحاباً:
لقحن ضحيّاً للقح الجنوب... فأصبحن ينتجن ماء الحيا
قوله: «للقح الجنوب» تقديره: لإلقاح الجنوب. فحذف الزيادة من المصدر وأضافه إلى الفاعل كما قال:
وإن يهلك فذلك كان قدري أي: تقديري. وكما حذف الزيادة من المصدر كذلك حذفت من الجمع في قوله تعالى: وأرسلنا الرّياح لواقح [الحجر/ 22] والمعنى فيه: ملاقح، لأنها إذا ألقحت كانت
[الحجة للقراء السبعة: 2/253]
ملقحة. وجمع الملقح: ملاقح ولواقح على حذف الزيادة، لأنّ المعنى عليه. ومثل ذلك قوله:
يكشف عن جمّاته دلو الدّال إنما هو المدلي، فحذف الزيادة أو يكون أراد: دلو ذي الدّلو. كما قال: للاقح منها. وفي التنزيل: فأدلى دلوه [يوسف/ 19]. وقال الشاعر:
فسائل سبرة الشّجعيّ عنّا... غداة تخالنا نجوا جنيبا
أي: تحسبنا لكثرتنا واحتفالنا كسحاب ألقحته الجنوب فغزّرت ماءه.
وروينا عن أحمد بن يحيى لزهير:
جرت سنحا فقلت لها مروعا... نوى مشمولة فمتى اللّقاء
[الحجة للقراء السبعة: 2/254]
قال: قال الأصمعي: نوى مشمولة: أي: مكروهة- وقال الأصمعيّ: وأصل ذلك من الشّمال، لأنهم يكرهون الشّمال لبردها وذهابها بالغيم، وفيه الحيا والخصب، فصار
كلّ مكروه عندهم مشمولا، قال: وهم يحبّون الجنوب لدفئها، ولأنها تجيء بالسحاب والمطر، وفيها الحيا والخصب.
وأنشد لحميد بن ثور في مدحهم الجنوب:
فلا يبعد الله الشباب وقولنا... إذا ما صبونا صبوة سنتوب
ليالي أبصار الغواني وسمعها... إليّ.. وإذ ريحي لهنّ جنوب
أي: محبوبة كما تحبّ الجنوب.
وذكر بعض شيوخنا أن أبا عمرو الشيبانيّ روى قول الأعشى:
وما عنده مجد تليد ولا له... من الرّيح فضل لا الجنوب ولا الصّبا
تقدير هذا: وما له من فضل الريح فضل لا فضل الجنوب ولا فضل الصّبا، فحذف المضاف، والمعنى: أنه لم ينل أحداً، فيكون كريح الجنوب في مجيئه بالغيث. ولم ينفّس عن أحد كربة فيكون كالصّبا في التنفيس.
[الحجة للقراء السبعة: 2/255]
وروى غيره فيما ذكر محمد بن السّريّ:
وما عنده رزقي علمت ولا له... عليّ من الرّيح الجنوب ولا الصّبا
وتقدير هذا أيضاً: ولا له عليّ من فضل الريح فضل الجنوب ولا فضل الصّبا.
الأبين في قوله: وتصريف الرّياح [البقرة/ 164] الجمع، وذلك أن كلّ واحدة من هذه الرياح مثل الأخرى في دلالتها على الوحدانية وتسخيرها لينتفع الناس بها بتصريفها، وإذا كان كذلك فالوجه أن يجمع لمساواة كلّ واحدة منها الأخرى فيما ذكرنا، وقد يجوز في قول من وحّد أن يريد به الجنس كما قالوا: أهلك الناس الدينار والدّرهم.
وعلى هذا ينبغي أن يحمل التوحيد للريح، لأن كلّ واحدة مثل الأخرى في وضع الاعتبار لها والاستدلال بها.
فأما قوله تعالى: ولسليمان الرّيح عاصفةً [الأنبياء/ 81] فإن كانت الرياح كلّها سخّرت له، فالمراد بها الكثرة، وإن سخّرت له ريح بعينها، كان كقولك: الرجل، وأنت تريد به العهد.
وأما قوله تعالى: وفي عادٍ إذ أرسلنا عليهم الرّيح العقيم [الذاريات/ 41] فهي واحدة يدلّك على ذلك قوله
[الحجة للقراء السبعة: 2/256]
تعالى: فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً [فصلت/ 16].
وفي الحديث «نصرت بالصّبا، وأهلكت عاد بالدّبور»
فهذا يدلّ أنها واحدة وكذلك الرّيح التي أرسلت على الأحزاب يوم الخندق، قال تعالى: فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها [الأحزاب/ 9].
وأما ما
روي في الحديث من أن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، كان إذا هبّت ريح قال: «اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا».
فممّا يدلّ على أنّ مواضع الرحمة بالجمع أولى، ومواضع العذاب بالإفراد، ويقوي ذلك قوله تعالى: ومن آياته أن يرسل الرّياح مبشّراتٍ [الروم/ 46] فإنما تبشر بالرحمة، ويشبه أن يكون النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قصد هذا الموضع من التنزيل، وجعل الريح إذا كانت مفردة في قوله تعالى: وفي عادٍ إذ أرسلنا عليهم الرّيح العقيم [الذاريات/ 41].
وقد تختص اللفظة في التنزيل بشيء فيكون أمارة له، فمن ذلك أن عامّة ما جاء في التنزيل من قوله: وما يدريك مبهم غير مبيّن. وما كان من لفظ ما أدراك مفسّر، كقوله
[الحجة للقراء السبعة: 2/257]
تعالى: وما أدراك ما الحاقّة [الحاقة/ 3] وكذلك وما أدراك ما القارعة [القارعة/ 2] وما يدريك لعلّ السّاعة قريبٌ [الشورى/ 17].
والخبر الذي روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن الريح تخرج من روح الله. تجيء بالرحمة والعذاب»، فيجوز أن تكون الريح يراد بها الجنس، فإذا كانت للجنس كان على القبيلين العذاب والرحمة، فإذا جاز أن يكون للجنس، جاز أن يقع على الجمع مستغرقاً له، وجاز أن يقع اسم الجنس على البعض كما قال: وإنّكم لتمرّون عليهم مصبحين، وباللّيل... [الصافات/ 137 - 138]). [الحجة للقراء السبعة: 2/258]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({إن في خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار والفلك الّتي تجري في البحر بما ينفع النّاس وما أنزل الله من السّماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابّة وتصريف الرّياح}
قرأ حمزة والكسائيّ {وتصريف الرّياح} بغير ألف وحجتهما أن الواحد يدل على الجنس فهو أعم كما تقول كثر الدّرهم والدّينار في ايدي النّاس إنّما تريد هذا الجنس قال الكسائي والعرب تقول جاءت الرّيح من كل مكان فلو كانت ريحًا واحدة جاءت من مكان واحد فقولهم من كل مكان وقد وحدوها تدل على أن بالتّوحيد معنى الجمع
[حجة القراءات: 118]
وقرأ الباقون {وتصريف الرّياح} وحجتهم أنّها الرّياح المختلفة المجاري في تصريفها وتغاير مهابها في المشرق والمغرب وتغاير جنسها في الحر والبرد فاختاروا الجمع فيهنّ لأنّهنّ جماعة مختلفات المعنى ويقوّي الجمع ما روي عن رسول الله صلى الله عليه أنه كان إذا هاجت ريح جثا على ركبته واستقبلها ثمّ قال اللّهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحًا اللّهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها عذابا). [حجة القراءات: 119]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (88- قوله: {الرياح} قرأه حمزة والكسائي بالتوحيد، ومثله في الكهف والجاثية، ووافقهما ابن كثير على التوحيد أيضًا في الأعراف والنمل وفاطر، والثاني من الروم وقرأه الباقون بالجمع في السبعة، وتفرد نافع بالجمع في إبراهيم والشورى، وتفرد حمزة بالتوحيد في سورة
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/270]
الحجر، وتفرد ابن كثير بالتوحيد في سورة الفرقان، فذلك أحد عشر موضعًا.
89- ووجه القراءة بالجمع في {تصريف الرياح} هو إتيانها في كل جانب، وذلك معنى يدل على اختلاف هبوبها، فهي رياح لا ريح، لأن الريح الواحدة، إنما تأتي من جانب واحد، فكان لفظ الجمع فيها أولى، لتصرفها من جهات فيكون لفظها مطابقًا لمعناها في الجمع، وأيضًا فإن هذه المواضع أكثرها لغير العذاب، وقد قال النبي عليه السلام حين رأى ريحًا هبت: «اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحًا» فعُلم أن الريح بالتوحيد أكثر ما تقع في العذاب والعقوبات، وليست هذه المواضع في ذلك، واعلم أن الرياح بالجمع تأتي في الرحمة، فواجب من الحديث أن يقرأ بالجمع إذ ليست للعقوبات.
90- ووجه القراءة بالتوحيد أن الواحد يدل على الجمع؛ لأنه اسم للجنس فهو أخف في الاستعمال، مع ثبات معنى الجمع فيه، والاختيار الجمع، لأن عليه الأكثر من القراء، ولأنه أبين في المعنى؛ لأنه موافق للحديث). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/271]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (54- {الرِّياحِ} {آية/ 164]:-
قرأها نافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو ويعقوب بالألف في عشرة مواضع: ههنا وفي الأعراف والحجر والكهف والفرقان والنمل والروم حرفين وفاطر والجاثية، وزاد نافع في إبراهيم وعسق، ووافقهم ابن كثير في البقرة، والحجر، والكهف، والأول من الروم، والجاثية. وحمزة والكسائي في الفرقان، والأول من الروم، وزاد الكسائي في الحجر، فأما الأول من الروم {مُبَشّراتٍ} فإجماع.
[الموضح: 306]
أما الجمع في هذه الكلمة فهو أظهر في المعنى؛ لأن المراد هو الدلالة على الصانع، وكل واحدةٍ من هذه الرياح مثل صاحبتها في دلالتها على الصانع، وكذلك في المنافع.
وأما الإفراد فيها فهو مثل الجمع أيضًا، كما يقال: أهلك الناس الدينار والدرهم، أي الدنانير والدراهم، فلا فرق بين القراءتين في المعنى، وإن كان الأول أبين، وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله عند هبوبها {اللّهُمّ اجْعَلْهَا رِياحًا ولا تَجْعَلْهَا رِيحًا}، فقد دل بأن الرياح للرحمة ذهابًا إلى قوله تعالى {الرّياحَ مُبَشّراتٍ} و{الرياحَ لَوَاقِحَ}، وبإن الريح للعذاب، ذهابًا إلى قوله تعالى {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}). [الموضح: 307]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107323#post107323)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 06:17 PM
سورة البقرة
[من الآية (165) إلى الآية (167) ]
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ولو يرى الّذين ظلموا... (165).
قرأ نافع وابن عامر ويعقوب: (ولو ترى الذين ظلموا) بالتاء.
وقرأ الباقون بالياء.
وقوله: (إذ يرون العذاب... (165).
قرأ ابن عامر وحده: (إذ يرون العذاب) بضم الياء.
وقرأ الباقون: (إذ يرون) بفتحها.
قال أبو منصور: من قرأ: (ولو ترى الذين ظلموا) فالخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم -
[معاني القراءات وعللها: 1/186]
والمراد به الأمة، ومن قرأ بالياء فهو للظالمين.
وقوله جلّ وعزّ: (أنّ القوّة للّه جميعًا وأنّ اللّه... (165).
قرأ يعقوب وحده: (إنّ القوّة للّه جميعًا وإنّ اللّه شديد العذاب) بكسر الألف فيهما.
قال أبو منصور: الاختيار: (أنّ القوّة) و(أنّ اللّه) بفتح الألفين.
وقرأ يعقوب بالكسر على إضمار جواب (لو)، والتقدير: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لقلت: إن القوة لله جميعا وإن الله.
وكذلك إذا قرئ بالياء؛ لأن المعنى: لعلموا أن القوة لله جميعا). [معاني القراءات وعللها: 1/187]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الياء والتاء من قوله جل وعزّ: ولو ترى الذين ظلموا [البقرة/ 165].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائيّ: ولو يرى، الّذين ظلموا بالياء.
وقرأ نافع وابن عامر: ولو ترى بالتاء. وكلّهم قرأ: إذ يرون العذاب بفتح الياء إلّا ابن عامر فإنه قرأ: إذ يرون العذاب بالضم.
[الحجة للقراء السبعة: 2/258]
قال أبو علي: يرى من رؤية العين، يدلك على ذلك تعدّيه إلى مفعول واحد تقديره: ولو يرون أن القوة لله جميعاً.
أي: لو يرى الكفار ذلك. فإن قلت: فلم لا تكون المتعدية إلى مفعولين، وقد سدّت أنّ مسدّهما؟.
قيل: يدل على أنها المتعدية إلى مفعول واحد قول من قرأ بالتاء فقال: ولو ترى الذين ظلموا [البقرة/ 165] ألا ترى أن هذا متعدّ إلى مفعول واحد لا يسدّ مسدّ مفعولين، ويدلّك على أنه متعدّ إلى مفعول واحد قوله تعالى: إذ يرون العذاب [البقرة/ 165] وقوله: وإذا رأى الّذين ظلموا العذاب فلا يخفّف عنهم [النحل/ 85] فتعدّى إلى مفعول واحد وكذلك قوله عزّ وجلّ: ويوم القيامة ترى الّذين كذبوا على اللّه وجوههم مسودّةٌ [الزمر/ 60] الأظهر أنّه متعدّ إلى مفعول واحد، أي: يعاينونهم كذلك. والجملة في موضع الحال، لا في موضع المفعول الثاني.
وقد روي في التفسير في قوله تعالى: يعرف المجرمون بسيماهم [الرحمن/ 41] قال: سواد الوجوه وزرقة الأعين، فسواد الوجوه دلت عليه هذه الآية، وزرقة الأعين:
قوله: ونحشر المجرمين يومئذٍ زرقاً [طه/ 102] فكما أن الرؤية في هذه المواضع رؤية البصر. كذلك في قوله: ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب [البقرة/ 165] وقوله: أنّ القوّة للّه جميعاً [البقرة/ 165] في تعذيبهم، فهو قريب من قوله: وإذا رأى الّذين ظلموا العذاب فلا يخفّف عنهم [النحل/ 85].
[الحجة للقراء السبعة: 2/259]
فإن قلت: فكيف جاء إذ في قوله: ولو يرى الّذين ظلموا إذ [البقرة/ 165] وهذا أمر مستقبل وإذ لما مضى؟.
فالقول فيه: إنه إنما جاء على لفظ المضي لإرادة التقريب في ذلك، كما جاء وما أمر السّاعة إلّا كلمح البصر أو هو أقرب [النحل/ 77] وما يدريك لعلّ السّاعة قريبٌ [الشورى/ 42] فلما أريد فيها من التحقيق والتقريب، جاء على لفظ المضيّ وعلى هذا جاء في ذلك المعنى أمثلة الماضي كقوله: ونادى أصحاب النّار أصحاب الجنّة [الأعراف/ 50] ومما جاء على لفظ المضيّ للتقريب من الحال قول المقيم المفرد: قد قامت الصلاة. يقول ذلك قبل إيقاعه التحريم بالصلاة لقرب ذلك من قوله. وعلى هذا قول رؤبة:
أوديت إن لم تحب حبو المعتنك فإنما أراد بذلك تقريب معاينة الهلاك وإشفاءه عليه. فأتى بمثال الماضي لما أراد به من مشارفته، وجعله سادّاً مسدّ الجواب من حيث كان معناه الاستقبال في الحقيقة، وأن الهلاك لم يقع بعد، ولولا ذلك لم يجز، ألا ترى أنّه لا يكون: قمت إن قمت، إنما تقول: أقوم إن قمت، وقوله تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 2/260]
وامرأةً مؤمنةً إن وهبت نفسها للنّبيّ [الأحزاب/ 50] فيمن كسر إن ينبغي أن يحمله على فعل آت يضمره، ولا يحمله على الماضي المتقدّم الذي هو أحللنا، وعلى ما ذكرنا جاء كثير مما في التنزيل، من هذا الضرب كقوله: ولو ترى إذ وقفوا على ربّهم [الأنعام/ 30] ولو ترى إذ وقفوا على النّار [الأنعام/ 27] ولو ترى إذ الظّالمون موقوفون عند ربّهم [سبأ/ 31] ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت [سبأ/ 51] ولو ترى إذ يتوفّى الّذين كفروا الملائكة [الأنفال/ 50]. فكما جاءت هذه الآي التي يراد بها الاستقبال بإذ، كذلك جاء ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب [البقرة/ 165]، فأما حذف جواب لو في هذه الآي، فلأن حذفه أفخم لذهاب المخاطب المتوعّد إلى كل ضرب من الوعيد، وتوقّعه له، واستشعاره إياه، ولو ذكر له ضرب منه لم يكن مثل أن يبهم عليه، لما يمكّن من توطينه نفسه على ذلك المذكور، وتخفيفه عليه، ومن وطّن نفسه على شيء لم يصعب عليه صعوبته على من لم يوطّن عليه نفسه.
وحجّة من قرأ: ولو يرى الّذين ظلموا بالياء أن المتوعّدين لم يعلموا قدر ما يشاهدون ويعاينون من العذاب كما علمه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمسلمون. فالفعل ينبغي أن يكون مسنداً إليهم في قوله تعالى: ولو يرى الّذين ظلموا.
ومن حجّتهم أن المتقدم لقوله: ولو يرى غيبة، فينبغي أن يكون المعطوف عليه مثله، وهو قوله جلّ وعزّ:
[الحجة للقراء السبعة: 2/261]
ومن النّاس من يتّخذ من دون اللّه أنداداً [البقرة/ 165] بعد قوله:
إنّ الّذين كفروا وماتوا وهم كفّارٌ [البقرة/ 161] والذين ظلموا هم الذين كفروا، ألا ترى قوله: والكافرون هم الظّالمون [البقرة/ 254] والذين كفروا هم المتخذون من دون الله أنداداً.
فلفظ الغيبة أولى من لفظ الخطاب من حيث كان أشبه بما قبله، وهو أيضاً أشبه بما بعده، وهو كقوله: كذلك يريهم اللّه أعمالهم حسراتٍ [البقرة/ 167].
وحجّة من قال: ولو ترى فجعل الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: كثرة ما جاء في التنزيل من قوله: جلّ وعزّ: ولو ترى من الآي التي تلوناها، ولم يقصد عليه السلام بالمخاطبة لأنه لم يعلم، ولكن في قصده بالمخاطبة تنبيه لغيره، ألا ترى أنه قد يخاطب، فيكون خطابه خطاباً للكافّة، كقوله تعالى: يا أيّها النّبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى [الأنفال/ 70] ويا أيّها النّبيّ إذا طلّقتم [الطلاق/ 1] وعلى هذا جاء: ألم تعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ [البقرة/ 106] ألم تعلم أنّ اللّه له ملك السّماوات والأرض [البقرة/ 107] فجاء الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، والمراد به الكافّة، فكذلك قوله: ولو ترى الذين ظلموا [البقرة/ 165].
وأما فتح أنّ في قوله أنّ القوّة للّه جميعاً
[الحجة للقراء السبعة: 2/262]
[البقرة/ 165] فيمن قرأ بالتاء والياء، فمن قرأ بالياء فإنّ أنّ معموله يرى، تقديره: ولو يرون أنّ القوّة لله جميعاً. وأما من قرأ بالتاء فقال: ولو ترى الذين ظلموا [البقرة/ 165] فلا يخلو من أن يجعل ترى من رؤية العين أو المتعدية إلى مفعولين. فإن جعلتها من رؤية البصر لم يجز أن يتعدّى إلى أنّ، لأنها قد استوفت مفعولها الذي تقتضيه، وهو الّذين ظلموا ولا يجوز أن يكون بدلًا من المفعول، لأنها ليست الّذين ظلموا ولا بعضهم ولا مشتملًا عليهم، ولا يجوز أن تكون المتعدية إلى مفعولين، لأن المفعول الثاني في هذا الباب هو المفعول الأول في المعنى.
وقوله: أنّ القوّة للّه جميعاً لا يكون الّذين ظلموا وإذا لم يكن إياهم، لم يجز أن يكون مفعولًا ثانياً، فإذا لم يجز أن ينتصب أنّ ب ترى فيمن قرأ بالتاء، جعلها المتعدية إلى مفعول أو مفعولين، ثبت أنه منتصب بفعل آخر غير ترى الظاهرة، وذلك الفعل هو الذي يقدّر جواباً للو، كأنّه: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب، لرأوا أن العزّة لله جميعاً. والمعنى أنهم شاهدوا من قدرته سبحانه ما تيقّنوا معه أنه قوي عزيز، وأن الأمر ليس على ما كانوا عليه من جحودهم، لذلك، أو شكّهم فيه.
ومذهب من قرأ بالياء أبين، لأنهم ينصبون أنّ بالفعل الظاهر دون المضمر، وهذه الجوابات في هذا النحو من الآي
[الحجة للقراء السبعة: 2/263]
تجيء محذوفة. فإذا أعمل الجواب في شيء صار بمنزلة الأشياء المذكورة في اللفظ. فحمل المفعول عليه، فخالف ما عليه سائر هذا النحو من الآي التي حذفت الأجوبة معها ليكون أبلغ في باب التوعّد.
فأمّا قوله عزّ وجلّ: إذ يرون العذاب [البقرة/ 165] وهي قراءتهم إلا ابن عامر، فحجتهم في ذلك قوله: وإذا رأى الّذين ظلموا العذاب فلا يخفّف عنهم [النحل/ 85] وقال تعالى: ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب [البقرة/ 166] فكما بني الفعل للفاعل الرائي دون المفعول به في هذا الباب، كذلك ينبغي أن يكون في قوله: يرون العذاب ولا يكون: يرون. كما لم يكن: وأروا العذاب.
وحجة ابن عامر أنه قد جاء: كذلك يريهم اللّه أعمالهم حسراتٍ [البقرة/ 167] فإذا كانوا مفعولًا بهم في الفعل المنقول بالهمزة المتعدي إلى مفعولين، كذلك يحسن أن يبنى الفعل لهم، إذا كان متعدياً إلى مفعول واحد، فتقول: يرون كما جاء ضميرهم مفعولًا في قوله: يريهم ألا ترى أنّك إذا قلت: يريهم فبنيت الفعل للمفعول به، قلت: يرون أعمالهم حسرات؟ وقوله: يريهم اللّه أعمالهم حسراتٍ منقول من رأى عمله حسرة، فإذا نقلته بالهمزة تعدى إلى مفعول آخر، وصار الفاعل قبل النقل المفعول الأول). [الحجة للقراء السبعة: 2/264]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوّة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب}
قرأ نافع وابن عامر (ولو ترى الّذين ظلموا) بالتّاء وحجتهما قوله {ولو ترى إذ الظّالمون} {ولو ترى إذ يتوفى الّذين كفروا} وجواب لو مكفوف المعنى ولو ترى يا محمّد هؤلاء المشركين عند رؤيتهم العذاب لرأيت أمرا عظيما ينزل بهم {وإن} بمعنى لأن القوّة لله جميعًا ولأن الله شديد العذاب ويجوز أن يكون العامل في {أن القوّة} الجواب المعنى فلو ترى يا ممد الّذين ظلموا لرأيت
[حجة القراءات: 119]
أن القوّة لله جميعًا وهذا خطاب للنّبي صلى الله عليه يراد به النّاس أي لرأيتم أيها المخاطبون أن القوّة لله أو لرأيتم أن الأنداد لم تنفع وإنّما بلغت الغاية في الضّرر ولا يجوز أن يكون العامل في أن ترى لأنّه قد عمل في الّذين
وقرأ الباقون {ولو يرى الّذين ظلموا} بالياء وحجتهم ما جاء في التّفسير لو رأى الّذين كانوا يشركون في الدّنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوّة لله جميعًا قال الزّجاج أما من قرأ {أن القوّة} فموضع أن نصب بقوله ولو يرى الّذين ظلموا شدّة عذاب الله وقوته لعلموا مضرّة اتخاذهم الأنداد وقد جرى ذكر الأنداد ويجوز أن يكون العامل في أن الجواب أي ولو رأى الّذين كانوا يشركون في الدّنيا أن القوّة لله جميعًا وكذلك نصب أن الثّانية والمعنى لو يرى الّذين ظلموا في الدّنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه {أن القوّة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب}
قرأ ابن عامر {إذ يرون العذاب} بضم الياء على ما لم يسم فاعله فعل يقع بهم تقول أريته كذا وكذا أي أظهرته له وقرأ الباقون {إذ يرون} بفتح الياء يعني الكفّار). [حجة القراءات: 120]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (91- قوله: {ولو يرى} قرأه نافع وابن عامر بالتاء، على المخاطبة للنبي عليه السلام؛ لأن عليه نزل القرآن، فهو المخاطب به، وهو الفاعل لـ «ترى» ويقوي ذلك قوله: {ويوم القيامة ترى الذين} «الزمر 60» وقوله: {ولو ترى إذ وقفوا} «الأنعام 27» و{ترى إذا فزعوا} «سبأ 51» و{لو ترى إذ
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/271]
يتوفى} «الأنفال 50» فكله إجماع على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم فجرى هذا على نظائره، الجمع عليها، ومعنى الخطاب للنبي هو التنبيه لغيره، وخطاب الله عز وجل للنبي خطاب للخلق كافة لأنه صلى الله عليه وسلم قد كان عالمًا بحال ما يصير إليه الذين ظلموا عند رؤيتهم العذاب، ويجوز أن يكون الخطاب للظالمين، والتقدير: قل يا محمد للظالم: لو ترى الذين ظلموا، فتكون القراءتان بمعنى واحد على هذا التأويل، وقرأ الباقون بالياء، جعلوا الفعل للذين ظلموا، لأنهم لم يعلموا قدر ما يصيرون إليه من العذاب كما علمه النبي والمؤمنون، فهم أولى أن يُسند إلى إليهم الفعل، لجهلهم بما يؤول إليه أمرهم، من أن يسند إلى النبي عليه السلام؛ لأنه كان عالمًا بذلك، وأيضًا فقد تقدم قبله لفظ غيبة، في قوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادًا} بعد قوله: {إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار} «161» فهم الظالمون المذكورون بعد {ترى}، فجرى لفظه على الغيبة؛ لما تقدم من ذكرهم على لفظ الغيبة أيضًا، فإن بعده لفظ خبر عن غيب في قوله: {كذلك يريهم الله أعمالهم} «167»، وقوله {ولو ترى}، في قراءة من قرأ بالتاء، يحتمل أن يكون من رؤية البصر، وأن القوة هي المفعول، ويحتمل أن يكون من رؤية القلب، فيسدان مسد المفعولين، وإذا قرئ بالتاء بعد أن يكون من رؤية البصر؛ لأن {الذين ظلموا} مفعول {ترى} لأنه إنما يتعدى إلى مفعول واحد، فتبقى «أن» لا عامل فيها، ويبعد أيضًا أن يكون من رؤية القلب؛ لأنه ليس في الكلام مفعول ثان لأنه يتعدى إلى مفعولين
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/272]
الأول «الذين ظلموا» ولا مفعول ثان في الكلام، ولا يحسن أن يكون «أن القوة» المفعول الثاني لأن الثاني في هذا الباب هو الأول في المعنى لأنه إنما يدخل على الابتداء والخبر، وليس «أن القوة» هي «الذين ظلموا» فلابد من إضمار فعل يعمل في «أن»، تقديره: لرأيت يا محمد أن القوة، أو لعلمت أن القوة، أو لرأوا أن القوة، أو لعلموا أن القوة، ونحوه، ولابد أن يقتصر بـ «ترى» على رؤية البصر، إذ ليس في الكلام مفعول ثان، فالقراءة بالياء أقوى في المعنى، وفي الإعراب، وفي قلة الإضمار، وعليها أكثر القراء، وعلى الياء حض ابن مسعود وابن عباس، وهو اختيار أبي عبيد، وبه قرأ مجاهد وابن محيصن وابن أبي إسحاق وطلحة وعيسى بن عمر والأعمش). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/273]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (92- قوله: {إذ يرون} قرأه ابن عامر بضم الياء، على ما لم يُسم فاعله، فلم يضف الفعل إليهم، كما قال: {كذلك يريهم الله} فلم يضف الفعل إليهم، وقرأ الباقون بفتح الياء، على أنه أضاف الفعل إلى «الظالمين» كما قال: {وإذا رأى الذين ظلموا العذاب} «النحل 85» وقال: {ورأوا العذاب} «البقرة 166» فأضاف الفعل إليهم، فحمل هذا على ذلك، وهو الاختيار، وعليه الجماعة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/273]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (55- {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [آية/ 165]:-
بالتاء، قرأها نافع وابن عامر ويعقوب.
وذلك لأنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقصد هو عليه
[الموضح: 307]
السلام بالمخاطبة؛ لأنه كان عالمًا بذلك، ولكن كان في ذلك تنبيه غيره؛ لأنه عليه السلام قد يخاطب، فيكون المقصود خطاب العامة نحو: {يا أيّها النَبِيُّ} و{إِذَا طَلّقتُم} و{يا أيّها النَبِيّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُم}، وقد جاء مثل هذه اللفظة كثيرًا على الخطاب في القرآن نحو {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزعُوا} {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا} {وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفّى}.
وقرأ الباقون بالياء على الغيبة، وذلك أنه أشبه بما قبله، وهو {وَمِنَ النّاس مَنْ يَتّخِذُ} وما بعده، وهو {كذلك يُريهم الله}، وهما على الغيبة، ثم إن المتوعدين لم يعلموا من مقدار العذاب المعاين ما علمه صلى الله عليه وسلم والمؤمنون، فإسناد الفعل إليهم أقرب). [الموضح: 308]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (56- {إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [آية/ 165]:-
بضم الياء، قرأها ابن عامر وحده.
ووجهها أن الفعل مبني للمفعول به؛ لأنه قد جاء مثل ذلك نحو {يُرِيهِمُ الله أعْمالَهُم}.
فكما أنهم مفعول بهم في هذه الآية، كذلك ههنا.
وقرأ الباقون {يَرَوْنَ} بفتح الياء.
[الموضح: 308]
ووجه ذلك أنه قد جاء مثله نحو {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ} {وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}). [الموضح: 309]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (57- {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ الله} [آية/ 165]:-
بكسر الألف فيهما، قرأها يعقوب وحده.
والوجه أنه استئناف؛ لأنه لما قال {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} كان المعنى: ولو يرى الذين ظلموا شدة بأس الله تعالى عند رؤيتهم العذاب لأيقنوا مضرة اتخاذ الأنداد، ثم استأنف بعد ذلك فقال {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ} أي إن القدرة له لا للأنداد.
وقال الفراء: هو على إضمار القول، والتقدير لقالوا إن القوة لله جميعًا، فجعل {إنّ} محكيًا لقالوا، وقالوا جواب لو.
وقرأ الباقون {أَنَّ القُوَّةَ} {وأَنَّ الله} بفتح الألف فيهما.
[الموضح: 309]
والوجه أن قوله {أَنَّ القُوّةَ} مفعول {يرى}، والتقدير: ولو يرى الذين ظلموا أَنَّ القوةَ لله جميعًا لعلموا مضرَّةَ اتّخاذِ الأنداد.
ويجوز أن يكون بإضمار اللام الجارة، والتقدير: لأن، والمعنى: ولو يرى الذين ظلموا شدة عذاب الله إذ يرون العذاب لندموا على اتخاذ الأنداد؛ لأن القوة لله لا للأنداد.
وعند بعضهم أنه على إضمار علموا، ويكون هو جواب لو، والتقدير ولو يرى الذين ظلموا شدة العذاب لعلموا أن القوة لله جميعًا.
ومن قرأ بالتاء من {ترى} فيجوز على قراءته أن يكون {أَنَّ القُوَّةَ} بدلاً من {العذاب}.
ويجوز أن يكون على إضمار رأيت، فيكون رأيت جوابًا للو، والتقدير: ولو ترى أنت أيها المخاطب وقت رؤيتهم العذاب لرأيت أن القوة لله جميعًا). [الموضح: 310]
قوله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)}
قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?t=19963)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 06:19 PM
سورة البقرة
[من الآية (168) إلى الآية (173) ]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ولا تتّبعوا خطوات الشّيطان... (168).
قرأ ابن كثير في إحدى الروايتين، وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر، وحمزة (خطوات) بسكون الطاء.
وكذلك قرأ نافع، وروي عن ابن كثير في إحدى الروايتين: (خطوات) بضم الطاء، وهي قراءة ابن عامر والكسائي وحفص.
قال أبو منصور: قال النحويون: يقال: خطوة واحدة ويجمع (خطوات) و(خطوات) وقد قرئ بهما، وفيها لغة ثالثة لم يقرأ بها، وهي: (خطوات).
وفسّر خطو،: الشيطان: آثاره.
وأصل الخطوة ما بين القدمين). [معاني القراءات وعللها: 1/188]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضمّ الطاء وإسكانها من قوله تعالى: خطوات [البقرة/ 168].
فقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائيّ وحفص عن عاصم خطوات مثقّلة.
وروى ابن فليح بإسناده عن أصحابه عن ابن كثير:
خطوات ساكنة الطاء خفيفة.
وقرأ نافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وحمزة خطوات ساكنة الطاء خفيفة.
قال أبو علي: أما الخطوة، فإنهم قد قالوا: خطوت خطوة، كما قالوا: حسوت حسوة، والحسوة اسم ما يحتسى.
وكذلك: غرفت غرفة، والغرفة اسم ما اغترف، فعلى هذا القياس يجوز أن تكون الخطوة والخطوة، فإذا كان كذلك، فالخطوة: المكان المتخطّى، كما أنّ الغرفة: العين المغترفة بالكفّ، فيكون المعنى: لا تتبعوا سبيله ولا تسلكوا طريقه، لأن الخطوة اسم مكان. وإن جعلت الخطوة كالخطوة في المعنى.
كما جعلوا الدّهن كالدّهن، فالتقدير: لا تأتمّوا به. ولا تقفوا أثره، فالمعنيان يتقاربان وإن اختلف التقديران. وقول رؤبة:
[الحجة للقراء السبعة: 2/265]
مجهولة تغتال خطو الخاطي معناه: أن هذه المفازة لطولها وبعد أقطارها كأنّ الخطى تهلك فيها فلا تؤثّر في قطعها، كما قال ذو الرّمّة في وصف عين بالسّعة:
تغول سيول المكفهرّات غولها أي لسعتها، وأنها لا تمتلئ مما يمتدّ إليها من الأمطار كأنّها تهلكها وتذهب بها.
وحجة من حرّك العين من خطوات: أن الواحدة (خطوة) فإذا جمعت حركت العين للجمع، كما فعلت بالأسماء التي على هذا الوزن نحو: غرفة وغرفات قال تعالى: وهم في الغرفات آمنون [سبأ/ 37]. ولم يلزم أن تبدل من الضمة كسرة، ومن الواو ياء كما يفعل ذلك في: أدل، وأجر، ونحوه، لأنه بمنزلة ما يبنى على التأنيث- ألا ترى أن الضمة إنما اعترضت مع الجمع بالألف والتاء، ولم تثبت الضمة والواو آخرة، ثم لحقتها التاء للجمع، كما أن الياء والواو في: النهاية والشقاوة
[الحجة للقراء السبعة: 2/266]
لم تثبتا في الكلام، ثم يلحقهما التأنيث. وإنما بنيت الكلمة على حرف التأنيث كما يبنى «مذروان» على التثنية، وهذا في خطوات ونحوها أظهر. لأن الضمة إنما تلحق مع الألف والتاء كما أنها في الغرفات والرّكبات كذلك.
وشيء آخر لمن ثقّل العين، وهو أنّه يجوز أن يكون لمّا حذف التاء التي للتأنيث، فبقي الاسم على فعل، حرّك العين مثل: عنق وعنق، وطنب وطنب فلمّا ثقّل العين بني الاسم على تاء التأنيث وألفه، كما بنى الاسم على التاء المفردة في: غيابة وشقاوة، وعلى التثنية في مذروان وثنايان، والدليل على ذلك قول لبيد:
فتدلّيت عليه قافلًا... وعلى الأرض غيايات الطّفل
ألا ترى أنه لو لم يكن الاسم مبنياً عليهما لهمزت الياء لوقوعها طرفا بعد ألف زائدة، فكما أن ثنايان مبني على التثنية، كذلك هذا بني على الجمع بالألف والتاء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/267]
قال أبو الحسن: التحريك: قول أهل الحجاز.
وحجة من أسكن فقال: خطوات: أنهم نووا الضمة وأسكنوا الكلمة عنها- ألا ترى أنّ القول في ذلك لا يخلو من أن تكون جمع فعلة، فتركوها في الجمع على ما كانت عليه في الواحد، أو يكونوا أرادوا الضمة فخفّفوها وهم يريدونها، كما أنّ من قال: لقضو الرجل ورضي، أراد الضمة والكسرة، فحذفوها من اللفظ وهم يقدرون ثباتها، بدلالة تركهم ردّ الياء والواو، فلا يجوز الوجه الأول لأن ذلك إنما يجيء في ضرورة الشعر دون حال السّعة والاختيار، كما قال ذو الرّمّة.
... ورفضات الهوى في المفاصل فإذا لم يجز حمله على هذا الوجه، علمت أنه على الوجه الآخر، وأنهم أسكنوها تخفيفاً، وهم يريدون الضمة، كما تراد الضمة في: لقضو الرجل ونحوه، ولهذا لم يجمع ما كان على فعال، ونحوه من المعتل على: فعل، ولا فعل لأنك لو جمعته على فعل، لكانت الضمة في تقدير الثبات، ويدلّك على أنها عندهم في تقدير الثبات: أن التحريك فصل بين الاسم والصفة، فإذا كان كذلك علمت أن التحريك الذي يختصّ بالأسماء دون الصفات منويّ، فأما قولهم: ثني وثن؛ فهو مما رفضوه في سائر كلامهم.
[الحجة للقراء السبعة: 2/268]
ولمن أسكن. العين من خطوات وجه آخر من الحجاج، وهو أن يكون أجرى الواو في إسكانه إياها مجرى الياء- ألا ترى أن ما كان من هذا النحو من الياء نحو، مدية، وكلية، وزبية، لم يجمع إلا بالإسكان للعين، وذلك أنك لو حركتها للزم انقلاب الياء واواً لانضمام ما قبلها، كما لزمها انقلابها في: لقضو الرجل، فلما كان التحريك يؤدي إلى القلب، قرروه على الإسكان فقالوا: مديات وكليات. فلما لزم الإسكان في الياء جعل من أسكن خطوات الواو بمنزلة الياء، كما جعلوها بمنزلتها في (اتسروا)، ألا ترى أن التاء لا تكاد تبدل من الياء، وإنما يكثر إبدالها من الواو، وإنما أبدلوها في (اتسر)، لإجراء الياء مجرى الواو، وكذلك أجرى الواو مجرى الياء في أن أسكنها في خطوات ولا يلزمه على هذا أن يقول في: غرفات: غرفات، لأنه لم يجتمع مع كثرة الحركات الأمثال كما اجتمعت في خطوات). [الحجة للقراء السبعة: 2/269]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة علي عليه السلام والأعرج، ورُويت عن عمرو بن عبيد: [خُطُؤات] بضمتين وهمزة، وهي مرفوضة وغلط.
وقرأ أبو السمال: [خَطَوات] بفتح الخاء والطاء.
قال أبو الفتح: أما الهمز في هذا الموضع فمردود؛ لأنه من خطوت لا من أخطأت، والذي يُصرف هذا إليه أن يكون كما تهمزه العرب ولا حظَّ له في الهمز، نحو: حَلَّأت السويق، ورَثَأْثُ رُوحي بأبيات، والذئب يستنشئ ريح الغنم. والحمل على هذا فيه ضعف؛ إلا أن الذي فيه من طريق العذر أنه لما كان من فعل الشيطان غلب عليه معنى الخطأ، فلما تصور ذلك المعنى أَطلعت الهمزة رأسها، وقيل: [خُطُؤات].
وأما خَطَوات فجمع خَطْوة، وهي الفَعْلَة، والْخُطوة ما بين القدمين، والْخُطُوات كقولك: طرائق الشيطان، والْخَطَوات كقولك: أفعال الشيطان). [المحتسب: 1/117]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ولا تتبعوا خطوات الشّيطان إنّه لكم عدو مبين}
قرأ نافع وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر والبزي {خطوات} ساكنة
[حجة القراءات: 120]
الطّاء وحجتهم أنهم استثقلوا الضمتين بعدهما واو في كلمة واحدة فسكنوا الطّاء طلبا للتّخفيف
وقرأ الباقون خطوات بضم الطّاء وحجتهم أن أصل فعلة إذا جمعت أن تحرّك العين بحركة الفاء هذا المستعمل في العربيّة مثل ظلمة وظلمات وحجرة وحجرات وقربة وقربات وخطوة وخطوات وقالوا ولم تستثقل العرب ضمة العين). [حجة القراءات: 121]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (93- قوله: {خطوات} قرأه ابن عامر والكسائي وحفص وقنبل بضم الطاء حملًا على أصل الأسماء؛ لأن الأسماء يلزمها في الجمع الضم في نحو: «غرفة، وغرفات» فضم «خطوات» على الأصل، وهي لغة أهل
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/273]
الحجاز، وقرأ الباقون بإسكان الطاء تخفيفًا؛ لاجتماع ضمتين وواو، لأنه جمع، ولأنه مؤنث، فاجتمع فيه ثقل الجمع، وثقل التأنيث، وثقل الضمتين والواو، فحسن فيه التخفيف، وقوي، وأصله الضم، ولا يحسن أن يقال: تُركت الطاء على سكونها في الواحد، لأن الجمع يلزمه الضم، فإنما هي ضمة أسكنت تخفيفًا؛ لما ذكرنا، لأن الضم، في هذا الباب للفرق بين الاسم والصفة، فالاسم يلزمه الضم لخفته، والصفة تسكن لثقلها، وذلك للفرق بينهما، والإسكان أولى لخفته، ولأن عليه أكثر القراء). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/274]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (58- {خُطُوَاتِ} [آية/ 168]:-
مضمومة الخاء والطاء، قرأها ابن كثير وابن عامر والكسائي و- ص- عن عاصم ويعقوب.
ووجه هذه القراءة أنه جمع خطوة على فعلة بضم الفاء وغرفات، قال الله تعالى {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ}، وهو مذهب أهل الحجاز.
وقرأ الباقون {خُطْواتِ} بضم الخاء وتسكين الطاء.
[الموضح: 310]
وذلك أنهم لما جمعوا الخطوة نووا الضمة في الطاء ثم أسكنوها استخفافًا، وهي في تقدير الثبات، يدل على أن الضمة في حكم الثبات أن هذه حركة يفصل بها بين الاسم والصفة، كما هي في جمع فعلة المفتوحة الفاء، فلا تحذف عن الاسم حذفًا، إذ هي فارقة بينه وبين الصفة فهي منوية لا محالة). [الموضح: 311]
قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا}
اختلف القرّاء في إدغام لام هل وبل عند التّاء والثاء والطاء والظاء والصّاد والزّاي والسّين والنّون نحو {بل نتبع} و{هل ترى}
فقرأ الكسائي جميع ذلك بالإدغام دخل حمزة معه عند التّاء والثاء والسّين وقرأ الباقون جميع ذلك بالإظهار
حجّة الكسائي في ذلك أن هذه اللّام لما كانت ساكنة في الخلقة أشبهت لام المعرفة فأدغمها عند هذه الحروف كما تدغم لام المعرفة عندهن فأجرى لام هل وبل مجرى لام المعرفة فأدغمها فيما أدغم فيه لام المعرفة ألا ترى أنه لم يدغم لام قل في شيء لأن سكونها عارض وأن الحركة أصلها وكذلك {ومن يبدل نعمة الله} وحجّة من أظهر لام هل وبل أن هذه اللّام تفارق لام المعرفة من جهة أن كل واحدة منهما من حرف يسكت عليه والّذي لقيها من حرف آخر فضعفت عن الإدغام الّذي يكون في الحرف الواحد الّذي
[حجة القراءات: 121]
لا يفصل بعضه عن بعض). [حجة القراءات: 122]
قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)}
قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فمن اضطرّ... (173).
اختلف القراء في ضم النون وكسرها من قوله: (فمن اضطرّ)، وفي
[معاني القراءات وعللها: 1/188]
التاء من قوله: (وقالت اخرج عليهنّ)، وفي الدال من قوله: (ولقد استهزئ) وفي الواو من قوله: (أو اخرجوا) (أو ادعوا)،
وفي اللام من قوله: (قل انظروا)، و(قل ادعوا)، ونحوهن.
فقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر والكسائي: (فمن اضطرّ) (أن اقتلوا) (أو اخرجوا)، (ولقد استهزئ)، (وقالت اخرج)، (أو انقص) وما نحا نحو هذا بالضم.
[معاني القراءات وعللها: 1/189]
قرأ أبو عمرو: (قل ادعوا الله)، (أو انقص)، (أو اخرجوا)، (أو ادعوا) (قل انظروا) بضم اللام والواو في هذه الخمسة الأحرف، وكسر الباقي.
وروى هارون عن أبي عمرو: (وقالت اخرج) بضم التاء، (فمن اضطر) بضم النون.
وقرأ عاصم وحمزة بكسرها كلها في التنوين وغيره، لاجتماع الساكنين.
وقرأ يعقوب: (أو اخرجوا)، (أو ادعوا)، (أو انقص) بضم هذه الثلاثة الأحرف، وكسر الباقي.
قال أبو منصور: هما لغتان، فمن كسر فلاجتماع الساكنين، ومن ضم فلأن ألف الوصل كان حقها الضم لو ابتدى بها، فلما سقطت في الوصل نقلت ضمتها إلى الحرف الذي قبلها.
[معاني القراءات وعللها: 1/190]
واتفق القراء على ضم الطاء من "اضطّر" ومن فتحها فقد خالف الإعراب). [معاني القراءات وعللها: 1/191]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه}
قرأ حمزة وأبو عمرو وعاصم {فمن اضطر} بكسر النّون حيث كان وكذلك {وقالت اخرج} {ولقد استهزئ} و{فتيلا انظر} بكسر التّاء والدّال والتنوين زاد عاصم وحمزة عليه كسر اللّام والواو مثل {قل ادعوا الله أو ادعوا الرّحمن} ودخل ابن عامر معهم في التّنوين فحسب
وقرأ الباقون جميع ذلك بالرّفع وحجتهم أنهم كرهوا الضّم بعد الكسر لأن يثقل على اللّسان فضموا ليتبع الضّم الضّم
وحجّة الكسر أن الساكنين إذا اجتمعا يحرك أحدهما إلى الكسر كقوله {وقل الحق من ربكم} وذكر اليزيدي عن أبي عمرو قال وإنّما كسرت النّون لأنني رأيت النّون حرف إعراب في حال النصب والرّفع تذهب إلى الكسر مثل قوله {غفورًا رحيما النّبي} وقوله {والله عزيز حكيم الطّلاق} قال فإذا كانت النّون نفسها فهو أحق أن يذهب بها إلى الكسر قال والتّاء والدّال بمنزلة النّون وهما أختا النّون إذ كانت لام التّعريف تندغم فيها كإدغامها في التّاء والدّال فتقول هي التّاء والدّال والنّون فترى اللّام فيهنّ
[حجة القراءات: 122]
مدغمة وضم الواو لأن اللّام تظهر عند الواو وضم اللّام في قوله {قل ادعوا الله} كراهية كسرة اللّام بين ضمتين ضمة القاف وضمة العين فأتبع الضمة الضّم). [حجة القراءات: 123]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (59- {فَمَنِ اضْطُرَّ} [آية/ 173]:
بضم النون، قرأها ابن كثير ونافع والكسائي.
والوجه أن ضمة النون ههنا لإتباع ضمة الطاء في من اضطر، ولم تكسر وحقها الكسر لالتقاء الساكنين، بل ضمت كراهة الخروج من الكسرة إلى الضمة؛ لأن ذلك يثقل عندهم، وليس الضاد الساكنة بحاجز عندهم لسكونها، فإن الكسرة تلي الضمة، فكما استثقلوا نحو فعل بكسر الفاء وضم العين للخروج من الكسر إلى الضم حتى اطرحوه من كلامهم، فكذلك يستثقلون نحو ذلك، فيقولون: اقتل بضم همزة الوصل إتباعًا لضمة التاء، ولا يقولون اقتل بكسر الهمزة كراهة لما ذكرنا من الخروج من الكسرة إلى الضمة.
ومثل قوله {فَمَنُ اضْطُرّ} قوله تعالى {أَنُ اقْتُلُوا} و{أَوُ اخْرُجُوا} و{أَوُ انْقُصْ}.
[الموضح: 311]
وقرأ عاصم وحمزة {فَمَنِ اضْطُرّ} بكسر النون من {مَن}، وكذلك يعقوب إلا في الواو فإنه ضمها حيث وقعت نحو {أَوُ اخْرُجُوا} و{أَوُ انْقُصْ}.
والوجه في كسر {مَنِ اضْطرّ} أن الكسر فيه لالتقاء الساكنين وهو الأصل فيه.
وأما ضم يعقوب الواو في نحو {أَوُ اخْرُجُوا} و{أَوُ انْقُصْ} مع كسر غير الواو؛ فلأن الواو إما أن تكون للجمع أو لغير الجمع، فإن حقها الضم لالتقاء الساكنين نحو {اشْتَرَوُا}؛ لأن لام الفعل التي كانت كان فيها ضم في حالة الجمع، فلما زال الضم بزوال محله أرادوا أن يدلوا عليه فجعلوا حركة التقاء الساكنين الضمة.
وأما ما كان لغير الجمع فإنه يجوز ضمه أيضًا على تشبيهه بواو الجمع نحو {أَوُ انْقُصْ} و{لَوُ اسْتَطَعْنَا} ). [الموضح: 312]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107325#post107325)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 06:21 PM
سورة البقرة
[من الآية (174) إلى الآية (176) ]
{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}
قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}
قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107326#post107326)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 06:22 PM
سورة البقرة
[ الآية (177) ]
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
تفسير قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ليس البرّ أن تولّوا وجوهكم... (177).
قرأ حفص وحمزة: (ليس البرّ) بالنصب، وقرأ الباقون: (ليس البرّ) رفعا.
قال أبو منصور: الاختيار الرفع؛ لأن (ليس) يرفع الاسم الذي يليه، ومن نصب فعلى أنه جعل اسم ليس (البرّ) (أن تولّوا)، و(البرّ) خبره، وهو جائز، والرفع أجود القراءتين.
وقوله جلّ وعزّ: (ولكنّ البرّ من آمن باللّه... (177).
قرأ نافع وابن عامر: (ولكن البرّ من آمن باللّه)، (ولكن البرّ
[معاني القراءات وعللها: 1/191]
من اتّقى) بتخفيف النون من (لكن) ورفع (البر).
وقرأ الباقون بتشديد النون والنصب.
قال أبو منصور: هما لغتان فاقرأ كيف شئت). [معاني القراءات وعللها: 1/192]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في رفع الراء ونصبها من قوله تعالى: ليس البرّ [البقرة/ 177].
فقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة: ليس البرّ بنصب الراء.
وروى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه كان يقرأ بالنصب والرفع. وقرأ الباقون البرّ رفع.
[الحجة للقراء السبعة: 2/269]
قال أبو علي: كلا المذهبين حسن، لأنّ كلّ واحد من الاسمين: اسم ليس وخبرها، معرفة، فإذا اجتمعا في التعريف تكافئا في كون أحدهما اسماً والآخر خبراً كما تتكافأ النكرتان.
ومن حجة من رفع البرّ: أنه أن يكون البرّ الفاعل أولى، لأن ليس تشبه الفعل وكون الفاعل بعد الفعل أولى من كون المفعول بعده، ألا ترى أنّك تقول: قام زيد؛ فيلي الاسم الفعل، وتقول: «ضرب غلامه زيد»، فيكون التقدير بالغلام التأخير، ولولا أن الفاعل أخصّ بهذا الموضع لم يجز هذا، كما لم يجز في الفاعل: «ضرب غلامه زيداً» حيث لم يجز في الفاعل تقدير التأخير كما جاز في المفعول به، لوقوع الفاعل في الموضع الذي هو أخصّ به.
ومن حجة من نصب البرّ: أنه قد حكي لي عن بعض شيوخنا، أنه قال في هذا النحو: أن يكون الاسم: «أن
[الحجة للقراء السبعة: 2/270]
وصلتها» أولى وأحسن، لشبهها بالمضمر، في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر، فكأنّه اجتمع مضمر ومظهر، والأولى إذا اجتمع مضمر ومظهر أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر، فكذلك إذا اجتمع أن مع مظهر غيره، كان أن يكون أن والمظهر الخبر أولى). [الحجة للقراء السبعة: 2/271]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أُبي وابن مسعود: [ليس البر بأن تولوا وجوهكم]، قال ابن مجاهد: فإذا كان هكذا لم يجز أن يُنْصب البر.
قال أبو الفتح: الذي قاله ابن مجاهد هو الظاهر في هذا؛ لكن قد يجوز أن يُنْصب مع الباء، وهو أن تجعل الباء زائدة؛ كقولهم: كفى بالله؛ أي: كفى الله؛ وكقوله تعالى: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} أي: كفينا، فكذلك [ليس البر بأن تولوا] بنصب البر كما في قراءة السبعة.
[المحتسب: 1/117]
فإن قلت: فإن [كفى بالله] شاذ قليل، فكيف قست عليه "ليس"، ولم نعلم الباء زيدت في اسم ليس؛ إنما زيدت في خبرها، نحو قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ}؟ قيل: لو لم يكن شاذًّا لما جوزنا قياسًا عليه ما جوزناه؛ ولكنا نوجب فيه ألبتة واجبًا، فاعرفه). [المحتسب: 1/118]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ليس البر أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن باللّه}
قرأ حمزة وحفص {ليس البر أن تولّوا} نصبا وقرأ الباقون بالرّفع فمن نصب جعل أن مع صلتها الاسم فيكون المعنى ليس توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب البر كله ومن رفع فالمعنى البر كله توليتكم فيكون {البر} اسم ليس ويكون {أن تولّوا} الخبر وحجتهم قراءة أبي (ليس البر بأن تولّوا) ألا ترى كيف أدخل الباء على الخبر والباء لا تدخل في اسم ليس إنّما تدخل في خبرها
قرأ نافع وابن عامر {ولكن} خفيفة {البر} رفعا وقرأ الباقون {ولكن البر} بالتشديد والنّصب اعلم أنّك إذا شددت {لكن} نصبت {البر} ب لكن وإذا خففت رفعت البر وكسرت النّون لالتقاء الساكنين وقد بيّنت الحجّة فيما تقدم). [حجة القراءات: 123]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (10- قوله: {ليس البر} قرأه حمزة وحفص بالنصب، وقرأه الباقون بالرفع.
108- ووجه القراءة بالنصب أن «ليس» من أخوات «كان» يقع بعدها المعرفتان، فتجعل أيهما شئت الاسم والآخر الخبر، فلما وقع بعد «ليس» «البر» وهو معرفة، و«أن تولوا» معرفة؛ لأنه مصدر بمعنى التولية، جعل «البر» الخبر، فنصبه، وجعل «أن تولوا» الاسم فقدر رفعه، وكان المصدر أولى بأن يكون اسمًا؛ لأنه لا يتنكر، و«البر» قد يتنكر، فـ «أن» والفعل أقوى في التعريف، وأيضًا فإن «أن» وصلتها تشبه المضمر؛ لأنها لا توصب كما لا يُوصف المضمر، ومن الأصول أنه إذا اجتمع مع «ليس» وأخواتها مضمر ومظهر، فالمضمر هو الاسم، لأنه أعرف، فلما كانت «أن» وصلتها كالمضمر، كانت أولى أن تكون هي اسم «ليس»، وقوي ذلك؛ لأن «أن» وصلتها في تقدير الإضافة إلى المضمر؛ لأن معناها «توليتكم» والمضاف إلى المضمر أعرف مما فيه الألف واللام، والأعرف أولى أن يكون هو الاسم لـ «كان» وأخواتها؛ لأنه هو المخبر عنه، ولا يُخبر إلا
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/280]
عن الأعرف دون الأنكر، ألا ترى أن النكرات لا يُخبر عنها، وأيضًا فإن «البر» تعريفه ضعيف؛ لأنه يدل على الجنس، ليس يدل على شخص بعينه، وتعريف الجنس ضعيف؛ لأنه كالنكرة، فصار «أن» والفعل أقوى من «البر» في التعريف بكثير، فوجب أن يكون الأعرف هو الاسم، وهو «أن» وما بعدها، ووجب نصب البر على الخبر.
109- ووجه القراءة بالرفع أن اسم «ليس» كالفعل، ورتبة الفاعل أن يلي الفعل، فلما ولي «البر» «ليس» رفع، ولو نصب «البر» لوجب أن يكون الكلام غير رتبته، وأن ينوي بـ «البر» التأخير، فيكون الكلام على رتبته، التي أتت به التلاوة، أولى من أن يحدث فيه ما يحتاج معه إلى التقديم والتأخير، ويقوي رفعه رفع «البر» الثاني، الذي معه الباء إجماعًا في قوله: {وليس البر أن تأتوا} «189» ولا يجوز فيه إلا رفع «البر» فحمل الأول على الثاني أولى من مخالفته له، ويقوي رفع «البر» أيضًا أن في مصحف ابن مسعود: (ليس البر بأن تولوا) بزيادة باء، وهذا لا يكون معه إلا رفع «البر»، وهو الاختيار؛ لإجماع القراء عليه، ولأنه رتبة الكلام، وبه قرأ الحسن والأعرج، ويقوي ذلك أن في مصحف أُبي: (ليس البر بأن تولوا} كمصحف ابن مسعود، والرفع في «البر» اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وغيرهما، وبه قرأ الحسن والأعرج وشيبة ومسلم بن جندب وابن أبي إسحاق وعيسى وابن محيصن وشبل وغيرهم، والنصب قوي في «البر» من باب التعريف، فالقراءتان حسنتان). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/281]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (60- {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا} [آية/ 177]:-
بنصب {البِرَّ}، قرأها حمزة و- ص- عن عاصم.
ووجه ذلك أن {البِرَّ} في هذه القراءة خبر ليس، و{أَنْ تُوَلّوا} اسمها، وإذا كان أن مع صلتها الاسم كان أحسن؛ لأنها تشبه المضمر في أن كل واحد منهما لا يوصف، وإذا اجتمع مضمر ومظهر كان المضمر أولى بأن يكون اسم ليس؛ لأنه أشد اختصاصًا من المظهر، فلذلك اختار هذه القراءة مَنْ قرأ بها.
وقرأ الباقون {لَيْسَ البِرُّ} بالرفع.
ووجهه أن ليس مشبه بالفعل، واسمها مشبه بالفاعل، وإذا كان الفاعل بعد الفعل كان أولى من أن يكون بعده المفعول.
وكلتا القراءتين حسنة؛ لكون الاسم والخبر جميعًا معرفتين، فأيهما جعل اسمًا والآخر خبرًا كان حسنًا). [الموضح: 313]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (61- {وَالصَّابِرِونَ فِي الْبَأْسَاءِ} [آية/ 177]:-
بالرفع، رواها –ان- عن يعقوب.
[الموضح: 313]
والوجه أن معطوف على قوله {مَنْ آمَنَ}؛ لأن موضع {مَنْ آمَنَ} رفع على أنه خبر {لكِنَّ}، والتقدير: ولكن ذا البر من آمن بالله واليوم الآخر والموفون والصابرون، فعطف قوله {والصابرون} على قوله {مَنْ آمَنَ}، كما عطف قوله {والمُوفُون} عليه، وموضع {مَنْ آمَنَ} رفع، فكذلك يكون ما عطف عليه رفعًا أيضًا.
وعند الزجاج أنه عطف على {الموفون}، و{الموفون} رفع على أنه خبر مبتدأ، والتقدير: هم الموفون والصابرون.
وقرأ الباقون {الصابِرينَ} بالنصب.
والوجه أنه منصوب على المدح، وذلك بأن يضمر له فعل ناصب، والمعنى أمدح الصابرين، أو أخص الصابرين، كما قال:
12- لا يبعدن قومي الذين هم = سم العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك = والطيبون معاقد الأزر
بنصب النازلين، كأنه قال أمدح النازلين، ورفع الطيبين، كأنه قال هم الطيبون.
[الموضح: 314]
وذهب بعضهم إلى أنه عطف على قولوه {ذَوِي القُرْبَى}، والتقدير: وآتى المال ذوي القربى والصابرين.
والف هذا بأن العطف على ما في صلة الموصول لا يجوز بعد العطف على الموصول.
وقيل: هو عطف على اسم {لكِنَّ} ). [الموضح: 315]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107327#post107327)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 06:23 PM
سورة البقرة
[من الآية (178) إلى الآية (179)]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}
قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107328#post107328)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 07:09 PM
سورة البقرة
[من الآية (180) إلى الآية (182) ]
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)}
قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)}
قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فمن خاف من موصٍ جنفًا... (182).
قرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي ويعقوب: (من موصٍّ) بتشديد الصاد.
وقرأ الباقون: (من موصٍ).
قال أبو منصور: هما لغتان: وصّى وأوصى، فاقرأ كيف شئت). [معاني القراءات وعللها: 1/192]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في فتح الواو وتشديد الصاد وتخفيفها من قوله عزّ وجلّ: فمن خاف من موصٍ جنفاً [البقرة/ 182].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر موصٍ ساكنة الواو، وحفص عن عاصم مثله.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة والكسائي موصٍ مفتوحة الواو مشددة الصاد.
قال أبو علي: حجة من قال: موصٍ: قوله تعالى: فلا يستطيعون توصيةً [يس/ 50] وحجة من قال: موصٍ: يوصيكم اللّه في أولادكم [النساء/ 11] ومن بعد وصيّةٍ توصون بها أو دينٍ [النساء/ 12]. وفي المثل:
إنّ الموصّين بنو سهوان
[الحجة للقراء السبعة: 2/271]
وقال النّمر بن تولب:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت... أوصّ بدعد من يهيم بها بعدي
وقال آخر:
أوصيك إيصاء امرئ لك ناصح... طبّ بصرف الدّهر غير مغفّل
فأمّا قوله تعالى: ووصّى بها إبراهيم بنيه [البقرة/ 132] فلا أرى من شدّد ذهب فيه إلى التكثير وإنما وصّى مثل: أوصى، ألا ترى أنه قد جاء: من بعد وصيّةٍ توصون بها أو دينٍ [النساء/ 12] ولم يشدّد، فإن كان للكثرة فليس هو من باب وغلّقت الأبواب [يوسف/ 23]). [الحجة للقراء السبعة: 2/272]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فمن خاف من موص جنفا}
[حجة القراءات: 123]
وقرأ حمزة والكسائيّ وأبو بكر {فمن خاف من موص} وحجتهم قوله {ما وصّى به نوحًا} و{فلا يستطيعون توصية} مصدر من وصّى
وقرأ الباقون {موص} بالتّخفيف وحجتهم قوله {يوصيكم الله} و{من بعد وصيّة توصون} قال الكسائي هما لغتان مثل أوفيت ووفيت وأكرمت وكرمت وقد روي عن أبي عمرو أنه فرق بين الوجهين فقال ما كان عند الموت فهو موص لأنّه يقال أوصى فلان بكذا وكذا فإذا بعث في حاجة قيل وصّى فلان بكذا). [حجة القراءات: 124]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (110- قوله: «موصٍ» قرأه أبو بكر وحمزة والكسائي بفتح الواو مشددًا، حملوه على «وصى به» وعلى توصية فـ «موص» اسم فاعل من «وصى» ومن «توصية»، وقد تقدم ذكر هذا في {ووصى بها إبراهيم} وقرأ الباقون: {موص} بإسكان الواو مخففًا، حملوه على «أوصى» وعلى «يوصي» و«يوصون» فهو اسم فاعل من «أوصى يوصي» لكن في التشديد معنى التكرير والتكثير، والقراءتان متكافئتان حسنتان، لكل واحدة منهما شاهد، قد أجمع عليه، وكان التخفيف أحب إلي؛ لأن أكثر القراء عليه؛ ولأنه أخف على القارئ). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/282]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (62- {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ} [آية/ 182]:-
مفتوحة الواو، مشددة الصاد، قرأها حمزة والكسائي وعاصم ويعقوب.
وذلك أنه قد جاء {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} وهي من وصى، وقد مضى مثله.
وقرأ الباقون {مُوْصٍ} ساكنة الواو، مخففة الصاد، من أوصى، وقد جاء نحوه في قوله {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ} و{تُوصُونَ}، وقد ذكرنا أن وصى وأوصى لغتان). [الموضح: 315]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107337#post107337)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 07:10 PM
سورة البقرة
[من الآية (183) إلى الآية (185) ]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}
قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فديةٌ طعام مسكينٍ... (184).
قرأ نافع وابن عامر: (فدية طعام مساكين) بالإضافة، وخفض الطعام، وجمع مساكين.
وقرأ الباقون: (فديةٌ طعام مسكينٍ) بالتنوين والرفع والتوحيد.
قال أبو منصورة من قرأ (فدية طعام مساكين) أضاف فدية إلى طعام
مساكين، والعرب تضيف الشيء إلى نعته، كقول الله جلّ وعزّ: (وحبّ
[معاني القراءات وعللها: 1/192]
الحصيد)، و(ذلك دين القيّمة).
ومن قرأ: (فديةٌ طعام مسكينٍ) رفع قوله (طعام مسكينٍ) لأنه ترجمة عن فدية، ويكون بدلاً، كأنه قال: وعلى الذين يطيقونه طعام مسكين). [معاني القراءات وعللها: 1/193]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في التاء ونصب العين، والياء والجزم، من قوله عزّ وجلّ: فمن تطوّع خيراً [البقرة/ 184].
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وأبو عمرو: فمن تطوّع خيراً بالتاء ونصب العين في الحرفين جميعاً.
[الحجة للقراء السبعة: 2/244]
وقرأ حمزة والكسائيّ: يطوع خيرا بالياء، وجزم العين. وكذلك التي بعدها.
قال أبو علي: من قرأ: فمن تطوّع خيراً احتمل قوله:
تطوّع أمرين:
أحدهما: أن يكون موضعه جزماً، والآخر: أن لا يكون له موضع. فأما الوجه الذي يجعل تطوّع فيه في موضع جزم، فأن تجعل من للجزاء كالتي في قوله: ومن يفعل ذلك يلق أثاماً [الفرقان/ 68] فإذا جعلته كذلك كان في موضع جزم، وكانت الفاء مع ما بعدها أيضاً في موضع جزم لوقوعها موقع الفعل المجزوم الذي هو جزاء، والفعل الذي هو «تطوّع» على لفظ المثال الماضي والتقدير به المستقبل، كما أن قولك: إن أتيتني أتيتك. كذلك.
والآخر: أن لا تجعله جزاء، ولكن يكون بمنزلة «الذي» ولا موضع حينئذ للفعل الذي هو تطوّع، ولو كان له موضع لم تكسر إنّ في قوله تعالى: وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه [القصص/ 76] والفاء على هذا في قوله: فهو خيرٌ له مع ما بعدها في موضع رفع من حيث كان خبر المبتدأ الموصول- والمعنى معنى الجزاء، وإن لم يكن به جزم، لأن هذه الفاء، إذا دخلت في خبر الموصول، آذنت أن الثاني وجب لوجوب الأول، والنكرة الموصوفة في ذلك، كالأسماء
[الحجة للقراء السبعة: 2/245]
الموصولة، وعلى هذا قوله عزّ وجلّ: وما بكم من نعمةٍ فمن اللّه [النحل/ 53] تقديره: ما ثبت بكم من نعمة، أو: ما دام بكم من نعمة، فمن ابتداء الله إياكم بها. فسبب ثبات النعمة ابتداؤه بذلك. كما أن استحقاق الأجر إنما هو من أجل الإنفاق في قوله: الّذين ينفقون أموالهم... فلهم أجرهم [البقرة/ 274].
فأما ما كان من النّعمة كالصّحة وتسوية البنية، والامتحان بالمرض والعلّة، فمن الله سبحانه.
وأما ما كان من جائزة ملك وعطاء أب وهبة صديق أو ذي رحم، فإنه يجوز أن ينسب إلى الله تعالى. من حيث كان بتمكينه وإقداره كما قال: وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17]، وإنما الرّامي للتراب، والحصباء بالبطحاء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
ولو أدخلت إنّ على هذه الأسماء الموصولة، جاز دخول الفاء معها كما جاز دخولها على غير هذا النحو من الابتداء. وعلى هذا قوله تعالى: إنّ الّذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثمّ لم يتوبوا فلهم عذاب جهنّم [البروج/ 10].
[الحجة للقراء السبعة: 2/246]
وقوله عزّ وجلّ: إلّا الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات فلهم أجرٌ غير ممنونٍ [التين/ 6] على قوله: «إلا حل ذاك أن أفعله» ولو ألحقت المبتدأ ليت أو لعلّ لم يجز دخول الفاء على الخبر، لأن الجزاء الجازم وغير الجازم خبر فإذا دخلت ليت ولعلّ، خرج بدخولهما الكلام عن أن يكون خبراً، وإذا خرج عن ذلك، لم يجز لحاق الفاء التي تدخل مع الخبر. ومثل ذلك قوله تعالى: ومن عاد فينتقم اللّه منه [المائدة/ 95] ومن كفر فأمتّعه قليلًا [البقرة/ 26] ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها، ومن جاء بالسّيّئة فلا يجزى إلّا مثلها [الأنعام/ 160] وفمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر [الكهف/ 29] إلا أنّ قوله: فمن شاء فليؤمن إذا جعلته موصولًا ولم تجعل شاء في موضع جزم، احتمل من شاء ضربين من الإعراب: أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء وفليؤمن في موضع خبر. والآخر: أن يكون مرتفعا بالابتداء يفسّره: (فليؤمن) مثل: زيد ليضرب. والفاء الداخلة في الخبر تحتمل أمرين: أحدهما: أن تكون زيادة مثل قولهم: أخوك فوجد، والآخر: أن يكون دخولها من أجل الصلة. ومثله:
ومن تاب وعمل صالحاً فإنّه يتوب إلى اللّه متاباً [الفرقان/ 71].
فإن قلت: وما معنى ومن تاب فإنّه يتوب؟.
فالقول في ذلك، أن اللفظ على شيء والمعنى على غيره، وذلك غير ضيّق في كلامهم، ألا ترى أنّهم قد قالوا: ما
[الحجة للقراء السبعة: 2/247]
أنت وزيد؟. والمعنى: لم تؤذيه؟ واللفظ إنّما هو على المسألة من المخاطب، وزيد معطوف عليه. وكذلك قالوا: أمكنك الصّيد، والمعنى: ارمه، وكذلك: هذا الهلال. أي: انظر إليه؛ فكذلك قوله: ومن تاب كأنه من عزم على التوبة، فينبغي أن يبادر إليها، ويتوجه بها إلى الله سبحانه. وقال تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ باللّه [النحل/ 98]. أي: إذا عزمت على ذلك فاستعذ، ومثل قوله: فإنّه يتوب [الفرقان/ 71] والمعنى على: ينبغي أن يتوب. قوله عزّ وجلّ: والمطلّقات يتربّصن [البقرة/ 228] أي: ينبغي أن يتربّصن. ومن هذا الباب قوله:
فمن شهد منكم الشّهر فليصمه [البقرة/ 185] قياسه على ما تقدم.
وأمّا من قرأ: ومن يطوع [البقرة/ 158] فتقديره:
يتطوّع، إلا أنه أدغم التاء في الطاء لتقاربهما، وجزم العين التي هي لام بمعنى «إن» التي للجزاء. وهذا حسن لأن المعنى على الاستقبال، وإن كان يجوز: من أتاني أعطيته، فتوقع الماضي موضع المستقبل في الجزاء، إلّا أن اللفظ إذا كان وفق المعنى كان أحسن). [الحجة للقراء السبعة: 2/248]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في الإضافة والتنوين، والجمع والتوحيد، من قوله تعالى: فديةٌ طعام مسكينٍ [البقرة/ 184].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائيّ:
[الحجة للقراء السبعة: 2/272]
فديةٌ منون طعام مسكينٍ موحّد.
وقرأ نافع وابن عامر فدية طعام مساكين [فديةٌ] مضاف ومساكين جمع.
قال أبو علي: طعام مسكينٍ على قول ابن كثير، ومن قرأ كما قرأ: عطف، بيّن الفدية. فإن قلت: كيف أفردوا المسكين والمعنى على الكثرة؟ ألا ترى أن الّذين يطيقونه جمع، وكلّ واحد منهم يلزمه طعام مسكين، فإذا كان كذلك وجب أن يكون مجموعاً كما جمعه الآخرون.
فالقول: إن الإفراد جاز وحسن لأن المعنى: على كل واحد طعام مسكين، فلهذا أفرد، ومثل هذا في المعنى قوله تعالى: والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً [النور/ 4] وليس جميع القاذفين يفرّق فيهم جلد ثمانين، إنّما على كلّ واحد منهم جلد ثمانين، وكذلك على كلّ واحد منهم طعام مسكين. فأفرد هذا كما جمع قوله: فاجلدوهم ثمانين جلدةً.
وقال أبو زيد: أتينا الأمير، فكسانا كلّنا حلّة، وأعطانا كلّنا مائة. قال أبو زيد: معناه: كسا كلّ واحد منا حلّة، وأعطى كلّ واحد منا مائةً.
وأما من أضاف الفدية إلى الطعام، فكإضافة البعض إلى ما هو بعض له، وذلك أنه سمّى الطعام الذي يفدى به فدية،
[الحجة للقراء السبعة: 2/273]
ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعمّ الفدية وغيرها، وهو على هذا من باب: خاتم حديد). [الحجة للقراء السبعة: 2/274]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن عباس بخلاف وعائشة -رحمهما الله- وسعيد بن المسيب، وطاوس بخلاف، وسعيد بن جبير، ومجاهد بخلاف، وعكرمة، وأيوب السختياني، وعطاء: [يُطَوَّقُونَه].
وقرأ [يَطَّوَّقُونَه] على معنى: يتطوقونه مجاهد.
ورُويت عن ابن عباس، وعن عكرمة.
وقرأ [يَطَّيَّقُونَه] ابن عباس بخلاف، وكذلك مجاهد وعكرمة.
وقرأ [يُطَيِّقُونَه] ابن عباس بخلاف.
قال أبو الفتح: أما عين الطاقة فواو؛ لقوهم: لا طاقة لي به ولا طوق لي به؛ وعليه مَن قرأ [يُطَوَّقُونَه] فهو يُفَعَّلُونه منه، فهو كقوله: يُجَشَّمُونه، ويكلفونه، ويجعل لهم كالطوق في أعناقهم.
وأما [يطَّوَّقُونه] فيتَفعَّلونه منه، كقولك: يتكلفونه ويتجشمونه، وأصله: يتطوقونه، فأبدلت التاء طاء، وأدغمت في الطاء بعدها كقولهم: اطَّير يطَّير؛ أي: يتطير.
وتجيز الصنعة أن يكون يتفوعلونه ويتفعولونه جميعًا، إلا أن يتفعَّلونه الوجه؛ لأنه الأكثر والأظهر.
وأما [يَتَطَيَّقُونَه] فظاهره لفظًا أن يكون يتفيعلونه، كتحيَّز أي تفيعل.
أنشدنا أبو علي للهذلي:
فلما جلاها بالإِيَامِ تحيزت ... ثُبات عليه ذلها واكتئابها
فهذا تفيعلت من حاز يحوز، ومثله تفيهق.
وقد يمكن أن يكون أيضًا يَتَطَيَّقُونه يتفَعَّلُونه، إلا أن العينين أبدلتا ياءين، كما قالوا في تهور الجرف: تهيَّر، وعلى أن أبا الحسن قد حكى هار يَهير.
[المحتسب: 1/118]
وقد يمكن أيضًا أن يكون هار يهير من الواو فعِل يفعِل، كرأي الخليل في طاح يطيح، وتاه يتيه.
وليس يقوى أن يكون تيطوَّقونه يتفوعلونه ولا يتفعولونه، وإن كان اللفظ هنا كاللفظ بيتَفَعَّل؛ لقلته وكثرته.
ويُؤنِّس بكون يتطيقونه يتفعلونه قراءة مَن قرأ: [يَتَطَوَّقُونه]، وكذلك يُؤنِّس بكون يُطَيَّقُونَه يُفعَّلونه قراءة مَن قرأ: [يُطَوَّقُونه]، والظاهر من بعد هذا أن يكون يُفَيعلُونه). [المحتسب: 1/119]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام مسكين}
قرأ نافع وابن عامر {وعلى الّذين يطيقونه فدية طعام} (ومساكين) جمع وقرأ الباقون {فدية} منونة {طعام} رفعا {مسكين} واحد وحجتهم أن الطّعام هو الفدية الّتي أوجبها الله على المفطر الّذي رخص له في الفطر وجعل إطعام المسكين جزاء إفطاره فلا وجه لإضافة الفدية إليه إذ كان الشّيء لا يضاف إلى نفسه إنّما يضاف إلى غيره وحجتهم في التّوحيد في المسكين أن في البيان على حكم الواحد في ذلك البيان عن حكم جميع أيّام الشّهر وليس في البيان عن حكم إفطار جميع الشّهر البيان عن حكم إفطار اليوم الواحد فاختاروا التّوحيد لذلك إذ كان أوضح في البيان
[حجة القراءات: 124]
وحجّة من أضاف الفدية إلى الطّعام أن الفدية غير الطّعام وأن الطّعام إنّما هو المفدى به الصّوم لا الفدية والفدية هي مصدر من القائل فديت صوم هذا اليوم بطعام مسكين أفديه فدية فإذا كان ذلك كذلك فالصّواب في القراءة إضافة الفدية إلى الطّعام
وحجّة من قرأ {مساكين} قوله قبلها {يا أيها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم} ثمّ قال {أيّامًا معدودات} قال إنّما عرف عباده حكم من أفطر الأيّام الّتي كتب عليه صومها بقوله {أيّامًا معدودات} فإذا كان ذلك كذلك فالواجب أن تكون القراءة في المساكين على الجمع لا على التّوحيد وتأويل الآية وعلى الّذين يطيقونه فدية أيّام يفطر فيها إطعام مساكين ثمّ تحذف أيّامًا وتقيم الطّعام مكانها قال الحسن فالمساكين عن الشّهر كله والأيّام). [حجة القراءات: 125]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (111- قوله: {فدية طعام مسكين} قرأ نافع وابن ذكوان «فدية طعام» بالإضافة، وقرأ الباقون بالتنوين في «فدية»، وبرفع «الطعام» وقرأ نافع وابن عامر «مساكين» بالجمع، وقرأ الباقون بالتوحيد منونًا مخفوضًا بالإضافة.
112- ووجه القراءة بالإضافة أنه سمى الطعام الذي يفدى به الصيام فدية، ثم أضافه إلى طعام، وهو بعضه، فهو من باب إضافة بعض إلى كل، مثل هذا: خاتم حديدٍ، وثوبُ خزٍّ، مع ما أن الإضافة أخف من غير أن ينقص المعنى.
113- ووجه القراءة بغير إضافة أنه سمى الشيء الذي يفدى به الصيام فدية، ثم أبدل الطعام منها، بدل الشيء من الشيء، وهو هو، فبين الله به من أي نوع هي، أبالطعام أو غيره، وهو الاختيار لأن المعنى عليه،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/282]
ولأن أكثر القراء عليه، ورفع «الفدية» في القراءتين بالابتداء، والخبر محذوف تقديره: فعليه فدية، ونحوه.
114- ووجه قراءة من جمع «مساكين» أنه رده على ما قبله لأن ما قبله جمعا في قوله: {وعلى الذين} فكل واحد من هذا يلزمه إذا أفطر طعام مسكين، فالذي يلزم جميعهم إذا أفطروا إطعام مساكين كثيرة، على كل واحد عن كل يوم أفطره مسكين، فالجميع أولى به لهذا المعنى، وبالجمع قرأ ابن عمر ومجاهد.
115- ووجه قراءة من وحد فقرأ «مسكين» أن الواحد النكرة يدل على الجمع، فاستغنى به عن لفظ الجمع، وأيضًا فإنه رده على الفدية، فوحد، كما وحدت الفدية، ومعناها فديات كثيرة تجتمع عن كل واحد، فلما وحدت الفدية وحد المسكين، وأيضًا فإنه بين بتوحيد مسكين ما يلزم عن كل يوم واحد أفطر، فيكون قد بيَّن به ما على من أفطر يومًا، وأيضًا فإن التوحيد يفيد الحكم الذي على كل من أفطر يومًا، وإذا قرأ بالجمع لم يقع فيه بيان، ما يلزم عن كل يوم أفطره الواحد، وإنما الجمع مُبهم، أخبر فيه أن على الجماعة إذا أفطروا، طعام مساكين، فلا يُدري ما على كل واحد أفطر يومًا، من لفظ الجمع، فالتوحيد فيه بيان ذلك، وبه قرأ ابن عباس، وهو الاختيار لأن أكثر القراء عليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/283]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (63- {فِدْيَةٌ طَعَامُ} [آية/ 184]:-
بإضافة {فِدْيَة} وخفض {طَعَام} بالإضافة، {مَسَاكِين} جمعًا، قرأها نافع وابن عامر.
[الموضح: 315]
وهذا من إضافة البعض إلى الكل، كخاتم حديد، وحلقة فضة، وذلك لأن الطعام يعم الفدية وغيرها، فلذلك أضاف الفدية إلى طعام المسكين.
وقرأ الباقون {فِدْيَةٌ} بالتنوين {طَعَامُ} بالرفع {مِسْكِينٍ} على الوحدة، وذلك أن طعامًا بدل من فدية أو عطف بيان، وإنما أفرد الطعام مع أن المعنى على الكثرة؛ لأن المعنى محمول على أن على كل واحدٍ منهم طعام مسكين، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} أي فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة.
وإنما جمع المساكين في القراءة الأولى؛ لأنه من باب إضافة الشيء إلى ما هو بعضه، فينبغي أن يكون ما أضيف إليه فيه كثرة، ليتحقق معنى البعضية في الأول، وإنما أفراد مسكينًا في القراءة الباقية؛ لأن المعنى أن على كل واحد منهم طعام مسكين واحد، فأفرد لهذا المعنى). [الموضح: 316]
قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله عزّ وجلّ: (ولتكملوا العدّة... (185)
قرأ عاصم ويعقوب (ولتكمّلوا العدّة) مشددا، وروى ذلك عن أبي عمرو أيضًا، وروى عنه التخفيف، وقرأ الباقون بالتخفيف.
قال أبو منصور: العرب تقول: كمّلت الشيء وأكملته بمعنى واحد، مثل: وصّيت وأوصيت، ونجّيت وأنجيت). [معاني القراءات وعللها: 1/193]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تشديد الميم وتخفيفها من قوله جلّ وعزّ: ولتكملوا العدّة [البقرة/ 185].
فقرأ عاصم في رواية أبي بكر ولتكملوا العدّة مشدّدة.
وروى حفص عن عاصم ولتكملوا خفيفة. وروى علي بن نصر وهارون الأعور وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو ولتكملوا العدّة مشدّدة.
وقال أبو زيد عن أبي عمرو كلاهما: مشددة ومخففة.
وقال اليزيدي وعبد الوارث عنه: إنه كان يثقّلها، ثم رجع إلى التخفيف. وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة والكسائي: ولتكملوا العدّة بإسكان الكاف خفيفة.
قال أبو علي: حجة من قرأ: ولتكملوا: قوله: اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة/ 3] وقد قال أوس:
عن امرئ سوقة ممّن سمعت به... أندى وأكمل منه أيّ إكمال
ومن قال: ولتكملوا العدّة فلأن فعّل وأفعل كثيراً ما
[الحجة للقراء السبعة: 2/274]
يستعمل أحدهما موضع الآخر، فمن ذلك ما تقدم ذكره من:
وصّى وأوصى. وقال النابغة:
فكمّلت مائة فيها حمامتها... وأسرعت حسبة في ذلك العدد
قال أحمد: اتفقوا على تسكين لام الأمر إذا كان قبلها واو أو فاء في جميع القرآن.
واختلفوا إذا كان قبلها ثمّ.
فقرأ أبو عمرو: ثمّ ليقضوا تفثهم [الحج/ 29] ثمّ ليقطع [الحج/ 15] بكسر اللام مع ثم وحدها. وليوفوا [الحج/ 29] ساكنة اللام، فلينظر [الحج/ 15] بالإسكان.
واختلف عن نافع فروى أبو بكر بن أبي أويس وورش عنه: ثمّ ليقضوا ثمّ ليقطع بكسر اللامين مثل أبي عمرو.
وروى المسيبي وإسماعيل بن جعفر وقالون وابن جماز وإسماعيل بن أبي أويس مثل حمزة بإسكان اللامين.
وقرأ ابن كثير وعاصم وحمزة والكسائي بإسكان اللامين في الحرفين جميعاً وقال القوّاس عن أصحابه عن ابن كثير:
ثمّ ليقضوا كسراً، وقال البزي: اللام مدرجة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/275]
وقرأ ابن عامر بتسكين لام الأمر فيما كان قبله واو أو فاء أو ثم في كل القرآن، إلا في خمسة مواضع كلها في الحج:
ثمّ ليقضوا [الآية/ 29] ثم ليقطع [الآية/ 15] فلينظر [الآية/ 15] وليوفوا نذورهم [الآية/ 29] وليطّوّفوا [الآية/ 29] بكسر اللام وسائر ذلك بالإسكان.
قال أبو علي: حجة من أسكن لام الأمر، إذا كان قبلها واو أو فاء: أنّ الواو والفاء، لمّا كان كلّ واحد منهما حرفاً مفرداً، ولم يجز أن تفصل من الكلمة التي دخلت عليها، فتفصل منها بالوقف عليها أشبهت الكلمة التي أحدهما فيه المتصل نحو: كتف وشكس. فكما أن هذا النحو من الأسماء والأفعال يخفّف في كلامهم بالتسكين، كذلك أسكنت اللام بعد هذين الحرفين.
وما يدل على أن الحرف إذا لم ينفصل ممّا دخل عليه تنزّل منزلة جزء من الكلمة قولهم: هؤلاء الضاربوه والضاربوك، فحذفوا النون التي تلحق للجميع، لما كانت النون حرفاً لا ينفصل من الكلمة، وعلامة الضمير كذلك، فلم يجتمعا.
وكذلك حرف اللين الذي للنّدبة، عاقب التنوين من حيث كان حرفاً لا ينفصل، كما كانت النون كذلك. وكما تنزّلت هذه الحروف منزلة ما هو من الكلمة من حيث لم تنفصل منها؛
[الحجة للقراء السبعة: 2/276]
تنزلت الواو والهاء، منزلتهما، فحسن تخفيف الحرف بعدها، كما خفّف نحو: كتف وسبع. وليس كذلك ثمّ، لأنها على أكثر من حرف فتفصل من الكلمة ويوقف عليها؛ فلم تجعلها بمنزلة الواو والفاء لمفارقتهما لهما فيما ذكرنا.
وأما وجه قول من أسكن اللام بعدها كما أسكن بعد الفاء والواو، فهو أنّه جعل الميم من ثمّ بمنزلة الواو والفاء من قوله: فليقضوا [الحج/ 29] فجعل فليقضوا من ثمّ ليقضوا بمنزلة (وليقضوا) وهذا مستقيم، وإن كان دون الأول في الحسن. ومما يدلّك على جوازه قول الراجز:
فبات منتصبا وما تكردسا وقالوا: أراك منتفخاً فجعل تفخاً من (منتفخا) بمنزلة كتف فأسكنه كما أسكن الكتف، ومثل دخول الواو والفاء على هذه اللام دخولهما على هو وهي: في نحو: وهو اللّه [القصص/ 70] ولهي الحيوان [العنكبوت/ 64] إلا أن الفصل بين اللام في نحو: فليقضوا، وبين: وهو أن اللام من ليقضوا ليس من الكلمة، ولكنّها جرت مجرى ما هو من الكلمة لمّا لم تنفصل منها، كما لم تنفصل الواو والفاء والهاء، من- هو، وهي- من نفس الكلمة، إلا أنّ اللام لما لم تنفصل من الكلمة تنزّلت
[الحجة للقراء السبعة: 2/277]
منزلة الهاء التي من الكلمة. ومن هذا الباب قول الشاعر:
عجبت لمولود وليس له أب... وذي ولد لم يلده أبوان
ومن ذلك ما أنشده أبو زيد:
قالت سليمى اشتر لنا سويقا فما بعد التاء من قوله: «اشتر لنا سويقا» بمنزلة كتف؛ فهذا حجة لمن قال: ثمّ ليقضوا فأسكن). [الحجة للقراء السبعة: 2/278]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({شهر رمضان الّذي أنزل فيه القرآن هدى للنّاس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشّهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله}
قرأ ابن كثير {القرآن} بغير همز وحجته ما روي عن الشّافعي عن إسماعيل قال الشّافعي قرأت على إسماعيل فكان يقول
[حجة القراءات: 125]
القران اسم وليس مهموزا ولم يؤخذ من قرأت ولو أخذ من قرأت لكان كل ما قرئ قرآنًا ولكنه اسم مثل التّوراة
وقرأ الباقون {القرآن} بالهمز مصدر قرأت الشّيء أي ألفته وجمعته قرآنًا قالوا فسمي بالمصدر وحجتهم قوله {إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه} أي جمعناه {فاتبع قرآنه} أي تأليفه
قرأ أبو بكر {ولتكملوا العدة} بالتّشديد من كمل يكمل وحجته قول النّاس تكملة الثّلاثين عن أبي بكر {ولتكملوا} بالتّشديد وقال شددتها لقوله {ولتكبروا الله}
وقرأ الباقون بالتّخفيف من أكمل يكمل وحجتهم قوله {اليوم أكملت لكم دينكم} وهما لغتان مثل كرمت وأكرمت قال الله {ولقد كرمنا بني آدم} وقال {أكرمي مثواه} ). [حجة القراءات: 126]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (116- قوله: {ولتكملوا} قرأه أبو بكر مشددًا مفتوح الكاف، وقرأ الباقون مخففًا، ساكن الكاف، وهما لغتان، يقال: أكملت العدد وكملته، ويقوي التخفيف إجماعهم على قوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} «المائدة 3»، ويقوي التشديد أن فيه معنى التأكيد والتكرير، وبه قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وأبو رجاء وابن أبي إسحاق والجحدري وغيرهم، والتخفيف أولى لخفته، ولأنه إجماع من القراء، ولإجماعهم على «اليوم أكملت»، وهو الاختيار، وبه
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/283]
قرأ ابن مسعود والأعرج وابن وثاب وطلحة بن مصرف وعيسى والأعمش وغيرهم). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/284]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (64- {أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ} [آية/ 185]:-
غير مهموز، قرأها ابن كثير وحده إذا كان اسمًا.
والوجه أن {القرآن} فعلان من قولهم: ما قرأت الناقة سلى قط، أي لم تجمعه في بطنها، قال:
13- ذراعي عيطل أدماء بكر = هجان اللون لم تقرأ جنينا
أي لم تجمعه في بطنها.
[الموضح: 316]
وإنما سمي قرآنًا لاجتماع الكلم فيه، فالأصل قرءان بالهمز لما ذكرنا، لكن [منهم] من يذهب إلى تخفيف الهمزة من قرءان، وتخفيفها ههنا: بأن تنقل [حركتها] إلى ما قبلها وتحذف الهمزة؛ لأنها متحركة وما قبلها ساكن، فيبقى بعد حذف الهمزة قران بغير همز، كما تقول الخب والمر وأشباههما، فهذا مذهب ابن كثير في {قُرْءان}.
وأما تخفيفه همزتها إذا كان اسمًا دون أن يكون مصدرًا؛ فلأن المصدر يعزي على فعله فيصح بصحته ويعتل باعتلاله، والعرب لا تحذف الهمزة من الفعل، فكذلك ينبغي أن لا يحذف من المصدر، ويكون القران مصدرًا هو في قوله تعالى {وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} أي قراءة الفجر.
وقرأ الباقون {القُرءان} أنه هو الأصل؛ لأن الأصل في الهمز التحقيق.
وأما ترك حمزة الهمزة في حال الوقف؛ فلأن الوقف موضع حذفٍ وتغييرٍ، وذد ذكرنا نحو ذلك). [الموضح: 317]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (65- {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} [آية/ 185]:-
مفتوحة الكاف، مشددة الميم، قرأها عاصم –ياش- ويعقوب، والباقون {وَلِتُكْمِلُوا} ساكنة الكاف، مخففة الميم، وهما لغتان: كمل وأكمل، كما قلنا في وصى وأوصى، وفعل وأفعل كثيرًا ما يستعمل أحدهما موضع الآخر). [الموضح: 318]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107338#post107338)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 07:12 PM
سورة البقرة
[من الآية (186) إلى الآية (188) ]
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وليؤمنوا بي لعلّهم يرشدون (186).
اتفق القراء على ضم الشين من (يرشدون)، وهو من رشد يرشد، وفيه لغة أخرى لم يقرأ بها، وهي: رشد يرشد.
وحرك الياء من قوله: (بي) ورش عن نافع.
وأرسلها الباقون). [معاني القراءات وعللها: 1/194]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({أجيب دعوة الداع إذا دعان}
قرأ إسماعيل وورش عن نافع وأبو عمرو (دعوة الدّاعي إذا دعاني) بالياء في الوصل والحلواني دخل معهم في الثّاني وإذا وقفوا وقفوا بغير ياء وحجتهم أن الأصل في ذلك إثبات الياء لأن
[حجة القراءات: 126]
الياء لام الفعل وإذا وقفت حذفت الياء اتباعا للمصحف وهذا حسن لأنهم اتبعوا الأصل في الوصل وفي الوقف المصحف
وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل وحجتهم أن ذلك في المصحف بغير ياء فلا ينبغي أن يخالف رسم المصحف وحجّة أخرى وهي أنهم اكتفوا بالكسرة عن الياء لأن الكسرة تنوب عن الياء). [حجة القراءات: 127]
قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}
قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107339#post107339)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 07:14 PM
تفسير سورة البقرة
[من الآية (189) إلى الآية (194) ]
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وأتوا البيوت من أبوابها... (189).
قرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي: (البيوت) بكسر الباء في كل القرآن، وكذلك كسر العين من العيون، والجيم من الجيوب، والشين من الشيوخ والغين من الغيوب، وروى الأعشى عن أبي بكر عن عاصم نحو ذلك، وقال يحيى عن أبي بكر عن عاصم: إنه ضم الجيم من
[معاني القراءات وعللها: 1/194]
الجيوب، وكسر ما سوى ذلك من هذه الحروف، وكسر نافع في رواية قالون الباء من البيوت، وضم سائر الحروف.
وقرأ أبو عمرو ويعقوب كلها بالضم..
قال أبو منصور: من ضم أول هذه الحروف فلأنها مبنية على (فعول) بضم الفاء ومن كسر اعتل بالياء، فأتبع الكسرة الكسرة، كما قالوا: أبيض وبيض، وقالوا في جمع أعين: عين، والأصل: بيضٌ، وعينٌ.
كما قالوا: أصفر وصفر، وأحمر وحمر.
وروى سليم عن حمزة أنه كان يشم الجيم من: (جيوبهن) الضم ثم يشمه كسرة خفيفة، ويرفع الياء.
وروى غيره عن حمزة الكسرة في جميعها). [معاني القراءات وعللها: 1/195]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في: البيوت والعيون والشّيوخ والغيوب والجيوب: في ضمّ الحرف الأول من هذه كلّها وكسره.
فقرأ ابن كثير وابن عامر والكسائيّ الغيوب بضم الغين وكسر الباء من البيوت والعين من العيون.
[الحجة للقراء السبعة: 2/280]
وقرأ أبو عمرو بضم ذلك كلّه: الباء والعين والغين والجيم والشين.
واختلف عن نافع فروى المسيّبيّ وقالون: البيوت بكسر الباء، وهذه وحدها، وضمّ الغين والعين والجيم والشين.
وقال ورش عن نافع: أنه ضمّ ذلك كلّه، والباء من البيوت، وكذلك قال إسماعيل بن جعفر وابن جمّاز عنه: أنه ضمّها كلّها.
قال أبو بكر بن أبي أويس: البيوت، والغيوب، والعيون، والجيوب، وجيوبهنّ، والشيوخ بكسر أول، ذلك كلّه.
قال الواقديّ عن نافع: البيوت بضم الباء.
واختلف عن عاصم أيضاً، فروى يحيى بن آدم عن أبي بكر عنه: أنه كسر الباء من البيوت، والعين من العيون، والغين من الغيوب، والشين من شيوخاً، وضمّ الجيم من (الجيوب) وحدها.
قال: يبدأ بالكسر ثم يشمّها الضمّ.
وروى هبيرة عن حفص عن عاصم أنه كان يكسر الشين من شيوخاً وحدها، ويضمّ الباقي وهذا غلط. وقال عمرو بن
[الحجة للقراء السبعة: 2/281]
الصبّاح عن أبي عمر عن عاصم شيوخاً بضم الشين، وضم سائر الحروف.
وكان حمزة يكسر الأول من هذه الحروف كلّها. وقال خلف وأبو هشام عن سليم عن حمزة: أنه كان يشمّ الجيم الضمّ، ثم يشير إلى الكسر، ويرفع الياء من قوله جيوبهنّ وهذا شيء لا يضبط.
وقال غير سليم بكسر الجيم.
قال أبو علي: أما من ضمّ الفاء من شيوخ، وعيون، وجيوب فبيّن لا نظر فيه بمنزلة فعول إذا كان جمعاً، ولم تكن عينه ياء، وأما من قال: (شيوخ وجيوب) فكسر الفاء، فإنما فعل ذلك من أجل الياء، أبدل من الضمّة الكسرة لأن الكسرة للياء أشدّ موافقة من الضمة لها.
فإن قلت: هلّا استقبح ذلك، لأنه أتى بضمّة بعد كسرة، وذلك مما قدمت أنهم قد رفضوه في كلامهم، فهلّا رفض أيضاً القارئ للجيوب ذلك؟
قيل: إن الحركة إذا كانت للتقريب من الحرف لم تكره، ولم تكن بمنزلة ما لا تقريب فيه- ألا ترى أنه لم يجيء في الكلام عند سيبويه على فعل إلا إبل. وقد أكثروا من هذا البناء، واستعملوه على اطّراد، إذا كان القصد فيه تقريب الحركة من الحرف، وذلك قولهم: ماضغ لهم، ورجل محك
[الحجة للقراء السبعة: 2/282]
وجئز. وقالوا في الفعل: شهد ولعب.
واستعملوا في إرادة التقريب ما ليس في كلامهم على بنائه البتّة، وذلك نحو: شعير ورغيف وشهيد، وليس في الكلام شيء على فعيل على غير هذا الوجه، فكذلك نحو: شيوخ وجيوب. يستجاز فيه ما ذكرنا للتقريب والتوفيق بين الجمعين. ومما يدل على جواز ذلك أنك تقول في تحقير فلس: فليس، ولا يكسر أحد الفاء في هذا النحو، فإذا كانت العين ياء، كسروا الفاء [فقالوا: عيينة وبييت، فكسروا الفاء هاهنا] لتقريبه من الياء، ككسر الفاء من فعول وذلك مما قد حكاه سيبويه، فكما كسرت الفاء من عيينة ونحوه، وإن لم يكن في أبنية التحقير، على هذا الوزن لتقريب الحركة ممّا بعدها، كذلك كسروا الفاء من (جيوب) ونحوها.
ومما يقوي هذا الكسر في الفاء إذا كان العين ياء للإتباع، أنّه قد جاء في الجموع ما لزمته الكسرة في الفاء، ولم نعلم أحداً ممّن يسكن إلى روايته حكى فيه غير ذلك، وذلك قولهم في جمع قوس: قسيّ؛ فلولا أن الكسر في هذا الباب قد تمكّن ما كان الحرف ليجيء على الكسر خاصة، ولا يستعمل فيه غيره، فإذا نسبت إلى قسي- اسم رجل- قلت: قسويّ، فرددت الضمّة التي هي الأصل، وقياس من
[الحجة للقراء السبعة: 2/283]
قال: صعقيّ أن يقول: قسويّ، فيقرّ الكسرة، وإن كانت الكسرة في العين التي لها كسرت الفاء قد زالت كما زالت من صعقيّ. ويدلك على ذلك أيضاً ما أنشده أبو زيد:
يأكل أزمان الهزال والسني وقول أبي النجم:
جاءت تناجيني ابنة العجليّ في ساعة مكروهة النّجيّ يكفيك ما موّت في السّنيّ فالأول فعول أيضاً، وإنما حذفت للقافية، ويدلك على أنه فعول التشديد الذي في بيت أبي النجم، ولم نعلم الضمّ سمع في ذلك أيضاً). [الحجة للقراء السبعة: 2/284]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتّقى وأتوا البيوت من أبوابها}
قرأ نافع في رواية إسماعيل وورش وابو عمرو وحفص {وأتوا البيوت} بضم الباء على أصل الجمع تقول بيت وبيوت مثل قلب وقلوب وفلس وفلوس وقرأ الباقون {البيوت} بكسر الباء وحجتهم في ذلك أنهم استثقلوا الضمة في الباء وبعدها ياء مضمومة فيجتمع في الكلمة ضمتان بعدها واو ساكنة فتصير بمنزلة ثلاثة ضمات وهذا من أثقل الكلام فكسروا الباء لثقل الضمات ولقرب الكسر من الياء وكذلك الكلام في {الغيوب} و{جيوبهنّ} و{شيوخًا} ). [حجة القراءات: 127]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (117- قوله: «البيوت، والغيوب، والجيوب، الشيوخ، والعيون» قرأ ذلك ورش وحفص وأبو عمرو بالضم في أوائلها، وقرأ قالون وهشام بكسر الباء من «البيوت»، وضم باقيها، وقرأ حمزة بالكسر في أوائلها كلها، ومثله أبو بكر غير أنه ضم الجيم من «الجيوب» وحدها، وقرأ ابن كثير وابن ذكوان والكسائي بضم الغين من «الغيوب» وكسر باقيها.
118- ووجه القراءة فيهن بالضم أنه أتى بهن على الأصل، ولم يسأل عن الياء وضمها، وباب «فعل» في الجمع الكثير «فعول»، ولما كان هذا النوع لا يجوز فيه إلا الضم إذا لم يكن الثاني ياء نحو: «كعوب، ودهور» أجرى ما ثانيه ياء على ذلك؛ لأنه أصله، ولئلا يختلف.
119- ووجه القراءة بالكسر أن الكسرة مع الياء أخف من الضمة معها، فاستثقل ضمة بعدها ياء مضمومة، والضمة مع ياء ثقيلة، فاجتمع حركتان ثقيلتان، وحرف ثقيل عليه حركة ثقيلة في جمع، والجمع ثقيل، فكسر الأول لخفته مع الياء، ولتقرب الحركة من الحرف الذي بعدها، فقد قالوا: شهد، ولعب، فكسروا الأول لكسر الثاني، وهو من حروف الحلق للتقريب، وقالوه أيضًا في الاسم فقالوا: سعيد ورغيف وشهيد، فكسروا الأول للثاني، إذ هو حرف حلق للتقريب من حركته، كذلك كسروا أوائل هذه الجموع للتقريب من الثاني، وقوي ذلك فيه، وليس بحرف حلق، لأنه جمع، ولأنه حرف ثقيل عليه
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/284]
حركة ثقيلة، والكسر للإتباع كثير في الكلام، قالوا: قسي، وعصي، وعتي، وصلي، وبكي، وهو كثير، فأما من ضم بعضًا وكسر بعضًا فإنه جمع بين لغتين، مع روايته ذلك عن أئمته، والضم هو الاختيار؛ لأنه الأصل، ولأن الكسر تغيير عن الأصل، والضم هو اختيار أبي حاتم، قال أبو حاتم: لا يجوز غير الضم ولا يُكسر الأول للياء؛ لأن الياء متحركة مضمومة، وليس في الكلام «فعيل» فكيف تروم ما لا يكون في الكلام، قال أبو محمد: الكسر لغة مشهورة في هذا الجمع، والكسرة عارضة، فلا يُعتد بوزنه، والضم هو الأصل). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/285]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (66- {البِيُوتَ} [آية/ 189] و{الغِيُوب} و{الشِيُوخ} و{العِيُون} و{الجِيُوب}:-
قرأ ابن كثير وابن عامر والكسائي بالكسر في كلهن إلا في {الغُيُوب} فإنهم ضم الغين فيه وحده، وقرأ أبو عمرو و–ش- و- يل- عن نافع و- ص- عن عاصم ويعقوب بالضم في الجميع، وقرأ –ن- عن نافع بالكسر في {البِيُوت} وضم الباقي، وروى –ياش- عن عاصم بالضم في {الجُيُوب} والكسر في الباقي، وقرأ حمزة بالكسر في الجميع.
أما من ضم، فإنه أجرى الكلمة على الأصل؛ لأن هذه الكلم صيغ جمع على فعول، فالأصل فيها أن ينضم الفاء.
وأما من كسر فإنه لما جاورت فاء الفعل الياء، كره الياء بعد الضمة كما
[الموضح: 318]
يكره الكسرة بعد الضمة؛ لأن الياء أخت الكسرة، فأبدل من الضمة كسرة ليكون أشد موافقةً للياء من الضمة، ألا ترى أنهم أبدلوا الضمة كسرةً في بيض وعين، لمكان الياء). [الموضح: 319]
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}
قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله عزّ وجلّ: (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام... (191).
قرأ حمزة والكسائي: (لا تقتلوهم... حتى يقتلوكم... فإن قتلوكم) بغير ألف.
وقرأ الباقون فيهن بالألف.
قال أبو منصور: من قرأ: (لا تقتلوهم) فالمعنى: لا تبدأوهم بقتل حتى يبدأوكم به، وجاز ولا تقتلوهم وإن وقع القتل ببعضٍ دون بعض، لأن العرب
[معاني القراءات وعللها: 1/195]
تقول: قتلنا القوم، وإنما قتلوا بعضهم،ومن قرأ: (ولا تقاتلوهم) فإنهم نهوا عن قصدهم بالقتال حتى يكون الابتداء منهم، والقتال من اثنين، والقتل من الواحد.
وأجازت العرب قاتله الله بمعنى: لعنه الله.
وقيل في قوله: (قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون)، أي: قتلهم الله). [معاني القراءات وعللها: 1/196]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في إثبات الألف وطرحها من قوله عزّ وجلّ: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم [البقرة/ 191].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم كلّها بالألف.
[الحجة للقراء السبعة: 2/284]
وقرأ حمزة والكسائيّ: ولا تقتلوهم بغير ألف، فيهنّ كلّهنّ، ولم يختلفوا في قوله: فاقتلوهم أنها بغير ألف.
قال أبو علي: حجة من قرأ: ولا تقاتلوهم في هذه المواضع اتفاقهم في قوله تعالى: وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ [البقرة/ 193] والفتنة يراد بها الكفر، أي: قاتلوهم حتى لا يكون كفر لمكان قتالكم إياهم.
وحجة من قرأ: ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فيه أنهم لم يختلفوا في قوله: فاقتلوهم فكل واحد من الفريقين يستدل على ما اختار بالموضع المتفق عليه.
ويقوي قول من قال: فاقتلوهم، قوله تعالى:
والفتنة أشدّ من القتل [البقرة/ 191] والقتل: مصدر قتلته، دون قاتلته أي: الكفر أشدّ من القتل، فاقتلوهم، فأمر بالقتل ليزاح به الكفر.
ويمكن أن يرجّح [قراءة من قرأ: ولا تقاتلوهم من أنه على قراءة من قرأ: فاقتلوهم بأنّ قوله فاقتلوهم وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنةٌ نص على الأمر بالقتال.
وقوله: والفتنة أشدّ من القتل في فحواه دلالة على الفعل، فيقول: الأخذ بما علم بالنص أولى ممّا علم من
[الحجة للقراء السبعة: 2/285]
الفحوى، إذا كانا في أمر واحد. وقوله حتّى يقاتلوكم فيه [البقرة/ 191]. أي: حتى يقتلوا بعضكم؛ فإن قتلوكم فاقتلوهم، أي: إن قتلوا بعضكم في الحرم فاقتلوا في الحرم القاتل في الحرم.
ومثل ذلك قوله تعالى: فما وهنوا لما أصابهم في سبيل اللّه [آل عمران/ 176] أي: ما وهن الباقون منهم لما أصابهم في سبيل الله). [الحجة للقراء السبعة: 2/286]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم}
قرأ حمزة والكسائيّ (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه فإن قتلوكم) بغير ألف
[حجة القراءات: 127]
وقرأ الباقون {ولا تقاتلوهم} بالألف أي لا تحاربوهم حتّى يحاربوكم فإن حاربوكم فاقتلوهم وحجتهم قوله {وقاتلوا في سبيل الله الّذين يقاتلونكم} {وقاتلوهم حتّى لا تكون فتنة} وحجّة أخرى وهي أن القتال إنّما يؤمر به الأحياء فأما المقتولون فإنّهم لا يقاتلون فيؤمروا به وإذا قرئ {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقاتلوكم فيه} كان ظاهره أمرا للمقتول بقتل القاتلين وذلك محال إذا حمل على ظاهره وحجّة من قرأ بغير ألف أن وصف المؤمنين بالقتل في سبيل الله أبلغ في المدح والثناء عليهم وأن معنى ذلك ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتّى يقتلوا بعضكم فإن قتلوا بعضكم فاقتلوهم وحكى الفراء عن العرب أنهم يقولون قتلنا بني فلان وإنّما قتلوا بعضهم وحجّة أخرى جاء في التّفسير أن المعنى فيه ولا تبدؤوهم بالقتل حتّى يبدؤوكم به فإن بدؤوكم بالقتل فاقتلوهم). [حجة القراءات: 128]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (120- قوله: {ولا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم فإن قاتلوكم} قرأه حمزة والكسائي الثلاثة بغير ألف، وقرأ ذلك الباقون بألف.
121- ووجه القراءة بالألف أنه جعل من القتال؛ لإجماعهم على قوله: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} «البقرة 193» فهذا نص على الأمل بالقتل، وبالألف قرأ الحسن وأبو عبد الرحمن وشيبة وحميد وغيرهم.
122- ووجه القراءة بغير ألف أنه جعله من القتل؛ لإجماعهم على قوله عقيب ذلك: {فاقتلوهم} وقوله: {والفتنة أشد من القتل}، والقراءتان متداخلتان حسنتان، لأن من قاتل قتل، ومن قتل فبعد قتال قتل، ومعنى {حتى يقاتلوكم فإن قاتلوكم} أي: يقتلون بعضكم فإن قتلوا بعضكم، والاختيار القراءة بالألف؛ لأن عليه الجماعة، وعليه قراءة العامة، وهو اختيار أبي حاتم وغيره). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/285]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (67- {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ} [آية/ 191]:-
بغير ألف فيهن قرأها حمزة والكسائي.
وذلك لأنه لا خلاف بينهم في قوله تعالى {فاقْتُلُوهم}، فاستدلا على المختلف فيه بالمتفق عليه، فلما كان في هذا {فاقْتُلُوهُمْ} اختارا أيضًا في الأول {وَلا تَقْتُلُوهُمْ} و{حَتَّى يَقْتُلُوكُمْ}.
وقرأ الباقون {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ} {حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ} {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ}.
لأنه تعالى يقول فيما بعد {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي حتى لا يكون كفر لأجل قتالكم إياهم، فهذا يؤيد قراءة {قَاتِلُوهُمْ} بالألف، وفيه أيضًا الاستدلال بالمتفق عليه على المختلف فيه). [الموضح: 319]
قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}
قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107340#post107340)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 07:15 PM
سورة البقرة
[من الآية (195) إلى الآية (196) ]
{وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}
قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}
قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107341#post107341)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 07:17 PM
سورة البقرة
[من الآية (197) إلى الآية (199) ]
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}
قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ... (197).
قرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو ويعقوب: (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ) رفعًا بالتنوين.
وقرأ الباقون نصبا غير منون، على التبرئة، واتفقوا كلهم على نصب اللام من قوله: (ولا جدال في الحجّ).
قال أبو منصور: من قرأ (فلا رفثٌ ولا فسوقٌ) فرفعهما بقوله في الحج، وإنما يحسن الرفع إذا نسق عليه، وإن لم ينسق عليه بـ (لا) فالاختيار النصب بلا تنوين، كقوله جلّ وعزّ: (لا ريب فيه) على التبرئة، ومعنى (ولا جدال في الحجّ)، أي: لا شك أن الحج في ذي الحجة.
[معاني القراءات وعللها: 1/196]
وقرأ الباقون: (فلا رفث ولا فسوق ولا جدال) بالنصب في جميعها على التبرئة، ولو قرئ: (ولا جدالٌ) بالرفع والتنوين كان ذلك جائزا في كلام العرب، فأما في القرآن فلا يجوز؛ لأن القراءة سنة، ولم يقرأ بها أحد من القراء). [معاني القراءات وعللها: 1/197]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال أحمد: اتفقوا في فتح الحاء من قوله عزّ وجل: الحجّ في سورة البقرة واختلفوا في آل عمران، وأنا أذكره إذا مررت به.
قال أبو علي: يريد في قوله تعالى: الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ [الآية/ 197]. والحجّ مصدر لقولهم: حجّ البيت أي: قصده، ومثل الحجّ قولهم: شدّ شداً، وردّ ردّاً، وعدّ عدّاً.
قال سيبويه: قالوا: حجّ حجّا- كقولهم: ذكر ذكراً.
قال: وقالوا: حجّة- يريدون: عمل سنة، كما قالوا:
غزاة: يريدون عمل وجه واحد. فلو قرئ: الحجّ على ما حكاه سيبويه لم يمتنع في القياس.
[الحجة للقراء السبعة: 2/278]
وقولهم:- حجّ- وهم يريدون جمع الحاجّ، يمكن أن يكونوا سمّوا بالمصدر الذي هو كالذّكر تقديره: ذوو حجّ وأنشد أبو زيد:
أصوات حجّ من عمان غادي وقال:
وكأنّ عافية النّسور عليهم... حجّ بأسفل ذي المجاز نزول
ومعنى قوله تعالى: الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ تقديره:
أشهر الحج أشهر معلومات، فحذف المضاف أو يكون:
الحجّ حجّ أشهر معلومات، فحذف المصدر المضاف إلى الأشهر، وعلى هذا:
يا سارق الليلة أهل الدار أو يكون جعل الأشهر الحجّ، لمّا كان الحجّ فيها، كقولهم: ليل نائم؛ فجعل الليل النائم لمّا كان النوم فيه.
[الحجة للقراء السبعة: 2/279]
وأشهر الحج: شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة، فسمّى الشهرين وبعض الثالث أشهراً، لأن الاثنين قد يوقع عليه لفظ الجمع، كما يوقع عليه لفظ الجمع في نحو قولهم:
ظهراهما مثل ظهور التّرسين ولا يجوز على هذا القياس أن يوقع على الاثنين.
وبعض الثالث قروءٍ في قوله: ثلاثة قروءٍ [البقرة/ 228] لأنّ هذا محصور بالعدد، فلا يكون الاثنان وبعض الثالث ثلاثة). [الحجة للقراء السبعة: 2/280]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في ضم الثّاء والقاف والتنوين ونصبهما بغير تنوين في قوله تعالى: فلا رفث ولا فسوق [البقرة/ 197].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: فلا رفث ولا فسوق بالضم فيهما والتنوين.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: فلا رفث ولا فسوق فيهما بغير تنوين، ولم يختلفوا في نصب اللام من جدال.
قال أبو علي: روي عن طاوس قال: سألت ابن عباس عن قوله: فلا رفث ولا فسوق قال: الرفث المذكور ليس الرفث المذكور في قوله: أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم [البقرة/ 187]، ومن الرفث التعريض بذكر
[الحجة للقراء السبعة: 2/286]
الجماع، وهي الإعرابة في كلام العرب.
وروي عنه وعن ابن مسعود وابن عمر والحسن وغيرهم:
الرّفث: الجماع.
وأما الفسوق فعن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وإبراهيم وعطاء: الفسوق: المعاصي، قال: في المعاصي كلّها.
وإن تفعلوا فإنّه فسوقٌ بكم [البقرة/ 282].
ابن زيد: هو الذبح، وقرأ: أو فسقاً أهلّ لغير اللّه به [الأنعام/ 145]. قال الضحاك: الفسوق: التنابز بالألقاب.
قال أبو علي: كأنه ذهب إلى قوله: بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان [الحجرات/ 11].
وقال أبو عبيدة فيما روى عنه التّوّزيّ: فلا رفث أي:
لا لغا من الكلام، واللّغا: التكلّم بما لا ينبغي، قال العجّاج:
عن اللّغا ورفث التكلّم تقول: لغيت تلغى، مثل: لقيت، تلقي، وقال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/287]
ولا جدال في الحجّ [البقرة/ 197] أي: لا شكّ فيه أنه لازم في ذي الحجّة، وقالوا: من المجادلة.
وقال أبو عبيدة: الرّفث إلى نسائكم: الإفضاء إلى نسائكم.
قال أبو علي: قد وافق قول أبي عبيدة ما روي عن ابن عباس، لأن ابن عباس جعل الرّفث المذكور، فيما روى عطاء عنه في قوله: فلا رفث ولا فسوق [البقرة/ 197] أنه غير الرّفث المذكور في قوله: أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم فقال في قوله: فلا رفث ولا فسوق من الرّفث:
التعريض بذكر الجماع.
وينبغي أن يكون مراده بذكر الجماع مع النساء، ويؤكد ذلك قوله: التعريض بذكر النساء، والتعريض يقتضي معرّضاً له. وإنما تأوّلناه على مراجعة النساء الحديث بذكر
الجماع، دون اللفظ به من غير مراجعتهنّ، لأنه قد روي عن ابن عباس أنه كان يطوف بالبيت وينشد:
وهنّ يمشين بنا هميسا إن تصدق الطير ننك لميسا فقيل له: أترفث؟ فقال: ليس هذا برفث، إنما الرفث مراجعة النساء الحديث بذكر الجماع. قال يعقوب فيما أخبرنا
[الحجة للقراء السبعة: 2/288]
به محمد بن السري قال يزيد بن هارون: لميساً يعني: فرجاً، وليس بامرأة بعينها. وقد وافق قول أبي عبيدة قول ابن عباس، لأنه فسّر الرفث في قوله تعالى: فلا رفث ولا فسوق: ما لا ينبغي أن يتكلم به، وفسر الرفث في قوله جل وعز: الرّفث إلى نسائكم [البقرة/ 187]: الإفضاء إلى نسائكم. قال أبو الحسن: وألحق إلى في قوله عز وجل: الرّفث إلى نسائكم لما كان الرفث بمعنى الإفضاء.
وأما قوله: ولا جدال في الحجّ [البقرة/ 197] فيحتمل ضربين قد أشار إليهما أبو عبيدة، أحدهما: أنه لا شك في أن فرض الحج قد تقرر في ذي الحجة، وبطل ما كان يفعله النّسأة من تأخير الشهور، وفيهم نزل: إنّما النّسيء زيادةٌ في الكفر [التوبة/ 37] والآخر: لا جدال: لا تجادل صاحبك ولا تماره.
فأما قوله جلّ اسمه: في الحجّ فلا يخلو (لا) من أن تقدّره بمعنى ليس، كما قال:
لا مستصرخ و: لا براح أو تقدرها غير معملة عمل ليس، وإنما يرتفع الاسم بعدها بالابتداء، فمن قدر ارتفاع الاسم بعدها بالابتداء جاز في قول سيبويه: أن يكون في الحج خبراً عن الأسماء الثلاثة، لاتفاق الأسماء في ارتفاعها بالابتداء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/289]
وأما قوله: فلا رفث ولا فسوق فبيّن.
وأما قوله: ولا جدال [البقرة/ 197] فإن لا مع جدال في موضع رفع، فقد اتفقت الأسماء في ارتفاعها بالابتداء، فلا يمنع من أن يكون قوله: في الحجّ خبرا عنها، ولا يجوز ذلك في قول أبي الحسن، لأنه يرى ارتفاع الخبر بعد لا، بلا النافية دون خبر الابتداء. ولو قدر مقدر في قوله: فلا رفث ولا فسوق، الاسم مرتفعاً بلا، كما يرتفع بليس؛ لم يجز في واحد من القولين أن يكون في الحجّ في موضع الخبر، لأن الخبر ينتصب بلا كما ينتصب بليس، وخبر لا جدال في موضع رفع بأنه خبر الابتداء، وفي قول أبي الحسن في موضع نصب بلا، فلا يجوز أن يكون خبراً عن الأسماء الثلاثة لوجود عمل عاملين مختلفين في مفعول واحد.
ولو رفع رافع: ولا جدال، ونوّن؛ لجاز أن يكون قوله: في الحجّ خبراً عن الأسماء الثلاثة. فإن رفع: فلا رفث ولا فسوق، بلا التي في معنى ليس، أضمر لها خبراً، ولم يجز أن يكون قوله: في الحجّ خبراً عنها، ولكنه يجوز أن يكون خبراً عن:
لا جدال ويجوز أن يكون صفة للجدال، فإذا جعلته صفة أضمرت لقولك: لا جدال في الحجّ خبراً، ولا يجوز أن يكون في الحجّ متعلقاً بالجدال على قول الخليل، وسيبويه.
ويجوز في قول البغداديين أن يكون متعلقاً بالجدال، وإن كانت لا النافية قد علمت فيه. ولو رفع الجدال ونوّن لجاز أن يكون في الحجّ متعلقاً بالجدال، لأن الجدال يبدل بهذا الحرف
[الحجة للقراء السبعة: 2/290]
الجار، قال تعالى: أتجادلونني في أسماءٍ سمّيتموها [الأعراف/ 71].
وحجة من فتح فقال: فلا رفث ولا فسوق ولا جدال أن يقول: إنه أشد مطابقة للمعنى المقصود، ألا ترى أنه إذا فتح فقد نفى جميع الرفث والفسوق، كما أنه إذا قال: لا ريب فيه [البقرة/ 2] فقد نفى جميع هذا الجنس، فإذا رفع ونوّن فكأن النفي لواحد منه، ألا ترى أن سيبويه يرى: أنه إذا قال:
لا غلام عندك ولا جارية، فهو جواب من سأل فقال: أغلام عندك أم جارية؟ والفتح أولى، لأن النفي قد عم، والمعنى عليه، ألا ترى أنه لم يرخّص في ضرب من الرفث والفسوق كما لم يرخّص في ضرب من الجدال، وقد اتفق الجميع على فتح اللام من الجدال، ليتناول النفي جميع جنسه، فيجب أن يكون ما قبله من الاسمين على لفظه إذ كان في حكمه.
وحجة من رفع: أنه يعلم من الفحوى أنه ليس المنفيّ رفثا واحداً، ولكنه جميع ضروبه، وقد يكون اللفظ واحداً، والمعنى المراد به جميع، قال:
فقتلًا بتقتيل وضرباً بضربكم... جزاء العطاس لا ينام من اتّأر
[الحجة للقراء السبعة: 2/291]
ومن حجته: أن هذا الكلام نفي، والنفي قد يقع فيه الواحد موقع الجميع، وإن لم يبن فيه الاسم مع لا النافية نحو: ما رجل في الدار). [الحجة للقراء السبعة: 2/292]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {فلا رفث ولا فسوق} رفع منون {ولا جدال} نصبا قال أبو عبيد وإنّما افترقت الحروف عندهم لأنهم جعلوا قوله {فلا رفث ولا فسوق} بمعنى النّهي أي لا يكون
[حجة القراءات: 128]
فيه ذاك وتأولوا في قوله {ولا جدال} أنه لا شكّ في الحج ولا اختلاف فيه أنه في ذي الحجّة
وقرأ الباقون جميع ذلك بالنّصب وحجتهم قول ابن عبّاس {ولا جدال في الحج} قال لا تمار صاحبك حتّى تغضبه فلم يذهب بها ابن عبّاس ذلك المذهب ولكنه جعله نهيا كالحرفين الأوّلين وأن حرف النّهي دخل في الثّلاثة وحجّة من فتح أن يقول إنّه أبلغ للمعنى المقصود ألا ترى أنه إذا فتح فقد نفى جميع الرّفث والفسوق كما أنه إذا قال لا ريب فيه فقد نفى جميع هذا الجنس وإذا رفع ونون فكأن النّفي لواحد منه فالفتح أولى لأن النّفي به أعم والمعنى عليه لأنّه لم يرخص في ضرب من الرّفث والفسوق كما لم يرخص في ضرب من الجدال فالفتح جواب قائل هل من رفث هل من فسوق ف من يدخله للعموم ولا أيضا تدخل لنفي العموم وإذا قلت هل من رجل في الدّار فجوابه لا رجل في الدّار
وحجّة من رفع أنه يعلم من الفحوى أنه ليس النّفي وقتا واحدًا ولكنه بجميع ضروبه وقد يكون اللّفظ واحدًا والمراد جميعًا). [حجة القراءات: 129]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (133- قوله: {فلا رفث ولا فسوق} قرأهما ابن كثير وأبو عمرو بالتنوين والرفع، وقرأ الباقون بالفتح من غير تنوين.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/285]
124- ووجه القراءة بالرفع والتنوين أن «لا» بمعنى «ليس» فارتفع الاسم بعدها؛ لأنه اسمها، والخبر محذوف، تقديره: فليس رفث ولا فسوق في الحج، ودل عليه {في الحج} الثاني الظاهر، وهو خبر، {ولا جدال} ويجوز أن ترفع {رفث وفسوق} بالابتداء، و«لا» للنفي، فالخبر محذوف أيضًا، ولا يحسن أن يكون {في الحج} الظاهر خبرًا عن الأسماء الثلاثة، لأن خبر «ليس» منصوب، وخبر «جدال» مرفوع؛ لأن {ولا جدال} اسم واحد في موضع رفع بالابتداء، ولا يعمل عاملان في اسم واحد، ولو رفع {ولا جدال} ونون مثل ما قبله لكان {في الحج} الظاهر خبرًا عن الثلاثة الأسماء؛ لأن الأسماء الثلاثة، كل واحد مع «لا» في موضع رفع بالابتداء والعطف، ومنعه الأخفش لأنه يرى ارتفاع الخبر بعد «لا» الثانية، وبالرفع قرأ مجاهد وابن محيصن.
125- ووجه القراءة بالفتح، من غير تنوين، أنه أتى بـ «لا» للنفي، لتدل على النفي العام، فنفى جميع الرفث وجميع الفسوق كما تقول: لا رجل في الدار، فتنفي جميع الرجال، ولا يكون ذلك إذا رفع ما بعد «لا» لأنها تصير «لا» بمعنى «ليس»، ولا تنفي إلا الواحد، والمقصود في الآية نفي جميع الرفث والفسوق، فكان الفتح أولى به لتضمنه لعموم الرفث كله، والفسوق كله، لأنه لم يرخص في ضرب من الرفث ولا في ضرب من الفسوق، كما لم يرخص في ضرب من الجدال، ولا يدل على هذا المعنى إلا الفتح، لأنه للنفي العام، وإجماع القراء على فتح «ولا جدال» يقوي فتح ما قبله، ليكون الكلام على نظام واحد، في عموم المنفي كله، في الأسماء الثلاثة في موضع رفع، كل واحد مع «لا» وقوله «في الحج» خبر عن جميعها، والفتح وجه القراءة لعمومه، ولإجماع أكثر القراء عليه، ولاتفاق أول الكلام مع آخره، وبه قرأ الأعرج وشيبة والأعمش وأبو رجاء والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/286]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (68- {فَلاَ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ} [آية/ 197]:-
بالرفع والتنوين فيهما، قرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب.
ووجه ذلك أنهما مرفوعان بالابتداء، وقوله {فِي الحَجِّ} خبر عنهما، وقوله {وَلا جِدَالَ} وإن كان مفتوحًا، فإن {لا} مع {جدال} في موضع رفع أيضًا بالابتداء، فقد وافقهما في كونه مرتفعًا بالابتداء، فجاز أن يكون {فِي الحَجِّ} خبرًا عن الكل.
وقرأ الباقون {فلا رَفَثَ وَلا فُسُوق} بالفتح بغير تنوين.
ووجهه أن ذلك نفي جميع الرفث والفسوق؛ لأن النفي عام، فهو ينفي الجنس، وهذا أولى، لعموم النفي لأنواع الرفث والفسوق.
وأما {جدال} فإنه مفتوح بلا تنوين على الاتفاق، وذكر بعض أهل المعاني أنه إنما لم يأت فيه إلا الفتح؛ لأن معناه: لا شك في الحج ولا اختلاف أنه في ذي الحجة، فهو إخبار، ولا يقع خلاف ذلك، فالنفي عام لا محالة، أما الرفث والفسوق فإن نفيهما هنا نفي إخبارٍ يراد به النهي، فقد يقع عند المعصية خلافه، فلهذا وقع النفي فيهما عامًا وغير عام). [الموضح: 320]
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)}
قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة سعيد بن جبير: [ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسِي] يعني: آدم -عليه السلام- لقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}.
قال أبو الفتح: في هذه القراءة دلالة على فساد قول مَن قال: إن لام التعريف إنما تدخل الأعلام للمدح والتعظيم، وذلك تحو: العباس، والمظفر، وما جرى مجراهما. ووجه الدلالة من ذلك: أن قوله [الناسي] إنما يُعنى به آدم -عليه السلام- فصارت صفة غالبة كالنابغة والصَّعِق، وكذلك الحارث والعباس والحسن والحسين، هي وإن كانت أعلامًا فإنها تجري مجرى الصفات؛ ولذلك قال الخليل: إنهم جعلوه الشيء بعينه؛ أي: الذي حرَث وعَبَسَ، فمحمول هذا أن في هذه الأسماء الأعلام التي أصلها الصفات معاني الأفعال؛ ولذلك لحقتها لام المعرفة كما تعرف الصفات، وإذا كان فيها معاني الأفعال، وكانت الأفعال كما تكون مدحًا فكذلك ما تكون ذمًّا، فهي تحقق في العلم معنى الصفة، مدحًا كانت الصفة أو ذمًّا.
فالمدح ما ذكرناه من نحو: الحارث والمظفر والحسين والحسن، والذم ما جاء في نحو قولهم: فلان بن الصَّعِق؛ لأن ذلك داء ناله، فهي بلوى، وأن يكون ذمًّا أولى من أن يكون مدحًا، ألا ترى أن المدح ليس من مَقَاوم ذكر الأمراض والبلاوي، وإنما يقال فيه: إنه كالأسد، وإنه كالسيف؟ ومنه عمرو بن الحمِق، فهذا ذم له لا مدح، وعلى أنهم قد قالوا في الحمق: إنه الصغير اللحية، والمعنى الآخر أشيع فيه، ألا ترى إلى قوله:
فأما كيس فنجا ولكن ... عسى يغتر بي حَمِق لئيم؟
ومنه قولهم: فلان بن الثعلب، فدخلته اللام، هو علم لما فيه من معنى الخِبِّ والْخُبث،
[المحتسب: 1/119]
وذلك عيب فيه لا ثناء عليه، والباب فيه فاشٍ واسع؛ فقد صح إذن أن ما جاء من الأعلام وفيه لام التعريف فإنما ذلك لما فيه من معنى الفعل والوصفية، ثناء عليه كان ذلك أو ذمًّا له، وإنما دعا الكُتَّاب ونحوهم إلى أن قالوا: إن دخول اللام هنا إنما هو لمعنى المدح أن كان أكثره كذلك؛ لأنه إنما العرف فيه أن يسمى من الأسماء الحاملة لمعاني الأفعال مما كان فيه معنى المدح، لا أن هذا مقصور على المدح دون الذم عندنا لما ذكرنا). [المحتسب: 1/120]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107342#post107342)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:02 PM
سورة البقرة
[من الآية (200) إلى الآية (203) ]
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}
قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)}
قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)}
قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}
قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما روى ابن مجاهد عن الزِّمْل بن جَرْوَل قال: سألت سالم بن عبد الله بن عمر عن النَّفْر فقرأ: [فمن تعجل في يومين فَلَثْمَ عليه، ومن تأخر فَلَثْمَ عليه].
قال أبو الفتح: أصله قراءة الجماعة: {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} إلا أنه حذف الهمزة ألبتة، فالتقت ألف "لا" وثاء "الاثم" ساكنين، فحذف الألف من اللفظ لالتقاء الساكنين، فصارت [فَلَثْمَ عليه].
وقد مر بنا من حذف الهمزة اعتباطًا وتعجرفًا من نحو هذا أشياء كثيرة؛ من ذلك قراءة ابن كثير: [إنها لَحْدَى الكُبَر]،
فهذا في الحذف كقوله: [فَلَثْمَ عليه]، إلا أن بينهما من حيث أذكر فرقًا؛ وذلك أن قوله: [لَحْدَى الكُبَر] إنما فيه حذف الهمزة لا غير، وقوله: [فَلَثْمَ عليه] أصله "فلا إثم"، فلما حذف الهمزة تخفيفًا -وإن لم يكن قياسًا- التقت الألف مع ثاء إثم وهي ساكنة، فحذفت الألف من "لا" لالتقاء الساكنين؛ فصار [فَلَثْمَ عليه].
ومثل ذلك سواء مذهب الخليل في "لن"، ألا ترى أن أصلها عنده "لا أن"، فلما حذفت الهمزة التقت ألف "لا" مع نون "أن" فحذفت الالف من "لا" لالتقاء الساكنين، وقد جاء نظيرًا لهذا من حذف الهمزة شيء صالح الكثرة؛ منه قوله:
إن لم أُقاتل فالبسوني برقعا
أراد: فألبسوني، ثم حذف الهمزة.
وأنشد أبو الحسن:
تَضِبُّ لِثَاتُ الخيل في حَجَراتها ... وتسمع من تحت العجاج لَهَزْمَلا
[المحتسب: 1/120]
أراد: لها أزملا، فحذف الهمزة. نعم، ثم حذف ألف "ها" لفظًا لسكونها وسكون الزاي من بعدها وعليه القراءة: [أريتَكَ هذا الذي كرَّمتَ عليَّ] يريد: أرأيتك.
وأنشد أحمد بن يحيى:
أريتك إن شطَّت بك العام نية ... وغالك مُصطَافُ الحِمى ومرابعه
وجاء عنهم: سا يسو، وجا يجي، بحذف الهمزة فيهما، وقد أثبتنا من هذا حروفًا جماعة في كتابنا الخصائص، وعلى كل حال فحذف الهمزة هكذا اعتباطًا ساذجًا ضعيف في القياس، وإن فشا في بعضه الاستعمال). [المحتسب: 1/121]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107343#post107343)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:05 PM
سورة البقرة
[من الآية (204) إلى الآية (207) ]
{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)}
قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه هارون عن الحسن وابن أبي إسحاق وابن محيصن: [وَيَهْلَكُ] بفتح الياء واللام ورفع الكاف [الحرثُ والنسلُ] رفع فيهما.
قال ابن مجاهد: وهو غلط.
قال أبو الفتح: لعمري إن ذلك تَرْك لما عليه اللغة، ولكن قد جاء له نظير؛ أعني قولنا: هلَك يهلَك، فعَل يفعَل، وهو ما حكاه صاحب الكتاب من قولنا: أَبى يأبَى، وحكى غيره: قنَط يقنَط، وسلَا يسلَى، وجبا الماء يجبَاه، وركَن يركَن، وقلا يقلَى، وغسا الليل يغسَى. وكان أبو بكر يذهب في هذا إلى أنها لغات تداخلت؛ وذلك أنه قد يقال: قنَط وقنِط، وركَن وركِن، وسلَا وسلِي، فتداخلت مضارعاتها، وأيضًا فإن في آخرها ألفًا، وهي ألف سلا وقلا وغسا وأبي؛ فضارعت الهمزة نحو: قرأ وهدأ.
وبعد، فإذا كان الحسن وابن أبي إسحاق إمامين في الثقة وفي اللغة؛ فلا وجه لدفع ما قرآ به، لا سيما وله نظير في السماع.
وقد يجوز أن يكون يهلَك جاء على هلِك بمنزلة عطِب، غير أنه استغنى عن ماضيه بهلَك، وقد ذكرنا نحو هذا في كتبانا المنصف). [المحتسب: 1/121]
قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)}
قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعز: (مرضات اللّه... (207)
وقف حمزة على (مرضات) بالتاء.
ووقف الباقون على "مرضاة" بالهاء.
وأمال الضّاد الكسائي، وفتحها حمزة، وفخمها الباقون.
قال أبو منصور: أجاز أهل العربية الوقوف على مرضاة وأشباهها من الهاءات التي ليست بأصلية بالتاء. وكذلك: (هيهات) و(يا أبت)
[معاني القراءات وعللها: 1/198]
وإن وقف عليها بالهاء فهو جائز، والتفخيم في مرضات أحسن من الإمالة). [معاني القراءات وعللها: 1/199]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في إمالة الألف وتفخيمها من قوله تعالى: مرضات اللّه [البقرة/ 207].
فقرأ الكسائي وحده: ابتغاء مرضات اللّه ممالة.
وقرأ الباقون: مرضات اللّه بغير إمالة.
وكان حمزة يقف في مرضات بالتاء، والباقون يقفون بالهاء.
قال أبو علي: حجة الكسائي في إمالته الألف من مرضاة الله، أن الواو إذا وقعت رابعة كانت كالياء في انقلابها
[الحجة للقراء السبعة: 2/299]
ياء، تقول: مغزيان، كما تقول: مرميان، فأمال ليدلّ على أن الياء تنقلب عن الألف في التثنية، ولم يمنعها المستعلي من الإمالة، كما لم يمنع المستعلي من إمالة نحو: صار وخاف وطاب.
وحكي عن ابن أبي إسحاق أنه سمع كثير عزّة يقول:
صار مكان كذا، فلم يمنعه المستعلي من الإمالة لطلب الكسرة في صرت من أن يميل صار، فكذلك الألف في مرضاة الله.
وغير الإمالة أحسن كما قرأ الأكثر.
فأما وقف حمزة على التاء من مرضات فإنه يحتمل أمرين:
أحدهما: على قول من قال: طلحت، حكاه سيبويه عن أبي الخطاب. وأنشد أبو الحسن:
ما بال عين عن كراها قد جفت مسبلة تستنّ لمّا عرفت داراً لسلمى بعد حول قد عفت بل جوز تيهاء كظهر الجحفت
[الحجة للقراء السبعة: 2/300]
ويجوز أن يكون لمّا كان المضاف إليه في التقدير، أثبت التاء كما يثبته في الوصل، ليعلم أن المضاف إليه مرادٌ، كما أشمّ من أشمّ الحرف المضموم، ليعلم أنه في الوصل مضمومٌ، وكما شدّد من شدّد فرجّ، ليعلم أنه في الوصل متحرك، وكما حرّك من قال:
..... إذ جد النّقر بالضم ليعلم أنه في الوصل مضموم، وكما كسر من كسر قوله:
..... واصطفافاً بالرجل ليعلم أنّه في الوصل مجرور. ويدلّ على قوله شيء آخر، وهو قول الراجز:
إنّ عديّا ركبت إلى عدي وجعلت أموالها في الحطمي ارهن بنيك عنهم أرهن بني
[الحجة للقراء السبعة: 2/301]
فقوله: (بني) أراد: بنيّ، فحذف ياء الإضافة للوقف، كما يحذف المثقّل من نحو سرّ وضرّ. فلولا أن المضاف إليه المحذوف في نيّة المثبت، لردّ النون في بنين. فكما لم يردّ النون في بنين، كذلك لم يقف بالهاء في مرضات لأن المضاف في تقدير الثبات في اللفظ، ولولا أنه كذلك عندهم، لم يجز دخول بني في هذه القافية، ألا ترى أن النون لو ثبتت في الاسم المجموع، لحذف المضاف إليه من اللفظ؛ لخرج من هذه القافية، ولم يجز ضمّ البيت إليها؟ فكذلك حكم التاء من مرضات في الوقف عليها.
فإن قال قائل في وقفه على التاء من مرضات: ما تنكر أن يكون هذا خلاف قول سيبويه، لأنه قد قال: لو سمّيت بخمسة عشر فرخّمته، لقلت: يا خمسه، فوقفت بالهاء.
ولو كان على قياس وقف حمزة في مرضات، لقلت: يا خمست ألا ترى أن الاسم الثاني المحذوف للترخيم مرادٌ كما كان المضاف إليه مراداً؟
قيل له: لا يدلّ ما قاله سيبويه في خمسة في الترخيم، على أن وقف حمزة في المضاف بالتاء خلاف ما ذهب إليه سيبويه، لأن الترخيم بناءٌ آخر، وصيغة أخرى. وليس حذف المضاف إليه من المضاف كذلك. ألا ترى أنه يراد ضمّه إلى المضاف إذا ذكر أو حذف، والترخيم ليس كذلك، لأنه على ضربين: أحدهما: أنه يقدر فيه المحذوف. والآخر: أنه يكون ارتجال اسم على حدةٍ. فالمقدّر فيه إثبات ما حذف منه يجري
[الحجة للقراء السبعة: 2/302]
مجرى ما هو اسم على حياله، كما جرى حرف اللين في قولهم في الإنكار إذا قلت: «ضربت زيداً»: أزيدنيه! فأثبتّ التنوين قبل حرف اللين، ولم تحذفه كما حذفت من الندبة في قول من قال: وا زيداه، لأن أزيدنيه في الإنكار يجري مجرى: أزيداً إنيه، فكما يثبت مع إن، يثبت بغير إن، ولم يحذف كما حذف من الندبة. فكذلك الترخيم يجري مجرى ما أريد فيه الحرف المحذوف للترخيم مجرى ما ارتجل؛ لأن النداء موضعٌ ترتجل فيه الأسماء. ألا ترى أن فيه ما لا يستعمل في غيره، نحو: يا نومان، ويا هناه، ويا فل؟ فلما كان فيه هذا الضرب، كان الضرب المرتجل أغلب من الآخر، فلذلك لم يكن المحذوف من الترخيم كالمضاف من المضاف إليه. ويقوي ذلك ما جاء في الشعر من نحو قوله:
خذوا حظّكم يا آل عكرم..
وقوله:
إنّ ابن حارث إن أشتق لرؤيته
[الحجة للقراء السبعة: 2/303]
وكما أجري هذا مجرى: «يا حار» كذلك في الوقف عليه). [الحجة للقراء السبعة: 2/304]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ومن النّاس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد}
قرأ الكسائي (مرضاة الله) بالإمالة وقرأ الباقون بغير إمالة وحجتهم أن الكلمة من ذوات الواو أصلها مرضوة فقلبت الواو ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها يدلك على ذلك {رضوان الله}
[حجة القراءات: 129]
أنّها من ذوات الواو
وحجّة الكسائي أن العرب إذا زادت على الثّلاثة من ذوات الواو حرفا أمالته وكتبته بالياء من ذلك قوله أدنى ويدعى حمزة إذا وقف على {مرضات الله} وقف عليها بالتّاء وهي لغة للعرب يقولون هذا طلحت بالتّاء
والباقون إذا وقفوا عليها وقفوا (مرضاه) بالهاء وحجتهم أنهم أرادوا الفرق بين التّاء المتّصلة بالاسم والتّاء المتّصلة بالفعل فالمتصلة بالاسم نعمة والمتصلة بالفعل قامت وذهبت). [حجة القراءات: 130]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (127- قوله: {مرضات} أمالها الكسائي وحده، وفتح الباقون، ووقف عليها حمزة بالتاء، ووقف الباقون بالهاء، وفي ذلك اختلاف، وقد ذكرنا علة الإمالة فيها، وأن الألف وقعت رابعة، فلم يمنعها من الإمالة كونها من الواو؛ لأن ذوات الواو إذا صرن إلى الرباعي حسن فيهن الإمالة نحو: «أزكى، وادعى» ولم تمنعها الضاد من الإمالة كما لم تمنع الإمالة في «خاف، وضاق، وطاب» مع حرف الاستعلاء، فأما من فتح فعلى الأصل قرأ، مع قوة حرف الاستعلاء، في المنع من الإمالة في غير هذا، مع أن الجماعة عليه، فأما من وقف بالتاء فإنه أتى به على لغة من قال في الوقف: طلحت، بالتاء، وحكاه سيبويه، وحسن ذلك لما كان الاسم مضافًا، والمضاف والمضاف إليه كاسم واحد، فكأن التاء متوسطة فوقف بالتاء، كما يفعل في الوصل، ليُعلم أن التاء متوسطة، وأن المضاف إليه متوسط بالمضاف، فأما من وقف بالهاء فإنه أتى به على الأصل، في كل هاء تأنيث، ولأنه إذا وقف بالتاء، على هاء التأنيث، لم يكن فرق بين التاء الأصلية التي لا تدل على تأنيث، ولا يوقف عليها إلا بالتاء، نحو تاء: صوت، وحوت، وبين التاء الزائدة التي للتأنيث، والمصاحف الأمهات قد اختلفت في هذا ونظائره، فمنها ما كتبت فيه بالتاء، ومنها ما كتبت فيه بالهاء، فما كتبت بالتاء فعلى لفظ الوصل، ونية الوصل، وما كتبت بالهاء فعلى نية الوقف). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/288]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (70- {ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ الله} [آية/ 207]:
بالإمالة، قرأها الكسائي وحده، وكذلك {مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ}، وكان نافع يضجعها قليلاً.
وإنما أمالها الكسائي؛ لأن هذه الألف تنقلب ياء في التثنية في نحو: مغزيان ومعديان، والألف من الواو إذا وقعت رابعة كالألف من الياء في انقلابها ياءً، وإضجاع نافع إشارة إلى حسن الإمالة فيهما.
وحمزة يقف على {مَرْضَاة} بالتاء.
والباقون يقفون عليها بالهاء.
ووقف حمزة بالتاء يجوز أن يكون على قول من وقف على طلحت وحمزة بالتاء، إجراءً للوقف مجرى الوصل قال:
14- دار لسلمى بعد حولٍ قد عفت = بل جوز تيهاء كظهر الجحفت
ويجوز أن يكون على تقدير الإضافة كأنه نوى تقدير المضاف إليه، فأراد أن يعلم أن الكلمة مضافة وأن المضاف إليه مراد كإشمام من أشم الحرف
[الموضح: 322]
المضموم في الوقف ليعلم أن الضمة مرادة). [الموضح: 323]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107344#post107344)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:06 PM
سورة البقرة
[من الآية (208) إلى الآية (210)]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ادخلوا في السّلم كافّةً... (208)
(وإن جنحوا للسّلم)، (وتدعوا إلى السّلم).
قرأ ابن كثير ونافع والكسائي: (ادخلوا في السّلم) فتحوا السين في ثلاثهن.
وقرأ أبو عمرو، وابن عامرٍ وعاصم في رواية حفص، ويعقوب: (ادخلوا في السّلم) بكسر السين، (وإن جنحوا للسّلم)، (وتدعوا إلى السّلم) بفتح السين.
وقرأ أبو بكر عن عاصم ثلاثهن بالكسر، وقرأ حمزة: (ادخلوا في السّلم) (وتدعوا إلى السّلم) بالكسر فيهما، وفتح قوله: (وإن جنحوا للسّلم).
[معاني القراءات وعللها: 1/197]
قال أبو منصور: وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: كان أبو عمرو يكسر التي في البقرة، ويذهب بمعناها إلى الإسلام، ويفتح اللتين في الأنفال وسور محمد، ويتأول فيهما المسالمة.
قال أبو العباس: والقراءة التي اجتمع عليها أهل الحرمين بالفتح في كله، لأنها أعرب اللغتين وأعلاهما.
وأخبرني المنذري عن الحراني عن ابن السكيت إنه قال: السّلم: الصّلح.
ويقال: سلم. وأخبرني ابن فهم عن محمد بن سلام عن يونس قال: السّلم: الإسلام، وأما الصّلح فيجوز فيه سلم وسلم). [معاني القراءات وعللها: 1/198]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في فتح السين وكسرها من قوله جل وعز: السّلم.
فقرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي: ادخلوا في السّلم كافّةً [البقرة/ 208] وإن جنحوا للسّلم [الأنفال/ 61] وتدعوا إلى السّلم [محمد/ 35] بفتح السين منهن.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، بكسر السين فيهن.
وقرأ حمزة: بكسر السين في سورة البقرة وحدها، وفي سورة محمد عليه السلام وفتح السين في سورة الأنفال.
وقرأ أبو عمرو، وابن عامر: بكسر السين في سورة البقرة، وفتحا السين في سورة الأنفال، وفي سورة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وروى حفص عن عاصم في الثلاثة مثل أبي عمرو.
قال أبو علي: قول ابن كثير ونافع والكسائي:
[الحجة للقراء السبعة: 2/292]
ادخلوا في السّلم [البقرة/ 208] يحتمل أمرين: يجوز أن يكون لغة في السّلم الذي يعنى به الإسلام.
قال أبو عبيدة وأبو الحسن: السّلم: الإسلام، وإنما يكون السلم مصدراً في معنى الإسلام إذا كسرت الحرف الأول منه، فهو كالعطاء من أعطيت، والنبات من أنبت. ويجوز أن يريدوا بفتحهم الأول من قوله: ادخلوا في السّلم: الصلح، وهو يريد الإسلام، لأن الإسلام صلح، ألا ترى أن القتال والحرب بين أهله موضوع، وأنهم أهل اعتقاد واحد، ويد واحدة في نصرة بعضهم لبعض، فإذا كان ذلك موضوعاً بينهم، وفي دينهم، وغلّظ على المسلمين في المسايفة بينهم؛ كان صلحاً في المعنى، فكأنه قيل: ادخلوا في الصلح، والمراد به الإسلام، فسماه صلحاً لما ذكرناه، فهذا المسلك فيه أوجه من أن يكون الفتح في السّلم لغة في السّلم الذي يراد به الإسلام، لأن أبا عبيدة وأبا الحسن لم يحكيا هذه اللغة، ولم أعلمها أيضاً عن غيرهما، فإن ثبتت به رواية عن ثقة فذاك.
وأما قراءة عاصم في رواية أبي بكر بكسر السين فيهن كلّهنّ، فالقول في ذلك أن المراد بكسر السين في قوله:
ادخلوا في السّلم: الإسلام. كما فسره أبو عبيدة وأبو الحسن، والمعنى عليه، ألا ترى أن المراد إنما هو تحضيضهم على الإسلام، والدعاء إليه، والدخول فيه، وليس المراد: ادخلوا في الصلح، وليس ثمّ صلح يدعون إلى الدخول فيه، إلّا أن يتأوّل أنّ الإسلام صلح على نحو ما تقدم ذكره، وأما كسره
[الحجة للقراء السبعة: 2/293]
السين في قوله تعالى: وإن جنحوا للسّلم [الأنفال/ 61] فلأن السّلم: الصلح. وفيه ثلاث لغات فيما رواه التّوزيّ عن أبي عبيدة في قوله: وإن جنحوا للسّلم فقال: السّلم والسّلم والسّلم واحد، وأنشد:
أنائل إنني سلم... لأهلك فاقبلي سلمي
والسّلم الذي هو الصلح يذكّر ويؤنّث.
وقوله: فاجنح لها وقد حكي عن أبي زيد أنه سمع من العرب من يقول: فاجنح له، فذكّره. قال أبو الحسن: وهو مما لا يجيء منه فعل، فقال: ولكنك تقول: سالم مسالمة.
وعلى ما ذكره أبو الحسن جاء قول الشاعر:
تبين صلاة الحرب منّا ومنهم... إذا ما التقينا والمسالم بادن
لأنه عادل المسالم بصالي الحرب، وأخذ عاصم بلغة من يكسر الأولى من السّلم في الصلح. وأما كسر عاصم السين في قوله: فلا تهنوا وتدعوا إلى السّلم [محمد/ 35] فإن
[الحجة للقراء السبعة: 2/294]
المراد هنا بالسّلم: الصّلح. فكسر الأول منه، كما كسر في قوله: وإن جنحوا للسّلم والصلح الذي أمر به، ولم ينه عنه في قوله جل وعز: فلا تهنوا وتدعوا إلى السّلم وأنتم الأعلون [محمد/ 35] أي: لا تدعوا إلى الصّلح، مع علوّ أيديكم وظهور كلمتكم إلى الصلح والموادعة. وهذا إنما هو على حسب المصلحة في الأوقات.
وأما قراءة حمزة بكسر السين في سورة البقرة [وفي سورة [محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ] فإن السّلم في سورة البقرة يراد به الإسلام، كما تقدم وفي سورة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: وتدعوا إلى السّلم فإن السلم: الصلح. وكذلك في الأنفال المراد به الصلح في قوله: وإن جنحوا للسّلم. وفي السّلم إذا أريد به الصلح لغتان: الفتح والكسر، فأخذ حمزة باللغتين جميعاً، فكسر في موضع وفتح في آخر.
وأما قراءة أبي عمرو وابن عامر السّلم بكسر السين في سورة البقرة، فالسلم يعنى به: الإسلام. وأما فتحهما السين في سورة الأنفال وسورة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإن السّلم فيهما يراد به الصلح. وفيه الكسر والفتح، فأخذا بالفتح في الموضعين جميعاً، ولم يفصلا كما فصل حمزة، وأخذ باللغتين. وكذلك القول في رواية حفص عن عاصم، وكل حسن.
[الحجة للقراء السبعة: 2/295]
وأما قوله:/ ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم [النساء/ 94] وقوله: وألقوا إلى اللّه يومئذٍ السّلم [النحل/ 87] فألقوا السّلم ما كنّا نعمل من سوءٍ [النحل/ 28] فليس الإلقاء هاهنا كالإلقاء في قوله تعالى:
إذ يلقون أقلامهم أيّهم يكفل مريم [آل عمران/ 44] وقوله سبحانه: وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم [النحل/ 15] ألا ترى أن الإلقاء هنا رمي وقذف؟ وهذا إنما يكون في الأعيان، وليس في قوله: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم [النساء/ 94] والآي الأخر عين تلقى، ولكن تلك الآي: بمنزلة قوله عز وجل: ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة [البقرة/ 195].
والمعنى: لا تقولوا لمن استسلم إليكم، وانقاد وكفّ عن قتالكم: لست مؤمناً. وكذلك المعنى في قوله تعالى: وألقوا إلى اللّه يومئذٍ السّلم [النحل/ 87] كأنهم استسلموا لأمره ولما يريده منهم من عذابه وعقابه، لا مانع لهم منه ولا ناصر.
وكذلك قوله تعالى: ورجلًا سلماً لرجلٍ [الزمر/ 29] أي: يستسلم له ويستخذي، فينقاد لما يريده منه ولا يمتنع عليه، وقد قرئ سالما لرجل وسالم: فاعل. وهو في هذا الموضع حسن لقوله: فيه شركاء متشاكسون [الزمر/ 29] أي: في أصحابه وخلطائه شركاء متشاكسون، يخالف بعضهم بعضاً، فلا ينقاد أحد منهم لصاحبه، فمسالم
[الحجة للقراء السبعة: 2/296]
خلاف متشاكسون.
ومن قرأ سلماً لرجلٍ احتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون فعل بمنزلة فاعل مثل: بطل وحسن، ونظير ذلك: يابس ويبس، وواسط ووسط.
ويجوز أن يكون وصفاً بالمصدر، لأن السّلم مصدر، ألا ترى أن أبا عبيدة قال: السّلم والسّلم والسّلم واحد، فيكون ذلك كقولهم: الخلق، إذا أردت به المخلوق، والصيد، إذا أردت به المصيد، ومعنى: هل يستويان مثلًا [الزمر/ 29] أي: ذوي مثل.
وأما قوله تعالى: إذ دخلوا عليه فقالوا سلاماً قال سلامٌ [الذاريات/ 25] فقال أبو الحسن: هذا فيما يزعم المفسرون: قالوا: خيراً، قال: فكأنه سمع منهم التوحيد. وإذا سمع منهم التوحيد فقد قالوا خيراً، فلما عرف أنهم موحّدون، قال: سلام عليكم، فسلّم عليهم، فسلام على هذا: رفع بالابتداء، وخبره مضمر.
وأما قوله تعالى: فاصفح عنهم وقل سلامٌ [الزخرف/ 89] فيحتمل أمرين: يجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، كقوله: قال: سلامٌ، وهو يريد: قال: سلام عليكم.
والآخر: أن يكون خبر مبتدأ، كأنه أراد: أمري سلام، أي:
أمري براءة، وأضمر المبتدأ في هذا الوجه، كما أضمر الخبر
[الحجة للقراء السبعة: 2/297]
في الوجه الأول: ويكون المعنى: أمري سلام أي: أمري براءة، قال: لأن السلام يكون في الكلام البراءة، قال: تقول:
إنما فلان سلام، أي: لا يخالط أحداً، وأنشد لأمية:
سلامك ربّنا في كلّ فجر... بريئاً ما تغنّثك الذّموم
قال: يقول: براءتك. وأخبرنا أبو إسحاق قال: سمعت محمد بن يزيد يقول: السلام في اللغة أربعة أشياء: السلام مصدر سلّمت والسلام جمع سلامة، والسّلام: اسم من أسماء الله عز وجل، والسلام: شجر، ومنه قول الأخطل:
....... إلّا سلام وحرمل ويكون منه ضرب خامس، وهو ما ذكره أبو الحسن من أن السلام يكون في الكلام البراءة، واستشهاده على ذلك ببيت أمية، وقولهم: إنما فلان سلام. وأما قولهم: في أسماء الله جل وعز (السلام) فهو مصدر وصف به، كما أن العدل والحق في نحو قوله: أنّ اللّه هو الحقّ [النور/ 25].
والمعنى على ضربين: أحدهما: أنه يسلم من عذابه من
[الحجة للقراء السبعة: 2/298]
لا يستحقه. والآخر: أن يكون الذي معناه التنزيه، كأنه المتنزّه من الظلم والاعتداء.
فأما قوله سبحانه: لهم دار السّلام عند ربّهم [الأنعام/ 127] فيحتمل ضربين: يكون السلام [اسم الله تعالى]، والإضافة المراد بها: الرفع من المضاف، كقولهم لمكة: بيت الله، والخليفة: عبد الله. ويجوز أن يكون السلام في قوله: دار السّلام جمع سلامة، أي: الدار التي من حلّها لم يقاس عذاباً لعقاب، كما جاء في خلافها: في سمومٍ وحميمٍ
وظلٍّ من يحمومٍ [الواقعة/ 43] ونحو قوله: ويأتيه الموت من كلّ مكانٍ وما هو بميّتٍ [إبراهيم/ 17]). [الحجة للقراء السبعة: 2/299]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({يا أيها الّذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّة}
قرأ نافع وابن كثير والكسائيّ {ادخلوا في السّلم} أي في المسالمة والمصالحة
وقرأ الباقون {في السّلم} بالكسر أي في الإسلام وقال قوم هما لغتان قال الشّاعر
أنائل إنّني سلم ... لأهلك فاقبلي سلمي). [حجة القراءات: 130]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (126- قوله: {في السلم} قرأه الحرميان والكسائي بفتح السين، وهي لغة في «السلم» الذي هو الإسلام، قال أبو عبيدة والأخفش: «السلم» بالكسر الإسلام، ويجوز أن يكون «السلم» بالفتح اسمًا بمعنى المصدر، الذي هو الإسلام كالعطاء والنباب، بمعنى: الإعطاء والإنبات، ويجوز أن يكون الفتح في «السلم» بمعنى الصلح، وهو يريد الإسلام، لأن من دخل في الإسلام فقد دخل في الصلح، فالمعنى: ادخلوا في الصلح الذي هو الإسلام، وقرأ الباقون بكسر السين، فأما من كسر السين فهو واقع على الإسلام، ولم يحضوا على الدخول في الصلح، وبقياهم على كفرهم، وكلا القراءتين حسن، وبالكسر قرأ الحسن ومجاهد وعكرمة وقتادة وابن أبي إسحاق وابن وثاب وعيسى والأعمش والجحدري، وبالفتح قرأ الأعرج وشيبة وشبل، وروي عبد الرحمن بن أبزي أن النبي عليه السلام قرأ: «السلم» في البقرة والأنفال و«الذين كفروا» بالفتح في الثلاثة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/287]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (69- {ادخلوا في السلم} [آية/ 208]:-
بفتح السين، قرأها ابن كثير ونافع والكسائي، وكذلك في الأنفال {وَإِنْ
[الموضح: 320]
جَنَحُوا للسَّلْمِ}، وفي سورة القتال {وَتَدْعُوا إلى السَّلْمِ}.
وأما {السّلْم} التي في البقرة، فهو بمعنى الإسلام، والإسلام قد يُسمى سلمًا بالكسر، وقد يروى فيه الفتح، كما روي في السلم الذي هو الصلح الفتح والكسر، إلا أن الفتح في السلم الذي هو الإسلام قليل، وجوز أبو علي أن يكون السلم ههنا هو الذي بمعنى الصلح؛ لأن الإسلام صلح على الحقيقة، ألا ترى أنه لا قتال بين أهله، وأنهم يد واحدة على من سواهم.
أما في الأنفال وسورة القتال فإن السلم هو الصلح، وقد جاء فيه الفتح والكسر على ما قدمنا.
وقرأ عاصم –ياش- بالكسر في الثلاثة الأحرف، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وعاصم –ص- ويعقوب بالكسر في البقرة، والفتح في الأنفال والقتال، وقرأ حمزة بالكسر في البقرة (والقتال) والفتح في الأنفال والقتال، وقرأ حمزة بالكسر في البقرة (والقتال) والفتح في (الأنفال).
قد قدمنا أن السلم بكسر السين في معنى الإسلام شائع، وأن الفتح فيه غريب، وقد جاء في السلم بمعنى الصلح الكسر والفتح معًا، إلا أن الكسر فيه أيضًا أكثر وأشهر، وإن كان الفتح أيضًا كثيرًا). [الموضح: 321]
قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي السمال: [فإن زَلِلْتُمْ] بكسر اللام.
قال أبو الفتح: هما لغتان: زلَلْت وزلِلْت، بمنزلة ضلَلْت وضلِلْت، إلا أن الفتح فيهما أعلى اللغتين، واسم الفاعل منهما ضال، ولو جاء ضليل لكان قياسًا على ما جاء عنهم من فعيل في فَعَل من المضاعف، نحو: خَفَّ فهو خفيف، وعز فهو عزيز، وقل فهو قليل، وجد فهو جديد، وذلك أنه قد جاء فعيل في فعل من غير المضاعف، وذلك كسد البيع فهو كسيد، وفسد فهو فسيد، فلما جاء ذلك في غير المضاعف كان المضاعف أولى به؛ لثقل الإدغام في ضال وفار، وقد ذكرنا ذلك مشروحًا في غير هذا الموضع من كلامنا). [المحتسب: 1/122]
قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وإلى اللّه ترجع الأمور (210).
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب: (ترجع) بفتح التاء في كل القرآن.
وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الجيم (ترجع).
قال أبو منصور: من قرأ (ترجع الأمور) فالفعل للأمور، ويكون (ترجع) لازمًا.
ومن قرأ (ترجع الأمور) فهو على ما لم يسم فاعله، وجعله متعديا.
والعرب تقول: رجعته فرجع، لفظ اللازم والمتعدي سواء: كقولك: نقصته فنقص، وهبطه فهبط). [معاني القراءات وعللها: 1/199]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في فتح التاء وضمها من قوله جل وعز: ترجع الأمور [البقرة/ 210] ويرجع الأمر [هود/ 123].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرٍو ونافعٌ وعاصمٌ: وإلى اللّه ترجع الأمور بضم التاء.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: ترجع الأمور بفتح التاء.
وكلّهم قرأ: وإليه يرجع الأمر كلّه بفتح الياء، غير نافعٍ وحفص عن عاصم فإنّهما قرآ: يرجع الأمر برفع الياء.
وروى خارجة عن نافع أنّه قرأ: وإلى الله يرجع الأمور بالياء مضمومة في سورة البقرة. ولم يروه غيره.
قال أبو علي: حجة من بنى الفعل للمفعول به قوله تعالى: ثمّ ردّوا إلى اللّه مولاهم الحقّ [الأنعام/ 62].
وقال: ولئن رددت إلى ربّي [الكهف/ 36] والمعنى في بناء
[الحجة للقراء السبعة: 2/304]
الفعل للمفعول كالمعنى في بناء الفعل للفاعل.
وحجة من بنى الفعل للفاعل قوله عز وجل: ألا إلى اللّه تصير الأمور [الشورى/ 53] وقوله جلّ وعز: إنّ إلينا إيابهم [الغاشية/ 25] وقوله: إليّ مرجعكم. ألا ترى أنّ المصدر مضافٌ إلى الفاعل، والمعنى: إلينا رجوع أمرهم في الجزاء على الخير والشر، وقوله: وإنّا إليه راجعون [البقرة/ 156]، وقوله: كما بدأكم تعودون [الأعراف/ 29] وقال: ويوم يرجعون إليه [النور/ 64] وإليه يرجع الأمر كلّه [هود/ 123].
وأما يرجع وترجع بالياء والتاء فجميعاً حسنان، فالياء لأن الفعل متقدم، فذكّر كما قال: وقال نسوةٌ في المدينة [يوسف/ 30]، فالتأنيث تأنيث من أجل الجمع، وتأنيث الجمع ليس بتأنيث حقيقي، ألا ترى أن الجمع بمنزلة الجماعة. والتاء في ترجع لأن الكلمة تؤنث في نحو: هي الأمور، و: قالت الأعراب [الحجرات/ 14]). [الحجة للقراء السبعة: 2/305]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رُوي عن قتادة في قول الله سبحانه: [فِي ظِلَالٍ مِنَ الْغَمَامِ].
قال ابن مجاهد: هو جمع ظِل.
قال أبو الفتح: الوجه أن يكون جمع ظُلة، كجُلة وجِلال، وقُلة وقِلال؛ وذلك أن الظل ليس بالغيم، وإنما الظُّلة الغيم، فأما الظل فهو عدم الشمس في أول النهار، وهو عرَض والغيم جسم). [المحتسب: 1/122]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإلى الله ترجع الأمور}
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ {وإلى الله ترجع الأمور} بفتح التّاء في جميع القرآن وحجتهم قوله {ألا إلى الله تصير الأمور}
[حجة القراءات: 130]
ولم يقل تصار فلمّا أسند الفعل إليها بإجماع ردوا ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه
وقرأ الباقون {ترجع} بضم التّاء وفتح الجيم أي ترد الأمور وحجتهم قوله {إليه تحشرون} و{تقلبون} فجعلوا الأمور داخلة في هذا المعنى والمعنيان يتداخلان وذلك أن الله هو الّذي يرجع الأمور فإذا رجعها رجعت فهي مرجوعة وراجعة). [حجة القراءات: 131]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (128- قوله: {ترجع الأمور} قرأه ابن عامر وحمزة والكسائي بفتح التاء وكسر الجيم، حيث وقع، بنوا الفعل للفاعل؛ لأنه المقصود، ويقوي ذلك إجماعهم على: {ألا إلى الله تصير الأمور} «الشورى 53» وقوله: {إلى الله مرجعكم} «المائدة 48» فبنى الفعل للفاعل، فحمل هذا على ذلك، وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الجيم، بنوا الفعل للمفعول، ويقوي ذلك إجماعهم على قوله: {ثم ردوا إلى الله} «الأنعام 62» و{لئن رددت إلى ربي} «الكهف 36» فبني الفعل للمفعول، وهو إجماع، فألحق هذا به، لأنه مثله، فالقراءتان حسنتان بمعنى، والأصل أن يُبنى الفعل للفاعل، لأنه محدثه بقدرة الله جل ذكره، وبناؤه للمفعول توسع وفرع). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/289]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (71- {تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [آية/ 210]:-
بضم التاء وفتح الجيم، قرأها ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في جميع القرآن، على أن الفعل مبني للمفعول به، وأن رجع متعدٍ؛ لأن رجع قد جاء لازمًا ومتعديًا معًا، وأما تأنيث الأمور فللجماعة نحو {قَالَتِ الأعْرابُ}.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {تَرْجِعُ الأُمُورُ} بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن، على كون الفعل مبنيًا للفاعل، وأن رجع لازم، وتأنيث الأمور على ما تقدم. وقرأ يعقوب {يَرْجِعُ} بالياء مفتوحة وكسر الجيم.
وذلك لأن الفعل متقدم، فتذكيره جائز نحو قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ}؛
[الموضح: 323]
لأن التأنيث تأنيث جمعٍ، وتأنيث الجمع ليس بحقيقيٍ.
وأما كسرة الجيم؛ فلأنه أسند الفعل إلى الفعل، وجعل رجع لازمًا على ما مضى، وكذلك يفعل يعقوب في باب الرجوع في جميع القرآن). [الموضح: 324]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107345#post107345)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:09 PM
سورة البقرة
[من الآية (211) إلى الآية (212) ]
{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}
قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)}
قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?t=19978)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:10 PM
سورة البقرة
[من الآية (213) إلى الآية (215) ]
{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}
قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)}
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (حتّى يقول الرّسول... (214).
قال الفراء قرأها القراء بالنصب إلا مجاهد، ونافعا فإنهما رفعا (حتّى يقول).
قال الفراء: وكان الكسائي يقرأها دهرًا: (حتّى يقول) ثم رجع إلى النصب.
وقرأ سائر القراء: (حتّى يقول الرّسول) نصبا.
وقال الفراء: من قرأ بالنصب فلأن الفعل الذي قبل (حتى) مما يتطاول، وإذا كان الفعل على هذا المعنى نصب بـ (حتّى)، وإن كان في المعني ماضيا.
قال: وإذا كان الفعل الذي قبل (حتى) لا يتطاول وهو ماض رفع الفعل الذي بعد (حتى) إذا كان ماضيا.
قال أبو منصور: العرب تنصب ب (حتى) الفعل المستقبل وهو أكثر كلام العرب.
ومن العرب من يرفع الفعل المستقبل بعد (حتى) إذا تضمن معنيين:
أحدهما: أن يحسن (فعل) في موضع (يفعل)، كقوله: (حتّى يقول الرّسول) معناه: حتى قال الرسول.
والمعنى الثاني: تطاول الفعل الذي قبل (حتى) كقولك: سرت نهاري أجمع حتى أدخلها، بمنزلة: سرت فدخلتها، فصارت (حتى) غير عاملة في الفعل، وعلى هذا يؤيد قراءة من قرأ (يقول) ). [معاني القراءات وعللها: 1/200]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في نصب اللام ورفعها من قوله جلّ وعز: حتّى يقول الرّسول [البقرة/ 214].
فقرأ نافع وحده: حتّى يقول الرّسول برفع اللام.
وقرأ الباقون: حتّى يقول الرّسول نصباً. وقد كان
[الحجة للقراء السبعة: 2/305]
الكسائي يقرؤها دهراً رفعاً، ثم رجع إلى النصب.
وروى ذلك عنه الفرّاء، قال: حدثني به وعنه محمد بن الجهم عن الكسائي.
قال أبو علي: قوله عز وجلّ: وزلزلوا حتّى يقول الرّسول من نصب فالمعنى: وزلزلوا إلى أن قال الرسول.
وما ينتصب بعد حتى من الأفعال المضارعة على ضربين: أحدهما: أن يكون بمعنى إلى، وهو الّذي تحمل عليه الآية. والآخر: أن يكون بمعنى كي، وذلك قولك:
أسلمت حتى أدخل الجنة، فهذا تقديره: أسلمت كي أدخل الجنة. فالإسلام قد كان، والدخول لم يكن، والوجه الأول من النصب قد يكون الفعل الذي قبل حتى مع ما حدث عنه قد مضيا جميعاً. ألا ترى أن الأمرين في الآية كذلك.
وأما قراءة من قرأ: حتّى يقول الرّسول بالرفع، فالفعل الواقع بعد حتى إذا كان مضارعاً لا يكون إلّا فعل حالٍ، ويجيء أيضاً على ضربين:
أحدهما: أن يكون السبب الذي أدّى الفعل الذي بعد حتى قد مضى، والفعل المسبّب لم يمض، مثال ذلك قولهم:
«مرض حتى لا يرجونه» و: «شربت الإبل حتى يجيء البعير يجرّ بطنه». وتتّجه على هذا الوجه الآية، كأن المعنى: وزلزلوا
[الحجة للقراء السبعة: 2/306]
فيما مضى، حتى أن الرسول يقول الآن: متى نصر الله، وحكيت الحال التي كانوا عليها، كما حكيت الحال في قوله: هذا من شيعته وهذا من عدوّه [القصص/ 15] وفي قوله:
وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوصيد [الكهف/ 18].
والوجه الآخر من وجهي الرفع: أن يكون الفعلان جميعاً قد مضيا، نحو: سرت حتى أدخلها، فالدخول متصلٌ بالسّير بلا فصل بينهما، كما كان في الوجه الأول بينهما فصلٌ. والحال في هذا الوجه أيضاً محكيّة، كما كانت محكية في الوجه الآخر، ألا ترى أنّ ما مضى لا يكون حالًا؟. وحتى إذا رفع الفعل بعدها، حرفٌ؛ يصرف الكلام بعدها إلى الابتداء، وليست العاطفة ولا الجارّة، وهي- إذا انتصب الفعل بعدها- الجارّة للاسم، وينتصب الفعل بعدها بإضمار أن، كما ينتصب بعد اللام بإضمارها). [الحجة للقراء السبعة: 2/307]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وزلزلوا حتّى يقول الرّسول والّذين آمنوا معه متى نصر الله}
قرأ نافع {حتّى يقول الرّسول} بالرّفع وحجته أنّها بمعنى قال الرّسول على الماضي وليست على المستقبل وإنّما ينصب من هذا الباب ما كان مستقبلا مثل قوله {أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين} {حتّى يأتي وعد الله} فرفع يقول ليعلم أنه ماض
وقرأ الباقون {حتّى يقول} بالنّصب وحجتهم أنّها بمعنى الانتظار وهو حكاية حال المعنى وزلزلوا إلى أن يقول الرّسول
واعلم أن حتّى إذا دخلت على الفعل فلها أربعة أوجه وجهان في الرّفع ووجهان في النصب
فأما وجها الرّفع فأحدهما كقولك سرت حتّى أدخلها فيكون
[حجة القراءات: 131]
السّير واقعا والدّخول في الحال موجودا كأنّه قال سرت حتّى أنا داخل السّاعة وعلى هذا قوله {حتّى يقول الرّسول} أي حتّى الرّسول قائل
والوجه الثّاني أن يكون الفعل الّذي قبل حتّى والّذي بعدها واقعين جميعًا فيقول القائل سرت أمس نحو المدينة حتّى أدخلها ويكون السّير والدّخول وقعا ومضيا كأنّه قال سرت أمس فدخلت وعلى هذا أيضا قوله {حتّى يقول الرّسول} معناه حتّى قال الرّسول فرفع الفعل على المعنى لأن حتّى وأن لا يعملان في الماضي وإنّما يعملان في المستقبل
وأما وجها النصب فأحدهما كقولك سرت حتّى أدخلها لم يكن الفعل واقعا معناه سرت طلبا إلى أن أدخلها فالسير واقع والدّخول لم يقع فعلى هذا نصب الآية وتنصب الفعل بعد حتّى بإضمار أن وهي تكون الجارة كقولك أقعد حتّى تخرج المعنى إلى أن تخرج
والوجه الثّاني أن تكون حتّى بمعنى اللّام الّتي هي علّة وذلك مثل قولك أسلمت حتّى أدخل الجنّة ليس المراد إلى أن أدخل الجنّة إنّما المراد لأدخل الجنّة وليس هذا وجه نصب الآية). [حجة القراءات: 132]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (129- قوله: {حتى يقول الرسول} قرأه نافع بالرفع، وقرأه الباقون بالنصب، ووجه القراءة بالرفع أن الفعل دال على الحال التي كان عليها الرسول، ولا تعمل «حتى» في حال، فلما كان ما بعدها للحال لم تعمل فيه، والتقدير: وزلزلوا فيما مضى حتى إن الرسول يقول: متى نصر الله، فحكى الحال، التي عليها الرسول قبل، كما حيكت الحال في قوله: {هذا من شيعته وهذا من عدوه} «القصص 15» وفي قوله: {وكلبهم باسط ذراعيه} «الكهف 18» فإنما حكى حالًا كانوا عليها ليست حالًا هم الآن عليها، فكذلك «حتى يقول الرسول» حكى حالًا كان عليها الرسول فيما مضى، والرفع بعد حتى على وجهين: أحدهما أن يكون السبب الذي أدى الفعل، الذي قبل «حتى» قد مضى، والفعل المسبب لم يمض، ولم ينقطع، نحو قولك: مرض حتى لا يرجونه، أي:
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/289]
مرض فيما مضى حتى هو الآن لا يُرجى فيحى، الحال التي هم عليها آلان، فيرفع ولا تحمل الآية على هذا المعنى؛ لأنها لحال قد مضى فحكي والوجه الآخر أن يكون الفعلان جميعًا قد مضيا، نحو قولك: سرت حتى أدخلها، أي: سرت فدخلت، فالدخول متصل بالسر، وقد مضيا، فحكيت الحال التي كانت لأن ما مضى لا يكون حالًا، إلا على الحكاية، فعلى هذا تحمل الآية في الرفع لا على الوجه الأول من وجهي الرفع و«حتى» هذه التي يرتفع الفعل بعدها ليست العاطفة ولا الجارة، إنما هي التي تدخل على الجمل فلا تعمل، وتدخل على الابتداء والخبر، فإذا كان ما بعد «حتى» محكيًا دالًا على حال، قد انقضت أو على حال في الوقت لم ينقض، فلا سبيل إلى النصب بها؛ لأنها لا تنصب إلا غير حال، تنصبه بمعنى «كي» أو بمعنى «إلى أن».
130- ووجه القراءة بالنصب أن «حتى» جعلت غاية للزلزلة، فنصبت بمعنى «إلى أن» والتقدير: وزلزلوا إلى أن قال الرسول، فجعل «قول الرسول» غاية لخوف أصحابه، أي: لم يزالوا خائفين إلى أن قال الرسول، فالفعلان قد مضيا جميعًا، وينصب بـ «حتى» في الكلام بمعنى «كي» كقولك: أسملت حتى أدخل الجنة، أي: كي أدخل الجنة، فالإسلام كان والدخول لم يكن، وهي إذا نصبت الأفعال الجارة في الأسماء، إذا كانت بمعنى «إلى أن» أو تكون هي العاطفة في الأسماء، إذا نصبت بمعنى «كي» فإذا ارتفع الفعل بعد «حتى» على معنى حال مضت محكية، فالفعل لما مضى، وإذا ارتفع على معنى حال، لم تنقض، فالفعل للحال، وإذا انتصب على معنى «إلى أن» فالفعل ماض، وإذا انتصب على معنى «كي» فالفعل مستقبل، فافهم هذا فإنه مشكل، وعليه مدار أحكام «حتى» وبالرفع قرأ الأعرج ومجاهد
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/290]
وابن محيصن وشيبة، وبالنصب قرأ الحسن وابو جعفر، وابن أبي إسحاق، وشبل وغيرهم، وهو الاختيار لأن عليه جماعة القراء). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/291]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (72- {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} [آية/ 214]:-
برفع {يَقُولُ}، قرأها نافع وحده.
وذلك لأن الفعل الواقع بعد {حَتَّى} فعل حالٍ، وذلك لأن الفعل المضارع يرتفع بعد حتى إذا كان للحال، وما كان من ذلك فلا يخلو إما أن يكون حالاً في حين الإخبار نحو: مرض حتى لا يرجونه وأمثاله، وإما أن يكون حالاً قد مضت فيحكيها على ما وقعت، وذلك من هذا النوع.
وقرأ الباقون {يَقُولَ} بالنصب.
وذلك لأن الفعل المضارع قد انتصب بعد حتى بإضمار أن؛ لأن المعنى إلى أن يقول، والفعل المنتصب بعد حتى إما أن يكون بمعنى إلى أن، كما ذكرنا، أو يكون بمعنى كي نحو: أسلمت حتى أدخل الجنة، أي كي أدخل). [الموضح: 324]
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107351#post107351)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:57 PM
سورة البقرة
[من الآية (216) إلى الآية (218) ]
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107352#post107352)
جمهرة علوم القرآن
26 محرم 1440هـ/6-10-2018م, 11:58 PM
سورة البقرة
[من الآية (219) إلى الآية (221) ]
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}
قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (قل فيهما إثمٌ كبيرٌ... (219).
قرأ حمزة والكسائي: (إثمٌ كثيرٌ) بالثاء.
وقرأ الباقون: (إثمٌ كبيرٌ).
قال أبو منصور: ما أقرب معنى الكثير من الكبير فاقرأ كيف شئت.
وقوله جلّ وعزّ: (ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو... (219).
قرأ أبو عمرو وحده: (قل العفو) بالرفع.
وقرأ الباقون: (قل العفو) نصبا.
قال أبو منصور: من جعل (ماذا) اسما واحدًا ردّ (العقو) عليه فنصبه.
ومن جعل (ما) اسمًا و(ذا) خبره وهي في المعنى (الذي) رد (العفو) عليه فرفعه، المعنى: ما الذي ينفقون؟
فقال: العفو، أي: الذي ينفقون العفو.
والعفو: ما عفا وتيسر ولم يشقّ، وأصل العفو: الفضل الذي لا يعنّي صاحبه). [معاني القراءات وعللها: 1/201]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الباء والثاء من قوله تعالى: إثمٌ كبيرٌ [البقرة/ 219] فقرأ الكسائيّ وحمزة: إثم كثير بالثاء. وقرأ الباقون: كبيرٌ بالباء.
قال أبو علي: حرّمت الخمر بقوله: قل فيهما إثم كثير سعيد عن قتادة: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ذمّها ولم يحرّمها، وهي يومئذٍ حلالٌ، فأنزل الله تعالى: لا تقربوا الصّلاة [النساء/ 43] وأنزل الآي في المائدة، فحرم قليلها وكثيرها.
[الحجة للقراء السبعة: 2/307]
ومن أهل النظر من يذهب إلى أن قوله جل وعز: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ [البقرة/ 219] دلالة على تحريمها لقوله: قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي [الأعراف/ 33] فقد حرّم الإثم، وقال: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ فوجب أن يكون محرماً.
وقال: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ، والمعنى: في استحلالهما.
ألا ترى أنّ المحرم إنّما هو بعض المعاني التي فيهما، وكذلك في سائر الأعيان المحرّمة. وقال أبو حنيفة فيما أخبرنا أبو الحسن: أنه إذا نظر إليها على وجه التلذّذ بها فقد أتى محظوراً، وكذلك قوله تعالى: وإثمهما أكبر من نفعهما إنما هو إثم معاصٍ تفعل فيها، وأسبابٍ لها.
وقال بعض نقلة الآثار: تواتر الخبر أن الآية التي في البقرة نزلت، ولم يحرّم بها، وقد اختلف في الآية التي حرّمت [بها الخمر، فقال قوم: حرمت بهذه الآية، وقال قوم:
حرمت] بالآي التي في المائدة.
فيعلم من ذلك أنّ الاثم يجوز أن يقع على الكبير وعلى الصغير، لأن شربها قبل التحريم لم يكن كبيراً، وقد قال:
فيهما إثمٌ كبير. وقال: ومن يكسب خطيئةً أو إثماً ثمّ يرم به بريئاً [النساء/ 112] فالخطيئة تقع على الصغير والكبير، فمن الصغير قوله: والّذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدّين
[الحجة للقراء السبعة: 2/308]
[الشعراء/ 82] ومن الكبير: وأحاطت به خطيئته [البقرة/ 81] فهذا كبيرٌ.
فإن قلت: فكيف تقدير قوله: ومن يكسب خطيئةً أو إثماً [النساء/ 112] والخطيئة قد وقعت على الصغيرة والكبيرة، والإثم كذلك، فكأنه بمنزلة من يكسب صغيراً أو صغيراً، أو من يكسب كبيراً أو كبيراً؟.
قيل له: ليس المعنى كذلك، ولكنّ الإثم قد وقع في التنزيل على ما يقتطعه الإنسان من مال من لا يجوز له أن يقتطع من ماله. فإذا كان كذلك، جاز أن يكون التقدير: من يكسب ذنباً بينه وبين الله، أو ذنباً هو من مظالم العباد، فهما جنسان، فجاز دخول «أو» في الكلام، على أن المعنى: من يكسب أحد هذين الذنبين.
والموضع الذي وقع فيه الإثم على المظلمة قوله تعالى:
فإن عثر على أنّهما استحقّا إثماً [المائدة/ 107] أي: إن اطلعتم على أن الشاهدين اقتطعا بشهادتهما، أو يمينهما على الشهادة إثماً؛ فالأولى بالميت وبولاية أمره، آخران يقومان مقامهما.
وإنّما جاز وقوع الإثم عليه على أحد أمرين: إما أن يكون أريد بالإثم: ذا إثم، أي: ما اقتطعه الإنسان مما اؤتمن فيه من مال صاحبه إثمٌ فيه، أو يكون سمّى المقتطع إثماً لمّا كان يؤدّي آخذه إلى الإثم، كما سمّي مظلمةً لأنه يؤدي إلى الظلم.
[الحجة للقراء السبعة: 2/309]
قال سيبويه: المظلمة: اسم ما أخذ منك. فكأنّ تقدير: ومن يكسب خطيئةً أو إثماً: من أذنب ذنباً بينه وبين الله، أو اقتطع حقاً للعباد، وهذان جنسان.
ومما يقوي ذلك: أن قوله: ومن يكسب خطيئةً أو إثماً إنما نزل في رجل سرق شيئا من آخر، فكأنّ ذلك المسروق أوقع عليه اسم الإثم كما أوقع عليه في الآية الأخرى. فأما الذّكر الذي في ربّه على الإفراد فلأن المعنى: ثم يرم به بأحد هذين، بريئا. أو يكون عاد الذكر إلى الإثم، كما عاد إلى التجارة في قوله عز وجل: وإذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضّوا إليها [الجمعة/ 11] وقد يكون الذكر في إليها عائداً على المعنى، لأن المعنى: إذا رأوا إحدى هاتين الخصلتين.
وقال تعالى: فمن تعجّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه [البقرة/ 203] والإثم إنما يظنّ أن يكون على المتعجّل، فأمّا المتأخر فليس بآثم لإتمامه نسكه، فقيل:
من تأخّر فلا إثم عليه، فذكر المتأخر بوضع الإثم عنه، كما ذكر المتعجل، فقال بعض المتأولين: ذكر أن وضع الإثم عنهما، وإن كان الذي يلحقه الإثم أحدهما.
قال: وقد يكون المعنى: لا يؤثّمنّ أحدهما الآخر، فلا يقول المتأخر للمتعجل: أنت مقصر. ومثل الوجه الأول عنده قوله في المختلفين: فلا جناح عليهما فيما افتدت به
[الحجة للقراء السبعة: 2/310]
[البقرة/ 229]، والجناح على الزوج، لأنه أخذ ما أعطى، وقد جاء: ولا يحلّ لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئاً [البقرة/ 229] وقال: فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبيناً [النساء/ 20] فقد وقع الإثم هنا أيضاً على المأخوذ منه.
وقد يجوز أن يكون: لا جناح على كل واحد منهما إذا كان ذلك عن تراض منهما. وشبّه المتأول ما ذكرنا بقوله تعالى: نسيا حوتهما [الكهف/ 61] وبقوله: يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان [الرحمن/ 22] فنسب النسيان إليهما، والناسي فتى موسى، لا موسى. والمخرج منه اللؤلؤ أحدهما.
وهذا يجوز أن يكون على حذف المضاف، كأنه: يخرج من أحدهما، ونسي أحدهما، فحذف المضاف كما حذف في قوله: على رجلٍ من القريتين عظيمٍ [الزخرف/ 31] فالتقدير: على رجل من رجلي القريتين عظيم. وحذف المضاف كثيرٌ جداً.
وقال: ولا نكتم شهادة اللّه إنّا إذاً لمن الآثمين [المائدة/ 106]. وقال: ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثمٌ قلبه [البقرة/ 283] فوقع الإثم في الموضعين على من لم يؤدّ الأمانة في إقامة الشهادة. وأما قوله تعالى
[الحجة للقراء السبعة: 2/311]
وإذا قيل له اتّق اللّه أخذته العزّة بالإثم [البقرة/ 206] فإن الجار يجوز تعلقه بشيئين، بالأخذ وبالعزة، فإن علقته بالأخذ، كان المعنى: (أخذته بما يؤثم)، أي: أخذته بما يكسبه ذلك، والمعنى: للعزّة، أنه يرتكب ما لا ينبغي له أن يرتكبه، فكأن العزة حملته على ذلك وقلة الخشوع. وقد يكون المعنى:
الاعتزاز بالإثم، أي: يعتزّ بما يؤثمه فيبعده مما يرضاه الله.
وقالوا: تأثّم الرجل: إذا ترك الإثم واجتنبه، وتحوّب: إذا ترك الحوب. وكان القياس أن يكون تأثّم: إذا ركب الإثم، وفعله، مثل: تفوّق، وتجرّع. ومثل تحوّب أنهم قد قالوا:
هجد الرجل: إذا نام، وهجّدته: نوّمته، قال لبيد:
قال هجّدنا فقد طال السّرى أي: نوّمنا. وقالوا تهجّد إذا سهر، فهذا مثل تأثّم إذا اجتنب الإثم وتحوّب. وفي التنزيل: ومن اللّيل فتهجّد به نافلةً لك [الإسراء/ 79].
قال أبو علي: حجة من قرأ بالباء: إثمٌ كبيرٌ أن يقول:
الباء أولى، لأن الكبر مثل العظم، ومقابل الكبر الصغر، قال تعالى: وكلّ صغيرٍ وكبيرٍ مستطرٌ [القمر/ 53]. وقد استعملوا في الذنب إذا كان موبقا الكبير، يدلّ على ذلك قوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/312]
الّذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش [النجم/ 53] وقال تعالى: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه [النساء/ 31].
فكما جاء: كبائر الإثم والفواحش وكبائر ما تنهون عنه بالباء، كذلك ينبغي أن يكون قوله: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ بالباء، ألا ترى أن شرب الخمر والميسر من الكبير، وكما وصف الموبق بالعظم في قوله عز وجل: إنّ الشّرك لظلمٌ عظيمٌ [لقمان/ 13] كذلك ينبغي أن يوصف بالكبر في قوله: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ وقالوا في غير الموبق: صغيرٌ وصغيرةٌ، ولم يقولوا: قليل. فلو كان كثيرٌ متجهاً في هذا الباب، لوجب أن يقال في غير الموبق: قليل، ألا ترى أن القلة مقابل الكثرة، كما أن الصغر مقابل الكبر؟
ومما يدل على حسن: قل فيهما إثمٌ كبيرٌ قوله تعالى: وإثمهما أكبر من نفعهما واتفاقهم على أكبر ورفضهم لأكثر.
ومما يقوي ذلك أنه قد وصف بالعظم في قوله سبحانه: فقد افترى إثماً عظيماً [النساء/ 48] فكما وصف بالعظم، كذلك ينبغي أن يوصف بالكبر.
ووجه قراءة من قرأ بالثاء أنه قد جاء فيهما: إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر اللّه وعن الصّلاة فهل أنتم منتهون [المائدة/ 91] وجاء في الحديث فيما حدثنا ابن قرين
[الحجة للقراء السبعة: 2/313]
ببغداد في درب الحسن بن زيد، قال: حدثنا إبراهيم بن مرزوق بمصر في سنة ثمانٍ وستين ومائتين
قال: حدثنا أبو عاصم عن شبيب عن أنس بن مالك قال: «لعن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، في الخمر عشرةً: مشتريها، وبائعها، والمشتراة له، وعاصرها والمعصورة له، وساقيها، والمسقاها، وحاملها، والمحمولة إليه. وآكل ثمنها»
فهذا يقوي قراءة من قرأ (كثيرٌ).
فإن قال قائل: إن الكثرة إنما ذكرت ليس في نفس الخمر، ولا في نفس الميسر، إنما هي في أشياء تحدث عنها أو تؤدّي إليها، قيل: إن ذلك، وإن كان كما ذكرت، فقد وقع الذمّ في التنزيل عليها، ألا ترى أنه قال عز وجل: إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر والميسر: قمارٌ، وأكل المال بالباطل، وقد قال: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [النساء/ 29].
ومما يقوي قراءة من قرأ كثير قوله تعالى: ومنافع للنّاس [البقرة/ 219] فكأن الإثم عودل به المنافع، فلما عودل به المنافع حسن أن يوصف بالكثرة، لأنه كأنه قال: فيه مضارٌّ كثيرة، ومنافع. فلما صار الإثم كالمعادل للمنافع، والمنافع يحسن أن توصف بالكثرة، كما جاء: لكم فيها منافع كثيرةٌ: [المؤمنون/ 21]
[الحجة للقراء السبعة: 2/314]
كذلك حسن أن يوصف الذي عودل به بالكثرة. وليس الخمر بالنبيذ في اللغة. والأسماء الأول لا توضع بالمقاييس، يدلّ على ذلك قول أبي الأسود:
دع الخمر تشربها الغواة فإنّني... رأيت أخاها مجزئاً بمكانها
فإلّا يكنها أو تكنه، فإنّه... أخوها غذته أمّه بلبانها
ألا ترى أن الشيء لا يكون أخا نفسه، وأن ما أدى إلى ذلك كان فاسداً.
اختلفوا في فتح الواو وضمها من قوله جل وعز: قل العفو [البقرة/ 219].
فقرأ أبو عمرٍو وحده: قل العفو رفعاً.
وقرأ الباقون: العفو نصباً.
وروي عن ابن عامرٍ نصب الواو أيضاً.
[الحجة للقراء السبعة: 2/315]
حدثني عبد الله بن عمرٍو بن أبي سعدٍ الوراق قال:
حدثنا أبو زيد عمر بن شبّة، عن محبوب بن الحسن، عن إسماعيل المكي عن عبد الله بن كثير أنه قرأ: قل العفو رفعاً. والذي عليه أهل مكة الآن النصب.
قال أبو علي: قال ابن عباس: العفو: ما فضل عن أهلك.
عطاءٌ وقتادة والسدّي: العفو: الفضل. قال الحسن: قل العفو: ما لا يجهدكم صفوه من أموالكم، ليس بالأصول. أبو عبيدة: العفو: الطاقة التي تطيقها، والقصد، يقال: ما عفا
لك أي ما صفا لك. غيره: غير الجهد من أموالكم.
قال أبو علي: اعلم أن قولهم: (ماذا) تستعمل على وجهين: أحدهما: أن يكون ما مع ذا اسماً واحداً، والآخر: أن يكون ذا بمنزلة الذي. والدليل على جعلهما جميعاً بمنزلة اسم واحد قول العرب: عمّا ذا تسأل؟ فأثبتوا الألف في (ما). فلولا أن «ما» مع «ذا» بمنزلة اسم واحد لقالوا: عمّ ذا تسأل؟ فحذفوا الألف من آخر ما، كما حذف من قوله: عمّ يتساءلون
[الحجة للقراء السبعة: 2/316]
[النبأ/ 1] وفيم أنت من ذكراها [النازعات/ 43] فلما لم يحذفوا الألف من آخر «ما» علمت أنه مع «ذا» بمنزلة اسم واحد، فلم تحذف الألف منه لمّا لم يكن آخر الاسم، والحذف إنما يقع إذا كانت الألف آخراً إلا أن يكون في شعرٍ، كقول الشاعر:
على ما قام يشتمني لئيمٌ... كخنزيرٍ تمرّغ في دمان
ويدل على ذلك قول الشاعر:
دعي ماذا علمت سأتّقيه... ولكن بالمغيّب نبّئيني
كأنه قال:
دعي شيئاً علمت، ومما يحمل على أن «ماذا» فيه شيءٌ واحد قول الشاعر:
يا خزر تغلب ماذا بال نسوتكم... لا يستفقن إلى الدّيرين تحنانا
[الحجة للقراء السبعة: 2/317]
فإنما قوله: «ماذا بال نسوتكم» بمنزلة: ما بال نسوتكم، فاستعملوا ماذا استعمال ما، من غير أن ينضم إليها ذا. ألا ترى أنّك لو حملت ذا على الذي في البيت لم يسهل: ما الذي هو بال نسوتكم؟ لأن المستعمل: ما بالك دون الآخر. فإنما جعل ماذا بمنزلة ما، كما جعل الآخر في قوله:
دعي ماذا علمت...
بمنزلة: دعي ما علمت، ألا ترى أنك لو لم تجعلهما اسماً واحداً، لجعلت ما استفهاماً، ولا يجوز وقوع دعي ونحوه من الأفعال قبل الاستفهام، ولا يعلّق عنه.
فإذا تبين بما ذكرنا أن ما مع (ذا) بمنزلة اسم واحد كان قوله تعالى: ماذا ينفقون بمنزلة قوله: ما ينفقون، وقوله: ماذا في موضعٍ نصبٍ، كما أن ما في قولك: ما ينفقون؟ وأيّا في قولك: أياً ينفقون؟ كذلك، فجواب هذا: العفو بالنصب.
كما تقول في جواب ما أنفقت؟ درهماً. أي: أنفقت درهماً.
فهذا وجه قول من نصب العفو في الآية.
وأما وجه قول من رفع فقال: قل العفو فإن ذا تجعل بمنزلة الذي بعد ما. ولا تجعل معها بمنزلة اسم واحد، فإذا قال: ماذا أنزل ربّكم [النحل/ 24] فكأنه قال: ما الذي أنزله ربّكم؟ فجواب هذا: قرآنٌ وموعظةٌ حسنةٌ، فتضمر المبتدأ الذي كان خبراً في سؤال السائل، كما تقول في جواب: ما الذي أنفقته؟ مال زيد، أي: الذي أنفقته مال زيد. فمما جاء
[الحجة للقراء السبعة: 2/318]
على هذا في التنزيل قوله تعالى: وإذا قيل لهم: ماذا أنزل ربّكم قالوا أساطير الأوّلين [النحل/ 24] فأساطير الأولين في قول سيبويه: يرتفع على ما ذكرته لك. وقد روي عن أبي زيدٍ وغيره من النحويين أنهم قالوا: لم يقرّوا، يريدون: أنهم لم يقرّوا بإنزال الله جلّ وعزّ لذلك، فكأنهم لم يجعلوا: أساطير الأوّلين خبر الذي أنزل.
ووجه قول سيبويه: أن أساطير الأولين خبر «ذا» الذي بمعنى الذي في قوله: ماذا أنزل ربّكم على أن يكون المعنى: الذي أنزل ربّكم عندكم أساطير الأولين.
كما جاءت: وقالوا: يا أيّها السّاحر ادع لنا ربّك [الزخرف/ 49] وكما قال: وقالوا يا أيّها الّذي نزّل عليه الذّكر إنّك لمجنونٌ [الشعراء/ 27] أي الذي نزّل عليه الذكر عنده وعند من تبعه. ومما جاء على هذا قول لبيد:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول... أنحبٌ فيقضى أم ضلالٌ وباطلٌ
كأنه لما قال: ما الذي يحاوله؟ أبدل بعد، فقال: أنحب؟
أي: الذي يحاوله نحبٌ فيقضى أم ضلال وباطل.
فقوله: فيقضى في موضع نصبٍ على أنه جواب
[الحجة للقراء السبعة: 2/319]
الاستفهام، وليس بمعطوف على ما في الصلة، ولو كان كذلك لكان رفعاً.
فقول من رفع فقال: العفو على هذا، كأنه لما قال:
ماذا ينفقون فكان المعنى: ما الّذي ينفقون؟ قال:
العفو، أي الذي ينفقون: العفو. فهذا وجه الرفع، ونظيره في التنزيل، في قول سيبويه الآية التي مرّت.
واعلم أنّ سيبويه لا يجيز أن يكون ذا بمنزلة الذي، إلا في هذا الموضع لما قام على ذلك من الدّلالة التي تقدمت.
والبغداديون يجيزون أن يكون ذا بمنزلة الذي في غير هذا الموضع. ويحتجون في ذلك بقول الشاعر:
عدس ما لعبّاد عليك إمارةٌ... نجوت وهذا تحملين طليق
فيذهبون إلى أن المعنى: والذي تحملين طليق.
ويحتجون أيضاً بقوله تعالى: وما تلك بيمينك يا موسى [طه/ 17] فيتأولونه على أن المعنى: ما التي بيمينك؟.
ولا دلالة على ما ذهبوا إليه من حمل الحكم على ذا،
[الحجة للقراء السبعة: 2/320]
بأنه بمنزلة الذي، وذلك أن قوله: بيمينك يجوز أن يكون ظرفاً في موضع الحال فلا يكون صلةً، وكذلك: «تحملين» في البيت يجوز أن يكون في موضع حال، والعامل في الحال في الموضعين ما في الاسمين المبهمين من معنى الفعل. وإذا أمكن أن يكون على غير ما قالوا لم يكن على قولهم دلالة.
وقد تأوّل أحد شيوخنا: ذلك هو الضّلال البعيد يدعوا [الحج/ 12، 13] على مذهبهم هذا فقال: ذلك بمنزلة الذي، وما بعده صلةٌ، والاسم المبهم مع صلته في موضع نصب بيدعو. وهذا الذي تأوّله عليه تأويلٌ مستقيمٌ إذا صحّ الأصل بدلالةٍ تقام عليه). [الحجة للقراء السبعة: 2/321]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للنّاس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو}
قرأ حمزة والكسائيّ {قل فيهما إثم كبير} بالثاء وقرأ الباقون {إثم كبير} بالباء وحجتهم قوله {وإثمهما أكبر} ولم يقل أكثر
[حجة القراءات: 132]
وحجّة أخرى وهي أنهم استعملوا في الذّنب إذا كان موبقا يدل على ذلك قوله {الّذين يجتنبون كبائر الإثم} قالوا كذلك ينبغي أن يكون إثم {كبير} لأن شرب الخمر والميسر من الكبير
وحجّة من قرأ بالثاء قوله {إنّما يريد الشّيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصّلاة} فذكر أشياء من الإثم وحجّة أخرى أن الإثم واحد يراد به الآثام فوحد في اللّفظ ومعناه الجمع والّذي يدل عليه {ومنافع للنّاس} فعودل الإثم بالمنافع فلمّا عودل بها حسن أن يوصف بالكثير فإن قال قائل ينبغي أن يقرأ وإثمهما أكثر بالثاء قيل هذا لا يلزم من وجهين أحدهما أنهم مجمعون على الباء من وجهين وما خرج بالإجماع فلا نظر فيه والوجه الثّاني أن الاسم الثّاني بخلاف معنى الأول لأن الأول بمعنى الآثام فوحد في اللّفظ ومعناه الجمع والدّليل على ذلك {ومنافع للنّاس} وتقدير الكلام قل فيهما آثام كثيرة ومنافع للنّاس كما قال {يتفيأ ظلاله عن اليمين والشّمائل} فوحد اليمين في اللّفظ والمراد الأيمان فلذلك عطف عليه بالشمائل وهي جمع وأما قوله وإثمهما أكبر من نفعهما فلفظه ومعناه معنى التّوحيد يدل على ذلك أنه أتي بالنفع بعده موحدا
قرأ أبو عمرو {قل العفو} بالرّفع وقرأ الباقون بالنّصب من جعل ما اسما وذا خبرها وهي في موضع الّذي رد
[حجة القراءات: 133]
{العفو} فرفغ كأنّه قال ما الّذي ينفقون فقال العفو أي الّذي ينفقون العفو فيخرج الجواب على معنى لفظ السّؤال وحجته قوله {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأوّلين} قال أبو زيد أساطير ليس بجواب هذا السّؤال لأن الكفّار لم يؤمنوا بإنزال القرآن على النّبي صلى الله عليه وقال {إنّما يعلمه بشر} ولو أقرّوا أن الله ينزل عليه لما قالوا {أساطير الأوّلين} فهذا عدول عن الجواب ولكن التّقدير الّذي تزعمون أنه أنزل ربكم هو أساطير الأوّلين
من نصب {العفو} جعل {ماذا} اسما واحدًا بمعنى الاستفهام أي أي شيء ينفقون رد العفو عليه فينصب أي شيء ينفقون فخرج الجواب على لفظ السّؤال منصوبًا وحجتهم قوله {وقيل للّذين اتّقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا} على معنى أي شيء أنزل فقالوا خيرا فجاء الجواب على لفظ السّؤال منصوبًا). [حجة القراءات: 134]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (131- قوله: {إثم كبير} قرأه حمزة والكسائي بالثاء، جعلاه من الكثرة حملًا على المعنى، وذلك أن الخمر تحدث، مع شربها، آثام كثيرة من لغط وتخليط، وسب وأيمان، وعداوة وخيانة، وتفريط في الفرائض، وفي ذكر الله وفي غير ذلك، فوجب أن توصف بالكثرة، وقد قال بعد «ذلك ومنافع للناس» فجمع المنافع، وكذلك يجب أن تكون الآثام جمعًا، والجمع يوصف بالكثرة، وأيضًا فإن وصف الإثم بالكثرة أبلغ، من وصفه بالكبر، وقد قال الله جل ذكره: {وادعوا ثبورًا كثيرًا} «الفرقان 14» وقال: {ذكرًا كثيرًا} «الأحزاب 41» فأما قوله {وإثمهما أكبر} «البقرة 219» فأتى بالباء، فإنما ذلك؛ لأن الإثم الثاني واحد، والأولى بمعنى الآثام، فحسن في الأول الكثرة لكثرته، ولم يحسن في الثاني الكثرة لقلته في المعنى، وأيضًا فإنه إجماع، ويدل على أن الأول بمعنى الجمع قوله: {ومنافع} فعطف عليه بجمع، فهو مثله، ولمعنى الكثرة مزية على معنى الكبر، لأن الكثرة تستوعب معنى العظم ومعنى الكثرة، ولا يستوعب العظم معنى الكثرة؛ لأن الاثم يكون عظيمًا، ولا يكون كثيرًا إلا وهو عظيم، وتقول: كل كثير كبير، ولا تقول: كل كبير كثير، فالقراءة بالثاء أعم، لتضمنها معنى الكثرة والكبر، وقرأ الباقون بالباء، من الكبر، على معنى العظم، أي: فيهما إثم عليه السلام عظيم، ويقوي ذلك إجماعهم على قوله: {وإثمهما أكبر من نفعهما} بالباء، من العظم، وقد أجمعوا على أن شرب الخمر من الكبائر، فوجب أن يوصف إثمه بالكبر، وقد وصف الله الشرك بالعظم فقال: {إن الشرك لظلم عظيم} «لقمان 13» فكذلك ينبغي أن يوصف ما قرب من
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/291]
الشرك بالعظم، وهو شرب الخمر، لأنهما كبائر، والعظم والكبر سواء، ولما قالوا فيما هو دون الكبائر صغائر، وصغير وصغيرة وجب أن يُقال في الكبائر كثير، لأن الكثير مقابل للقليل، والكبير مقابل للصغير، وقد وصف الله الإثم بالعظم في قوله: {فقد افترى إثمًا عظيمًا} «النساء 48» والكبر مقابل للعظم في المعنى، قال أبو محمد: القراءتان حسنتان متداخلتان؛ لأن القراءة بالثاء مراد بها العظم، ولا شك أن ما عظم فقد كثر، وقد كبر، والباء أحبُّ إلي، لأن الجماعة عليه، ولقوله: {حوبًا كبيرًا} «النساء 2» والحوب الإثم، فوصفه بالكبر، وقال تعالى: {والفتنة أكبر من القتل} «البقرة 217» والفتنة هنا الكفر والكفر يشتمل على كل الآثام، وقد وصفه بالكبر، وهو اختيار أبي حاتم وأبي طاهر وأبي عبيد، وبه قرأ الحسن وأبو رجاء والأعرج وأبو جعفر وشيبة ومجاهد وقتادة وابن أبي إسحاق، وعليه العامة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/292]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (132- قوله: {قل العفو} قرأه أبو عمرو بالرفع، ونصب الباقون.
133- ووجه القراءة بالرفع أنه جعل «ما» و«ذا» اسمين، «ذا» بمعنى «الذي» و«ما» استفهام، تقديره: أي شيء الذي تنفقونه فـ «ما» مبتدأ و«الذي» خبره، فيجب أن يكون الجواب مرفوعًا أيضًا، من ابتداء وخبر، تقديره: الذي تنفقونه العفو، فيكون الجواب في الإعراب كالسؤال في الإعراب، والهاء محذوفة، من الصلة، في الجواب، أي: تنفقونه كذلك، هي مقدرة محذوفة من الصلة، وهو مثل قوله: {وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين} «النحل 24» تقديره: أي شيء الذي أنزله ربكم قالوا الذي أنزله أساطير الأولين، فأتى الجواب على نحو السؤال في الإعراب والإضمار،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/292]
لكن حذف الابتداء، لصلته من الجواب، لدلالة الأول عليه، وكذلك هو في الآية مع «العفو».
134- ووجه القراءة بالنصب أن تكون «ما» و«ذا» اسمًا واحدًا في موضع نصب بـ «ينفقون» فيجب أن يكون الجواب أيضًا منصوبًا، كما تقول: ما أنفقت؟ فتقول: درهمًا، أي: أنفقت درهمًا، ولا هاء محذوفة مع النصب، ولا ابتداء مضمر مع النصب، إنما تُضمر فعلًا، تنصب به «العفو»، يدل عليه الأول، تقديره: يسألونك: أي شيء ينفقون، قل ينفقون العفو. ومثله قوله تعالى: {وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرًا} «النحل 30» فـ «ما» و«ذا» اسم واحد، في موضع نصب بـ «أنزل» و«خيرًا» جواب منصوب كالسؤال تقديره: قالوا: أنزل خيرًا، والاختيار النصب للإجماع عليه، والقراءتان متقاربتان، لأن كل واحدة محمولة على إعراب السؤال). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/293]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (73- {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [آية/ 219]:-
بالثاء، قرأها حمزة والكسائي.
[الموضح: 324]
ووجه ذلك أن الإثم ههنا عودل به المنافع التي تتصف بالكثرة؛ لكونها جمعًا في قوله تعالى: {ومَنافِعُ للنّاسِ}. فلما عودل به ما تقرر فيه الكثرة حسن فيه أيضًا أن يوصف بالكثرة، ويدل على ذلك قوله تعالى {إنّما يُرِيدُ الشّيطانُ أَنْ يُوقِعَ} الآية، فبين أن ما يحدث من الخمر مضار كثيرة في باب الدين، فدل على أن كثرة الإثم متقررة فيهما.
وقرأ الباقون {كَبِيرٌ} بالباء.
وذلك لأن الإثم إنما يوصف بالكبر نحو قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ}، ثم إنهم أجمعوا في قوله تعالى {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ} على الباء دون الثاء، فإجماعهم عليه في الثاني يدل على أنه في الأول أيضًا بالباء). [الموضح: 325]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (74- {قل العفو} [آية/ 219]:
بالرفع قرأها أبو عمرو وحده.
وجه ذلك أنه جعل «ذا» من قوله «ماذا» بمنزلة الذي، ولم يجعلها مع ما بمنزلة اسمٍ واحدٍ، فيكون التقدير على هذا: ويسئلونك ما الذي ينفقونه؟ قال العفو، بالرفع، الذي ينفقونه العفو، فيرتفع العفو بخبر المبتدإ، ومبتدأه
[الموضح: 325]
مضمر، يدل عليه الذي ينفقون، وهو ما في سؤالهم.
وقرأ الباقون {العَفْوَ} بالنصب.
وذلك لأنهم جعلوا «ماذا» اسمًا واحدًا في قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} فهو مثل قولك: ما ينفقون، فماذا على هذا في موضع النصب بأنه مفعول {يُنْفِقُونَ}، كما تقول: ويسئلونك أي شيء ينفقون؟ فقوله تعالى {العَفْوَ} بالنصب جواب {مَاذَا يُنْفِقُونَ} وهو في موضع نصبٍ، فجوابه أيضًا نصب، كأنه قال: ينفقون العفو). [الموضح: 326]
قوله تعالى: {فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ولو شاء اللّه لأعنتكم... (220).
قرأ ابن كثيرٍ: (ولو شاء اللّه لأعنتكم) بغير همز، وهمز الباقون.
قال أبو منصور: الاختيار الهمز، لأن ألف أعنتكم مقطوعة، وهي كالأصلية، فهمزها أكمل وأعرب.
وأما قراءة ابن كثير فهو عندي على اختياره تليين الهمزة، لا أنه حذف الهمزة). [معاني القراءات وعللها: 1/204]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه ابن طاوس عن أبيه أنه قرأ: [وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ أَصْلِحْ إِلَيْهِمْ خَيْرٌ].
قال أبو الفتح: خير مرفوع؛ لأنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أصلح إليهم فذلك خير. وإذا جاز حذف هذه الفاء مع مبتدئها في الشرط الصحيح نحو قوله:
بني ثُعَل لا تنكَعوا العنز شِرْبَها ... بني ثعل من ينكع العنز ظالم
أي: فهو ظالم، كان حذف الفاء هنا، وإنما الكلام بمعنى الشرط لا بصريح لفظه، أجدر وأحرى بالجواز.
وقال: "إليهم" لما دخله معنى الإحسان إليهم، وقد ذكرنا نحو ذلك كثيرًا مما هو محمول على المعنى). [المحتسب: 1/122]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (77- {لَأَعْنَتَكُمْ} [آية/ 220]:-
غير مهموز، قرأها ابن كثير وحده في رواية البزي، ولم يذكر ابن مجاهد هذا الحرف، وابن كثير لم يحذف الهمزة وإنما لينها وخففها فجعلها بين بين، فتوهموا أنها محذوفة، فإن الهمزة من أعنت همزة قطعٍ، فلا تسقط حالة الوصل، كما تسقط همزات الوصل عند الصل، ألا ترى أنها همزة أفعل، وليست همزتها مما يسقط في حال الإدراج.
وقرأ الباقون «لأعْنَتَكُمْ» بالهمز، على الأصل، وهو الأولى). [الموضح: 328]
قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107353#post107353)
جمهرة علوم القرآن
27 محرم 1440هـ/7-10-2018م, 12:00 AM
سورة البقرة
[من الآية (222) إلى الآية (225) ]
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}
قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (حتّى يطهرن... (222).
قرأ عاصم وحمزة والكسائي: (حتّى يطّهّرن) بتشديد الطاء والهاء.
وقرأ الباقون: (حتّى يطهرن) مخففا.
قال أبو منصور: من قرأ (حتّى يطّهّرن) والأصل: يتطهّرن والتطهر يكون بالماء، فأدغمت التاء في الطاء فشددت.
ومن قرأ (حتّى يطهرن) فالمعنى: يطهرن من دم المحيض إذا انقطع الدم. وجانز أن يكون يطهرن الطهر التام بالماء بعد انقطاع الدم). [معاني القراءات وعللها: 1/202]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تخفيف الطاء وضمّ الهاء. وتشديد الطاء وفتح الهاء من قوله جل وعز: حتّى يطهرن [البقرة/ 222].
فقرأ ابن كثيرٍ ونافعٌ وأبو عمرٍو وابن عامرٍ: يطهرن خفيفةً.
وقرأ عاصمٌ، في رواية أبي بكر والمفضل، وحمزة والكسائيّ: يطهرن مشدّدة.
حفصٌ عن عاصمٍ يطهرن خفيفةً.
قال أبو علي: قال أبو الحسن: طهرت المرأة. قال:
وقال بعضهم: طهرت. قال: وقالوا: طهرت طهراً وطهارةً.
[الحجة للقراء السبعة: 2/321]
والقول في ذلك: أنّ طهرت بفتح العين أقيس، لأنها خلاف طمثت، فينبغي أن يكون على بناء ما خالفه، مثل: عطش وروي ونحو ذلك.
ويقوي طهرت أيضاً قولهم: طاهرٌ، فهذا يدل على أنه مثل: قعد يقعد فهو قاعدٌ. ويحتمل أن يكون طهرت ويطهرن:
انقطع الدم الذي كان به طمثت. كما روي عن الحسن في تفسير قوله تعالى: حتّى يطهرن: حتى ينقطع الدم. ويحتمل أن يكون حتّى يطهرن: حتى يفعلن الطهارة التي هي الغسل، لأنّها ما لم تفعل ذلك كانت في حكم الحيض، لكونها ممنوعةً من الصلاة والتلاوة، وأن لزوجها أن يراجعها إذا كانت مطلّقةً، فانقطع الدم ولم تغتسل، كما كان له أن يراجعها قبل انقطاع الدم، وهذا قول عمر وعبد الله وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء. وروي لنا عن الشعبي أنه روى عن ثلاثة عشر من الصحابة، منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس ذلك.
فإذا كان حكم انقطاع الدم قبل الاغتسال حكم اتصاله، وجب أن لا تقرب حتى تغتسل. وإذا كان كذلك، كان قراءة من قرأ: حتّى يطهرن أرجح، لأنها ما لم تتطهر في حكم الحيّض، فيجب أن لا تقرب، كما لا تقرب إذا كانت حائضاً. ويؤكد ذلك قوله تعالى: وإن كنتم جنباً فاطّهّروا [المائدة/ 6] فكما أن الجنب يتطهّر بالماء إذا وجده، كذلك الحائض، لاجتماعهما في وجوب الغسل عليهما، وأن لفظ المتطهّر يختص بالتّطهّر بالماء أو ما قام مقامه.
[الحجة للقراء السبعة: 2/322]
وقراءة من قرأ: حتّى يطهرن على هذا التأويل، يحتمل أن يكون المراد بها: حتى يفعلن الطهارة، فلكونهنّ إذا لم يفعلن في حكم الحيّض، وحال من لم ينقطع الدم عنه منهنّ.
ويؤكد قراءة من قرأ: حتّى يطهرن إجماعهم في قوله:
فإذا تطهّرن فأتوهنّ [البقرة/ 222]. فكما أن هذا لا يكون إلا على الطهارة، فكذلك قوله: حتّى يطهرن يجب أن يكون على هذا اللفظ، ألا ترى شرط إتيانهنّ بعد التّطهّر في قوله:
فإذا تطهّرن فأتوهنّ.
وأما قولهم: الطّهور فلفظه على ضربين: اسم، وصفةٍ.
فإذا كان اسماً كان على ضربين:
أحدهما: أنه مصدر، وذلك قولهم فيما حكاه سيبويه:
تطهّرت طهوراً حسناً، وتوضأت وضوءاً، فهذا مصدرٌ على فعولٍ بفتح الفاء. ومثله: وقدت النار وقوداً، في أحرفٍ أخر.
وأما الاسم الذي ليس بمصدر، فما جاء من
قوله: «طهور إناء أحدكم كذا»
فالطّهور اسم لما يطهّر، كالفطور، والوجور، والسّعوط، واللّدود.
[الحجة للقراء السبعة: 2/323]
وأما كونه صفةً فهو قوله تعالى: وأنزلنا من السّماء ماءً طهوراً [الفرقان/ 48] فهذا كالرسول، والعجوز، ونحو ذلك من الصفات التي جاءت على فعولٍ ولا دلالة فيه على التكرير، كما لم يكن متعدّياً نحو: ضروبٍ، ألا ترى أن فعله غير متعدٍ تعدّي ضربت. ومن الصفة قوله جل وعز:
وسقاهم ربّهم شراباً طهوراً [الإنسان/ 21] فوصف بالطّهور لمّا كان خلافا لما ذكر في قوله: ويسقى من ماءٍ صديدٍ [إبراهيم/ 16]. ومن ذلك
قوله: «هو الطهور ماؤه».
فالطّهور هنا صفة، ألا ترى أنه قد ارتفع به الماء كما ارتفع الاسم بالصفات المتقدمة؟ وقال تعالى: خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم [التوبة/ 103] فمن جعل في تطهرهم ضمير الصدقة، ولم يجعله ضمير فعل المخاطب، فلما جاء من
«أن الصدقة أوساخ الناس»
فإذا أخذت منهم كان كالرفع لذلك، ورفعه تطهيرٌ [وقال تعالى ]: وطهّر بيتي للطّائفين [الحج/ 26] فجاء فيه طهّر لما جاء في المطهّر منه الرجس في قوله: فاجتنبوا الرّجس من الأوثان [الحج/ 30]. وقال سبحانه: ولهم فيها أزواجٌ مطهّرةٌ [البقرة/ 25] فوصفهنّ
[الحجة للقراء السبعة: 2/324]
بالطهارة يحتمل أمرين: يجوز أن يكنّ تطهّرن مما يكون فيهن من الحيض، ونحوه من الأقذار. ويجوز أن يكنّ مطهّراتٍ من الأخلاق السيئة لما فيهن من حسن التبعّل. ودلّ على ذلك قوله: فجعلناهنّ أبكاراً عرباً أتراباً [الواقعة/ 37] وأنشد يعقوب وثعلب:
وبالبشر قتلى لم تطهّر ثيابها وفسّراه بأنه لم يطلب بثأرهم ووجه ذلك: أنهم إذا قتلوا قتيلًا قالوا: دمه في ثوب فلانٍ، يعنون القاتل. وعلى هذا قول أوسٍ.
نبّئت أنّ دماً حراماً نلته... وهريق في بردٍ عليك محبّر
وقال:
نبّئت أن بني جذيمة أدخلوا... أبياتهم تامور نفس المنذر
وقال [أبو ذؤيب]:
[الحجة للقراء السبعة: 2/325]
تبرّأ من دم القتيل وثوبه... وقد علقت دم القتيل إزارها
علامة التأنيث في علقت للإزار. وأنّثها كما أنّثه ابن أحمر في قوله:
طرحنا إزاراً فوقها أيزنيّةٌ... على منهلٍ من قدقداء
ومورد وأنشد الأعشى بإلحاق علامته في قوله:
ترفل في البقيرة والإزاره
[الحجة للقراء السبعة: 2/326]
وإذا علقت إزاره دمها، صار دمه في ثوبها. فأما قوله عز وجل: وثيابك فطهّر [المدثر/ 4] فإنه أمر بالتزكّي واجتناب المأثم. قال قتادة: كانوا يقولون للرجل إذا نكث، ولم يوف بالعهد دنس الثياب، فإذا أوفى وأصلح قالوا: طاهر الثياب. فمما سلكوا فيه هذا المسلك قوله:
وقد لبست بعد الزبير مجاشعٌ... ثياب التي حاضت ولم تغسل الدّما
وكذلك قوله:
ثياب بني عوفٍ طهارى نقيّةٌ... وأوجههم بيض المسافر غرّان
يريد: أنهم لا يأتون ما يقال لهم فيه دنسو الثياب، وكذلك قوله: وأوجههم بيض المسافر، يريد: أنهم لا يرتكبون ما يدنّس الثياب ويسوّد الوجوه، قال تعالى: وإذا بشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسودًّا [النحل/ 58] فليس المعنى السواد الذي هو خلاف البياض، ولكن على ما يلحق من غضاضةٍ عن مذمّةٍ. ونزّلوا ولادة الأنثى- وإن لم يكن
[الحجة للقراء السبعة: 2/327]
فعلهم - منزلة ما يكون من فعلهم، مما يلحق من أجله العار. وعلى هذا ما يمتدح به من الوصف بالبياض، ليس يراد به بياض اللون، كقول الأعشى:
وأبيض مختلطٍ بالكرام... يجود ويغزو إذا ما عدم
وقول الآخر:
أمّك بيضاء من قضاعة قد... نمت لك الأمهات والنّضد). [الحجة للقراء السبعة: 2/328]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ولا تقربوهن حتّى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}
قرأ حمزة والكسائيّ وأبو بكر يطهرن بتشديد الطّاء والهاء
[حجة القراءات: 134]
وحجتهم ما جاء في التّفسير حتّى يغتسلن بالماء بعد انقطاع الدّم وذلك أن الله أمر عباده باعتزالهن في حال الحيض إلى أن يتطهرن بالماء وحجّة أخرى وهي قوله {فإذا تطهرن} قالوا وهي على وزن تفعلن فيجب أن يكون لها فعل وفعلها إنّما هو الاغتسال لأن انقطاع الدّم ليس من فعلها وحجّة أخرى اعتبارا بقراءة أبي حتّى يتطهرن ثمّ أدغموا التّاء في الطّاء
وقرأ الباقون {يطهرن} بتخفيف الطّاء وضم الهاء وحجتهم أن معنى ذلك حتّى ينقطع الدّم عنهن {فإذا تطهرن} أي بالماء قالوا إن الله أمر عباده باعتزال النّساء في المحيض إلى حين انقطاع دم الحيض قال الزّجاج يقال طهرت المرأة وطهرت إذا انقطع الدّم عنها). [حجة القراءات: 135]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (135- قوله: {حتى يطهرن} قرأه الحرميان وأبو عمرو وابن عامر وحفص مضموم الهاء، مخففًا، على معنى ارتفاع الدم وانقطاعه، ولكن لم تتم الفائدة إلا بقوله: {فإذا تطهرن} أي: بالماء، فأتوهن، فبهذا تمت الفائدة والحكم؛ لأن الكلام متصل بعضه ببعض، فلا يحسن أن يكون «يطهرن» مخففًا، تتم عليها الفائدة والحكم؛ لأنه يوجب إتيان المرأة، إذا انقطع عنها الدم، وإن لم تتطهر بالماء، ويكون قوله: {فإذا تطهرن} لا فائدة له؛ إذا الوطء قد يتم بزوال الدم، فلابد من اتصال، فإذا تطهرن بما قبله، وبه يتم الحكم، والفائدة في أن لا توطأ الحائض إلا بانقطاع الدم، والتطهير بالماء، فلو حمل الأول على التشديد، وفتح الهاء محمل الثاني، للزم أن توطأ الحائض، إذا تطهرت، وإن لم ينقطع عنها الدم، ففي التخفيف بيان الشرطين اللذين مع وجودهما،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/293]
توطأ الحائض، وهما: انقطاع الدم، والتطهير بالماء، وليس مع التشديد للطاء فيها دليل على أن انقطاع الدم شرط للوطء، فالقراءة بالتخفيف فيها بيان الحكم وفائدته، وهو الاختيار لأن فيها بيان إباحة الوطء بعد انقطاع الدم والتطهير بالماء، وقرأ الباقون بفتح الهاء مشددًا، على معنى التطهير بالماء دليله إجماعهم على التشديد في قوله: {فإذا تطهرن} فحمل الأول على الثاني، وأيضًا فإن التخفيف في الأول يوهم جواز إتيان الحائض إذا ارتفع عنها الدم، وإن لم تطهر بالماء فكأن التشديد فيه رفع التوهم أو هي في حكم الحائض ما لم تطهر وهي ممنوعة من الصلاة ما لم تتطهر، ولزوجها مراجعتها ما لم تطهر بالماء، وإن كان الدم قد انقطع، وهذا قول عمر وعبادة بن الصامت وأبي الدرداء وقال الشعبي: روي ذلك عن ثلاثة عشر من الصحابة منهم أبو بكر وعمر وابن مسعود وابن عباس، فإذا كان حكم انقطاع الدم من غير غسل، حكم ثبوته، ووجب أن يؤثر التشديد، ليفيد الخروج عن حكم الحائض في جواز الوطء، وإباحة الصلاة ومنع الرجعة، ويدل على قوة التشديد أن في حرف أبي وابن مسعود «حتى يتطهرن» بياء وتاء، وهذا يدل على التطهير بالماء، ويدل على إدغام في الطاء، قال أبو محمد: ولولا اتفاق الحرميين، وابن عامر وأبي عمرو وحفص على التخفيف، لكان التشديد مختارًا أيضًا؛ لما ذكرنا من العلة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/295]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (75- {حَتَّى يَطْهُرْنَ} [آية/ 222]:-
بفتح الطاء والهاء وتشديدهما، قرأها حمزة والكسائي وعاصم –ياش-؛ لأن معناه: حتى يتطهرن بالماء، وأراد الاغتسال؛ لأنهن ما لم يغتسلن فهن في حكم الحيض في كثير من الأشياء، ويؤيد ذلك أنهم أجمعوا على {تَطَهَّرْنَ} في قوله {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} في قوله {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ}، فكما أن ذلك لا يكون إلا الاغتسال، فكذلك ينبغي أن يكون معنى هذا أيضًا.
وقرأ الباقون {حَتَّى يَطْهُرْنَ} بسكون الطاء وضم الهاء، ومعناه حتى ينقطع دم حيضهن، ويجوز أن يكون {يَطْهُرْنَ} أيضًا بمعنى {يَطَّهَّرْنَ}؛ لأنهن إنما يطهرن طهرًا تامًا إذا اغتسلن). [الموضح: 326]
قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}
قوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)}
قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107354#post107354)
جمهرة علوم القرآن
27 محرم 1440هـ/7-10-2018م, 12:01 AM
سورة البقرة
[من الآية (226) إلى الآية (230) ]
{الَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)}
قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}
قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة مسلمة بن محارب: [وَبُعُولَتْهُنَّ أَحَقُّ] ساكنة التاء.
[المحتسب: 1/122]
قال أبو الفتح: قد سبق نحو هذا في قراءة أبي عمرو: [يأمُرْكم]، وأنشدنا فيه الأبيات التي أحدها قول جرير:
سيروا بني العم فالأهواز منزلكم ... ونهر تيرى ولا تعرفْكم العرب
أراد: لا تعرفُكم، فأسكن الفاء استخفافًا لثقل الضمة مع كثرة الحركات). [المحتسب: 1/123]
قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (إلّا أن يخافا... (229).
قرأ حمزة ويعقوب: (يخافا) بضم الياء.
وقرأ الباقون: (يخافا).
قال أبو منصور: من قرأ (يخافا) بفتح الياء فإن الفراء قال: الخوف
[معاني القراءات وعللها: 1/202]
في هذا الموضع كالظن. قال: والاختيار (إلّا أن يخافا).
قال: وأما ما قرأ به حمزة (إلّا أن يخافا) فإنه اعتبر قراءة عبد الله التي رويت له "إلا أن تخافوا).
قال: ولم يصب حمزة، والله أعلم؛ لأن الخوف إنما وقع على (أن) وحدها إذ قال: (إلا أن تخافوا أن لا تقيموا"، وحمزة قد أوقع الخوف على الرجل والمرأة، وعلى (أن) ألا ترى أن اسمها في الخوف مرفوع بما لم يسم فاعله، فلو أراد: إلا أن يخافا على هذا، ويخافا بذا، أو من ذا.
فيكون على غير اعتبار قراءة عبد الله كان جائزًا.
[معاني القراءات وعللها: 1/203]
قال أبو منصور: الاختيار (إلّا أن يخافا) بفتح الياء، وهو قراءة أكثر القراء). [معاني القراءات وعللها: 1/204]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضم الياء وفتحها من قوله جلّ وعزّ: إلّا أن يخافا [البقرة/ 229].
فقرأ حمزة وحده: يخافا بضم الياء. وقرأ الباقون:
يخافا بفتح الياء.
[قال أبو علي] قال أبو عبيدة: إلّا أن يخافا معناها:
يوقنا، فإن خفتم هاهنا: فإن أيقنتم. و: إن ظنّا أن يقيما حدود اللّه [البقرة/ 230] معناه: أيقنا.
وقال بعض البغداذيين: إلّا أن يخافا مثل: يظنا، قال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/328]
والظن والخوف واحد.
قال أبو علي: خاف: فعلٌ يتعدى إلى مفعولٍ واحد.
وذلك المفعول يكون أن وصلتها ويكون غيرها، فأما تعديه إلى غير أن فنحو قوله عزّ وجلّ: تخافونهم كخيفتكم أنفسكم [الروم/ 28] وتعديته إلى «أن» كقوله تعالى: تخافون أن يتخطّفكم النّاس [الأنفال/ 26] وقوله: أم يخافون أن يحيف اللّه عليهم [النور/ 50]. فإن عدّيته إلى مفعولٍ ثانٍ، ضعّفت العين، أو اجتلبت حرف الجر، كقولك: خوّفت الناس ضعيفهم قويّهم، وحرف الجر كقوله:
لو خافك الله عليه حرّمه ومن ذلك قوله عزّ اسمه: إنّما ذلكم الشّيطان يخوّف أولياءه [آل عمران/ 175] ف يخوّف قد حذف معه مفعولٌ يقتضيه تقديره: يخوّف المؤمنين بأوليائه، فحذف المفعول والجارّ، فوصل الفعل إلى المفعول الثاني، ألا ترى أنه لا
[الحجة للقراء السبعة: 2/329]
يخوّف أولياءه، على حدّ قولك: خوّفت اللصّ، إنما يخوّف غيرهم ممن لا استنصار له بهم، ومثل هذه في حذف المفعول منه قوله تعالى: فإذا خفت عليه فألقيه في اليمّ [القصص/ 7] المعنى: إذا خفت عليه فرعون، أو الهلاك.
فالجارّ المظهر في قوله: فإذا خفت عليه بمنزلة المحذوف من قوله: أولياءه.
وإذا كان تعدي هذا الفعل على ما وصفنا، فقول حمزة:
إلّا أن يخافا مستقيمٌ، لأنه لما بنى الفعل للمفعول به، أسند الفعل إليه، فلم يبق شيءٌ يتعدى إليه.
فأما (أن) في قوله تعالى: أن لا يقيما فإن الفعل يتعدى إليه بالجار، كما تعدّى بالجار في قوله:
لو خافك الله عليه حرّمه وموضع أن في قوله: إلّا أن يخافا: جرّ بالجار
[الحجة للقراء السبعة: 2/330]
المقدّر على قول الخليل والكسائي، ونصب على قول غيرهما، لأنه لما حذف الجارّ وصل الفعل إلى المفعول الثاني، مثل:
أستغفر الله ذنباً..
و: أمرتك الخير...
فقوله مستقيم على ما رأيت.
فإن قال قائل: لو كان يخافا كما قرأ، لكان ينبغي أن يكون: فإن خيفا، قيل: لا يلزمه هذا السؤال لمن خالفه في قراءته، لأنهم قد قرءوا: إلّا أن يخافا ولم يقولوا: فإن خافا فهذا لا يلزمه لهؤلاء.
وليس يلزم الجميع هذا السؤال لأمرين: أحدهما أن يكون انصرف من الغيبة إلى الخطاب كما قال: الحمد للّه ثم قال: إيّاك نعبد وقال: وما آتيتم من زكاةٍ تريدون وجه اللّه فأولئك هم المضعفون [الروم/ 39] وهذا النحو كثيرٌ في التنزيل وغيره.
والآخر: أن يكون الخطاب في قوله تعالى: فإن خفتم
[الحجة للقراء السبعة: 2/331]
مصروفاً إلى الولاة والفقهاء، الذين يقومون بأمور الكافة، وجاز أن يكون الخطاب للكثرة، فيمن جعله انصرافاً من الغيبة إلى الخطاب، لأن ضمير الاثنين في يخافا ليس يراد به اثنان مخصوصان، إنما يراد به أن كلّ من كان هذا شأنه فهذا حكمه.
فأمّا من قرأ: يخافا بفتح الياء، فالمعنى أنه إذا خاف كلّ واحدٍ من الزّوج والمرأة ألا يقيما حدود الله تعالى، حلّ الافتداء، ولا يحتاج في قولهم إلى تقدير الجار، وذلك أن الفعل يقتضي مفعولًا يتعدى إليه كما يقتضيه في نحو قوله تعالى: فلا تخافوهم وخافوني [آل عمران/ 175]، ولا بد من تقدير الجارّ في قراءة من ضمّ الياء، لأن الفعل قد أسند إلى المفعول، فلا يتعدى إلى المفعول الآخر إلا بالجار.
فأمّا ما قاله الفرّاء في قراءة حمزة: إلا بأن يخافا
[الحجة للقراء السبعة: 2/332]
من أنّه اعتبر قراءة عبد الله: إلا أن تخافوا فلم يصبه، لأن الخوف في قراءة عبد الله واقع على أن، وفي قول حمزة:
على الرجل والمرأة. فإن بلغه ذلك في رواية عنه فذاك، وإلا، فإذا اتجه قراءته على وجه صحيح، لم يجز أن ينسب إليه الخطأ، وقد قال عمر [رحمه الله]: لا تحمل فعل أخيك على القبيح ما وجدت له في الحسن مذهباً). [الحجة للقراء السبعة: 2/333]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ولا يحل لكم أن تأخذوا ممّا آتيتموهنّ شيئا إلّا أن يخافا ألا يقيما حدود الله}
قرأ حمزة {إلّا أن يخافا} بضم الياء وحجته قوله بعدها فإن خفتم فجعل الخوف لغيرهما ولم يقل فإن خافا
وقرأ الباقون {إلّا أن يخافا} وحجتهم ما جاء في التّفسير {إلّا أن يخافا} أي إلّا أن يخاف الزّوج والمرأة ألا يقيما حدود الله فيما يجب لكل واحد منهما على صاحبه م الحق والعشرة). [حجة القراءات: 135]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (136- قوله: {إلا أن يخافا} قرأ حمزة بضم الياء، وفتحها الباقون.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/294]
137- وحجة قراءة حمزة بضم الياء أنه بنى الفعل للمفعول، والضمير في «يخافا» مرفوع لم يُسم فاعله، يرجع للزوجين، والفاعل محذوف وهو الولاة والحكام والخوف بمعنى اليقين، وقيل: بمعنى «الظن» وقد ألزم من قرأ بضم الياء أن يقرأ: فإن خيفا، وهذا لا يلزم؛ لأن من قرأ بفتح الياء يلزمه أيضًا، أن يقرأ: فإن خافا، ولكنه في القراءتين جميعًا حسن من باب الخروج من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة كقوله: {حتى إذا كنتم} ثم قال: {وجرين بهم} «يونس 22» وكقوله: {الحمد لله رب العالمين} ثم قال: {إياك نعبد} وهو كثير.
138- ووجه القراءة بفتح الياء أنه حُمل على ظاهر الخطاب، يُراد به الزوجان إذا خاف كل واحد منهما ألا يقيما حدود الله حل الاقتداء، فهما الفاعلان، و«أن» في القراءة الأولى مقدر معها حذف حرف الجر؛ لأن الفعل قد تعدى إلى مفعوله، واقيم مقام الفاعل فـ «أن» في موضع جر، بإضمار حرف الجر، على قول الخليل والكسائي، ولكثرة حذفه مع «أن» فكأنه ملفوظ به، فحسن عندهما عمله، وهو محذوف، ولا يقاس عليه، و«أن» عند غيرهما من الكوفيين في موضع نصب لحذف حرف الجرف، فأما من قرأ بفتح الياء فـ «أن» في موضع نصب بالفعل؛ لأنه لم يتعد إلى مفعول، وهو يقتضي التعدي إلى مفعول، فتعدى إلى «أن» فهي في موضع نصب به، والاختيار ما عليه الجماعة من فتح الياء). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/295]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (76- {إِلَّا أَنْ يَخَافَا} [آية/ 229]:-
بضم الياء قرأها حمزة ويعقوب.
ووجه ذلك أن الخوف في الحقيقة لا ينبغي أن يكون واقعًا عليهما؛ لأنهما لا يخافان ترك حدود الله تعالى، بل يخاف عليهما ذلك، فلهذا بني الفعل للمفعول به، فأسند إليهما، والتقدير: إلا أن يخافا على أن لا يقيما حدود الله، فحذف الجار وأوصل الفعل، فموضع أن وما بعده بوقوع الفعل عليهما، وعند الخليل والكسائي جر بتقدير الجار.
وقرأ الباقون {يَخَافَا} بفتح الياء.
ومعنى الخوف ههنا عند الفراء الظن، وعند غيره العلم، قال:
15- ولا تدفنني في الفلاة فإنني = أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
أي أعلم، والمعنى على هذا: إلا أن يظنا أو يعلما أن لا يقيما حدود الله، ولا تحتاج إلى تقدير الجار في هذه القراءة؛ لأنه يقال: خفت الرجل والشيء، قال الله تعالى {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} ). [الموضح: 327]
قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (يبيّنها... (230).
اتفق القراء على الياء في (يبيّنها) إلا ما روى المفضل عن عاصم: (نبيّنها) بالنون.
والمعنى فيمن قرأ بالنون والياء قريب من السواء، إلا أن القراءة
[معاني القراءات وعللها: 1/204]
بالياء أجود لاتفاق القراء عليها). [معاني القراءات وعللها: 1/205]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107355#post107355)
جمهرة علوم القرآن
28 محرم 1440هـ/8-10-2018م, 08:40 AM
سورة البقرة
[من الآية (231) إلى الآية (232) ]
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}
قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107356#post107356)
جمهرة علوم القرآن
28 محرم 1440هـ/8-10-2018م, 08:50 AM
سورة البقرة
[من الآية (233) إلى الآية (234) ]
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)}
قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (لا تضارّ والدةٌ بولدها... (233).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب (لا تضارّ والدةٌ) رفعًا.
وروى أبان عن عاصم الرفع أيضًا، وقال أبو بكر بن مجاهد: أخبرني ابن أبي الرجال عن بشر بن هلال عن بكار عن أبان بن يزيد عن عاصم: (لا تضارر والدةٌ).
قال: كذا هو في كتابي راءين.
وقرأ الباقون: (لا تضارّ) نصبًا.
قال أبو منصور: من قرأ (لا تضارّ والدةٌ) بفتح الراء.
والموضع موضع جزم على النهي، ولفظه لفظ الخبر، الأصل (لاتضارر) فأدغمت الأولى في الثانية، وانفتحت لالتقاء الساكنين، وهو الاختيار في المضاعف، كقولك عضّ زيدا، وضارّ عمرًا يا رجل، يعني: لا تضارّ والدةٌ بولدها، أي: لاتترك إرضاع ولدها ضرارًا لأبيه فتضر بالولد؛ لأن الوالدة أشفق على ولدها من الأجنبية، ولبنها له أهنأ وأمرأ.
[معاني القراءات وعللها: 1/205]
وقوله جلّ وعزّ: (ولا مولودٌ له بولده... (233).
أي: لا يضارّ الوالد الأمّ فيأخذه منها يروم بذلك غيظها فيضر بولده.
ومن قرأ (لا تضارّ) برفع الراء فإن المنذري أخبرني عن أحمد بن يحيى أنه قال: كان ابن كثير وأبو عمرو يقرآن (لاتضارّ)، قال: وأحسبهما آثرا الرفع عطفا على قوله: (لا تكلّف نفسٌ) فأتبعا الرفع الرفع وجعلاه خبرا، والمعنى نهي.
قال: والقراءة بالنهي، لأنه نهي صحيح.
قوده جلّ وعزّ: (إذا سلّمتم ما آتيتم... (233)
قرأ ابن كثير وحده: (ما أتيتم) بقصر الألف.
وقرأ الباقون: (ما آتيتنم).
قال أبو منصور: (ما آتيتم) معناه: ما أعطيتم، من أتى يؤتي، والمعنى: إذا سلمتم الأجرة إلى المرضعة، وقيل: إذا سلمتم، أي: ما أعطاه بعضكم
[معاني القراءات وعللها: 1/206]
لبعض من التراضي في ذلك.
ومن قرأ (ما أتيتم) بقصر الألف فإن ابن الأنباري قال: لا يحتمل أن يكون معناه غير ما جئتم بالمعروف، من المجيء.
قال: وليست في هذا الموضع حسنة، والقراء (ما آتيتم) ). [معاني القراءات وعللها: 1/207]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في نصب الراء ورفعها من قوله جلّ وعزّ: لا تضارّ والدةٌ [البقرة/ 233].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبان عن عاصم: لا تضارّ والدةٌ رفعاً.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي: لا تضارّ نصباً.
وليس عندي عن ابن عامر في هذا شيء من رواية ابن ذكوان، ولكنّ المعروف عن أهل الشام النصب.
قال أبو علي: وجه قول من رفع أنّ قبله مرفوعا، وهو قوله لا تكلّف نفسٌ إلّا وسعها [البقرة/ 233] فإذا أتبعته ما قبله كان أحسن لتشابه اللفظ.
فإن قلت: إنّ ذلك خبر، وهذا أمر؛ قيل: فالأمر قد يجيء على لفظ الخبر في التنزيل، ألا ترى أنّ قوله والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ [البقرة/ 228] وقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/333]
تجاهدون في سبيل اللّه [الصف/ 11]، وهذا النحو، مثل ذلك، ويؤكد ذلك أن ما بعده على لفظ الخبر، وهو قوله:
وعلى الوارث مثل ذلك [البقرة/ 233]، والمعنى: ينبغي ذلك، فلما وقع موقعه صار في لفظه.
ومن فتح جعله أمراً، وفتح الراء لتكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف، وعلى هذا قول سيبويه: لو سمّيت رجلا بإسحارّ، فرخّمته على قول من قال: يا حار، لقلت: يا إسحارّ، ففتحت من أجل الألف التي قبلها، وعلى هذا حرّك بالفتح قول الشاعر:
وذي ولد لم يلده أبوان حرّك بالفتح لالتقاء الساكنين، لأن أقرب الحركات إليه الفتحة.
فأما قوله ولا يضارّ كاتبٌ ولا شهيدٌ [البقرة/ 282] فيحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون الفعل مسنداً إلى الفاعل، كأنه: لا يضارر كاتب ولا شهيد بتقاعده عن الكتاب والشهادة.
والآخر: لا يضارر أي: لا يشغل عن ضيعته ومعاشه باستدعاء شهادته وكتابته، وهو مفتوح لأن قبله أمراً، وليس الذي قبله خبراً، كما أنّ قبل الآية الأخرى خبراً، فالفتح للجزم بالنهي أحسن.
[الحجة للقراء السبعة: 2/334]
واختلفوا في المدّ والقصر من قوله جلّ وعزّ: إذا سلّمتم ما آتيتم [البقرة/ 233]، فقرأ ابن كثير وحده: إذا سلمتم ما أتيتم قصراً، كذا قرأته على قنبل.
وقرأ الباقون: ما آتيتم بالمدّ، أنّ المعنى على الإعطاء.
قال أبو علي: قد جاء: آتوهنّ أجورهنّ بالمعروف [النساء/ 25] وقال تعالى: وآتيتم إحداهنّ قنطاراً [النساء/ 20]، والمراد هنا: إعطاء المهر، وقال تعالى:
ولا جناح عليكم أن تنكحوهنّ إذا آتيتموهنّ أجورهنّ [الممتحنة/ 10]؛ فكما جاء في هذه المواضع في المهر آتى؛ فكذلك ينبغي أن تكون في الموضع الذي اختلف فيه.
ووجه قول ابن كثير أن يقدّر: إذا سلّمتم ما أتيتم نقده، أو أتيتم سوقه؛ فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، وحذف الهاء من الصّلة، وكأنه قال: أتيت نقد ألف، أي:
بذلته، كما تقول: أتيت جميلًا، أي: فعلته.
ومما يقوي قوله قول زهير:
فما يك من خير أتوه فإنّما... توارثه آباء آبائهم قبل
[الحجة للقراء السبعة: 2/335]
فكما تقول: أتيت خيراً، وأتيت جميلًا، فكذلك تقول:
أتيت نقد ألف.
وقد وقع أتيت موقع آتيت. ويجوز أن يكون ما في الآية مصدراً، فيكون التقدير: إذا سلّمتم الإتيان، والإتيان:
المأتيّ، مما يبدّل بسوق أو نقد، كقولك: ضرب الأمير، تريد: مضروبه.
فأما قوله: بالمعروف يجوز أن يتعلق ب سلّمتم كأنه:
إذا سلمتم بالمعروف ما آتيتم. ويجوز أن يتعلق ب آتيتم على حدّ قولك: آتيته بزيد). [الحجة للقراء السبعة: 2/336]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه هارون عن أَسِيد عن الأعرج أنه قرأ: [لا تُضارْ والدة] جزم، كذا قال، جزم.
قال أبو الفتح: إذا صح سكون الراء في [تضار] فينبغي أن يكون أراد: لا تضارِر، كقراءة إبي عمرو، إلا أنه حذف إحدى الراءين تخفيفًا، وينبغي أن تكون المحذوفة الثانية؛ لأنها أضعف، وبتكريرها وقع الاستثقال. فأما قول الله تعالى: {ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} فإن المحذوف هي الأولى؛ وذلك أنهم شبهوا المضعف بالمعتل العين، فكما قالوا: لستَ قالوا: ظلت، ومثله مَستُ في مسِستُ، وأحسْتُ في أحسستُ، قال أبو زُبيد:
خلا أن العِتاق من المطايا ... أحسن بن فهُنَّ إليه شُوسُ
فإن قلت: فهلا كانت الأولى هي المحذوفة من تضارِر كما حذفت الأولى من ظلِلت ومسِست وأحسست؟
قيل: هذه الأحرف إنما حُذفن لأنهن شُبهن بحروف اللين، وحروف اللين تصح بعد هذه الألف نحو: عَاوَدَ وطَاوَلَ وبَايَعَ وسَايَر، والثانية في موضع اللام المحذوفة، نحو: لا تُرامِ.
فإن قيل: فكان يجب على هذا [لا تضارِ]؛ لأن الأولى مكسورة في الأصل؛ فيجب أن تُقر على كسرها.
[المحتسب: 1/123]
قيل: لا، بل لما حذفت الثانية وقد كانت الأولى ساكنة؛ لأنها كانت مدغمة في الثانية أُقرت على سكونها؛ ليكون دليلًا على أنها قد كانت مدغمة قبل الحذف، ولذلك نظائر منها قوله:
وكحَل العينين بالعواوِر
صحح الواو الثانية وإن كانت تلي الطرف، وقبل الألف التي قبلها واو؛ لأنه جعل الصحة في الواو دليلًا على أنه أراد العواوير، ولو لم يرد لذلك لوجب أنه يهمز فيقول: العوائر، كما همزوا في أوائل وأصلها أواول، وكما جعلوا صحة العين في حَوِلَ وعَوِرَ دليلًا على كون المثال في معنى ما لا بد من صحته، وهو احولَّ واعورَّ، وكما جعلوا ترك رد النون في قوله:
ارهن بنيك عنهم أرهن بني
دليلًا على أنه أراد بنيّ، فلما حذف الياء الثانية التي هي ضمير المتكلم لم يرجع النون من بنين؛ لأنه جعله دليلًا على إرادة الياء في بَنيّ، وأنه إنما حذفها للقافية، وهي في نفسه مرادة. وكما قال:
مال إلى أرطاة حِقف فاضطجع
ثم أبدل الضاد لامًا فقال: الطجع، وقد كان يجب إذا زالت الضاد أن ترجع تاء افتعل إلى اللفظ، وذلك أن أصله اضتجع افتعل من الضجعة، فيظهر التاء كما يقال: التجأ إليه والتفت والتقم؛ لكنه ترك الطاء بحالها تنبيهًا على أنه يريد الضاد، وأنه لما أبدلها لامًا اعتدها مع ذلك اعتداد الثابت.
ولذلك نظائر كثيرة، فكذلك ترك الراء من [تُضَارْ]ساكنة كما كانت تكون ساكنة لو خرجت على الإدغام المراد فيها. نعم، وإذا كان نافع قد قرأ: [ومَحْيايْ ومماتي] ساكن الياء من [محيايْ]، ولا تقدير إدغام هناك كان سكون الراء من [لا تضارْ] -وهو يريد تضارّ- أجدر.
وبعد هذا كله ففيه ضعف، ألا ترى أنك لو رخمت قاصًّا -اسم رجل- على قولك: يا حارِ؛ لقلت: يا قاصِ، فرددت عين الفعل إلى الكسر لأنه فاعل، وأصله قاصِص، فمن هنا ضعفت هذه القراءة وإن كان فيها من الاعتذار والاعتلال ما قدمنا ذكره.
[المحتسب: 1/124]
وقد روي فيها تشديد الراء مع السكون، ويجب أن يكون هذا على نية الوقف عليها، رُوي ذلك عن أبي جعفر يزيد بن القعقاع). [المحتسب: 1/125]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({لا تكلّف نفس إلّا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {لا تضار والدة} بالرّفع على الخبر وحجتهما قوله قبلها {لا تكلّف نفس إلّا وسعها} فأتبعا الرّفع الرّفع نسقا عليه وجعلاه خبرا بمعنى النّهي فإن قلت إن ذلك خبر وهذا أمر قيل فالأمر قد يجيء على لفظ الخبر في التّنزيل ألا ترى قوله {والمطلقات يتربّصن بأنفسهنّ} و{لا تظلمون ولا تظلمون} والأصل لا تضارر والعرب لا تذكر في الأفعال حرفين من جنس واحد متحركين فسكن الأول وأدغم في الثّاني وهو وإن كان مرفوعا في معنى النّهي
وقرأ الباقون {لا تضار} بفتح الرّاء على النّهي وحجتهم قراءة ابن مسعود وابن عبّاس قرأ ذلك (لا تضارر) براءين فدلّ ذلك على أنه نهي محض فلمّا اجتمعت الراءان أدغمت الأولى في الثّانية وفتحت الثّانية لالتقاء الساكنين وهذا هو الاختيار في التّضعيف إذا كان قبله فتح أو ألف الاختيار ضار يا رجل
[حجة القراءات: 136]
قرا ابن كثير {إذا سلمتم ما آتيتم} مقصورة الألف أي ما جئتم وفي الكلام حذف المعنى إذا سلمتم ما أتيتم به
وقرأ الباقون {ما آتيتم} بالمدّ أي أعطيتم وحجتهم قوله {إذا سلمتم} لأن التّسليم لا يكون إلّا مع الإعطاء). [حجة القراءات: 137]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (139- قوله: {لا تُضار والدة} قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالرفع وفتحه الباقون.
140- ووجه القراءة بالرفع أنه جعله نفيًا لا نهيًا، وأنه أتبعه ما قبله من قوله: {لا تكلف نفس إلا وسعها} وأيضًا فإن النفي خبر، والخبر قد يأتي في موضع الأمر، نحو قوله: {والمطلقات يتربصن} «البقرة 228» وقوله: {تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله} «الصف 11» فكذلك هذا أتى بلفظ الخبر، ومعناه النهي، فذلك شائع في كلام العرب.
141- ووجه القراءة بالفتح أنه جعله نهيًا على ظاهر الخطاب، فهو مجزوم، لكن تفتح الراء لالتقاء الساكنين، لسكونها وسكون أول المشدد، وخصها بالفتح دون الكسر، لتكون حركتها موافقة لما قبلها، وهو الألف، ويقوي حمله على النهي أن بعده أمرًا في قوله: {وعلى الوارث مثل ذلك} و«والدة» يحتمل أن تكون فاعلة و«تضار» بمعنى يفاعل، أي: لا تضار والدة بولدها، فتطلب عليه ما ليس لها، وتمتنع من رضاع ولدها مضارة ويحتمل أن تكون مفعولة لم يُسم فاعلها، وتضار بمعنى تفاعل على معنى: لا تضار والدة بولدها، فتمتنع من ولدها في الرضاع، وهي تأخذ مثل ما تأخذ غيرها، ولا تُمنع من نفقته، وعلى ذلك يحمل، ولا مولود بولده، ويحتمل الوجهين جميعًا). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/296]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (142- قوله: {ما آتيتم بالمعروف} قرأه ابن كثير بغير مد، من باب المجيء؛ إذ لم يظهر في الكلام مفعولان، فيحمل على باب الإعطاء، لأن «أتى» من باب المجيء مقصور، يتعدى إلى مفعول، بحرف وبغير حرف جر من
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/296]
باب الإعطاء يمد فيتعدى إلى مفعولين، فلما لم يكن في الكلام إلا مفعول واحد بحرف جر، فحمل على باب المجيء، وقوي ذلك إتيان الباء بعده في «بالمعروف» وباب المجيء يتعدى إلى مفعول بحرف جر وبغير حرف كما قال تعالى: {أتينا بها} «الأنبياء 47» وقال: {فأتاهم الله} «الحشر 2» فأما «ما» فيحسن أن تكون مع الفعل مصدرًا بمعنى «الإتيان» في قراءة من قصر «آتيتم» و«الإتيان» بمعنى «التأتي» في قراءة من قصر «آتيتم»، و«الإتيان» بمعنى «التأتي» ويكون في قراءة من مد «آتيتم» مع الفعل بمعنى «الإيتاء» لأنه رباعي، و«الإيتاء» بمعنى المأتي، ويجوز أن تكون «ما» بمعنى الذي في القراءتين فتقدر «هاء» محذوفة من «آتيتم» وتكون الهاء هي المفعول لـ «آتيتم» لمن قصر، تعدى إليه بغير حرف، وتكون هي المفعول الأول، لمن مد «آتيتم» والثاني محذوف كما تقول: أعطيت زيدًا، ولا تذكر العطية، وقرأ الباقون «آتيتم» بالمد، من باب الإعطاء، لأنه يراد به إعطاء النفقة للأم أو للمرضعة، في الرضاعة، وقد قال تعالى: {فآتوهن أجورهن} «النساء 24» يعني الرضاعة، وقال: {إذا آتيتموهن أجورهن} «المائدة 5» فهو إجماع، فحمل هذا عليه، وهو الاختيار لإجماع القراء عليه، وكون «ما» بمعنى «الذي » أحسن، والهاء محذوفة وهي المفعول لـ «آتيتم» اقتصر فيه على مفعول واحد). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/297]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (78- {لَا تُضَارَّ} [آية/ 233]:-
بالرفع قرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب.
ووجه ذلك أن ما قبله مرفوع، فهو يتبعه، وذلك قوله تعالى {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ} فيكون بدلاً عنه وإخبارًا مثله في اللفظ، وإن كان نهيًا في المعنى، وإذا توافقت الجملتان كان أحسن.
وقرأ الباقون {تُضَارَّ} بفتح الراء.
ذلك لأنهم جعلوه نهيًا، فسكنت الراء الأخيرة للجزم، وسكنت الراء
[الموضح: 328]
الأولى للإدغام، فالتقى ساكنان، فحرك الآخر منهما على الفتح، ليوافقه الألف التي قبل الراء؛ لأن الألف والفتحة متجانستان). [الموضح: 329]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (79- {إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ} [آية/ 233]:-
بالقصر، قرأها ابن كثير وحده.
وذلك أن معنى أتيت فعلت، تقول: أتيت جميلاً وأتيت خيرًا: فعلته، وتقديره: ما أتيتم نقده أو أتيتم إعطاءه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، والهاء في القراءتين محذوفة من الصلة، والتقدير: أتيتموه، وقد ذكر بعضهم أن أتيت قد جاء بمعنى آتيت.
وقرأ الباقون {آتَيْتُمْ} بالمد.
وذلك أن آتيت بمعنى أعطيت، وقال الله تعالى {وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا}، فلما جاء آتى في المواضع المتفق عليها، فكذلك ينبغي أن يكون عليه في الموضع المختلف فيه). [الموضح: 329]
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب عليه السلام: [وَالَّذِينَ يَتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ] بفتح الياء.
قال ابن مجاهد: ولا يُقرأ بها.
قال أبو الفتح: هذا الذي أنكره ابن مجاهد عندي مستقيم جائز؛ وذلك أنه على حذف المفعول؛ أي: والذين يتوفون أيامهم أو أعمارهم أو آجالهم، كما قال سبحانه: {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ}، و{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ}، وحَذْفُ المفعول كثير من القرآن وفصيح الكلام، وذلك إذا كان هناك دليل عليه، قال تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} أي: شيئًا، وأنشدنا أبو علي للحطيئة:
منعمة تصون إليك منها ... كصونك من رداء شَرعَبِيِّ
أي: تصون الكلام منها، وهو كثير جدًّا). [المحتسب: 1/125]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107357#post107357)
جمهرة علوم القرآن
28 محرم 1440هـ/8-10-2018م, 10:19 AM
سورة البقرة
[من الآية (235) إلى الآية (237) ]
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}
قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}
قوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (على الموسع قدره... (236).
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم والحضرمي: (قدره) و(قدره) خفيفتين.
وقرأ الباقون: (قدره) بالتثقيل.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه قال: التثقيل أعلى اللغتين (قدره).
قال: وقال الكسائي: يقرأ بالتخفيف والتثقيل، وكل صواب). [معاني القراءات وعللها: 1/208]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضمّ التاء، ودخول الألف وفتحها، وسقوط الألف من قوله [جلّ وعزّ] تمسّوهنّ [البقرة/ 236].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
تمسّوهنّ بغير ألف، حيث كان، وفتح التاء.
وقرأ حمزة والكسائيّ: تماسوهن بألف وضم التاء.
قال أبو علي: حجة من قال تمسّوهنّ قوله [جلّ وعزّ:] ولم يمسسني بشرٌ [آل عمران/ 47] ألا ترى أنه جاء على: فعل دون فاعل، وكذلك قوله [عز اسمه]: لم يطمثهنّ إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ [الرحمن/ 74]، وقوله تعالى: فانكحوهنّ بإذن أهلهنّ [النساء/ 25] فهذا كلّه على فعل.
[الحجة للقراء السبعة: 2/336]
والنكاح عبارة عن الوطء، وإن كان قد وقع على العقد:
قال الأعشى:
ومنكوحة غير ممهورة... وأخرى يقال له فادها
وقال آخر:
وبرحرحان غداة كبّل معبد... نكحت نساؤكم بغير مهور
وعلى الوطء يحمله سيبويه ويرويه.
قال سيبويه: قالوا: ضربها الفحل ضراباً كالنكاح، والقياس ضربا، ولا يقولونه، كما لا يقولون: نكحا، وهو القياس. وقالوا: ذقطها ذقطا، كالقرع، وهو النكاح ونحوه من باب المباضعة. وقال في موضع آخر: نكحها نكاحاً وسفدها سفاداً، وقالوا: قرعها قرعاً.
فكما أن هذه الأفعال على فعل دون فاعل، فكذلك ينبغي أن يكون في الموضع المختلف فيه.
فأمّا ما جاء في الظهار من قوله تعالى: من قبل أن يتماسّا [المجادلة/ 4]. فلا دليل فيه على ما في هذه الآية، لأن المماسّة في الظهار محرّم، وقد أخذ على كلّ واحد منهما
[الحجة للقراء السبعة: 2/337]
أن لا يمسّ، فمن ثمّ جاء: من قبل أن يتماسّا.
وحجة من قرأ: ولا تماسوهن أن فاعل وفعل قد يراد بكلّ واحد منهما ما يراد بالآخر، وذلك نحو: طارقت النّعل، وعاقبت اللّصّ، كما أن فعل واستفعل، يراد بكل واحد منهما ما يراد بالآخر، نحو: قرّ واستقرّ، وعلا قرنه واستعلاه، وفي التنزيل وإذا رأوا آيةً يستسخرون [الصافات/ 14] وكذلك عجب واستعجب.
واختلفوا في تحريك الدّال وتسكينها من قوله عزّ وجلّ: على الموسع قدره وعلى المقتر قدره.
[البقرة/ 236].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر: قدره وقدره بإسكان الدال.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ وحفص عن عاصم:
قدره وقدره متحركتين.
قال أبو علي: قال أبو زيد: تقول قدر القوم أمرهم يقدرونه قدراً، وهذا قدر هذا: إذا كان مثله بجزم الدال، واحمل على رأسك قدر ما تطيق، وقدر الله الرزق يقدره.
وروى السّكّريّ: يقدره قدراً، وقدرت الشيء بالشيء. أقدره قدراً، وقدرت على الأمر أقدر قدرة وقدوراً وقدارة، ونسأل الله خير القدر.
[الحجة للقراء السبعة: 2/338]
وقال أبو الصقر: هذا قدر هذا، واحمل قدر ما تطيق.
وقال أبو الحسن: يقال: القدر والقدر، وهم يختصمون في القدر والقدر قال الشاعر:
ألا يا لقوم للنّوائب والقدر... وللأمر يأتي المرء من حيث لا يدري
وتقول: قدرت عليه الثوب؛ فأنا أقدره قدراً، لم أسمع منه بغير ذلك، وخذ منه بقدر كذا وقدر كذا لغتان، وفي كتاب الله [جلّ وعزّ] فسالت أوديةٌ بقدرها [الرعد/ 17] وبقدرها.. وعلى الموسع قدره وعلى المقتر قدره وقدره وقال تعالى: وما قدروا اللّه حقّ قدره [الأنعام/ 91]. لو حرّكت كان جائزاً، وكذلك: إنّا كلّ شيءٍ خلقناه بقدرٍ [القمر/ 49] لو خفّفت جاز، إلا أنّ رءوس الآي كلها متحرّكة، فيلزم الفتح لأن ما قبلها مفتوح.
[قال أبو علي]: قد ذكر أبو الحسن فيما حكينا عنه في غير موضع أن القدر والقدر بمعنى، وكذلك فيما حكاه أبو زيد، ألا ترى أنه قال: احمل على دابّتك قدر ما
تطيق.
وهذا قدر هذا: إذا كان مثله.
قال: وقال أبو الصقر. هذا قدر هذا، واحمل على رأسك قدر ما تطيق، فحكى الإسكان والفتح بمعنى.
[الحجة للقراء السبعة: 2/339]
وقوله تعالى: فسالت أوديةٌ بقدرها [الرعد/ 17] اتساع، والمراد في سال الوادي، وجرى النهر: جرى مياهها فحذف المضاف، وكذلك قوله تعالى: بقدرها أي: بقدر مياهها.
ألا ترى أنّ المعنى ليس على أنها سالت بقدر أنفسها؟ لأن أنفسها على حال واحدة، وإنما تكون كثرة المياه وقلّتها وشدة جريها ولينه على قدر قلّة المياه المنزّلة وكثرتها.
والأودية: واحدها واد، وهو جمع نادر في فاعل، ولا نعلم فاعلًا جاء على أفعلة، ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل وفعيل على الشيء الواحد، كعليم وعالم، وشهيد وشاهد، ووليّ ووال، ألا ترى أنهم جمعوا فاعلًا أيضاً على فعلاء في نحو: شاعر وشعراء، وفقيه وفقهاء؟ وجعلوا فاعلًا كفعيل في التكسير؟.
وقالوا: يتيم وأيتام، وأبيل وآبال، وشريف وأشراف، كما قالوا: صاحب وأصحاب وطائر وأطيار؛ فكذلك جمع واد على أودية، واللام من قولهم: واد ياء، ولا يجوز أن يكون غير ياء.
وقالوا: أودى الرجل إذا هلك؛ فهذا كقولهم: سالت نفسه، وفاضت نفسه، في قول من قاله بالضاد، وقالوا: أودى الرجل. وغيره قال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/340]
كأنّ عرق أيره إذا ودى... حبل عجوز ضفرت خمس قوى
فأما قوله:
مودون تحمون السبيل السابلا فهو مفعلون: من الأداة الذي يراد به السلاح، وليس من باب واد). [الحجة للقراء السبعة: 2/341]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائيّ وحفص {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} بفتح الدّال
وقرأ الباقون بالسّكون وحجتهم أن القدر مصدر مثل الوسع وفي معناه كقولك قدر فلان ألف درهم أي وسعه
وحجّة من فتح أن القدر أن تقدر الشّيء بالشّيء فيقال ثوبي على قدر ثوبك فكأنّه اسم التّأويل على ذي السعة ما هو قادر عليه من المتاع وعلى ذي الإقتار ما هو قادر عليه من ذلك ويقوّي هذه القراءة قوله {فسالت أودية بقدرها} وكان الفراء يذهب إلى أنّهما بمعنى واحد تقول هذا قدر هذا قدره). [حجة القراءات: 137]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (143- قوله: {تمسوهن} قرأه حمزة والكسائي بضم التاء، وبألف بعد الميم، ويمدان، وقرأ الباقون بفتح التاء، وبغير ألف، حيث وقع.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/297]
144- وحجة من قرأ بألف أنه جعل الفعل لاثنين، لأن كل واحد من الزوجين يمس الآخر بالوطء أو بالمباشرة، فبابه المفاعلة، ويجوز أن يكون «فاعل» كـ «فعل» في هذا فتكون القراءتان بمعنى، والمس من الزوج خاصة؛ لأنه الواطئ والمباشر، كما قالوا: داويت العليل وعاقبت اللص، وجاز أن يقع «فعل» و«فاعل» بمعنى، كما جاء «فعل واستفعل» قالوا: قرأ واستقرأ، وعلا قرنه واستعلاه، وعجبت واستعجبت بمعنى، ويدل على قوة القراءة بالألف أنهم أجمعوا على قوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} «المجادلة 3» فوقع الفعل لهما كذلك، هذا لما كان من كل واحد من الزوجين مماسة للآخر عند الوطء حُمل على باب المفاعلة.
145- وحجة من قرأ بغير ألف أن المس هنا يرد به الوطء، أو المباشرة، والواطئ الرجل دون المرأة، فهو فعل واحد، فبابه «فعل» لا «فاعل» وأيضًا فقد أجمعوا على ترك الألف، في قوله تعالى مخبرًا عن قول مريم رضي الله عنها: {ولم يمسسني بشر} «آل عمران 47» ولم يقل: يُماسسني، فدل ذلك على أن الفعل للزوج وحده الواطئ، وهو الاختيار؛ لأن الأكثر عليه من القراء، ولأنه أصح في المعنى المقصود إليه.
146- قوله: «قدَره، وقدْره» قرأهما ابن ذكوان وحفص وحمزة والكسائي بفتح الدال، وأسكنها الباقون وهما لغتان، قال الأخفش: القدْر والقدَر، وهم يختصمون في القدْر والقدَر، ودليل الفتح إجماعهم على الفتح في قوله: {فسالت أودية بقدرها} «الرعد 17» و{إنا كل شيء خلقناه بقدر} «القمر 49» ودليل الإسكان إجماعهم على الإسكان في قوله:
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/298]
{حق قدره} «الأنعام 91» و{لكل شيء قدرا} «الطلاق 3» و{ليلة القدر} «القدر 1» فالقراءتان متساويتان، وقد قيل: إن القدْر، بالإسكان، مصدر مثل الوُسع، والقدر الاسم مثل العدّ والعدد، والمد والمدد، وقيل: إن القدَر، بالفتح هو أن تقدر الشيء فتقول: ثوبي على قدر ثوبك، أي مثله). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/299]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (80- {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [آية/ 236 و237]:-
بالألف وضم التاء، قرأها حمزة والكسائي في الحرفين، وكذلك في الأحزاب. ووجه ذلك أن الفعل مبني على المفاعلة؛ لأنه عبارة عن فعل
[الموضح: 329]
يشملهما حكمه، ويوصف كل واحد منهما بأنه قد مس صاحبه، كما يقال: نكح الرجل المرأة ونكحته، وفي المثل: انكحيني وانظري، ثم إن فاعل أيضًا قد جاء بمعنى فعل نحو: عاقبت اللص وطارقت النعل، فيجوز أن يكون هذا منه.
وقرأ الباقون {تَمَسُّوهُنَّ} بفتح التاء من غير ألف في السورتين.
وهو الاختيار؛ لأنه قد جاء في غير هذا الموضع من القرآن بغير ألف نحو {وَلَمْ يُمْسَسْنِي بَشَرٌ} فجاء على فعل دون فاعل). [الموضح: 330]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (81- {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [آية/ 236]:-
بفتح الدال منهما، قرأها ابن عامر وحمزة والكسائي و- ص- عن عاصم.
وقرأ الباقون {قَدْرُهُ} بإسكان الدال منهما.
[الموضح: 330]
وهما لغتان بمعنى واحدٍ، وفتح الدال أعجب إلى أبي العباس أحمد بن يحيى). [الموضح: 331]
قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (من قبل أن تمسّوهنّ... (237).
قرأ حمزة والكسائي: (تماسّوهنّ) بضم التاء، وإثبات الألف.
وقرأ الباقون: (تمسّوهنّ) بغير ألف.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه قال: من قرأ (تمسوهنً) فهو الاختيار لأنا وجدنا هذا الحرف في غير موضع من الكتاب بغير ألف: (لم يمسسني بشرٌ)، وكل شيء في القرآن من هذا الباب فهو فعل الرجل في
[معاني القراءات وعللها: 1/207]
باب الغشيان. قال: وهو أحبّ إليّ من قراءة من قرأ: (ما لم تماسّوهنّ) قال: ومن قرأ: (ما لم تماسّوهنّ) اعتد بأن الفعل لهما، وأنهما يلتذّان معًا بالجماع، فهو منهما). [معاني القراءات وعللها: 1/208]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن: [أو يعفُو الذي] ساكنة الواو.
قال أبو الفتح: سكون الواو من المضارع في موضع النصب قليل، وسكون الياء فيه أكثر، وأصل السكون في هذا إنما هو للألف؛ لأنها لا تحرك أبدًا، وذلك كقولك: أريد أن تحيا، وأحب أن تسعى، ثم شُبهت الياء بالألف لقربها، فجاء عنهم مجيئًا كالمستمر، نحو قوله:
كأن أيديهن بالْمَومَاة ... أيدي جَوارٍ بِتْنَ ناعماتِ
[المحتسب: 1/125]
وقال الآخر:
كأن أيديهن بالقاع القَرِق ... أيدي جوار يتعاطين الورِق
وقال الأعشى:
إذا كان هادي الفتى في البلا ... دِ صدرُ القناة أطاع الأميرا
فيمن رواه برفع الصدر.
وقال الآخر:
حُدْبًا حَدابير من الوَخْشَنِّ ... تركنَ راعيهن مثل الشَّنِّ
وقال الآخر:
يا دار هند عفت إلا أثافيها
وقال رؤبة:
سوَّى مساحيهن تقطيط الْحُقَقْ ... تَفْليلُ ما قارعْن من سُمرِ الطُّرَق
وكان أبو العباس يذهب إلى أن إسكان هذه الياء في موضع النصب من أحسن الضرورات؛ وذلك لأن الألف ساكنة في الأحوال كلها، فكذلك جعلت هذه، ثم شبهت الواو في ذلك بالياء، فقال الأخطل:
إذا شئت أن تلهو ببعض حديثها ... رفعن، وأنزلن القطين المولَّدا
[المحتسب: 1/126]
وقال الآخر:
فما سوَّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
فعلى ذلك ينبغي أن تحمل قراءة الحسن: [أو يعفُو الذي]، فقال ابن مجاهد: وهذا إنما يكون في الوقف، فأما في الوصل فلا يكون، وقد ذكرنا ما فيه، وعلى كل حال فالفتح أعرب: {أو يعفُوَ الذي} ). [المحتسب: 1/127]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة علي -عليه السلام- وأبي رجاء وجُؤيَّة بن عائذ: [ولا تَنَاسَوُا الفضل بينكم].
قال أبو الفتح: الفرق بين تَنْسَوْا وتَنَاسَوْا أن تنسوا نَهْي عن النسيان على الإطلاق: انْسُوه أو تَنَاسَوه.
فأما تناسوا فإنه نهي عن فعلهم الذي اختاروه، كقولك: قد تغافل وتصامَّ وتناسى: إذا أظهره من فعله، وتعاطاه وتظاهر به، وأما تَفَعَّل فإنه تَعَمُّلُ الأمر وتكلفه، كقوله:
ولن تستطيع الحلم حتى تحلما
أي: حتى تَكَلَّفه.
ومثل الأول قوله:
إذا تخازَرتُ وما بي من خَزَر
فإن قيل: ومَن ذا الذي يتظاهر بنسيان الفضل؟
قيل: معناه -والله أعلم- إنكم إذا استكثرتم من هجر الفضل، وتثاقلتم عنه؛ صرتم كأنكم متعاطون لتركه، متظاهرون بنسيانه. وهذا كقولك للرجل يكثر خَطَؤُه: أنت تتحايد الصواب تَوقِّيَ، عرف به، وأنت معتمِلٌ لما لا يحسن، وإن لم يقصد هو لذلك.
[المحتسب: 1/127]
ويُحسِّن هذه القراءة: أنك إنما تنهى الإنسان عن فعله هو، والتناسي من فعله، فأما النسيان فظاهره أنه من فعل غيره به، فكانه أُنسي فنَسِيَ، قال الله سبحانه: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ}.
وزاد في حسنه شيء آخر؛ وهو أن المأمور هنا جماعة، وتفاعَلَ لائق بالجماعة؛ كتقاطعوا وتواصلوا وتقاربوا وتباعدوا. فأما قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} فلاقَ به فعل "نسي"؛ لأن المأمور هنا واحد، ولأن العرف والعادة أن الإنسان لا يكاد يُحض على ما هو حلال له؛ بل الغالب المعتاد أن يُكفَّ عما ليس له تناوله، وعليه وضع التكليف لما يُستحق عن الطاعة فيه من الثواب، قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ}، وقال: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ}، والآي في ذلك كثيرة.
فقوله إذن: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} أي: لك فيها حظ وحلال فتناوله، فلا بأس بتناول الحلال.
ولو قيل: "ولا تناس نصيبك" لكان فائدته: لا تُظهر سهوك عنه، وتتظاهر بنسيانك إياه، وذلك إذا ترك الحلال وهو في صورة الساهي عنه لم تكن له في النفوس منزلة الذي يتركه وهو عالم بحِلِّه له، وإباحته إياه، هذا هو العادة والعرف فيما يتعاطاه أهل الدنيا بينهم). [المحتسب: 1/128]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإن طلقتموهن من قبل أن تمسّوهنّ}
قرأ حمزة والكسائيّ {من قبل أن تمسّوهنّ} بضم التّاء وبالألف
[حجة القراءات: 137]
وقرأ الباقون {من قبل أن تمسّوهنّ} بفتح التّاء من مسست امرأتي وهو الجماع وحجتهم أن الرجل هو المنفرد بالمسيس ويقوّي هذه القراءة قوله في قصّة مريم {ولم يمسسني بشر} ولم يقل يماسني وجاء في الحديث أيضا إذا طلق الرجل من قبل أن يمس
وحجّة من قرأ (تماسوهن) أن المسيس وإن كان من الرجل فالمرأة مشاركة فيه وكل ماس شيئا فالممسوس ماس له وكذلك الملاقي ويقوّي هذه القراءة قوله {من قبل أن يتماسا} على إسناد الفعل إليهما). [حجة القراءات: 138]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (80- {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} [آية/ 236 و237]:-
بالألف وضم التاء، قرأها حمزة والكسائي في الحرفين، وكذلك في الأحزاب. ووجه ذلك أن الفعل مبني على المفاعلة؛ لأنه عبارة عن فعل
[الموضح: 329]
يشملهما حكمه، ويوصف كل واحد منهما بأنه قد مس صاحبه، كما يقال: نكح الرجل المرأة ونكحته، وفي المثل: انكحيني وانظري، ثم إن فاعل أيضًا قد جاء بمعنى فعل نحو: عاقبت اللص وطارقت النعل، فيجوز أن يكون هذا منه.
وقرأ الباقون {تَمَسُّوهُنَّ} بفتح التاء من غير ألف في السورتين.
وهو الاختيار؛ لأنه قد جاء في غير هذا الموضع من القرآن بغير ألف نحو {وَلَمْ يُمْسَسْنِي بَشَرٌ} فجاء على فعل دون فاعل). [الموضح: 330] (م)
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107358#post107358)
جمهرة علوم القرآن
28 محرم 1440هـ/8-10-2018م, 11:38 AM
سورة البقرة
[من الآية (238) إلى الآية (242) ]
{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}
قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}
قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وصيّةً لأزواجهم... (240).
قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر عن عاصم والكسائي ويعقوب: (وصيّةٌ) رفعا.
وقرأ الباقون: (وصيّةً) نصبا.
[معاني القراءات وعللها: 1/208]
قال أبو منصور: من قرأ (وصيّةً) أراد فليوصوا وصيّةً، ومن رفع فالمعنى فعليهم وصيّةٌ لأزواجهم، هكذا قال النحويون، والاختيار الرفع لقراءة أبيٍّ وابن مسعود: (الوصية لأزواجهم متاعًا).
قال أبو منصور: وهذا منسوخ). [معاني القراءات وعللها: 1/209]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في قوله عز وجلّ وصيّةً لأزواجهم [البقرة/ 240] في رفع الهاء ونصبها.
فقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر والكسائي:
وصيّةً لأزواجهم برفع الهاء.
وقرأ أبو عمرو وحمزة وابن عامر وحفص عن عاصم وصيّةً نصباً.
قال أبو علي: حجة من قال: وصيّةً لأزواجهم فرفع، أنه يجوز أن يرتفع من وجهين. أحدهما: أن يجعل الوصية مبتدأ والظرف خبره، وحسن الابتداء بالنكرة، لأنه موضع تحضيض، كما حسن أن يرتفع: سلام عليك، وخير بين
[الحجة للقراء السبعة: 2/341]
يديك، و «أمت في حجر لا فيك» وقوله:
لملتمس المعروف أهل ومرحب لأنها مواضع دعاء؛ فجاز فيها الابتداء بالنكرة لما كان معناها كمعنى المنصوب، والآخر: أن تضمر له خبراً فيكون قوله: لأزواجهم صفة وتقدير الخبر المضمر: فعليهم وصية لأزواجهم. ولو حمل حامل قوله تعالى: فصبرٌ جميلٌ [يوسف/ 18، 83] على هذا لأنه موضع يحضّ نفسه فيه على الصبر، كان وجهاً. ويؤكد قول من رفع أن نحوه قد جاء في التنزيل مرفوعاً، نحو قوله: فصيام ثلاثة أيّامٍ في الحجّ [البقرة/ 196]، فقوله: في الحجّ متعلق بالمصدر، وليس في موضع خبر، وقوله: فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّامٍ، ذلك كفّارة أيمانكم [المائدة/ 89] وقوله فتحرير رقبةٍ [النساء/ 92] فهذا النحو قد جاء مرفوعاً على تقدير إضمار خبر، فكذلك الآية.
[الحجة للقراء السبعة: 2/342]
ومن قرأ: وصيّةً حمله على الفعل ليوصوا وصية، ويكون قوله: لأزواجهم وصفاً كما كان في قول من أضمر الخبر كذلك.
ومن حجتهم: أن الظرف إذا تأخّر عن النكرة كان استعماله صفة أكثر، وإذا كان خبراً تقدّم على المنكّر إذا لم يكن في معنى المنصوب كقوله: ولهم أعمالٌ من دون ذلك [المؤمنون/ 63] ولدينا مزيدٌ [ق/ 35] فإذا تأخرت؛ فالأكثر فيها أن تكون صفات.
والمعنى في قوله: والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم: والذين يقاربون الوفاة، فينبغي أن يفعلوا هذا، ألا ترى أن المتوفى لا يؤمر ولا ينهى؟!. ومثل ذلك في المعتدّة: فإذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروفٍ، أو فارقوهنّ بمعروفٍ [الطلاق/ 2] المعنى في ذلك: إذا قاربن انقضاء أجلهنّ من العدّة، لأن العدّة إذا انقضت، وقعت الفرقة، ولا خيار بعد وقوع الفرقة). [الحجة للقراء السبعة: 2/343]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({والّذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا وصيّة لأزواجهم}
قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة وحفص {وصيّة} بالنّصب وقرأ الباقون بالرّفع فمن نصب أراد فليوصوا وصيّة لأزواجهم ومن رفع فالمعنى فعليهم وصيّة لأزواجهم وحجتهم أن في قراءة أبي الوصيّة لأزواجهم قال نحويو البصرة يجوز أن ترتفع من وجهين أحدهما أن تجعل الوصيّة متبدأ والظرف خبرا كما تقول سلام عليكم والآخر أن تضمن له خبرا المعنى فعليهم وصيّة لأزواجهم). [حجة القراءات: 138]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (147- قوله: {وصية} قرأها الحرميان وأبو بكر والكسائي بالرفع، ونصبها الباقون.
148- وحجة من قرأ بالنصب أنه حمله على معنى الأمر بالإيصاء لمن ذكر، وهو منسوخ، فإذا حمل على الأمر، والأمر يحتاج إلى الفعل، فأضمر الفعل فنصب «وصية» والتقدير: فليوصوا وصية، فالنصب يدل على معنى الأمر.
149- وحجة من رفعه أنه حمله على الابتداء، وجعل «لأزواجهم» الخبر، وحسن الابتداء بنكرة، لأنه موضع تخصيص، كما حسن «سلام عليك» رفع بالابتداء، ومثله: خير بين يديك، ويجوز أن ترفع «الوصية» بالابتداء، والخبر محذوف، ويكون «لأزواجهم» صفة للوصية، فيحسن الابتداء بنكرة، إذ هي موصوفة، والنكرات إذا وصفت حسن الابتداء بها، لما فيها من الفائدة، تقديره: فعليهم وصية لأزواجهم، وقد أجمعوا على الرفع في قوله تعالى: {فصبرٌ جميل} «يوسف 18» وعلى قوله: {فصيام ثلاثة أيام} «البقرة 196» وعلى قوله: {فتحرير رقبة} «النساء 92» فكل هذا رفع بالابتداء على تقدير حذف الخبر ويقوي الرفع أيضًا أنها في قراءة أبي «فمتاع لأزواجهم» وفي حرف ابن مسعود «الوصية لأزواجهم» فهذا يقوي الرفع، والرفع هو الاختيار لما ذكرنا ولأن عليه الحرميين وأبا بكر وغيرهم، وهي قراءة
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/299]
علي بن أبي طالب وقتادة ومجاهد وأصحاب ابن مسعود والأعرج وغيرهم). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/300]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (82- {وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم} [آية/ 240]:-
بالنصب، قرأها أبو عمرو وابن عامر وحمزة –ص-.
ووجه ذلك أنه محمول على الفعل، والتقدير: ليوصوا وصية، فهو مصدر قد حذف فعله، وقوله {لأَزْوَاجِهِمْ} صفة لوصية، وموضعها نصب.
وقرأ الباقون {وَصِيَّةٌ} بالرفع، وفيها وجهان:
أحدهما: أن يكون رفعًا بالابتداء، وقوله {لأزْوَاجِهِمْ} خبره، وإنما حسن الابتداء بالنكرة ههنا؛ لأن فيه معنى الأمر، فيكون المعنى كمعنى المنصوب.
والآخر: أن يكون أيضًا رفعًا بالابتداء، لكن الخبر مضمر، والتقدير: فعليهم وصية، وقوله {لأَزْوَاجِهِمْ} صفةٌ على ما تقدم). [الموضح: 331]
قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)}
قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107359#post107359)
جمهرة علوم القرآن
30 محرم 1440هـ/10-10-2018م, 09:38 AM
سورة البقرة
[من الآية (243) إلى الآية (245) ]
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)}
قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)}
قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فيضاعفه له... (245).
قرأ ابن كثير: (فيضعّفه له) بتشديد العين مرفوعًا بغير ألف، وكذلك قرأ في الحديد بالرفع، وكذلك شدد كل ما كان من هذا، كقوله: (والله يضعّف) و: (يضعّفه) و(يضعّف لها العذاب)، ونحوهن، وتابعه
[معاني القراءات وعللها: 1/209]
ابن عامرٍ ويعقوب في التشديد وحذف الألف في كل هذا، وخالفاه في الإعراب فنصبا في البقرة والحديد.
وقرأ أبو عمرو وحمزة ونافع والكسائي: (فيضاعفه) بالرفع وإثبات ألف وكذلك قرأوا في الحديد، وخففوا قوله: (والله يضاعف) بالألف، و(أضعافًا مضاعفة) وما أشبهه.
هذا في كل القرآن إلا أبا عمرو فإنه يحذف الألف في الأحزاب، ويشدد العين من قوله: (يضعّف لها العذاب ضعفين).
وقرأ عاصم (فيضاعفه) هاهنا وفي الحديد بالنصب والتخفيف، وكذلك يخفف جميع هذا ويثبت الألف.
قال أبو منصور: من قرأ (يضاعف) أو (يضعّف) فمعناهما واحد، أخبرني المنذري عن الحراني عن ابن السكيت أنه قال: تقول العرب: ضاعفت الشيء وضغفته.
ومثله: صاعر خذه وصعّره، وامرأة مناعمة ومنعّمة، وعاليت الرجل فوق البعير وعليّته.
[معاني القراءات وعللها: 1/210]
ومن قرأ بالرفع (فيضاعفه) فإن أبا العباس قال: من رفعه جعل (الذي) جزاء، وجعل الفاء منسوقة على صلة (الذي)، قال: ومن فصب (فيضاعفه) جعل جواب الاستفهام.
قال: والقراءة عندنا بالرفع، لأن فيه تأويل الجزاء، وكذلك بعض أصحابنا.
قال أبو إسحاق: من رفع (فيضاعفه) عطفه على قوله: (يقرض الله)، ومن نصب فعلى جواب الاستفهام بالفاء). [معاني القراءات وعللها: 1/211]
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (يقبض ويبسط... (245)، و: (وزاده بسطةً).
قرأ ابن كثير كل شيء في القرآن (يقبض ويبسط) و(وزاده بسطةً).
[معاني القراءات وعللها: 1/211]
في البقرة، وفي الأعراف مثله، و(المسيطرون) بالسين، وقرأ (بمصيطرٍ) بالصاد هذه وحده.
وقرأ نافع: (يقبض ويبصط) و(وزادكم في الخلق بصطةً) في الأعراف، و(المصيطرون) و(بمصيطرٍ) بالصاد في هذه الأربعة المواضع، وسائر القرآن بالسين.
وقرأ أبو عمرو وحمزة (المصيطرون) و(بمصيطر) بالصاد فيهما، وأشمهما حمزة الزاي، وسائر القراء بالسين.
وروى حفص عن عاصم (يقبض ويبسط) و(بسطة) في البقرة، و(بسطة).
في الأعراف بالسين.
[معاني القراءات وعللها: 1/212]
وقرأ ابن عامر والحضرمي (يقبض ويبسط)، و(بسطةً) في البقرة بالسين، والباقي بالصاد.
وقرأ الكسائي كل شيء في القرآن بالصاد، إلا قوله: (وزاده بسطةً) في البقرة بالسين، وهذه رواية ابن عمر ونصير.
وقال الفراء عن الكسائي: إنه قرأ كل هذا بالسين.
قال أبو منصور: العرب تجيز السين والصاد في كل حرف فيه طاء.
وأخبرني أبو بكر عن شمر لأبي عبيد أنه قال: إذا كان في الاسم طاء أو خاء أو قاف أو غين ولا يكون في غير هذه الأربعة، مثل: الصراط والزراط والسراط، والبزاق والبصاق، وسنخ الودك وزنغ، ومصدغة ومزدغة ومسدغة). [معاني القراءات وعللها: 1/213] (م)
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تشديد العين وتخفيفها ورفع الفاء ونصبها وإسقاط الألف وإثباتها من قوله جلّ وعزّ: فيضاعفه [البقرة/ 245].
فقرأ ابن كثير فيضعفه برفع الفاء من غير ألف في جميع القرآن، وفي الحديد مثله رفعاً، وكذلك: يضاعف
[الحجة للقراء السبعة: 2/343]
[البقرة/ 261]، ويضعفه [التغابن/ 17]، ومضعفة [آل عمران/ 130]، ويضعف لها [الأحزاب/ 30] ويضعف لمن يشاء [البقرة/ 261] وما أشبه ذلك، كلّه بغير ألف.
وقرأ ابن عامر: فيضعفه بغير ألف مشدّداً في جميع القرآن، ووافقه عاصم على النصب في الفاء في: فيضاعفه إلا أنه أثبت الألف في كل القرآن. وكان أبو عمرو لا يسقط الألف من ذلك كلّه في جميع القرآن إلا في سورة الأحزاب، قوله: يضعف لها العذاب فإنه بغير ألف.
وقرأ [نافع وحمزة والكسائيّ] ذلك كلّه بالألف، ورفع الفاء.
قال أبو علي: للرفع في قوله: فيضاعفه وجهان:
أحدهما: أن تعطفه على ما في الصلة، والآخر: أن تستأنفه.
فأمّا النصب في: فيضاعفه فإن الرفع أحسن منه، ألا ترى أن الاستفهام إنما هو عن فاعل الإقراض، ليس عن الإقراض؛ فإذا كان كذلك لم يكن مثل قولك: أتقرضني فأشكرك، لأن الاستفهام هنا عن الإقراض، ولهذا أجاز سيبويه الرفع في الفعل بعد حتى في قولهم: أيّهم سار حتى يدخلها، لأن المسير متيقّن غير مستفهم عنه، وإنما الاستفهام هنا
[الحجة للقراء السبعة: 2/344]
عن الفاعل، ولم يجعله بمنزلة قولك: أسرت حتى تدخلها؟ في أن الرفع لا يجوز في الفعل بعد حتى، لأنك لم تثبت سيراً في قولك: أسرت حتى تدخلها. فصار بمنزلة قولك: ما سرت حتى ادخلها، وقد أثبتّ السير في قولك: أيّهم سار حتى يدخلها.
ووجه قول ابن عامر وعاصم في النصب من فاء فيضاعفه أنه حمل الكلام على المعنى، كأنه لما كان المعنى:
أيكون قرض؟ حمل قوله: فيضاعفه على ذلك. كما أنّ من قرأ قوله: من يضلل اللّه فلا هادي له ويذرهم [الأعراف/ 186] جزم قوله ويذرهم لما كان معنى قوله:
فلا هادي له: لا يهده، ونحو ذلك مما يحمل فيه الكلام على المعنى دون اللفظ، ألا ترى أنّ يقرض ليس بمستفهم عنه؟ وإذا لم يكن مستفهما عنه بالدّلالة التي ذكرنا؛ لم يجز أن ينزّل الفعل إذا ذكرته منزلة ذكر المصدر، كما لا يجوز ذلك في الإيجاب في حال السّعة. وإذا لم يجز ذلك في الإيجاب في حال السعة كما جاز في غير الإيجاب، لم يكن للنصب مساغ، وإذا كان كذلك، حملت النصب في قوله تعالى: فيضاعفه في قول من نصب على المعنى كما تقدم ذكره.
فأمّا القول في (فيضاعف ويضعف) فكل واحد منهما في معنى الآخر، كما قال سيبويه. ومثل ذلك في أن الفعلين
[الحجة للقراء السبعة: 2/345]
بمعنى، وإن اختلف بناؤهما: قرّ واستقرّ، ومثل هذا النحو كثير). [الحجة للقراء السبعة: 2/346]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في السين والصاد من ويبسط [البقرة/ 245] وبسطةً [البقرة/ 247] والمصيطرون [الطور/ 37] وبمصيطرٍ [الغاشية/ 22].
فقرأ ابن كثير يقبض ويبسط، وبسطةً وفي الأعراف:
بسطة [الآية/ 69]، والمسيطرون كل ذلك بالسين.
وبمصيطرٍ بالصاد، وكذلك أخبرني قنبل.
وقرأ نافع: يقبض ويبصط وبصطة في سورة الأعراف والمصيطرون، وبمصيطرٍ أربعة أحرف بالصاد، وسائر القرآن بالسين.
وقال الحلواني عن قالون عن نافع: لا تبالي كيف قرأت: بصطة ويبسط بالصاد أو بالسين. [أبو قرة عن نافع: ويبسط بالسين].
وقال حفص عن عاصم في الأعراف: بسطة ويبسط في البقرة بالسين.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ: يقبض ويبسط وبسطةً وفي الأعراف بسطة بالسين.
وقرءوا: المصيطرون وبمصيطرٍ بالصاد. وأشمّ حمزة الصاد الزاي فيهما.
[الحجة للقراء السبعة: 2/346]
وذكر الفرّاء عن الكسائيّ أنه قرأ ذلك كلّه بالسين بسطةً وبمسيطر والمسيطرون ويبسط.
وقال أصحاب أبي الحارث وأبي عمر الدوري وغيرهما عن الكسائي: بالصاد، إلا بسطةً في البقرة، فإنها بالسين، وكذلك قال نصر بن يوسف عن الكسائي فيما زعم محمد بن إدريس الدنداني عنه.
وقال أصحاب عاصم: بالصاد، وليس في كتابي ذلك عن يحيى عن أبي بكر. ولم يختلفوا في التي في سورة البقرة أنها بالسّين.
[قال أبو علي]: وجه قول من أبدل من السين الصاد في هذه المواضع أن الطّاء حرف مستعل يتصعّد من مخرجها إلى الحنك، ولم يتصعّد السين تصعّدها فكره التصعّد من التسفّل، فأبدل من السين حرفاً من مخرجها في تصعّد الطاء؛ فتلاءم الحرفان وصار كلّ واحد منهما وفق صاحبه في التصعّد، فزال بالإبدال ما كان يكره من التصعد عن التسفّل، ولو كان اجتماع الحرفين على عكس ما ذكرنا، وهو أن يكون التصعّد قبل التسفّل؛ لم يكره، ولم يبدلوا، ألا ترى أنهم قالوا: طمس الطريق وطسم، وقسوت وقست، فلم يكرهوا التسفّل عن تصعّد، كما كرهوا: بسط، حتى قالوا: بصط؛ فأبدلوا.
[الحجة للقراء السبعة: 2/347]
ومثل ذلك قولهم: هذا مارق وحاذق، فلم يميلوا، لأنهم كرهوا أن يتسفّلوا بالإمالة، ثم يتصعّدوا بالحرف المستعلي، كما كرهوا أن يتسفلوا بالسين ثم يتصعّدوا إلى الطاء، ولو قالوا: مررت بطارد وما أنا بطارد المؤمنين [الشعراء/ 114] وهذا صاحب قادر؛ لم يكرهوا الإمالة، لأنه يتسفّل بعد تصعّد، والتسفّل بعد التصعّد أسهل من التصعّد بعد التسفّل، كذلك القول في بسطةً وطسم [الشعراء/ 1].
فأمّا إشمام حمزة الصاد الزاي: فلأنه آثر أن يوفّق بين الحرفين من وجه آخر غير ما ذكرنا، وهو أن السين مهموسة، والطاء مجهورة، فضارع بالسين حرفاً مجهوراً في موضع السين، وهو الزاي، ليوافق الطاء أيضاً في الجهر كما وافقه الصاد في الإطباق، فوفّق بين الحرفين من موضعين، كما فعل ذلك في قوله: الصّراط وقد تقدّم ذكر ذلك حيث ذكرنا الصّراط.
فأمّا من لم يبدل السين في بسطة، وترك السين، فلأنه أصل الكلمتين، ولأنّ ما بين الحرفين من الخلاف يسير.
فاحتمل الخلاف لقلّته، ولأن هذا النحو من الخلاف لقلّته غير معتدّ به، ألا ترى أنّ الحرفين المتقاربين، قد يقعان في رويّ، فيستجيزون ذلك كما يستجيزونه في المثلين، كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/348]
إذا ركبت فاجعلوني وسطا إني كبير لا أطيق العنّدا فكما جعل الدّال مثل الطاء في جمعهما في حرف الرويّ، ولم يحفل بما بينهما من الخلاف في الإطباق، كذلك لم يحفل بما بين السين والطاء، فلم يقرّبها منها كما فعل الآخرون). [الحجة للقراء السبعة: 2/349] (م)
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({من ذا الّذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون}
قرأ ابن كثير (فيضعفه) بالرّفع والتّشديد
[حجة القراءات: 138]
وقرأ ابن عامر (فيضعفه) بالنّصب والتّشديد
وقرأ عاصم {فيضاعفه} بالنّصب والألف
وقرأ الباقون بالألف والرّفع
من رفع عطف على {يقرض الله} ومن نصب نصب على جواب الإستفهام كما تقول نم يزورني فأكرمه وحجّة التّشديد أن المعنى فيها تكرير الفعل وزيادة الضعف على الواحد إلى ما لا نهاية له جاء في التّفسير الله عز وجل يضعف له أضعافا كثيرة بالواحد سبعمائة
وحجّة التّخفيف قالوا إن أمر الله أسرع من تكرير الفعل إنّما هو كن فكان قال الكسائي المعنى فيهما واحد ضعف وضاعف
قرأ نافع والكسائيّ وأبو بكر (يقبض ويبصط) بالصّاد وقرأ الباقون بالسّين وحجتهم أن السّين هو الأصل وقالوا لا ينتقل عن الأصل إلى ما ليس بأصل
وحجّة من قرأ بالصّاد أن الصّاد هي أخت الطّاء فقلبوا السّين صادا ليكون اللّسان من جهة واحدة). [حجة القراءات: 139]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (150- قوله: {فيضاعفه} قرأ ابن كثير وابن عامر بغير ألف مشددًا، حيث وقع، ومثله «يضاعف، ومضافعة» وقرأ الباقون بالألف مخففًا، وقرأ ابن عامر وعاصم بالنصب، ههنا، وفي الحديد، ورفعهما الباقون.
151- وحجة من شدد، وحذف الألف أنه حمله على الكثير؛ لأن «فعلت» مشدد العين بابه تكثير الفعل، وتقول «غلّقت الأبواب» إذا فعلت ذلك شيئًا بعد شيء، و«غلقت الأبواب» إذا فعلت ذلك مرة واحدة، وكذلك «فتَّحت وفتَحت».
152- وحجة من خفف، وأثبت الألف، أن أبا عمرو حكى أن «ضاعفت» أكثر من «ضعَّفت» لأن «ضعَّفت» معناه مرتين، وحكى أن العرب تقول: ضعَّفت درهمك، أي جعلته درهمين، وتقول: ضاعفته أي جعلته أكثر من درهمين، والله يعطي بالحسنة عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فـ «ضاعفت» أولى به لكثر المضاعفة.
153- وحجة من نصب أنه حمل الكلام على المعنى، فجعله جوابًا للشرط؛ لأن معنى «من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له».
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/300]
أن يكون قرض تبعه أضعاف، فحمل «فيضاعفه» على المصدر، فعطف على «القرض» و«القرض» اسم، فأضمر «أن» ليكون مع «فيضاعفه» مصدرًا، فتعطف مصدرًا على مصدر، كأنك قلت: إن حدث قرض فأضعاف يتبعه، ويقبح أن يحمل النصب على جواب الاستفهام بالفاء؛ لأن القرض غير مستفهم عنه، إنما وقع الاستفهام عن صاحب القرض، ألا ترى أنك إذا قلت: أتقرضني فأشكرك، نصبت الجواب، لأن الاستفهام عن القرض وقع، ولو قلت: أزيد يقرضني فأشكره، لم تنصب الجواب؛ لأن الاستفهام إنما هو عن زيد لا عن القرض، ولهذا المعنى أجاز سيبويه الرفع في الفعل بعد حتى في قولك: أيهم سار حتى يدخلها، لأن السير متيقن غير مستفهم عنه، إنما الاستفهام عن الفاعل، ولم تجعله بمنزلة قولك: أسرت حتى تدخلها، في أن الرفع لا يجوز في الفعل؛ لأنك في هذا لم تثبت سيرًا، فصار بمنزلة قولك: ما سرت حتى أدخلها، وقد أجاز قوم نصبه على جواب الاستفهام حملًا على المعنى؛ لأن قولك: من ذا الذي يقرض الله، وكذلك: إذا قلت أزيدٌ يقرضني معناه: أيقرضني زيدٌ، فحمل على المعنى، فنصب على جواب الاستفهام وفيه بعد.
154- وحجة من رفعه أنه قطعه مما قبله، ولم يدخله في صلة «الذي» في قولك: من ذا الذي يقرض الله فالله يضاعفه له، ويجوز أن يرفع في العطف على ما في الصلة على «يقرض» على تقدير: من ذا الذي يقرض الله فيضاعف الله له، كأنه قال: ومن ذا الذي يضاعف له، أي: من الذي يستحق الإضعاف في الأجر على قرضه الله، أي على صدقته، والرفع هو الاختيار لقوته في المعنى، ولأن الجماعة عليه ولما ذكرنا من حجته). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/301]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (155- قوله: {يبسُط} و{وبسَطة} في «الأعراف 69» قرأهما هشام وقنبل وأبو عمرو وحمزة بالسين فيهما، وقرأهما الباقون بالصاد غير أن حفصًا، روي عنه الوجهان: السين والصاد، وكلهم قرأ: {بسطة} في البقرة بالسين، غير أن الكسائي ونافعًا، من رواية ابن المسيبي، روى عنهما الصاد فيه، وبالسين قرأتُ لهما وللجماعة.
156- وحجة من قرأ بالسين أنه الأصل، والدليل على أن السين هي الأصل أنه لابد أن تكون السين هي الأصل أو الصاد هي الأصل، فلو كانت الصاد هي الأصل ما جاز أن ترد إلى السين؛ إذ لا علة توجب ذلك، وإذ لا ينقل الحرف إلى أضعف منه، والصاد أقوى بكثير لإطباقها واستعلائها، فإذا لم يجز أن ترد الصاد إلى السين، وجاز رد السين إلى الصاد، علم أن السين هي الأصل، والصاد داخلة عليها لعلة.
157- وحجة من قرأ بالصاد أن السين حرف مستفل، غير مطبق، فلما وقعت بعده الطاء، وهي مطبقة مستعلية، صعب أن يخرج اللافظ من تسفل إلى تصعد، وذلك صعب، ولو كان فيه خروج من تصعد إلى تسفل لحسن، ولم يصعب، نحو: «طسم، وقسوة» فهذا لا تبدل السين فيه صادًا، كما تبدل، إذا كانت الطاء بعدها، والقاف بعد صاد، وهذا في الحكم بمنزلة الذين أمالوا الحروف ليقربوها لكسرة أو لياء، ومن قرأ بالسين فهو بمنزلة الذين لم يميلوا، وتركوا الحروف على حالها مفتوحة، فقربت السين من الطاء، فأبدل منها حرف يؤاخي السين في المخرج والصغير، ويؤاخي الطاء في الإطباق والاستعلاء،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/302]
وهو الصاد، فكأن السين التي هي الأصل لم تزل، إذ قد خلفها حرف من مخرجها، ومن صنفها في الصفير، فعمل اللسان بذلك عملًا واحدًا، متصعدًا، منطبقًا بالحرفين معًا، والصاد هو الاختيار، للمطابقة في اللفظ والمجانسة بين الحرفين، ولأن عليه خط المصحف ولأن عليه أكثر القراء وقال أبو حاتم: هما لغتان، فكيف قرأت فأنت مصيب، واختار في ذلك أن يتبع خط المصحف). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/303] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (83- {فَيُضَاعِفَهُ} [آية/ 245]:-
بالتشديد من غير ألف، قرأها ابن كثير وابن عامر ويعقوب، وكذلك في الحديد، وكذلك {يضعِّف} و{يُضعّفها} و{مضَعَّفَة} في جميع القرآن.
و {نُضَعِّف} في الأحزاب بالتشديد وبالنون، وبنصب {العذاب} عن ابن كثير وابن عامر.
وقرأ الباقون بالألف والتخفيف في جميع القرآن، غير أبي عمرو في الأحزاب، فإنه شددها كيعقوب.
والوجه في القراءتين أنهما لغتان جيدتان، تقول العرب: ضاعفت الشيء وضعفته، وعاليت الرحل وعليته، قال:
16- عاليت أنساعي وظهر الكور
[الموضح: 332]
وباعدت بين الشيئين وبعدت، قال تعالى {ربنا باعد بين أسفارنا}، وصاعر خده وصعره.
وأما إعراب الكلمة، فإن ابن عامر وعاصمًا ويعقوب قد نصبوها ههنا وفي الحديد.
ووجه ذلك أن الكلام في هذه القراءة حمل على المعنى، وهو يكون قرض فيضاعفه، وليس اللفظ على ذلك؛ لأن القرض ليس بمستفهم عنه، وإنما الاستفهام عن صاحب القرض، وهو قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ الله}، وإذا لم يكن القرض مستفهمًا عنه لم يتقرر فيه معنى المصدر، فيحمل الجواب عليه، ألا ترى أنه لا يمكنك أن تقدر: أيقع قرض فتضعيف؟ إذا كان الاستفهام عن المقرض، فيحتاج لا محالة إلى حمل الكلام على المعنى، وتقديره على ما تقدم وهو: أيكون قرض فيضاعفه؟ بالنصب على الجواب على الاستفهام على إضمار أن بعد الفاء فيكون التقدير: أيكون قرض فأن يضاعفه، ثم إن أن مع الفعل في معنى المصدر، كأنك قلت: أيكون قرض فتضعيف؟، ومع ذلك فالرفع أحسن.
[الموضح: 333]
وقرأ الباقون بالرفع، وله وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوفًا على قول {يُقْرِض} الذي هو في صلة {الذي} والتقدير: يقرض فيضاعف.
والثاني: أن يكون مستأنفًا، والتقدير: وهو يضاعفه، فيكون هو مبتدأ، ويضاعفه جملة هي خبر المبتدأ). [الموضح: 334]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (84- {وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [آية/ 245]، {وَزَادَهُ بَسْطَةً} [آية/ 247]:-
بالسين، وكذلك في الأعراف، قرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم –ياش- بالسين، ومصيطر والمصيطر بالصاد، وحمزة بإشمام الزاي في الجميع، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي ويعقوب –ح- بالصاد في الأحرف الأربعة إلا في سورة البقرة {بَسْطَة} فإنهم قرءوها بالسين، و- يس- عن يعقوب بالسين في {يَبْسُط} أيضًا في البقرة.
أما من قرأ جميع ذلك بالسين؛ فلأنه أصل الكلمة، ولأن الخلاف بين الحرفين أعني السين والطاء يسير، وإن كان في السين تسفل وفي الطاء استعلاء، فاحتملوا هذا الخلاف لقلته؛ لأنها بمنزلة ما لا يعتد به.
وأما من قرأ بالصاد فلكراهة التصعد بالطاء بعد التسفل بالسين، فأبدلوا من السين حرفًا هو يتجانس للطاء في التصعد وهو الصاد، ليتوافق الحرفان، ولو كانت السين بعد الحرف المستعلي لم يكره نحو: قسوت وقست وطمس
[الموضح: 334]
الطريق وطسم؛ لأنهم لم يكرهوا التسفل بعد التصعد، وإنما كرهوا التصعد بعد التسفل.
وأما إشمام حمزة؛ فإنه أراد أن يوافق بين الحرفين من وجهٍ آخر، وهو من جهة الهمس والجهر؛ لأن السين مهموسة، والطاء مجهورة، فتخالفا، فأراد الموافقة بينهما، فضارع بالسين حرفًا مجهورًا وهو الزاي ليتوافقا). [الموضح: 335] (م)
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107360#post107360)
جمهرة علوم القرآن
30 محرم 1440هـ/10-10-2018م, 09:38 AM
سورة البقرة
[من الآية (246) إلى الآية (248) ]
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (هل عسيتم... (246).
قرأ نافع وحده: (عسيتم) بكسر السين في الصورتين، وقرأ يعقوب ها هنا: (عسيتم) بفتح السين، وفي سورة القتال: (عسيتم).
وسائر، القراء قرأوا: (عسيتم).
وهي القراءة المختارة، واتفق أهل اللغة على أن كسر السين ليس بجيد، وأنا أحسبها لغة لبعض العرب وإن كرهها الفصحاء). [معاني القراءات وعللها: 1/214]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (34- وقوله تعالى: {قال هل عسيتم إن كتب عليكم}
قرأ نافع وحده: (عسيتم) بكسر السين.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/95]
وقرأ الباقون بفتحها، وهو الاختيار؛ لإجماع الجميع على قوله تعالى: {عسى ربكم أن يرحمكم} ولم يقل: عسى. والعرب تقول: عسى زيد أن يقوم، وأن مع الفعل مصدر ولم يقل عسى القيام؛ لأن المصدر يدل على الماضي والمستقبل، فيقول على لفظ الاستقبال؛ لأن الترجي لا يكون إلا مستقبلا، فأما قول العرب: «عسى الغوير أبؤسًا» فقال سيبويه: عسى هاهنا بمعنى كان. وقال أبو عبيد: الغوير تصغير غار، وأبؤس جمع بأس، وكان قوم في غار فتهدم عليهم، فضربت العرب بذلك مثلاً فقالت: «عسى الغوير» أخفى لنا أبؤسًا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/96]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في كسر السين وفتحها من عسيتم [البقرة/ 246].
فقرأ نافع: هل عسيتم بكسر السين في الموضعين، وفتح الباقون السين من عسيتم
[الحجة للقراء السبعة: 2/349]
[قال أبو عليّ]: (عسيت): الأكثر فيه فتح السين وهي المشهورة.
ووجه قول نافع: أنهم قد قالوا: هو عس بذاك، وما أعساه، وأعس به، حكاه ابن الأعرابي، فقولهم: عس. يقوي قراءته: هل عسيتم، ألا ترى أن عس مثل حر وشج؟
وحر وحريّ مثل: مذل ومذيل، وطبّ وطبيب. وقد جاء فعل وفعل في نحو: نقمت ونقمت، وقالوا: وري الزّند، وقالوا:
وريت بك زنادي؛ فاستعملوا فعل في هذا الحرف، فيما قاله أبو عثمان، فكذلك عسيت وعسيت.
فإن أسند الفعل إلى ظاهر، فقياس عسيتم أن تقول: عسي زيد، مثل رضي، فإن قاله فهو قياس قوله، وإن لم يقله فسائغ له أن يأخذ باللغتين فيستعمل إحداهما في موضع، والأخرى في موضع آخر، كما فعل ذلك غيره). [الحجة للقراء السبعة: 2/350]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي عبد الرحن السلمي: [ألم تَرْ إلى الملأ] ساكنة الراء.
قال أبو الفتح: هذا لعمري هو أصل الحرف: رأَى يرأَى كرعَى يرعَى، إلا أن أكثر لغات العرب فيه تخفيف همزته؛ بحذفها وإلقاء حركتها على الراء قبلها على عبرة التخفيف في نحو ذلك، وصار حرف المضارعة كأنه بدل من الهمزة، وهو قولهم: انت ترى وهو يرى ونحن نرى، وكذلك أفعل منه، كقول الله سبحانه: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} وأصله: أَرْآك الله، وحكاها صاحب الكتاب عن أبي الخطاب، ثم إنه قد جامع هذا تحقيق هذه الهمزة وإخراجها على أصلها، وذلك كقول سراقة البارقي:
أُرِي عينيَّ ما لم تَرْأَيَاه ... كلانا عالم بالتُّرَّهَات
[المحتسب: 1/128]
فخفف أري، وحقق ترأياه كقولك: تَرْعَيَاه، ورواه أبو الحسن ترياه على زحاف الوافر، وأصله "ترأياه" على أن مفاعلَتن لحقها العصب بسكون لامها؛ فنقلت إلى مفاعي لن، ورواية أبي الحسن: "بما لم تَـ" مفاعيل؛ فصار الجزء بعد العصب إلى النقص.
وقرأت على أبي علي في نوادر أبي زيد:
ألم تَرءَ ما لاقيت والدهر أعصر ... ومَن يَتَمَلَّ العيش يرء ويسمع
فأخرجه على أصله. وقرأت عليه عنه أيضًا:
هل ترجعَنَّ ليال قد مضَين لنا ... والعيشُ منقلب إذ ذاك أفنانا
إذ نحن في غرة الدنيا وبهجتها ... والدار جامعة أزمان أزمانا
ثم استمر بها شَيْحانُ مبتجِحٌ ... بالبين عنك بما يَرْآك شَنْآنا
وقال آخر، وقرأته على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى فيما أظن:
ألا تلك جارتنا بالغضا ... تقول أَتَرأَينَه لن يضيعَا
وله نظائر مما خرج من هذا الأصل على أولية حاله). [المحتسب: 1/129]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا} 246
قرأ نافع {هل عسيتم} بكسر السّين وقرأ الباقون بالفتح هما لغتان تقول العرب عسيت أن أفعل وعسيت قال أبو عبيد
[حجة القراءات: 139]
القراءة عندنا هي الفتح لأنّها أعرف اللغتين ولو كان عسيتم لقرئت عسي ربنا وما اختلفوا في هذا الحرف وقد حكي عن أبي عمرو أنه كان يحتج بهذه الحجّة). [حجة القراءات: 140]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (158- قوله: {عسيتم} قرأه نافع بكسر السين وفتحها الباقون، والكسر لغة في «عسى» إذا اتصل بمضمر خاصة، وقد حُكي في اسم الفاعل «عسى» فهذا يدل على كسر السين في الماضي، والفتح في السين هي اللغة الفاشية، وعليها أجمع القراء ونافع معهم، إذا لم يتصل الفعل بمضمر، وأيضًا فإن مساواة الفعل، مع المضمر والمظهر أولى من المخالفة بينهما؛ لأن المضمر عقيب المظهر، فواجب أن يكون مثله، وهو الاختيار لإجماع القراء عليه مع المضمر والمظهر، وإنما خالفهم نافع وحده مع المضمر، وقد قال أبو حاتم: ليس للكسر وجه، وبه قرأ الحسن وطلحة). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/303]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (85- {هَلْ عَسَيْتُمْ} [آية/ 246]:-
بكسر السين، قرأها نافع وحده، وكذلك في سورة القتال.
ووجه ذلك أن العرب تقول: هو عسٍ بذاك، مثل شجٍ وحرٍ، فكما أن قولك شجٍ من شجيت، فكذلك عسٍ من عسيت، ثم إن فعلت وفعلت يجيئان لغتين لمعنى واحد مثل: نقمت ونقمت ووري الزند وورى، فكذلك عسيت وعسيت.
وقرأ الباقون {عَسيْتُمْ} بفتح السين.
وهي المختارة؛ لأن اللغة الفصيحة المشهورة وهي {عَسَيْتُ} بالفتح، وعسيت بالكسر لغة رديئة يكرهها الفصحاء، وإن كانت لغة لبعض العرب). [الموضح: 335]
قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (يقبض ويبسط... (245)، و: (وزاده بسطةً).
قرأ ابن كثير كل شيء في القرآن (يقبض ويبسط) و(وزاده بسطةً).
[معاني القراءات وعللها: 1/211]
في البقرة، وفي الأعراف مثله، و(المسيطرون) بالسين، وقرأ (بمصيطرٍ) بالصاد هذه وحده.
وقرأ نافع: (يقبض ويبصط) و(وزادكم في الخلق بصطةً) في الأعراف، و(المصيطرون) و(بمصيطرٍ) بالصاد في هذه الأربعة المواضع، وسائر القرآن بالسين.
وقرأ أبو عمرو وحمزة (المصيطرون) و(بمصيطر) بالصاد فيهما، وأشمهما حمزة الزاي، وسائر القراء بالسين.
وروى حفص عن عاصم (يقبض ويبسط) و(بسطة) في البقرة، و(بسطة).
في الأعراف بالسين.
[معاني القراءات وعللها: 1/212]
وقرأ ابن عامر والحضرمي (يقبض ويبسط)، و(بسطةً) في البقرة بالسين، والباقي بالصاد.
وقرأ الكسائي كل شيء في القرآن بالصاد، إلا قوله: (وزاده بسطةً) في البقرة بالسين، وهذه رواية ابن عمر ونصير.
وقال الفراء عن الكسائي: إنه قرأ كل هذا بالسين.
قال أبو منصور: العرب تجيز السين والصاد في كل حرف فيه طاء.
وأخبرني أبو بكر عن شمر لأبي عبيد أنه قال: إذا كان في الاسم طاء أو خاء أو قاف أو غين ولا يكون في غير هذه الأربعة، مثل: الصراط والزراط والسراط، والبزاق والبصاق، وسنخ الودك وزنغ، ومصدغة ومزدغة ومسدغة). [معاني القراءات وعللها: 1/213] (م)
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في السين والصاد من ويبسط [البقرة/ 245] وبسطةً [البقرة/ 247] والمصيطرون [الطور/ 37] وبمصيطرٍ [الغاشية/ 22].
فقرأ ابن كثير يقبض ويبسط، وبسطةً وفي الأعراف:
بسطة [الآية/ 69]، والمسيطرون كل ذلك بالسين.
وبمصيطرٍ بالصاد، وكذلك أخبرني قنبل.
وقرأ نافع: يقبض ويبصط وبصطة في سورة الأعراف والمصيطرون، وبمصيطرٍ أربعة أحرف بالصاد، وسائر القرآن بالسين.
وقال الحلواني عن قالون عن نافع: لا تبالي كيف قرأت: بصطة ويبسط بالصاد أو بالسين. [أبو قرة عن نافع: ويبسط بالسين].
وقال حفص عن عاصم في الأعراف: بسطة ويبسط في البقرة بالسين.
وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائيّ: يقبض ويبسط وبسطةً وفي الأعراف بسطة بالسين.
وقرءوا: المصيطرون وبمصيطرٍ بالصاد. وأشمّ حمزة الصاد الزاي فيهما.
[الحجة للقراء السبعة: 2/346]
وذكر الفرّاء عن الكسائيّ أنه قرأ ذلك كلّه بالسين بسطةً وبمسيطر والمسيطرون ويبسط.
وقال أصحاب أبي الحارث وأبي عمر الدوري وغيرهما عن الكسائي: بالصاد، إلا بسطةً في البقرة، فإنها بالسين، وكذلك قال نصر بن يوسف عن الكسائي فيما زعم محمد بن إدريس الدنداني عنه.
وقال أصحاب عاصم: بالصاد، وليس في كتابي ذلك عن يحيى عن أبي بكر. ولم يختلفوا في التي في سورة البقرة أنها بالسّين.
[قال أبو علي]: وجه قول من أبدل من السين الصاد في هذه المواضع أن الطّاء حرف مستعل يتصعّد من مخرجها إلى الحنك، ولم يتصعّد السين تصعّدها فكره التصعّد من التسفّل، فأبدل من السين حرفاً من مخرجها في تصعّد الطاء؛ فتلاءم الحرفان وصار كلّ واحد منهما وفق صاحبه في التصعّد، فزال بالإبدال ما كان يكره من التصعد عن التسفّل، ولو كان اجتماع الحرفين على عكس ما ذكرنا، وهو أن يكون التصعّد قبل التسفّل؛ لم يكره، ولم يبدلوا، ألا ترى أنهم قالوا: طمس الطريق وطسم، وقسوت وقست، فلم يكرهوا التسفّل عن تصعّد، كما كرهوا: بسط، حتى قالوا: بصط؛ فأبدلوا.
[الحجة للقراء السبعة: 2/347]
ومثل ذلك قولهم: هذا مارق وحاذق، فلم يميلوا، لأنهم كرهوا أن يتسفّلوا بالإمالة، ثم يتصعّدوا بالحرف المستعلي، كما كرهوا أن يتسفلوا بالسين ثم يتصعّدوا إلى الطاء، ولو قالوا: مررت بطارد وما أنا بطارد المؤمنين [الشعراء/ 114] وهذا صاحب قادر؛ لم يكرهوا الإمالة، لأنه يتسفّل بعد تصعّد، والتسفّل بعد التصعّد أسهل من التصعّد بعد التسفّل، كذلك القول في بسطةً وطسم [الشعراء/ 1].
فأمّا إشمام حمزة الصاد الزاي: فلأنه آثر أن يوفّق بين الحرفين من وجه آخر غير ما ذكرنا، وهو أن السين مهموسة، والطاء مجهورة، فضارع بالسين حرفاً مجهوراً في موضع السين، وهو الزاي، ليوافق الطاء أيضاً في الجهر كما وافقه الصاد في الإطباق، فوفّق بين الحرفين من موضعين، كما فعل ذلك في قوله: الصّراط وقد تقدّم ذكر ذلك حيث ذكرنا الصّراط.
فأمّا من لم يبدل السين في بسطة، وترك السين، فلأنه أصل الكلمتين، ولأنّ ما بين الحرفين من الخلاف يسير.
فاحتمل الخلاف لقلّته، ولأن هذا النحو من الخلاف لقلّته غير معتدّ به، ألا ترى أنّ الحرفين المتقاربين، قد يقعان في رويّ، فيستجيزون ذلك كما يستجيزونه في المثلين، كقوله:
[الحجة للقراء السبعة: 2/348]
إذا ركبت فاجعلوني وسطا إني كبير لا أطيق العنّدا فكما جعل الدّال مثل الطاء في جمعهما في حرف الرويّ، ولم يحفل بما بينهما من الخلاف في الإطباق، كذلك لم يحفل بما بين السين والطاء، فلم يقرّبها منها كما فعل الآخرون). [الحجة للقراء السبعة: 2/349] (م)
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (155- قوله: {يبسُط} و{وبسَطة} في «الأعراف 69» قرأهما هشام وقنبل وأبو عمرو وحمزة بالسين فيهما، وقرأهما الباقون بالصاد غير أن حفصًا، روي عنه الوجهان: السين والصاد، وكلهم قرأ: {بسطة} في البقرة بالسين، غير أن الكسائي ونافعًا، من رواية ابن المسيبي، روى عنهما الصاد فيه، وبالسين قرأتُ لهما وللجماعة.
156- وحجة من قرأ بالسين أنه الأصل، والدليل على أن السين هي الأصل أنه لابد أن تكون السين هي الأصل أو الصاد هي الأصل، فلو كانت الصاد هي الأصل ما جاز أن ترد إلى السين؛ إذ لا علة توجب ذلك، وإذ لا ينقل الحرف إلى أضعف منه، والصاد أقوى بكثير لإطباقها واستعلائها، فإذا لم يجز أن ترد الصاد إلى السين، وجاز رد السين إلى الصاد، علم أن السين هي الأصل، والصاد داخلة عليها لعلة.
157- وحجة من قرأ بالصاد أن السين حرف مستفل، غير مطبق، فلما وقعت بعده الطاء، وهي مطبقة مستعلية، صعب أن يخرج اللافظ من تسفل إلى تصعد، وذلك صعب، ولو كان فيه خروج من تصعد إلى تسفل لحسن، ولم يصعب، نحو: «طسم، وقسوة» فهذا لا تبدل السين فيه صادًا، كما تبدل، إذا كانت الطاء بعدها، والقاف بعد صاد، وهذا في الحكم بمنزلة الذين أمالوا الحروف ليقربوها لكسرة أو لياء، ومن قرأ بالسين فهو بمنزلة الذين لم يميلوا، وتركوا الحروف على حالها مفتوحة، فقربت السين من الطاء، فأبدل منها حرف يؤاخي السين في المخرج والصغير، ويؤاخي الطاء في الإطباق والاستعلاء،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/302]
وهو الصاد، فكأن السين التي هي الأصل لم تزل، إذ قد خلفها حرف من مخرجها، ومن صنفها في الصفير، فعمل اللسان بذلك عملًا واحدًا، متصعدًا، منطبقًا بالحرفين معًا، والصاد هو الاختيار، للمطابقة في اللفظ والمجانسة بين الحرفين، ولأن عليه خط المصحف ولأن عليه أكثر القراء وقال أبو حاتم: هما لغتان، فكيف قرأت فأنت مصيب، واختار في ذلك أن يتبع خط المصحف). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/303] (م)
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (84- {وَالله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [آية/ 245]، {وَزَادَهُ بَسْطَةً} [آية/ 247]:-
بالسين، وكذلك في الأعراف، قرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم –ياش- بالسين، ومصيطر والمصيطر بالصاد، وحمزة بإشمام الزاي في الجميع، وقرأ نافع وابن عامر والكسائي ويعقوب –ح- بالصاد في الأحرف الأربعة إلا في سورة البقرة {بَسْطَة} فإنهم قرءوها بالسين، و- يس- عن يعقوب بالسين في {يَبْسُط} أيضًا في البقرة.
أما من قرأ جميع ذلك بالسين؛ فلأنه أصل الكلمة، ولأن الخلاف بين الحرفين أعني السين والطاء يسير، وإن كان في السين تسفل وفي الطاء استعلاء، فاحتملوا هذا الخلاف لقلته؛ لأنها بمنزلة ما لا يعتد به.
وأما من قرأ بالصاد فلكراهة التصعد بالطاء بعد التسفل بالسين، فأبدلوا من السين حرفًا هو يتجانس للطاء في التصعد وهو الصاد، ليتوافق الحرفان، ولو كانت السين بعد الحرف المستعلي لم يكره نحو: قسوت وقست وطمس
[الموضح: 334]
الطريق وطسم؛ لأنهم لم يكرهوا التسفل بعد التصعد، وإنما كرهوا التصعد بعد التسفل.
وأما إشمام حمزة؛ فإنه أراد أن يوافق بين الحرفين من وجهٍ آخر، وهو من جهة الهمس والجهر؛ لأن السين مهموسة، والطاء مجهورة، فتخالفا، فأراد الموافقة بينهما، فضارع بالسين حرفًا مجهورًا وهو الزاي ليتوافقا). [الموضح: 335] (م)
قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آَيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آَلُ مُوسَى وَآَلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قال أبو بكر بن مجاهد: {التابوت} بالتاء قراءة الناس جميعًا، ولغة للأنصار "التابوه" بالهاء.
قال أبو الفتح: أما ظاهر الأمر، فأن يكون هذان الحرفان من أصلين؛ أحدهما: تَ بَ ت، والآخر: ت ب هـ، ثم من بعد هذا فالقول أن الهاء في "التابوه" بدل من التاء في "التابوت"، وجاز ذلك لما أذكره: وهو أن كل واحد من التاء والهاء حرف مهموس، ومن حروف الزيادة في غير هذا الموضع، وأيضًا فقد أبدلوا الهاء من التاء التي للتأنيث في الوقف، فقالوا: حمزهْ،
[المحتسب: 1/129]
وطلحهْ، وقائمهْ، وجالسهْ، وذلك منقاد مطرد في هذه التاء عند الوقف، ويؤكد هذا أن عامة عُقيل فيما لا نزال نتلقاه من أفواهها تقول في الفرات: الفراه، بالهاء في الوصل والوقف.
وزاد في الأُنس بذلك أنك ترى التاء في الفرات تشبه في اللفظ تاء فتاة وحصاة وقطاة، فلما وقف وقد أشبه الآخِر الآخر أبدل التاء هاء، ثم جرى على ذلك في الوصل؛ لأنه لم يكن البدل عن استحكام العلة علة، فيُراعى حال الوقف من حال الوصل ويفصل بينهما، فأشبه ذلك قولهم في صِبيان وصِبية: صُبينا وصُبية؛ وذلك أن الأصل صِبوان وصِبوة، ثم قلب الواو ياء استخفافًا للكسرة قبلها، ولم يعتد بالساكن بينهما حاجزًا لضعفه، ثم لما ضموا وزال الكسر أقروا الياء بحالها؛ جنوحًا إليها لخفتها، ولعلمهم أيضًا أن البدل من الواو لم يكن عن استحكام علة فيعادوا الأصل لزوالها، فلما تصوروا ضعف سبب القلب قنَّعوا أنفسهم بالعدول إلى جهة الياء، فقالوا: صُبيان وصُبية، حتى كأن قائلا قال لهم: هلا لما زالت الكسرة راجعتم الواو، فقالوا: أَوَكَان القلب إنما كان عن وجوب أحدثته الكسرة حتى إذا فارقناها عاودنا الواو؟ إنما كان استحسانًا، وكذلك فليكن مع الضمة أيضًا استحسانًا). [المحتسب: 1/130]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107361#post107361)
جمهرة علوم القرآن
30 محرم 1440هـ/10-10-2018م, 10:51 PM
سورة البقرة
[من الآية (249) إلى الآية (252) ]
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}
قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (إلّا من اغترف غرفةً بيده... (249).
حرك الياء من قوله (مني) نافع وأبو عمرو، وأرسلها الباقون.
وقرأ ابن كثير، نافع وأبو عمرو: (غرفة) بفتح الغين.
وقرأ الباقون: (غرفةً) بضم الغين.
[معاني القراءات وعللها: 1/214]
وأخبرني المنذري عن ابن فهمٍ عن محمد بن سلّام عن يونس أنه قال: غرفة وغرفة عرييتان، وقال: غرفت غرفا، وفي الإناء غرفة، ومثله: حسوت حسوة، وفي الإناء حسوة.
وقال أبو العباس: الغرفة: المرة من المصدر، والغرفة: الماء الذي يغرف بعينه). [معاني القراءات وعللها: 1/215]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في ضمّ الغين وفتحها من قوله تعالى: غرفةً [البقرة/ 249].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: غرفةً بفتح الغين.
[الحجة للقراء السبعة: 2/350]
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: غرفةً بضم الغين.
قال أبو علي: من فتح الفاء التي هي غين من غرفةً عدّى الفعل إلى المصدر، والمفعول في قوله محذوف، إلّا من اغترف ماء غرفة.
ومن قال: غرفةً عدّى الفعل إلى المفعول به، ولم يعدّه إلى المصدر كما عدّاه الآخرون إليه، ولم يعدّوه إلى المفعول به، وإنّما جعلت هذا مفعولًا به، لأن الغرفة العين المغترفة، فهو بمنزلة: إلّا من اغترف ماء.
والبغداديون يجعلون هذه الأسماء المشتقة من المصادر بمنزلة المصادر، ويعملونها كما يعملون المصادر؛ فيقولون:
عجبت من دهنك لحيتك، وقد جاء عن العرب ما يدل على صحة ما ذهبوا إليه قال:
وبعد عطائك المائة الرّتاعا وأشياء غير هذا، فعلى هذا يجوز أن تنصب الغرفة نصب الغرفة.
وقد قال سيبويه في نحو: الجلسة، والرّكبة: إنه قد يستغنى بها عن المصادر، أو قال: تقع مواقعها؛ فهذا كالمقارب لقولهم، ولو قيل: إن الضمّ هنا أوجه لقوله: فشربوا منه [البقرة/ 249]
[الحجة للقراء السبعة: 2/351]
والمشروب: الغرفة، لكان قولًا.
فأما الباء في قوله: بيده فمن فتح فاء غرفة: جاز أن يتعلق بالمصدر عنده، وجاز أن يعلقه بالفعل، ومن أعمل الغرفة إعمال المصدر؛ جاز أن يعلّق الباء بها في قوله، وكلا الأمرين مذهب). [الحجة للقراء السبعة: 2/352]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ومن لم يطعمه فإنّه مني إلّا من اغترف غرفة بيده}
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {غرفة بيده} بفتح الغين وحجتهم ما ذكرها اليزيدي عن أبي عمرو فقال ما كان باليد فهو غرفة بالفتح وما كان بإناء فهو غرفة بالضّمّ
وقرأ الباقون بالضّمّ وحجتهم ما جاء في التّفسير إلّا من اغترف كفا من ماء فالغرفة بالضّمّ الماء قال الزّجاج غرفة أي مرّة واحدة باليد ومن قرأ {غرفة} كان معناه مقدار ملء اليد
اعلم أن الغرفة المصدر تقول اغترفت غرفة والغرفة الاسم ومثله الأكلة المرة الواحدة والأكلة اللّقمة والخطوة المرة تقول خطوت خطوة والخطوة الاسم لما بين الرجلين). [حجة القراءات: 140]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (159- قوله: {غرفة} قرأه الكوفيون وابن عامر بضم الغين وفتحه الباقون.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/303]
160- وحجة من ضم أنه جعله اسم الماء المغترف، فعدى الفعل إليه، لأنه مفعول به، كأنه قال: إلا من اغترف ماء على قدر مثل ملء اليد، ويقوي الضم أن بعده: {فشربوا منه} والشرب هو الشيء المعروف، وهو الغرفة بالضم اسم للماء المغترف، وبالضم قرأ عثمان بن عفان والحسن والنخعي وغيرهم.
161- وحجة من فتح أنه جعله مصدرًا، فهو نصب على المصدر والمفعول به محذوف، تقديره: إلا من اغترف ماء غرفة، أي مرة واحدة، وبعض النحويين من البغداديين والكوفيين يجيزون أن يكون من ضم جعله كالمصدر ولأنهم يُعملون الاسم عمل المصدر فيجيزون: عجبت من دهنك لحيتك، ومن عطائك الدراهم، والمصدر الذي يعمل هو الدهن والإعطاء، فعلى هذا المذهب تكون القراءتان بمعنى، يُراد بهما المصدر على معنى مرة واحدة، والفتح هو الاختيار، وبه قرأ ابن عباس وأبان بن عثمان ومجاهد والأعرج وغيرهم). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/304]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (86- {غُرْفَةً} [آية/ 249]:-
بفتح الغين، قرأها ابن كثير ونافع وأبو عمرو.
ووجه ذلك أن {غَرْفَةً} بالفتح مصدر، فهو للمرة الواحدة، كضربته ضربة، وهو منصوب ههنا على المصدر، والمفعول به محذوف، والتق5دير: إلا من اغترف ماء غرفة.
قرأ الباقون {غُرْفَةً} بالضم.
وهي اسم للقدر المغترف من الماء، كالأكلة للقدر الذي يؤكل، فالفعل ههنا قد عدي إلى المفعول به، وهو الغرفة؛ لأنها هي المغترفة). [الموضح: 336]
قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)}
قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ولولا دفع اللّه النّاس بعضهم ببعضٍ... (251).
قرأ نافع ويعقوب: (ولولا دفاع اللّه) بالألف.
وقرأ الباقون: (دفع اللّه) بغير ألف.
وكذلك قرأ نافع ويعقوب في الحج: (دفاع اللّه) بألف.
وقرأ الباقون بغير ألف.
قال أبو منصور: المعنى في الدفاع والدفع واحد، يقال: دافع الله عنك السوء، ودفع عنك السوء). [معاني القراءات وعللها: 1/215]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (29- وقوله تعالى: {ولولا دفع الله الناس} [251]
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {دفع} بغير ألف، وكذلك (إن الله يدفع عن الذين آمنوا).
وقرأ عاصم في (الحج) بألف وفي (البقرة) بغير ألف.
وكذلك حمزة والكسائي بألف في ذلك، وهما مصدران.
وقرأ نافع بألف في السورتين. يقال: دفع يدفع ودفاعا. مثل: صام يصوم صوما وصياما، ويجوز أن يكون الدفاع مصدرا لدافعت دفاعا، والاختيار دفع بغير ألف؛ لأن الله تعالى هو المنفرد بالدفع، وفاعلت يكون من اثنين، ومعنى {ولولا دفع الله الناس} أي: أمر المسلمين وهم بعضهم بالجهاد وإذلال الكافرين، فلولا ذلك لفسدت الأرض ومن عليها). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/91]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في كسر الدال وفتحها، وإدخال الألف وإسقاطها من قوله عزّ وجلّ: ولولا دفع اللّه النّاس [البقرة/ 251].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: ولولا دفع اللّه النّاس بغير ألف هاهنا، وفي الحج: إن الله يدفع [الآية/ 38].
وقرأ نافع: ولولا دفاع الله إنّ اللّه يدافع بألف فيهما جميعاً.
وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: ولولا دفع اللّه بغير ألف، وإنّ اللّه يدافع بألف. وروى عبد الوهاب عن أبان عن عاصم: ولولا دفاع الله بألف.
قال أبو علي (دفاع) يحتمل أمرين: يجوز أن يكون مصدراً لفعل، كالكتاب واللّقاء، ونحو ذلك من المصادر
[الحجة للقراء السبعة: 2/352]
التي تجيء على فعال. كما يجيء على فعال نحو: الجمال والذّهاب. ويجوز أن يكون مصدراً لفاعل، يدلّ على ذلك قراءة من قرأ: إنّ اللّه يدافع عن الّذين آمنوا، فالدفاع يجوز أن يكون مصدراً لهذا، كالقتال، ونظيره الكتاب في أنه جاء مصدراً لفاعل وفعل، فقوله تعالى: والّذين يبتغون الكتاب ممّا ملكت أيمانكم فكاتبوهم [النور/ 33] الكتاب فيه مصدر كاتب، كما أن المكاتبة كذلك، وقال تعالى: كتاب اللّه عليكم [النساء/ 24] فالكتاب مصدر لكتب الذي دلّ عليه قوله تعالى: حرّمت عليكم أمّهاتكم [النساء/ 23] لأن المعنى: كتب هذا التحريم عليكم كتاباً، وكذلك قوله: كتاباً مؤجّلًا [آل عمران/ 145] كأنّ معنى دفع ودافع سواء، ألا ترى أن قوله:
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم... فإذا المنيّة أقبلت لا تدفع
فوضع أدافع موضع أدفع، كأنّ المعنى: حرصت بأن أدفع عنهم المنيّة، فإذا المنيّة لا تدفع.
وقال أمية:
[الحجة للقراء السبعة: 2/353]
لولا دفاع الله ضلّ ضلالنا... ولسرّنا أنّا نتلّ ونوأد
وإذا كان كذا فقوله: إن الله يدفع، ويدافع يتقاربان، وليس يدافع كيضارب. ومما يقوي ذلك قوله: قاتلهم اللّه أنّى يؤفكون [التوبة/ 30]. وليس للمفاعلة التي تكون من اثنين هنا وجه). [الحجة للقراء السبعة: 2/345]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ولولا دفع الله النّاس بعضهم ببعض لفسدت الأرض}
قرأ نافع {ولولا دفع الله النّاس} بالألف
وقرأ الباقون {دفع الله} مصدر من دفع دفعا وحجتهم أن الله عز وجل لا مدافع له وأنه هو المنفرد بالدفع من خلقه وكان أبو عمرو يقول إنّما الدفاع من النّاس والدّفع من الله
[حجة القراءات: 140]
وحجّة نافع إن الدفاع مصدر من دفع كالكتاب من كتب كما قال {كتاب الله عليكم} فالكتاب مصدر لكتب الّذي دلّ عليه قوله {حرمت عليكم أمّهاتكم} لأن المعنى كتب هذا التّحريم عليكم ويجوز أن يكون مصدرا لفاعل تقول دافع الله عنك الشّيء يدافع مدافعة ودفاعا والعرب تقول أحسن الله عنك الدفاع ومثل ذلك عافاك الله ومثل فاعلت للواحد كثير قال الله {قاتلهم الله} ). [حجة القراءات: 141]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (162- قوله: {ولولا دفع الله} قرأه نافع بألف وكسر الدال، وقرأه الباقون بفتح الدال، من غير ألف، ساكن الفاء، ومثله في الحج.
163- وحجة من قرأ بالألف أنه جعله مصدرًا لـ «فاعل» كالقتال، والمفاعلة قد تأتي من واحد كـ «عاقبت اللص» ويجوز أن يكون مصدرًا
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/304]
لـ «فعل» كقولهم: آب إيابًا، ولقيته لقاء، ومثله: كتبت كتابًا، ومنه: {كتاب الله عليكم} «النساء 24» فيكون على هذا «دفاع ودفع» بمعنى، مصدران لدفع.
164- وحجة من قرأ بغير ألف أن المفاعلة التي من اثنين، لا معنى لها في هذا الموضع؛ لأن الله هو الدافع عن المؤمنين وغيرهم، ما يضرهم، ولا يدافعه أحد فيما يدفع، فحمله على «دفع» أولى؛ لأنه مصدره، الذي لا يصرف عنه إلى غيره إلا بدليل ورواية، والاختيار دفع بغير ألف لأنه تعالى متفرد بالدفع ولإجماع القراء عليه، وقد كان أبو عمرو يرى «دفاع» غلطًا يوهم فيه باب المفاعلة من اثنين، وهو وهم من أبي عمرو عند أبي حاتم). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/305]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (87- {وَلَوْلَا دَفْعُ الله النَّاسَ} [آية/ 251]:-
بالألف، قرأها نافع ويعقوب، وذلك أنه يجوز أن يكون مصدرًا لفعل نحو: كتب كتابًا، ويجوز أن يكون مصدرًا لفاعل كقاتل قتالاً، يدل على ذلك قراءة من قرأ {إِنَّ الله يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا}، وليس فاعل ههنا مما يكون الفعل فيه من اثنين، لكن دفع ودافع بمعنى واحد.
وقرأ الباقون {وَلَوْلا دَفْعُ الله} بغير ألف على فعل؛ لأنه مصدر دفع
[الموضح: 336]
دفعًا، كالضرب الذي هو مصدر ضرب ضربًا). [الموضح: 337]
قوله تعالى: {تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107362#post107362)
جمهرة علوم القرآن
1 صفر 1440هـ/11-10-2018م, 07:46 AM
سورة البقرة
[من الآية (253) إلى الآية (254) ]
{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}
قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)}
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في تحريك الدّال وتسكينها من قوله: بروح القدس.
فقرأ ابن كثير وحده: وأيّدناه بروح القدس [البقرة/ 87، 253] مسكّنة الدّال وكذلك في جميع القرآن.
وقرأ الباقون: القدس مضمومة القاف والدّال.
[قال أبو عليّ]: قوله: وأيّدناه بروح القدس أيّدناه: فعّلناه، من الأيد والآد، وهو القوة، ومثل الأيد والآد في
[الحجة للقراء السبعة: 2/148]
بنائهما على فعل وفعل: العيب والعاب، والذّيم والذام، وجاء في أكثر الاستعمال على فعّلناه لتصحّ العين الثانية لسكون الأولى، وعلى هذا قوله: إذ أيّدتك بروح القدس [المائدة/ 110] ومن قال آيدناه صحّح العين، لأنه إذا صحّت في مثل: أجود، وأطيب، لزم تصحيحها في آيدناه لما كان يلزم من توالي الإعلالين. فمن التصحيح قوله:
ناو كرأس الفدن المؤيد ونظير هذا في كراهتهم توالي الإعلالين، ورفضهم ما يؤدي إليه قولهم: يودّ وتودّون أنّ غير ذات الشّوكة [الأنفال/ 7] فبنوا الماضي على فعل، ليلزمه في المضارعة يفعل. ولو كان الماضي فعل لكان المضارع مثل: يعد. فيلزم اجتماع إعلالين.
فأمّا روح القدس، فقال قتادة والسّدّيّ، والرّبيع والضّحّاك في روح القدس أنّه جبريل- وقال بعض المفسرين:
روح القدس: الإنجيل، أيّد الله عيسى به روحا، كما جعل القرآن روحا في قوله: وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا
[الحجة للقراء السبعة: 2/149]
[الشورى/ 52] والقدس والقدس التخفيف والتّثقيل فيه حسنان... وكذلك ما كان مثله نحو: العنق والعنق والطنب والطنب. والحلم والحلم.
وحكى أبو الحسن عن عيسى اطّراد الأمرين فيهما. ومما يدلّ على حسن التثقيل جمعهم ما كان على فعلة على فعلات.
نحو غرفة وغرفات- وركبة وركبات وهذا الأكثر في الاستعمال.
ومنهم من كره الضمّتين- فأسكن العين أو أبدل منها الفتحة نحو: ركبات. وكذلك من أسكن العين منه، والضمّ أكثر كما كان ظلمات أكثر. وأسكن أبو عمرو خطوات وحرّك القدس لأن الحركات في الجمع أكثر منها في الفعل، فأسكن لتوالي الحركات واجتماع الأمثال، ولا يلزمه على هذا الإسكان في الظلمات.
وأما القدس في اللغة فإن أبا عبيدة وغيره قالوا في قوله: ونقدّس لك [البقرة/ 30] التّقديس: التطهير. وقال غيره: إن ابن عباس كان يقول: المقدس: الطاهر، وقال الرّاجز:
الحمد لله العليّ القادس قال: وقالوا: قدّس عليه الأنبياء، أي: برّكوا.
وقال رؤبة:
دعوت ربّ القوّة القدّوسا
[الحجة للقراء السبعة: 2/150]
قال: والمقدّس: المعظّم. وقال: قدّس عليه، أي:
برّك.
قال أبو عليّ: فكأنّ معنى نقدّس لك. ننزّهك عن السوء. فلا ننسبه إليك. ولا ما لا يليق بالعدل. وهذا الوصف في المعنى كقول أمية:
سلامك ربّنا في كلّ فجر... بريئا ما تغنّثك الذّموم
قال أبو عمر: سألت أبا مالك عن قوله: ما تغنّثك.
قال لا تعلّق بك. فاللام فيها على حدها في قوله:
ردف لكم [النمل/ 72] ألا ترى أن المعنى تعظيمه وتنزيهه.
وليس المعنى أنه ينزّه شيء من أجله. ومثل ذلك في المعنى قولهم: سبحان الله، إنما هو براءة الله من السوء وتطهيره منه، ثم صار علما لهذا المعنى، فلم يصرف في قوله:
سبحان من علقمة الفاخر
[الحجة للقراء السبعة: 2/151]
وروح القدس: جبريل كأنّه منسوب إلى الطّهارة، وذلك أنّه ممّن لا يقترف ذنبا، ولا يأتي مأثما، كما قد يكون ذلك من غيره.
وقولنا في صفة الله تعالى: القدّوس: أي: الطاهر المنزّه عن أن يكون له ولد، أو يكون في حكمه وفعله ما ليس بعدل.
فأمّا قولهم: بيت المقدس وقول الراجز:
الحمد لله العليّ القادس فيدلّ على أنّ الفعل قد استعمل من التقديس بحذف الزيادة، أو قدّر ذلك التقدير. فإذا كان كذلك لم يخل المقدس من أن يكون مصدرا أو مكانا. فإن كان مصدرا كان كقوله:
إليّ مرجعكم [لقمان/ 15] ونحوه من المصادر التي جاءت على هذا المثال. وإن كان مكانا فالمعنى فيه: بيت المكان الذي فعل فيه الطهارة، وأضيف إلى الطهارة لأنه منسك كما جاء: أن طهّرا بيتي للطّائفين [البقرة/ 125] وتطهيره على إخلائه من الأصنام وإبعاده منها، وكما جاء: فاجتنبوا الرّجس من الأوثان [الحج/ 30] كذلك وصف بخلاف الرّجس إذا أخلي منها، ومما لا يليق بمواضع النّسك، وإن قدّرت «المقدس» المكان لا المصدر كان المعنى: بيت مكان الطّهارة.
[الحجة للقراء السبعة: 2/152]
فأمّا ما حكاه قطرب: من أنّهم يقولون قدّس عليه الأنبياء. أي: برّكوا عليه فليس يخلو هذا المقدّس عليه من أن يكون موضع منسك، أو يكون إنسانا. فإن كان موضع نسك، فهو كدعاء إبراهيم عليه السلام للحرم ربّ اجعل هذا البلد آمناً [إبراهيم/ 35]، فكذلك يجوز أن يكون تبريك الأنبياء دعاء منهم له بالتّطهير. وإن كان إنسيّا فهو كقوله: واجعله ربّ رضيًّا [مريم/ 6] وكما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من دعائه للحسن والحسين، وهذا يؤول إلى ذلك المعنى، وكذلك من قال: المقدّس: المعظّم، إنما هو تفسير على المعنى، وكثيرا ما يفعل المفسّرون من غير أهل اللغة، ذلك لمّا رأوا ذلك لا يفعلون إلا بشيء يراد تعظيمه وتبرئته من غير الطّهارة. فسّروه بالمعظّم على هذا المعنى. والأصل: كأنّه التطهير الذي فسّره أبو عبيدة). [الحجة للقراء السبعة: 2/153] (م)
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (يومٌ لا بيعٌ فيه ولا خلّةٌ ولا شفاعةٌ... (254).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ها هنا وفي إبراهيم: (لا بيع فيه ولا خلال) وفي الطور: (لا لغو فيها ولا تأثيم) بالنصب. وقرأ الباقون بالرفع والتنوين.
قال أبو منصور: من قرأ (لا بيع فيه ولا خلّة ولا شفاعة) بالنصب فهو على التبرئة، ومن رفع ونوّن فهي لغة جيدة إذا تكررت (لا)، وإذا لم تتكرر فالاختيار النصب.
ومعنى الرفع: الابتداء وخبره). [معاني القراءات وعللها: 1/216]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في الرّفع والنصب من قوله تعالى: لا بيعٌ فيه ولا خلّةٌ ولا شفاعةٌ [البقرة/ 254].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: لا بيعٌ فيه ولا خلّةٌ ولا شفاعةٌ بالنصب في كل ذلك بلا تنوين، وفي سورة إبراهيم: لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ [الآية/ 31] مثله أيضاً، وفي الطور: لا لغوٌ فيها ولا تأثيمٌ [الآية/ 23] مثله.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائيّ: كلّ ذلك بالرّفع والتنوين.
قال أبو علي: خصّ البيع في قوله: لا بيعٌ فيه لما في المبايعة من المعاوضة، فيظنّ أن ذلك كالفداء في النجاة ممّا أوعدوا به، فصار ذلك في المعنى كقوله تعالى: وإن تعدل كلّ عدلٍ لا يؤخذ منها [الأنعام/ 70]، وكقوله: فاليوم لا يؤخذ منكم فديةٌ [الحديد/ 15]، وقوله إنّ الّذين كفروا لو أنّ لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تقبّل منهم
[المائدة/ 36]، ونحو ذلك من الآي التي تعلم أنّه لا فداء لعذاب ذلك اليوم، ولا مانع منه، وكذلك قوله: لا خلّةٌ
[الحجة للقراء السبعة: 2/354]
لأن الخليل قد ينتفع بخلّة خليله، كما أنّ المشفوع له قد ينتفع عند شفاعة الشافع له، فأعلم سبحانه أن ذلك كلّه لا ينفع في ذلك اليوم، قال تعالى: ما للظّالمين من حميمٍ ولا شفيعٍ يطاع [غافر/ 18].
فأما قوله: لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ [إبراهيم/ 31] فإنّ قوله: خلالٌ يحتمل أمرين: يجوز أن يكون جعل الخلّة كالأسماء، كما جعل غيرها من المصادر كذلك، فكسّر تكسيرها، وجعل كقولهم: برمة وبرام، وجفرة وجفار، وعلبة وعلاب، ويجوز أن يكون مصدر: خاللته مخالّة وخلالًا.
أنشد أبو عبيدة:
ويخبرهم مكان النّون منّي... وما أعطيته عرق الخلال
وأما قوله تعالى: لا لغوٌ فيها ولا تأثيمٌ [الطور/ 23] فإن
[الحجة للقراء السبعة: 2/355]
أبا عبيدة قال: اللّغا: التكلّم بما لا ينبغي، وأنشد للعجّاج:
عن اللّغا ورفث التكلّم قال: وتقول: لغيت تلغى، مثل: لقيت تلقى، قال: ولغا الطّير: أصواتها. وأنشد غيره:
باكرته قبل أن تلغى عصافره... مستخفياً صاحبي وغيره الخافي
قال أبو علي: فكأنّ اللّغو واللّغا مثل الدّلو والدلا، والعيب والعاب، ونحو ذلك مما يجيء على فعل وفعل، واللغو: التكلم بما لا ينبغي، والخوض فيما نهي عنه. قال تعالى: وإذا سمعوا اللّغو أعرضوا عنه، وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. سلامٌ عليكم لا نبتغي الجاهلين [القصص/ 55]، أي: لا نبتغي مجاراتهم ولا الخوض معهم فيما يخوضون فيه، فالمضاف محذوف، وقال تعالى:
والّذين هم عن اللّغو معرضون [المؤمنون/ 3]، فأما قوله سبحانه: وإذا مرّوا باللّغو مرّوا كراماً [الفرقان/ 72] فيجوز أن يكون المعنى: إذا مرّوا بأهل اللغو، أو: ذوي اللغو، مرّوا
[الحجة للقراء السبعة: 2/356]
كراماً، فلم يجاورهم فيه، واجتنبوهم، فلم يخوضوا معهم.
ويجوز أن يكون مثل قولك: مرّت بي آية كذا، ومررت بسورة كذا، أي: تلوتها وقرأتها. أي: إذا أتوا على ذكر ما يستفحش ذكره كنّوا عنه ولم يصرّحوا. وأحسب بعض المفسّرين إلى هذا التأويل ذهب فيه.
وليس هذا في كلّ حال، ولكن في بعض دون بعض، فإذا كان الحال حالًا يقتضي التبيين، فالتصريح أولى، كما روي من التصريح في قصة ماعز، وكما
روي: «من تعزّى بعزاء الجاهلية، فأعضّوه بهن أبيه ولا تكنوا»
وكما روي عن أبي بكر رضي الله عنه، أو غيره من الصحابة، أنه قال لبعض المشركين: اعضض ببظر اللات.
وقد يستعمل اللغو في موضع آخر، وهو أن لا يعتدّ بالشيء، فمما يكون على هذا قوله تعالى: لا يؤاخذكم اللّه باللّغو في أيمانكم [المائدة/ 89] فهذا يحمل على ما وضعت فيه الكفّارة، نحو: لا والله، وبلى والله.
ومن ذلك قول الشاعر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/357]
ويلغى دونها المرئيّ لغوا... كما ألغيت في الدّية الحوارا
ألا ترى أن الدّية لا يؤخذ فيها الحوار، فصار لا اعتداد به فيها؛ فأما التأثيم فقالوا: أثم يأثم. إذا ركب مأثما، فإذا حملته على ذلك قلت: أثّمته تأثيما، وفي التنزيل: إنّا إذاً لمن الآثمين [المائدة/ 106] وفيه: ويلٌ لكلّ أفّاكٍ أثيمٍ [الجاثية/ 7] وقال تعالى: منّاعٍ للخير معتدٍ أثيمٍ [القلم/ 12]؛ فيجوز أن يكون: آثم وأثيم، مثل: عالم وعليم وشاهد وشهيد، ويجوز أن يكون: أثيم من آثم، مثل:
قريح وطبيب، ومذيل وسميح، فمعنى لا تأثيم: ليس فيها ما يحمل على الإثم؛ فأما من فتح بلا تنوين، فإنه جعله جواب هل فيها من لغو أو تأثيم؟ [ومن رفع جعله جواب: أفيها لغو أو تأثيم؟].
وقد ذكرنا صدراً من القول على النفي فيما تقدم.
والمعنيان يتقاربان في أن النفي يراد به العموم والكثرة في القراءتين يدلّ على ذلك قول أمية:
فلا لغو ولا تأثيم فيها... وما فاهوا به لهم مقيم
[الحجة للقراء السبعة: 2/358]
ألا ترى أنه يريد من نفي اللغو- وإن كان قد رفعه- ما يريد بنفي التأثيم الذي فتحه ولم ينوّنه.
فإن جعلت قوله: (فيها) خبراً أضمرت للأول خبراً وإن جعلته صفة. أضمرت لكلّ واحد من الاسمين خبراً). [الحجة للقراء السبعة: 2/359]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة}
قرأ ابن كثير وابو عمرو {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} نصب بغير تنوين على النّفي والتبرئة
وقرأ الباقون بالرّفع والتنوين
اعلم أن لا إذا وقعت على نكرة جعلت هي والاسم الّذي بعدها كاسم واحد وبني ذلك على الفتح فإذا كررت جاز الرّفع والنّصب وإذا لم تكرر فالوجه فيه الفتح قال الله جلّ وعز {لا ريب فيه} من رفع جعله جوابا لقول القائل هل فيه بيع هل فيه خلة ومن نصب جعله جوابا لقول القائل هل من بيع فيه هل من خلة
[حجة القراءات: 141]
فجوابه لا بيع فيه ولا خلة لأن من لما كانت عاملة جعلت لا عاملة ولما كانت جواب هل لم تعملها إذ كانت هل غير عاملة وقد تقدم الكلام فيه عند قوله {فلا رفث ولا فسوق} ). [حجة القراءات: 142]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (165- قوله: {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} قرأ ذلك ابن كثير وأبو عمرو بالفتح من غير تنوين، وقرأ الباقون بالرفع والتنوين، ومثله: {لا بيع فيه ولا خلال} في «إبراهيم 31» و{لا لغوٌ فيها ولا تأثيم} في «الطور 23».
166- وحجة من فتح أنه أراد النفي العام المستغرق لجميع الوجوه من ذلك الصنف، فبنى «لا» مع ما بعدها على الفتح، وكأنه جواب لمن قال: هل فيه من بيع، هل فيها من لغو، فسأل سؤالًا عامًا، وغير الاسم بدخول «من» عليه، فأجيب جوابًا عامًا بالنفي، وغير الاسم بالبناء، و«لا» مع الاسم المبني معها في موضع رفع بالابتداء والخبر «فيه».
167- وحجة من رفع أنه جعل «لا» بمنزلة «ليس» وجعل الجواب
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/305]
غير عام، وكأنه جواب من قال: هل فيه بيع، هل فيها لغو، فلم يغير السؤال عن رفعه، فأتى الجواب غير مغير عن رفعه، والمرفوع مبتدأ، أو اسم «ليس» و«فيه» الخبر والاختيار الرفع لأن أكثر القراء عليه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/306]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (88- {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} [آية/ 254]:-
بالفتح في كلهن، قرأها ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب.
ووجه ذلك أن كل واحدٍ من هذه الأسماء الثلاثة بني مع لا على الفتح إرادة النفي العام؛ لأنهم جعلوه جواب: هل فيه من بيع أو خلة أو شفاعة؟، فقيل لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، يعنون انتفاء جنس هذه الأشياء، فالنفي عام للجنس، كما أن السؤال كان عامًا للجنس.
وقرأ الباقون بالرفع فيهن كلهن؛ لأنهم جعلوه جواب: أفيه بيع أو خلة أو شفاعة؟ فجوابه لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، بالرفع على الابتداء، كما كان المسؤول عنه مرفوعًا بالابتداء، ولم يجعلوا النفي في هذه الأسماء نفيًا عامًا في اللفظ، وإن كان معلومًا أن النفي في القراءتين أريد به العموم والكثرة، ألا ترى أنك إذا قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله، أو لا حول ولا قوة إلا بالله، فقد أردت من نفي الحول ما أردته من نفي القوة). [الموضح: 337]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107363#post107363)
جمهرة علوم القرآن
1 صفر 1440هـ/11-10-2018م, 07:47 AM
سورة البقرة
[ الآية (255) ]
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}
قوله تعالى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (اللّه لا إله إلّا هو... (255).
وقف يعقوب: (اللّه لا إله إلّا هوه) بالهاء. وكذلك: (نعمّا هيه)،
[معاني القراءات وعللها: 1/216]
و (كأنّه هوه)، و(فلا كاشف له إلّا هوه).
ويقف على: (عم يتساءلون) عمّه، ونحو ذلك في القرآن كله.
يقول هذه هاء الاستراحة.
والباقون من القراء يقفون على هذه الحروف بغير هاء.
قال أبو منصور: أما ما اختاره يعقوب من الوقف على هذه الحروف بالهاء فهو من كلام العرب الجيد، غير أني أختار المرور عليها، وأن لا يتعمد الوقوف عليها، لأن الهاءات لم تثبت في المصاحف فأخأف أن تكون زيادة في التنزيل، وإن اضطر الواقف إلى الوقوف عليها وقف بغير هاء اتباعا للقراء الذين قرأوا بالسنة). [معاني القراءات وعللها: 1/217]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رُوي عن الزهري والأعرج وأبي جعفر بخلاف عنهم: [ولا يَوُودُه حِفْظَهُمَا] بلا همز، ولم يُقَل: كيف قالوا؟
قال ابن مجاهد: من لم يهمز قال: [يَوُودُه] فخلف الهمزة بواو ساكنة، فجمع بينها وبين الواو، فيجتمع ساكنان، فإن شاء ضمها فقال: [يَوُودُه]، ومن ترك الهمز أصلًا قال: [يَوْدُه].
قال أبو الفتح: خلَّط ابن مجاهد في هذا التفسير تخليطًا ظاهرًا غير لائق بمن يُعتد إمامًا في روايته، وإن كان مضعوفًا في فقاهته؛ وذلك أن قوله تعالى: {يَؤُودُهُ} لك فيه التحقيق والتخفيف، فمن حقَّق أخلصها همزة، قال: {يَؤُودُهُ} كيعوده، ومن خفَّف جعل الهمزة بين بين؛ أي: بين الهمزة والواو؛ لأنها مضمومة، فجرى مجرى قولك في تخفيف لَؤم: لَوُم، وفي مئونة: موُونة، ولا يخلصها واوًا لأنها مضمومة، فقوله: بلا همز؛ أي: يخففها، كذا أُحسِن الظن بهؤلاء المشيخة.
[المحتسب: 1/130]
فأما ترك الهمز أصلًا فشاذ، وينبغي لمن هو دونهم أن يصان عن أن يُظن ذلك به، فقول ابن مجاهد: إنه يخلف من الهمزة واو ساكنة فيجتمع ساكنان شديد الاضطراب؛ وذلك أنه قد سبق أن سبيل هذا أن يُخفِّف ولا يبدل، وإذا كان مخفِّفًا فالواو متحركة لا ساكنة، فلا ساكنين هناك أصلًا.
نعم، ثم لما قال: إنه يجتمع ساكنان لم يذكر ماذا يُعْمَل فيهما؟ قال: وإن شاء ضمها فقال: [يَوُودُه]، وهذا هو الذي ينبغي أن يعمل عليه؛ ولكن ينبغي أن يعلم أنه لا يُضم الواو؛ بل الضمة على الهمزة، إلا أنها مخففة فقربت بذلك من الواو لضعفها مع ضمها.
وقوله فيما بعد: ومَن ترك الهمز أصلًا قال: [يَوْدُه] يؤكد ما كنا قدمناه من أن قوله: لا يهمز، إنما يريد به التخفيف لا يريد البدل والحذف، ولولا ذلك لم يَقل: ومن ترك الهمز أصلًا، فقوله: "أصلًا" يدل على أنه لا يريد التخفيف الذي كان قدَّمه.
وبعد، فمن ترك الهمزة أصلًا؛ أي: حذفها ألبتة كما يحذفها من قولهم: لاب لك؛ أي: لا أب لك، ومن قولهم: وَيَلُمِّه، وأصلها: ويلٌ لأُمه، ومن قولهم: ناس وأصلها أناس، والله في أحد قولي سيبويه الذي أصله فيه إله، وغير ذلك، فإنه إذا هو حذفها بقيت بعدها الواو التي هي عين الفعل ساكنة فصارت: [يَوْدُه] ومثاله على هذا اللفظ يَعلُه، وأصل هذا كله يَأْودُه كيعوده، يَفعُله كيقتله ونعبده، ثم نقلت الضمة من الواو التي هي عين الفعل إلى الهمزة التي هي فاء فعله، كما نقلت في يعود من الواو إلى العين فصارت [يئوده] كيعوده، ووزنه الآن يفْعُله، هكذا محصول لفظه، فإذا هو حذف الهمزة ألبتة -وهي فاء الفعل- بقي يَوْدُه في ومن يعلُه، والفاء على ما مضى محذوفة، وعلى أن هذا الحذف لا يُقْدِم أحدٌ عليه قياسًا لنكارته وضيق العذر في اقتباسه، اللهم أن يسمع شيء منه فيودَّى على ما فيه، ويُشرح حديثه بواجب مثله، ولا يحمل سواه على مثل حاله). [المحتسب: 1/131]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (89- {الله لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَهْ} [آية/ 255]:-
بالهاء في حال الوقف، قرأها يعقوب وحده، وكذلك {أَحَقٌّ هُوَهْ}
[الموضح: 237]
و {لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَهْ} ونحوها في الوقف.
وذلك لأن هذه هاء الوقف ألحقت الواو ههنا حرصًا على بيان حركتها في حال الوقف، ولئلا يزيله الوقف بالسكون، كما ألحقت في: أغزه وارمه كذلك، إلا أن القراء يكرهون ذلك؛ لأن الهاء ليست في المصحف، وهو الإمام، فكرهوا مخالفته). [الموضح: 338]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107364#post107364)
جمهرة علوم القرآن
1 صفر 1440هـ/11-10-2018م, 07:48 AM
سورة البقرة
[من الآية (256) إلى الآية (257) ]
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}
قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)}
قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آَمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه جويرية بن بشير، قال: سمعت الحسن قرأها: [أولياؤهم الطَّواغيت].
قال أبو الفتح: ينبغي أن يُفهم هذا الموضع؛ فإن فيه صنعة؛ وذلك أن الطاغوت وزنها في الأصل فَعَلُوت، وهي مصدر بمنزلة الرغَبوت والرهَبوت والرحَموت، وقد يقال فيها: الرَّغَبُوتَى والرهبوتى والرحموتى، ويدل على أنها في الأصل مصدر وقوع الطاغوت على الواحد والجماعة
[المحتسب: 1/131]
يلفظ واحد، فجرى لذلك مجرى قوم عدل ورضًا، ورجل عَدلٌ ورضا، ورجلان عدل ورضا، فأما أصلها فهو طغيُوت؛ لأنها من الياء، ويدل على ذلك قوله عز وجل: {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون}، هذا أقوى اللغة فيها؛ لأن التنزيل ورد به.
وروينا عن قطرب وغيره فيها الواو، طغا يطغو طُغُوًّا، وقد يجوز على هذا أن يكون أصله: طَغَوُوت، كفَعَلُوت من غَزَوتُ: غَزَوُوت، وأنا آنس بالواو في هذه اللفظة لما أذكره لك بعد. ثم إن اللام قدمت إلى موضع العين، فصارت بعد القلب طَيَغُوت أو طَوَغُوت، فلما تحركت الياء أو الواو وانفتح ما قبلها قلبت في اللفظ ألفًا؛ فصارت طاغوت كما ترى. ووزنها الآن بعد القلب فَلَعُوت، ومثالها من ضربت: ضَرَبُوت، ومن قتلت قتلوت، هذا إلى هنا بلا خلاف.
وإذا جمع فصار طواغيت احتاج إلى نظر؛ فأما على أن يكون من طغوت فلا سؤال فيه؛ وذلك أن الألف على هذا كانت بدلًا من لام طغوت، فلما احتاج إلى تحريك الألف المنقلبة عنها ردها إلى أصلها وهو الواو، فقال: طواغيت، ووزنها الآن فلاعيت، ولو جاءت على واجب أصلها لكان طغاويت أو طغاييت، كقولك في ملكوت لو كسرتها: ملاكيت، ولو قلبت الواحد على حد قلب الطاغوت لقلت: مكلوت، وإن جمعت على هذا -أعني مقلوبًا- قلت: مكاليت، هذا على أن لام طاغوت واو، ماض منقاد على ما تراه.
لكن مَن ذهب إلى أن لام طاغوت ياء وجب عليه أن يجيب عن قلب الألف من طاغوت واوًا في قولهم: طواغيت، وكان قياسه على الطغيان أن يكون طياغيت.
والجواب: أن طاغوتًا وإن كان من ط غ ى فإنه بعد نقله وقلبه قد صار كأنه فاعول، فلما كسر قلبت ألفه واوًا كما تقلب في نحو تكسير عاقول وعواقيل، وراقود ورواقيد، وهذا الشبه اللفظي كثير عنهم فاشٍ متعالَم بينهم؛ ألا تراهم قالوا: مررت بمالِكَ فأمالوا لشبهها بأَلف مالكٍ، وقالوا: طلبتا وعتَتا، فأمالوا لشبه آخره بألف سكرى وبشرى؟ فكذلك شبهوا ألف طاغوت بألف جاموس وعاقول.
وحكى يونس في تحقير الناب نويب؛ وذلك أنه حمل الألف هنا إذا كانت عينًا على أحكام ما يكثر؛ وهو قلب العين عن الواو في غالب الأمر، وهو: باب ودار وساق ونار، فقال:
[المحتسب: 1/132]
نُوَيب، وإن كان من الياء حملا على الباب الأكثر، وهو قولك في مال: مُويل، وفي ساق: سُويقة، وفي دار: دُوبرة.
وروينا عن قطرب في كتابه الكبير: طغى يطْغَى ويطغو، وطَغَيتُ وطغِيتُ وطَغوت طُغْيانًا وطُغْوَانًا وطَغْوًا وطُغُوًّا وطَغْوَى، فاعلم.
وألقى علينا أبو علي بحلب سنة ست وأربعين الكلام في طغيان، واعتزم في اللام الياء، فقال له فتى كان هناك من أهل مَنْبِج: فقد قالوا الطَّغوى، فقال أبو علي: خذ الآن إليك، هذا تصريفي، ينكر عليه احتجاجه بذلك؛ أي: ألا تعلم أن طَغْوَى اسم، وأن فَعلى إذا كانت اسمًا وكانت لامها ياء فإنها تقلب إلى الواو، نحو: التقوى والبقوى والفتوى والرَّعْوى والثَّنْوى والعوَّى. وبعد، فإن كانت طغوى من طغوت فواوه أصلية كواو العدوى والدعوى، وإن كانت من طغيت فإنها بدل من الواو كالفتوى وبابها.
وأما الطواغي فجمع طاغية، قال الله سبحانه: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} فهو يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون أُهلكوا بطغيانهم، كقولك: أُهلكوا بالبلية الطاغية؛ أي: التي لا قِبَل لهم بها.
والآخر: أن يكون أُهلكوا بطغيانهم؛ أي: بكفرهم.
ومثل الطاغية وكونها مصدرًا على فاعلة قوله: [لا يُسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةٌ] أي: لغو، وتكسير اللاغية لواغ، كعافية وعواف، وعاقبة وعواقب، ومثل الطاغوت الحانوت، وهي فَعَلوت من حنوت؛ وذلك أن الحانوت يشتمل على من فيه، فكأنه يحنو عليه، فهي من الواو، وقُلبت لامها إلى موضع العين فصار حَوَنوت، ثم قلبت الواو ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت حانوت.
[المحتسب: 1/133]
وقول علقمة:
حَانيَّةٌ حُومُ
منسوب إلى حانيَة فاعلة من هذا اللفظ والمعنى، ألا ترى إلى قول عُمارة:
وكيف لنا بالشرب فيها وما لنا ... دوانيق عند الحانَوِيِّ ولا نقد
فأما الحانة فمحذوفة من الحانية، ومثالها فاعة، ومثلها البالة من قولهم: ما باليت بهم بالة، أصلها: بالية فاعلة من هذا الموضع، ثم حذفت اللام تخفيفًا، وإلى مثل ذلك ذهب الكسائي في "آية" أنها محذوفة من فاعلة: آيِية). [المحتسب: 1/134]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107365#post107365)
جمهرة علوم القرآن
1 صفر 1440هـ/11-10-2018م, 07:50 AM
سورة البقرة
[من الآية (258) إلى الآية (260) ]
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) }
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ربّي الّذي يحيي ويميت... (258).
أسكن الياء حمزة. وحركها الباقون.
وقوله جلّ وعزّ: (قال أنا أحيي وأميت... (258).
قرأ نافع وحده بإثبات الألف من (أنا) إذا لقيتها الهمزة مفتوحة أو مضمومة في اثني عشر موضعا في البقرة، وموضع في الأنعام، وموضع في الأعراف، وموضعين في يوسف، وموضعين في الكهف،
[معاني القراءات وعللها: 1/217]
وموضعين في النمل، وموضع في المؤمن، وموضع في الزخرف، وموضع في الممتحنة.
فإذا لقيت ألف (أنا) همزة مكسورة حذفها كقوله في الأعراف: (إن أنا إلا نذير وبشير)، وفي الشعراء (إن أنا إلا نذير مبين)، وفي الأحقاف: (وما أنا إلا نذير مبين)، فإنه حذف الألف في هذه المواضع.
والباقون من القراء يطرحون ألف (أنا) في القرآن كله.
ولم يختلفوا في طرحها إذا لم يلقها همزة.
قال أبو منصور: في (أنا) ثلاث لغات: (أنا) بإثبات الألف، كقولك:
[معاني القراءات وعللها: 1/218]
(عنا)، وليست بالجيدة.
و (أن فعلت) ممالة النون إلى الفتح، وهي اللغة الجيدة، و(إن) مخففة الحركة، وهي رديئة). [معاني القراءات وعللها: 1/219]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (30- وقوله تعالى: {أنا أحيي} و{أحيي وأميت} [258]
روى قالون، عن نافع: {أنا أحيي وأميت} بإثبات الألف لفظا وكذلك في كل ما استقبله ألف شديدة.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/91]
وقرأ الباقون {أنا حيي} بحذف الألف في كل القرآن في الدرج، واتفقوا جميعًا على إثباتها في الوقف، فمن أثبتها في الدرج؛ أتى بالكلمة على أصلها؛ لأن الألف في {أنا} بأزاء التاء في أنت، وقال:
أنا ليث العشيرة فاعرفوني = حميدًا قد تسنمت السناما
فنصب «ليثًا» «وحميدًا» على المدح، وفي {أنا} لغات أربع؛ آنا فعلت، وأنا فعلت، وأنْ فعلت، وأنه فعلت، ومثله {لكنا هو الله ربي}، روى عن نافع وابن عامر {لكنا هو} بالألف في الدرج.
قرأ الباقون {لكن هو الله ربي} بغير ألف، قال: واتفقوا على إثباتها في الوقف، لأنها في المصحف كتبت كذلك، إلا ما حدثني ابن مجاهد، وقال وهيب وابن الرومي، عن أبي عمرو أنه قرأ: {لكنه هو الله ربي} بالهاء وأدغم الهاء في الهاء.
قال: وحدثني إسماعيل قال: حدثني المازني في قوله {لكنا هو الله ربي} قال: الأصل: لكن أنا هو الله ربي فنقلوا فتحة الهمزة إلى النون وأسقطوا الهمزة،
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/92]
وأدغموا النون في النون بعد أن أسكنوها، فالتشديد من جلل ذلك، قال الشاعر:
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب = وتقلينني لكن إياك لا أقلي
أراد: لكن أنا.
وحدثنا ابن مجاهد، قال: حدثنا أبو بكر بن إسحاق عن وهيب قال: في حرف أُبَيِّ بن كعب {لكن أنا هو الله ربي} ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/93]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (قال أحمد بن موسى: كلّهم قرأ: أنا أحيي [البقرة/ 258] يطرحون الألف التي بعد النون، من أنا إذا وصلوا في كل القرآن، غير نافع، فإنّ ورشا وأبا بكر بن أبي أويس وقالون رووا: إثباتها في الوصل إذا لقيتها همزة في كل القرآن مثل: أنا أحيي وأنا أخوك، [يوسف/ 69] إلّا في قوله: إن أنا إلّا نذيرٌ مبينٌ [الشعراء/ 15] فإنه يطرحها في هذا الموضع مثل سائر القرّاء، وتابع أصحابه في حذفها عند غير همزة، ولم يختلفوا في حذفها، إذا لم تلقها همزة إلا في قوله: لكنّا هو اللّه ربّي [الكهف/ 38] ويأتي في موضعه إن شاء الله.
[قال أبو علي]: القول في أنا أنّه ضمير المتكلم، والاسم: الهمزة والنون، فأما الألف فإنّما تلحقها في الوقف،
[الحجة للقراء السبعة: 2/359]
كما تلحق الهاء له في نحو: مسلمونه، فكما أنّ الهاء التي تلحق للوقف، إذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء؛ سقطت، كذلك هذه الألف تسقط في الوصل، والألف في قولهم: أنا، مثل التي في: حيّهلا، في أنها للوقف. فإذا اتصلت الكلمة التي هي فيها بشيء، سقطت، لأن ما يتصل به يقوم مقامه. مثل همزة الوصل في الابتداء، في نحو: ابن واسم وانطلاق، واستخراج. فكما أنّ هذه الهمزة إذا اتّصلت الكلمة التي هي فيها بشيء سقطت، ولم تثبت، لأن ما يتّصل به يتوصّل به إلى النطق بما بعد الهمزة، فلا تثبت الهمزة لذلك؛ كذلك الألف في أنا والهاء إذا اتصلت الكلم التي هما فيها بشيء، سقطتا ولم يجز إثباتهما، كما لم تثبت به همزة الوصل، لأن الهمزة في هذا الطّرف، مثل الألف والهاء في هذا الطرف.
وقد يجرون الوقف مجرى الوصل في ضرورة الشعر، فيثبتون فيه ما حكمه أن يثبت في الوقف. وليس ذلك مما ينبغي أن يؤخذ به في التنزيل، لأنهم إنما يفعلون ذلك
[الحجة للقراء السبعة: 2/360]
لتصحيح وزن، أو إقامة قافية، وذانك لا يكونان في التنزيل، فمن ذلك قوله:
ضخم يحبّ الخلق الأضخمّا لما كان يقف على الأضخمّ بالتشديد، ليعلم أن الحرف في الوصل يتحرك، أطلق الحرف، وأثبت التشديد الذي كان حكمه أن يحذف. ولهذا وجه في القياس وهو: أن الحرف الذي للإطلاق لمّا لم يلزم، لأنّ في الناس من يجري القوافي في الإنشاد مجرى الكلام، فيقول:
أقلّي اللّوم عاذل والعتاب
[الحجة للقراء السبعة: 2/361]
واسأل بمصقلة البكري ما فعل فكذلك يلزم أن يقول: الأضخمّ على هذا فلا يطلق فإذا كان ذلك وجهاً في الإنشاد؛ علمت أن الحرف الذي للإطلاق غير لازم، فإذا لم يلزم لم يعتدّ به، وإذا لم يعتدّ به، كان الحرف المشدّد كأنّه موقوف عليه في الحكم، ومثل ذلك:
لقد خشيت أن أرى جدبّا ومثله:
ببازل وجناء أو عيهلّ ومثله:
تعرّض المهرة في الطّولّ
[الحجة للقراء السبعة: 2/362]
ومثله:
مثل الحريق وافق القصبّا فهذا النحو قد يجيء في الشعر على هذا. وليس هذا كوقف حمزة في مرضات من مرضات اللّه [البقرة/ 207] لأنّ الوقف على التاء لغة حكاها عن أبي الخطّاب، فقد استعمل في الكلام والشعر، وهذا الذي أثبت حرف الإطلاق مع التشديد إنما هو في الشعر دون الكلام، فليس قول القائل:
بل جوز تيهاء كظهر الجحفت مثل: عيهلّ، والقصبّا، ويمكن أن يكون قوله:
هم القائلون الخير والآمرونه وقوله:
ولم يرتفق والناس محتضرونه
[الحجة للقراء السبعة: 2/363]
الهاء فيه هاء الوقف التي تلحق في «مسلمونه» و «صالحونه» فألحق الهاء حرف اللين، كما ألحقوا الحرف المشدّد حرف الإطلاق، وأجروا غير القافية مجرى القافية، كما أجروا قوله:
لمّا رأت ماء السّلا مشروبا وإن لم يكن مصرّعاً مجرى المصرّع. ولا يجوز شيء من ذلك في غير الشعر.
وأمّا ما روي عن نافع من إثباته الألف في أنا إذا كانت بعد الألف همزة، فإنّي لا أعلم بين الهمزة وغيرها من الحروف فصلًا، ولا شيئاً يجب من أجله إثبات الألف التي حكمها أن تثبت في الوقف، بل لا ينبغي أن تثبت الألف التي حكمها أن
[الحجة للقراء السبعة: 2/364]
تلحق في الوقف، وتسقط في الوصل قبل الهمزة، كما لا تثبت قبل غيرها من الحروف في شيء من المواضع. وقد جاءت ألف إنّا مثبتة في الوصل في الشعر من ذلك:
قول الأعشى:
فكيف أنا وانتحالي القواف... ي بعد المشيب كفى ذاك عارا
وقول الآخر:
أنا شيخ العشيرة فاعرفوني... حميد قد تذرّيت السّناما
ومن زعم أن الهمزة في إنّا أصلها ألف ساكنة، ألحقت أولًا، فلما ابتدئ بها قلبت همزة، فالهمزة على هذا مبدلة من
[الحجة للقراء السبعة: 2/365]
ألف؛ فإنّ قائل هذا القول جاهل بمقاييس النحويين، وبمذاهب العرب في نحوه.
أما جهله بمقاييس النحويين فإنهم لا يجيزون الابتداء بالساكن، فلذلك قال الخليل: لو لفظت بدال «قد» لجلبت همزة الوصل فقلت: إد، وقال أبو عثمان: لو لم تحذف الواو من عدة ونحوها، للزمك أن تجتلب الهمزة للوصل، فقلت:
إيعدة.
وأما موضع الجهل بمذاهب العرب التي عليها قاس النحويون: فهو أنهم لم يبتدءوا بساكن في شيء من كلامهم، فإذا أدى إلى ذلك قياس اجتلبوا همزة الوصل. ويبيّن ذلك أنهم لم يخففوا الهمزة مبتدأة، لأن في تخفيفها تقريباً من الساكن، فكما لم يبتدءوا بالساكن، كذلك لم يبتدءوا بما كان مقرّباً منه. ومما يبيّن ذلك أنّهم إذا توالى حرفان متحرّكان [في أول بيت]، حذفوا للجزم المتحرك الأول حتى يصير فعولن:
عولن، وقد توالى في «متفا» من «متفاعلن» ثلاث متحركات فلم يخرموه، لما كان الثاني من «متفا» قد يسكن للزّحاف، فإذا سكن للزحاف لزمه أن يبتدئ بساكن، فإذا كانوا قد رفضوا ما يؤدي إلى الابتداء بالساكن، فأن يرفضوا الابتداء بالساكن نفسه أولى، وإذا كان الأمر على ما وصفنا، تبيّنت أنّ الذي قال ذلك جهل ما ذكرنا من مقاييس النحويين، ومذاهب العرب فيها أو تجاهل، وتبينت أيضاً أنه ليس في الحروف التي يبتدأ بها
[الحجة للقراء السبعة: 2/366]
حرف مبدل للابتداء به، وأن الحروف التي يبتدأ بها على ضربين: متحرك وساكن، فإن كان متحركاً ابتدئ به ولم يغيّر من أجل الابتداء به، وإن كان ساكناً، اجتلبت له همزة الوصل في اسم كان، أو فعل، أو حرف، وقد كان من حكم مثل هذا الرأي أن لا يتشاغل به لسقوطه وخروجه من قول الناس). [الحجة للقراء السبعة: 2/367]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن السَّمَيفَع: [فبَهَتَ الذي كَفَرَ] بفتح الباء والهاء والتاء، وكذلك قرأ أيضًا نُعيم بن ميسرة، وقرأنة أبو حيوة شريح بن يزيد: [فبَهُتَ] بفتح الباء وضم الهاء، والقراءة العامة: {فَبُهِتَ}.
قال أبو الفتح: زاد أبو الحسن الأخفش قراءة أخرى لا يحضرني الآن ذكر قارئها، لم يسندها أبو الحسن: [فبَهِتَ] بوزن عَلِمَ، فتلك أربع قراءات.
فأما [بُهِتَ] قراءة الجماعة، فلا نظر فيها.
وأما [بَهِتَ] فبمنزلة خَرِق وفرِق وبرِق.
وأما [بَهُتَ] فأقوى معنى من بَهِتَ؛ وذلك أن فعُل تأتي للمبالغة كقولهم: قَضُو الرجل إذا جاد قضاؤه، وفقُه إذا قوي في فقهه، وشعُر إذا جاد شعره. وروينا عن أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى: أن العرب تقول:
[المحتسب: 1/134]
ضرُبت اليد: إذا جاد ضربها، وكذلك بَهُت: إذا تناهى في الْخَرَق والبَرَق والحيرة والدَّهَش.
وأما [بَهَتَ] فقد يمكن أن يكون من معنى ما قبله، إلا أنه جاء على فَعَل كذَهَل ونَكَل وعجز وكَلَّ ولَغَب، فيكون على هذا غير متعدٍّ كهذه الأفعال.
وقد يمكن أن يكون متعديًا ويكون مفعوله محذوفًا؛ أي: فبَهَتَ الذي كفر إبراهيم عليه السلام.
فإن قيل: فكيف يجوز على هذا أن يجتمع معنى القراءتين؟ ألا ترى أن بُهِتَ قد عُرف منه أنه كان مبهوتًا لا باهتًا، وأنت على هذا القول تجعله الباهت لا المبهوت.
قيل: قد يمكن أن يكون معنى قوله: بَهت أي رام أن يبهَت إبراهيم عليه السلام، إلا أنه لم يستوِ له ذلك، وكانت الغلبة فيه لإبراهيم عليه السلام.
وجاز أن يقول: بَهَتَ، وإنما كانت منه الإرادة، كما قال جل وعز: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} أي: إذا أردتم القيام إليها، كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي: إذا أردت قراءته، فاكتفى بالمسبب الذي هو القيام، والقراءة من السبب الذي هو الإرادة.
وقد أفردنا لهذا الموضع بابًا في كتابنا الخصائص.
ويجوز جوازًا حسنًا أن يكون فاعل [بَهَتَ] إبراهيم؛ أي: فبَهَت إبراهيمُ الكافرَ؛ ليلتقي معنى هذه القراءة مع معنى الأخرى التي هي: {فبُهِتَ الذي كفر}، وعليه قطع أبو الحسن.
فإن قيل: فما معنى هذا التطاول والإبعاد في اللفظ، ولم يقل: {بُهِتَ} وإبراهيم عليه السلام هو الباهت؟
قيل: إن الفعل إذا بُني للمفعول لم يلزم أن يكون ذلك للجهل بالفاعل؛ بل ليعلم أن الفعل قد وقع به، فيكون المعنى هذا لا ذكر الفاعل، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا}، وقوله: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ}، وهذا مع قوله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ}، وقال سبحانه: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَق}، فالغرض في نحو هذا المعروف الفاعل إذا بني للمفعول إنما هو الإخبار عن وقوع الفعل به حسب، وليس الغرض فيه ذكر من أوقعه به، فاعرف ذلك). [المحتسب: 1/135]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قال أنا أحيي وأميت}
قرأ نافع {أنا أحيي} و{أنا آتيك} بإثبات الألف من أنا في الوصل وحجته إجماعهم على الوقف بالألف في أنا فأجرى الوصل مجرى الوقف
وقرأ الباقون {أنا أحيي} بغير ألف في الوصل وحجتهم أن الألف بعد النّون إنّما زادوا للوقف فإذا أدرجوا القراءة زالت العلّة فطرحوها لزوال السّبب الّذي أدخلوها من اجله وهي بمنزلة هاء الوقف تدخل لبيان الحركة في الوقف). [حجة القراءات: 142]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (168- قوله: {أنا أحيي} «258» قرأه نافع بإثبات الألف في الوصل، إذا أتى بعد «أنا» همزة مفتوحة أو مضمومة، وذلك اثنا عشر موضعًا في القرآن، وقرأ الباقون بغير ألف، ولا اختلاف في الوقف أنه بالألف، وكلهم حذف الألف، إذا لم يأت بعدها همزة، وكذلك إن أتت بعد «أنا» همزة مكسورة، وقد ذكرنا ما روي عن قالون في إثبات الألف في «أنا» في الوصل مع الهمزة المكسورة، وبالحذف قرأت له، فأما الوقف فلابد من الألف لجميعهم في «أنا» على أي حال كانت.
169- وحجة من أثبت الألف معه الهمزة المضمومة والمفتوحة، وهو نافع، أنه لما تمكن له مد الألف للهمزة، كره أن يحذف الألف، ويحذف مدتها، فأثبتها في الموضع الذي يصحب الألف فيه المد، وحذفها في الموضع الذي لا تصحب الألف فيه المد نحو: {أنا ومن اتبعني} «يوسف 108» والألف زائدة عند البصريين، والاسم المضمر عندهم الهمزة والنون، وزيدت الألف للتقوية، وقيل: زيدت للوقف لتظهر حركة النون، والاسم عند الكوفيين «أنا» بكماله.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/306]
فنافع في إثبات الألف على قولهم على الأصل، وإنما حذف الألف من حذفها استخفافًا، ولأن الفتحة تدل عليها، ولابد من إثباتها في الوقف، وقد كان يلزم نافعًا إثبات الألف، إذ أتت بعدها همزة مكسورة، كما روي عن قالون، لأنه موضع يمكن فيه المد، وتحذف فيه الألف ومدتها، ولكن لما قل ذلك في القرآن، فلم يقع منه إلا ثلاثة مواضع، أجراه مجرى ما ليس بعده همزة لقلته، فحذف الألف في الوصل، وما روي عن قالون، من إثبات الألف، هو جار على العلة في المفتوحة والمضمومة.
170- وحجة من حذف الألف في الوصل، في جميع الباب كله، أن الألف إنما جيء بها لبيان حركة النون، كهاء السكت؛ لأن الاسم لما قلت حروفه، اختل في الوقف، لزوال حركة النون، فجاء بالألف في الوقف، لتبقى حركة النون على حالها، ولا حاجة إلى الألف في الوصل؛ لأن النون فيه متحركة، والاسم هو الهمزة والنون، والألف زائدة كهاء السكت). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/307]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (90- {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [آية: 258]:-
بإثبات الألف بعد النون، قرأها نافع –ش- و- ن-، وكذلك في جميع القرآن، إذا لقيت همزةً مفتوحة أو مضمومة، فإذا كانت مكسورة فلا تثبت الألف.
ووجه ذلك أن هذه الكلمة هي ضمير المتكلم، والاسم منها هو الهمزة والنون فحسب، فأما الألف التي بعد النون فإنما ألحقت حالة الوقف ليوقف عليها، وليبقى آخر الاسم على حركته، كما ألحقت هاء الوقف حيث ألحقت لذلك فهي تجري مجراها، فينبغي أن تسقط هذه الألف في الوصل، كما تسقط الهاء في الوصل، إلا أن نافعًا أراد أن يجري الوصل مجرى الوقف، وهو ضعيف جدًا؛ لأن مثل ذلك إنما يأتي في ضرورة الشعر، نحو قول الأعشى:-
17- فكيف أنا وانتحالي القوافـ = ـي بعد المشيب كفى ذاك عارا
[الموضح: 338]
وليس هذا مما يحسن الأخذ به في القرآن.
وإثبات نافع هذه الألف مع الهمزة المفتوحة والمضمومة دون المكسورة هو لإرادة الأخذ بالوجهين، ولأن الهمزة بعد الألف أبين، وامتناعه عنها عند كسر الهمزة لاستثقال الكسرة فيها بعد الألف والفتحة.
وقرأ الباقون {أَنَ} بغير ألف، وكذلك –يل- عن نافع.
وذلك أن هذا هو الأصل الذي ينبغي أن يكون عليه الكلام، وهو أن لا يلحق {أَنَا} الألف في حال الوصل، لما تقدم من أنها أداة وقف تلحق في حال الوقف دون الوصل كالهاء). [الموضح: 339]
قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (لبثت... (259)، و: (لبثتم).
أظهر الثاء في (لبثت) و(لبثتم) ابن كثير ونافع وعاصم حيث وقعت.
وأدغمه الباقون، إلا أن يعقوب أظهرها في حرفين في سورة المؤمنين، عند قوله: (قال كم لبثتم)، و(قال إن لبثتم).
قال أبو منصور: من أدغم فقرأ (لبتّم) فلقرب مخرجي التاء والثاء.
ومن أظهر الثاء فلأنه أشبع وأتم، وأنا أختار الإظهار.
قوله جلّ وعزّ: (لم يتسنّه... (259).
قرأ حمزة ويعقوب بحذف الهاء من (يتسنّه) في الوصل، وكذلك
[معاني القراءات وعللها: 1/219]
(فبهداهم اقتده)، و(ما أغنى عنّي ماليه (28) هلك عنّي سلطانيه (29)
و(ما أدراك ما هيه (10).
وزاد يعقوب على حمزة حذف الهاء من قوله: (كتابيه) و: (حسابيه) وأثبتها حمزة.
وحذت الكسائي الهاء من (يتسنّه) ومن (اقتده)، في الوصل، وأثبت الهاء في الوصل والوقف، أي في غيرهما، ولم يختلفوا في أن الهاء ثابتة في الوقف، والباقون يصلون بالهاء ويقفون على الهاء.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال في قوله: (لم يتسنّه): قرأها أبو جعفر وشيبة ونافع وعاصم بإثبات الهاء إن وصلوا وإن قطعوا، وكذلك قوله: (اقتده) وما أشبهه في القرآن.
ووافقهم أبو عمرو إلا في الأنعام، فإنه كان يحذف الهاء منه في الوصل، ويثبتها في الوقف، وكان الكسائي يحذف الهاء من (يتسنّه)، و(اقتده)، في الوصل، ويثبتها في
[معاني القراءات وعللها: 1/220]
الوقف ولا يفعل ذلك في سائر هاءات الوقف في القرآن، وكان عاصم يثبتها في الوقف في القرآن كله، ويحذفها في الوصل، مثل قوله: (يا ليتني لم أوت كتابيه)، و(ما أدراك ما هيه).
وكان الأعمش وحمزة يفعلان ذلك أيضًا في قوله: (لم يتسنّه)، وفي: (فبهداهم اقتده)، وفي حرفين من الحاقة: (ماليه) و(سلطانيه) وأما ما سواها فإنهما كانا يثبتان الهاء في الوصل والقطع.
قال أبو العباس: ونحن نذهب إلى أن هذه الهاءات هاءات وقف، والوجه فيها كلها أن تحذف في الموصل والممر، وتثبت في الموقف، فهذا الوجه
[معاني القراءات وعللها: 1/221]
في العربية، وقد تصل العرب على مثال الوقف، فيكون الوصل كالقطع، وهذا من ذلك، فاعلم.
وقوله جلّ وعزّ: (كيف ننشزها... (259).
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب: (ننشرها) بالراء، وقرأ الباقون: (ننشزها) بالزاي.
وروى عبد الوهاب بن عطاء عن أبان عن عاصم: (كيف ننشرها) بفتح النون وضم الشين، وهي قراءة الحسن.
قال أبو منصور: من قرأ (ننشزها) بالزاي فالمعنى: نجعلها بعد بلاها وهمودها ناشزةً، تنشز بعضها إلى بعض، أي: ترتفع، مأخوذ من نشز، والنشز هو: ما ارتفع من الأرض.
ومن قرأ: (ننشرها) بالراء فمعناه: نحييها، يقال: أنشر الله الموتى، أي: أحياهم فنشروا، أي: حيوا، ومن
[معاني القراءات وعللها: 1/222]
قرأ (ننشرها) فهو مأخوذ من النشر بعد الطي.
والقراءة (ننشرها) أو (ننشزها) بضم النون الأولى فيهما، وأما (ننشرها) فهي شاذة، لا أرى القراءة بها.
وقوله عزّ وجلّ: (قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ (259).
قرأ حمزة والكسائي: (قال اعلم) بالأمر.
وقرأ الباقون: (أعلم) بقطع الألف وضم الميم.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس أنه قال في قراءة عبد الله: (قيل اعلم) على الأمر.
وكذلك قرأ حمزة والكسائي، اعتبرا قراءة عبد الله، وأما أبو جعفر وشيبة وعاصم ونافع وأبو عمرو فإنهم قرأوا: (قال أعلم)، قال: واختارها أبو عمرو على أنه من مقالة الذي أحياه الله.
وقال أحمد ابن يحيى: وأنا أختاره؛ لأنه مفسر في حديثه أنه لما رأى ما صنع به وبحماره قال عند ذلك: (أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ) قال أبو العباس: ونحن
[معاني القراءات وعللها: 1/223]
نذهب به إلى الجزم؛ لأن من قرأ به أكثر، على أنه قيل لإبراهيم: و(اعلم أنّ اللّه عزيزٌ حكيمٌ) ). [معاني القراءات وعللها: 1/224]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (31- وقوله تعالى: {كم لبثت}
قرأ ابن كثير ونافع وعاصم بإظهار الثاء عند التاء على أصل الكلمة.
وقرأها الباقون بالإدغام لقرب الثاء من التاء، وقد مرت علله في قوله تعالى: {ثم اتخذتم العجل} ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/93]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (32- وقوله تعالى: {قال أعلم أن الله}
قرأ حمزة والكسائي: {قال أعلم}، فإاذ وقفا على «قال» ابتدأ «اِعْلم» بالكسر.
وقرأ الباقون {قال أعلم} بقطع الألف، وهو ألف المخبر عن نفسه، وهو فعل مستقبل ويبتدئ كما يصل، وهو الاختيار؛ لأنه من كلام الرجل أخبر عن نفسه). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/93]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (33- وقوله تعالى: {لم يتسنه}.
قرأ حمزة: {لم يتسن} بغير هاء، و{فبهدايهم اقتد} {وما أغنى
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/93]
عني مالي} {وسلطاني} {وما أدريك ما هي} كل ذلك بغير هاء في الوصل، وبإثباتها في الوقف، ولم يختلف القراء في الوقف أنها بالهاء.
وقرأ الكسائي بحذف هاتين منها {يتسن} و{اقتد}.
وقرأ الباقون بالهاء في الوصل والوقف، فمن وقف عليها بالهاء وهو الاختيار قال: هذه هاءُ السكت، أُتي بها ليبين بها حركة ما قبلها ولا يجوز حركتها. فأما من روى عن ابن عامر {فبهدايهم اقتدهى} فقد أخطأ. وتُحذف في الوصل؛ لأن الكلام الذي بعده صار عوضًا منها، وهو اختيار أبي العباس المبرد.
وأما من أثبت الهاء وصل أو قطع فإنه يتبع المصحف.
وحدثني أحمد بن عبدان، عن علي بن عبد العزيز، عن أبي عبيد قال: الاختيار أن يتعمد الرجل للوقف على الهاء؛ ليجتمع له في ذلك موافقة المصحف واللغة الجيدة. فأما الكسائي فإنه أثبت مواضع، وحذف هنالك ليعلم أن اللغتين جائزتان. ومعنى {لم يتسنه} أي: لم يأت عليه السنون ولو كانت من الآسن: وهو المتغير لكان لم يتأسن. والسنون يجتذبها أصلان الواو والهاء، يقال: اكتريت غلامي مساناة ومسانهة، قال الشاعر:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/94]
ليست بسنهاء ولا رجبية = ولكن عرايا في السنين الجوانح
فيجوز أن تكون الهاء في {لم يتسنه} لام الفعل وسكونها علامة الجزم ويجوز أن يريد لم يتسنَّن، فتبدل إحدى النونات ألفا فيصير يتسنَّى ثم يسقط الألف للجزم، فهذا أصل ثالث، فتقول: على هذا اكتريت غلامي مسانة، وتقول: على هذه الأصول الثلاثة، إذا صغَّرت السنة: سُنية وسُنيهة وسُنينة، فأما تصغير السن فسنينةٌ لا غير). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/95]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (35- وقوله تعالى: {كيف ننشزها} [259]
قرأ أهل الكوفة وابن عامر بالزاي وضم النون.
حدثنا ابن مجاهد قال: حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا شبابة قال: قرأ أبو عمرو: {كيف ننشزها} بفتح النون، ننشز فعل لازم، والمتعدي منه أنشز، نحو: جلس زيد وأجلسه غيره.
وقرأ الباقون: (كيف ننشرها) بالراء وضم النون، وجعله أبو عمرو من
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/96]
قولهم: نزحت البئر نزحت البئر نُزحت البئر، وفغر فاهُ وفُغرفوه، وقال الفراء: {كيف ننشزها} الاختيار بالزاي؛ لأن العظام ما بليت، ولو كان بالية لقرأتها بالراء {ننشرها}.
فحجة من قرأ بالراء {ثم إذا شاء أنشره} {إليه النشور} وتقول العرب: نشر الميت وأنشره الله، قال الشاعر:
* يا عجبًا للميت الناشر *
ومن قرأ بالزاي فحجته ما حدثنا أحمد بن عبدان، عن علي بن عبد العزيز، عن أبي عبيد قال: حدثنا حجاج، عن هارون: عن شعيب بن الحجاب، عن أبي العالية عن زيد بن ثابت: {كيف ننشرها} قال: إنما هي زاي فزوها قال أبو عبيد: معناه أشبع إعجامها.
قال أبو عبد الله: أي صيرها زايًا لا راءً؛ لأن العرب تقول: لما كان على ثلاثة أحرف، صودت صادًا، وكوفت كافًا وزويت زايًا، ولو أرادوا راء لقالوا ربيها بالياء كما قالوا: أيبتها من الياء، فتأمل ذلك فإنه لطيفٌ جدًا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/97]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في إدغام الثّاء في التاء من قوله تعالى: كم لبثت [البقرة/ 259] ولبثتم.
فقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في كلّ القرآن ذلك بإظهار الثاء.
وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائيّ بالإدغام.
قال أبو علي: من بيّن لبثت ولم يدغم، فلتباين المخرجين، وذلك أنّ الظاء والذال والثاء من حيّز، والطاء والتاء والدال من حيّز، فلمّا تباين المخرجان، واختلف الحيّزان لم يدغم.
ومن أدغم أجراهما مجرى المثلين، من حيث اتفق الحرفان في أنّهما من طرف اللسان وأصول الثنايا، واتّفقا في الهمس، ورأى الذي بينهما من الاختلاف في المخرج خلافاً يسيراً فأدغم، وأجراهما مجرى المثلين. ويقوّي ذلك وقوع نحو هذا حرفي رويّ في قصيدة واحدة، فجرى عندهم في ذلك
[الحجة للقراء السبعة: 2/367]
مجرى المثلين. ويقوّي ذلك اتفاقهم في ستّ في الإدغام. ألا ترى أن الدّال ألزمت الإدغام في مقاربها، وإن اختلفا في الجهر والهمس، ولما ألزمت الدال الإدغام في مقاربها، فصارت الكلمة بذلك على صورة لا يكون في كلامهم مثلها، إلّا أن يكون صوتا، أبدلت من السين التاء، وأدغمت الدال في التاء فصار ستّا، فبحسب إلزامهم الإدغام في هذه الكلمة مع اختلاف الحرفين في الجهر والهمس يحسن الإدغام في:
لبثت ولبثتم. ويقوّي الإدغام فيه أيضاً أنّ التاء ضمير فاعل، وضمير الفاعل يجري مجرى الحرف من الكلمة، يدلّ على ذلك وقوع الإعراب بعد ضمير الفاعل في: يقومان، ونحوها، وسكون اللّام في نحو: فعلت، فضارع بذلك الحرفين المتصلين، وإذا صار بمنزلة المتصلين من حيث ذكرنا، لزم الإدغام كما لزم في ستّ، وكما أدغم من أسكن العين في وتد فقال: ودّ.
اختلفوا في إثبات الهاء في الوصل من قوله عزّ وجلّ:
لم يتسنّه [البقرة/ 259] واقتده [الأنعام/ 90] وما أغنى عنّي ماليه [الحاقة/ 28]
[الحجة للقراء السبعة: 2/368]
وسلطانيه [الحاقة/ 29] وما أدراك ما هيه [القارعة/ 10]، وإسقاطها في الوصل ولم يختلفوا في إثباتها في الوقف.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلّها بإثبات الهاء في الوصل. وكان حمزة يحذفهنّ في الوصل. وكان الكسائيّ يحذف الهاء في الوصل من قوله:
يتسنّه واقتده ويثبتها في الوصل في الباقي.
وكلّهم يقف على الهاء، ولم يختلفوا في كتابيه [الحاقة/ 19 - 25] وحسابيه [الحاقة/ 20 - 26] أنّها بالهاء في الوقف.
قال أبو عليّ: السنة تستعمل على ضربين: أحدهما:
يراد به الحول والعام والآخر: يراد به الجدب، خلاف الخصب.
فمما أريد به الجدب قوله تعالى: ولقد أخذنا آل فرعون بالسّنين ونقصٍ من الثّمرات [الأعراف/ 130] ومنه ما يروى من
قوله: «اللهمّ سنين كسنيّ يوسف»
وقول عمر: إنّا
[الحجة للقراء السبعة: 2/369]
لا نقطع في عرق ولا في عام السّنة» فلا يخلو عام السنة من أن يريد به الحول أو الجدب، فلا يكون الأول لأنّه يلزم أن يكون التقدير: عام العام، ولا يكون عام العام، كما لا يكون حول الحول، فإذا لم يستقم هذا، ثبت الوجه الآخر. ومن ذلك قول أوس:
على دبر الشّهر الحرام بأرضنا... وما حولها جدب سنون تلمّع
فقوله: تلمّع، معناه: لا خصب فيها ولا نبات، كقولهم:
السنة الشهباء، كأنها وصفت بالشّهب الذي هو البياض، كما وصف خلافها لريّ النبات فيها بالسّواد، وعلى ذلك جاء في وصف الجنتين: مدهامّتان [الرحمن/ 64] وقال ذو الرّمة في وصف روضة:
[الحجة للقراء السبعة: 2/370]
حوّاء قرحاء أشراطيّة وكفت... فيها الذّهاب وحفّتها البراعيم
فأمّا قوله تعالى: والّذي أخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى [الأعلى/ 4 - 5] فإنّ قوله: أحوى يحتمل ضربين:
يجوز أن يكون أحوى وصفاً للمرعى كأنّه: والذي أخرج المرعى أحوى، أي: كالأسود من الرّي لشدة الخضرة فجعله غثاء بعد. ويجوز أن يكون أحوى صفة للغثاء، وذلك أنّ الرّطب إذا جفّ ويبس اسودّ بعد، كما قال:
إذا الصّبا أجلت يبيس الغرقد... وطال حبس بالدّرين الأسود
ومما يراد به الجدب قول حاتم:
وإنّا نهين المال من غير ضنّة... ولا يشتكينا في السنين ضريرها
أي: لا يشتكينا الفقير في المحل، لأنّا نسعفه ونكفيه.
وإذا ثبت أنّ السنة والسنين الجدوب فيجوز أن يكون
[الحجة للقراء السبعة: 2/371]
لم يتسنّه: لم تذهب طراءته، فيكون قد غيّره الجدب، فشعّثه وأذهب غضارته. ولمّا كانت السنة يعنى بها الجدب، اشتقوا منها كما يشتقّ من الجدب، فقيل: أسنتوا: إذا أصابتهم السّنة فأجدبوا قال الشاعر:
بريحانة من بطن حلية نوّرت... لها أرج ما حولها غير مسنت
وقد اشتق من السّنة للجدب من كلتا اللغتين اللتين فيها:
فأسنتوا من الواو، وقوله:
ليست بسنهاء من الهاء. فأمّا قوله:
تأكل أزمان الهزال والسّني
[الحجة للقراء السبعة: 2/372]
فلا يصلح أن يقدر فيه أنّه ترخيم، لأنّ الترخيم إنّما يستقيم أن يجوز في غير النداء منه ما كان يجوز منه في النداء، فأمّا إذا لم يجز أن تكون الكلمة مرخمة في نفس النداء فأن لا يجوز ترخيمها في غير النداء أجدر. وإنما أراد بالسني: جمع فعلة على فعول، مثل: مأنة ومئون. وكسر الفاء كما كسر في عصيّ، وخفف للقافية كما خفّف الآخر:
كنهور كان من اعقاب السّمي وإنّما السّميّ كعنوق، كما أنّ سماء كعناق.
ويدلّ على صحة هذا قول أبي النجم:
قامت تناجيني ابنة العجليّ... في ساعة مكروهة النّجيّ
يكفيك ما موّت في السّنيّ فالتخفيف والحذف الذي جاء في السنيّ للقافية، تمّم في بيت أبي النجم. والسنيّ في قول أبي النجم معناه: الجدب، كأنّه: ما موّت في الجدوب. وقالوا: سنون، وسنين، [وجاء سنين] كثيراً في الشعر.
[الحجة للقراء السبعة: 2/373]
وقد أنشدنا في كتابنا في «شرح الأبيات المشكلة الإعراب من الشعر» في ذلك صدرا فمن ذلك: قول الشاعر:
دعاني من نجد فإنّ سنينه... لعبن بنا شيباً وشيّبننا مردا
فأمّا قوله تعالى: لم يتسنّه [البقرة/ 259] فيحتمل ضربين: أحدهما: أن تكون الهاء لاماً فيمن قال: سنهاء، فأسكنت للجزم، والآخر: أن يكون من السنة فيمن قال:
أسنتوا، وسنوات، أو يكون من المسنون الذي يراد به التّغيّر كأنّه كان لم يتسنّن، ثم قلب على حد القلب في لم يتظنّن.
ويحكى أنّ أبا عمرو الشيباني إلى هذا كان يذهب في هذا الحرف.
فالهاء في يتسنّه على هذين القولين تكون للوقف، فينبغي أن تلحق في الوقف، وتسقط في الدّرج.
فأمّا قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو وعاصم وابن عامر هذه الحروف كلّها بإثبات الهاء في الوصل فإنّ ذلك مستقيم
[الحجة للقراء السبعة: 2/374]
في قياس العربية في يتسنّه، وذلك أنّهم يجعلون اللام في السنة الهاء، فإذا وقفوا وقفوا على اللام، وإذا وصلوا كان بمنزلة: لم ينقه زيد، ولم يجبه عمرو.
فأما قوله تعالى: اقتده [الأنعام/ 90] فإنه أيضاً يستقيم، وذلك أنّه يجوز أن تكون الهاء كناية عن المصدر، ولا تكون التي تلحق للوقف. ولكن لما ذكر الفعل دلّ على مصدره، فأضمره كما أضمر في قوله: ولا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيراً لهم [آل عمران/ 180].
وقال الشاعر:
فجال على وحشيّه وتخاله... على ظهره سبّاً جديداً يمانيا
وقال آخر:
هذا سراقة للقرآن يدرسه... والمرء عند الرّشى إن يلقها ذيب
فالهاء في يدرسه للمصدر، ألا ترى أنّها لا تخلو من أن تكون للمصدر أو للمفعول به، فلا يجوز أن تكون للمفعول به، لأنّه قد تعدّى إليه الفعل باللّام، فلا يكون أن يتعدى إليه مرة ثانية، فإذا لم يجز ذلك علمت أنّه للمصدر، وكذلك قراءة من
[الحجة للقراء السبعة: 2/375]
قرأ: ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها [البقرة/ 148] إذا تعدى الفعل باللّام إلى المفعول. لم يتعدّ إليه مرة أخرى، فكذلك قوله: فبهداهم اقتده [الأنعام/ 90] يكون: اقتد الاقتداء، فيضمر لدلالة الفعل عليه. وأمّا إجماعهم في: ما أغنى عنّي ماليه [الحاقة/ 28] وسلطانيه [الحاقة/ 29] وما أدراك ما هيه [القارعة/ 10] فالإسقاط للهاء في الدرج أوجه في قياس العربية.
ووجه الإثبات أنّ ما كان من ذلك فاصلة أو مشبها للفاصلة في أنّه كلام تام يشبّه بالقافية، فيجعل في الوصل مثله في الوقف، كما يفعل ذلك في القافية، فيجعل في الوصل مثله في الوقف.
وقول حمزة في ذلك أسدّ، وذلك أنه يحذف ذلك كلّه في الوصل، وحجته: أن من الناس من يجري القوافي في الإنشاد مجرى الكلام فيقول:
واسأل بمصقلة البكريّ ما فعل و:
أقلي اللوم عاذل والعتاب فإذا كانوا قد أجروا القوافي مجرى الكلام؛ فالكلام الذي ليس بموزون، أن لا يشبّه بالقوافي أولى.
[الحجة للقراء السبعة: 2/376]
والكسائي قد وافق حمزة في حذف الهاء من قوله:
يتسنّه واقتده، وأثبت الهاء في الوصل في الباقي، وحجته في إثباته الهاء فيما أثبت مما حذف فيه حمزة الهاء، أنه أخذ بالأمرين، فشبّه البعض بالقوافي، فأثبت الهاء فيه في الوصل كما تثبت في القوافي، ولم يشبّه البعض، وكلا الأمرين سائغ.
قال أحمد بن موسى: ولم يختلفوا في كتابيه وحسابيه أنّها بالهاء في الوصل، فاتفاقهم في هذا دلالة على تشبيههم ذلك بالقوافي، وذلك أنه لا يخلو من أن يكون لهذا التشبيه، أو لأنّهم راعوا إثباتها في المصحف، فلا يجوز أن يكون لهذا الوجه، ألا ترى أنّ تاءات التأنيث أو عامّتها قد أثبتت في المصحف هاءات، لأنّ الكتابة على أنّ كلّ حرف منفصل من الآخر وموقوف عليه.
فلو كان ذلك للخط، لوجب أن تجعل تاءات التأنيث في الدّرج هاءات لكتابتهم إياها هاءات، ولوجب في نحو قوله:
إخواناً على سررٍ متقابلين [الحجر/ 47] أن يكون في الدرج بالألف، لأنّ الكتابة بالألف، فإذا لم يجز هذا، علمت أنّ الكتابة ليست معتبرة في الوقف على هذه الهاءات.
وإذا لم تكن معتبرة، علمت أنّه للتشبيه بالقوافي. ولإثبات هذه الهاءات في الوصل وجيه في القياس، وذلك أنّ سيبويه حكى في العدد أنّهم يقولون: ثلاثة أربعة، فقد أجروا
[الحجة للقراء السبعة: 2/377]
الوصل في هذا مجرى الوقف، ألا ترى أنّه أجرى الوصل مجرى الوقف في إلقائه حركة الهمزة على التاء التي للتأنيث، وإبقائها هاء كما تكون في الوقف. ولم يقلبها تاء كما يقول في الوصل: هذه ثلاثتك، فيجيء بالتاء؟ فكذلك قوله: كتابيه وعلى هذا المسلك يحمل تبيين أبي عمرو النون في: ياسين والقرآن [يس/ 1 - 2] لما كانت هذه الحروف التي للتهجي موضوعة على الوقف، كما أنّ أسماء العدد كذلك، وصلها وهو ينوي الوقف عليها، ولولا أنّ نيّته الوقف لم يجز تبيين النون.
ألّا ترى أنّ أبا عثمان يقول: إن تبيين النون عند حروف الفم لحن؟ فعلى هذا إثبات الهاء، وهذا أيضاً ينبغي أن يكون محمولًا على ما رواه سيبويه من قولهم: ثلاثة أربعة، وترك القياس على هذا أولى من القياس عليه، لقلة ذلك، وخروجه مع قلته على القياس. وإذا جاء الشيء خارجاً عن قياس الجمهور والكثرة في جنس، لم ينبغ أن يجاوز به ذلك الجنس. وحروف التهجي، وأسماء العدد كالقبيل الواحد، لمجيئهما جميعاً مبنيّين، على الوقف وليس غيرهما كذلك.
وسيبويه لا يعتدّ بهذه الشواذ ولا يقيس عليها. ومن رأى مخالفته جاوز بذلك باب العدد والتهجي.
[الحجة للقراء السبعة: 2/378]
اختلفوا في: الراء والزاي من قوله تعالى: كيف ننشزها [البقرة/ 259] فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو:
ننشرها بضم النون الأولى وبالراء. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: ننشزها بالزاي. وروى أبان عن عاصم كيف ننشرها: بفتح النون الأولى وضم الشين. حدثني عبيد الله بن علي عن نصر بن علي عن أبيه عن أبان عن عاصم مثله. وروى عبد الوهاب عن أبان عن عاصم كيف ننشرها بفتح النون الأولى وضم الشين وبالراء مثل قراءة الحسن.
قال أبو علي: من قال: كيف ننشرها، فالمعنى فيه: كيف نحييها، وقالوا: أنشر الله الميّت فنشر، وفي التنزيل: ثمّ إذا شاء أنشره [عبس/ 22] وقال الأعشى:
يا عجبا للميّت الناشر وقد وصفت العظام بالإحياء قال تعالى: من يحي العظام وهي رميمٌ قل يحييها الّذي أنشأها أوّل مرّةٍ [يس/ 78 - 79]
[الحجة للقراء السبعة: 2/379]
وكذلك في قوله تعالى: كيف ننشرها وقد استعمل النشر في الإحياء في قوله تعالى: وإليه النّشور [الملك/ 15] وقال تعالى: وهو الذي يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته [الأعراف/ 57] فنشر: مصدر في موضع الحال من الريح، تقديره: ناشرة، من نشر الميت فهو ناشر.
قال أبو زيد: أنشر الله الريح إنشاراً: إذا بعثها، وقد أرسلها نشراً بعد الموت. فتفسير أبي زيد له بقوله: بعثها، إنّما هو لأنّ البعث قد استعمل في الإحياء من نحو قوله: ثمّ بعثناكم من بعد موتكم [البقرة/ 56] وقال تعالى وهو الّذي يتوفّاكم باللّيل ويعلم ما جرحتم بالنّهار ثمّ يبعثكم فيه [الأنعام/ 60] وقال: اللّه يتوفّى الأنفس حين موتها والّتي لم تمت في منامها فيمسك الّتي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجلٍ مسمًّى [الزمر/ 42] فجاء في هذا المعنى الإرسال، كما جاء البعث في قوله: ثمّ يبعثكم فيه فالمعنى واحد. ومما جاء فيه وصف الريح بالحياة، قول الشاعر:
وهبّت له ريح الجنوب وأحييت... له ريدة يحيي المياه نسيمها
[الحجة للقراء السبعة: 2/380]
وقالوا: ريح ريدة، ورادة، وريدانة، وكما وصفت بالحياة كذلك وصفت بالموت في قول الآخر:
إنّي لأرجو أن تموت الرّيح... فأقعد اليوم وأستريح
فكما وصفت بالنشر كذلك وصفت بالإحياء، فالنشر والحياة والبعث والإرسال تقارب في هذا المعنى.
فأما ما روي عن عاصم من قوله: كيف ننشرها بفتح النون الأولى، وضم الشين، وبالراء مثل قراءة الحسن، فإنّه يكون من: نشر الميّت، ونشرته أنا، مثل: حسرت الدابّة، وحسرتها أنا، وغاض الماء، وغضته، قال:
كم قد حسرنا من علاة عنس أو يكون جعل الموت فيها طيّا لها، والإحياء نشراً. فهو على هذا مثل: نشرت الثوب.
وأمّا من قرأ: ننشزها بالزاي فالنشز: الارتفاع، وقالوا لما ارتفع من الأرض: نشز قال:
ترى الثّعلب الحوليّ فيها كأنّه... إذا ما علا نشزاً حصان مجلّل
[الحجة للقراء السبعة: 2/381]
يريد: شرفا من الأرض، ومكاناً مرتفعاً. فتقدير ننشزها نرفع بعضها إلى بعض للإحياء، ومن هذا: النشوز من المرأة، إنّما هو أن تنبو عن الزوج في العشرة فلا تلائمه. وفي التنزيل:
وإن امرأةٌ خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً [النساء/ 128].
وقال الأعشى:
......... فأصبحت... قضاعيّة تأتي الكواهن ناشصا
وقال أبو الحسن: نشز وأنشزته، ويدلّك على ما قال، قوله عزّ وجلّ: وإذا قيل انشزوا فانشزوا [المجادلة/ 11].
اختلفوا في قطع الألف ووصلها، وضمّ الميم وإسكانها من قوله عزّ وجلّ: قال أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ [البقرة/ 259].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر:
قال أعلم أنّ اللّه مقطوعة الألف مضمومة الميم.
[الحجة للقراء السبعة: 2/382]
وقرأ حمزة والكسائي: قال أعلم أنّ اللّه موصولة الألف ساكنة الميم.
قال أبو علي: أما من قرأه على لفظ الخبر، فإنّه لمّا شاهد ما شاهد من إحياء الله وبعثه إياه بعد وفاته، أخبر عما تبيّنه وتيقّنه مما لم يكن تبيّنه هذا التبيين الّذي لا يجوز أن يعترض عليه فيه إشكال، ولا يخطر على باله شبهة ولا ارتياب، فقال: أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ أي: أعلم هذا الضرب من العلم الذي لم أكن علمته قبل.
ومن قال: أعلم على لفظ الأمر، فالمعنى: يؤول إلى الخبر، وذاك أنّه لما تبيّن له ما تبيّن من الوجه الذي ليس لشبهة عليه منه طريق، نزّل نفسه منزلة غيره، فخاطبها كما يخاطب سواها فقال: أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ وهذا مما تفعله العرب، ينزّل أحدهم نفسه منزلة الأجنبيّ فيخاطبها كما تخاطبه قال:
تذكّر من أنّى ومن أين شربه... يؤامر نفسيه كذي الهجمة الأبل
[الحجة للقراء السبعة: 2/383]
فجعل عزمه على وروده الشرب له لجهد العطش، وعلى تركه الورود مرة لخوف الرامي وترصّد القانص نفسين له.
ومن ذلك قول الأعشى:
أرمي بها البيد إذا هجّرت... وأنت بين القرو والعاصر
فقال: أنت، وهو يريد نفسه، فنزّل نفسه منزلة سواه في مخاطبته لها مخاطبة الأجنبيّ.
ومثل ذلك قوله:
ودّع هريرة إنّ الرّكب مرتحل... وهل تطيق وداعاً أيّها الرّجل
فقال: ودّع، فخاطب نفسه كما يخاطب غيره، ولم يقل:
لأودّع، وعلى هذا قال: أيّها الرجل، وهو يعني نفسه. وقال:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمداً فكذلك قوله لنفسه أعلم أنّ اللّه على كلّ شيءٍ قديرٌ
[الحجة للقراء السبعة: 2/384]
[البقرة/ 259] نزّله منزلة الأجنبيّ المنفصل منه، لتنبهه على ما تبيّن له ممّا كان أشكل عليه.
قال أبو الحسن: وهو أجود في المعنى). [الحجة للقراء السبعة: 2/385]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للنّاس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحمًا فلمّا تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير}
قرأ حمزة والكسائيّ (لم يتسن) بحذف الهاء في الوصل أي لم تغيره السنون والهاء زائدة للوقف وحجتهما أن العرب تقول في جمع السّنة سنوات وفي تصغيرها سنية تقول
[حجة القراءات: 142]
سانيت مساناة فالهاء زيدت لبيان الحركة في حال الوقف فإذا وصل القارئ قراءته اتّصلت النّون بما بعدها فاستغنى عن الهمز حينئذٍ فطرحها لزوال السّبب الّذي أدخلها من أجله وكان في الأصل لم يتسنى فحذفت الألف للجزم وكان الفراء يقول لم يتسنه لم يتغيّر من قوله {من حمإ مسنون} وكان الأصل لم يتسنن ثمّ قلبت النّون الأخيرة ياء استثقالا لثلاث نونات متواليات كما قالوا تظنيت وأصله الظّن فصارت يتسنى ثمّ يدخل الجزم على الفعل فتسقط الياء فتصير لم يتسن ثمّ زادوا الهاء للوقف فإذا أدرجوا القراءة حذفوا لأن العلّة زالت
وقرأ الباقون لم يتسنه بإثبات الهاء في الوصل أي لم تأت عليه السنون فالهاء لام الفعل وسكونها علامة جزم الفعل وحجتهم أن العرب تقول مسانهة ماسنهة وفي التصغير سنيهة فلهذا أثبتوا الهاء في الوصل لأنّها لام الفعل قال الشّاعر
فليست بسنهاء ولا رجبية ... ولكن عرايا في السنين الجوائح
[حجة القراءات: 143]
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو (ننشرها) بالراء أي كيف نحييها وحجتهم قوله قبلها {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} والزّاي يعني بها كيف نرفعها من الأرض إلى الجسد والقائل لم يكن في شكّ في رفع العظام إنّما شكه في إحياء الموتى فقيل له انظر كيف ننشر العظام فنحييها تقول أنشر الله الموتي فنشروا
وقرأ الباقون {كيف ننشزها} بالزاي أي نرفعها وحجتهم قوله {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} وذلك أن العظام إنّما توصف بتأليفها وجمع بعضها إلى بعض إذ كانت العظام نفسها لا توصف بالحياة لا يقال قد حيّ العظم وإنّما يوصف بالإحياء صاحبها وحجّة أخرى قوله {ثمّ نكسوها لحمًا} دلّ على أنّها قبل أن يكسوها اللّحم غير أحياء لأن العظم لا يكون حيا وليس عليه لحم فلمّا قال {ثمّ نكسوها لحمًا} علم بذلك أنه لم يحيها قبل أن يكسوها اللّحم
قرأ حمزة والكسائيّ {قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} جزما على الأمر من الله وحجتهما قراءة ابن مسعود (قيل اعلم أن الله على كل شيء قدير) وكان ابن عبّاس يقرؤها أيضا {قال أعلم} ويقول أهو خير أم إبراهيم إذ قيل له {واعلم أن الله عزيز حكيم} وحجّة أخرى وهي أن التوقفة بين ذلك وسائر ما تقدمه إذ كان جرى ذلك كله بالأمر فقيل {فانظر إلى طعامك} وانظر إلى حمارك {وانظر إلى العظام} وكذلك أيضا قوله {أعلم أن الله} إذ كان في سياق ذلك
[حجة القراءات: 144]
قال الزّجاج ومن قرأ {قال أعلم} فتأويله أنه يقبل على نفسه فيقول اعلم أيها الإنسان أن الله على كل شيء قدير
وقرأ الباقون {قال أعلم} رفعا على الخبر عن نفس المتكلّم وحجتهم ما روي في التّفسير قالوا لما عاين من قدرة الله ما عاين قال {أعلم أن الله على كل شيء قدير} قالوا فلا وجه لأن يأمر بأن الله على كل شيء قدير وقد عاين وشاهد ما كان يستفهم عنه وقال الزّجاج ليس تأويل قوله {أعلم أن الله على كل شيء قدير} أنه ليس يعلم قبل ما شاهد ولكن تأويله إنّي قد علمت ما كنت أعلمه غيبا مشاهدة). [حجة القراءات: 145]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (171- قوله: {يتسنه} ونحوه، قرأه حمزة بحذف الهاء في الوصل «من يتسنه» و«اقتده» في الأنعام و{ما أغنى عني ماليه، هلك عني سلطانيه} و{ما أدراك ما هيه} خمسة مواضع ووافقه الكسائي على الحذف في «يتسنه، واقتده» وقرأ ذلك الباقون بالهاء في الوصل، ولا اختلاف في الوقف في ذلك أنه بالهاء، لثباتها في الخط.
172- وحجة من حذف الهاء في الوصل أن الهاء، إنما جيء بها للوقف، لبيان حركة ما قبلها، ولذلك سميت هاء السكت، فلما كانت، إنما يُؤتى بها
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/307]
في الوقف؛ لبيان الحركة التي هي في ياء الإضافة، استغنى عنها في الوصل، لأن الحركة في الياء ثابتة، فهي مثل ألف الوصل، التي جيء بها للابتداء، فإذا لم يبتدأ بها، واتصل الكلام، استغني عنها، وهي مثل ألف «أنا» على مذهب البصريين، وهذا المذهب عليه أكثر النحويين.
173- وحجة من أثبتها أنه وصل الكلام، ونيته الوقف عليها، لكنه لم يسترح بالوقف عليها، بل وصل، ونيته الوقف، كما يُفعل ذلك في القوافي، يوصل البيت بما بعده من الأبيات، ولا تحذف الصلة التي للوقف، فيقول:
أقلي اللوم عاذل والعتابا = وقولي إن أصبت لقد أصابا
وأيضًا فإن «يتسنه» تحتمل أن تكون الهاء فيه أصلية، وسكونها للجزم، فلابد من إثباتها في الوصل، ولا يجوز حذفها على هذا، وذلك أن «السنة» تستعمل على ضربين: أحدهما أن يراد بها الحول والعام، والثاني يُراد بها الجدب، ومنه قوله تعالى: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين} «الأعراف 130» أي: بالجدوب، ألا ترى أن بعده: {ونقصٍ من الثمرات} وذلك يكون بالجدب، ومنه قول النبي عليه السلام، «سنين كسني يوسف» فيكون «يتسنه» لمن أثبت الهاء في الوصل، مشتقًا «من سانهت» من «السنة» وأصلها «سنهه، فيستنه» ينفعل من «سانهت»، فالهاء لام الفعل، وسكونها للجزم، ولا يجوز حذف الهاء على هذا ألبتة، فيكون المعنى: وانظر إلى طعامك وشرابك لم تذهب طراوته وغضارته بالجدب، والضرب الثاني أن تكون السنة بمعنى العام والحول، ويكون المعنى لم يتغير من قولهم: من ماء مسنون، أي متغير، ومن قولهم: سن اللحم إذا تغير ريحه،
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/308]
فيكون المعنى: وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتغير ريحه، فيكون أصل «يتسنه» «يتسنن» على «يتفعل» أيضًا، ثم أبدلوا من النون الأخيرة ياء، لاجتماع ثلاث نونات، وقلبت ألفًا، لتحركها وانفتاح ما قبلها، كما قالوا: تقضيت في تقضضت، فأبدلوا من الضاد ياء، ومنه قوله: {يتمطى} «القيامة 33» أصله «يتمطط» ثم أبدلوا من الطاء الأخيرة ياء؛ لاجتماع ثلاث طاءات، وقُلبت ألفًا، لتحركها وانفتاح ما قبلها، ومنه قوله تعالى: {وقد خاب من دساها} «الشمس 10» أصله «دسسها» ثم أبدل من السين الأخيرة ياء لاجتماع ثلاث سينات، وقلبت ألفًا، لتحركها وانفتاح ما قبلها، فلما أبدلت من النون ياء، وقبلتها ألفًا حذفت الألف للجزم فبقي «يتسن» فالفتحة تدل على الألف المحذوفة، فلما كان الوقف يذهب بالفتحة، ولا يبقى دليل على الألف أتى بهاء السكت، لبيان الفتحة، التي على النون، والاختيار الوقف على الهاء، لأنه أصل العربية إلا أن تقدر أن الهاء أصلية في «يتسنه»، فيكون الاختيار إثباتها؛ لأنها لام الفعل، فتثبت في الوصل والوقف، وقد قيل إنه مشتق من «أسن الماء» إذا تغير ويلزم من قال هذا أن يقرأ «يتأسن» بالهمز، ولا يقرأ بذلك أحد، وقد قيل: إن من قول: {من حمأ مسنون} «الحجر 26» وهو قول الشيباني وقال أبو إسحاق: معنى «مسنون» مصبوب، فلا يحسن أن
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/309]
يكون «يتسنه» منه، إذ لا معنى له فيه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/310]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (174- قوله: {ننشزها} قرأه الكوفيون وابن عامر بالزاي، وقرأه الباقون بالراء.
175- وحجة من قرأ بالزاي أنه حمله على معنى الرفع من «النَّشز» وهو المرتفع من الأرض، أي: وانظر إلى العظام كيف نرفع بعضها على بعض في التركيب للإحياء لأن «النشز» الارتفاع يقال: لما ارتفع من الأرش نشز، ومنه المرأة النشوز، وهي المرتفعة عن موافقة زوجها، ومنه قوله: {وإذا قيل انشزوا} «المجادلة 11» أي: ارتفعوا وانضموا، وأيضًا فإن القراءة بالزاي بمعنى الإحياء، والعظام لا تحيا على الانفراد، حتى يُضم بعضها إلى بعض، فالزاي أولى بذلك المعنى؛ إذ هي بمعنى الانضمام دون الإحياء، فالموصوف بالإحياء هو الرجل، دون العظام على انفرادها، لا يقال: هذا عظم حي، فإنما المعنى: وانظر إلى العظام كيف نرفعها من أماكنها من الأرض إلى جسم صاحبها للإحياء، فأما قوله تعالى: {قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة} «يس 78، 79» فإنما وصفت العظام بالإحياء على إرادة صاحبها؛ لأن إحياء العظام على الانفراد، لا تقوم منه حياة إنسان، فإنما المراد حياة صاحب العظام، والعظام إنما تحيا بحياة صاحبها، وهذه الآية نزلت في مشرك أتى النبي صلى الله عليه وسلم برمة، وهي العظم البالي ففته في يده ثم قال: يا محمد أتزعم أن الله يحيي هذا؟ فقال له النبي: إن الله يحييها ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار، ففي ذلك نزل: {وضر لنا مثلًا
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/310]
ونسي خلقه} الآية، فإنما أراد المشرك: هل يحيي الله الإنسان، الذي هي الرمة منه؟ ودليل ذلك جواب النبي له بأن قال: ثم يميتك ثم يحييك، أي يحيي صاحب هذه الرمة كما يحييك بعد موتك، وبالزاي قرأ أبي بن كعب وزيد بن ثابت، وأبو عبد الرحمن السلمي وأبة العالية وابن وثاب وطلحة وعيسى.
176- وحجة من قرأ بالراء أنه جعله من النشوز، وهو الإحياء فالمعنى: وانظر إلى عظام حمارك، التي قد ابيضت من مرور الزمان عليها، كيف نحييها، وقد أجمعوا على قوله: {ثم إذا شاء أنشره} «عبس 22» فالنشور الإحياء، يقال: نُشر الميت أي حيي، وأنشره الله أي أحياه، فالمعنى أن الله يعجبه من إحيائه الموتى بعد فنائها، وقد كان قارب أن يكون على شك من ذلك إذا قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها، فأراه اله قدرته على ذلك في نفسه، فأماته مائة عام ثم أحياه، فأراه وجود ما شك فيه في نفسه، ولم يكن شك في رفع العظام عند الإحياء، فيريه رفعها، إما شك في الإحياء، فالراء أولى به، وهو الاختيار لهذا المعنى، ولأن الأكثر عليه، وهي قراءة مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة والأعرج وابن محيصن والجحدري والأعمش وابن يعمر، وإلى
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/311]
ذلك رجع الحسن، وقد روي أن الله جل ذكره أحيا بعضه ثم أراه كيف أحيا باقي جسده). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/312]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (177- قوله: {قال أعلم} قرأه حمزة والكسائي بوصل الألف والجزم، وقرأه الباقون بقطع الألف والرفع.
178- وحجة من قرأ بالقطع أنه أخبر عن نفسه، عندما عاين من قدرة الله في إحيائه الموتى، فتيقن ذلك بالمشاهدة، فأقر أنه يعلم أن الله على كل شيء قدير، أي: أعلم أن هذا الضرب من العلم، الذي لم أكن أعلمه معاينة، وبه قرأ الحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة وابن أبي إسحاق وعيسى وابن محيصن.
179- وحجة من قرأ بوصل الألف أنه جعلها أمرًا، معناه الخبر، وذلك أنه لما عاين الإحياء وتيقن أنزل نفسه منزلة غيره، فخاطبها، كما يخاطب غيره، فقال: اعلم يا نفس هذا العلم اليقين، الذي لم تكوني تعلمينه معاينة، وجاء بلفظ التذكير؛ لأنه هو المراد بذلك، ويبعد أن يكون ذلك أ مرًا من الله جل ذكره له بالعلم، لأنه قد أظهر إليه قدرة وأراه أمرًا تيقن صحته، وأقر بالقدرة، فلا معنى لأن يأمره الله بعلم ذلك، بل هو يأمر نفسه بذلك، وهو جائز حسن، وفي حرف عبد الله ما يدل على أنه أمر من الله له بالعلم، على معنى: «الزم هذا العلم لما عاينت وتيقنت» وذلك أن في حرفه: {قيل اعلم}، وأيضًا فإنه موافق لما قبله من الأمر، في قوله: «انظر إلى طعامك، وانظر إلى حمارك، وانظر إلى العظام» فكذلك: «اعلم أن الله» وقد كان ابن عباس يقرؤها: «قيل اعلم»، ويقول: أهو خير أم إبراهيم، إذ قيل له: {واعلم أن الله عزيز حكيم} «البقرة 260» فهذا يبين أن «قال اعلم» أمر من الله له بالعلم اليقين، لما عاين من الإحياء وبه قرأ ابن عباس وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن والقراءة بالقطع هي الاختيار؛ لأنه على ظاهر الكلام، لما تبين
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/312]
له ما كان على شك فيه أخبر عن نفسه بالعلم اليقين، وأيضًا فإنه قد أجمع عليه الحرميان وعاصم وابن عامر وأبو عمرو). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/313]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (91- {لَبِثْتَ} [آية/ 259] و{لَبِثْتُمْ} حيث وقع.
قرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي بإدغام الثاء في التاء.
[الموضح: 339]
وذلك لأنهما اتفقا من حيث إن كليهما من طرف اللسان وأصول الثنايا، واتفقا أيضًا من حيث إنهما جميعًا مهموسان، فأجراهما هؤلاء مجرى المثلين، فأدغموا أحدهما في الآخر.
وقرأ الباقون بالإظهار.
وذلك لأن المخرجين متباينان، فإن الثاء والذال والظاء من حيز واحدٍ، والتاء والدال والطاء من حيز آخر، فلتباين المخرجين واختلاف الحيزين تركوا الإدغام). [الموضح: 340]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (92- {لَمْ يَتَسَنَّه} [آية/ 259] و{اقْتَدِهْ} و{مَالِيَهْ} و{سُلْطَانِيَهْ} و{مَا هِيَهْ}:-
قرأ حمزة ويعقوب بإسقاط الهاء في الوصل، وإثباتها في الوقف في جميع ذلك، وزاد يعقوب حذف الهاء في الوصل في جميع ما في الحاقة من أمثال ذلك، وهي ستة، ووافقهما الكسائي في حرفين: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} و{اقْتَدِهْ} فحسب.
ووجه ذلك أن هذه الهاءات هاءات وقف على ما سبق في غير موضع، فثبت في الوقف وتسقط في الوصل.
[الموضح: 340]
والهاء في {لَمْ يَتَسَنَّهْ} في هذه القراءات هاء وقف مثل الهاءات الأخر، وليست من أصل الكلمة؛ لأن أصل الكلمة عند هؤلاء من السنة التي جمعها سنوات، والفعل منها أسنتوا، فحرف اللين يسقط من آخر الكلمة للجزم، كان أصل الكلمة يتسنى، فتسقط الألف للجزم، فيبقى: لم يتسن، ثم تلحق الهاء للوقف.
ويجوز أن يكون أصل الكلمة: يتسنن بنونين من قولهم: حمأ مسنون، ثم قلب النون الأخيرة حرف العلة فبقي: يتسنى، كما قيل: يتظنى في يتظنن، فجزمت الكلمة فبقيت: لم يتسن بحذف الألف، ثم ألحقت هاء الوقف على ما ذكرنا.
وقرأ الباقون والكسائي في غير الحرفين بالهاء في الوصل والوقف.
أما إثبات الهاء حالة الوصل في {لَمْ يَتَسَنَّه} وفي {اقْتَدِهْ} فمستقيم، إذا جعل {يتسنَّمه} من قولهم سانهت وسنه الشيء إذا تغير، فيكون الهاء من أصل الكلمة، ولا يكون للوقف، وكذلك {اقتدِهْ} إذا جعل الهاء فيه كناية عن المصدر، كأنه قال: اقتد الاقتداء، ولا يكون أيضًا للوقف.
وأما {مالِيهْ} و{سْلْطانيَهْ} و{ماهِيَهْ} فوجه إثباتهم الهاء فيها في الوصل، وإن كان ضعيفًا، أن هذه المواضع إما أن تكون فواصل أو في حكم الفواصل لتمام الكلام، فهي مثل القوافي في أنها مواضع وقوفٍ، فيجري الوصل فيها مجرى الوقف، فلهذا ألحق الهاء في هذه المواضع، وإن كانت في حال الوصل، على إجراء الوصل مجرى الوقف.
والقراءة الأولى أوجه في القياس.
[الموضح: 341]
وأما الكسائي في إثبات الهاء في البعض وحذفها من البعض، فإنه أراد الأخذ بالوجهين). [الموضح: 342]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (93- {نُنْشِرُها} [آية/ 259]:-
بالراء وضم النون، قرأها ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب.
ومعنى ذلك: نحييها، من قولهم: أنشر الله الميت فنشر هو، قال الله تعالى {ثُمَّ إذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}.
وقرأ الباقون {نُنْشِزُها} بالزاي وضم النون أيضًا.
على أنه من النشز، وهو ما ارتفع من الأرض، أي يجعل بعضها ناشزة إلى بعض عند الإحياء، أي مرتفعة.
وروى أبان عن عاصم {نَنْشُرُها} بالراء وفتح النون.
وهو من قولهم: نشر الله الميت فنشر، أو من النشر ضد الطي، أي ننشرها بالإحياء بعد الطي، وهذه رواية شاذة). [الموضح: 342]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (94- {قَالَ اعْلَمْ} [آية/ 259]:-
بوصل الألف وجزم الميم على الأمر، قرأها حمزة والكسائي.
[الموضح: 342]
ووجه ذلك أنه نزل نفسه منزلة غيره، فخاطبها كما يخاطب الغير فقال {أَعْلَمُ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، وذلك أنه لما علم العلم الذي لا طريق للشبهة عليه، قال لنفسه اعلم هذا الضرب من العلم، وهذا يؤول معناه إلى معنى الخبر، كأنه يحقق عند نفسه هذا العلم.
وقيل: بل هو من خطاب الملك له.
وقرأ الباقون {أَعْلَمُ} بقطع الألف وضم الميم على الخبر.
وذلك أنه لما عاين ما عاين من إحياء الله تعالى إياه بعد موته، أخبر عما تبينه قبل ذلك هذا التبين الذي لا سبيل للشك فيه، فأخبر عن نفسه فقال: {أَعْلَمُ أَنَّ الله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} علمًا لا تتطرق إليه شبهة). [الموضح: 343]
قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فصرهنّ إليك... (260).
قرأ حمزة ويعقوب: (فصرهنّ إليك) بكسر الصاد.
وقرأ البا قون: (فصرهنّ) بالضم.
قال أبو منصور: من قرأ (فصرهنّ) فمعناه: أملهن إليك، يقال: صرت الشيء أصوره، أي: أملته، ومنه قول لبيد.
[معاني القراءات وعللها: 1/224]
من فقد مولى تصور الحيّ جفنته... أوزرء مالٍ ورزء المال يجتبر
ومن قرأ (فصرهنّ) بكسر الصاد فإن الفراء قال: معناه: قطعهن، قال: وهو مقلوب من صرى يصري، إذا قطع.
وأنشد:
تعرّب آبابي فهلّا صراهم... عن الموت أن لم يذهبوا وجدودي
قال: ومثله عثيت وعثت.
قال أبو منصور: والذي عندي في معنى (صرهنّ) و(صرهنّ) أن معناهما واحد، يقال: صاره يصوره، ويصيره بالواو والياء، إذا ماله، لغتان معروفتان.
وأنشد الكسائي:
وفرع يصير الجيد وخفٍ كأنه... على الليت قنوان الكروم الدوالح.
[معاني القراءات وعللها: 1/225]
قال: يصير: يميل). [معاني القراءات وعللها: 1/226]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (36- وقوله تعالى: {فصرهن إليك} [260]
قرأ حمزة وحده: {فصرهن إليك} بكسر الصاد.
وقرأ الباقون (فصرهن) بالضم، وهو الاختيار؛ لأن العرب تقول: صار
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/97]
يصور: إذا مال، قال الشاعر:
يصور عبوقها أحوى زنيم = له ظاب كما صخب الغريم
الظاب والظام: الصوت جميعًا، وهما السلف أيضا ويقال: الضيرن. الضيزن – أيضا -: اسم صمن. والضيزن: الذي يتزوج بامرأة أبيه. فهذا يدل على ذوات الواو و{صرهن} من صار يصير أي: قطعهن إليك {صرهن} صمهن وأملهن إليك). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/98]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضمّ الصاد وكسرها من قوله جلّ وعزّ: فصرهنّ إليك [البقرة/ 260] فقرأ حمزة وحده:
فصرهنّ بكسر الصاد.
وقرأ الباقون: فصرهنّ بضم الصاد.
قال أبو عليّ: «صرت» يقع على إمالة الشيء، يقال صرته، أصوره: إذا أملته إليك، وعلى قطعه، يقال: صرته أي:
قطعته فمن الإمالة قول الشاعر:
على أنّني في كلّ سير أسيره... وفي نظري من نحو أرضك أصور
فقالوا: الأصور: المائل العنق. ومن الإمالة قوله:
يصور عنوقها أحوى زنيم... له ظاب كما صخب الغريم
[الحجة للقراء السبعة: 2/389]
فهذا لا يكون إلّا من الإمالة وكذلك قول الآخر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/390]
وجاءت خلعة دهس صفايا... يصور عنوقها أحوى زنيم
ومن القطع قول ذي الرّمّة:
صرنا به الحكم وعيّا الحكما قال أبو عبيدة: فصلنا به الحكم. ومنه قول الخنساء:
لظلّت الشّمّ منها وهي تنصار أي: تصدّع وتفلّق. قال أبو عبيدة، ويقال: انصارّوا:
فذهبوا.
قال: وصرهن من الصّور وهو القطع.
قال أبو الحسن: وقالوا في هذا المعنى، يعني القطع:
صار يصير، وقد حكاه غيره،
[الحجة للقراء السبعة: 2/391]
قال الشاعر:
وفرع يصير الجيد وحف كأنّه... على اللّيث قنوان الكروم الدّوالح
فمعنى هذا يميل الجيد من كثرته. ومثل هذا قول الآخر:
وقامت ترائيك مغدودنا... إذا ما ما تنوء به آدها
فقد ثبت أنّ الميل والقطع، يقال في كلّ واحد منهما.
صار يصير.
فقول حمزة: فصرهنّ إليك، يكون من القطع، ويكون من الميل، كما أنّ قول من ضمّ يحتمل الأمرين، فمن قال:
فصرهنّ إليك فأراد بقوله صرهنّ: أملهنّ، حذف من الكلام، المعنى: أملهنّ فقطعهنّ، ثمّ اجعل على كلّ جبلٍ منهنّ جزءاً [البقرة/ 260]، فحذف الجملة لدلالة الكلام عليها، كما حذف من قوله تعالى: فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق [الشعراء/ 63] المعنى: فضرب فانفلق، وكقوله: فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففديةٌ من صيامٍ [البقرة/ 196] أي: فحلق، ففدية، وكذلك قوله عز وجل: اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثمّ تولّ عنهم [النمل/ 28]،
[الحجة للقراء السبعة: 2/392]
فالقه اليهم ثم تول عنهم) [النمل/ 28] قالت يا أيّها الملأ [النمل/ 29] فحذف: فذهب فألقى الكتاب، لدلالة الكلام عليه.
ومن قدّر: فصرهنّ أو فصرهنّ، أنّه بمعنى: قطّعهنّ، لم يحتج إلى إضمار، كما أنّه لو قال: خذ أربعة من الطير، فقطعهنّ، ثم اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا؛ لم يحتج إلى إضمار،
كما احتاج في الوجه الأول.
وأما قوله: إليك فإنّه على ما أذكره لك.
فمن جعل فصرهنّ أو فصرهنّ بمعنى: قطّعهن، كان إليك متعلقاً ب فخذ، كأنّه قال: خذ إليك أربعة من الطير فقطعهنّ ثم اجعل على... [على كلّ جبل منهنّ جزءاً].
ومن جعل فصرهنّ أو فصرهنّ بمعنى: أملهنّ، احتمل إليك ضربين: أحدهما: أن يكون متعلقاً بخذ، وأن يكون بصرهن، أو بصرهن، وقياس قول سيبويه: أن يكون متعلقاً بقطعهنّ، لأنّه إليه أقرب، واستغنيت بذكر إليك عن تعدية الفعل الأول، كما تقول: ضربت وقتلت زيداً وإن علقته بالأول وحذفت المفعول من الفعل الثاني، فهو كقول جرير:
[الحجة للقراء السبعة: 2/393]
كنقا الكثيب تهيّلت أعطافه... والريح تجبر متنه وتهيل). [الحجة للقراء السبعة: 2/394]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة ابن عباس: [فَصِرَّهُنَّ] مكسورة الصاد مشددة الراء وهي متفوحة، وقراءة عكرمة: [فَصَرِّهُنَّ إليك] بفتح الصاد، وقال: قَطِّعهُن، وعن عكرمة أيضًا: [فَصُرّهُنَّ] ضم الصاد وشدد الراء، ولم يقل مفتوحة أو مكسورة أو مضمومة، قال: وهو يحتمل الثلاثة، كمُدُّ ومُدَّ ومُدِّ.
قال أبو الفتح: أما [فَصِرَّهُنَّ] بكسر الصاد وتشديد الراء فغريب؛ وذلك أن يفْعِل في المضاعف المتعدي شاذ قليل، وإنما بابه فيه يفْعُل، كصَبَّ الماء يَصُبُّه، وشد الحبل يشده، وفرَّ الدابة يفرها، ثم إنه قد مر بي مع هذا مِن يفْعِل في المتعدي حروف صالحة؛ وهي: ثم الحديث يَنُمه ويَنِمه، وعلَّه بالماء يعُلَّه ويعِلَّه، وهَرَّ الحرب يهُرُّها ويهِرُّها، وغَذَّ العِرقُ الدم يغُذه ويغِذه. وقالوا: حبَّه ويحِبُّه بالكسر لا غير، وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن أن بعضهم قرأ: [لن يَضِرُّوا الله شيئًا] بكسر الضاد في أحرف سوى هذه، ولمجيء المتعدي من هذا مضمومًا -وبابه وقياسه الكسر- نَظَرٌ ليس هذا موضعه، فيكون صِرَّهُن من هذا الباب على صَرَّه يصِرُّه.
وأما [صُرَّهن] بضم الصاد فعلى الباب؛ أعني: ضم عين يفعُل في مضاعف المتعدي، والوجه ضم الراء لضمة الهاء من بعدها، والفتح والكسر من بعد.
وأما [فصَرِّهُنَّ] فهذا فَعِّلْهُنَّ من صَرَّى يُصَرِّي: إذا حَبس وقَطع. قال:
رُب غلام قد صرَى في فقرته ... ماء الشباب عنفوانَ سَنْبته
[المحتسب: 1/136]
أي: حبسه وقطعه، ومنه الشاة المصراة؛ أي: المحبوسة اللبن المقطوعته في ضرعها عن الخروج.
وماء صَرًى وصِرًى: إذا طال حبسه في موضعه، ومنه الصراء للملاح؛ وذلك أنه يمسك السفينة ويحفظها ويصريها عما يدعو إلى هلاكها). [المحتسب: 1/137]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة أبي جعفر والزهري: [جُزًّا].
قال أبو الفتح: أصله الهمز جزءًا، ثم خففت همزته على قولك في تخفيف الخبء: الخبُ، ثم إنك إذا خففت نحو ذلك ووقفت عليه كان لك فيه السكون على العبرة، وإن شئت الإشمام الجزُ، وإن شئت روم الحركة الجزُ، وإن شئت التشديد على خالدّ وهو يجعلّ، فيقول على هذا: الْجُزَّ، ثم إنه وصل على وقفه، فقال: جُزًّا.
ومثله مما أجرى في الوصل مجراه في الوقف من التشديد، ما أنشدناه أبو علي وقرأته على أبي بكر محمد بن الحسن عن أحمد ين يحيى:
ببازلٍ وجناء أبو عيهَلِّ ... كأن مهواها على الكلْكَلِّ
يريد: العيهل والكَلْكَل.
وفيها ما قرأته على أبي بكر دون أبي علي:
تعرَّضتْ لي بمجاز حِلِّ ... تعرُّضَ الْمُهْرةِ في الطِّوَلِ
وفيها:
ومُقلتان جوْنَتَا الْمَكْحَلِّ
وقد كان ينبغي إذ كان إنما شدد عوضًا من الإطلاق أن إذا أطلق عاد إلى التخفيف، إلا أن العرب قد تجري الوصل مجرى الوقف تارة، الوقف مجرى الأصل، فعلى هذا وجه القراءة المذكورة [جُزًّا]، فاعرفه). [المحتسب: 1/137]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثمّ اجعل على كل جبل منهنّ جزءا}
قرأ حمزة {فصرهن إليك} بكسر الصّاد أي قطعهن وشققهن ومزقهن وفي الكلام تقديم وتأخير يكون معناه فخذ أربعة من الطير إليك فصرهن فيكون إليك من صلة خذ
وقرأ الباقون {فصرهن} بضم الصّاد أي أملهن واجمعهن وقال الكسائي وجههن إليك قال والعرب تقول صر وجهك إليّ أي أقبل عليّ واجعل وجهك إليّ وكان أبو عمرو يقول ضمهن إليك ومن وجه قوله {فصرهن إليك} إلى هذا التّأويل كان في الكلام عنده متروك ويكون معناه فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثمّ قطعهن ثمّ اجعل على كل جبل
قرأ أبو بكر (جزؤا) بضم الزّاي وقرأ الباقون بإسكان الزّاي وهما لغتان معروفتان). [حجة القراءات: 145]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (180- قوله: {فصرهن} قرأه حمزة بكسر الصاد، وضمها الباقون.
181- وحجة من كسر أنها لغة معروفة، يقال: صاره إذا أماله، وصاره إذا قطعه، يقال: صرت الشيء أملته، وصرته قطعته، يقال: صار يصير، ويصار يصور.
182- وحجة من ضم الصاد أنه أتى به على لغة من قال: صار يصور، على معنى أملهن، وعلى معنى: قطعهن، فإذا جعلته بمعنى: أملهن، كان التقدير أملهن إليك فقطعهن، وإذا جعلته بمعنى: قطعهن، كان التقدير: فخذ أربعة من الطير إليك فقطعهن، فكل واحد من الكسر والضم في الصاد لغة في الميل والتقطيع، فالقراءتان بمعنى، وقد قيل: إن الكسر بمعنى «قطعهن» والضم بمعنى «أملهن وضمهن» وبالضم قرأ علي بن أبي طالب والحسن وأبو عبد الرحمن ومجاهد وعكرمة، وبالكسر قرأ ابن عباس وشيبة وعلقمة وابن جبير وأبو جعفر وقتادة وابن وثاب وطلحة والأعمش، واختلف عن ابن عباس). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/313]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (95- {فَصِرْهُنَّ} [آية/ 260]:-
بكسر الصاد، قرأها حمزة ويعقوب –يس-.
الباقون {فَصُرْهُنّ} بضم الصاد.
فمن قرأ بكسر الصاد جعله من صار يصير، ومن قرأها بالضم جعلها من صار يصور، وكل واحدٍ منهما قد جاء بمعنى أمال وقطع جميعًا). [الموضح: 343]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107366#post107366)
جمهرة علوم القرآن
1 صفر 1440هـ/11-10-2018م, 07:52 AM
سورة البقرة
[من الآية (261) إلى الآية (264) ]
{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}
قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)}
قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)}
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة سعيد بن المسيِّب والزهري: [كمثل صَفَوانٍ عليه ترابٌ] بفتح الفاء.
[المحتسب: 1/137]
قال أبو الفتح: أكثر ما جاء فعلان في الأوصاف والمصادر؛ فالأوصاف كقولهم: رجل شَقَذَان للخفيف، وقالوا: أكذب من الأَخيذ الصَّبَحَان بفتح الباء كما ترى، وقد رُوي الصبْحان بتسكينها، ويومٌ صَخَدان ولَهَبَان لشدة الحر، وعير فَلَتان، ورجل صَمَيان: ماض منجرد.
وأما المصادر فنحو الوهجان والنَّزَوَان والغَلَيَان والغثيان والقفزان والنقران. والمعنى -في الوصف والمصدر جميعًا من هذا المثال- الحركة والخفة والإسراع، وهو في الأسماء غير الصفات والمصادر قليل، غير أنهم قد قالوا: الوَرَشان والكَرَوَان والشبهان لضرب من النبت، وقيل: الشَّبُهان بضم الباء، وقالوا: العنَبان للتيس من الظباء النشيط، فإذا كان كذلك كان الصفَوان أيضًا مما جاء من غير الأوصاف والمصادر على فعَلان). [المحتسب: 1/138]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107367#post107367)
جمهرة علوم القرآن
1 صفر 1440هـ/11-10-2018م, 07:53 AM
سورة البقرة
[من الآية (265) إلى الآية (266)]
{وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}
قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (كمثل جنّةٍ بربوةٍ... (265).
قرأ ابن عامر وعاصم: (بربوةٍ) و(إلى ربوةٍ) في سورة المؤمنين بفتح الراء.
وقرأ الباقون بضم الراء.
وأخبرني المنذري عن أبي العباس فيها ثلاث لغات: ربوة، وربوة، وربوة.
والاختيار ربوة؛ لأنها أكثر في اللغة.
قال: والفتح لغة تميم.
قال أبو منصور: ربوة لغة، ولا تجوز القراءة بها.
وقوله جلّ وعزّ: (فآتت أكلها ضعفين... (265).
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: (فآتت أكلها) خفيفة، وكذلك كل ما أضيف إلى مؤنث فهو خفيف.
قال أبو بكر: وافترقوا فيما أضيف إلى مذكر نحو: (أكله)، وما أضيف إلى اسم ظاهر، كقوله: (أكلٍ خمطٍ) فقرأ أبو عمرو بتثقيلها حيث وقع، وثقل أيضًا ما لم يضف،
[معاني القراءات وعللها: 1/226]
نحو: (الأكلٍ).
وقرأ نافع وابن كثير بتخفيف ذلك كله.
وقرأ الباقون بتثقيل ذلك كله ما استثنوا شيئا.
قال أبو منصور: هما لغتان جيدتان فاقرأ كيف شئت). [معاني القراءات وعللها: 1/227]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (37- وقوله تعالى: {كمثل جنة بربوة} [265]
قرأ عاصم وابن عامر {بربوة} بالفتح.
وقرأ الباقون بالضم، وكذلك اختلافهم في قوله تعالى: {ربوة ذات قرار ومعين} جاء في التفسير: أنها دمشق.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/98]
وقرأ ابن عباس: (ربوة) بالكسر وفيها سبع لغات ربوة، ورُبوة، ورَبوة، ورِباوة، ورُباوة، ورَباوة، وربا، قال الشاعر:
* وكنا بالرباوة قاطنيا *
والربوة: ما ارتفع من الأرض، وقرأ الأشعث العقيلي {كمثل جنة بربوة} أنشدنا محمد بن القاسم:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/99]
ويبيت منزل عرضة برباوة = بين النخيل إلى بقيع الغرقد
فأما الزبية بالزاي والباء: فحفرة تحفر للأسد في المكان المرتفع). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/100]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (38- قوله تعالى: {فآتت أكلها ضعفين} [265]
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو (أُكْلُهَا) بالتخفيف وكذلك إذا أضيف إلى مكنى، وكذلك إذا انفرد نحو {أُكْل خَمْطٍ}.
وفارقهم أبو عمرو في ذلك. فمن خفف كره توالي الضمتين فخفف كما يقال: السُّحْقُ والسُّحُقُ، والرُّعْبُ والرُّعُبُ.
وأما أبو عمرو فإنه خفف لما اتصل بالمكنى وصار مع الاسم كالشيء الواحد فأسكن كما قال: {يخادعون الله وهو خادعهم} و{أسلحتكم وأمتعتكم}.
وقرأ الباقون بالتثقيل على أصل الكلمة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/100]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضم الراء وفتحها من قوله تعالى: بربوةٍ [البقرة/ 265] فقرأ عاصم وابن عامر: بربوةٍ بفتح الراء. وفي المؤمنين مثله.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي:
بربوةٍ بضم الراء وفي المؤمنين مثله.
قال أبو عليّ: قال أبو عبيدة: الرّبوة: الارتفاع عن المسيل، وقال أبو الحسن: ربوة. وقال بعضهم: بربوة، وربوة، ورباوة، ورباوة، كلّ من لغات العرب، وهو كلّه في الرابية، وفعله: ربا يربو.
قال أبو الحسن: والذي نختار: ربوة، بضم الراء وحذف الألف.
قال أبو عليّ: يقوّي هذا الاختيار أنّ جمعه ربى، ولا
[الحجة للقراء السبعة: 2/385]
يكاد يسمع غيره، وإذا كان فعله: ربا يربو إذا ارتفع؛ فالرابية؛ والرّبوة، إنّما هو لارتفاع أجزائها عن صفحة المكان التي هي بها.
ومنه الرّبا، وهو على ضربين:
أحدهما متوعّد عليه محرّم بقوله [عز اسمه]: يا أيّها الّذين آمنوا اتّقوا اللّه وذروا ما بقي من الرّبا [البقرة/ 278] وذلك أن يأخذ المكيل أو الموزون اللّذين هما من جنس واحد بأكثر من مثله في بيع أو غيره.
والآخر: مكروه غير محرم، فالمكروه أن تهدي شيئاً أو تهبه، فتستثيب أكثر منه، فمن ذلك قوله تعالى: وما آتيتم من رباً ليربوا في أموال النّاس فلا يربوا عند اللّه
[الروم/ 39] كأنّ المعنى: لا يربو لكم عند الله، أي: لا يكون في باب إيجابه للثواب لكم ما يكون من إيجابه إذا أخلصتم لله، وأردتم التقرّب إليه، ألّا تراه قال: وما آتيتم من زكاةٍ تريدون وجه اللّه، فأولئك هم المضعفون [الروم/ 39].
فأمّا ما في قوله: وما آتيتم من رباً، فيحتمل تقديرين: يجوز أن يكون للجزاء، ويجوز أن يكون صلة، فإن قدّرتها جزاء، كانت في موضع نصب بآتيتم، وقوله: فلا يربوا عند اللّه
[الحجة للقراء السبعة: 2/386]
في موضع جزم بأنّه جواب للجزاء. ويقوي هذا الوجه قوله: وما آتيتم من زكاةٍ تريدون وجه اللّه. ألّا ترى أنّه لو كان مبتدأ لعاد عليه ذكره؟ ولو جعلتها موصولة لم يكن لآتيتم موضع من الإعراب، وكان موضع ما رفعاً بالابتداء، وآتيتم صلة، والعائد إلى الموصول: الذكر المحذوف من آتيتم.
وقوله: فلا يربوا في موضع رفع بأنّه خبر الابتداء، والفاء دخلت في الخبر على حدّ ما دخلت في قوله تعالى:
وما بكم من نعمةٍ فمن اللّه [النحل/ 53] وكذلك قوله:
وما آتيتم من زكاةٍ [الروم/ 39] تكون الهاء العائدة المحذوفة راجعة إلى الموصول، وموضع فأولئك: رفع بأنّه خبر المبتدأ، وقال: وما آتيتم من زكاةٍ ثمّ قال: فأولئك هم المضعفون، فانتقل الخطاب بعد المخاطبة إلى الغيبة، كما جاء: حتّى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم [يونس/ 22] والفاء دخلت على خبر المبتدأ لذكر الفعل في الصلة، والجملة في موضع خبر المبتدأ الذي هو: وما آتيتم من زكاةٍ وتقدّر راجعاً محذوفاً، والتقدير: فأنتم المضعفون به، التقدير:
فأنتم ذوو الضعف بما آتيتم من زكاة، فحذفت العائد على حدّ ما حذفته من قولك: السمن منوان بدرهم، وقال تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 2/387]
ولمن صبر وغفر إنّ ذلك لمن عزم الأمور [الشوري/ 43] ومثل هذه الآية في المعنى قوله جلّ وعزّ:
ولا تمنن تستكثر [المدثر/ 6] حدثنا الكندي قال: حدّثنا المؤمّل: قال حدّثنا إسماعيل بن عليّة عن أبي رجاء قال:
سمعت عكرمة يقول: «ولا تمنن تستكثر» قال: لا تعط شيئاً لتعطى أكثر منه». فأمّا رفع تستكثر فعلى ضربين: أحدهما:
أن تحكي به حالًا آتية، كما كان قوله: وإنّ ربّك ليحكم بينهم [النحل/ 124]
[الحجة للقراء السبعة: 2/388]
كذلك، والآخر: أن تقدّر ما يقوله النحويون في قوله: مررت برجل معه صقر صائداً به غداً، أي مقدّراً الصيد، فكذلك يكون هنا مقدراً الاستكثار. وليس للجزم اتجاه في تستكثر، ألّا ترى أنّ المعنى: ليس على أن لا تمنن تستكثر، إنّما المعنى على ما تقدّم). [الحجة للقراء السبعة: 2/389]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): ( اختلفوا في ضمّ الكاف وإسكانها من الأكل: فقرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع أكلها [البقرة/ 265] خفيفة ساكنة الكاف وكذلك كلّ مضاف إلى مؤنث، وفارقهما أبو عمرو فيما أضيف إلى مذكر مثل أكله أو غير مضاف إلى مكني مثل أكلٍ خمطٍ [سبأ/ 16] والأكل [الرعد/ 4] فثقّله أبو عمرو وخفّفاه.
وقرأها عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي: أكلها، والأكل، وأكله مثقّلا كلّه.
قال أبو علي: الأكل مصدر أكلت أكلا، وأكلة، فأمّا الأكل: فهو المأكول، يدل على ذلك قوله تعالى: تؤتي أكلها كلّ حينٍ بإذن ربّها [إبراهيم/ 25]، إنّما هو ما يؤكل منها، ومن ذلك قول الأعشى:
[الحجة للقراء السبعة: 2/394]
جندك الطارف التليد من السّا... دات أهل القباب والآكال
فالآكال: جمع أكل، مثل عنق وأعناق [قال أبو علي] الأكل في المعنى مثل الطّعمة، تقول: جعلته أكلا له، كما تقول: جعلته طعمة له، والطّعمة ما يطعم.
وقوله: فآتت أكلها ضعفين [البقرة/ 265] فيه دلالة على أنّ الأكل: المأكول.
وقال أبو الحسن: الأكل ما يؤكل، والأكل: الفعل الذي يكون منك، [تقول: أكلته ] أكلا، وأكلت أكلة واحدة، قال الشاعر:
ما أكلة إن نلتها بغنيمة... ولا جوعة إن جعتها بغرام
ففتح الألف من الفعل، ويدلّك على ذلك، ولا جوعة، وإن شئت ضممت الأكلة، وعنيت الطّعام. انتهى كلام أبي الحسن.
وقال أبو زيد: يقال إنّه لذو أكل، إذا كان له حظّ ورزق من الدنيا). [الحجة للقراء السبعة: 2/395]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({كمثل جنّة بربوةٍ أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين}
قرأ ابن عامر وعاصم {بربوةٍ} بفتح الرّاء وهي لغة بني تميم وقرأ الباقون {بربوةٍ} بضم الرّاء وهي لغة قريش
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {أكلها} بسكون الكاف وحجتهم أنهم استثقلوا الضمات في اسم واحد فأسكنوا الحرف الثّاني
وقرأ الباقون بضم الكاف على أصل الكلمة وقالوا لا ضرورة تدعو إلى إسكان حرف يستحق الرّفع وحجتهم إجماعهم على قوله {هذا نزلهم} وقد اجتمعت في كلمة ثلاث ضمات). [حجة القراءات: 146]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (183- قوله: {بربوة} قرأ عاصم وابن عامر بفتح الراء ومثله في «قد أفلح» وضمها الباقون، وهما لغتان مشهورتان.
184- قوله: «أُكُلها، وأكُله» قرأ ذلك الحرميان بالإسكان، حيث
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/313]
وقع، وقرأ الباقون بالضم في الجميع غير أن أبا عمرو أسكن ما أضيف إلى مؤنث، نحو «أكلها» وضم ما أضيف إلى مُذكر، ولم يُضف إلى شيء، والضم هو الأصل، والإسكان على التخفيف، فهما لغتان، فأما علة أبي عمرو، في قراءته، فإنه لما كان المؤنث ثقيلًا أسكن استخفافًا، لئلا يجتمع على الاسم ثقل التأنيث وثقل الضم، وأتى بما ليس فيه ثقل على الأصل بالضم). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/314]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (96- {بِرَبْوَةٍ} [آية/ 265]:-
بفتح الراء، قرأها ابن عامر وعاصم، وكذلك في المؤمنين.
[الموضح: 343]
وقرأ الباقون {بِرُبْوَةٍ} مضمومة الراء.
وهما لغتان، وهي ما ارتفع من المسيل). [الموضح: 344]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (97- {أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [آية/ 265]:-
بإسكان الكاف، قرأها وأمثالها ابن كثير (ونافع) في جميع القرآن، ووافقهما أبو عمرو فيما كان مضافًا إلى مؤنث، وحرك الباقي.
وقرأ الباقون ما كان من ذلك بالتحريك في جميع القرآن.
والأكل والأكل بالإسكان والتحريك لغتان، والمحرك منهما هو الأصل، والمسكن مخفف من المحرك، والمعنى هو الشيء المأكول، فأما الأكل بالفتح فمصدر أكل أكلا). [الموضح: 344]
قوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107368#post107368)
جمهرة علوم القرآن
1 صفر 1440هـ/11-10-2018م, 07:54 AM
سورة البقرة
[من الآية (267) إلى الآية (271)]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269) وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الزهري ومسلم بن جندب: [ولا تُيمِّموا الخبيث] بضم التاء وكسر الميم.
قال أبو الفتح: فيها لغات: أمَمْتُ الشيء ويممْتُه وأَمَّمْتُه ويَمَّمْتُه وتَيمَّمْتُه، وكله قَصَدتُه.
قال الأعشى:
تؤمُّ سنانا وكم دونه ... من الأرض مُحْدَوْدِبا غارُها
وقال الآخر:
يمْمتُ بها أبا صخر بن عمرو
[المحتسب: 1/138]
وقال:
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الظل عَرْمضُها طام
الأَمُّ: القصد، ومثله الأَمْتُ، ومنه الإمام لأنه المقصود المعتمد، والإمام أيضًا: خيط البنَّاء؛ لأنه يمده ويعتمد بالبناء عليه، والأُمَّة: الطريقة لأنها متعمدة، قال الله سبحانه: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي: على طريقة مقصودة). [المحتسب: 1/139]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الزهري: [إلا أن تَغْمُضُوا فيه] بفتح التاء من غمض، ورُوي أيضًا: [تُغَمِّضُوا فيه] مشددة الميم، وقرأ قتادة: [إلا أن تُغْمَضُوا فيه] بضم التاء وفتح الميم.
قال أبو الفتح: أما قراءة العامة؛ وهي: {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} فوجهها أن تأتوا غامضًا من الأمر لتطلبوا بذلك التأول على أخذه، فأغمض على هذا: أتى غامضًا من الأمر، كقولهم: أعمن الرجل: أتى عَمان، وأعرق: أتى العراق، وأنجد: أتى نجدًا، وأغار: أتى الغور. واختيار الأصمعي هنا غار، وليس هذا على قول الأصمعي أتى الغور، وإنما هو غار؛ أي: غمض وانشام هناك، كقولك: ساخ وسرب، ولو أراد معنى صار إلى هناك لكان أغار، كما قال:
نَبِيٌّ يرى ما لا تَرون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
ورواية الأصمعي: غار، على ما مضى، وليس المعنى على ما قدمنا واحدًا.
وأما [تُغْمَضُوا فيه] فيكون منقولًا من غَمَض هو وأغمضه غيره، كقولك: خفي وأخفاه غيره، فهو كقراءة مَن قرأ: [أن تَغْمُضُوا فيه]، ولم يذكر ابن مجاهد هل الميم مع فتح التاء مكسورة أو مضمومة، والمحفوظ في هذا غَمَض الشيء يغمُض، كغار يغور، ودخل يدخُل، وكمن يكمُن، وغرب يغرُب.
والمعنى: أن غيرهم يُغْمِضُهم فيه من موضعين:
أحدهما: أن الناس يجدونهم قد غَمَضُوا فيه، فيكون من أفعلت الشيء وجدته كذلك، كأحمدت الرجل: وجدته محمودًا، وأذممته: وجدته مذمومًا، ومنه قوله:
وقومٍ كرامٍ قد نقلنا قِرَاهمُ ... إليهم فأَتلفنا المنايا وأتلفوا
[المحتسب: 1/139]
أي: وجدناها مُتْلِفة.
وقوله:
فمضى وأخاف من قُتَيلة موعِدا
أي: صادفه مخلفًا.
وقول رؤبة:
وأهيج الخلطاء من ذات البرق
أي: صادفها مهتاجة النبت.
ومنه قوله الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} أي: صادفناه غافلًا، ولو كان أغفلنا هنا منقولًا من غفل -أي: منعناه وصددناه- لكان معطوفًا عليه بالفاء "فاتَّبَعَ هواه".
وذلك أنه كان يكون مطاوعًا، وفعل المطاوعة إنما يكون معطوفًا بالفاء دون الواو، وذلك كقوله: أعطيته فأخذ، ودعوته فأجاب، ولا تقول هنا: أعطيته وأخذ، ولا دعوته وأجاب، كما لا تقول: كسرته وانكسر، ولا جذبته وانجذب؛ إنما تقول: كسرته فانكسر، وجذبته فانجذب، وهذا شديد الوضوح والإنارة على ما تراه.
وكذلك لو كان معنى أغفلنا في الآية منعنا وصددنا لكان معطوفًا عليه بالفاء، وأن يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه، وإذ لم يكن هكذا، وكان إنما هو "واتبع" فطريقه أنه لما قال: {أغفلنا قبله عن ذكرنا} فكأنه قال: وجدناه غافلًا، وإذا وُجد غافلًا فقد غفل لا محالة، فكأنه قال إذن: ولا تطع من غفل قبله عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطًا؛ أي: لا تطع مَن فعل كذا، يعدد أفعاله التي توجب ترك طاعة الله سبحانه، ونسأل الله توفيقًا من عنده ودُنُوًّا من مرضاته بمنِّه ومشيئته، فهذا أحد وجهي [تُغْمَضُوا فيه]؛ أي: إلا أن توجدوا مُغْمِضين متغاضين عنه.
والآخر: أن يكون [تُغْمَضُوا فيه] أي: إلا أن تُدخلوا فيه وتُجذبوا إليه، وذلك الشيء الذي يدعوهم إليه، ويحملهم عليه هو: رغبتهم في أخذه ومحبتهم لتناوله، فكأنه -والله أعلم-
[المحتسب: 1/140]
إلا أن تسوِّل لكم أنفسُكم أَخْذه فتُحسِّن ذلك لكم، وتعترض بشكه على يقينكم حتى تكاد الرغبة فيه تكرهكم عليه.
ويزيد في وضوح هذا المعنى لك ما روي عن الزهري أيضًا من قراءته: [إلا أن تُغَمِّضُوا فيه] أي: إلا أن تغمِّضوا بصائركم وأعين علمكم عنه؛ فيكون نحوًا من قوله:
إذا تخازرت وما بي من خزر
وهو معنى مطروق، منه قول الله تعالى: {فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ}، وجاء به بعض المولدين فقال:
خالدَ اللُّؤْمِ أمغض ... أنت لا بل متغاضي
وآخرُ ذلك قول شاعرنا:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل ... عما مضى منها وما يُتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسَه ... ويسومها طلب المحال فتتبع
وما أظرف الأول وأدمثه في قوله:
أبكي إلى الشرق ما كانت منازلها ... مما يلي الغرب خوف القِيل والقال
وأذكر الخال في الخد اليمين لها ... خوف الوُشاة وما بالخد من خال). [المحتسب: 1/141]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون}
قرأ ابن كثير في راوية البزي {ولا تيمموا الخبيث} بتشديد التّاء وكان الأصل تتيمموا فأدغم التّاء بالتّاء وقرأ الباقون بالتّخفيف وحذفوا التّاء الثّانية). [حجة القراءات: 146]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (تشديد التاء للبزي
185- قرأ البزي بتشديد التاء فيما أصله تاءان، وحذفت واحدة من الخط، وذلك في أحد وثلاثين موضعًا، قد ذكرتها في غير هذا، وذلك نحو: {ولا تيمموا} «البقرة 267» و{لا تكلم نفس} «هود 105» و{تنازعوا} «الأنفال 46» {فتفرق} «الأنعام 153» وشبهه، ولا يقاس على الأحد والثلاثين الموضع غيرها، في سورة البقرة منها {ولا تيمموا} وعلته في ذلك أنه حاول الأصل؛ لأن الأصل في جميعها تاءان، فلم يحسن له أن يظهرهما، فيخالف الخط في جميعها، إذ ليس في الخط إلا تاء واحدة، فلما حاول الأصل وامتنع عليه الإظهار أدغم إحدى التائين في الأخرى، وحسن له ذلك، وجاز الاتصال المدغم بما قبله، فإن ابتدأ بالتاء لم يزد شيئًا، وخفف كالجماعة، لئلا يخالف الخط، ولم يمكنه إدغام في الابتداء؛ لأنه لا يبتدأ بمدغم؛ لأن أوله ساكن، والساكن لا يبتدأ به، فكان يلزمه إدخال ألف وصل للابتداء، فيتغير الكلام، ويزيد في
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/314]
الخط ما ليس فيه، فرجع إلى التخفيف في الابتداء ضرورة، واعلم أن هذا الإدغام يأتي على ثلاثة أضرب.
186- ضرب قبل المدغم، متحرك من كلمة ومن كلمتين، وذلك ثمانية مواضع نحو: {فتفرق بكم} «الأنعام 153» ونحو: {إن الذين توفاهم} «النساء 97» فهذا إدغام حسن، لا دخل فيه ولا علة.
187- والضرب الثاني أن يكون قبل المدغم ألف أو واو ساكنة، قبلها ضمة وذلك ثلاثة عشر موضعًا، فيحتاج إلى مد، لوقوع المشدد بعد حرف المد واللين نحو: {ولا تيمموا}، و{ولا تفرقوا} «آل عمران 105»، و{عنه تلهى} «عبس 10» فهذا أيضًا حسن، ولابد من زيادة مد فيه للتشديد.
188- والضرب الثالث أن يكون قبل المشدد حرف ساكن من غير حروف المد واللين نحو: {ولا تيمموا}، و{لا تفرقوا} «آل عمران 105»، و{وإذ تلقونه} «النور 15»، و{إن تولوا} «آل عمران 32» و{على من تنزل} «الشعراء 221» و{نارًا تلظى} «الليل 14» و{شهر. تنزل} «القدر 3، 4» فهذا وقوع الإدغام بعده قبيح صعب، لا يجيزه جميع النحويين، إذ لا يجوز المد في الساكن الذي قبل المشدد، وقد قال بعض القراء فيه: إنه إخفاء، وليس بإدغام، فهذا أسهل قليلًا من الإدغام؛ لأن الإخفاء لا تشديد فيه، ولكن الرواية والنقل فيه، كله بالتشديد، وهو على ما ذكرت لك من الضعف، وقرأ باقو القراء في ذلك كله مخفضًا، ولم يختلف في الابتداء به أنه مخفف كله). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/315]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (98- {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ} [آية/ 267]:-
بتشديد التاء، رواه ابن أبي بزة عن ابن كثير، وروى أنه شدد إحدى وثلاثين تاءً، منها في البقرة: {ولا تيمموا}.
[الموضح: 344]
والوجه أن أصله: تتيمموا، بتاءين، فأسكن الأولى منهما، وأدغم في الثانية، وإنما أمكن هذا الإدغام؛ لأن قبل الكلمة ألف لا، فيحسن الإدغام لكونه بعد الألف، فإن الألف لما فيها من المد تجري مجرى المتحرك، ولو كان مكان الألف ساكن غير الألف لم يحسن، وهذا الادغام في هذا الموضع فيه ضعف؛ لأن {لا} غير متصل بالكلمة، فلا يلزم أن يكون معها.
وقرأ الباقون {ولا تيمموا} بغير إدغام.
والوجه أن أصله تتيمموا، فاجتمع تاءان، فحذف إحداهما لاجتماعهما، والمحذوفة هي الثانية، وهي تاء التفعل). [الموضح: 345]
قوله تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)}
قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (ومن يؤت الحكمة... (269).
قرأ يعقوب وحده: (ومن يؤت الحكمة) بكسر التاء، وتقديره: ومن يؤته الله الحكمة.
وقرأ الباقون: (ومن يؤت الحكمة) بفتح التاء.
قال أبو منصور: القراءة بفتح التاء، و(يؤت) جزم ب (من)، والجواب الفاء في قوله: (فقد أوتي خيرًا كثيرًا) ). [معاني القراءات وعللها: 1/227]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الزهري ويعقوب: [ومن يُوتِ الحكمةَ] بكسر التاء.
قال أبو الفتح: وجهه على أن الفاعل فيه اسم الله تعالى؛ أي: ومَن يُوت الله الحكمة، مَن منصوبة على أنها المفعول الأول والحكمة المفعول الثاني، كقولك: أيَّهم تعطي درهمًا يشكرك). [المحتسب: 1/143]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (99- {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ} [آية/ 269]:-
مكسورة التاء، قرأها يعقوب وحده.
واتفقوا على كسر التاء من {يُؤتِي}.
إنه على إسناد الفعل إلى الله تعالى، وقد جرى ذكره سبحانه في قوله {وَالله يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا}، كأنه قال: ومن يؤته الله الحكمة، وحذف الضمير؛ لأن العلم به حاصل.
وقرأ الباقون {وَمَنْ يُؤْتَ} بفتح التاء.
والوجه ظاهر وهو أن الفعل مبني للمفعول به؛ لأن المقصود ذكر من أعطي
[الموضح: 345]
الحكمة، فقال: ومن يعط الحكمة فقد أعطي خيرًا كثيرًا). [الموضح: 346]
قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)}
قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فنعمّا هي... (271)
قرأ ابن كثير، وعاصم في رواية حفص عنه، والأعشى عن أبي بكر عنه، ويعقوب (فنعمّا هي) بكسرة النون والعين، وكذلك روى ورش عن نافع
[معاني القراءات وعللها: 1/227]
بكسر النون والعين.
وقرأ أبو عمرو ونافع وعاصم في رواية يحيى عن أبي بكر عن عاصم والمفضل عنه: (فنعمّا هي) بكسر النون وتسكين العين.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: (فنعمّا هي) بفتح النون وكسر العين وتشديد الميم.
قال أبو منصور: من قرأ (فنعمّا هي) بكسر النون والعين فهو جيد؛ لأن الأصل في نعم: نعم ونعم ثلاث لغات.
ومن قرأ (فنعْما) فهي على لغة من يقول: نعم. وأما من قرأ (فنعمّا) بكسر النون وسكون العين وتشديد الميم فهي على لغة من يقول: نعم كإثم، أدغم الميم من (نعم) في (ما) وشددها، وترك العين على حالها ساكنة، وهذه القراءة عند نحويي أهل البصرة
[معاني القراءات وعللها: 1/228]
غير جائزة؛ لأن فيها الجمع بين ساكنين مع غير حرف مد ولا لين، وكان أبو عبيد يختار هذه القراءة، ولم يجرها أهل النحو، والقراءة فنعمّا أو فنعمّا ومعناهما فنعم الشيء.
وقوله جلّ وعزّ: (ونكفّر عنكم (271).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب: (ونكفّر عنكم) بالنون والرفع، وكذلك أبو خليد عن نافع.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي: (ونكفّر عنكم) بالنون والجزم.
وكذلك قال الكسائي عن أبي بكر عن عاصم بالنون والجزم.
وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم: (ويكفّر عنكم) بالياء والرفع.
[معاني القراءات وعللها: 1/229]
قال أبو منصور: من قرأ (نكفر) جزما عطفه على موضع الجزم في قوله: (فهو خيرٌ لكم) لأن معناه: يكن خيرا لكم.
ومن قرأ (ونكفر عنكم) بالنون والرفع رفعه لأن ما بعد الفاء قد صار بمنزلته في غير الجزاء، وهو اختيار سيبويه، كأنه استئناف، وكذلك من قرأ (ويكفّر) بالياء والرفع). [معاني القراءات وعللها: 1/230]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (39- وقوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} [271]
قرأ ابن كثير، وورش عن نافع، وحفص عن عاصم {فنعما هي} بكسر النون والعين.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/100]
وقرأ حمزة والكسائي {نعما هي}. بكسر العين وفتح النون.
وابنُ عامٍ كمثل.
وقرأ أبو عمرو ونافع في سائر الروايات وعاصم في رواية أبي بكر {نعما هي} بكسر النون وإسكان العين.
وزعم بعض النحويين أنه أردأ القراءات؛ لأنه قد جمع بين ساكنين الميم والعين، وليس إحدهما حرف لين. والاختيار إسكان العين؛ لأن هذه اللفظة رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: «نعما بالمال الصالح» كذا تُحفظ هذه اللفظة عن النبي، ومتى ما صح الشيء عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحل للنحوي ولا غيره أن يعترض عليه. والأصل في نعم وبئس: نعم وبئس، فلما كانا فعلين غير متصرفين، وعين الفعل حرف من حروف الحلق أتبعوا فاء الفعل عينه، فقالوا: نعم وبئس ثم اسكنوه وخففوه، فيجوز فيه أربع لغات: نعم على الأصل، ونعم مثل فخذ ونعم مثل فخذ، ونعم مثل فخذ وذكر ذلك المبرد رحمه الله.
وقرأ يحيى بن وثاب {نعم العبد} على الأصل.
قال الشاعر:
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/101]
ما استقلت قدم إنهم = نعم الساعون في الأمر المبر
واختلف الناس في قوله: {فنعما هي} فقال قوم: «ما» هي صلة، كقوله: {عما قليل}، أي: عن قليل. وقال آخرون: «ما» اسم يرتفع بنعم مثل «ذا» بـ «حب» ثم جعلوا حبذا ونعما اسمًا واحدًا. وقال الكسائي: الأصل: (فنعم ما هي) فحذفوا «ما» الأخيرة اختصارًا، وفي حرف ابن مسعود {إن تبدوا الصدقات فنعم ما هي} وروى الحلواني، عن عاصم (فنعما) مخففًا، وأخطأ). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/102]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (40- وقوله تعالى: {ويكفر عنكم من سيئاتكم} [271].
وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالنون والجزم، نسقًا على الشرط الذي تقدم وهو قوله: {إن تبدوا الصدقات} فيكون تكفيره السيئات مع قبول الصدقات.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر بالرفع والنون؛ وذلك أن الشرط إذا وقع جوابًا بالفاء كان من بعد الفاء مرفوعًا، وكذلك المنسوق على ما بعد الفاء الرفع الاختيار فيه.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/102]
وقرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم {ويكفر} بالياء والرفع، جعلا الفعل لله تعالى.
وكذلك من قرأ بالنون غير أن المخبر بالنون هو الله تعالى عن نفسه، ووجه الياء: قل يا محمد يكفر الله من سيئاتكم عنكم.
وروي عن ابن عباس، وعن حميد {وتكفر} بالتاء كأنه رده إلى الصدقات، ويجوز أن يريد السيئات من هذا الوجه ولا يُعتد بـ «من»). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/103]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في فتح النّون وكسرها من قوله [جلّ وعزّ]:
[الحجة للقراء السبعة: 2/395]
فنعمّا هي [البقرة/ 271] وإسكان العين وكسرها.
فقرأ نافع في غير رواية ورش وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر والمفضّل فنعمّا بكسر النون، والعين ساكنة.
وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص، ونافع في رواية ورش فنعمّا هي بكسر النون والعين.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي فنعمّا هي بفتح النون وكسر العين، وكلّهم شدّد الميم.
قال أبو عليّ: من قرأ فنعمّا، بسكون العين من فنعمّا لم يكن قوله مستقيما عند النحويين، لأنّه جمع بين ساكنين، الأول منهما ليس بحرف مدّ ولين، والتقاء الساكنين عندهم إنّما يجوز إذا كان الحرف الأول منهما حرف لين، نحو: دابّة وشابّة، وتمودّ الثوب، وأصيم لأنّه ما في الحروف من المدّ يصير عوضاً من الحركة، ألا ترى أنّه إذا صار عوضاً من الحرف المتحرك المحذوف من تمام بناء الشعر عندهم، فأن يكون عوضاً من الحركة أسهل.
وقد أنشد سيبويه شعراً قد اجتمع فيه الساكنان على
[الحجة للقراء السبعة: 2/396]
حدّ ما اجتمعا في فنعمّا في قراءة من أسكن العين وهو:
كأنّه بعد كلال الزاجر... ومسحي مرّ عقاب كاسر
وأنكره أصحابه. ولعل أبا عمرو أخفى ذلك كأخذه بالإخفاء في نحو بارئكم [البقرة/ 54]، ويأمركم [البقرة/ 67] فظنّ. السامع الإخفاء إسكاناً للطف ذلك في السّمع وخفائه.
وأمّا من قرأ: فنعمّا، فحجّته أنّه أصل الكلمة نعم، ثم كسر الفاء من أجل حرف الحلق. ولا يجوز أن يكون ممن قال: نعم، فلمّا أدغم حرّك، كما يقول: يهدي
[الحجة للقراء السبعة: 2/397]
[يونس/ 35] ألّا ترى أنّ من قال: هذا قدّم مالك، فأدغم، لم يدغم نحو قوله: هذا قدم مالك، وجسم ماجد، لأنّ المنفصل لا يجوز فيه ذلك كما جاز في المتصل قال سيبويه: أمّا قول بعضهم في القراءة: فنعمّا، فحرك العين، فليس على لغة من قال: نعم ما، فأسكن العين، ولكن على لغة من قال: نعم فحرك العين. وحدّثنا أبو الخطاب: أنّها لغة هذيل، وكسر، كما قال: لعب. ولو كان الذي يقول:
نعمّا ممن يقول في الانفصال: نعم لم يجز الإدغام على قوله، لما يلزم من تحريك الساكن في المنفصل. وأمّا من قال:
فنعمّا فإنّما جاء بالكلمة على أصلها، وهو نعم كما قال:
ما أقلّت قدماي إنّهم... نعم الساعون في الأمر المبرّ
[الحجة للقراء السبعة: 2/398]
ولا يجوز أن يكون ممن يقول: قبل الإدغام نعم، كما أن من قال: نعمّا لا يكون ممن قال قبل الإدغام: نعم، ولكن ممن يقول نعم، فجاء بالكلمة على أصلها وكل حسن.
والمعنى في قوله تعالى: إن تبدوا الصّدقات فنعمّا هي [البقرة/ 271] أن في نعم ضمير الفاعل و (ما) في موضع نصب وهي تفسير الفاعل المضمر قبل الذكر فالتقدير نعم شيئاً إبداؤها، فالإبداء هو: المخصوص بالمدح إلّا أنّ المضاف حذف، وأقيم المضاف إليه الذي هو ضمير الصدقات مقامه، فالمخصوص بالمدح هو الإبداء بالصدقات لا الصدقات يدلّك على ذلك قوله تعالى: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خيرٌ لكم [البقرة/ 271] أي: الإخفاء خير لكم، فكما أن هو ضمير الإخفاء، وليس بالصّدقات، كذلك ينبغي أن يكون ضمير الإبداء مراداً، وإنّما كان الإخفاء- والله أعلم- خيراً لأنّه أبعد من أن تشوب الصدقة مراءاة للنّاس وتصنع لهم، فتخلص لله سبحانه. ولم يكن المسلمون إذ ذاك ممن تسبق إليهم ظنة في منع واجب.
واختلفوا في الياء والنون والرفع والجزم من قوله:
ونكفر عنكم من سيئاتكم [البقرة/ 271].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/399]
ونكفر بالنون والرفع.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي ونكفر بالنون وجزم الراء.
وروى أبو جعفر عن نافع ونكفر بالنون والرفع.
وروى الكسائيّ عن أبي بكر عن عاصم ونكفر جزم بالنون.
وقرأ ابن عامر ويكفّر بالياء والرفع وكذلك حفص عن عاصم.
قال أبو عليّ: من قرأ ونكفر عنكم من سيئاتكم فرفع، كان رفعه من وجهين:
أحدهما: أن يجعله خبر مبتدأ محذوف تقديره: ونحن نكفّر عنكم سيئاتكم. والآخر: أن يستأنف الكلام ويقطعه مما قبله، فلا يجعل الحرف العاطف للاشتراك ولكن لعطف جملة على جملة.
وأمّا من جزم فقال: ونكفر عنكم فإنّه حمل الكلام على موضع قوله: فهو خيرٌ لكم لأنّ قوله: فهو خيرٌ لكم في موضع جزم، ألّا ترى أنّه لو قال: وإن تخفوها يكن أعظم لأجركم، لجزم.
فقد علمت أنّ قوله: فهو خيرٌ لكم في موضع جزم فحمل قوله: ويكفر على الموضع. ومثل هذا في الحمل على الموضع أن سيبويه زعم أن بعض القراء قرأ:
[الحجة للقراء السبعة: 2/400]
من يضلل اللّه فلا هادي له ويذرهم [الأعراف/ 186] لأنّ قوله: فلا هادي له: في أنّه في موضع جزم مثل قوله: فهو خيرٌ لكم.
ومثله في الحمل على الموضع، قوله تعالى: لولا أخّرتني إلى أجلٍ قريبٍ فأصّدّق وأكن [المنافقون/ 10] حمل قوله وأكن على موضع قوله: فأصّدّق لأنّ هذا موضع فعل مجزوم، لو قال: أخّرني إلى أجل قريب أصّدق، لجزم، فإذا ثبت أنّ قوله: فأصّدق في موضع فعل مجزوم حمل قوله:
أكن عليه، ومثل ذلك قوله الشاعر:
أنّى سلكت فإنّني لك كاشح... وعلى انتقاصك في الحياة وأزدد
فحمل قوله وأزدد على موضع قوله: فإنني لك كاشح.
ومثله قول الآخر، وأظنّه أبا دؤاد:
فأبلوني بليّتكم لعلّي... أصالحكم وأستدرج نويّا
فأمّا النون والياء في قوله: نكفّر، ويكفّر، فمن قال:
ويكفّر فلأن ما بعده على لفظ الإفراد، فيكفّر أشبه بما بعده من الإفراد منه بالجمع.
[الحجة للقراء السبعة: 2/401]
وأمّا من قال: نكفّر على لفظ الجمع، فإنّه أتى بلفظ الجمع، ثم أفرد بعد كما أتى بلفظ الإفراد ثمّ جمع في قوله تعالى: سبحان الّذي أسرى بعبده [الإسراء/ 1] ثمّ قال: وآتينا موسى الكتاب [الإسراء/ 2] ). [الحجة للقراء السبعة: 2/402]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({إن تبدوا الصّدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيّئاتكم}
قرأ نافع وأبو عمرو وأبو بكر {فنعما هي} بكسر النّون وسكون العين وحجتهم قول النّبي صلى الله عليه لعمرو بن العاص
[حجة القراءات: 146]
نعما بالمال الصّالح للرجل الصّالح واصل الكلمة نعما بفتح النّون وكسر وكسر العين فكسروا النّون لكسرة العين ثمّ سكنوا العين هربا من الاستثقال
وقرا حمزة وابن عامر والكسائيّ {فنعما هي} بفتح النّون وكسر العين وحجتهم أن أصل الكلمة نعم فأتوا بالكلمة على أصلها وهي أحسن لأنّه لا يكون فيها الجمع بين ساكنين
فأتوا بالكلمة على أصلها وهي أحسن لأنّه لا يكون فيها الجمع بين ساكنين
وقرأ ورش وابن كثير وحفص {فنعما} بكسر النّون والعين وقد بينا أن الأصل فيها نعم بفتح النّون وكسر العين وتركوا العين على أصلها
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر {ونكفر} برفع الرّاء على الاستئناف يقول الله جلّ وعز ونحن نكفر وحجته قوله {فهو خير} لكم لما كان جواب الجزاء في الفاء ولم يكن فعلا مجزومًا لم يستجيزوا أن ينسقوا فعلا على غير جنسه ولو كان جزما لجزموا الفعل المنسوق على الجزاء إذا كان فعلا مثله وقرأ نافع وحمزة والكسائيّ
[حجة القراءات: 147]
{ونكفر} بالجزم على موضع {فهو خير لكم} لأن المعنى يكن خيرا واحتجّوا بأن قالوا الجزم أولى ليخلص معنى الجزاء ويعلم بأن تكفير السّيّئات إنّما هو ثواب للمتصدق على صدقته وجزاء له وإذا رفع الفعل احتمل أن يكون ثوابًا وجزاء واحتمل أن يكون على غير مجازاة وكان الجزم أبين المعنيين
وقرأ ابن عامر وحفص {ويكفر} بالياء والرّفع على الاستئناف أيضا ويكون إخبارًا عن الله عز وجل أنه يكفر السّيّئات). [حجة القراءات: 148]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (189- قوله: {فنعما هي} قرأ أبو عمرو وأبو بكر وقالون بإخفاء حركة العين، وكسر النون، ومثله في النساء، وقرأ ابن كثير وحفص وورش بكسر النون والعين، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بكسر العين، وفتح النون فيهما.
190- وحجة من قرأ بكسر النون والعين أن الأصل فيه «نعم» بفتح النون، وكسر العين، لكن حرف الحلق إذا كان عين الفعل، وهو مكسور أتبع بما قبله، فكسر لكسرة، يقولون: شَهِد وشِهِد، ولَعِب ولِعبِ، فقالوا «نعم»: نِعم، وهي لغة هذيل.
191- وحجة من فتح النون وكسر العين أنه أتى بالكلمة على أصلها، والأصل «نعم» كما قالوا: شهد ولعب، فتركوا الأول على فتحه.
192- وحجة من أخفى حركة العين، أنه كسر النون لكسرة العين وأسكن العين استخفافًا، لتوالي كسرتين، فلما اتصل الفعل بـ «ما» وأدغمت الميم في الميم، ثقلت الكلمة بالكسرتين والإدغام، وطالت، فلم يمكن إسكان العين للتخفيف، لئلا يجتمع ساكنان: العين وأول المدغم، فأخفى كسرة العين استخفافًا، والذي خفيت حركته في الوزن والحكم كالمتحرك، إلا أنه أخف من المتحرك، وقد روي عن أهل الإخفاء الاختلاس، وهو حسن. وروي الإسكان للعين، وليس بشيء ولا قرأت به، لأن فيه جمعًا بين ساكنين، ليس الأول حرف مد ولين، وذلك غير جائز عن أحد من النحويين). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/316]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (193- قوله: {ويكفر عنكم} قرأه ابن عامر وحفص بالياء، وقرأ
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/316]
الباقون بالنون، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بالجزم، وقرأ الباقون بالرفع.
194- وحجة من قرأه بالياء أن بعده: {والله بما تعملون خبير} ولم يقل «ونحن» فأتى بلفظ الغائب في «يكفر» لما بعده من لفظ الغائب، ويجوز أن يكون رده على الإعطاء، في قوله: {تؤتوها الفقراء} فالمعنى: ويكفر الإعطاء من سيئاتكم، والقول الأول معناه: ويكفر الله من سيئاتكم.
195- وحجة من قرأه بالنون أنه أجراه على الإخبار من الله جل ذكره عن نفسه؛ لأنه هو المكفر للسيئات، وحسن أن يأتي على لفظ المخبر للتفخيم والتعظيم، وحسن أن يأتي المفرد، بعد لفظ الجمع، في قوله تعالى: {والله} كما قال: {سبحان الذي أسرى} «الإسراء 1» ثم قال: {وآتينا موسى} «2» فهذا أتى بلفظ التوحيد، ثم جمع بعد ذلك، وذلك أتى بلفظ الجمع، ثم وحده بعد ذلك، فذلك كله شائع حسن، وهو كثير في القرآن، والقراءة بالنون أحب إلي؛ لأن أكثر القراء على ذلك، ولأنه أفخم وأعظم، وبه قرأ ابن عباس والأعرج.
196- وحجة من جزم الفعل أنه عطفه على موضع الفاء، في قوله: {فهو خيرٌ لكم} لأن موضع ذلك جزم، إذ هو جواب الشرط، وله نظائر حُملت على الموضع، وذلك حسن.
197- وحجة من رفع الفعل أنه قطعه مما قبله، وجعله خبر ابتداء محذوف، فالمعنى: ونحن نكفر عنكم، في قراءة من قرأ بالنون، ومن قرأ بالياء فتقديره: والله يكفر عنكم). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/317]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (100- {فَنِعِمَّا هِيَ} [آية/ 271]:-
بكسر النون والعين جميعًا، قرأها ابن كثير ونافع –ش- وعاصم- ص- ويعقوب. والوجه في ذلك أن أصل نعم: نعم بفتح النون وكسر العين، فكسرت فاء الكلمة من أجل حرف الحلق، كما كسروه من نحو: لعب وشهد؛ لأن حرف الحلق لما فيه من الاستعلاء، يستتبع حركة ما قبله.
وقرأ أبو عمرو ونافع –ن- و- يل- وعاصم- ياش- {فَنِعْما} بكسر النون وإسكان العين.
وهذا غير مستقيم عند النحاة؛ لأن فيه جمعًا بين ساكنين، وليس الأول منهما حرف لين، وإنما جاز التقاؤهما عندهم إذا كان الأول منهما حرف لين نحو: {دابة}، وشابة، و{الضّالّين}.
ويشبه أن يكون أبو عمرو سلك في ذلك طريقته في الإخفاء نحو {بارئكم}، فتوهموا أنه أسكن.
[الموضح: 346]
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {فَنَعِمّا} بفتح النون وكسر العين.
[الموضح: 347]
وهذا هو الأصل في هذه الكلمة أعني: نعم بفتح النون وكسر العين.
وهؤلاء كلهم شددوا الميم؛ لأن أصله: نعم على ما سبق من الوجوه، و{ما} هي النكرة التي تفيد معنى شيء، وهي في موضع نصب على التفسير للفاعل المضمر في {نعما}، والمعنى نعم شيئًا هي). [الموضح: 348]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (101- {وَنُكَفِّرُ عَنْكُمْ} [آية/ 271]:-
بالنون والرفع، قرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم –ياش- ويعقوب.
أما النون فعلى خطاب المخبر عن نفسه إخبار الجمع إذا كان ملكًا وهذا حسن وإن كان ما بعده على الإفراد، على تلوين الخطاب، كما جاء الإفراد وإن كان ما بعده على الجمع في قوله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} ثم قال {وَآتَيْنا}.
وأما الرفع فيجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، وتقديره: ونحن نكفر، ويجوز أن يكون مستأنفًا مقطوعًا مما قبله، ولا يكون الواو للإشراك وعطف الجملة على الجملة.
وقرأ نافع وحمزة والكسائي {نُكَفِّرْ} بالنون والجزم.
وذلك لأن الكلام على هذا محمول على قوله {فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وموضعه جزم؛ لأنه لو قال وإن تخفوها يكن خيرًا لكم كان جزمًا.
[الموضح: 348]
وقرأ ابن عامر وعاصم –ص- {ويُكَفِّرُ} بالياء والرفع، على تقدير: والله يكفر عنكم، وقد تقدم بيان مثله). [الموضح: 349]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107369#post107369)
جمهرة علوم القرآن
1 صفر 1440هـ/11-10-2018م, 07:56 AM
سورة البقرة
[من الآية (272) إلى الآية (274)]
{لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)}
قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (يحسبهم الجاهل أغنياء... (273).
قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي والحضرمي (يحسبهم) و(يحسبون " و(يحسب) بكسر السين في كل القرآن.
وقرأ ابن عامر
[معاني القراءات وعللها: 1/230]
وحمزة وعاصم بفتح السين في ذلك كله.
قال أبو منصور: هما لغتان معروفتان عن العرب، على (فعل يفعل) حسب يحسب، والكسر لغة أهل الحجاز، والفتح لغة تميم، وحسب يحسب. جاء نادرا، ومثله من باب السالم: نعم ينعم، وزاد بعضهم يئس ييئس وييأس). [معاني القراءات وعللها: 1/231]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (41- وقوله تعالى: {يحسبهم الجاهل أغنياء} [273]
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بفتح السين في جميع القرآن.
وقرأ الباقون بكسر السين، فمن فتح السين، ذهب إلى محض العربية أن ما كان ماضيه بالكسر كان مستقبله بالفتح نحو: قضم يقضم، وعلم يعلم.
ومن كسر السين – وهو الاختيار – ذهب إلى أن العرب تفتح الفعل المستقبل إذا كان ماضيه مكسورًا إلا أربعة أحرف، فإنه جاء على فعل يفعل نحو: حسب يحسب، ونعم ينعم، ويبس ييبس، ويئس ييئس، ومع هذا فإنه لغة رسول الله صلى الله عليه وسلم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/103]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في كسر السين وفتحها من قوله جلّ وعزّ: يحسبهم [البقرة/ 273] وتحسبنّ [آل عمران/ 278].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي: يحسبهم وتحسبنّ بكسر السين في كلّ القرآن.
وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: يحسبهم، وتحسبنّ. بفتح السين في كلّ القرآن.
وقال هبيرة عن حفص أنّه كان يفتح ثم رجع إلى الكسر.
قال أبو عليّ: قال أبو زيد: يقال: حسبت الشّيء أحسبه وأحسبه حسبانا. وحكى سيبويه أيضا: حسب يحسب ويحسب. وقال أبو زيد: حسبت ذلك الحقّ حسابا وحسابة من الحساب، فأنا أحسبه. قال أبو زيد: وقال رجل من بني نمير: حسبانك على الله أي: حسابك على الله، وقال الشاعر:
[الحجة للقراء السبعة: 2/402]
على الله حسباني إذا النّفس أشرفت... على طمع أو خاف شيئا ضميرها
وأحسبت الرجل إحسابا إذا أطعمته وسقيته حتى يشبع ويروى، وتعطيه حتى يرضى.
قال أبو علي: القراءة بتحسب بفتح السّين أقيس، لأنّ الماضي إذا كان على فعل نحو حسب، كان المضارع على يفعل مثل: فرق يفرق، وشرب يشرب، وشذّ يحسب فجاء على يفعل في حروف أخر. والكسر حسن لمجيء السمع به، وإن كان شاذا عن القياس). [الحجة للقراء السبعة: 2/403]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف}
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة {يحسبهم} بفتح السّين وقرأ الباقون بالكسر وهما لغتان حسب يحسب وحسب يحسب وقال قوم يحسب بكسر السّين من حسب وقالوا وقد جاءت كلمات على فعل يفعل مثل حسب يحسب ونعم ينعم ويئس ييئس). [حجة القراءات: 148]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (198- قوله: «يحسبهم، ويحسبن» قرأه عاصم وحمزة وابن عامر
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/317]
بفتح السين، حيث وقع إذا كان مستقبلًا، وكسر الباقون وهما لغتان مشهورتان، يقال: حسب يحسَب ويحسِب، والفتح أقوى في الأصول؛ لأن «فعل» في الماضي إنما يأتي مستقبله على «يفعل» بالفتح في الأكثر، والكسر فيه لغة شذت عن القياس، وله نظائر أتت بالكسر في المستقبل والماضي مسموعة، وروي أن النبي عليه السلام كان يقرأ بكسر السين، وهي لغة حجازية، وهو الاختيار). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/318]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (102- {يَحْسَبُهُمُ} [آية/ 273]:-
بفتح السين، قرأها ابن عامر وعاصم وحمزة، وكذلك يحسب في كل القرآن، وذلك لأن فتح السين أقيس، فإن الماضي إذا كان فعل بكسر العين كان القياس في مضارعه أن يكون على يفعل بفتح العين نحو: فرق يفرق وشرب يشرب. وقرأ الباقون بكسر السين في جيمع القرآن، لمجيء السماع، فقد جاء فعل يفعل بالكسر فيهما جميعًا في حروف قليلة، مع شذوذه عن القياس). [الموضح: 349]
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107370#post107370)
جمهرة علوم القرآن
1 صفر 1440هـ/11-10-2018م, 07:57 AM
سورة البقرة
[من الآية (275) إلى الآية (276) ]
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)}
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)}
قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107371#post107371)
جمهرة علوم القرآن
1 صفر 1440هـ/11-10-2018م, 07:58 AM
سورة البقرة
[من الآية (277) إلى الآية (281)]
{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)}
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن: [اتقوا الله وذروا ما بَقِيْ من الربا] بكسر القاف وسكون الياء.
قال أبو الفتح: قد سبق ما في سكون هذه الياء المكسور ما قبلها في موضع النصب والفتح بشواهده، ومنه قول جرير:
هو الخليفة فارضَوْا ما رضِي لكم ... ماضي العزيمة ما في حكمه جَنَفُ). [المحتسب: 1/141]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه ابن مجاهد عن أبي زيد عن أبي السمال: أنه كان يقرأ: [ما بقِي مِن الرِّبُو] مضمومة الباء ساكنة الواو.
قال أبو الفتح: في هذا الحرف ضربان من الشذوذ:
أحدهما: الخروج من الكسر إلى الضم بناء لازمًا.
والآخر: وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأتِ إلا في الفعل نحو: يغزو ويدعو ويخلو، فأما "ذو" الطائية التي بمعنى الذي نحو قوله:
لأَنْتحيا للعظم ذو أنا عارقه
فشاذ، وعلى أن منهم مَن يغير هذه الواو إذا فارق الرفع فيقول: رأيت ذا قام وأخوه، ومررت بذي قام أخوه.
وسألت أبا علي عن حكاية أبي زيد "فعلتُه من ذي إلينا"، فقال: أراد من الذي إلينا.
فقلت: فهذا يوجب عليه أن يقول: من ذو إلينا.
فقال -وهو كما قال: قد تغير هذه الواو في النصب والجر، وعلى أن "ذو" هذه لما كانت موصولة وقعت واوها حشوًا فأَشبهت واو طُومار، كما أَشبهت عند صاحب الكتاب ياء معديكرب ياء دردبيس.
والذي ينبغي أن يُتعلَّل به في الرِّبُو بالواو هو أنه فخَّم الألف انتحاء بها إلى الواو التي الألف بدل منها على حد قولهم: الصلاة والزكاة، وكمشكاة، وكقولهم: عالم وسالم وسالف وآنف، وكأنه بيَّن التفخيم فقوي الصوت فكان الواو أو كاد، إلا أن الراوي أبو زيد، وما أبعده مع علمه وفقهه باللغة من أن تتطرق ظِنَّةٌ عليه في تحصيل ما يسمعه.
فإن قلت: فلعله شبه ذوات العلة بذوات الهمز فوقف على الواو، كما قالوا: هو الرِّدُو والبُطُو.
قيل: هذه الواو إنما تكون مع الهمزة في هذا الكَلَو ومررت بالكَلَيْ في موضع الرفع، وموضع
[المحتسب: 1/142]
الرِّبُو جر بمن في قوله: [مِنَ الرِّبُو]، وعلى أن الكَلو مفتوح ما قبل الواو، والباء من الرِّبُو مضمومة، وعلى أي الأمر حملته فهو شاذ). [المحتسب: 1/143]
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فأذنوا بحربٍ من اللّه ورسوله... (279).
قرأ عاصم في رواية أبي بكر، وحمزة: (فآذنوا) بالمد وكسر الذال.
وقرأ الباقون وحفص عن عاصم: (فأذنوا) مقصورا، وفتحوا الذال: قال أبو منصور: من قرأ (فآذنوا) بالمد، المعني: فأعلموا من وراءكم أن
[معاني القراءات وعللها: 1/231]
كل من لم يترك الربا فهو حرب، يقال: آذتته أوذنه، إذا أعلنته.
ومن قرأ (فأذنوا) بالقصر فمعناه: فاعلموا وأيقنوا بحرب من الله، يقال: أذنت آذن إذنًا، إذا علمت الشيء واستيقتت به، وأذن يأذن إذنًا، إذا سمعت.
وقوله جلّ وعزّ: (لا تظلمون ولا تظلمون (279).
روى المفضل عن عاصم: (لا تظلمون ولا تظلمون).
وقرأ الباقون بفتح الأولى وضم الثانية.
قال أبو منصور: المعنى: (لكم رءوس أموالكم لا تظلمون بأن تأخذوا أكثر منها، ولا تظلمون بأن تنقصوا من رءوس أموالكم شيئا، والتأخير والتقديم لا يغيّر المعنى، غير أن أجود القراءتين: (لا تظلمون) على أنهم فاعلون، و(لا تظلمون) على أنهم مفعولون). [معاني القراءات وعللها: 1/232]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (3- وقوله تعالى: {فأذنوا بحرب من الله} [279].
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر {فآذنوا} بالمد وكسر الذال.
وقرأ الباقون بالقصر أرادوا {فأذنوا} أنتم، أي: اعلموا وكونوا على علم، ومن مد أراد: فآذنوا غيركم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/103]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في قوله تعالى: فأذنوا [البقرة/ 279] في مدّ الألف وقصرها وكسر الذّال وفتحها.
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي فأذنوا مقصورة مفتوحة الذال.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وحمزة فآذنوا ممدودة مكسورة الذّال. وروى حفص عن عاصم والمفضّل فأذنوا مقصورة.
حدثني وهيب بن عبد الله [المروزي] عن الحسن بن المبارك عن [أبي حفص] عن عمرو بن الصبّاح عن أبي
[الحجة للقراء السبعة: 2/403]
يوسف الأعشى عن أبي بكر عن عاصم أنّه قال: فأذنوا وفآذنوا ممدودا ومقصورا.
قال أبو علي: قال سيبويه: آذنت: أعلمت، وأعلمت:
آذنت، وأذّنت: النداء، والتصويت بالإعلام. قال: وبعض العرب يجري آذنت مجرى أذّنت، فمن أذّن الّذي معناه: التصويت والنداء قوله: ثمّ أذّن مؤذّنٌ أيّتها العير إنّكم لسارقون [يوسف/ 70] فالأشبه في هذا الإعلام بالتصويت لقوله:
أيّتها العير إنّكم لسارقون فالتقدير: يقال: إنّكم لسارقون.
فأمّا قوله: فأذّن مؤذّنٌ بينهم أن لعنة اللّه على الظّالمين [الأعراف/ 44]. فإنّ قوله: بينهم يحتمل أمرين:
الأحسن فيه: أن يكون بينهم ظرفا لمؤذن، كما تقول:
أعلم وسطهم ولا تجعله صفة للنكرة؛ لأنّك توصله بالباء إلى أن، واسم الفاعل إذا أعمل عمل الفعل، لم يوصف، كما لا يصغّر، لأنّ الصفة تخصيص والفعل وما أجري مجراه لا يلحقه تخصيص، والتصغير كالوصف بالصغر فمن ثمّ لم يستحسن: هذا ضويرب زيدا، كما لا يستحسن: هذا ضارب ظريف زيدا، ولأنّك في هذا أيضا تفصل بين العامل والمعمول بالأجنبي.
[الحجة للقراء السبعة: 2/404]
وإن شئت جعلت «بينهم» صفة، وقلت: إنّ معنى الفعل قد يعمل في الجارّ ويصل إليه، ألا ترى أنّك تقول: هذا مارّ أمس بزيد، فيصل اسم الفاعل إذا كان لما مضى؟ والمعنى:
بأن لعنة الله، فإن شئت جعلت الباء متعلقة بمؤذّن مع أنّه قد وصف، وإن شئت جعلت «بين» ظرفا للمؤذن لا صفة، وإن شئت جعلته متعلقا بأذّن، كلّ هذا لا يمتنع.
فأما قوله: وأذانٌ من اللّه ورسوله إلى النّاس يوم الحجّ الأكبر أنّ اللّه بريءٌ من المشركين [التوبة/ 3] فإن قوله: من اللّه صفة فيها ذكر من الموصوف، وكذلك إلى النّاس ولا يكون من صلة أذان لأنّه اسم، وليس بمصدر، ومن أجرى هذا الضرب من الأسماء مجرى المصادر، فينبغي أن لا يعلّق به هذا الجارّ، ألا ترى أنّ المصدر الّذي هذا منه، لا يصل بهذا الحرف كما يصل قوله: براءةٌ من اللّه ورسوله [التوبة/ 1] به؟ كقوله:
برئت إلى عرينة من عرين وإذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا [البقرة/ 166]
[الحجة للقراء السبعة: 2/405]
فأمّا قوله: يوم الحجّ الأكبر [التوبة/ 3] فيجوز أن يتعلق بالصفة ويجوز أن يتعلق بالخبر الذي هو ب أنّ اللّه.
ولا يجوز أن يتعلق ب أذانٌ لأنك قد وصفته، والموصوف إذا وصفته لم يتعلق بشيء ولا بدّ من تقدير الجارّ في قوله:
(بأن الله) لأنّ: أنّ اللّه بريءٌ من المشركين لا يكون الإعلام، كما يكون الثاني الأول في قولك: خبرك أنّك خارج.
فأمّا قوله تعالى: فقل آذنتكم على سواء [الأنبياء/ 109]، فقوله: على سواء يحتمل ضربين: أحدهما أن يكون صفة لمصدر محذوف، والآخر: أن يكون حالا، فإذا جعلته وصفا للمصدر كان التقدير: آذنتكم إيذانا على سواء.
ومثل وصف المصدر هاهنا، قوله تعالى: كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم [البقرة/ 183] التقدير: كتب عليكم الصيام كتابة كما كتب على الذين، فحذف المصدر، فكذلك يحذف في قوله: آذنتكم على سواء [الأنبياء/ 109] وفيه ذكر من المحذوف، ومعنى إيذانا على سواء: أعلمتكم إعلاما نستوي في علمه لا أستبدّ أنا به دونكم لتتأهبوا لما يراد منكم. وقال أبو عبيدة: إذا أنذرته وأعلمته فأنت وهو على سواء.
[الحجة للقراء السبعة: 2/406]
وأمّا إذا جعلته حالا، فإنّه يمكن فيه ثلاثة أضرب:
أحدها: أن يكون حالا من الفاعل.
والآخر: أن يكون من المفعول به.
والثالث: أن يكون منهما جميعا على قياس ما جاء من قول عنترة:
متى ما تلقني فردين ترجف... روانف أليتيك وتستطارا
وما أنشده أبو زيد:
إن تلقني برزين لا تغتبط به وكذلك قوله تعالى: فانبذ إليهم على سواءٍ
[الحجة للقراء السبعة: 2/407]
[الأنفال/ 58]، قياسه قياس قوله: آذنتكم على سواء، قال أبو عبيدة معناه الخلاف والغدر في هذا الموضع فانبذ إليهم على سواءٍ: فأظهر لهم أنّك عدو وأنّك مناصب لهم. فأمّا قوله:
آذناك ما منا من شهيد [فصلت/ 47] فإن شئت جعلته مثل:
علمت أزيد منطلق؟ وإن شئت جعلته على معنى القسم، كما قال:
ولقد علمت لتأتينّ منيّتي فإن قلت: إنّ عامّة ما جاء مجيء القسم لم يتعدّ إلى مفعول به كقولهم: علم الله لأفعلنّ.
قيل: قد جاء: وأقسموا باللّه جهد أيمانهم [فاطر/ 42]، [النور/ 53] متعديا بالحرف.
وقد قرأ حمزة: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب
[الحجة للقراء السبعة: 2/408]
وحكمة [آل عمران/ 81] وقد أجيب بما يجاب به القسم، فكذلك قوله: آذناك يكون على القسم، وإن كان قد تعدّى إلى مفعول به.
وبعد فإذا جاء نفس القسم متعديا إلى المفعول به نحو: بالله، ونحو: الله لأفعلنّ، فما يقوم مقامه، ينبغي أن يكون في حكمه.
وأمّا قوله: وأذنت لربّها وحقّت [الانشقاق/ 2، 5] فقد فسّر أذنت أنها استمعت،
وفي الحديث: «ما أذن الله لشيء كإذنه لنبيّ».
وقال عديّ:
في سماع يأذن الشّيخ له... وحديث مثل ماذيّ مشار
وأنشد أبو عبيدة:
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
[الحجة للقراء السبعة: 2/409]
وأما قول عدي:
أيها القلب تعلّل بددن... إنّ همّي في سماع وأذن
فالسماع مصدر يراد به المسموع نحو: الخلق والمخلوق، والصيد والمصيد، يدلّك على ذلك أنّه لا يخلو من أن يكون على ما ذكرنا، أو على أنّه السماع الذي هو الاستماع، فلا يستقيم هذا؛ لأنّ المعنى يكون: إنّ همي في سماع وسماع، وليس هكذا، ولكن إنّ همي في مسموع، أي في غناء واستماع له.
وأمّا قوله: وإذ تأذّن ربّك [الأعراف/ 167] فقد قدّمنا ذكر ما قاله سيبويه: من أنّ من العرب من يجعل أذّن وآذن
[الحجة للقراء السبعة: 2/410]
بمعنى، كأنّه جعله بمنزلة سمّى وأسمى، وخبّر وأخبر، فإذا كان أذّن: أعلم في لغة بعضهم، فتأذّن: تفعّل من هذا، وليس تفعّل هاهنا بمنزلة: تقيّس وتشجّع، ولكنّه بمنزلة فعّل، كما أنّ تكبّر في قوله سبحانه: الجبّار المتكبّر [الحشر/ 23] ليس على حدّ: تكبّر زيد، إذا تعاطى الكبر، ولكنّ المتكبر بمنزلة الكبير، كما أنّ قوله عزّ وجلّ: وتعالى عمّا يقولون [الإسراء/ 43] تقديره: وعلا، وليس على حدّ تعاقل وتغاشى إذا أظهر شيئا من ذلك ليس فيه.
فبناء الفعلين يتفق والمعنى يختلف، وكذلك تأذّن بمنزلة علم ومثل تفعّل، في أنّه يراد به فعل قول زهير:
تعلّم أنّ شرّ النّاس قوم... ينادى في شعارهم يسار
وكذلك قوله:
تعلّماها لعمر الله ذا قسما... فاقصد بذرعك وانظر أين تنسلك
[الحجة للقراء السبعة: 2/411]
ليس يريد: تعلّم هذا عن جهل به، إنّما يريد به:
اعلم، كأنّه ينبهه ليقبل على خطابه. ومثله:
تعلّمن أنّ الدّواة والقلم... تبقى ويفني حادث الدّهر الغنم
وهذا كثير يريدون به: اعلم، وليس يريدون تعلّم كما يريدون بقولهم: تعلّم الفقه، إنّما يريدون: اعلم.
فكذلك تأذّن معناه: علم. ومما يدل على أنّ معناه العلم، وقوع لام اليمين بعدها كما تقع بعد العلم في نحو:
علم الله لأفعلنّ، فكأنّ المعنى في تأذّن: علم ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة، وليس هو من الاستماع نحو: أذنت لربّها وحقّت [الانشقاق/ 2] ونحو: «ما أذن الله لشيء» ألا ترى أنّك لو قلت سمع ليفعلنّ، أو تسمّع ليفعلن، لم يسهل ذلك كما يكون في علم من حيث استعمل استعمال القسم، فتعلق الجواب به كما يتعلق بالقسم؟ وأمّا قوله: قل أذن خيرٍ لكم [التوبة/ 61] فإنّه يذكر في موضعه إن شاء الله، وأمّا قوله سبحانه: فإن لم تفعلوا فأذنوا بحربٍ من اللّه [البقرة/ 279] المعنى: فإن لم تضعوا الرّبا عن النّاس الّذي قد أمركم الله بوضعه عنهم، فأذنوا بحرب من الله.
[الحجة للقراء السبعة: 2/412]
قال أبو عبيدة: آذنتك بحرب فأذنت به. فمن قال:
فأذنوا بحربٍ من اللّه فقصر، فمعناه: اعلموا بحرب من الله، والمعنى: أنّكم في امتناعكم من وضع ذلك حرب لله ورسوله.
ومن قال: فآذنوا بحرب فتقديره: فأعلموا من لم ينته عن ذلك بحرب، والمفعول هنا محذوف على قوله: وقد أثبت هذا المفعول المحذوف هنا، في قوله فقل آذنتكم على سواءٍ وإذا أمروا بإعلام غيرهم علموا هم أيضا لا محالة، ففي أمرهم بالإعلام ما يعلمون هم أيضا أنهم حرب إن لم يمتنعوا عمّا نهوا عنه من وضع الرّبا عمن كان عليه. وليس في علمهم دلالة على إعلام غيرهم، فهذا في الإبلاغ آكد.
قال أحمد بن موسى: قرءوا كلّهم: لا تظلمون ولا تظلمون [البقرة/ 279] بفتح التاء الأولى وضم الثانية.
وروى المفضّل عن عاصم لا تظلمون ولا تظلمون بضم التاء الأولى وفتح الثانية.
قال أبو علي: موضع «لا تظلمون» نصب على الحال من لكم، التقدير: فلكم رءوس أموالكم غير ظالمين ولا مظلومين.
والمعنى: إن تبتم فوضعتم الرّبا الذي أمر الله بوضعه عن النّاس فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون بأن تطالبوا المستدين بالرّبا
[الحجة للقراء السبعة: 2/413]
الموضوع عنه، ولا تظلمون بأن تبخسوا رءوس أموالكم. أو تمطلوا بها.
وقد جاء: «ليّ الواجد ظلم».
والمعنى؛ والتقدير في التقديم والتأخير الذي روي عن عاصم؛ سواء.
ويرجح تقديم: لا تظلمون بأنّه أشكل بما قبله، لأنّ الفعل الذي قبله مسند إلى فاعل، وهو قوله: وإن تبتم فلكم، فتظلمون أشكل بما قبله لإسناد الفعل فيه إلى الفاعل من تظلمون المسند فيه الفعل إلى المفعول به). [الحجة للقراء السبعة: 2/414]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}
قرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم {فإن لم تفعلوا فأذنوا} مفتوحة الهمزة والذال مكسورة أي فاعلموهم وأخبروه بأنكم على حربهم تقول آذنت الرجل بكذا أي أعلمته
وقرأ الباقون {فأذنوا} ساكنة الهمزة أي فاعلموا أنتم يقال أذن به يأذن إذنا إذا علم به
قال أبو عبيد الاختيار القصر لأنّه خطاب بالأمر والتحذير وإذا قال {فأذنوا} بالمدّ والكسر فكأن المخاطب خارج من التحذير
[حجة القراءات: 148]
مأمور بتحذير غيره وإعلامه). [حجة القراءات: 149]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (199- قوله: {فأذنوا بحرب} قرأه أبو بكر وحمزة بالمد، وكسر الذال، وقصره الباقون، وفتحوا الذال.
200- ووجه القراءة بالقصر أنه أمر للمخاطبين بترك الربا، أمروا أن يعلموا ذلك هم أنفسهم، فالمعنى: فإن لم تتركوا الربا فأيقنوا بحرب من الله ورسوله، فهم المقصودون بأن يعلموا ذلك في أنفسهم، إن لم يتركوا الربا.
201- ووجه القراءة بالمد أنه جعله أمرًا للمخاطبين بترك الربا، أن يعلموا بذلك غيرهم، ممن هو على مثل حالهم في المقام على الربا، فالمد يتضمن معنى القصر؛ لأنهم إذا أعلموا غيرهم بالحرب من الله ورسوله فقد عليه السلام لموا هم ذلك، إن أقاموا على فعل الربا، وليس في علمهم ذلك، لأنفسهم، دلالة على إعلام غيرهم، فالمد أعم وآكد في أنهم، إن لم يتركوا الربا في أنفسهم، ويتركه غيرهم، ممن هو على مثل حالهم فالحرب من الله ورسوله لازم لهم، نازل عليهم، وعلى من هو مثلهم، ولولا أن الجماعة على القصر لكان الاختيار المد، وبالقصر قرأ علي بن أبي طالب وأبو عبد الرحمن والأعرج وشيبة وعيسى وأبو جعفر، وبالمد قرأ طلحة والأعمش، واستبعد أبو حاتم المد، إذ الأمر فيه لغيرهم بالحرب، والمراد هم، وهم المخاطبون بترك الربا، والمد حسن في
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/318]
المعنى على ما ذكرنا). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/319]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (103- {فآذِنُوا} [آية/ 279]:-
بالمد وكسر الذال، قرأها عاصم –ياش- وحمزة.
والمعنى: فأعلموا غيركم ممن لم يترك ما بقي من الربا بحرب من الله ورسوله، والمفعول به على هذا محذوف، يقال آذنته بالشيء إذا أعلمته،
[الموضح: 349]
وإذا أعلموا غيرهم فهم عالمون لا محالة فهو أبلغ.
وقرأ الباقون {فَأْذَنُوا} بسكون الهمزة وفتح الذال.
ومعناه: اعلموا بحرب من الله ورسوله، فإنكم إن امتنعتم من تركه، ورسوله حرب لكم، يقال: آذنته بالشيء فأذن به). [الموضح: 350]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (104- {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [آية/ 279]:-
اتفق القراء كلهم على فتح الأول منهما وضم الثاني، إلا ما روى المفضل عن عاصم {لا تُظْلَمون} بالضم {ولا تَظْلِمون} بالفتح.
ووجه قراءة الجمهور أن المعنى: إن تبتم من الربا وتركتم ما بقي منه على من عاملتموه، فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون بطلب الربح المأمور بوضعه، ولا تظلمون بمنع رأس المال، ثم إن التقديم والتأخير سواء في المعنى، إلا أن تقديم {لا تظلمون} بفتح التاء وكسر اللام أولى؛ لأن ما قبله على إسناد الفعل إلى الفاعل وهو قوله تعالى {وإنْ تُبْتُمْ}، فقوله {تَظلمون} بالفتح أليق به وأشبه لإسناد الفعل فيه أيضًا إلى الفاعل). [الموضح: 350]
قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فنظرةٌ إلى ميسرةٍ... (280).
قرأ نافع وحده: (إلى ميسرةٍ) بضم السين.
وقرأ الباقون بفتح
[معاني القراءات وعللها: 1/232]
السين.
قال أبو منصور: هما لغتان: ميسرة وميسرة، ومثله: مقبرة ومقبرة، ومشربة ومشربة: للغرفة.
وقوله جلّ وعزّ: (وأن تصدّقوا (280).
قرأ عاصم: (وأن تصدّقوا) خفيفة الصاد.
وقرأ الباقون: (تصّدّقوا) بتشديد الصاد والدال.
قال أبو منصور: من قرأ بتخفيف الصاد فالأصل: تتصدقوا فحذفت إحدي التاءين، وبقي تصدّقوا.
ومن قرأ بتشديد الصاد فالأصل أيضًا: تتصدّقوا، فأدغمت التاء الثانية في الصاد، وشددت، والمعنى واحد). [معاني القراءات وعللها: 1/233]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (42- وقوله تعالى: {فنظرة إلى ميسرة} [280].
قرأ نافع وحده {ميسرة} بضم السين مثل مشرقة.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/103]
وقرأ الباقون {ميسرة} مثل مشرقة، ولم يختلفوا في {نظرة} ولا {ذو عسرة} إلا ما روي عن عثمان فإنه قرأ {فإن كان ذا عسرة} جعله خبر كان، والاسم مضمر والتقدير، وإن كان المدين ذا عسرة، ومن رفع جعل «كان» بمعنى حدث ووقع، ولم يحتج إلى خبر تقول: قد كان الأمر، أي: قد وقع). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/104]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (43- وقوله تعالى: {وأن تصدقوا خير لكم} [280].
قرأ عاصم وحده {تصدقوا} خفيفة.
وقرأ الباقون بتشديد الصاد والدال على أصل الكلمة؛ لأن الأصل تتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد، ومن خفف حذف تاءه). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/104]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في ضمّ السّين وفتحها من قوله تعالى: فنظرةٌ إلى ميسرةٍ [البقرة/ 280] فقرأ نافع وحده: إلى ميسرةٍ بضمّ السّين.
وقرأ الباقون: ميسرةٍ بفتح السّين، وكلّهم قلب الهاء تاء ونوّنها.
قال أبو عليّ: حجّة من قرأ إلى ميسرةٍ أنّ مفعلة قد جاء
[الحجة للقراء السبعة: 2/414]
في كلامهم كثيرا. وأمّا من قرأ إلى ميسرةٍ بضمّ السّين فلأنّ مفعلة قد جاء أيضا في كلامهم.
قالوا: المسربة، وقالوا: المشرقة وليس بكثرة مفعلة. فالقراءة الأولى أولى لأنّ الكلمة بفتح العين منها أكثر من الضمّ، ومفعلة بناء مبني على التأنيث، ألا ترى أن مفعلا بغير هاء بناء لم يجيء في الآحاد؟.
قال سيبويه: وأمّا ما كان يفعل منه مضموما، فهو بمنزلة ما كان يفعل منه مفتوحا، ولم يبنوه على مثال يفعل، لأنّه ليس في الكلام مفعل، فلمّا لم يكن إلى ذلك سبيل، وكان مصيره إلى إحدى الحركتين ألزموه أخفّهما.
قال أبو علي: كلامه هذا في الآحاد، ألا ترى أنّه يقصد مكان الفعل، وهو معلوم أنّه لا يكون إلّا مفردا.
وما جاء في الشّعر من معون ومكرم جمع معونة ومكرمة لا يدخل على هذا لأنه جمع ومراد سيبويه فيما ذكر المفرد دون الجمع.
[الحجة للقراء السبعة: 2/415]
قال أحمد بن موسى: وكلّهم قلب الهاء تاء ونوّنها، يعني: في الوصل، يريد أنّه: لم يقرأ أحد منهم إلى ميسرة لأنّ مفعل لا يجيء في الآحاد إلّا بالتاء، وقد جاء في الجمع، [قال جميل]:
بثين الزمي (لا) إنّ (لا) إن لزمته... على كثرة الواشين أيّ معون
وروي:
أبلغ النعمان عني مألكا... إنّه قد طال حبسي وانتظاري
فالأول جمع معونة، ومألكا جمع مألكة وهي: الرسالة، ومثل هذا الذي يقلّ قد لا يعتدّ به سيبويه، فربّما أطلق القول،
[الحجة للقراء السبعة: 2/416]
فقال: ليس في الكلام كذا، وإن كان قد جاء عليه حرف أو حرفان، كأنّه لا يعتدّ بالقليل، ولا يجعل له حكما). [الحجة للقراء السبعة: 2/417]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن بخلاف وأبي رجاء ومجاهد فيما رُوي عنه: [فنَظْرَة إلى ميْسُرة]، وقراءة عطاء بن أبي رباح: [فناظِرُهُ] بالألف، والهاء كناية، ورُوي أيضًا عن عطاء: [فنِاظِرْهُ إلى ميْسُرِه] أمر.
قال أبو الفتح: أما [فنَظْرَة] بسكون الظاء فمسكَّنة للتخفيف من "نَظِرة "، كقولهم في كلمة: كَلْمة، وفي كَبِد كَبْد، لغة تميمية، وهم الذين يقولون في كَرُم: كَرْم، وفي كُتُب: كُتْب.
وأما [فنَاظِرْه] فكقولك: فياسره فسامحه وليس أمرًا من المناظرة؛ أي: المحاجة والمجادلة؛ لكنها من المساناة والمسامحة، فيقول على هذا: قد تناظر القوم بينهم الحقوق، كقولك: قد تسامحوا فيها ولم يضايق بعضُهم بعضًا.
ويقول عليه: لله متبايعان رأيتهما، فقد تناظرا؛ أي: تسامحا ولم يتحاجا.
[المحتسب: 1/143]
وأما [إلى مَيْسُره] فغريب؛ وذلك أنه ليس في الأسماء شيء على مفْعُل بغير تاء؛ لكنه بالهاء، نحو: المقْدُرة والمقْبُرة والمشرُقة والمقنُوة، وأما قوله:
أَبلغ النعمان عني مألُكا ... أنه قد طال حبسي وانتظار
فطريقه عندنا: أنه أراد مألُكة -وهي الرسالة- غير أنه حذف الهاء وهو يريدها، كما قال كثير:
خليلي إنْ أمُّ الحكيم تَحَملت ... وأَخْلت لخيمات الْعُذَيب ظلالها
يريد: العُذيْبَة، وكما قال ملك بن جبار الطائي:
إنا بنو عمكم لا أن نُباعلكم ... ولا نصالحكم إلا على ناح
يريد ناحية. وكذلك قول الآخر:
بُثَيْن الزمى لا إن لا إن لزمتِه ... على كثرة الواشين أيُّ معون
يريد معونة فحذف، وقيل: أراد جمع معونة، وكذلك قول الآخر:
ليوم روع أو فَعالِ مَكْرُم
يريد: مكرمة ثم حذف، وقيل: أراد جمع مكرمة، وكذلك أراد هنا إلى ميسرته، فحذف الهاء. وحسن ذلك شيئًا أن ضمير المضاف إليه كاد يكون عوضًا من علم التأنيث، وإليه ذهب الكوفيون في قوله تعالى: {وَإِقَامِ الصَّلاةِ} أنه أراد إقامة، وصار المضاف إليه كأنه عوض من التاء.
[المحتسب: 1/144]
ويشهد لهذا قراءة مَن قرأ: [فنَظِرَةٌ إلى مَيْسُرة]، قرأ بها نافع في جماعة من الصحابة، فاعرف). [المحتسب: 1/145]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون}
قرأ نافع {إلى ميسرة} بضم السّين وقرأ الباقون بالنّصب وهما لغتان مثل المشرقة والمشرقة
قرأ عاصم {وأن تصدقوا} بتخفيف الصّاد وقرأ الباقون بالتّشديد
الأصل تتصدقوا من خفف حذف التّاء الثّانية اكتفاء بعلامة الاستقبال منها ومن شدد أدغم التّاء في الصّاد لقرب المخرجين). [حجة القراءات: 149]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (202- قوله: {ميسرة} قرأه نافع بضم السين، وفتح الباقون، وهما لغتان إلا أن الفتح أكثر وأشهر، و«مفعل» بغير هاء، وبفتح العين في الكلام كثير، وليس في الكلام «مفعل» بضم العين، وبغير هاء، إلا حرفان ونحوهما قالوا: معون، ومكرم، جمع معونة ومكرمة، وجاء مألك، جمع مألكة، وهي الرسالة. و«مفعل» بالفتح كثير مستعمل، وبالفتح قرأ علي بن أبي طالب وابن عمر والأعرج وأبو جعفر وابن جندب والحسن وقتادة وأبو رجاء، وبالضم قرأ مجاهد وابن محيصن، وشيبة وعطاء وحميد والحسن وهي لغة هذيل، واختلف عن الحسن فيه، والفتح هو الاختيار، لإجماع القراء عليه، ولأنه الأكثر في الاستعمال بالهاء وبغير هاء.
203- قوله: {وأن تصدقوا} قرأه عاصم بالتخفيف، وقرأ الباقون مشددًا، وهو مثل «تظاهرون» في الحجة في التخفيف والتشديد، لكن في التشديد معنى التكثير، وهو الاختيار؛ لأن الجماعة عليه، وهو الأصل، والتخفيف حدث). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/319]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (105- {إِلَى مَيْسَرَةٍ} [آية/ 280]:-
بضم السين، قرأها نافع وحده، والباقون على الفتح، وكلهم –أعني الثمانية –نون التاء.
وهما لغتان: ميسرة وميسرة، إلا أن مفعلة بالفتح أكثر في كلامهم، وقد جاء مفعلة بالضم أيضًا في نحو: المشرقة والمشربة والمقبرة، وليس في كثرة مفعلة بالفتح، فالقراءة الأولى أولى). [الموضح: 351]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (106- {وَأَنْ تَصَدَّقُوا} [آية/ 280]:-
بتخفيف الصاد، قرأها عاصم وحده.
وذلك لأن الأصل: تتصدقوا، فحذفت إحدى التاءين، وهي الثانية، وقد مضى مثله.
وقرأ الباقون {تَصَّدَّقُوا} بتشديد الصاد.
والأصل أيضًا: تتصدقوا، فأدغمت التاء الثانية في الصاد، فبقي: تصدقوا. والمعنى واحد). [الموضح: 351]
قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (واتّقوا يومًا ترجعون فيه إلى اللّه... (281).
[معاني القراءات وعللها: 1/233]
قرأ أبو عمرو ويعقوب: (ترجعون) بفتح التاء.
وقرأ الباقون: (ترجعون) بضم التاء، قال أبو منصور: (ترجعون) فعله لازم غير واقع.
و (ترجعون) مفعول من رجعته، فالأول واقع، والثاني لازم). [معاني القراءات وعللها: 1/234]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (44- قوله تعالى: {واتقوا يوما ترجعون} [281]
قرأ أبو عمرو وحده {يوما ترجعون فيه} بفتح التاء وكسر الجيم.
والباقون بضم التاء وفتح الجيم). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/104]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في قوله عزّ وجلّ: واتّقوا يوماً ترجعون فيه إلى اللّه [البقرة/ 281] في فتح التاء من ترجعون وضمها.
فقرأ أبو عمرو وحده ترجعون بفتح التاء وكسر الجيم.
واختلف عنه في آخر سورة النور، فروى علي بن نصر، وهارون الأعور وعبيد بن عقيل، وعباس بن الفضل، وخارجة بن مصعب ويوم يرجعون إليه [النور/ 64] بضم الياء.
وقرأ الباقون: يوماً ترجعون فيه ويوم يرجعون بضم التاء والياء فيهما، وكذلك في النّور.
قال أبو علي: حجة من قرأ: يرجعون: ثمّ ردّوا إلى اللّه [الأنعام/ 62] ولئن رددت إلى ربّي [الكهف/ 36].
[الحجة للقراء السبعة: 2/417]
وحجة أبي عمرو: إنّ إلينا إيابهم [الغاشية/ 25] فأضيف المصدر إلى الفاعل فهذا بمنزلة: (يرجعون) وآبوا: مثل رجعوا.
ومن حجته: وإنّا إليه راجعون [البقرة/ 156] وقال:
فإلينا مرجعهم [يونس/ 46] فأضاف المصدر إلى الفاعل، كما أضيف في الآية الأخرى. وقال تعالى: كما بدأكم تعودون [الأعراف/ 29].
فأمّا انتصاب (يوم) من قوله: واتّقوا يوماً [البقرة/ 48] فانتصاب المفعول به لا انتصاب الظرف، وليس المعنى: اتّقوا في هذا اليوم، ولكن تأهبوا للّقاء به، بما تقدمون من العمل الصالح. ومثل ذلك: فكيف تتّقون إن كفرتم يوماً [المزمل/ 17]؟ أي: كيف تتّقون هذا اليوم الذي هذا وصفه مع الكفر بالله، أي: لا يكون الكافر مستعدّا للّقاء به لكفره، ومثل ذلك قوله: وارجوا اليوم الآخر [العنكبوت/ 36] أي: خافوه). [الحجة للقراء السبعة: 2/418]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة الحسن: [واتقوا يومًا يُرجعون فيه] بياء مضمومة.
قال أبو الفتح: فيه أنه ترك الخطاب إلى لفظ الغيبة كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ}، غير أنه تصور فيه معنى مطروقًا هنا فحمل الكلام عليه؛ وذلك أنه كأنه قال: واتقوا يومًا يَرجع فيه البشر إلى الله فأَضمر على ذلك، فقال: يُرجعون فيه إلى الله.
وقد شاع واتسع عنهم حمل ظاهر اللفظ على معقود المعنى، وترك الظاهر إليه، وذلك كتذكير المؤنث وتأنيث المذكر وإفراد الجماعة وجمع المفرد، وهذا فاشٍ عنهم، وقد أفردنا له بابًا في كتابنا في الخصائص ووسمناه هناك بشجاعة العربية، وكأنه -والله أعلم- إنما عدل فيه عن الخطاب إلى الغيبة فقال: يُرْجَعُون بالياء رفقًا من الله -سبحانه- بصالحي عباده المطيعين لأمره.
وذلك أن العود إلى الله للحساب أعظم ما يخوَّفُه ويُتَوعَّدُ به العباد، فإذا قرئ: [تُرجعون فيه إلى الله] فقد خوطبوا بأمر عظيم يكاد يستهلك ذكره المطيعين العابدين، فكأنه -تعالى- انحرف عنهم بذكر الرجعة فقال: [يرجعون فيه إلى الله]. ومعلوم أن كل وارد هناك على أهول أمر وأشنع خطر، فقال: يرجعون فيه، فصار كأنه قال: يجازَوْن أو يعاقبون أو يطالبون بجرائرهم فيه، فيصير محصوله من بعد؛ أي: فاتقوا أنتم يا مطيعون يومًا يُعذَّب فيه العاصون.
ومَن قرأ بالتاء {ترجعون}[فإنه فضل تحذير للمؤمنين نظرًا لهم واهتمامًا بما يُعقِب السلامة بحذرهم، وليس ينبغي أن يُقْتَصَر في ذكر علة الانتقال من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب بما عادة توسط أهل النظر أن يفعلوه، وهو قولهم: إن فيه ضربًا من الاتساع في اللغة لانتقاله من لفظ إلى لفظ، هذا ينبغي أن يقال إذا عَرِي الموضع من غرض معتمد، وسر على مثله تنعقد اليد.
[المحتسب: 1/145]
فمنه قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، هذا بعد قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فليس ترك الغيبة إلى الخطاب هنا اتساعًا وتصرفًا؛ بل هو لأمر أعلى ومهم من الغرض أَعْنَى، وذلك أن الحمد معنًى دون العبادة، ألا تراك قد تحمد نظيرك ولا تعبده؛ لأن العبادة غاية الطاعة والتقرب بها هو النهاية والغاية؟ فلما كان كذاك استعمل لفظ "الحمد" لتوسطه مع الغيبة، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ولم يقل: لك، ولما صار إلى العبادة التي هي أقصى أمد الطاعة قال: {إِيَّاكَ نَعْبُد} فخاطب بالعبادة إصراحًا بها، وتقربًا منه -عز اسمه- بالانتهاء إلى محدوده منها.
وعلى نحو منه جاء آخر السورة، فقال: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فأصرح بالخطاب لَمَّا ذكر النعمة، ثم قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} ولم يقل: غير الذين غضبتَ عليهم؛ وذلك أنه موضع تقرب من الله بذكر نعمه، فلما صار الكلام إلى ذكر الغضب قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، حتى كأنه قال: غير الذين غُضِب عليهم، فجاء اللفظ مُنْحَرَفًا به عن ذكر الغاضب، ولم يقل: غير الذين غضبتَ عليهم، كما قال: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فأسند النعمة إليه لفظًا، وزَوَى عنه لفظ الغضب تحسنًا ولطفًا.
فانظر إلى هذه اللغة الكريمة وشرفها، وتلاقي هذه الأغراض اللطيفة وتعطفها، الأقدام تكاد تطؤها، والأفهام مع ثقوبها صافحة عنها، ويا ليت شعري هل تكون سورة أكثر استعمالًا من سورة الحمد، وهذا جزء من أجزاء ما فيها ولم توضع عليه يد؟ شرح الله لإعظام أوامره صدرونا، وأحسن الأخذ إلى طاعته بأيدينا بقدرته وماضي مشيئته.
ومما يتلقاه عامة من يُسْأَل عنه بأنه أَخْذٌ باللغتين، وسعة باختلاف اللفظين: قراءة أبي عمرو: [وتفقَّد الطير فقال ما لِيْ لا أرى الهُدهُدَ] بسكون الياء من [لي]، وقراءته أيضًا: [وما لِيَ لا أعبْد الذي فطرني] بتحريك الياء.
وعلة ذلك ليس الجمع بين اللغتين كما يُفتي به جميع من تسأله عنه؛ لكنه لما جاز الوقف على قوله تعالى: {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ}، وأن يستأنف فيقول: {لا أَرَى الْهُدْهُدَ}، سكن الياء من "لي"؛ أمارة لجواز الوقوف عليها، ولما لم يحسن الابتداء بقوله: {لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} حرك الياء من "لي" قبلها؛ أمارة لإدراج الكلام ووصله؛ وذاك أن الحركة من أعراض الوصل،
[المحتسب: 1/146]
والسكون من أعراض الوقف، فهل يحسن مع وجود هذا الفرق الواضح الكريم أن يُخلد دونه إلى التعذر بما يُخْلِدُ إليه الموهون المضيم؟ اللهم انفعنا بما استودعتناه، واجعل بك اعتصامنا، وإلى طاعتك توجهنا، إنك لطيف بنا وأنت حسبنا). [المحتسب: 1/147]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({واتّقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله}
قرأ أبو عمرو {واتّقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله} بفتح التّاء أي تصيرون نسب الفعل إليهم
وحجته قوله {وأنّهم إليه راجعون} فأنسد الرّجوع إليهم فكذلك قوله {ترجعون}
وقرأ الباقون {ترجعون} بضم التّاء أي تردون وحجتهم قوله {ثمّ إلى ربهم يحشرون} {وإليه تقلبون} ). [حجة القراءات: 149]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (204- قوله: {يومًا ترجعون فيه} قرأه أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم، أضاف الفعل إلى المخاطبين، فهم الفاعلون، وقرأ الباقون بضم التاء وفتح الجيم، أضافوا الفعل إلى من يرجع المخاطبين، فالمخاطبون مفعول بهم، قاموا
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/319]
مقام الفاعل، والقول في هذا كالقول في «ترجع الأمور» وقد مضى الكلام فيه). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/320]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (107- {تُرْجَعُونَ فِيهِ} [آية/ 281]:-
بفتح التاء وكسر الجيم، قرأها أبو عمرو ويعقوب.
وذلك أن المعنى على هذه القراءة: تصيرون إليه، فالفعل فيه لازم، ومثله {وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} و{إلَيْنا مَرْجِعُهُم} و{إِنَّ إلَيْنا إيابَهُمْ}، والإياب: الرجوع.
وقرأ الباقون {تُرْجَعُونَ} بضم التاء وفتح الجيم.
والفعل على هذا متعدٍّ؛ لأن رجع قد جاء لازمًا ومتعديًا، وهو مبني ههنا على ما لم يسم فاعله، وحجته من التنزيل: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى الله} و{لَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي} ). [الموضح: 352]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107372#post107372)
جمهرة علوم القرآن
1 صفر 1440هـ/11-10-2018م, 07:59 AM
سورة البقرة
[ الآية (282) ]
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (قوله جلّ وعزّ: (أن تضلّ إحداهما... (282).
قرأ حمزة: (إن تضلّ) بكسر الألف على محض الشرط، (فتذكّر) بتشديد الكاف وضم الراء، والفاء جواب الشرط.
وفتح الباقون الألف من (أن تضلّ) والراء من (فتذكّر).
وأسكن الذال من قوله: (فتذكر) ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب، وخفضوا الكاف.
وقرأ الباقون: (فتذكّر).
وأذكرت وذكّرت واحد.
قال أبو منصور: من قرأ (أن تضلّ) المعنى: أن تنسى إحداهما
[معاني القراءات وعللها: 1/234]
فتذكرها الذاكرة.
وقوله: (فتذكّر) رفع مع كسر (إن) لا غير، وهي قراءة حمزة.
ومن قرأ (إن تضل إحداهما فتذكر) فالمعنى: لأن تذكر إحداهما الأخرى، ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى.
وقال سيبويه: لم جاز (أن تضل) وإنما أعدّ هذا للإذكار؟
فالجواب: أن الإذكار لما كان سببه الإضلال جاز (أن تضلّ)؛ لأن الإضلال هو السبب الذي أوجب الإذكار.
قال: ومثله في الكلام: أعددت هذا أن يميل الحائط فأدعمه، وإنما أعددته للدغم لا للميل، ولكن الميل ذكر لأنه سبب الدعم، كما ذكر الإضلال لأنه سبب الإذكار، وهذا بيّن إن شاء الله.
وقوله جلّ وعزّ: (إلّا أن تكون تجارةً حاضرةً... (282).
قرأ عاصم وحده: (تجارةً حاضرةً) نصبا.
وقرأ الباقون: (تجارةٌ حاضرةٌ) رفعا.
قال أبو منصور: من نصب (تجارةً حاضرةً) فالمعنى: إلا أن تكون المداينة تجارةً حاضرةً.
ومن رفع (تجارةٌ حاضرةٌ) جعل (كان) مكتفية بالاسم دون
[معاني القراءات وعللها: 1/235]
الخبر، وذلك كثير.
و (حاضرة) من نعت (تجارة)، وذلك جائز في كلام العرب). [معاني القراءات وعللها: 1/236]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (45- قوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر} [282]
قرأ حمزة وحده {إن تضل} بالكسر {فتذكر} بالرفع والتشديد.
وقرأ الباقون (أن تضل) بالفتح {فتذكر} بالنصب والتشديد غير أن ابن كثير وأبا عمرو خففاه، فمن فتح نصب (تضل) بـ «أن» ونسق عليه {فتذكر} ومن قرأ بالتخفيف فيكون: أذكرت وذكرت بمعنى، مثل كرمت وأكرمت.
وأما حمزة فإنه جعل «إن» حرف الشرط «وتضل» جم بالشرط، «وتذكر» فعل مستقبل). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/104]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (46- وقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة حاضرة} [282]
قرأ عاصم {تجارة حاضرة} بالنصب.
[إعراب القراءات السبع وعللها: 1/104]
وقرأ الباقون بالرفع، فمن قرأ بالرفع ففيه جوابان:
أحدهما: أن يجعل (التجارة) اسمًا لكان {تديرونها} الخبر وتلخيصه: تجارة حاضرة مدارة بينكم.
والاختيار أن تجعل «كان» بمعنى حدث ووقع، ولا خبر له. ومن قرأ بالنصب – ولا وجه له – أضمر اسم «كان»، فأما قوله: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} في (النساء) فالنصب جيد، قد قرأ به أهل الكوفة؛ لأن ذكر المال قد تقدم في قوله: {ولا تأكلوا أموالكم} إلا أن تكون الأموال تجارة). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/105]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في كسر الألف وفتحها من قوله تعالى: أن تضلّ إحداهما [البقرة/ 282] ورفع الراء ونصبها من فتذكّر إحداهما الأخرى [البقرة/ 282].
فقرأ حمزة وحده: أن تضلّ بكسر الألف فتذكّر بالتشديد والرفع وكسر إن.
[الحجة للقراء السبعة: 2/418]
وقرأها الباقون: أن تضلّ إحداهما فتذكّر نصبا، غير أنّ ابن كثير وأبا عمرو خفّفا الكاف وشدّدها الباقون.
قال أبو علي: قوله تعالى: أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى لا يكون متعلقا بقوله: واستشهدوا شهيدين من رجالكم [البقرة/ 282] ألا ترى أنّك لو قلت: استشهدوا شهيدين من رجالكم أن تضلّ إحداهما؛ لم يسغ، ولكن تتعلق أن بفعل مضمر دلّ عليه هذا الكلام، وذلك أنّ قوله: فإن لم يكونا رجلين، فرجل وامرأتان يدلّ على قولك:
فاستشهدوا رجلا وامرأتين؛ فتعلّق أن إنّما هو بهذا الفعل المدلول عليه من حيث ذكرنا.
وقال أبو الحسن في قوله تعالى: فرجلٌ وامرأتان [البقرة/ 282] التقدير: فليكن رجل وامرأتان، وهذا قول حسن، وذاك أنّه لما كان قوله: أن تضلّ إحداهما لا بدّ من أن يتعلق بفعل، وليس في قوله: فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، شيء يتعلق به أن جعل المضمر فعلا ترتفع النكرة به، ويتعلق به المصدر، وكان هذا أولى من تقدير إضمار المبتدأ الذي هو: ممن يشهد رجل وامرأتان. لأنّ المصدر الذي هو أن تضلّ إحداهما لا يجوز أن يتعلق به لفصل الخبر بين الفعل والمصدر. فإن قلت: من أيّ الضربين تكون كان المضمرة في قوله، هل تحتمل أن تكون الناصبة للخبر أو تكون التامّة؟. فالقول في ذلك: أن كلّ واحد منهما يجوز أن يقدّر
[الحجة للقراء السبعة: 2/419]
إضماره. فإذا أضمرت التي تقتضي الخبر، كان تقدير إضمار الخبر: فليكن ممّن تشهدون رجل وامرأتان، وإنّما جاز إضمار هذه، وإن كان قد قال: لا يجوز: عبد الله المقتول، وأنت تريد:
«كن عبد الله المقتول»،
لأنّ ذكرها قد تقدّم، فتكون هذه إذا أضمرتها لتقدّم الذكر بمنزلة المظهرة، ألا ترى أنّه لا يجوز العطف على عاملين، ولمّا تقدّم ذكر كلّ في قوله:
أكلّ امرئ تحسبين امرأ كان كلّ بمنزلة ما قد ذكر في قوله:
ونار توقّد بالليل نارا وكذلك جاز إضمار «كان» المقتضية للخبر بعد إن في
[الحجة للقراء السبعة: 2/420]
قوله: إن خنجرا فخنجر، لما كان الحرف يقتضيها، ويجوز أن تضمر التامة التي بمعنى الحدوث والوقوع، لأنّك إذا أضمرتها أضمرت شيئا واحدا، وإذا أضمرت الأخرى احتجت أن تضمر شيئين، وكلّما قلّ الإضمار كان أسهل. وأيّهما أضمرت فلا بدّ من تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه.
المعنى: فلتحدث شهادة رجل وامرأتين، أو تقع، أو نحو ذلك، ألا ترى أنّه ليس المعنى: فليحدث رجل وامرأتان، ولكن لتحدث شهادتهما، أو تقع، أو تكن شهادة رجل وامرأتين مما تشهدون، ويجوز أن تتعلق «أن» في قوله تعالى: أن تضلّ إحداهما [البقرة/ 282] بشيء ثالث؛ وهو أن تضمر خبر المبتدأ الذي هو: فرجل وامرأتان يشهدون، فيكون يشهدون خبر المبتدأ. ويكون العامل في أن وموضع إضماره فيمن فتح الهمزة من أن تضلّ: ما قبل أن.
وفيمن كسر إن بعد انقضاء الشرط بجزائه. فقد جاز في: أن تضلّ أن يتعلق بأحد ثلاثة أشياء:
[الحجة للقراء السبعة: 2/421]
أحدها: المضمر الذي يدلّ عليه قوله: واستشهدوا شهيدين.
والثاني: الفعل الذي هو: (فليشهد رجل وامرأتان).
والثالث: الفعل الذي هو خبر المبتدأ.
وأمّا إحدى: فمؤنث الواحد، والواحد الذي مؤنّثه إحدى، إنّما هو اسم وليس بوصف؛ ولذلك جاء إحدى على بناء لا يكون للصّفات أبدا، كما كان الذي هو مذكّرة كذلك.
وقال أحمد بن يحيى: قالوا: هو إحدى الإحد، وأحد الأحدين، وواحد الآحاد، وأنشد:
عدّوني الثّعلب فيما عدّدوا... حتى استثاروا بي إحدى الإحد
ليثا هزبرا ذا سلاح معتدي قال أحمد: إحدى الإحد: كما تقول: واحد لا مثل له، وقالوا: الإحد، كما تقول: الكسر، جعلوا الألف بمنزلة التاء، كما جعلوها مثلها، في الكبرى، والكبر، والعليا، والعلى، فكما جعلوا هذه: كظلمة وظلم، جعلوا الأول بمنزلة كسر وسدر، وكما جعلوا المقصورة بمنزلة التاء، كذلك جعلوا
[الحجة للقراء السبعة: 2/422]
الممدودة بمنزلتها في قولهم: قاصعاء وقواصع، ودامّاء ودوامّ.
وحكى أحمد بن يحيى: أن الواحد والوحد والأحد، بمعنى وقد شرحنا ذلك في المسائل.
فأمّا بدل الهمزة من الواو إذا كانت مكسورة، فإنّ أبا عمر يزعم أنّ ذلك لا يجاوز به المسموع، وغيره يذهب إلى أن بدل الهمزة منها، مطرد كاطراد البدل من المضمومة.
والقول في أنّه ينبغي أن يكون مطّردا أنّ الكسرة بمنزلة الياء، ولا تخلو الحركة في الحرف المتحرك من أن تكون مقدرة قبله أو بعده، فإن كانت قبله، فالواو إذا وقعت قبلها الياء أعلّت، وكذلك إذا وقعت بعدها، فإذا كان كذلك اعتلّت الواو مع الكسرة كما اعتلت مع الياء، ألا ترى أنّها إذا تحركت بالفتح لم تعتل، كما لا تعتلّ الواو إذا كانت قبلها ألف نحو: عوان وطوال؟. فإن قلت:
[فإذا وجب القلب من حيث ذكرت] فهلّا أبدلت غير أوّل مكسورة كما اعتلت الواو بالياء إذا كانت قبلها أو بعدها!.
قيل: هذا لا يلزم وذلك أن القلب في المكسورة كالقلب في المضمومة، ألا ترى أنّ الضمّة مع الواو كالواوين.
كما أنّ الكسرة مع الواو كالياء والواو؟ فكما تعلّ الواو مع الياء،
[الحجة للقراء السبعة: 2/423]
كذلك أعلّت مع الكسرة، كما أنّ الواو لمّا اعتلّت مع الواو كذلك أعلّت مع الضمة، ولم يجب من هذا أن تعلّ الواوان غير أول في نحو: أحوويّ، ولوويّ، فكذلك لم يلزم أن تعلّ الواو مع الكسرة غير أوّل، ألا ترى أنّ مواقع الإبدال ينبغي أن تعتبر كما أن مواقع الزيادة ينبغي أن تعتبر؟ فكما أن الحرف إذا كثرت زيادته في موضع، واستمر، لم يلزم أن تجعل في غير ذلك الموضع، كذلك لا يلزم إذا استمرّ إبداله في موضع أن يبدل في غير ذلك الموضع. ومن ثمّ جعل أبو عثمان دلامصا من غير دليص، لأن الميم لم تزد هنا، وإن كانت زيادتها قد استمرت أولا.
وأمّا قوله تعالى: أن تضلّ إحداهما [البقرة/ 282] فقال أبو عبيدة: أن تضلّ إحداهما أي تنسى، قال تعالى: قال فعلتها إذاً وأنا من الضّالّين [الشعراء/ 20] أي نسيت، أي:
ضللت وجه الأمر. وقال أبو زيد: ضللت الطريق والدار أضلّه ضلالا، وأضللت الفرس والناقة والشيء إضلالا، وكلّ ما ضلّ عنك فذهب.
[الحجة للقراء السبعة: 2/424]
قال: وإذا كان الحيوان مقيما فهو بمنزلة ما لا يبرح نحو:
الدار، والطريق، فهو كقولك: ضللته ضلالة. وقال أبو الحسن: تقول: ضللت دار فلان، وقال الفرزدق:
ولقد ضللت أباك تدعو دارما... كضلال ملتمس طريق وبار
وفي كتاب الله تعالى: في كتابٍ لا يضلّ ربّي ولا ينسى [طه/ 52] أي: لا يضلّ الكتاب عن ربّي. وأمّا موضع أن فنصب وتعلّقه إنّما هو بأحد الأشياء التي تقدّم ذكرها.
والمعنى: استشهدوا رجلين أو رجلا وامرأتين لأن تضلّ إحداهما فتذكّر. فإن قيل: فإنّ الشهادة لم توقع للضلال الذي هو النسيان إنّما وقعت للذكر والحفظ. فالقول في ذلك أنّ سيبويه قد قال: أمر بالإشهاد لأن تذكّر إحداهما الأخرى، ومن أجل أن تذكّر إحداهما الأخرى. قال: فإن قال إنسان: كيف جاز أن يقول: «أن تضلّ إحداهما» ولم يعدّ هذا للضلال والالتباس ؟ فإنّما ذكر «أن تضلّ» لأنّه سبب للإذكار كما
[الحجة للقراء السبعة: 2/425]
تقول: أعددته أن يميل الحائط، فأدعمه، وهو لا يطلب بذلك ميلان الحائط، ولكنّه أخبر بعلة الدعم وسببه. انتهى كلام سيبويه.
[قال أبو علي] وقوله: فتذكّر: معطوف على الفعل المنصوب بأن، فأمّا قوله: ممّن ترضون من الشّهداء فالظرف وصف للأسماء المنكورة، وفيه ذكرها.
وأمّا وجه قراءة حمزة: أن تضلّ إحداهما بكسر الألف، فإنّه جعل إن للجزاء، والفاء في قوله: فتذكّر: جواب الجزاء، ومواضع الشرط وجزائه رفع بكونهما وصفا للمنكورين وهما المرأتان في قوله: فرجلٌ وامرأتان وقوله: فرجلٌ وامرأتان:
خبر مبتدأ محذوف تقديره: فمن يشهد رجل وامرأتان. ويجوز أن يكون «رجل» مرتفعا بالابتداء، والمرأتان معطوفتان عليه وخبر الابتداء محذوف تقديره: فرجل وامرأتان يشهدون.
وقوله: ممّن ترضون من الشّهداء فيه ذكر يعود إلى الموصوفين الذين هم: «فرجل وامرأتان»، ولا يجوز أن يكون فيه ذكر لشهيدين المتقدم ذكرهما، لاختلاف إعراب الموصوفين، ألا ترى أنّ شهيدين منصوبان، ورجل وامرأتان إعرابهما الرفع،
[الحجة للقراء السبعة: 2/426]
فإذا كان كذلك علمت أنّ الوصف الّذي هو ظرف إنّما هو وصف لقوله: «فرجل وامرأتان» دون من تقدّم ذكرهما من الشهيدين.
والشرط وجزاؤه وصف للمرأتين؛ لأنّ الشرط وجزاءه جملة يوصف بها كما يوصل بها في نحو قوله تعالى: الّذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصّلاة [الحج/ 41] واللّام التي هي لام في قوله: أن تضلّ فيمن جعل إن جزاء في موضع جزم، وإنّما حرّكت بالفتح لالتقاء الساكنين، ولو كسرت للكسرة التي قبلها لكان جائزا في القياس.
وأمّا قوله تعالى: فتذكّر إحداهما الأخرى فقياس قول سيبويه في قوله: ومن عاد فينتقم اللّه منه [المائدة/ 95] والآي التي تلاها معها أن يكون بعد الفاء في: فتذكّر إحداهما مبتدأ محذوف ولو أظهرته لكان فيما تذكّر إحداهما الأخرى، فالذكر العائد إلى المبتدأ المحذوف الضمير في قوله:
«إحداهما».
وأمّا قوله: فتذكر، فإنّ الذّكر على ضربين:
ذكر هو خلاف النسيان.
وذكر، هو قول.
[الحجة للقراء السبعة: 2/427]
فممّا هو خلاف النسيان قوله: فإنّي نسيت الحوت وما أنسانيه إلّا الشّيطان أن أذكره [الكهف/ 63].
وقال: نسيا حوتهما [الكهف/ 61] فأسند النسيان إليهما، والناسي فتى موسى، فيجوز أن يكون المعنى؛ نسي أحدهما، فحذف المضاف، وقد تقدم ذكر شيء من هذا النحو.
والذكر الذي هو قول يستعمل على ضربين: قول لا ثلب فيه للمذكور، والآخر يراد به ثلب المذكور. فمن الأول قوله:
فاذكروا اللّه كذكركم آباءكم [البقرة/ 200]، وقوله:
فاذكروا اللّه عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم [البقرة/ 198] واذكروا اللّه في أيّامٍ معدوداتٍ [البقرة/ 203] ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم اللّه عليه [الأنعام/ 121].
ومن الذّكر الّذي يراد به الثلب، قوله: قالوا سمعنا فتًى يذكرهم يقال له إبراهيم [الأنبياء/ 60]، فهذا الذكر يشبه أن يكون من جنس ما واجههم به في قوله تعالى: قال أفتعبدون من دون اللّه ما لا ينفعكم شيئاً ولا يضرّكم أفٍّ لكم ولما تعبدون من دون اللّه [الأنبياء/ 67]. ومن ذلك قول الشاعر:
بذكركم منّا عديّ بن حاتم... لعمري لقد جئتم حبولا ومأثما
[الحجة للقراء السبعة: 2/428]
وقالوا في مصدر ذكرته، ذكرى قال:
هبّت شمالا فذكرى ما ذكرتكم... عند الصفاة الّتي شرقيّ حورانا
وقال:
صحا قلبه عن سكره وتأمّلا... وكان بذكرى أمّ عمرو موكّلا
فمن قدّر في «ذكرى» التنوين، نصب الاسم بعده، ومن لم يقدر فيه التنوين جر الاسم، وأضاف المصدر إلى المفعول به.
قال سيبويه: قالوا ذكرته ذكرا كحفظته حفظا، وقالوا: ذكرا كما قالوا: شربا.
فأمّا قوله: قد أنزل اللّه إليكم ذكراً رسولًا [الطلاق/ 10] فإنّ قوله: ذكرا، يحتمل أمرين: أحدهما: أن تقدّر حذف المضاف إلى الذكر، والآخر أن لا تقدر ذلك، فإن قدرت
حذف المضاف، كان إظهاره: قد أنزل الله إليكم ذا ذكر، والذكر يحتمل تأويلين: أحدهما: ذا شرف وصيت كما قال:
[الحجة للقراء السبعة: 2/429]
وإنّه لذكرٌ لك ولقومك [الزخرف/ 44] فسّر أنّه شرف لهم، والآخر ذا قرآن، وقد سمّي القرآن ذكرا في قوله تعالى:
وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما نزّل إليهم [النحل/ 44] فإذا قدرت حذف المضاف كان المعنى في أنزل: الإحداث والإنشاء، كما قال: وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ [الزمر/ 6] وأنزلنا الحديد فيه بأسٌ شديدٌ [الحديد/ 25] يبيّن أنّه الإنشاء والإحداث. قوله: وهو الّذي أنشأ جنّاتٍ معروشاتٍ [الأنعام/ 141] ثم قال بعد: ثمانية أزواجٍ [الأنعام/ 143] فحمل الأزواج على الإنشاء كما حمله على الإنزال في قوله تعالى: وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواجٍ، [الزمر/ 6] وقال: قد أنزل اللّه إليكم [الطلاق/ 10] فوصل الفعل مرّة باللّام ومرّة بإلى كما قال: وأوحى ربّك إلى النّحل [النحل/ 68] وفي أخرى: بأنّ ربّك أوحى لها [الزلزلة/ 5] وقال: وإنّك لتهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ صراط اللّه [الشورى/ 52] و (الحمد لله الّذي هدانا لهذا) [الأعراف/ 43] فإنّ لم تقدّر حذف المضاف، كان المعنى:
قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا فيكون: رسولا معمول المصدر، والتقدير: أن ذكر رسولا أي: ذكر رسولا لأن يتبعوه، فيهتدوا بالاقتداء به، والانتهاء إلى أمره، وذلك نحو قوله: الّذين يتّبعون الرّسول النّبيّ الأمّيّ [الأعراف/ 157] إلى قوله أولئك هم المفلحون [الأعراف/ 157] ومثل ذلك
[الحجة للقراء السبعة: 2/430]
في إعمال المصدر قوله تعالى: ما لا يملك لهم رزقاً من السّماوات والأرض شيئاً [النحل/ 73] فشيئاً مفعول المصدر، والذكر: كتاب الله الذي ذكره في قوله سبحانه:
ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أنّ الأرض [الأنبياء/ 105] وفي قوله: يمحوا اللّه ما يشاء ويثبت وعنده أمّ الكتاب [الرعد/ 39] فأمّا قول الشاعر:
يذكّر نيك حنين العجول... ونوح الحمامة تدعو هديلًا
[الحجة للقراء السبعة: 2/431]
فإنّ ذكرت فعل يتعدى إلى مفعول واحد، فإذا ضعّفت منه العين أو نقلته بالهمزة تعدّى إلى مفعول آخر، وذلك نحو فرّحته وأفرحته، وغرّمته وأغرمته.
فمن قال: فتذكّر إحداهما الأخرى كان ممن جعل التعدية بالتضعيف، ومن قال: فتذكّر إحداهما كان ممن نقل بالهمزة وكلاهما سائغ.
ومن حجة من قال: فتذكّر قوله تعالى: وذكّر فإنّ الذّكرى تنفع المؤمنين [الذاريات/ 55] فهذا مضارعه ينبغي أن يكون يذكّر.
وقول ابن كثير وأبي عمرو مثل أغرمته وأفرحته، وقول الباقين على غرّمته وفرّحته. والمفعول الثاني من قوله سبحانه:
فتذكّر إحداهما الأخرى محذوف. المعنى: فتذكر إحداهما الأخرى الشهادة التي احتملتاها.
وروي عن سفيان بن عيينة في قوله: فتذكّر إحداهما الأخرى، أي: تجعلها ذكراً، وأحسب أنّ أحداً من أهل
[الحجة للقراء السبعة: 2/432]
التأويل، لم يذهب إلى ذلك غيره، وليس هو في المعنى بالقوي، ألا ترى أنّهنّ لو بلغن ما بلغن ولم يكن معهنّ رجل لم تجز شهادتهنّ حتى يكون معهنّ رجل. فإذا كان الأمر على هذا لم يذكّرها. والحاجة في إنفاذ الشهادة إلى الرجل قائمة.
ومما يبعّد قوله: أن تضلّ إحداهما، والضلال قد فسّره أبو عبيدة: بالنسيان، فالذي ينبغي أن يعادله ما هو مقابل للنسيان من التذكير.
فأمّا من ذهب في قوله: أن تضلّ إحداهما وقوله: إنّ الجزاء فيه مقدّم، أصله التأخير، فلمّا تقدّم اتّصل بأوّل الكلام، ففتحت أن؛ فإنّ هذه دعوى لا دلالة عليها، والقياس على ما عليه كلامهم يفسدها، ألا ترى أنّا نجد الحرف العامل
[الحجة للقراء السبعة: 2/433]
إذا تغيرت حركته لم يوجب ذلك تغييراً في عمله ولا معناه؟.
وذلك فيمن فتح اللّام الجارة مع المظهر فقال: لزيد ضربت، وضربت لزيد، روى أبو الحسن فتح هذه اللّام عن يونس، وعن أبي عبيدة وعن خلف الأحمر، وزعم أنّه سمع هو ذلك من العرب، قال: وعلى ذلك أنشدوا:
تواعدني ربيعة كلّ يوم... لأهلكها وأقتني الدّجاجا
فكما أنّ هذه اللّام لما فتحت لم يتغيّر من عملها ومعناها شيء عمّا كان عليه في الكسر، كذلك أن الجزاء لو فتحت لم يجب على قياس اللّام أن يتغيّر له معنى ولا عمل. ومما يبعّد ذلك: أنّ الحروف العاملة إذا تقدمت كانت مثلها إذا تأخّرت، لا تتغيّر بالتقدّم عمّا كانت عليه في التأخّر. ألا ترى أنّ من قال: بزيد مررت، وإلى عمرو ذهبت. فقدّم الحرف كان تقديمه مثل تأخيره، لا يغيّر التّقديم شيئاً كان عليه في التأخير؟ وممّا يبعّد ذلك قولهم: ربّ غارة، وربّت غارة، وربّتما غارة، وربّ هيضل، فكما لم يختلف في التخفيف عن
[الحجة للقراء السبعة: 2/434]
حال التثقيل، ولحاق حرف التأنيث به، وكذلك ثمّ وثمّت، كذلك ينبغي أن لا يتغير أن، بل أن أجدر أن لا تتغيّر لأنّ التغيير بالحركة أيسر من التغيير بحذف حرف وزيادة آخر، وكذلك الحذف من «إنّ، وكأنّ» لم يغيرهما عن عملهما، ولا يلزم من حيث تغيّرت، إنّ المكسورة بالحذف فدخلت على الفعل أن تتغير بإبدال حركة وتغييرها لأنّ الحذف والتغيير في إنّ أكثر.
وممّا يبعّد ذلك أنّ الحرف قد أبدل منه غيره، وهو مع الإبدال، يعمل عمله غير مبدل، وذلك نحو بدل الواو من الباء في: «والله» وبدل التاء من الواو في تاللّه، فإذا كانت هذه الحروف مع التغيير الحادث فيها من الحذف منها، والتغيير باختلاف حركاتها ليست تزول عمّا كانت عليه من العمل والمعنى؛ فأن لا تتغير أن بكسر الهمزة منها أجدر.
ومما يفسد ذلك إبدالهم الألف من نون إذن ألا ترى أنّها إذا أبدلت كان عملها ومعناها على ما كان قبل الإبدال؟، وإبدال الحرف أكثر من تغيير الحركة، فلو كان لما ذكره مجاز أو مساغ، لكان ذلك في هذه الحروف المغيرة أيضاً، فإن لم يكن ذلك فيها مع ما ذكرنا من ضروب التغيير اللّاحق لها ما يبيّن أنّ ما ذهب إليه يفسده ما عليه مقاييس كلامهم، وما كان من هذا الضرب من الدعاوى التي يفسدها ردّها إلى ما ذكرناه ساقط.
[الحجة للقراء السبعة: 2/435]
واختلفوا في قوله تعالى: تجارةً حاضرةً [البقرة/ 282] في رفعها ونصبها.
فقرأ عاصم وحده تجارةً نصباً. وقرأ الباقون: بالرفع.
[قال أبو بكر]: وأشكّ في ابن عامر.
قال أبو علي: كان كلمة استعملت على أنحاء:
أحدها: أن تكون بمنزلة حدث، ووقع، وذلك قولك: قد كان الأمر، أي وقع وحدث، والآخر: أن تخلع منه معنى الحدوث فتبقى الكلمة مجردة للزّمان، فتلزمها الخبر المنصوب.
ونظير خلعهم معنى الحدث من كان وأخواتها، خلعهم معنى الاسم من التاء والكاف اللتين للخطاب في قولهم: أنت وذلك، والنّجاءك، وذلك قولك: كان زيد ذاهباً. والثالث:
أن تكون بمعنى صار.
أنشد أحمد بن يحيى:
بتيهاء قفر والمطيّ كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها
[الحجة للقراء السبعة: 2/436]
أي: صارت، فيجوز أن يكون من هذا قوله تعالى:
كيف نكلّم من كان في المهد صبيًّا [مريم/ 29]، أي صار في المهد.
والرابع: أن تكون زيادة، وذلك: قولهم: ما كان أحسن زيداً، المعنى فيه: ما أحسن زيداً، وأنشد لبعض البغداديين:
سراة بني أبي بكر تساموا... على كان المسوّمة الجياد
[الحجة للقراء السبعة: 2/437]
في أخرى: العراب.
فأمّا موضع أن في قوله: إلّا أن تكون تجارةً حاضرةً تديرونها بينكم [البقرة/ 282] فنصب، المعنى: ولا تسأموا كتابته إلّا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم.
أي: يداً بيد لا أجل فيه، فلا يحتاج في تبايع ذلك إلى التّوثّق باكتتاب الكتاب، ولا ارتهان الرهن، لوقوع التقابض في المجلس، ومثل موضع «أن» هذه في النصب موضع التي في قوله: إلّا أن تكون تجارةً عن تراضٍ منكم [البقرة/ 282] فالعامل في قوله: «أن» تكون من قوله: إلّا أن تكون تجارة عن تراض منكم، قوله عزّ وجلّ: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل [النساء/ 29] بتوسّط إلّا، وكلا الاستثناءين منقطع.
وزعم سيبويه: أنّه قد نصب في القراءة تجارةً عن تراضٍ منكم.
[الحجة للقراء السبعة: 2/438]
فأمّا حجة من رفع: فإنّه جعل كان بمعنى وقع وحدث كأنّه: إلّا أن تقع تجارة حاضرة، ومثل ذلك في الرفع قوله:
وإن كان ذو عسرةٍ فنظرةٌ [البقرة/ 280] المعنى فيه على الرفع وذلك أنه لو نصب، فقيل: وإن كان ذا عسرة لكان المعنى: وإن كان المستربي ذا عسرة فنظرة، فتكون النظرة مقصورة عليه وليس الأمر كذلك لأنّ المستربي، وغيره، إذا كان ذا عسرة فله النظرة. ألا ترى أنّ المستربي والمشتري وسائر من لزمه حقّ إذا كان معسراً فله النظرة إلى الميسرة؟ فكذلك المعنى في قوله: إلّا أن تكون تجارةً حاضرةً، إلّا أن تقع تجارة حاضرة في هذه الأشياء التي اقتصّت، وأمر فيها بالتوثقة بالشهادة
والارتهان، فلا جناح، في ترك ذلك فيه لأن ما يخاف في بيع النّساء، والتأجيل يؤمن في البيع يداً بيد.
ومما جاء فيه كان بمعنى وقع قول أوس:
هجاؤك إلّا أنّ ما كان قد مضى * عليّ كأثواب الحرام المهينم ومن ذلك قول الشاعر:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي... إذا كان يوم ذو كواكب أشنعا
[الحجة للقراء السبعة: 2/439]
فهذا أيضاً من باب وقع ولا يكون (أشنع) خبراً لأنّك لو جعلته خبراً لم تستفد به إلّا ما استفدت بما تقدّم، فلم يجيء الخبر هكذا كما جاء الحال في نحو قوله.
كفى بالنأي من أسماء كافي وأمّا وجه قول من نصب فقال: إلّا أن تكون تجارةً حاضرةً، فالذي في الكلام الذي تقدّمه مما يظن أنّه يكون اسم كان ما دلّ عليه: تداينتم، من قوله إذا تداينتم بدينٍ، والحقّ من قوله: فإن كان الّذي عليه الحقّ سفيهاً أو ضعيفاً فلا يجوز أن يكون التداين اسم كان، لأنّ حكم، الاسم أن يكون الخبر في المعنى، والتداين حقّ في ذمّة المستدين، للمدين المطالبة به، فإذا كان ذلك لم يكن اسم
[الحجة للقراء السبعة: 2/440]
كان، لأنّ التداين معنى، والمنتصب يراد به العين، ومن حيث لم يجز أن يكون التداين اسم كان، لم يجز أن يكون الحقّ اسمها، لأنّ الحقّ يراد به الدين في قوله: فإن كان الّذي عليه الحقّ فكما لم يجز أن يكون التداين اسمها، كذلك لا يجوز [أن يكون] هذا في الحقّ، فإذا لم يجز ذلك لم يخل اسم كان من أحد شيئين:
أحدهما أنّ هذه الأشياء التي اقتصّت من الإشهاد والارتهان قد علم في فحواها التبايع؛ فأضمر التبايع لدلالة الحال عليه، كما أضمر لدلالة الحال فيما حكاه من قوله: إذا كان غدا فأتني، أو يكون أضمر التجارة، كأنّه: إلّا أن تكون التجارة تجارة حاضرة. ومثل ذلك قول الشاعر:
فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي... إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا
أي: إذا كان اليوم يوماً، فأمّا التجارة فهي تقليب الأموال وتصريفها لطلب النماء بذلك، وهو اسم حدث واشتقّ التاجر منه إلّا أنّ المراد به في الآية العين، ولا يخلو وقوع اسم الحدث على هذا المعنى الذي وصفناه من أحد ثلاثة أشياء:
إمّا أن يكون المراد: إلّا أن يقع ذو تجارة أي: متاع ذو تجارة.
والآخر: أن يراد بالتجارة: المتّجر فيه الذي هو: عين،
[الحجة للقراء السبعة: 2/441]
فيكون كقوله: هذا الدرهم ضرب الأمير، وهذا الثوب نسج اليمن، أي مضروبه ومنسوجه، وكذلك ليبلونّكم اللّه بشيءٍ من الصّيد [المائدة/ 94] أي المصيد.
ألا ترى أن الأيدي والرماح إنّما تنالان الأعيان.
والثالث: أن يوصف بالمصدر فيراد به العين كما يقال: عدل، ورضى، يراد به عادل ومرضيّ، وعلى هذا قالوا: عدلة، لما جعلوه الشيء بعينه. وليس هذا كالوجه الذي قبله لأنّ ذاك مصدر يراد به المفعول، وليس هذا مقصوراً على المفعول، فالمراد بالمصدر الذي هو تجارة: العروض وغيرها مما يتقابض، يبيّن ذلك وصفها بالحضور وبالإدارة بيننا، وهذا من أوصاف الأعيان، والاسم المشتق من هذا الحدث يجري مجرى الصفات الغالبة؛ ولذلك كسّر تكسيرها في قولهم: تاجر وتجار، كما قالوا: صاحب وصحاب، وراع ورعاء، قال الشاعر:
كأنّ على فيها عقاراً مدامة... سلافة راح عتّقتها تجارها). [الحجة للقراء السبعة: 2/442]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه مَتُّ بن عبد الرحمن قال: كان أهل مكة يقرءون: [وامرأْتَان] بسكون الهمزة.
قال أبو الفتح: وجه ذلك -والله أعلم- أنهم كانوا يخففون الهمزة فيضعفون حركتها على المعتاد من أمرها، فتقرب من الساكن.
ويدل على أن الهمزة المحركة إذا خففت في نحو هذا قريبة من الساكن، امتناعُ العرب من أن تبتدئ بها مخففة كما تمتنع من الابتداء بالساكن، فلما صارت إلى قولك: [وامراتان] بالَغوا في ذلك فأبدلوها ألفًا؛ فصارت: [وامراتان] بألف ساكنة، كما قال:
يقولون جهلًا ليس للشيخ عَيِّل ... لعمري لقد أعيلت وانَ رَقُوب
يريد: وأنا، فخفف الهمزة فصار "وان"، ثم تجاوز ذلك إلى البدل فأخلصها في اللفظ ألفًا فقال: وان، فكذلك لما أبدل من همزة "وامرأتان" ألفًا فصار تقديره: "وامراتان"، ثم أبدل الهمزة من الألف وإن كانت ساكنة على ما قدمنا ذكره فيما قبل، وعليه قراءة ابن كثير: [وكَشفَتْ عن سأْقَيْها]، ومنه: البأز والخأتم والعألم وتَأْبَلْتُ القدر، ونحو ذلك مما قدمنا ذكره، هذا طريق الصنعة فيه والتأتي له.
فأما أن يقدِّر به مقدِّرٌ على أنه أسكن الهمزة المتحركة اعتباطًا ألبتة هكذا فلا؛ لأنه لا نظير له، ألا ترى أن ما قبل تاء التأنيث لا يكون أبدًا إلا مفتوحًا، نحو: جوزة ورطبة، إلا أن تكون الألف المدة نحو: قتادة وقطاة؟ فأما الهمزة فحرف صحيح حامل للحركة؛ فتجب فتحته ألبتة.
[المحتسب: 1/147]
فإن قلت: أسكن الهمزة تشبيهًا لها بالألف من حيث تساوتا في الجهر، وفي الزيادة، وفي البدل، وفي الحرف، وفي قرب المخرج، وفي الخفاء -فقولٌ ما، غير أنه مخشوب لا صنعة فيه، ولا يكاد يُقنع بمثله). [المحتسب: 1/148]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك قراءة عمرو بن عبيد وأبي جعفر يزيد بن القعقاع: [ولا يُضارّْ] بتشديد الراء وتسكينها.
قال أبو الفتح: أما تشديد الراء فلا سؤال فيه؛ لأنه يريد يضارَِر، بفتح الراء الأولى أو بكسرها، وكلاهما قد قرئ به؛ أعني: الفتح في الراء الأولى والكسر، والإدغام لغة تميم، والإظهار لغة الحجازيين على ما مضى؛ لكن تسكين الراء مع التشديد فيه نظر.
وطريقه: أنه أَجرى الوصل مجرى الوقف، كقوله: سَبْسَبًّا
[المحتسب: 1/148]
وكلْكَلَّا، وقد ذكرنا هذا الوصل على نية الوقف فيما مضى، وقد كنا ذكرنا فيما قبل ما يُروى عن الأعرج عن أبي جعفر من تسكين الراء على أنها مخففة، وأيًّا كان ففيه ما مضى.
وقراءة ابن محيصن: [ولا يضارُّ] رفع، قال ابن مجاهد: لا أدري ما هي؟
وهذا الذي أنكره ابن مجاهد معروف؛ وذلك على أن تجعل "لا" نفيًا؛ أي: وليس ينبغي أن يضار، كقوله:
على الحكم المأتي يومًا إذا قضى ... قضيتَه ألا يجور ويقصِدُ
فرفع "ويقصد " على أنه أراد: وينبغي له أن يقصد، فرفع يقصد كما يرتفع ينبغي. فكذا هذا؛ أي: وينبغي ألا يضار. وإن شئت كان لفظ الخبر على معنى النهي حتى كأنه قال: ولا يضارِرْ، كقولهم في الدعاء: يرحمه الله؛ أي: ليرحمه الله، ويغفرُ الله لك؛ أي: ليغفر الله لك، ولا يرحمُ الله قاتلك، فرُفع على لفظ الخبر وأنت تريد: لا يرحمْه الله جزمًا، فتأتي بلفظ الخبر وأنت تريد معنى الأمر والنهي على ما ذكرنا). [المحتسب: 1/149]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشّهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى}
قرأ ابن كثير وأبو عمرو {من الشّهداء أن تضل} بفتح أن فتذكر بإسكان الذّال وفتح الرّاء
[حجة القراءات: 149]
وقرأ حمزة {أن تضل} بكسر {إن} فتذكر بتشديد الكاف ورفع
وقرأ الباقون {أن تضل} بفتح {إن} {فتذكر} بالتّشديد ونصب الرّاء
فمن فتح فلأن المعنى عند الفراء لئلّا تضل إحداهما فتذكرها الأخرى
وقال سيبويهٍ إنّما فتح أن لأنّه أمر بالشّهادة المعنى استشهدوا امرأتين لأن تذكر إحداهما الأخرى من أجل أن تذكر فإن قال قائل كيف جاز أن تقول تضل ولم يعد هذا للإضلال فالجواب أنه إنّما ذكر {أن تضل} لأنّه سبب الإذكار كما يقول الرجل أعددت الخشب أن يميل الحائط فأدعمه وهو لا يطلب إعداده ذلك لميلان الحائط ولكنه أخبر بالشّيء الّذي الدعم بسببه
وأما حمزة فإنّه جعل {إن} حرف شرط وتضل جزم بالشّرط والأصل إن تضلل فلمّا أدغمت اللّام في اللّام فتحت لإلتقاء الساكنين كقوله {من يرتد منكم عن دينه} والفاء جواب الشّرط وتذكر فعل مستقبل لأن ما بعد فاء الشّرط يكون الفعل فيه مستأنفا كقوله ومن عاد فينتقم الله منه
وحجّة من قرأ {فتذكر} بالتّخفيف حكاها الأصمعي عن أبي
[حجة القراءات: 150]
عمرو قال أبو عمرو إذا شهدت المرأة على شهادة ثمّ جاءت الأخرى فشهدت معها أذكرتها أي جعلتها ذكرا لأنّهما تقومان يعني صارت المرأتان كذكر وكذا روي عن أبي عينيّة
وحجّة أخرى وهي أنّك تقول أذكرت النّاسي الشّيء حتّى ذكره وأذكرتك ما قد نسيت ولا تقول ذكرته وإنّما تقول ذكرته في الموعظة قال الله تعالى {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} وقال {وذكرهم بأيام الله}
وحجّة التّشديد أنّهما لغتان وتأويله فجعل الله المرأتين بإزاء رجل لضعفهما وضعف عقولهم ولمزية الرّجال على النّساء وفضل رأيهم إن لم يكن الشّاهدان رجلين فرجل وامرأتان فمتى نسيت إحداهما ذكرتها الأخرى تقول تذكري يوم شهدنا في موضع كذا وكذا فجعل بدل رجل امرأتين). [حجة القراءات: 151]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({إلّا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها}
قرأ عاصم إلّا {أن تكون تجارة} بالنّصب المعنى إلّا أن تكون المداينة تجارة حاضرة والمعاملة تجارة حاضرة
وقرأ الباقون بالرّفع المعنى إلّا أن تقع تجارة حاضرة كقوله قبلها وإن كان ذو عسرة أي وقع ذو عسرة). [حجة القراءات: 151]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (205- قوله: {أن تضل} قرأه حمزة بكسر الهمزة، وفتح الباقون.
206- ووجه القراءة بالكسر أنها «إن» التي للشرط، و«فتذكر» جواب الشرط، مرفوع في هذه القراءة؛ لأنه بالفاء، فالفاء جواب الشرط وما بعدها مستأنف، فلذلك رفع، والشرط جوابه في موضع رفع وصف للرجل والمرأتين وخبر، فـ {رجل وامرأتان} محذوف، والتقدير: فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء يشهدون، و{ممن ترضون من الشهداء} صفة أيضًا لـ {رجل وامرأتان}.
207- ووجه القراءة بالفتح أن «أن» بالفتح في موضع نصب على حذف اللام تقديره: لئلا تضل احداهما، أي تنسى، وقيل: المعنى: لا تضل، كما قال: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوًا وحزنا} «القصص 8» لم يلتقطوه ليكون لهم عدوًا، لكن لما آل الأمر إلى ذلك في حال من التقطه، ليكون لهم عدوًا، فأخبر بما آل أمرهم إليه، كذلك هذا لم يؤمن بشهادة امرأتين عوضًا من رجل، لضلال الذي هو النسيان، لكن لما آل الأمر إلى النسيان صار الأمر، كأنهم أمروا بشهادة امرأتين عوضًا من رجل للنسيان، فيكون «فتذكر» معطوفًا على «تضل» تقديره فرجل وامرأتان يشهدون أن تضل احداهما وأن تذكر احداهما، كأنه بين علة كون امرأتين مقام رجل أي ذلك إنما فعل لتذكر احداهما الأخرى عند النسيان.
208- قوله: {فتذكر} قرأه ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف، وشدد الباقون، وكلهم نصب إلا حمزة فإنه رفع، على ما ذكرنا من الرفع في جواب الشرط
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/320]
مع الفاء، وقد قال الفراء: إن من خفف فهو من الذكر الذي هو ضد الأنثى، والمعنى: إن المرأة الثانية إذا شهدت مع الأولى ذكرتها، أي جعلتها كالذكر، أي: كالرجل الذي لا يحتاج إلى غيره في الشهادة.
209- ووجه القراءة بالتشديد أنه عدى الفعل إلى مفعولين بالتشديد، فالأول «الأخرى» والثاني محذوف، تقديره: «فتذكر احداهما الأخرى الشهادة» والتذكير يحتاج إلى مذكر ومذكر به، وقد أجمعوا على التشديد في قوله: {وذكر فإن الذكرى} «الذاريات 55» وهو كثير.
210- وحجة من خفف أنه عدى الفعل بالهمز، والهمز كالتشديد في التعدي، تقول: ذكرته كذا، وأذكرته كذا، فالمفعول الثاني أيضًا محذوف، كالأول فالقراءتان بمعنى، إلا أن التشديد معه معنى التكثير، على معنى تذكير بعد تذكير، ويحتمل أن يكون في المعنى كأذكرته، فالقراءتان متعادلتان، ومن نصب «فتذكر» فعلى العطف على «أن تضل» ومن رفع فعلى القطع بعد الفاء.
211- قوله: {تجارة حاضرة} قرأ ذلك عاصم بالنصب، وقرأهما الباقون بالرفع.
212- وحجة من نصب أنه أضمر في «تكون» اسمها، ونصب «تجارة» على خبر «يكون»، و«حاضرة» نعت لـ «تجارة» والتقدير: إلا أن تكون التجارة تجارة، وإلا أن تكون المبايعات تجارة، ولا أن يكون المضمر التداين والدين، لتقدم ذكره، ولا أن يكون الحق لتقدم ذكره؛ لأن ذلك غير التجارة، ولأن التجارة تقليب الأموال في البيع والشراء للنماء، وهو غير الدّين وغير التداين، وغير الحق والخبر في كان هو الاسم، وحسن إضمار التبايع، لأنه تقليب الأموال للنماء، فهو التجارة في المعنى.
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/321]
213- وحجة من رفع أنه جعل «كان» بمعنى «وقع وحدث» تامة، لا تحتاج إلى خبر، بمنزلة: {وإن كان ذو عسرة} الذي هو عام في كل معسر، وبهذا العموم أجمع على الرفع، إذ لو نصب «ذا» على خبر «كان» لصار الكلام مخصوصًا لصنف بعينه، غير عام في جميع المعسرين؛ لأنه يصير التقدير، لو نصب «ذا» وإن كان المشتري ذا عسرة فنظرة، فتكون النظرة مقصورة عليه، وقد يجوز أن يكون التقدير: وإن كان المداين ذا عسرة، فيكون عامة فيمن عليه دين، وهو معسر، والرفع على كل حال أعم، لأنه يعم من عليه دين، من قرض أو من شراء، وغير ذلك). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/322]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (108- {أَنْ تَضِلَّ} [آية/ 282]:-
بكسر الألف، قرأها حمزة وحده، على أنه جعل إن للشرط، و{تضلّ} مجزوم بالشرط، وفتحة لامه هي لالتقاء الساكنين؛ لأنها أخف الحركات، وجعل الفاء في قوله {فَتُذَكِّرَ} جواب الشرط، والشرط وجوابه جميعًا موضوعهما رفع على هذا؛ لأنهما وصف للمرأتين في قوله تعالى {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ}.
[الموضح: 352]
وقرأ الباقون {أَنْ تَضِلَّ} بفتح الألف، على إضمار اللام، والتقدير: لأن تضل إحداهما فتذكر، فتضل ههنا منصوب بأن، وقوله {تُذَكّرَ} عطف على {أنْ تُضِلّ} وحقيقة معنى لام العلة إنما هو في التذكير لا في الضلال؛ لأن الضلال هو سبب الإذكار، والمعنى لأجل أنها إذا نسيت إحداهما الشهادة ذكرتها الأخرى، والضلال ههنا النسيان). [الموضح: 353]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (109- {فَتُذَكِّرَ} [آية/ 282]:-
بتشديد الكاف ورفع الراء، قرأها حمزة وحده، وذلك لأنه قرأ {إنْ تَضِلّ} بالكسر، على الشرط، وجعل {فَتُذَكّرُ} جوابه، فيكون مرفوعًا، كما تقول: إن تضرب زيدًا فيضربك، بالرفع، أي فهو يضربك، فيكون موضع الفاء وما دخل عليه جزمًا، والتقدير: إن تضل تذكر.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم والكسائي بتشديد الكاف ونصب الراء، على أنه معطوف على {تَضِلَّ} المنصوب بأن.
وذكر في هاتين القراءتين معدى بالتضعيف، وهو أكثر من المنقول بالهمزة في هذه الكلمة، يقال ذكر فلان الشيء فذكرته إياه، بالتشديد.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {فَتُذْكِرَ} بتخفيف الكاف وفتح الراء، جعلوه منقولاً بالهمزة، وهو شائع كثير، يقال ذكر الشيء فأذكرته أنا وذكرته
[الموضح: 353]
كما تقول: أغرمته وغرمته، وأفرحته وفرحته، وذهب بعض أهل التفسير إلى أن المعنى في {تُذَكِّر} المشدد بجعل إحداهما الأخرى مذكرًا، أي تلحقها بالرجال في الشهادة). [الموضح: 354]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (110- {تِجَارَةً حَاضِرَةً} [آية/ 282]:-
بالنصب فيهما، قرأها عاصم وحده، وذلك أنه جعل كان ناقصة، وأضمر الاسم وهو التبايع أو التجارة، كأنه قال: إلا أن يكون التبايع تجارة أو التجارة تجارة حاضرة.
وقرأ الباقون {تِجارَةٌ حاضِرَةٌ} بالرفع فيهما، لأنهم جعلوا كان بمعنى وقع فهي تامة، ويرتفع ما بعدها بفعلها، والتقدير: إلا أن تقع تجارة، ومثله {وإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ} ). [الموضح: 354]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107373#post107373)
جمهرة علوم القرآن
1 صفر 1440هـ/11-10-2018م, 08:00 AM
سورة البقرة
[من الآية (283) إلى الآية (284) ]
{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فرهانٌ مقبوضةٌ... (283).
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: (فرهنٌ) بغير الألف.
وقرأ الباقون: (فرهانٌ) بالألف.
قال أبو منصور: من قرأ (فرهنٌ) أراد أن يفصل بين الرهان في الخيل وبين الرهن: جمع الرّهن.
وقال الفراء: رهن: جمع الرّهان.
[معاني القراءات وعللها: 1/236]
وقال غيره: رهن ورهن، مثل: سقف وسقف.
ومن قرأ: (فرهانٌ) فهو جمع رهن.
وأنشد أبو عمرو في الرهن:
بانت سعاد وأمسى دونها عدن... وغلّقت عندها من قبلك الرّهن
وأخبرني المنذري عن الحسن بن فهم عن ابن سلام عن يونس قال: الرّهن والرّهان واحد، عربيتان.
والرّهن في الرّهن أكثر، والرّهان في الخيل أكثر.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى قال: الاختيار (رهان) مثل: كبشٍ وكباشٍ وحبلٍ وحبالٍ وما أشبههما.
قال: (ورهن) قراءة ابن عباس). [معاني القراءات وعللها: 1/237]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (47- وقوله تعالى: {فرهان مقبوضة} [283]
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (فرهن).
وقرأ الباقون (فرهان) وهما جمعان فـ (رَهْن) و(رهان) كبحر وبحار، وأما «رهن» فقال أهل الكوفة: أن رهانًا جمع رهن، ثم جمع الرهان رهنًا، فهو جمع الجمع). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/105]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (48- وقوله تعالى: {فليؤد الذي اؤتمن} [283]
قرأ حمزة وعاصم في رواية أبي بكر بضم الهمزة وهو خطأ.
وقرأ الباقون بإسكان الهمزة، وهو الصواب؛ لأن وزنه افتعل فالهمزة فاء الفعل، وهي ساكنة، فإذا ابتدأت على همزة قلت: أأتمن بهمزتين.
والباقون يكرهون اجتماع همزتين فيقلبون الثانية واوًا فيبدلون أوتمن). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/105]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في ضمّ الرّاء وكسرها وإدخال الألف وإخراجها، وضمّ الهاء وتخفيفها من قوله تعالى: فرهن مقبوضة [البقرة/ 283].
فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: فرهن، واختلف عنهما
[الحجة للقراء السبعة: 2/442]
فروى عبد الوارث وعبيد بن عقيل عن أبي عمرو:
فرهن ساكنة الهاء.
وروى اليزيديّ عنه فرهن بضم الهاء. وروى عبيد بن عقيل عن شبل ومطرّف الشّقريّ عن ابن كثير فرهن ساكنة الهاء.
وروى قنبل عن النبال والبزّيّ عن أصحابهما، ومحمد بن صالح المرّيّ عن شبل عن ابن كثير: فرهن
[الحجة للقراء السبعة: 2/443]
مضمومة الهاء.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي فرهانٌ بألف مكسورة الراء.
قال أبو علي: قال أبو زيد: رهنت عند الرجل رهنا ورهنته رهنا، فأنا أرهنه: إذا وضعته عنده. وارتهن فلان من رجل رهنا ارتهانا: إذا أخذه منه، وقد أرهنت في السلعة من مالي حتى أدركتها إرهانا، وذلك إذا غاليت بها في الثمن، فالارتهان- في المغالاة وفي القرض والبيع-: الرّهن، قال الشاعر:
يطوي ابن سلمى بها عن راكب بعداً... عيديّة أرهنت فيها الدّنانير
[الحجة للقراء السبعة: 2/444]
كأنّها بحسير الرّيح صادية... وقد تحرّز ملحرّ
اليعافير وأرهنّا بيننا خطراً إرهانا، وهو أن يبذلوا من الخطر ما يرضى به القوم بالغا ما بلغ، فيكون لهم سبقا، وأخطرت لهم خطراً إخطاراً وهو مثل الإرهان. وأنشد غير أبي زيد للعجاج:
وعاصما سلّمه من الغدر... من بعد إرهان بصمّاء الغبر
فقال بعض أصحاب الأصمعي: إرهان: إثبات وإدامة.
ويقال: أرهن لهم الشرّ أي أدامه، وقال أبو موسى: رهن لهم، أي: دام، وأنشد:
[الحجة للقراء السبعة: 2/445]
والخبز واللحم لهم راهن فقد فسروا الرهن بالإثبات والإدامة، فمن ثم يبطل الرهن إذا خرج من يد المرتهن بحق لزوال إدامة الإمساك، والرّهن الذي يمسكه المرتهن توثقة لاستيفاء ماله من الراهن: اسم مصدر كما كان الكتاب كذلك في قوله تعالى: وكتابه [التحريم/ 12] وهذه المصادر إذا نقلت فسمّي بها يزول عنها عمل الفعل، وذلك فيها إذا صارت على ما ذكرنا بيّن، إذ لم يعملوا من المصادر ما كثر استعمالهم له، كما ذهب إليه في قولهم: لله درّك، وتمثيله إياه بقولهم: لله بلادك، فإذا قال:
رهنت زيداً رهناً وارتهنت رهنا، فليس انتصابه انتصاب المصدر، ولكن انتصاب المفعول به كما تقول: رهنت زيداً ثوباً، ورهنته ضيعة.
وقد قالوا في هذا المعنى: أرهنته، وفعلت فيه أكثر.
قال الأعشى:
حتى يفيدك من بنيه رهينة... نعش ويرهنك السّماك الفرقدا
وقال آخر:
فلمّا خشيت أظافيره... نجوت وأرهنتهم مالكا
[الحجة للقراء السبعة: 2/446]
وقال آخر:
يراهنني فيرهنني بنيه... وأرهنه بنيّ بما أقول
فرهنت في كل هذه الأبيات قد تعدى إلى مفعولين، فكذلك إذا قال: رهنت زيداً رهناً، فالرهن مصدر، ولمّا نقل فسمّي به ما ذكرت كسّر كما تكسّر الأسماء، كما كسّر غيره من المصادر المسمى بها.
وتكسير رهن على أقل العدد لم أعلمه جاء، ولو جاء لكان قياسه أفعل، مثل كلب وأكلب، وفلس وأفلس، وكأنّه استغني ببناء الكثير عن القليل كما استغني ببناء الكثير عن القليل في قولهم: ثلاثة شسوع، وكما استغني ببناء القليل عن بناء الكثير في نحو: رسن وأرسان، فرهن جمع على بناءين من أبنية الجموع، وهو فعل وفعال وكلاهما من أبنية الكثير فممّا جاء على فعل. قول الأعشى:
آليت لا أعطيه من أبنائنا... رهنا فيفسدهم كمن قد أفسدا
فرهن: جمع رهن، ثم يخفّف العين كما خفّف في
[الحجة للقراء السبعة: 2/447]
رسل وكتب ونحو ذلك فقيل: رسل وكتب. ومثل رهن ورهن، سقف وسقف، وفي التنزيل: لبيوتهم سقفاً من فضّةٍ [الزخرف/ 33] ومثل تخفيفهم الرّهن وقولهم: رهن؛ أنّهم جمعوا أسداً على أسد، ثم خفّفوا فقالوا: أسد قال:
كأنّ محرّبا من أسد ترج... ينازلهم لنابيه قبيب
ومثل رهن ورهن فيما حكاه أبو الحسن: لحد القبر، ولحد، وقلب وقلب، لقلب النخلة، وقالوا: ثطّ، وثطّ، وورد وورد، وسهم حشر، وسهام حشر.
فإن قلت: أيجوز أن يكون رهان جمع رهن، ولا يكون جمع رهن. فالقول: إنّ سيبويه لا يرى جمع الجمع مطّرداً، فينبغي أن لا يقدم عليه حتى يعلم، فإذا كان رهن قد صار مثل كعب، وكلب، قلنا: إنّ «رهان» مثل كعب وكعاب، ولم يجعله جمع الجمع إلّا بثبت. فإن قلت: إنّهم
[الحجة للقراء السبعة: 2/448]
قد جمعوا فعلا في قولهم: طرقات وجزرات، وحكى أبو عثمان أنّ الرّياشي حكى أنّه سمع من يقول: عندنا معنات، فإذا جمعوه هذا الجمع جاز أن يكسّر أيضاً لاجتماع البابين في التكسير والتصحيح في أنّ كلّ واحد منهما جمع فهذا قياس، التوقف عنه نراه أولى، وقد ذهب إليه ناس. وكذلك لو قال:
إنّ فعل مثل فعال، في أنّ كلّ واحد منهما بناء للعدد الكثير، وقد كسّروا «فعالًا» في نحو قول ذي الرّمة.
وقرّبن بالزّرق الجمائل بعد ما... تقوّب عن غربان أوراكها الخطر
فيكون رهان جمع رهن لا جمع رهن، وجمعوا فعلًا، على فعال، كما جمعوا فعالًا على فعائل في قولهم: جمائل، لم نر هذا القياس؛ لأنّه إذا جمع شيء من هذا لم يجز قياس الآخر عليه عنده، حتى يسمع، وليست الجموع عنده في هذا كالآحاد.
[الحجة للقراء السبعة: 2/449]
قال أحمد بن موسى: قرأ حمزة وعاصم في رواية يحيى بن آدم عن أبي بكر عن عاصم وحفص عن عاصم الّذي اؤتمن [البقرة/ 283] بهمزة وبرفع الألف، ويشير بالضم إلى الهمز.
قال أحمد: وهذه الترجمة غلط.
وقرأ الباقون: الذي ائتمن الذال مكسورة، وبعدها همزة ساكنة بغير إشمام الضمّ، وهذا هو الصواب الذي لا يجوز غيره.
وروى خلف وغيره عن سليم عن حمزة: الّذي اؤتمن، يشمّ الهمزة الضمّ، وهذا خطأ أيضاً، لا يجوز إلّا بتسكين الهمزة.
قال أبو علي: لا تخلو الحركة التي أشمّوها الهمزة من أن تكون لنفس الحرف، أو تكون حركة حرف قبل الهمزة أو بعدها: فلا يجوز أن تكون الحركة لنفس الحرف الذي هو الهمزة، لأنّ الحرف ساكن لا حظّ له في الحركة، وذلك أن اؤتمن افتعل من الأمان، والفاء من افتعل ساكنة في جميع الكلام صحيحه ومعتلّه، تقول: اقتتل اقترع، ايتكل، ايتجر، اختار، انقاد، اتّعد، ارتدّ، اتّزن، فتكون فاء افتعل في
[الحجة للقراء السبعة: 2/450]
جميع هذه الأبنية ساكنة، ولا يجوز أن تكون حركة حرف قبلها لأنّ حركة ما قبل لم تلق على ما بعد في شيء علمناه، كما تلقى حركة الحرف على ما قبله في نحو: استعدّ، واستمرّ، وقيل، واختير، وردّ، والخب ونحوه.
فإذا لم يكن لشيء من هذه الأقسام مساغ ثبت أن الحركة لا تجوز فيها على الإشمام، كما لا تجوز فيها على الإشباع، فإن قيل: إن هذا الإشمام إنّما هو ليعلم أنّ قبلها همزة وصل مضمومة، وذلك أنّك إذا ابتدأت قلت: اؤتمن.
قيل: فهذا يلزم قائله أن يقول في نحو: إلى الهدى ائتنا [الأنعام/ 71] أن يشير إلى الهمز بالكسر، وكذلك يلزمه أن يشير إلى الكسر في قوله: فأتنا بما تعدنا [الأعراف/ 70] وفي قوله تعالى: ومنهم من يقول ائذن لي [التوبة/ 49] ونحو ذلك أن يشير إلى الكسر في الهمز لأنّ قبل الهمزة في كل ذلك في الابتداء همزة مكسورة كما كانت في قوله اؤتمن في الاستئناف همزة مضمومة. فإن مرّ على قياس هذا الذي لزم كان مارّاً على خطأ وآخذاً به من غير وجه. ومن ذلك أنّ الحرف الذي بعد الحرف لا يحرّك بحركة ما قبله، كما يحرّك الحرف الذي قبل الحرف لحركة الحرف الذي بعده نحو:
[الحجة للقراء السبعة: 2/451]
يستعدّ، ويهدي [يونس/ 35] والخبء [النمل/ 25] ونحو ذلك. ولو جاز ذلك في كلامهم، لم يلزم في هذا الموضع في الإدراج؛ وذلك أنّ همزة الوصل تسقط في الإدراج، فإذا سقطت سقطت حركتها، ولم تبق الحركة بعد سقوط الحرف، فإذا كان كذلك لم يجز أن تقدّر إلقاء حركة ما قبلها عليها لأنّها ليس قبلها شيء وإذا لم
يجز ذلك، تبيّن أن الهمزة لا وجه لها إلّا السكون، كما ذهب الآخرون إليه غير عاصم وحمزة من إسكانها. إلّا أنه يجوز في الهمزة التخفيف والتحقيق فمن خفف: الّذي اؤتمن قال:
الذيتمن، فحذف الياء من الذي لالتقائها ساكنة مع فاء افتعل، لأنّ همزة الوصل قد سقطت للإدراج، فيصير: ذيتمن بمنزلة: بير، وذيب، وإن حقّق كان بمنزلة من حقّق الذئب والبئر.
[الحجة للقراء السبعة: 2/452]
وليس إشمام الحركة الهمزة في قوله الّذي اؤتمن كإشمام أبي عمرو فيما حكى سيبويه من قراءاته قوله: يا صالح يتنا [الأعراف/ 77] لأنّه أشمّ الحركة التي على الحاء، ولها حركة هي الضمة، ولا حركة للهمزة في: الّذي اؤتمن.
ولم يقلب أبو عمرو الياء التي أبدلت من الهمزة التي هي فاء واواً لتشبيهه المنفصل بالمتصل نحو: قيل. ولا يلزمه على هذا أن يقول ومنهم من يقول: ائذن لي لأنّه إنّما فعل ذلك في حركة بناء وحركة البناء في النداء المفرد كحركة البناء في قيل. فإذا فعل ذلك في حركة البناء، لم يلزمه أن يجري حركة الإعراب كحركة البناء، ومن شبّه حركة الإعراب بحركة البناء، وهو قياس قول سيبويه لزمه أن يشمّ الضمة في يقول الكسرة كما جاء ذلك في قيل. ولعل أبا عمرو يفصل بينهما كما فصل غيره من النحويين. وليس ذلك أيضاً كما حكاه أبو الحسن من أن بعضهم قال في القراءة: في القتلى الحرّ [البقرة/ 178] فأشمّ الفتحة التي على اللام التي هي لام الفعل من القتلى الكسرة، كما كان يميله، والألف التي في القتلى ثابتة، لأنّ الألف التي في القتلى حذفت لالتقاء الساكنين. وقد وجدت الحذف لالتقاء الساكنين في حكم الثبات، ألا ترى أنّهم أنشدوا:
[الحجة للقراء السبعة: 2/453]
فألفيته غير مستعتب ولا... ذاكر
الله إلّا قليلًا فنصبوا الاسم مع حذف التنوين كما كانوا ينصبون مع إثباته لما كان المحذوف في حكم الإثبات.
فكذلك الألف في «القتلى» في حكم الإثبات، وإذا كان في حكمه جازت إمالة الفتحة مع حذف الألف كما جازت إمالتها مع ثباتها. ونظير ذلك من كلامهم قولهم: صعقيّ، ألا ترى أنّه إنّما كسرت الصّاد لمكان كسرة العين، ثم انفتح ما كانت الفاء كسرت لكسرته فبقيت الفاء على كسرتها، فكذلك الفتحة في «القتلى» أميلت لمكان الألف، ثم ارتفع ما كان أميلت له الفتحة، وذهب، فبقيت اللّام على إمالة فتحتها كما بقيت الفاء في صعقي على كسرتها). [الحجة للقراء السبعة: 2/454]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة}
[حجة القراءات: 151]
قرأ ابن كثير وأبو عمرو (فرهن) برفع الرّاء والهاء وحجتهما ما روي عن أبي عمرو أنه قال إنّما قرئت (فرهن) ليفصل بين الرّهان في الخيل وبين جمع رهن في غيرها تقول في الخيل راهنته رهانا والرّهن جمع رهن وهو نادر كما تقول سقف وسقف وقال الفراء الرّهن جمع الجمع رهن ورهان ثمّ رهن كما تقول ثمرة وثمار وثمر
وقرأ الباقون {فرهان} وحجتهم أن هذا في العربيّة أقيس أن يجمع فعل على فعال مثل بحر وبحار وعبد وعباد ونعل ونعال وكلب وكلاب). [حجة القراءات: 152]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (214- قوله: {فرهان} قرأه أبو عمرو وابن كثير بضم الراء والهاء، من غير ألف، وقرأ الباقون بكسر الراء، وبألف بعد الهاء.
215- وحجة من قرأ بغير ألف أنه جمع «رهنا» على «رهن» كـ «سقْف» و«سُقف» و«نَحْر» و«نُحُر»، وكان قياسه «أرهانا» في أقل العدد، ولكن استغنوا بالكثير عن القليل، كما استغنوا بالقليل عن الكثير، في قوله: «رسن وأرسان»، وأصل «رهن» المصدر في قولهم: «رهينة» فهو في موضع قولهم: رهينة ثوبًا. فلما وقع موقع الاسم جمع، كما تجمع الأسماء، ولما استغنوا فيه في الجمع ببناء الكثير عن القليل، استعوا فيه، فأتوا بجمعه على بناءين للتكثير، فقالوا: رهْن ورهُن، كسقْف، وسقف، وقالوا: رهن ورهان، ككعب وكعاب، وبغل وبِغال، ونعل ونِعال، وهو في جمع «فعْل» كثير في الكلام، وجمع «فعْل» على
[الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/322]
«فُعُل» قليل في الكلام، إنما أتى منه أشياء نوادر في الكلام، فحمل على الأكثر، وهو فِعال، وهو الاختيار). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/323]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (111- {فَرِهَانٌ} [آية/ 283]:-
بضم الراء والهاء من غير ألف، قرأها ابن كثير وأبو عمرو.
وذلك لأن فعلاً بفتح الفاء وسكون العين قد يجمع على فعل بضم الفاء والعين جمع الكثير نحو: سقف وسقف، وقال الفراء: هو جمع رهانٍ.
[الموضح: 354]
وقرأ الباقون {فَرِهانٌ} بالألف وكسر الراء.
وهو أيضًا جمع رهنٍ، مثل: كلب وكلاب وحبل وحبال، فهو من أبنية الكثير أيضًا). [الموضح: 355]
قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء... (284).
قرأ ابن عامر وعاصم ويعقوب: (فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء) بالرفع.
وقرأ الباقون بجزم الراء والباء.
قال أبو منصور: من قرأ (يعذّب مّن يشاء) أدغم الباء من (يعذّب) في الميم من (مّن يشاء).
[معاني القراءات وعللها: 1/237]
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى وسئل عن قوله (فيغفر لمن يشاء ويعذّب من يشاء) قال: من جزم رده على الجزم في قوله: (يحاسبكم).
قال: وهو الاختيار عندي.
قال: ومن رفع فهو على الاستئناف.
قال أبو العباس: إنما اخترت الجزم لأنه يدخل في تكفير الذنوب إذا كان جوابا لقوله: (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه) ومن رفع لم يجعله جوابًا لهذا الشرط). [معاني القراءات وعللها: 1/238]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (49- وقوله تعالى: {فيغفر لمن يشاء} [284].
قرأ عاصم وابن عامر (فيغفر) بالرفع.
وقرأ الباقون بالجزم نسقًا على يحاسبكم، ومن رفعه جعله مستأنفًا). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/105]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (واختلفوا في الجزم والرفع من قوله تعالى: فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء [البقرة/ 284].
فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي: فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء جزماً.
وقرأ ابن عامر وعاصم: فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء رفعاً.
[الحجة للقراء السبعة: 2/463]
قال أبو علي: وجه قول من جزم أنّه أتبعه ما قبله، ولم يقطعه منه وهذا أشبه بما عليه كلامهم، ألا ترى أنّهم يطلبون المشاكلة، ويلزمونها؟ فمن ذلك أنّ ما كان معطوفاً على جملة، من فعل وفاعل، واشتغل عن الاسم الذي من الجملة التي يعطف عليها الفعل، يختار فيه النصب ولو لم يكن قبله الفعل والفاعل لاختاروا الرفع، وعلى هذا ما جاء من هذا النحو في التنزيل نحو قوله تعالى: وكلًّا ضربنا له الأمثال [الفرقان/ 39]، وقوله تعالى: فريقاً هدى وفريقاً حقّ عليهم الضّلالة [الأعراف/ 30] وقوله: يدخل من يشاء في رحمته والظّالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً [الإنسان/ 31] فكذلك ينبغي أن يكون الجزم أحسن ليكون مشاكلًا لما قبله في اللفظ [ولم يخلّ من المعنى بشيء]. وكذلك إذا عطفوا فعلًا على اسم أضمروا قبل الفعل «أن»، ليقع بذلك عطف اسم على اسم، لأنّ الاسم بالاسم أشبه من الفعل بالاسم، كما أن جملة من فعل وفاعل أشبه بجملة من فعل وفاعل. من جملة من مبتدأ وخبر بجملة من فعل وفاعل فلهذا ما جاء ما كان من نحو: وكلًّا ضربنا له الأمثال [الفرقان/ 39] في التنزيل بالنصب. وهذا النحو من طلبهم المشاكلة كثير. ومن لم يجزم
[الحجة للقراء السبعة: 2/464]
قطعه من الأول، وقطعه منه على أحد وجهين إما أن يجعل الفعل خبراً لمبتدإ محذوف فيرتفع الفعل لوقوعه موقع خبر المبتدأ، وإمّا أن يعطف جملة من فعل وفاعل على ما تقدمها.
[تمّ الكلام في سورة البقرة والحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى]). [الحجة للقراء السبعة: 2/465]
قال أبو الفتح عثمان بن جني الموصلي (ت: 392هـ): (ومن ذلك ما رواه الأعمش قال: في قراءة ابن مسعود: [يحاسِبْكم به الله يغفرْ لمن يشاء ويعذبْ من يشاء] جزمٌ بغير فاء.
قال أبو الفتح: جزم هذا على البدل من [يحاسبكم] على وجه التفصيل لجملة الحساب، ولا محالة أن التفصيل أوضح من المفصَّل، فجرى مجرى بدل البعض أو الاشتمال، والبعض
[المحتسب: 1/149]
كضربت زيدًا رأسه، والاشمال كأُحب زيدًا عقله. وهذا البدل ونحوه واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان، فمن ذلك قول الله سبحانه: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}؛ لأن مضاعفة العذاب هو لُقِيُّ الأثام، وعله قوله:
رُويدًا بني شيبان بعض وعيدكم ... تُلاقوا غدا خيلي على سَفَوان
تلاقوا جيادًا لا تَحيد عن الوغى ... إذا ما غَدَت في المأزِق المتداني
تلاقوهم فتعوفوا كيف صبرهم ... على ما جَنَتْ فيهم يدا الحدثان
فأبدل تلاقوا جيادًا من قوله: تلاقوا غدا خيلي، وجاز إبداله منه للبيان وإن كان من لفظه وعلى مثاله؛ لما اتصل بالثاني من قوله: جيادًا لا تحيد عن الوغى، وأبدل تلاقوهم من تلاقوا جيادًا؛ لما اتصل به من المعطوف عليه وهو قوله: "فتعلموا كيف صبرهم"، وإذا حصلت فائدة البيان لم تُبل أَمِنْ نفس المبدل كانت، أم مما اتصل به فضلةً عليه، أم من معطوف مضموم إليه؟ فإن أكثر الفوائد إنما تجتنى من الألحاق والفضلات. نعم، وما أكثر ما تُصْلِحُ الجمل وتتممها، ولولا مكانها لَوَهتْ فلم تستمسك.
ألا تراك لو قلت: زيد قامت هند لم تتم الجملة؟ فلو وصلت بها فضلة ما لتمت؛ وذلك كأن تقول: زيد قامت هند في داره، أو معه، أو بسببه، أو لتكرمه، أو فأكرمته، أو نحو ذلك، فصحت المسألة؛ لعود الضمير على المتبدأ من الجملة. وعليه قول كثير فيما أظن:
وإنسان عيني يحسر الماء تارة ... فيبدو وتاراتٍ يَجُم فيغرَق
فبالمعطوف على يحسر الماء ما تمت الجملة، وفي هذا بيان). [المحتسب: 1/150]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء}
قرأ عاصم وابن عامر {فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} برفع الرّاء والباء على الاستئناف
وحجتهم أن قوله {إن تبدوا} شرط {يحاسبكم} جزم لأنّه جواب وقد تمّ الكلام فيرفع فيغفر ويعذب على تقدير ضمير فهو يغفر ويعذب
وقرأ الباقون بالجزم فيهما عطف على يحاسبكم به الله). [حجة القراءات: 152]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (216- قوله: {فيغفر}، {ويعذب} قرأهما ابن عامر وعاصم بالرفع، وجزمهما الباقون.
217- وحجة من جزم أنه عطفه على «يحاسبكم» الذي هو جواب الشرط فهو أقرب للمشاكلة، بين أول الكلام وآخره.
218- وحجة من رفع أن الفاء يستأنف ما بعدها، فرفع على القطع مما قبله إما أن يكون أضمر مبتدأ على تقدير: فالله يغفر ويعذب، فيكون جملة من ابتداء وخبر، معطوفة على جملة، من فعل وفاعل، ويجوز أن يكون الفعل مقدرًا، فتكون جملة معطوفة من فعل وفاعل على مثلها، والتقدير على هذا: فيغفر الله لمن يشاء ويعذب من يشاء، والجزم هو الاختيار، لاتصال الكلام، ولأن عليه أكثر القراء). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/323]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (112- {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ} [آية/ 284]:-
بالرفع فيهما، قرأها ابن عامر وعاصم ويعقوب.
ووجه ذلك أنه استئناف، وتقديره: فهو يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، وليس بعطفٍ على الفعل المجزوم الذي قبله.
وقرأ الباقون بالجزم فيهما.
وذلك لأن هذا الفعل إذا جزم كان معطوفًا على ما قبله، وهو {يُحاسِبْكُمْ} المجزوم بأنه جواب الشرط، وهذا أولى؛ لأنه يدخل في شبه ما قبله، وهم يطلبون المشاكلة في الكلام). [الموضح: 355]
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107374#post107374)
جمهرة علوم القرآن
1 صفر 1440هـ/11-10-2018م, 08:03 AM
سورة البقرة
[من الآية (285) إلى الآية (286) ]
{آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}
قوله تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}
قال أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت: 370هـ): (وقوله جلّ وعزّ: (وكتبه ورسله... (285).
قرأ حمزة والكسائي: (وكتابه) موحدًا.
وقرأ الباقون: (وكتبه) جميعا.
قال أبو منصور عن ابن عباس: إنه قرأ (كتابه)، وقيل له في قراءته فقال: (كتاب) أكثر من (كتب).
قال أبو منصور: ذهب به إلى الجنس، كما يقال: كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس.
ومن قرأ (وكتبه) فهو مثل:
[معاني القراءات وعللها: 1/238]
حمارٍ وحمر وغلافٍ وغلف.
وقوله: (ورسله)
قد اتفق القراء على تثقيله.
وقرأ الحضرمي: (لا يفرّق بين أحدٍ من رسله... (285) بالياء
وكسر الراء. وقرأ الباقون: (لا نفرّق) بالنون.
وأخبرني المنذري عن أحمد بن يحيى أنه قال: النون هو الاختيار، وعليها قراء الأمصار، ومعناها: يقول: لا نفرق بين أحد، فيكون القول فيه مضمرا، وإضمار القول كثير في القرآن.
قال: ومن قرأ: (لا يفرّق) فإنه يريد: من آمن بالله لا يفرّق، ردّه على من آمن بالله، وكلٌّ آمن، وكلٌّ لا يفرّق بين أحد منهم.
واحد في معنى الجميع ها هنا). [معاني القراءات وعللها: 1/239]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (50- وقوله تعالى: {وكتبه ورسله} [285].
قرأ حمزة والكسائي: (وكتابه) على لفظ الواحد.
وقرأ الباقون: (وكتبه) بالجمع، مثل: ثمار وثمر). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/106]
قال أبو عبد الله الحسين بن أحمد ابن خالويه الهمَذاني (ت: 370هـ): (52- وقوله تعالى: {بين أحد من رسله} [285].
قرأ أبو عمرو وحده ما أضيف إلى حرفين مخففًا نحو: {رسلكم} {ورسلنا} وكذلك {سبلنا}.
وقرأ الباقون بالثقيل على أصل الكلمة؛ لأنه جمع رسول نحو عمود وعمد، والخفيف فرع على الثقيل وإنما خفف أبو عمرو في الجمع ولم يخفف في الواحد؛ لأن الجمع أثقل من الواحد، مثل إدغامه {خلقكم ثم رزقكم} ولا يدغم خلقك ورزقك). [إعراب القراءات السبع وعللها: 1/106]
قال أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ (ت: 377هـ): (اختلفوا في الجمع والتوحيد من قوله جلّ وعزّ: وكتبه [البقرة/ 285] هاهنا، وفي سورة التحريم [الآية: 12].
فقرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر: وكتبه هاهنا جمع، وفي التحريم: وكتابه، على التوحيد.
وقرأ أبو عمرو: هاهنا وفي التحريم: وكتبه على الجمع.
وقرأ حمزة والكسائي: وكتابه على التوحيد فيهما.
وروى حفص عن عاصم هاهنا، وفي التحريم: وكتبه مثل أبي عمرو. وخارجة عن نافع في التحريم مثل أبي عمرو.
قال أبو علي: قال أبو زيد: كتبت الصكّ، أكتبه كتاباً، وكتبت السقاء، أكتبه كتباً: إذا خرزته.
قال ذو الرّمّة:
وفراء غرفيّة أثأى خوارزها... مشلشل ضيّعته بينها الكتب
[الحجة للقراء السبعة: 2/455]
وكتبت البغلة أكتبها كتباً، إذا حزمت حياءها بحلقة حديد أو صفر، وكتبت عليها كتباً، وكتّبت الناقة تكتيباً: إذا صررتها.
فالكتاب مصدر كتب. وقد جاء كتب في التنزيل على غير وجه فمن ذلك أن يراد به: فرض، قال تعالى: يا أيّها الّذين آمنوا كتب عليكم الصّيام كما كتب على الّذين من قبلكم [البقرة/ 183]، وقال تعالى: كتب عليكم القصاص في القتلى [البقرة/ 178] وقال: وكتبنا عليهم فيها أنّ النّفس بالنّفس [المائدة/ 45] وقال: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه [الأنفال/ 75] أي فيما فرض الله لهم في السّهام في المواريث، أو الحيازة للتركة، ويجوز أن يعنى به التنزيل، أي: هم في فرض كتاب الله أولى بأرحامهم، وأن يحمل على الكتاب المكتتب أولى، وذلك لقوله سبحانه في أخرى: وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعضٍ في كتاب اللّه من المؤمنين والمهاجرين إلّا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً، كان ذلك في الكتاب مسطوراً [الأحزاب/ 6] والمسطور إنّما يسطر في صحف أو ألواح، فردّ المطلق منهما إلى هذا المقيّد أولى، لأنّه أمر واحد.
وقد جاء كتب يراد به الحكم. قال تعالى:
[الحجة للقراء السبعة: 2/456]
كتب اللّه لأغلبنّ أنا ورسلي [المجادلة/ 21] كأنه حكم، قال:
ولولا أن كتب اللّه عليهم الجلاء لعذّبهم في الدّنيا [الحشر/ 3] أي حكم بإخراجهم من دورهم. وقال: وما كان لنفسٍ أن تموت إلّا بإذن اللّه كتاباً مؤجّلًا [آل عمران/ 145] فانتصب كتاباً بالفعل الذي دلّ عليه هذا الكلام، وذلك أنّ قوله: وما كان لنفسٍ أن تموت إلّا بإذن اللّه يدلّ على كتب، وكذلك قوله: كتاب اللّه عليكم [النساء/ 24] لأنّ
في قوله:
حرّمت عليكم أمّهاتكم [النساء/ 23] دلالة على كتب هذا التحريم عليكم أي: فرضه، فصار كتاب الله، كقوله: صنع اللّه [النمل/ 88]، ووعد اللّه لا يخلف اللّه وعده [الروم/ 6].
فأمّا قوله: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان [المجادلة/ 22] فإنّ معناه جمع، وقد قالوا: الكتيبة للجمع من الجيش، وقالوا للخرز التي ينضم بعضها إلى بعض: كتب، كأنّ التقدير: أولئك الذين جمع الله في قلوبهم الإيمان أي:
استوعبوه واستكملوه، فلم يكونوا ممن يقول: نؤمن ببعضٍ ونكفر ببعضٍ [النساء/ 150] وهم الذين جمعوا ذلك في الحقيقة، وأضيف ذلك إلى الله تعالى، لأنّه كان بتقويته ولطفه كما قال: وما رميت إذ رميت ولكنّ اللّه رمى [الأنفال/ 17].
فأمّا قوله تعالى: إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّماوات والأرض
[الحجة للقراء السبعة: 2/457]
[التوبة/ 36] فلا يجوز تعلقه بالعدّة لأنّ فيه فصلًا بين الصلة والموصول بالخبر، ولكنّه يتعلق بمحذوف على أن يكون صفة للخبر الذي هو قوله: اثنا عشر شهراً، والكتاب لا يكون إلّا مصدراً، ولا يجوز أن يكون يعنى به الذكر، ولا غيره من الكتب، وذلك لتعلّق اليوم به، واليوم وسائر الظروف لا تتعلق بأسماء الأعيان لأنّها لا معاني فيها للفعل، فبهذا يعلم أنّه مصدر.
فأمّا قوله تعالى: وملائكته وكتبه [البقرة/ 285] فإنّ الكتب جمع كتاب وهو مصدر كتب فنقل، وسمّي به، فصار يجري مجرى الأعيان وما لا معنى فعل فيه، وعلى ذلك كسر، فقيل: كتب كما قالوا: إزار وأزر، ولجام ولجم. ولولا أنّه صار منقولًا، لكان خليقاً أن لا يكسّر، كما أنّ عامة المصادر لا تجمع، فأمّا الجمع فيه فللكثرة، وأمّا الإفراد في قول من قرأ:
وكتابه فليس كما تفرد المصادر، وإن أريد بها الكثير كقوله تعالى: وادعوا ثبوراً كثيراً [الفرقان/ 14] ونحو ذلك، ولكن كما تفرد الأسماء التي يراد بها الكثرة نحو قولهم: كثر الدينار والدرهم، ونحو ذلك مما يفرد لهذا المعنى، وهي تكسر، وكذلك: أهلك الناس الشاة والبعير، فإن قلت: إنّ هذه الأسماء التي يراد بها الكثرة تكون مفردة، وهذه مضافة قيل: قد جاء المضاف من الأسماء، يعنى به الكثرة، وفي التنزيل:
[الحجة للقراء السبعة: 2/458]
وإن تعدّوا نعمت اللّه لا تحصوها [النحل/ 18، إبراهيم/ 34] وفي الحديث: «منعت العراق درهمها وقفيزها».
فهذا يراد به الكثرة، كما يراد فيما فيه لام التعريف، وممّا يجوز أن يكون على هذا قول عدي بن الرقاع:
يدع الحيّ بالعشيّ رغاها... وهم عن رغيفهم أغنياء
وقال: أحلّ لكم ليلة الصّيام الرّفث إلى نسائكم [البقرة/ 187] وهذا الإحلال شائع في جميع ليالي الصّيام، والتكسير أوجه لأنّ الموضع يراد به الكثرة، وليس مجيء الأسماء المضافة التي يراد بها الجنس، والشّياع، بكثرة ما جاء منها، وفيه لام المعرفة، والاسمان اللذان أحدهما قبله، والآخر بعده مجموعان، فهذا يقوّي الجمع ليكون مشاكلا لما قبله وما بعده، ويجوز فيمن أفرد فقال: وكتابه أن يعني به الشّياع، ويكون الاسم مصدرا غير منقول، فيسمّى الذي يكتب كتابا،
[الحجة للقراء السبعة: 2/459]
كما قيل: نسج اليمن، أو على تقدير ذي، أي: ذي الذي يكتب.
اختلفوا في ضمّ السّين وإسكانها من قوله تعالى:
ورسله [البقرة/ 285] ورسلنا [الإسراء/ 77].
فقرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنيّ على حرفين مثل:
رسلنا، ورسلكم [غافر/ 50] بإسكان السين، وثقّل ما عدا ذلك.
وروى عليّ بن نصر عن هارون عن أبي عمرو أنّه خفّف على رسلك [آل عمران/ 194] أيضاً. وقال عليّ بن نصر:
سمعت أبا عمرو يقرأ على رسلك مثقّلة، وقرأ الباقون كلّ ما في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل.
قال أبو عليّ: وجه قراءة من ثقّل على رسلك أنّ أصل الكلمة على فعل بضمّ العين، ومن أسكن خفّف ذلك كما يخفّف ذلك في الآحاد في نحو العنق، والطّنب، وإذا خفّفت الآحاد، فالجموع أولى من حيث كانت أثقل من الآحاد، والدليل على أنّه على فعل مضموم العين، رفضهم هذا الجمع، فيما كان لامه حرف علّة نحو: كساء، ورداء
[الحجة للقراء السبعة: 2/460]
ورشاء، ألا تراهم لم يجمعوا شيئاً من هذا النحو على فعل، كما جمعوا قذالًا، وكتاباً، وحماراً ورغيفاً على فعل، ولم يجمعوه أيضاً على التخفيف لأنّه إذا خفّف، والأصل التثقيل، كانت الحركة في حكم الثبات ومنزلته. ألا ترى أنّ من قال:
رضي، ولقضو الرجل، لمّا كانت الحركة في حكم الثبات عنده لم يردّ الواو ولا الياء؟ وكذلك نحو رشاء، وقباء، لم يجمع على فعل ولم يجيء من هذا الباب شيء على فعل إلّا ثنيّ وثن، وقالوا: ثنيان في جمعه أيضاً، وما عداه مرفوض غير مستعمل، ومما يدلّ على أن الأصل فيه الحركة، أنّه لو كان الأصل السكون لم يرفض فيه جمع ما كانت اللّام فيه ياءً، أو واواً، كما لم يرفض ذلك في جمع ما أصله فعل، وذلك نحو:
عمي، وأ فأنت تهدي العمي [يونس/ 43] وكذلك قنواء وقنو، وعشواء، وعشو، وأبواء، وأبو، ألا ترى أنّهم لم يرفضوا جمع هذا لمّا كان ما قبله ساكناً فصار بمنزلة الآحاد نحو: حلو وعري، وما أشبه ذلك؟ فقد دلّك رفضهم لجمع هذا الضرب أنّه على فعل وأنهم رفضوه لما يلزم فيه من القلب
[الحجة للقراء السبعة: 2/461]
والإعلال. ومما يدلّ على أنّ أصله فعل، بضم العين، أنّهم خفّفوا من ذلك نحو: عوان وعون ونوار، ونور، وخوان، وخون، كراهة الضمة في الواو فإذا اضطرّ الشاعر ردّه إلى أصله كما جاء:
تمنحه سوك الإسحل وقوله:
وفي الأكفّ اللامعات سور على أن أبا زيد حكى: قوم قول، بضم الواو.
وأمّا وجه تخفيف أبي عمرو ما اتّصل من ذلك بحرفين
[الحجة للقراء السبعة: 2/462]
من حروف الضمير، أو بحرف نحو: رسلك [آل عمران/ 194]، فلأنّ هذا قد يخفّف إذا لم يتّصل بمتحرك، فإذا اتّصل بمتحرك حسن التخفيف لئلا تتوالى أربعة أحرف متحركة لأنّهم كرهوا تواليها على هذه العدة بهذه الصورة، ومن ثم لم تتوال أربع متحركات في بناء الشعر، والكلم، إلّا أن يكون مزاحفاً، أو يخفّف لهذا الذي ذكرناه من كراهتهم توالي أربع متحركات. ومن لم يخفّف فلأنّ هذا الاتصال بالحرفين ليس بلازم للحرف، وما لم يكن لازماً في هذه الكلم فلا حكم له، ألا ترى أنّ الإدغام في نحو: جعل لك، لم يلزم وإن كان قد توالى خمس متحركات، وهذا لا يكون في بناء الشعر، لا في مزاحفه ولا في سالمه ولا في الكلم المفردة. وقد جاز في نحو هذا أن لا يدغم لمّا لم يكن لازماً، ومن ثمّ روي عن أبي عمرو على رسلك وعلى رسلك كأنّه أخذ بالوجهين وذهب إلى المذهبين). [الحجة للقراء السبعة: 2/463]
قال أبو زرعة عبد الرحمن بن محمد ابن زنجلة (ت: 403هـ) : ({كل آمن باللّه وملائكته وكتبه ورسله}
قرأ حمزة والكسائيّ (وكتابه) وحجتهما أن الكتاب هو القرآن فلا وجه لجمعه وحجّة أخرى قال ابن عبّاس {الكتاب} أكثر
[حجة القراءات: 152]
من الكتب قال أبو عبيدة أراد كل كتاب الله بدلالة قوله {فبعث الله النّبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب} فوحد إرادة الجنس وهذا كما تقول كثر الدّرهم في أيدي النّاس تريد الجنس كله
وقرأ الباقون {وكتبه} وحجتهم ما تقدم وما تأخّر ما تقدم ذكر بلفظ الجمع وهو قوله {كل آمن باللّه وملائكته} وما تأخّر {ورسله} فكذلك كتبه على الجمع ليأتلف الكلام على نظام واحد). [حجة القراءات: 153]
قال مكي بن أبي طالب القَيْسِي (ت: 437هـ): (219- قوله: {وكتبه} قرأ حمزة والكسائي بالتوحيد، وقرأ الباقون بالجمع، فمن وحَّد أراد القرآن، ومن جمع أراد جميع الكتب التي أنزل الله، ويجوز في قراءة من وحَّد أن يُراد به الجمع، يكون الكتاب اسمًا للجنس، فتستوي القراءتان، والجمع هو الاختيار، لعمومه، ولأن عليه أكثر القراء). [الكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/323]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (113- {وَكُتُبِهِ} [آية/ 285]:-
على الجمع، قرأها أبو عمرو وعاصم –ص- ويعقوب ههنا وفي التحريم،
[الموضح: 355]
وكذلك ابن كثير ونافع –يل- وابن عامر و- ياش- عن عاصم بالجمع ههنا، وبالتوحيد في التحريم. وإنما جمعوه ههنا؛ لأن ما قبله وما بعده جمع، وهو {ومَلائِكَتِهِ} {وَرُسُلهِ}، فالأولى أن يكون أيضًا مجموعًا ليشاكل ما قبله وما بعده.
وقرأ حمزة والكسائي {وَكِتابِهِ} على التوحيد في الموضعين.
والوجه في ذلك أن المراد به وإن كان واحدًا الجنس، كما يقال: كثر الدينار والدرهم، وأهلك فلان درهمه.
ويجوز أن يكون الكتاب مصدرًا لمسمى له بمعنى المكتوب، كما يقال: نسج اليمن أي منسوجه، فيكون المعنى أيضًا على الكثرة). [الموضح: 356]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (114- {وَرُسُلِهِ} [آية/ 285]:-
بضم السين، اتفق عليه القراء جميعًا، وكذلك في أمثاله في القرآن، إلا أن أبا عمرو يخفف كل ما كان من ذلك مضافًا الى جمع نحو {رُسْلنا} و{رُسْلكم} و{رُسْلهم}. ووجه ذلك أن الأصل في الكلمة هو فعل بضم الفاء والعين، وقد يسكن العين للتخفيف، كما يخفف ما كان من الآحاد
[الموضح: 356]
الآحاد نحو: عنق وطنب، بل يكون تخفيف المجموع أولى لثقلها، وأبو عمرو لما علم جواز تخفيف هذه الكلمة، خفف ما كان متصلاً بحرفين من حروف الضمير؛ لأنه يتوالى هناك أربعة أحرف متحركة فكره تواليها فخفف لذلك.
وأما الباقون فإنهم لم يخففوها وإن اتصلت بحرفين من الضمير؛ لأن الضمير ليس بلازمٍ للكلمة، فهو بمنزلة المنفصل). [الموضح: 357]
قال نصر بن علي بن أبي مريم (ت: بعد 565هـ) : (115- {لَا نُفَرِّقُ} [آية/ 285]:-
بالياء، قرأها يعقوب وحده.
وذلك لأنه حمله على لفظ {كُلٍّ}، كما حمل عليه قوله {آمَنَ} على لفظ الواحد، والمراد به المؤمنون، كأنه قال: كلهم لا يفرق بين أحدٍ من رسله. وقرأ الباقون {لا نُفَرّقُ} بالنون.
وهذا على إضمار القول، والتقدير: يقولون لا نفرق، ومثله في القرآن كثير، ويدل على ذلك قوله تعالى {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} ). [الموضح: 357]
قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)}
روابط مهمة:
- أقوال المفسرين (http://jamharah.net/showthread.php?p=107375#post107375)
vBulletin® v3.8.8, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir