المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسائل كتاب بيان فضل القرآن


جمهرة علوم القرآن
20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 08:29 PM
مسائل كتاب بيان فضل القرآن

حفظ نسخة PDF من كتاب "بيان فضل القرآن" من ( هنا ) (http://afaqattaiseer.com/up/do.php?id=1601)
التحديث الأخير: 19 محرم 1441هـ



عناصر الكتاب:
- تمهيد (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160051#post160051)
الباب الأول: مقدمات فـي فضائل القرآن
- المقدمة الأولى: التعريف بطرق بيان فضل القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160052#post160052)
- المقدمة الثانية: بيان ثمرات معرفة فضائل القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160053#post160053)
- المقدّمة الثالثة: ذكر المؤلّفات في فضائل القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160054&posted=1#post160054)
- المقدّمة الرابعة: التعريف بطرق العلماء في التأليف في فضائل القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160055#post160055)
- المقدّمة الخامسة: مباحث علم فضائل القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160056#post160056)
- المقدّمة السادسة: بيان سبب كثرة الأحاديث الضعيفة في فضائل القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160057#post160057)
- المقدّمة السابعة: بيان درجات المرويات الضعيفة في فضائل القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160058#post160058)
- المقدّمة الثامنة: بيان الحاجة إلى تجديد وسائل النشر لعلم فضائل القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160059&posted=1#post160059)
الباب الثاني: شرح معاني أسماء القرآن وصفاته
- تمهيد (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160060#post160060)
- بيان أسماء القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160061#post160061)
- الفرق بين الإسم والصفة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160062#post160062)
- معنى اسم "القرآن" (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160063#post160063)
- معنى اسم "الكتاب" (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160064#post160064)
- معنى اسم"الفرقان" (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160065#post160065)
- معنى اسم "الذكر" (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160066&posted=1#post160066)
- فصل في شرح معاني صفات القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160330#post160330)
- وصفه بأنه عليٌّ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160331&posted=1#post160331)
- وصفه بأنه حكيم (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160332&posted=1#post160332)
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160333&posted=1#post160333)وصفه بأنه مجيد (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160333&posted=1#post160333)
- وصفه بأنه عزيز (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160334&posted=1#post160334)
- وصفه بأنه كريم (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160335&posted=1#post160335)
- وصفه بأنه عظيم (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160336&posted=1#post160336)
- وصفه بأنّه مبارَك (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160337&posted=1#post160337)
- وصفه بأنّه قيّم (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160338&posted=1#post160338)
- وصفه بأنّه بصائر (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160339&posted=1#post160339)
- وصفه بأنّه هدى (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160340&posted=1#post160340)
- وصفه بأنّه نور (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160341&posted=1#post160341)
- وصفه بأنّه بيان ومبين (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160342&posted=1#post160342)
- وصفه بأنه ذِكْرٌ وذكرى وتذكرة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160343&posted=1#post160343)
- وصفه بأنّه موعظة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160344&posted=1#post160344)
- وصفه بأنّه شفاء (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160345&posted=1#post160345)
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160346&posted=1#post160346)وصفه بأنه رحمة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160346&posted=1#post160346)
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160347&posted=1#post160347)وصفه بأنه بشرى (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160347&posted=1#post160347)
الباب الثالث: بيان عظمة القرآن
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160348#post160348)بيان عظمة القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160348#post160348)
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160349&posted=1#post160349)عظمة قَدْرِ القرآن في الدنيا (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160349&posted=1#post160349)
- عظمة قَدْرِ القرآنِ في الآخرة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160350&posted=1#post160350)
- عظمة صفاته (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160351&posted=1#post160351)
الباب الرابع: بيان بركة القرآن
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160352&posted=1#post160352)معنى البركة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160352&posted=1#post160352)
- أنواع بركة القرآن في الدنيا (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160353&posted=1#post160353)
- بركة القرآن في الآخرة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160354&posted=1#post160354)
الباب الخامس: فضل تلاوة القرآن
- فضل تلاوة القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160355&posted=1#post160355)
- معنى تلاوة القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160356&posted=1#post160356)
- مراتب تلاوة القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160357&posted=1#post160357)
- أنواع ثواب تلاوة القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160358&posted=1#post160358)
- أوجه تفاضل ثواب التلاوة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160359&posted=1#post160359)
- ثواب تلاوة القرآن في الآخرة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160360&posted=1#post160360)
الباب السادس: فضل أهل القرآن
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160361&posted=1#post160361) المراد بأهل القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160361&posted=1#post160361)
- المراد بصاحب القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160362&posted=1#post160362)
- قوادح صحبة القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160363&posted=1#post160363)
- تقديم أهل القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160364&posted=1#post160364)
- فضل تعلّم القرآن وتعليمه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160365&posted=1#post160365)
- فضل حفظ القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160366&posted=1#post160366)
- تفاضل الحفّاظ في حفظ القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160367#post160367)
- كيف يحفظ القرآن؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160368&posted=1#post160368)
الباب السابع: تفاضل الآيات والسور
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160369#post160369) تفاضل الآيات والسور (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160369#post160369)
الباب الثامن: أنواع المرويات في فضائل القرآن
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160414#post160414)أنواع المرويات في فضائل القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160414#post160414)
- أسباب عناية العلماء بجمع المرويات الضعيفة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160415#post160415)
- صيانة العلم من واجبات أهله (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160416&posted=1#post160416)
- شروط صحّة الحديث (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160417&posted=1#post160417)
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160418&posted=1#post160418)تنبيه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160418&posted=1#post160418)
- درجات المرويات في فضائل القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160419&posted=1#post160419)
- أنواع المرويات الضعيفة في فضائل القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160420&posted=1#post160420)
- تنبيه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160421&posted=1#post160421)
الباب التاسع: خواص القرآن
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160422&posted=1#post160422)خواص القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160422&posted=1#post160422)
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160423&posted=1#post160423)دلائل معرفة خواصّ القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160423&posted=1#post160423)
- التحذير من الغلوّ في باب خواصّ القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160424&posted=1#post160424)




http://afaqattaiseer.com/up/do.php?img=1413

جمهرة علوم القرآن
20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 08:39 PM
تمهيد

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تمهيد
الحمد لله الذي أنزل إلينا كتابه الكريم، المبارك العظيم، وجعله أفضل الكتب وأعظمها، وأكثرها بركة وأكرمها، وأرسل إلينا أفضل رسله محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أكرم الناس نسباً، وأزكاهم نفساً، وأطهرهم قلباً، وأحسنهم خلقاً، وأفصحهم بيانا، وجعل شريعته أحسن الشرائع وأكملها وأعظمها، وجعل أمَّته خير أمّة أخرجت للناس، وأكرمها على ربّها، وأنزل إليه كتابه الكريم في خير ليلة، وأشرف بقعة؛ وبواسطة أشرف ملائكته؛ فاختار لكتابه الكريم من كلّ شيء أحسنه وأشرفه وأكرمه؛ فاجتمعت له محاسن الفضائل، وأشرف الخصائل.
أما بعد:
فهذا كتابٌ موجز البيان عن فضائل القرآن، أسأل الله تعالى أن يتقبّله بقبوله الحسن وأن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره، وأن يرزقنا حسن تلاوة كتابه وصدق الإيمان به، وأن يدخلنا مع أهل القرآن الذين هم أهله وخاصّته إنّه كريم وهّاب.
وقد كان أصل هذا الكتاب دورة علمية ألقيتها في معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد على قسمين:
كان القسم الأول منها في جمادى الأولى عام 1437 هـ.
والقسم الثاني في رجب من العام نفسه.
ثمّ أعدت النظر في مادّة هذه الدورة مراجعة وتهذيباً لتخرج في هذا الكتاب في شهر رمضان المبارك، والله الموفّق والهادي إلى سواء السبيل). [بيان فضل القرآن:5]

جمهرة علوم القرآن
20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 08:41 PM
الباب الأول: مقدمات فـي فضائل القرآن



المقدمة الأولى: التعريف بطرق بيان فضل القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدمة الأولى: التعريف بطرق بيان فضل القرآن
فضل القرآن الكريم يتبيّن من طرق متنوّعة متظافرة:
فأولها: أنه كلام الله جل وعلا ، وكلام الله صفة من صفاته، وصفات الله تعالى لها آثارها التي لا تتخلّف عنها؛ فهو العليم الذي وسع علمه كلّ شيء؛ والقدير الذي لا يعجزه شيء، وهو العزيز الحكيم، والرحمن الرحيم، والعليّ العظيم، والحميد المجيد، والواسع المحيط، والحقّ المبين، إلى غير ذلك من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي من تفكّر فيها وآمن بها أدرك أن لها آثاراً تتجلّى في كلامه جلّ وعلا، وأن كلامه – تعالى – لا يمكن أن يكون فيه ما هو خلاف مقتضى أسمائه وصفاته، وأن هذا القرآن العظيم لا يمكن أن يكون من قول البشر، ولا من قول الشياطين {وما ينبغي لهم وما يستطيعون}.
وقد قال جماعة من السلف: (فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه) وروي مرفوعاً من حديث أبي هريرة وأبي سعيد ولا يصح.
لكنّه دالّ على معنى صحيح في نفسه، وهو أنّ صفات كل موصوف بحسبه، فكلام البشر يكون مبلغهم فيه مبلغ علمهم وقدرتهم وبيانهم، ويكون فيه من النقص والضعف والخطأ ما يناسب صفاتهم.
وكلام الله تعالى كلام عن علم تامّ وقدرة لا يعجزها شيء، وإحاطة بكلّ شيء، وحكمة بالغة، ورحمة سابغة، وحقّ لا يعتريه باطل، وبيان لا اختلاف فيه، إلى غير ذلك من صفاته جلّ وعلا التي لها آثارها ومقتضياتها، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}.
ولذلك قال ابن عطية رحمه الله في مقدّمة تفسيره: (كتاب الله لو نُزِعَت منه لفظةٌ ثم أديرَ لسانُ العربِ في أن يوجدَ أحسنَ منها لم يوجد).
وهذا مبناه – كما تقدّم - على سَعَة علم الله عزّ وجلّ وإحاطته بكلّ الألفاظ ودلالاتها وأوجه استعمالاتها، وعلى عظيم قدرته جلّ وعلا، وأنّه لا يعجزه شيء؛ فإذا اجتمع العلم المحيط بكل شيء، مع القدرة على كلّ شيء؛ فلا يُمكن أن يأتي أحد بتعبير أحسن من تعبير القرآن؛ لأنه ما من لفظة يدركها علم المخلوق إلا والله تعالى أعلم بها منه من قبل أن يُخلق.
وثانيها: أن الله تعالى وصف القرآن العظيم بصفات جليلة ذات معانٍ عظيمة وآثار مباركة لا تتخلّف عنها؛ وهي أوصاف من عليم خبير، تتضمّن مع إفادة الوصف وبيان الفضل وعوداً كريمة، وشروطاً من قام بتحقيقها ظفر بموعوده بها، ولذلك كان التفكّر فيما وصف الله به كتابه من تلك الصفات الجليلة، وتأمّل آثارها ودلائلها من أخصّ أبواب الانتفاع بالقرآن.
وهذه الصفات التي وصف الله بها كتابه الكريم من أعظم دلائل فضله.
وثالثها: أن الله تعالى يحبّه، وتلك المحبّة لها آثارها ودلائلها المباركة، وما أودع الله تعالى فيه من البركات والخير العظيم، وما جعل له من شأنٍ عظيمٍ في الدنيا والآخرة هو من دلائل محبّة الله تعالى له.
ورابعها: أنّ الله تعالى أخبر عنه بأخبار كثيرة تبيّن فضله وشرفه في الدنيا والآخرة، وبيّن من مقاصده وآثاره ما يدلّ دلالة بيّنة على فضله.
وخامسها: أنَّ الله تعالى أقسم به في مواضع كثيرة من كتابه، فقال تعالى: {وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}، وقال: {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، وقال: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ}، وقال: { وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ}، وفي الإقسام به دلالة بينة على تشريفه وتكريمه ورفعة مقامه، وأقسم الله تعالى – أيضاً – على ما يبيّن به فضله وشرفه ورفعته وكرمه؛ فقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)}
وسادسها: أنّ الله تعالى جعل له أحكاماً كثيرة في الشريعة ترعى حرمته، وتبيّن فضله، ومن ذلك أن جعل الإيمان به من أصول الإيمان التي لا يصح إلا بها، وأوجب تلاوة آياته في كلّ ركعة من الصلوات، حتى جعل للمصحف الذي يُكتب فيه أحكاماً كثيرة، وحرمة عظيمة في الشريعة.
وسابعها: أن الله تعالى رغّب في تلاوته ورتّب عليها أجوراً عظيمة مضاعفة أضعافاً كثيرة، وكثرة ثواب تلاوته وتنوّعها من أظهر دلائل فضله، حتى انصرفت همّة كثير من المصنّفين في فضائل القرآن إلى تتبع ما روي في ثواب تلاوته.
وثامنها: أنّ الله تعالى رفع شأن أهل القرآن؛ حتى جعلهم أهله وخاصّته، وجعل خير هذه الأمّة من تعلّم القرآن وعلّمه، وقدّمهم على غيرهم في الإمامة في الصلاة، وفي التقدّم إليه عند تزاحمهم في الإدخال في القبر، وجعل إجلالهم من إجلاله، ومحبّتهم من آثار محبّته، إلى غير ذلك مما شرّفهم به ورفعهم به من الخصال التي لم يبلغوها إلا بفضل هذا القرآن؛ فكان تكريمهم وتشريفهم ورفعتهم بالقرآن من الدلائل البيّنة على فضل القرآن).[بيان فضل القرآن :7 - 10]

جمهرة علوم القرآن
20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 09:05 PM
المقدمة الثانية: بيان ثمرات معرفة فضائل القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدمة الثانية: بيان ثمرات معرفة فضائل القرآن
ومعرفة فضائل القرآن لها ثمرات جليلة، ومن أعظم ثمراتها:
1. أنها تبصّر المؤمن بأوجه فضائل القرآن وعظمة شأنه؛ فيعظّمه ويعظّم هداه ويرعى حرمته ويعرف قدره، وهذا أصل مهم في توقير القرآن وتعظيمه.
2. أنها تكسب المؤمن اليقين بصحّة منهجه، لأنّه مبنيّ على هدى القرآن، وقد تعرّف من دلائله ما يزيده طمأنينة بالحقّ الذي معه، ففي بصائر القرآن وهداياته ونوره ما يضيئ الطريق للسالكين، ويكشف شبهات المضلّين، ويفنّد مزاعم المفسدين، ويجعل لصاحبه فرقاناً يميّز به الحق من الباطل، والهدى من الضلالة، وأولياء الرحمن من أولياء الشيطان؛ فيجد في القرآن من أنواع التبصير والتثبيت ما يطمئنّ به، كما قال الله تعالى: { فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43)}، وقال: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79)}
3. أنها ترغّب المؤمن في مصاحبة القرآن؛ بالإيمان به واتّباع هداه والاستكثار من تلاوته والتفقّه فيه، والدعوة إليه، وتعليمه.
4. أنّها تدحض كيد الشيطان في التثبيط عن تلاوته والانتفاع به؛ فكلما ضعفت النفس، ووهن عزمها؛ ذكّرها بفضائل القرآن فاشتدت العزيمة، وعلت الهمّة، وشمّر تشمير المجتهدين؛ ليدرك نصيبه من الفضل العظيم.
5. أنها تحصّن المؤمن من طلب منهل للعلم والمعرفة يخالف منهج القرآن؛ ولا سيّما إذا عرف معاني صفات القرآن، وأدرك حقائقها وآثارها؛ فإنّه يتبيّن خسارة صفقة من استبدل به غيره، وحرمان من اشتغل بغيره.
6. أنها سبب لنجاة المؤمن من مضلات الفتن؛ فإنّ من أدرك تلك الفضائل ورسخت معرفتها في قلبه، عرف أنه لا بدّ أن يصدر في كل شأن من شؤونه عن هدى القرآن الذي من اعتصم به عُصم من الضلالة.
7. أنّها تفيده علماً شريفاً من أشرف العلوم، وأعظمها بركة، فالتفقّه في فضائل القرآن على طريقة أهل العلم من أعظم أوجه إعداد العدّة للدعوة إلى الله تعالى، والترغيب في تلاوة كتابه واتّباع هداه؛ فإنّه يجتمع للدارس في هذا العلم من تفسير الآيات المتعلّقة بفضائل القرآن، ومعرفة دلالاتها على أوجه فضائله، ومعرفة الأحاديث والآثار المروية في هذا العلم الجليل، وما ينتخبه من أقوال العلماء في بيان فضله؛ ما يستعدّ به للدعوة إلى الله على بصيرة، ولا يزال يضيف إلى ما جمعه ما يجد من الفوائد واللطائف والقصص والأخبار الصحيحة المنبّهة على فضائل القرآن، ويزكّي علمه شيئاً فشئياً بالدعوة والتعليم حتى يجد من بركات ما تعلّمه شيئاً كثيراً مباركاً؛ فقد يكون بكلمة واحدة سبباً في إقبال قلب مسلم على تلاوة القرآن وحفظه، وسبباً في ازدياد آخرين من تلاوته، وسبباً في عناية آخرين بهذا العلم وتعلّمه وتعليمه والدعوة به إلى الله؛ بل ربّما كان سبباً في إسلام أناس كانوا على الكفر؛ فخرجوا من الظلمات إلى النور بحسن ترغيبه وتعريفه بكتاب ربّه جلّ وعلا، فيكتسب – بفضل الله تعالى – من أنواع الأجور العظيمة ما لم يكن يخطر له على بال.
ولذلك اعتنى كثير من العلماء بالتأليف في فضائل القرآن). [بيان فضل القرآن:10 - 12]

جمهرة علوم القرآن
20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 09:19 PM
المقدّمة الثالثة: ذكر المؤلّفات في فضائل القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدّمة الثالثة: ذكر المؤلّفات في فضائل القرآن
اعتنى العلماء بالتأليف في فضائل القرآن لما يرجى فيه من الثواب العظيم؛ فقد صحّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» رواه مسلم من حديث أبي مسعود البدري رضي الله عنه.
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا».
وقد نشأ التأليف في فضائل القرآن في عهد مبكّر، وما يزال التأليف فيه إلى عصرنا الحاضر، ومن أهمّ الكتب المطبوعة في فضائل القرآن وأشهرها:
1. فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام الهروي، وهو من أجلّ كتب الفضائل.
2. فضائل القرآن لسعيد بن منصور الخراساني، وهو كتاب كبير من سننه.
3. وكتاب فضائل القرآن من مصنّف ابن أبي شيبة.
4. وكتاب فضائل القرآن من صحيح البخاري.
5. وأبواب فضائل القرآن من صحيح مسلم.
6. وكتاب فضائل القرآن من جامع الترمذي.
7. كتاب فضائل القرآن لابن الضُّرَيس.
8. وكتاب فضائل القرآن لأبي بكر الفريابي.
9. كتاب فضائل القرآن لأبي عبد الرحمن النسائي.
10. وكتاب فضائل القرآن للحافظ المستغفري.
11. وكتاب فضائل القرآن وتلاوته لأبي الفضل الرازي.
12. وفضائل القرآن لضياء الدين المقدسي.
13. وكتاب "الإجلال والتعظيم في فضائل القرآن الكريم" لِعَلَمِ الدين السخاوي، وهو جزء من كتابه الكبير "جمال القرّاء وكمال الإقراء".
14. وكتاب لمحات الأنوار ونفحات الأزهار وري الظمآن لمعرفة ما ورد من الآثار في ثواب قارئ القرآن لأبي القاسم محمد بن عبد الواحد الغافقي، وهو من أكبر الكتب المصنّفة في فضائل القرآن لكنّه لم ينقّحه فوقع فيه غثّ كثير.
15. والوجيز في فضائل الكتاب العزيز للقرطبي.
16. وقاعدة في فضائل القرآن لابن تيمية.
17. وفضائل القرآن لابن كثير، وهو جزء من مقدّمة تفسيره.
18. ومورد الظمآن إلى معرفة فضائل القرآن لابن رجب الحنبلي.
19. وهبة الرحمن الرحيم من جنة النعيم في فضائل القرآن الكريم لمحمد هاشم السندي
20. وكتاب فضائل القرآن لمحمّد بن عبد الوهاب.
21. وموسوعة فضائل سور وآيات القرآن لمحمد بن رزق الطرهوني.
وبعض هذه المصنّفات أجزاء من كتب الحديث، وقد اعتنى بها شرّاح الأحاديث فيما يشرحون من كتبه، ومنهم من يتوسّع في شرحه ومنهم من يختصر، ولذلك تجد لكتاب فضائل القرآن من صحيح البخاري شروحاً كثيرة لو جُمعت وأفردت في مؤلف لكان في مجلَّدات.
وللمفسّرين عناية ببيان فضائل القرآن في مقدّمات تفاسيرهم، وفيما يفسّرون من الآيات الدالّة على فضل القرآن.
ومن العلماء من أفرد فضائل بعض السور والآيات بمصنفات مستقلة). [بيان فضل القرآن:12 - 14]

جمهرة علوم القرآن
20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 09:25 PM
المقدّمة الرابعة: التعريف بطرق العلماء في التأليف في فضائل القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدّمة الرابعة: التعريف بطرق العلماء في التأليف في فضائل القرآن
كان بيان فضائل القرآن في أوّل الأمر قائماً على تفسير الآيات الدالة على فضل القرآن، ورواية الأحاديث والآثار الواردة في ذلك.
ثم لمّا بدأ عصر التدوين اعتنى بعض العلماء بتدوين ما روي في فضائل القرآن؛ وكان التأليف فيه على أنواع:
النوع الأول: رواية الأحاديث والآثار الواردة في فضائل القرآن بالأسانيد وضمّها إلى دواوين السنة؛ كما فعل البخاري ومسلم وابن أبي شيبة والترمذي.
والنوع الثاني: إفراد فضائل القرآن بالتأليف المستقلّ؛ ورواية ما ورد فيه من الأحاديث والآثار بالأسانيد؛ كما فعل أبو عبيد القاسم بن سلام والنسائي وابن الضريس والفريابي وأبو الفضل الرازي.
والنوع الثالث: جمع ما رواه الأئمة وتصنيفه على الأبواب، وحذف الأسانيد اختصاراً كما فعل ابن الأثير في جامع الأصول، وابن حجر في المطالب العالية، والغافقي في كتابه الكبير في فضائل القرآن.
والنوع الرابع: التصنيف المقتصر على بعض الأبواب المهمّة وترجمتها بما يبيّن مقاصدها وفقهها، كما فعل شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهاب في تأليفه المختصر في ذلك.
والنوع الخامس: التنبيه على بعض مباحث فضائل القرآن كما فعل كثير من المفسّرين في مقدّمات تفاسيرهم، وكما أفرد ابن تيمية رسالة لبيان قاعدة في فضائل القرآن.
والنوع السادس: إفراد فضائل بعض الآيات والسور بالتأليف كما أفرد أبو محمد الخلال جزءاً في فضائل سورة الإخلاص.
والنوع السابع: شرح معاني الآيات والأحاديث والآثار الواردة في فضائل القرآن كما فعل كثير من شرّاح الأحاديث.
والنوع الثامن: عقد فصول في بعض الكتب لبيان بعض فضائل القرآن، كما فعل ابن تيمية في عدد من رسائله، وابن القيّم في كتاب الفوائد وطريق الهجرتين ومدارج السالكين، وابن رجب، والسيوطي، وغيرهم من العلماء). [بيان فضل القرآن:14 - 15]

جمهرة علوم القرآن
20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 10:58 PM
المقدّمة الخامسة: مباحث علم فضائل القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدّمة الخامسة: مباحث علم فضائل القرآن
كلام العلماء في فضائل القرآن يمكن تصنيفه إلى أنواع يحصل بجمعها تكامل حسن للمادّة العلمية في هذا العلم الجليل، ومن تلك الأنواع:
1. بيان معاني أسماء القرآن وصفاته الواردة في القرآن، وهذا النوع إذا أحسن جمع مادّته وتحرير القول فيه من أحسن المداخل لبيان فضائل القرآن لأنّه مبني على تدبّر ما وصف الله به كتابه، وتأمّل معاني تلك الصفات وآثارها ومقتضياتها.
2. جمع الأحاديث والآثار المروية في فضائل القرآن.
3. بيان فضل تلاوة القرآن وفضل اتّباع هداه.
4. بيان فضل أهل القرآن، وهو فرع عن فضل القرآن؛ لأنّهم إنما شرفوا بسببه.
5. بيان فضل تعلّم القرآن وتعليمه.
6. فضائل بعض الآيات والسور.
7. تفاضل آيات القرآن وسوره.
8. بيان خواصّ القرآن). [بيان فضل القرآن:16]

جمهرة علوم القرآن
20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 11:31 PM
المقدّمة السادسة: بيان سبب كثرة الأحاديث الضعيفة في فضائل القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدّمة السادسة: بيان سبب كثرة الأحاديث الضعيفة في فضائل القرآن
مما ينبغي التنبّه له ما شاع من مرويات ضعيفة في فضائل القرآن، حتى ربما كان رواجها أشهر لدى كثير من العامة من بعض ما صحّ من الأحاديث والآثار.
وكان من أسباب شيوع تلك المرويات الضعيفة والواهية تهاون بعض القُصّاص والوعّاظ في الرواية في هذا الباب، ورواية بعضهم بالمعنى بتصرّف مخلّ، وتساهل في الرواية عن بعض المتّهمين وشديدي الضعف، وغالب تلك المرويات مما يكون معناه مقبولا عند العامة؛ فيروج لمحبّتهم للقرآن، ورغبتهم في الأجر بنشر ما يحثّ على العناية به؛ حتى وصل الأمر ببعضهم إلى إشاعة الموضوعات في هذا الباب من غير تمييز.
ولأجل شهرة بعض القصّاص وعنايتهم برواية الأحاديث بالأسانيد أخذ عنهم بعض من لم يشترط الصحّة من المصنّفين من غير تمييز ولا بيان لضعف حالهم، بل ربّما ظنّه بعضهم صحيحاً.
وقد اختلفت مقامات العلماء المصنّفين وأوجه عنايتهم في التأليف في فضائل القرآن؛ فكان منهم من يشترط الصحّة فيما يرويه؛ كالبخاري ومسلم فيما رويا من أحاديث فضائل القرآن في صحيحيهما؛ فهؤلاء قد اتّقوا تلك المرويات وصانوا كتبهم عنها.
وكان منهم من يروي ما فيه ضعف محتمل كالنسائي وابن أبي شيبة والترمذي على تفاوت بينهم في ذلك.
وكان منهم من انصرفت همّته لجمع ما روي في هذا الباب فوقع في مصنّفاته مرويات واهية كما في فضائل القرآن لابن الضريس والفريابي، وكما في كتاب الغافقي الذي جمع فيه فأكثر ولم يميّز الغثّ من السمين.
وسنفرد باباً بإذن الله تعالى للتنبيه على بعض ما شاع من المرويات الضعيفة في فضائل القرآن). [بيان فضل القرآن:16 - 17]

جمهرة علوم القرآن
20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 11:36 PM
المقدّمة السابعة: بيان درجات المرويات الضعيفة في فضائل القرآن


قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدّمة السابعة: بيان درجات المرويات الضعيفة في فضائل القرآن
والمرويّات الضعيفة في فضائل القرآن على درجات:
الدرجة الأولى: المرويات التي يكون الضعف فيها محتملاً للتقوية، لعدم وجود راوٍ متّهم أو شديد الضعف في إسنادها، أو لكونها من المراسيل الجياد، أو الانقطاع فيها مظنون، ويكون معناها غير منكر في نفسه ولا مخالف للأحاديث الصحيحة؛ فمرويات هذه الدرجة قد رأى بعض العلماء روايتها والتحديث بها، بل رأى بعضهم العمل بها.
والدرجة الثانية: المرويات التي في إسنادها ضعف شديد، وليس في معناها ما ينكر من حيث الأصل، وربّما كان في بعضها ما يتوقّف فيه؛ فهذا النوع قد تساهل فيه بعض المصنّفين، وهو أكثر المرويات الضعيفة في هذا الباب.
والدرجة الثالثة: المرويات الضعيفة التي في معناها ما ينكر؛ إما لتضمّنها خطأ في نفسها أو لمخالفتها للأحاديث الصحيحة الثابتة، سواء أكان الإسناد شديد الضعف أو كان ضعفه مقارباً؛ لأنّ النكارة علّة كافية في ردّ المرويات.
والدرجة الرابعة: الأخبار الموضوعة التي تلوح عليها أمارات الوضع). [بيان فضل القرآن:18]

جمهرة علوم القرآن
20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 11:41 PM
المقدّمة الثامنة: بيان الحاجة إلى تجديد وسائل النشر لعلم فضائل القرآن


قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المقدّمة الثامنة: بيان الحاجة إلى تجديد وسائل النشر لعلم فضائل القرآن
علم فضائل القرآن من العلوم التي تمسّ الحاجة إلى تحرير القول فيها وإحسان بيانها، والدعوة إلى الله تعالى ببيان فضائل كتابه من أعظم مجالات الدعوة نفعاً، وأحسنها أثراً، إذا أحسن الداعية طريقة بيان فضل القرآن، وأحسن الدعوة إلى تلاوته وتدبّره واتّباع هداه.
وكم أسلم من كافر كان عنيداً شديد العداوة للإسلام بعد قراءته ما عرّفه فضل القرآن، ومنهم من يُترجم له بعض ذلك فيقرأ ويتأثر ويسلم بسببه، وكم من غافل ذُكّر بفضل القرآن فتذكّر وأقبل على تلاوته وتدبّره فنفعه الله به.
وإن كان العلماء السابقين قد بذلوا في عصورهم ما أمكنهم من الوسائل لبيان فضائل القرآن والدعوة إليه تأليفاً وتدريساً ورواية وموعظة؛ فالحاجة في هذا العصر الذي يشهد توسّعا مذهلاً في وسائل النشر تقتضي من طلاب العلم الصادقين العناية بهذا الأمر، والإسهام بما يستطيعون بنشر ما أمكنهم في وسائل التواصل الاجتماعي وقوائم البريد الإلكترونية وفي المواقع والمنتديات، وطباعة الكتاب والرسائل والمطويات، وإنتاج المقاطع الصوتية والمرئية، وترجمة المقالات والكلمات إلى لغات متعددة، ونشرها بالوسائل المتاحة، وكلّ ذلك من أبواب الخير العظيمة التي ينبغي لكلّ طالب علم أن يكون له إسهام فيها.

لكن يجب أن يُتنبّه إلى العناية بأمرين مهمّين:
أحدهما: التوثّق من صحّة ما ينشر، وأن لا يعجل بنشر شيء قبل أن يطمئنّ لصحّته.
والأمر الآخر: مراعاة الحكمة وحسن الأسلوب في التحرير والنشر.
وذلك لأجل أن يكون ما ينشره صحيحاً متقناً، والله تعالى قد كتب الإحسان في كلّ شيء، فما بالكم بأمر الإحسان في بيان فضل كتابه العظيم.
والناس يتفاوتون فيما يفتح الله به عليهم وما يمكّنهم منه وما يهبهم من القدرات والملكات؛ فمنهم من يحسن التأليف والتحرير، ومنهم من يحسن الترجمة، ومنهم من يحسن الإخراج والتصميم، ومنهم من يحسن النشر، ولو قام كلّ واحد بما يحسن وأفاد أهل لسانه؛ لأثمر ذلك - بإذن الله تعالى - دعوة مباركة طيّبة إلى كتاب الله تعالى، وتعريف أمم الأرض به، وبيان محاسنه وفضائله لهم). [بيان فضل القرآن:19 - 20]

جمهرة علوم القرآن
20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 11:47 PM
الباب الثاني: شرح معاني أسماء القرآن وصفاته

شرح معاني أسماء القرآن وصفاته

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (شرح معاني أسماء القرآن وصفاته
من دلائل فضل القرآن الكريم تعدّد أسمائه وصفاته، وتلك الأسماء والصفات دالة على معانٍ جليلة وآثار عظيمة مباركة يتبيّن للمتأمّل فيها دلائل فضل القرآن العظيم، وعظم شأنه.
فأمّا أسماؤه فهي أسماء متضمّنة لصفات لها آثارها التي لا تتخلف عنها، فليست أعلاماً محضة موضوعة للتعريف المجرّد، وإنما هي أعلام ذات أوصاف مقصودة، ودلائل بيّنة). [بيان فضل القرآن:21]

جمهرة علوم القرآن
20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 11:53 PM
أسماء القرآن:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أسماء القرآن:
وهي أربعة أسماء: القرآن والفرقان والكتاب والذكر.
- قال ابن جرير الطبري: (إن الله عز وجل سمى تنزيله الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أسماء أربعة).
ثم ذكر الأسماء المتقدمة بأدلتها.
- وقال أبو إسحاق الزجاج: (يُسمَّى كلام الله الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم كتابا، وقرآنا، وفرقانا، وذكراً).
- وقال ابن عطية في مقدمة تفسيره: (باب في تفسير أسماء القرآن وذكر السورة والآية، هو القرآن وهو الكتاب وهو الفرقان وهو الذكر).

وأما صفات القرآن فكثيرة جليلة جامعة لمعان عظيمة؛ فوصفه الله بأنه عليٌّ حكيم، ومجيد وكريم، وعزيز وعظيم، ومبارك وقيم، وأنه ذِكْرٌ وذكرى، وهدى وبشرى، وتذكرة وموعظة، وبصائر ورحمة، ونور وبيان، وشفاء وفرقان إلى غير ذلك من صفاته الجليلة العظيمة). [بيان فضل القآن:21 - 22]

جمهرة علوم القرآن
20 محرم 1439هـ/10-10-2017م, 11:59 PM
الفرق بين الإسم والصفة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الفرق بين الإسم والصفة
والفرق بين الاسم والصفة: أن الاسم يصح أن يطلق مفرداً معرّفاً كما قال الله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} ، وقال: {تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده}، وقال: {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب} وقال: {إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز}.
وأما الصفات فهي لازمة للموصوف الظاهر أو المقدّر؛ فلا تدلّ الصفة بمجرّدها على الموصوف إلا أن يكون مذكوراً ظاهراً أو معروفاً مقدّراً:
- فالظاهر كقوله تعالى: {إنه لقرآن كريم}، {والقرآن المجيد}؛ فإذا أفردت الصفة عن الموصوف؛ فقلت: "الكريم" و"المجيد" انصرف المعنى إلى ما هو أقرب إلى الذهن.
- والمقدّر نحو قوله تعالى: {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} على القول بأن مرجع اسم الإشارة إلى القرآن وهو أحد القولين في هذه الآية.
ومن الفروق بين الاسم والصفة أن الصفة غير المختصة تحتاج إلى تعريف لتتضح دلالتها على الموصوف بخلاف الأسماء التي جعلت أعلاماً على المراد.
فقوله تعالى: {فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا} وصف النور بما يدلّ على أنّ المراد به القرآن، ولو أفرد لفظ "النور" وعزل عن هذا السياق إلى سياق آخر لانصرف المعنى إلى ما هو أقرب إلى الذهن.
وقد توسّع بعض العلماء في تعداد أسماء القرآن؛ فعدّوا صفاته من أسمائه، واشتقّوا له أسماء من بعض ما أخبر الله به عنه، وهو خطأ بيّن.
قال الزركشي: (وقد صنف في ذلك الحرالي جزءا وأنهى أساميه إلى نيف وتسعين وقال القاضي أبو المعالي عزيزي بن عبد الملك رحمه الله اعلم أن الله تعالى سمى القرآن بخمسة وخمسين اسماً).
وزعم الفيروزآبادي أن للقرآن مائة اسم وعدّ نيّفا وتسعين اسما منها، وفي كثير منها تكلّف لا يصحّ؛ حتى عدّ في أسمائه: النجوم والنعمة والثقيل والمثبّت والمرتَّل والتفسير.
وأكابر العلماء يفرّقون بين الأسماء والصفات والأخبار.

والأسماء المتضمّنة للصفات يصحّ اعتبارها أسماء ويصح اعتبارها أوصافاً؛ فتقول: إن الفرقان من أسماء القرآن، وتقول: إن من صفات القرآن أنه فرقان.

والتفكر في معاني أسماء القرآن وصفاته، وتأمّل دلائلها العظيمة، وآثارها المباركة يفتح للمؤمن أبواباً من اليقين النافع الذي يجد أثره في قلبه ونفسه، ويعرّفه بفضله وعُلُوِّ قَدْرِهِ وَعِظَمِ شأنه، ويرغّبه في تلاوته وتدبّره واتّباع هداه). [بيان فضل القرآن:22 - 23]

جمهرة علوم القرآن
21 محرم 1439هـ/11-10-2017م, 12:04 AM
فصل في شرح معاني أسماء القرآن

معنى اسم "القرآن"

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى اسم "القرآن"
فمن أسمائه القرآن، وهو أصل أسمائه وأشهرها، وسمّي قرآناً لأنّه الكتاب الذي اتّخذ للقراءة الكثيرة التي لا يبلغها كتاب غيره.
وقد اختلف العلماء في اشتقاق لفظ "القرآن" على قولين:
القول الأول: أنه علم جامد غير مشتق، وهو قول الشافعي وجماعة من العلماء، وكان الشافعي ينطق اسم القرآن بغير همز "القُران" وهي قراءة ابن كثير المكّي.
وقد روى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه كان يقول: (القُرَان اسم وليس بمهموز، ولم يؤخذ من قرأت، ولكنه اسم لكتاب الله، مثل التوراة والإنجيل).
والقول الثاني: أنه مشتق، واختلف في أصل اشتقاقه على ثلاثة أقوال:
- أحدها: أنه مشتق من القراءة التي هي بمعنى التلاوة، تقول: قرأت قراءة وقرآنا، قال الله تعالى: {فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه}.
وقال حسان بن ثابت في رثاء عثمان بن عفان:
ضحّوا بأشمط عنوان السجود به .. يقطّع الليل تسبيحا وقرآنا
أي قراءة، وهذا القول قال به ابن جرير الطبري، وأسند معناه إلى ابن عباس، ورجّحه ابن عطية.
وعلى هذا القول يكون القرآن بمعنى المقروء، تسمية للمفعول بمصدره.
- والقول الثاني: أنه مشتقّ من الجمْعِ، وهو مروي عن قتادة، وقال به أبو عبيدة والزجاج وجماعة من العلماء، واحتجوا بقول عمرو بن كلثوم:
ذراعي عيطل أدماء بكر .. هجان اللون لم تقرأ جنينا
قالوا: أي: لم تضمّ في رحمها ولداً.
قال أبو عبيدة: (وإنما سمّى قرآنا لأنه يجمع السور فيضمها).
- والقول الثالث: أنه مشتق من الإظهار والبيان، وأن القراءة إنما سمّيت قراءة لما فيها من إظهار الحروف، وبيان ما في الكتاب، وقد قال بهذا القول قطرب، وفسّر قول عمرو بن كلثوم: (لم تقرأ جنينا) بالولادة؛ أي لم تُلْقِ من رحمها ولداً، وأرجع المعنى إلى أصل الإظهار والبيان.
قال قطرب فيما ذكره عنه أبو منصور الأزهري في الزاهر: (إنما سُمي القرآن قرآناً، لأن القارئ يُظهره ويبيّنه، ويلقيه من فيه).

وأرجح الأقوال أنه مشتق من القراءة، وأنه سمّي قرآنا لأنّه كتابٌ اتُّخذَ للقراءة الكثيرة التي لا يبلغها كتاب غيره، ويدلّ على ذلك بناء الاسم على صيغة "فُعْلان" التي تدلّ على بلوغ الغاية، كسُبحان وحُسبان وغُفران وشُكران، مع ما دلّ عليه قول الله تعالى: {حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3)}
وقال تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ}.
والقُرآن والقُرَان بمعنى واحد، وإنما هما لغتان إحداهما بالهمز، والأخرى بالنقل والتسهيل.
قال ابن عاشور: (اتفق أكثر القراء على قراءة لفظ "قرآن" مهموزاً حيثما وقع في التنزيل، ولم يخالفهم إلا ابن كثير قرأه بفتح الراء بعدها ألف على لغة تخفيف المهموز، وهي لغة حجازية، والأصل توافق القراءات في مدلول اللفظ المختلف في قراءته).
وذهب علم الدين السخاوي إلى أنّ "قُران" مشتقّ من "قَرَنْتُ" بمعنى الجمع، وذهب بعضهم إلى أنّه اسم جمع، والصواب ما تقدّم). [بيان فضل القرآن:24 - 26]

جمهرة علوم القرآن
21 محرم 1439هـ/11-10-2017م, 12:08 AM
معنى اسم "الكتاب"

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى اسم "الكتاب"
وأما تسميته بالكتاب؛ فلأنّه مكتوب، أي مجموع في صحف، قال الله تعالى: {ذلك الكتاب لا ريب فيه}، وقال تعالى: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم . نزّل عليك الكتاب بالحق}، وقال: {حم والكتاب المبين}.
واللام في هذه المواضع للعهد الذهني الذي يجعل القرآن أولى به مما سواه عند الإطلاق.
ويطلق لفظ "الكتاب" أحيانا على كلّ ما أنزله الله من الكتب، فيكون التعريف فيه للجنس المخصوص؛ كما قال الله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)}
وقال تعالى: { هَاأَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ..}
ويطلق أحيانا على التوراة والإنجيل خاصّة؛ كما في قول الله تعالى: { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} وقوله: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ}.
وله إطلاقات أخرى بحسب السياق.
والكتاب "فِعال" بمعنى "مفعول" أي "مكتوب"؛ واشتقاقه من الجمع والضم على قول كثير من العلماء.
قال بعضهم: إن الكتاب سمّي كتاباً لجمعه الأحرف وضمّها؛ كما سمّيت الكتيبة كتيبة لضمّها الجنود المقاتلين.
وهذا في تسمية جنس الكتب بذلك.
وأمّا تسمية القرآن بالكتاب؛ فالأظهر أنه سمّي بذلك للدلالة على جمعه ما يُحتاج فيه إلى بيان الهدى في جميع شؤون العباد؛ فجمع الأحكام والحكمة والآداب والبصائر والمواعظ والهدى وما تقوم به مصالح دينهم ودنياهم.
ومما يدلّ على هذا المعنى أنّ الله تعالى وصفه بالكتاب المبين، وحذف متعلّق البيان لإفادة العموم). [بيان فضل القرآن:26 - 27]

جمهرة علوم القرآن
21 محرم 1439هـ/11-10-2017م, 12:11 AM
معنى اسم"الفرقان"

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى اسم"الفرقان"
وأما تسميته بالفرقان؛ فلأنّه فرقان بين الحقّ والباطل؛ وبين سبيل المؤمنين وسبل الفاسقين من الكفار والمنافقين.
والفُرْقَان مصدر مفخّم للدلالة على بلوغ الغاية في التفريق وبيان الفَرْق، وأوجه التفريق القرآني كثيرة متنوّعة.
قال ابن جرير الطبري: (وأصل "الفرقان" عندنا: الفرق بين الشيئين والفصل بينهما. وقد يكون ذلك بقضاء، واستنقاذ، وإظهار حجة، ونصر وغير ذلك من المعاني المفرّقة بين المحق والمبطل؛ فقد تبين بذلك أن القرآن سمي "فرقانا"، لفصله -بحججه وأدلته وحدود فرائضه وسائر معاني حكمه- بين المحق والمبطل. وفرقانه بينهما: بنصره المحق، وتخذيله المبطل، حكما وقضاء)ا.هـ.

وفرقان القرآن عامّ في الدنيا والآخرة:
فهو في الدنيا فرقان بين الحق والباطل؛ يعرّف بالحقّ ويبيّن أدلته، وصفات أهله، وآدابهم وأحكامهم وجزاءهم، ويعرّف بالباطل ويبيّن سبله ويبيّن بطلانه، ويعرّف بصفات أهله وعلاماتهم وجزاءهم في الدنيا والآخرة.
وهو فرقان للمؤمن المتّقي يكشف له ما يلتبس عليه في أمور دينه ودنياه، فقد يشتبه على المرء أمران ويعتلجان في صدره لاشتباههما والتباس بعضهما ببعض؛ فلا يطمئنّ حتى يتبصّر بالتفريق بينهما؛ ويكون على بيّنة من أمره؛ كما قال مسكين بن عامر الدارمي:
يا رُبَّ أمرين قد فرّقت بينهما .. من بعد ما اشتبها في الصدر واعتلجا
أُديم ودي لمن دامت مودّته .. وأمزج الودَّ أحياناً لمن مزجا
والمقصود أنّ القرآن فيه فرقان للمؤمن في تلك الأمور التي تعتلج في الصدر وتشتبه في ظاهر الأمر.
وهو فرقان لأنّه يفرق صاحبه بما يرشده به إلى صراط الله المستقيم عن مشابهة المغضوب عليهم والضالين في أعمالهم وأقوالهم وأحوالهم وعاقبتهم؛ فيهدي صاحبه إلى الهدى الأقوم الذي يصلح به شانه، وينال به الكفاية من ربّه، وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة.

وهو في الآخرة فرقان مبين يفرّق بين أتباعه ومخالفيه؛ فيشفع لمن آمن به واتّبع هداه ويحاجّ عنه ويظلّه في الموقف العظيم، ويمحل بمن كفر به وخالف هداه واشترى به ثمناً قليلاً). [بيان فضل القرآن:27 - 29]

جمهرة علوم القرآن
21 محرم 1439هـ/11-10-2017م, 12:15 AM
معنى اسم "الذكر"


قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى اسم "الذكر"
وأما تسميته بالذكر وذي الذكر؛ فقد وردت في مواضع من القرآن منها قول الله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم ولعلهم يتفكرون} ، وقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
ونسبه إليه نسبة تشريف وتعظيم فقال: {بل هم في شكّ من ذكري}.
وسمّاه بذي الذكر في قوله تعالى: {ص . والقرآن ذي الذكر}.
وللذكر هنا معنيان:
أحدهما: بمعنى التذكير.
والآخر: بمعنى المذكور.

فأما المعنى الأول: فالدلالة عليه ظاهرة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم؛ بل هو من أعظم مقاصد إنزاله كما قال الله تعالى: {طه . ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى . إلا تذكرة لمن يخشى} وقال: {كلا إنّه تذكرة}
فسمّي بالذكر على هذا المعنى لكثرة تذكيره وحسنه؛ فهو يذكّر العبد بربّه جلّ وعلا، ويذكّره بسبيل سعادته وفوزه برضوان ربّه تعالى وعظيم فضله وثوابه، ويذكّره بما يجب عليه أن يتجنّبه ليتّقي سخطه وعقابه؛ ويذكّره بما ينفعه في دينه دنياه وآخرته من أنواع الذكرى الكثيرة والمتنوّعة والمحكمة.
وقد وصف الله تذكيره بالإحكام والدلالة على الحكمة؛ كما قال الله تعالى: {ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم}؛ فهو ذِكْرٌ حكيمٌ مَن اتّبعه هداه إلى الصراط المستقيم؛ كما قال الله تعالى: { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)}
ومن أعرض عنه فقد خسر وغُبن، إذ فاته الفضل العظيم والثواب الكريم، وباء بالخسران والحرمان، والذلّ والهوان، والعذاب الأليم والخزي العظيم؛ كما بيّن الله ذلك بقوله: { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَاوَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)}
وقال تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)}

والمعنى الثاني: الذكر بمعنى المذكور أي الذي له الذكر الحسن، والشرف الرفيع، والمكانة العالية.
قال الله تعالى: {وإنّه لذكر لك ولقومك}، وقال تعالى: {والقرآن ذي الذكر}.
قال ابن عباس وسعيد بن جبير وغيرهما: ذي الشَّرَف.
ومن آثار هذا المعنى أن القرآن يرفع أصحابه ويجعل لهم ذكراً؛ فإنّ تشرّفهم به ورفعتهم به أثر من آثار شرفه هو ورفعته). [بيان فضل القرآن:29 - 30]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:06 AM
فصل في شرح معاني صفات القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فصل في شرح معاني صفات القرآن
وأما صفات القرآن التي وصفه الله بها في كتابه العظيم فهي صفات جليلة بديعة جامعة لمعانٍ عظيمة من تأمّلها حقّ التأمّل أيقن بعظمة هذا القرآن، وعظمة صفاته وآثاره في الدنيا والآخرة.
وسأوجز الحديث في بيان معانيها وسعة دلائلها وجلالة آثارها ليستدلّ الموفّق اللبيب بما ذُكِرَ على عظمة ما لم يُذكر، ويعذرَ المتحدّثَ في تقصيره وقصوره عن بلوغ ما يستحقّه هذا القرآن العظيم من حسن التعريف بصفاته وبيان عظم شأنها وعلوّ قدرها ولطائف إشاراتها). [بيان فضل القرآن:31]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:09 AM
وصفه بأنه عليٌّ

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أما وصفه بأنه عليٌّ
فقد ورد في قول الله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}وهذا الوصف يشمل علوَّ قدره ومنزلته، وعلو صفاته، وتنزهه عن الباطل والاختلاف والتناقض والضعف وسائر ما لا يليق بكلام الله تعالى من أوصاف النقص، وهذا الوصف له ما يقتضيه كما قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}، قال: بَـيَّنَ شرفَه في الملأ الأعلى، ليشرِّفَه ويعظِّمَه ويطيعَه أهلُ الأرض)). [بيان فضل القرآن:31]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:13 AM
وصفه بأنه حكيم

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنه حكيم
وأما وصفه بأنه حكيم؛ فيتضمن ثلاثة معانٍ:
أحدها:أنه مُحكم لا اختلاف فيه ولا تناقض كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}وقال: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}.
والثاني:أنه حكيم بمعنى حاكم على الناس في جميع شؤونهم شاؤوا أم أبوا، أما المنقادون لحكمه الشرعي فيجدون فيه بيان الحق فيما اختلفوا فيه، وأما المعرضون ففيه بيان ما يصيبهم من الجزاء النافذ فيهم في الدنيا والآخرة.
وهو -كذلك - حاكم على ما قبله من الكتب ومهيمن عليها وناسخ لها وشاهد بصدق ما أنزل الله فيها كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}
وهو حاكم فيما اختلف فيه أهل الكتاب قبلنا كما قال تعالى: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}، وقال: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}.
والمعنى الثالث:أنه ذو الحكمة البالغة، كما قال تعالى: {ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ}، وقد جمع الله فيه من جوامع الكلم المبينة لأصول الدين وفروضه وآدابه ومحاسن الأخلاق والمواعظ والحقوق والواجبات والأمثال والقصص الحكيمة ما لا يوجد في كتاب غيره فمن أخذها وعمل بها فقد أخذ الحكمة من أعظم مصادرها وأقربها وأيسرها، وفي تفسير قول الله تعالى:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}
قال أبو الدرداء في تفسير الحكمة: (قراءة القرآن والفكرة فيه) رواه ابن ابي حاتم.
وقال ابن عباس: (يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال قتادة: (الحكمة: الفقه في القرآن). رواه ابن جرير
وروي نحوه عن مجاهد وأبي العالية الرياحي ومقاتل بن حيان.
وروي عن غيرهم أوجهاً أخرى في تفسير الحكمة لا تعارض ما سبق لأن أصل الحكمة ومجامعها في القرآن الحكيم ). [بيان فضل القرآن:32 - 33]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:15 AM
وصفه بأنه مجيد

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنه مجيد
وأما وصفه بأنه مجيد؛ فيتضمن معنيين:
-أحدهما:أنه المُمَجَّد أي الذي له صفات المجد والعظمة والجلال التي لا يدانيها أي كلام ، المتنزه عما يقوله الجاهلون مما لا يليق به كدعوى بعض الكفار أنه سحر أو شعر أو من كلام البشر.
وذلك أن وصف المجد في اللغة يستلزم عدداً من صفات الكمال والجلال والعظمة التي يكون بها الموصوف مجيداً.
فكل صفة عظيمة يوصف بها القرآن هي من دلائل مجده.
- والمعنى الآخر:أنه الممجِّد لمن آمن به وعمل بهديه؛ فيكون لأصحاب القرآن من المجد والعظمة والعزة والرفعة في الدنيا والآخرة ما لا ينالونه بغيره أبداً كما في صحيح مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين))
- قال الشافعي رحمه الله : (من قرأ القرآن عظمت قيمته).
- ولا تجد كتاباً يعظِّمُ تاليه كما يعظِّم القرآن أصحابَه ويشرفهم ويكرمهم ويعلي منزلتهم.
روى الإمام أحمد والنسائي وجماعة من أهل الحديث بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن بديل بن ميسرة ، عن أبيه ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لله عز وجل أهلين من الناس »
قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟
قال :« أهل القرآن ؛ أهل الله وخاصته ».
فأضافهم الله إلى كتابه وأضافه إلى نفسه جل وعلا، وسماهم أهله وهل شرف يداني هذا الشرف؟!، وهل مجد فوق هذا المجد؟!
وما ظنك بإكرام الله لأهله؟!). [بيان فضل القرآن:33 - 34]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:18 AM
وصفه بأنه عزيز

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنه عزيز
وأما وصفه بأنه عزيز؛ فيتضمن عِزَّةَ القَدْرِ وَعِزَّة الغَلَبة وعزَّة الامتناع:
- فأما عزة القَدْرِ فلأنه أفضلُ الكلام وأحسنُه، يعلو ولا يعلى عليه ، ويَحْكُم ولا يُحْكَم عليه، يغيِّر الدُّوَلَ والأحوال ولا يتغير.
قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}وفي مسند الإمام أحمد من حديث جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد )).
وهو عزيز القدر عند الله، وعند الملائكة، وعند المؤمنين.
قال أبو المظفر السمعاني: ({وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}أي: كريم على الله ). وروي ذلك عن ابن عباس.
- وأما عزة قدره عند المؤمنين فبينة ظاهرة ، ولا توجد أمة من الأمم تعتني بكتابها وتجله كما يجلّ المسلمون القرآن حتى إنهم من إجلالهم للقرآن لَيُجِلُّون حامل القرآن كما في سنن أبي داوود من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط )).
وهذا كله من عزَّةِ قَدْرِه.
- وأما عزة غلبته فلأن حججه غالبة دامغة لكل باطل كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ}وحجج القرآن أحسن الحجج وأبينها وأبعدها عن التكلف والتعقيد وأقربها إلى الفطرة الصحيحة والعقل الصريح وأعظمها ثمرة وفائدة، مَنْ عقلها تبين له الهدى، واستبانت له سبل الضالين، ومَنْ حاجَّ بها غَلَب ، ومن غَالبها غُلِب.
ومن عزة غلبته أنه غلب فصحاء العرب وأساطين البلاغة فلم يقدروا على أن يأتوا بمثله، ولا بمثل سورة واحدة منه، وقد تحدى الله المشركين الذين يزعمون أنه من أساطير الأولين وأنه قول البشر أن يأتوا بسورة من مثله فلم يستطيعوا ولن يستطيعوا حتى أقروا بذلك وهم صاغرون كما قال الوليد بن المغيرة على كفره : (والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدِق، وإن أعلاه لمثمر، وما يقول هذا بشر) رواه البيهقي في دلائل النبوة.
- وأما عزة الامتناع فلأنَّ الله تعالى أعزَّه وحفظه حفظاً تاماً من وقت نزوله إلى حين يقبضه في آخر الزمان كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا تستطيعه الشياطين، ولا يمكن لكائد مهما بلغ كيده أن يبدله أو يحرفه أو يزيد فيه أو ينقص منه شيئاً.
فهو محفوظ من الشياطين، محفوظ من كيد الكائدين، لا يصيبه تبديل ولا تغيير، يُقرَأ على مرّ السنين والقرون كما أُنزل لا يُخْرَم منه حرف، ولا يبدل منه شيء). [بيان فضل القرآن:34 - 36]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:21 AM
وصفه بأنه كريم

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنه كريم
وأما وصفه بأنه كريم؛ فوصف له دلائله الباهرة ومعانيه الخفية والظاهرة فهو كريم على الله ، كريم على المؤمنين، كريم في لفظه، كريم في معانيه، مُكَرَّم عن كل سوء، مكرِّمٌ لأصحابه، كثير الخير والبركة، كريم لما يجري بسببه من الخير العظيم الذي لا يَقْدُرُ قَدْرَه إلا الله.
وتفصيل وصفه بالكرم يرجع إلى خمسة معان في لسان العرب؛ لكلّ معنى شواهده اللغوية الصحيحة:
المعنى الأول: كرَم الحُسْن، ومن ذلك قول الله تعالى: {فأنبتنا فيها من كل زوج كريم} وقوله: {وقلن حاشا لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم}، وقوله: {وقل لهما قولا كريما}.
والقرآن كريم بالغ الحسن في ألفاظه ومعانيه.
والمعنى الثاني: كَرَم القَدْرِ وعلوّ المنزلة، فتقول: فلان كريم عليّ، أي ذو قَدْر ومكانة عالية عندي.
ومن المحمول على إرادة معنى رفعة القَدْر - وإن كان على سبيل التهكّم - قوله تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}.
قال مجنون ليلى:
سقى بلدا أمست سليمى تحلّه .. من المزن ما تُروى به وتسيم
وإن لم أكن من ساكنيه فإنه .. يحلّ به شخص عليّ كريم
والمقصود أن القرآن كريمُ القَدْرِ عند الله تعالى، وعند المؤمنين، وبيان دلائل كَرَمِ قَدْرِهِ لو أفاض المتحدّث فيه لاستدعى ذلك منه سِفْراً كبيراً.
والمعنى الثالث: كَرم العطاء، وهو أشهر معانيه، حتى غلب على أفهام كثير من الناس فظنوه محصوراً فيه، وليس الأمر كذلك.
والقرآن كريم بهذا المعنى لكثرة ما يصيب تاليه من الخير والبركة بسببه، وكثرة ثواب تلاوته وحسن آثارها.
والمعنى الرابع: المكَرَّم عن كلّ سوء، وهو فرع عن كرم القَدْر، وأصله أن بناء فعيل يأتي في اللغة أحيانا على معنى المفعول؛ فيأتي الكريم بمعنى المكرَّم.
والمعنى الخامس: المكرِّم لغيره، وهو من آثار كرم العطاء وكرم الحسن وكرم القدْر، وأصله أن بناء فعيل يأتي في اللغة أحياناً على معنى الفاعل؛ فيأتي الكريم بمعنى المكرِّم.
وكلام المفسرين في معنى وصف القرآن بأنه كريم يدور حول هذه المعاني، وكل جملة من هذه الجمل لو تأمل الناظر دلائلها وآثارها لانفتح له من أبواب العلم والإيمان والفضل العظيم ما لا يكاد ينقضي منه العجب.
ولعل هذا يطلعك على بعض معاني القسم العظيم الجليل الذي أقسمه الله تعالى في سورة الواقعة إذ قال جلَّ وعلا: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ *وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}
فينبغي لكل مؤمن أن يستشعر عظمة هذا القَسَم، ويجتهد في إدراك نصيبه من هذا الكَرَم). [بيان فضل القرآن:36 - 38]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:24 AM
وصفه بأنه عظيم

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنه عظيم
وأما وصفه بأنه عظيم؛ فيتضمن عظمة قَدْرِهِ وَعَظَمَةَ صفاته.
فالقرآن عظيم القَدْرِ في الدنيا والآخرة:
فأما عظمة قدره في الدنيا فتتبين من وجوه كثيرة:
منها: أنه كلام الله تعالى.
ومنها: إقسام الله تعالى به.
ومنها: كثرة أسمائه وأوصافه الدالة على عظمة قدره.
ومنها: أنه حاكمٌ على ما قبله من الكتب، وناسخ لها، ومهيمن عليها.
ومنها: أنه فرقان بين الهدى والضلالة، والحقّ والباطل.
ومنها: أنه يهدي للتي هي أقوم.
ومنها: أنه مصدر الأحكام الشرعية التي بها قيام مصالح العباد، وإليها يتحاكمون في فضّ منازعاتهم وحلّ مشكلاتهم ومعضلاتهم.
ومنها: أن الله خصّه بأحكام في الشريعة تبيّن حرمته وجلالة شأنه.
والأوجه الدالة على بيان عظمة قدْره كثيرة جداً يتعذّر حصرها.
وأما عظمة قدره في الآخرة فمن دلائلها:
- أنه يظلّ صاحبه في الموقف العظيم.
- وأنه شافع مشفّع وماحل مصدّق.
- وأنه يحاجّ عن صاحبه ويشهد له.
- وأنه يرفع صاحبه درجات كثيرة.
- وأنه يثقّل ميزان أصحابه بكثرة ما يجدون من ثواب تلاوته.
وأمّا عظمة صفاته فبيانها من وجهين:
الوجه الأول: أن كلّ صفة وصف بها القرآن؛ فهو عظيم في تلك الصفة؛ فكرمه عظيم، وبركته عظيمة، ومجده عظيم، وعلوّه عظيم، ونوره عظيم، وهداه عظيم، وشفاؤه عظيم، وفرقانه عظيم إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته التي اتّصف في كلّ صفة منها بالعظمة فيها.
والوجه الثاني: أن كثرة أسمائه وصفاته العظيمة دليل آخر على عظمته). [بيان فضل القرآن:38 - 39]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:27 AM
وصفه بأنّه مبارَك

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنّه مبارَك
وأما وصفه بأنّه مبارَك؛ فقد ورد في مواضع من القرآن:
- منها قول الله تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)}
- وقوله تعالى: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}
- وقوله تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}
ومبارَك "اسم مفعول" يفيد أنَّ الذي باركه هو الله تعالى، ومعنى باركه أي أودع فيه البركة، وهي الخير الكثير المتزايد؛ فلا ينقص خيره، ولا يذهب نفعه، ولا تضعف ثمرته؛ بل خيره في ازدياد وتجدّد على مرّ القرون والأعصار.
وكون الذي باركه هو الله تعالى له آثار عظيمة على بركته؛ فهي بركة من العليم القدير الحكيم الواسع الأكرم؛ فاتّسعت بركته وعظمت، حتى كان مباركاً في كل شيء فلا يحرم بركته إلا شقيّ محروم.
وأنواع بركات القرآن كثيرة متنوّعة؛ فألفاظه مباركة، ومعانيه مباركة، ودلائله مباركة، وحيثما كان فهو مبارك لمن آمن به واتّبع هداه.
فمن بركاته: هداياته العظيمة التي يهدي بها للتي هي أقوم في كلّ شيء.
ومن بركاته: شفاؤه لما في الصدور، ولأدواء النفوس والأبدان.
ومن بركاته: كثرة ثواب تلاوته وتنوّعه.
ومن بركاته: ما يفيد من العلم والحكمة واليقين، والبصيرة في الدين.
ومن بركاته: ما يحصل به من جلاء الحزن، وذهاب الغم، ونور الصدر، وطمأنينة القلب، وسكينة النفس.
ومن بركاته: ما يكون لتاليه من زيادة الإيمان، وصلاح البال، وذهاب كيد الشيطان.
ومن بركاته: عِزّة أصحابه باتباعه، وثباتهم على الحق بتمسّكهم به، وتبصّرهم به في مواضع الفتن، وما يحصل لهم به من الفرقان العظيم بين الحق والباطل، والخروج من الظلمات إلى النور.
ومن بركاته: أنه يرفع أصحابه، ويكرمهم، ويكون لهم بسببه قَدْرٌ عظيم ومنزلة عالية.
ومن بركاته: أنه مبارك حيثما حَلّ؛ فالبيت الذي يُتلى فيه يكثر خيره ويتّسع بأهله، والصدر الذي يحفظه يتّسع وينفسح، والمجلس الذي يُتلى فيه تتنزّل عليه السكينة وتغشاه الرحمة وتحفّه الملائكة ويذكره الله فيمن عنده، حتى إن الوَرَق الذي يُكتب فيه لَيَكون له شأن عظيم بعد تضمّنه لآياته، وتكون له حرمته وأحكام الكثيرة في الشريعة.
وأما بركاته في الآخرة فبركات عظيمة جليلة، فهو مبارك على المؤمن في قبره، وفي الموقف العظيم، وفي الحساب، وفي الميزان، وفي الصراط، وعند ارتقائه في درجات الجنة). [بيان فضل القرآن:40 - 41]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:29 AM
وصفه بأنّه قيّم

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنّه قيّم
وأما وصفه بأنّه قيّم؛ فقد ورد في قول الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)}
وقوله تعالى: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3)}
ولوصفه بالقيّم ثلاثة معان:
أحدها: أنه مستقيم لا عوج فيه، ولا خلل، ولا تناقض، ولا تعارض، بل يصدّق بعضه بعضاً، ويبيّن بعضه بعضاً، يأتلف ولا يختلف، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم.
قال الأمين الشنقيطي: (أي لا اعوجاج فيه ألبتة، لا من جهة الألفاظ، ولا من جهة المعاني، أخباره كلها صدق، وأحكامه عدل، سالم من جميع العيوب في ألفاظه ومعانيه، وأخباره وأحكامه)ا.هـ.
والمعنى الثاني: أنه قيّم على ما قبله من الكتب ومهيمن عليها، وشاهد بصدق ما أنزل الله فيها.
والمعنى الثالث: أنه القيّم الذي به قَوَام أمور العباد وقيام مصالحهم وشرائعهم وأحكام عباداتهم ومعاملاتهم، ويهديهم للتي هي أقوم في جميع شؤونهم). [بيان فضل القرآن:42]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:32 AM
وصفه بأنّه بصائر

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنّه بصائر
وأما وصفه بأنّه بصائر، فقد ورد في قوله تعالى:{هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}، وقال تعالى: { هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وقال تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}
والبصائر جمع بصيرة، وهي معرفة حقيقة الأمر وعاقبته، ويتفرّع على هذه المعرفة تبيّن الصواب والخطأ فيما يقع في ذلك الأمر.
والبصيرة مفتاح الهداية، والنجاة من الغواية، وسبب الثبات على الحقّ، واجتناب الباطل، وأصلها ما ينعقد في القلب من صحّة المعرفة.
قال الخليل بن أحمد: (البصيرةُ اسمٌ لِما اعتُقِدَ في القلب من الدِّين وحَقيق الأمر).
وسمّي القرآن بصائر لأنّه يبصّر بالحقائق في كل ما يُحتاج إليه؛ فيبصّر بالحقّ ويبيّنه، ويبيّن حسن عاقبته وجزاء أهله، وما يعترضهم من الابتلاءات والفتن، ويبيّن لهم طريق النجاة وأسباب الهداية، ويبصّر بقبح الباطل وشؤمه، وسوء عاقبة أهله، وسبب اغترارهم به، وطرق نجاتهم منه قبل فوات الأوان.
ويبصّر المؤمن بكيد عدوّه المتربّص به، ومداخل تسلّطه عليه، وكيف يتّقي شرّه وينجو من كيده،
ويبصّر المؤمنين بأعدائهم من الكفار والمنافقين، وطرقهم في المكر والكيد والتضليل، ويبيّن لهم سبيل السلامة من شرّهم، وما يتحقّق لهم به النصر والتمكين إن تمسّكوا به.
ويبصّر المؤمن بحقيقة هذه الدنيا ومقاصد إيجادنا فيها، وما فيها من سنن الابتلاء.
ويبصّره بأدواء القلوب وعلل النفوس وأسباب شفائها وطهارتها وزكاتها.
ويبصّر بأحكام الدين وشرائعه، وما تصلح به شؤون العباد في دينهم ودنياهم.
ويبصّر السالك بما يتقرّب به إلى ربّه جلّ وعلا، وكيف ينال محبّته ورضوانه، وكيف يبلغ - في كلّ شأن من شؤونه - مرتبة الإحسان التي هي أعلى المراتب، وجزاؤها أحسن الجزاء، إلى غير ذلك من أنواع البصائر المباركة التي عمّت كلّ ما يحتاجه المؤمن من البيّنات والهدى.
وبصائر القرآن كالكنوز الكثيرة في البحر العظيم؛ كلما أقبل عليها مَن يعرف قدرها وتأمّلها وقلّب النظر فيها واكتسب منها ما اكتسب وجدها تكثر وتتسع وتتنوّع حتى يوقن بأنّه لا يحيط بها من كثرة أنواعها وبركاتها، ووجد في كلّ بحث وتأمّل ما يسرّه ويبهجه مما لا ينقضي من العجب.
وأما الكافر والمنافق فإنّه ربّما عرضت له البصيرة من القرآن في الشيء العظيم البيّن وعرفه ثمّ أنكره فحرم من بركات بصائر القرآن، كما حرم الذين من قبل وكانوا مستبصرين؛ فزاغوا بعدما عرفوا الحقّ، وحرموا التوفيق لتكذيبهم وإعراضهم، وصرفوا بما افتتنوا به عن التبصّر بما أنزل الله إليهم، قال الله تعالى: { وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38)}
وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102)}
وقال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)}
ولذلك اختلف العلماء في معنى البصيرة؛ فمنهم من فسّرها بالاعتبار وهداية التوفيق، ومنهم من فسّرها بهداية الدلالة والإرشاد.
والصواب أنّ البصيرة جامعة للمعنين فأصلها من هداية الدلالة والإرشاد فمن آمن بها وتبصّر بها ازداد هداية وتوفيقا لمزيد من التبصّر النافع حتى يورثه اليقين والإمامة في الدين.
ومن أعرض عما تقتضيه بصائر القرآن من العمل واتّباع الهدى والإقبال على تعرّف بصائر القرآن والانتفاع بها استحقّ العقاب على تولّيه وإعراضه بأن يحرم فهم القرآن والتبصّر به، ويشغله ما افتتن به من لهو الدنيا وغرور الأمنيات ووساوس الشيطان عن الانتفاع ببصائر القرآن وازدياد العلم بها.
وقد اجتمع المعنيان في قول الله تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}
فالمبصر هو المنتفع ببصائر القرآن التي تدلّ على الهدى وتعرّفه به، والعمي هو الذي عوقب بالعمى لتعاميه وشدّة نفوره عن التبصّر ببصائر القرآن.
قال ابن القيم رحمه الله: (قال ابن الأعرابي: "البصيرة الثبات في الدين"، وقيل: البصيرة العبرة، كما يقال: أليس لك في كذا بصيرة؟ أي: عبرة، قال الشاعر:
في الذاهبين الأوّلين ... من القرون لنا بصائر والتحقيق أنّ العبرة ثمرة البصيرة؛ فإذا تبصَّر اعتبر؛ فمن عدم العبرة فكأنَّه لا بصيرة له، وأصل اللفظ من الظهور والبيان؛ فالقرآن بصائر: أي أدلة وهدى وبيان يقود إلى الحق ويهدي إلى الرشد)ا.هـ). [بيان فضل القرآن:43 - 46]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:34 AM
وصفه بأنّه هدى

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنّه هدى
وأمّا وصفه بأنّه هدى؛ فقد ورد في مواضع كثيرة من القرآن؛ منها قوله تعالى في أوّل سورة البقرة؛ {ألم . ذلك الكتاب لا ريب فيه . هدى للمتّقين}.
ومجيء هذه الآية في أوّل المصحف بعد الفاتحة التي فيها سؤال الهداية تنبيه على تضمّن القرآن للهداية التي يسألها المؤمنون وترغيب في الاهتداء به.
وقال تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}
وقال: { وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
وقال: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}
وقال: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)}
وقال تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)}
فهداية القرآن هداية عظيمة في شمولها لجميع شؤون العباد، وفي كونها تهدي للتي هي أقوم في كلّ شأن.
وهداية القرآن على مرتبتين:
المرتبة الأولى: الهداية عامّة لجميع الناس؛ تدلّهم على الحق، وعلى صراط الله المستقيم؛ فيعرفون به ما يجب عليهم وما يحرم، ويتبيّنون به ما تقوم به الحجّة عليهم، وما ينذرون به إذا خالفوا هدى القرآن، وما يبشّرون به إذا اتّبعوا هداه.
كما قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)} وقال فيه: {هدى للناس}.
والمرتبة الثانية: الهداية الخاصّة للمؤمنين التي يوفّقون بها لفهم مراد الله تعالى، ولما يتقرّبون به إليه؛ فيزيدهم هدى إليه.
ومن اتّخذ القرآن دليلاً له إلى الله تعالى أبصر به السبيل الذي يقرّبه إليه ويوجب له محبته ورضوانه وفضله العظيم بما أوجبه الله على نفسه من ذلك.
كما قال الله تعالى: {إن هذه تذكرة فمن شاء اتّخذ إلى ربّه سبيلا}.
فمن اهتدى بالقرآن هداه الله، ومن تمسّك به عُصم من الضلالة.
وعن أبي شريح الخزاعي، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «أبشروا، أبشروا، أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟»
قالوا: نعم.
قال: «فإن هذا القرآن سبب طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا» رواه ابن أبي شيبة وابن حبان وصححه الألباني.
والسبب هو الحبل، وقد فسّر قول الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تفرّقوا} بالاعتصام بالقرآن.
قال عبد الله بن مسعود: (إن الصراط مُحتضَر تحضره الشياطين، ينادون: يا عبد الله، هلم هذا الطريق! ليصدوا عن سبيل الله؛ فاعتصموا بحبل الله، فإن حبل الله هو كتاب الله). رواه ابن جرير.
وقال قتادة: (حبل الله المتين الذي أمر أن يُعتصم به: هذا القرآن) رواه ابن جرير.
وهذا القول أحد الأقوال الخمسة المأثورة عن السلف في المراد بحبل الله، وهي أقوال تتفق ولا تختلف، ويدلّ بعضها على صدق بعض؛ ففسّر بالقرآن وبالتوحيد وبالجماعة وبالسنة وبعهد الله.
وفي صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجّة الوداع: (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب الله).
فمن تمسّك بالقرآن عُصم من الضلالة؛ وهذه من أعظم ثمرات هدى القرآن). [بيان فضل القرآن:46 - 49]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:38 AM
وصفه بأنّه نور

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنّه نور
وأمّا وصفه بأنّه نور؛ فقد ورد في مواضع من القرآن منها:
- قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)}
- وقوله: { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
- وقوله: { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52)}
- وقوله: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8)}
- وقوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)ْ}
فهو نور يضيء الطريق للسالكين؛ ويذهب عنهم ظلمة الشرك والعصيان وآثارها؛ فمن استضاء بنور القرآن أضاء له سبيله، وأبصر الحقائق، وعرف ما يأتي وما يذر، وكان على بيّنة من ربّه؛ حسن المعرفة بصراطه المستقيم، وبكيد الشيطان الرجيم، وعلل النفس المردية.
ومثل العبد في هذه الحياة الدنيا كمثل السالك في صحراء مظلمة مليئة بالمخاوف والهوامّ والسّباع وفي تلك الصحراء طريق آمن محصّن؛ ولا تُعرف معالم هذا الطريق إلا بنور يضيء لصاحبه حتى يعرفه؛ فمن سار في الظلمة تخبّط في سيره وتعرّض للمخاوف، ولم يصل إلى مأمنه، ومن استضاء بالنور أبصر الطريق المحصّن، وسار فيها آمنا، وكان على حذر من الزيغ عنه إلى مفاوز الظلمات الموحشة.
فالقرآن هو النور المبين الذي يستضاء به ليبين السبيل للسالكين، ويخرجوا من الظلمات إلى النور، ومن سبل الشياطين الموحشة المضلّة إلى صراط الله المستقيم.
وقد وصف الله نور القرآن بأنه نور مبين كما قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)}
وقد فسّر بمعنيين صحيحين:
أحدهما: أنه مبين بمعنى بَيّن أي ظاهر واضح يعرف أنه هو الحق لنوره الذي يميّزه عن غيره، ولهذا المعنى نظائر كثيرة في القرآن الكريم وفي كلام العرب.
والمعنى الآخر: أنه مُبين بمعنى مُبيِّن؛ لما فيه من بيان الحق والهدى للناس.
والمستنير بنور القرآن يتبيّن به حقائق الأمور، وسنن الابتلاء، وعواقب السالكين، ولا تغرّه مكائد الأعداء، وظواهر الفتن الخدّاعة، وحيل النفس الخفيّة، في حصن حصين من فتن الشبهات والشهوات لما يرى من قبحها وسوء عاقبتها إذ تبدّت له بوجهها الحقيقي المنفّر؛ يبصر فيها لا كبصر غيره، ويسمع فيها لا كسمع غيره؛ {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)}.
وهو بهذا البصر المستنير بنور القرآن في حياة حقيقية؛ قد خرج من أسر الظلمات، ووجد حقيقة الحياة وطعمها وتبيّنت له غايته التي يسعى إليها، وطريقه الذي يوصله إلى غايته. { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)}
وهذا النور ملازم للانفساح وانشراح الصدر؛ لأنه يرى من آفاق السعة ورفع الحرج وكثرة أبواب الفضل والرحمة والمخارج من المضايق ما يدفع عنه الشعور بالضيق الناتج عن ضعف إبصارها لدى من قلّ نصيبه من الاستنارة بنور القرآن.
وهذا يطلعك على تفاوت الناس في الاستنارة بنور القرآن؛ وأعظمهم نصيباً منه أشرحهم صدراً وأزكاهم نفساً وأحسنهم بصيرة؛ قد انصرفت همّته إلى إحسان العمل وتجنّب الإثم؛ فازداد هداية وانشراحاً واستنارة بنور الله.
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)}). [بيان فضل القرآن:49 - 51]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:42 AM
وصفه بأنّه بيان ومبين

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنّه بيان ومبين
وأمّا وصفه بأنّه بيان ومبين؛ فقد ورد في مواضع كثيرة من القرآن الكريم؛ فقال تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)} على القول بأن مرجع اسم الإشارة هو القرآن الكريم، وهو قول الحسن البصري وقتادة.
وقال: { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} في ثلاثة مواضع، وقال: {والكتاب المبين} في موضعين.
وبيان القرآن أحسن البيان وأعظمه وأجلّه في ألفاظه ومعانيه وهداياته.
فأما ألفاظه فهي على أفصح لغات العرب وأحسنها، لا تعقيد فيها ولا تكلف ولا اختلال، حسن الجريان على اللسان بلا سآمة ولا تعسّر، له حلاوة عند سماعه، وحلاوة عند تلاوته، يقرؤه الكبير والصغير ويحفظه من يشاء منهم لتيسر ألفاظه وحسنها. وقد تحدّى الله به أساطين فصحاء العرب، وهم متوافرون على أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله فلم يستطيعوا، ولو اجتمع أهل الأرض كلّهم على أن يأتوا بمثله لم يستطيعوا.
وقد اعتنى ببديع بيان ألفاظ القرآن جماعة من العلماء؛ فاستخرجوا من ذلك ما يبهر ويدهش من حسن البيان وإحكامه.
وأما بيان معانيه؛ فهو محكم غاية الإحكام؛ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتعارض، ولا يتناقض، ولا يختلف؛ {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)}.
وأما بيان هداياته ودلالتها على ما يحبّه الله ويرضاه، وعلى بيان الحقّ ونصرته، وعلى كشف الباطل ودحضه؛ وإرشاده إلى صراط الله المستقيم؛ فأمر ظاهر غاية الظهور؛ ولظهور بيانه للهدى أقام الله به الحجّة على الإنس والجن؛ وأمر نبيّه أن يذكّر به، وينذر به ، ويبشّر به؛ فأمره أن يقول: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}
وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْي}.
وقال تعالى: { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)}
وقال: { وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ}.
وقال: { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)}). [بيان فضل القرآن:51 - 53]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:47 AM
وصفه بأنه ذِكْرٌ وذكرى وتذكرة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنه ذِكْرٌ وذكرى وتذكرة
وأما وصفه بأنه ذِكْرٌ وذكرى وتذكرة؛ ففي آيات كثيرة من كتاب الله تعالى؛ بل جعل الله من أعظم مقاصد إنزال القرآن التذكير به؛ كما قال الله تعالى: { طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3)}
وقال: { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48)}
وقال: { كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55)}.
وقال: { إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} في ثلاثة مواضع.
وقال: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}.
وقال: { كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}.
وقال: { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)}.
والآيات في هذا المعنى كثيرة، وتذكير القرآن على درجتين:
الدرجة الأولى: تذكير عامّ تقوم به الحجّة؛ كما قال الله تعالى: {وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا}
وقال تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)}
وهذا التذكير من استجاب له هداه الله به إلى صراطه المستقيم؛ ومن أعرض عنه وزهد فيه انتقم الله منه، وعاقبه بالحرمان من فقهه والانتفاع به؛ وتلك أعظم العقوبات في الدنيا؛ كما قال الله تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
وقال تعالى: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57)}
وقال تعالى: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}.
وقال تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ}.

والمقصود أن هذا التذكير العام تقوم به الحجّة، ولا ينفع إلا من استجاب لله عزّ وجلّ واتّبع هداه.
والدرجة الثانية: التذكير النافع؛ وهو تذكير خاصّ بالمؤمنين؛ كما قال الله تعالى: {وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}، وقال: {وما يذكّر إلا من ينيب} وقال: {سيذكّر من يخشى}
والخشية والإنابة من أعمال الإيمان، وكلما كان العبد أكمل إيمانا كان نصيبه من التذكّر أعظم وأنفع.
ولذلك كان نصيب أهل الخشية والإنابة من ذلك أحسن النصيب.
وتذكير القرآن له أنواع كثيرة:
فمنها: تذكير العبد بربّه جلّ وعلا، وتعريفه بأسمائه وصفاته الموجبة لمحبّته؛ فيحبّه ويعظّمه ويتقرّب إليه.
ومنها: تذكيره بفضله ورحمته وعظيم ثوابه في الدنيا والآخرة؛ فيرجوه ويتقرّب إليه.
ومنها: تذكيره بشدّة عقوبته وبطشه؛ فيخافه ويخشاه، ويتقرّب إليه خوفا من عقابه.
وهذه الأركان الثلاثة: المحبة والخوف والرجاء عليها مدار عبودية القلب.
ومنها: تذكير العبد بنعم الله وآلائه؛ فيذكره ويشكره ويحبّه.
ومنها: تذكيره بحقيقة الدنيا والنفس وكيد الشيطان وأعداء الدين؛ فيعرف حقائق ذلك، وينجو من فتن عظيمة مضلّة.
ومنها: تذكيره بالموت وسكرته وبالقيامة وأهوالها وبالحساب والجزاء والجنّة والنار؛ فيستعدّ للقاء الله تعالى، ويتيقّن قصر مدّة بقائه في هذه الدنيا مهما عُمّر فيها.
إلى غير ذلك من الأنواع التي عليها مدار تذكير القرآن). [بيان فضل القرآن:53 - 55]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:51 AM
وصفه بأنّه موعظة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنّه موعظة
وأما وصفه بأنّه موعظة، فقد ورد في آيات من القرآن الكريم، منها قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}
وقوله: { هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)}
وقوله: {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)}.
والموعظة هي التذكير بما يليّن القلب ليزدجر عن السوء فيسلم من عقوبته ومغبّته، ويحذر فوات الخير ويتبيّن خطر التفريط فيه فيبادر إليه ليغنم.
قال ابن سيده: (الموعظة: تذكرتك الإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب).
ومواعظ القرآن أحسن المواعظ وأنفعها، وأعظمها أثراً؛ فهي مواعظ مبناها على العلم التامّ والرحمة والحكمة، وغاياتها إرشاد الناس لما فيه خيرهم وعزّهم ونجاتهم، وقد قال الله تعالى: {إنّ الله نعمّا يعظكم به}؛ ومن تأمّل مواعظ القرآن وجدها دالّة على الخير والرحمة والإصلاح والنهي عن السوء والفساد والمنكرات.
ومهما بلغ حال العبد من السوء وارتكاب الموبقات إذا فعل ما وعظه الله به في كتابه، وصدق في ذلك؛ ظهر أثر مواعظ القرآن على قلبه ولسانه وجوارحه، حتى يهتدي إلى صراط الله المستقيم وينال فضله العظيم ويخرج مما كان فيه من الظلمات والضلالات والموبقات، وقد قال الله تعالى في المنافقين الذين هم شرّ الناس منزلةً لجمعهم بين الكفر والنفاق وارتكابهم كثيراً من أعمال السوء القبيحة { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)}.
وهذا يدلّ على أنّ مواعظ القرآن ما حلّت في قلب إلا أثمرت فيه هداية وصلاحاً وخيراً عظيماً، وأنّ الشأن كلّ الشأن هو في اتّعاظ العبد بمواعظه، وأن الخسران المبين هو في الإعراض عنها). [بيان فضل القرآن:55 - 57]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:54 AM
وصفه بأنّه شفاء

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنّه شفاء
وأمّا وصفه بأنّه شفاء؛ فقد ورد في مواضع من القرآن؛ منها قول الله تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)}
وقوله: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}
وقوله: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)}
فوصفه الله بأنّه شفاء؛ وجعل هذا الشفاء منحة خاصّة للمؤمنين؛ ففيه شفاء لنفوسهم من عللها وأدوائها التي مرجعها إلى أمرين:
- ظلمها بتعدّيها حدود الله؛ فيصيبها من مغبّة مخالفتها لهداه ما تشقى به.
- وجهلها بما ينفعها ويزكّيها ويكمّلها.
والأصل في وصف الإنسان أنّه ظلوم جهول؛ كما قال الله تعالى: { وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)}
أي أن هذا من طبعه وعادته؛ فيتعدّى حدود الله اتّباعاً لهواه؛ فيظلم نفسه بما يجرّ عليها من البلاء والعلل والأدواء والعناء والشقاء.
ويجهل فينصرف إلى تناول ما يضرّه ولا ينفعه؛ ويشقيه ولا يشفيه.
وتتنوّع مظاهر الشقاء في النفس البشرية وتتفاوت بحسب بعدها عن هدى الله؛ وينشأ فيها من علل الجهل والظلم، والعُجْبِ والكبْر، والشكّ والحيرة، والشحّ والبخل، والحرص والحسد، والعشق والتعلقّ، وغيرها من العلل تجرّ على من اتّصف بها أو ببعضها ألواناً من الشقاء العظيم والعذاب الوبيل.
وتلك العلل تفسد التصوّر والإرادة؛ فيحصل بفساد التصوّر افتتان بفتن الشبهات؛ فيرى الباطل حقّاً، والحقّ باطلاً، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً؛ ويزداد بذلك عذاب حيرته وشكّه وظلمة قلبه.
ويحصل بفساد الإرادة افتتان بأنواع من الشهوات، وتعلّق القلب بها حتى يجد من أليم عذابها وعظيم مصابها ما تشقى به حياته، ويظلم به فؤاده.
واللبيب الموفّق إذا أبصر ما أصاب الناس من علل نفوسهم وأدوائها وما أنتجته لهم تلك العلل من عذاب وشقاء أدرك أنّه لا مخرج منها إلا بشفاء يأتي من الله؛ شفاء يصحّ به التصوّر فيعرف الحقّ وحسنه ويبصره بدلائله الظاهرة، ويتبيّن فضله وثمرته وحسن عاقبته، ويعرف الباطل وقبحه ويبصره بدلائله الظاهرة وإن هويته النفس وطمعت فيه للذة هاجمة أو خاطرة عابرة، ويتبيّن خطره وشؤمه وسوء عاقبته.
ويحتاج الإنسان مع هذا العلاج المعرفيّ النافع الذي أصله البصيرة وصحّة المعرفة إلى علاج سلوكي؛ ليتناول ما يصلح به قلبه، وتزكو به نفسه، وينشرح به صدره، وتستنير به بصيرته، ويستقيم به على ما ينفعه في جميع شؤونه، ويسلم به مما يضرّه ويفسد عليه ثمرات صلاحه ويضعفها.
وقد أنزل الله عزّ وجلّ هذا القرآن العظيم شفاءً للمؤمنين الذين آمنوا به واتّبعوا ما أنزل الله فيه من الهدى؛ فتحقّق لهم من الشفاء بقدر ما حقّقوا من الإيمان واتّباع الهدى.
ومن أبصر ما تقدّم أدرك عظيم منّة الله تعالى بهذا الشفاء العظيم؛ الذي حرم منه من حرم؛ فشقي في الدنيا والآخرة، وسعد به من عرف قدره وعظّمه فاغتبط به في الدنيا مع ما يرجو من فضل الله العظيم في الآخرة.
وقد جعل الله مع هذا الشفاء العظيم الذي هو المقصود الأعظم من الشفاء شفاءً من نوع آخر؛ فهو رقية نافعة من العلل والأدواء التي تصيب الروح والجسد، فكم شُفي به من عليل عجز الأطبّاء عن علاجه؛ ليتبيّن الناس آية من آيات الله فيه؛ وأنّ الله إذا شاء أن يشفي عبده فلا يعجزه شيء، ولا يردّ فضله عنه أحد.
وكم أُبطل به من سحرٍ قد أضرّ وأنكى.
وكم تعافى به من معيون ومحسود وممسوس وموسوس.
وكم اجتمع به شمل أسرة بعد تفرّق، وصلح به حال قوم بعد فساد أمرهم وتفرّقه، وكم سكنت به من نفوس، واطمأنّت به من قلوب، وانشرحت به من صدور، وصلحت به من أحوال.
وكلّ ذلك من الدلائل البيّنة على ما جعل الله فيه من الشفاء المبارك). [بيان فضل القرآن:57 - 59]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:57 AM
وصفه بأنه رحمة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنه رحمة
وأما وصفه بأنه رحمة؛ فقد ورد في آيات كثيرة؛ منها قول الله تعالى: { هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}
وقوله: { وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77)}
وقوله: { مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}
وقوله: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}
وقوله: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)}
والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فهو رحمة من الله تعالى؛ لما يدلّ به عباده على النجاة من سخطه وعقابه وأليم عذابه، ورحمة لهم لما يفتح لهم به من أبواب الخير الكثير، والفضل العظيم، والفوز المبين؛ برضوانه وثوابه وبركاته.
ورحمة لهم لما يحجزهم به عمّا فيه ضررهم مما تقبل عليه نفوسهم متبعة أهواءها لجهلها وضعفها.
ورحمة لهم لما يعصمهم به من الضلالة، ويخرجهم به من الظلمات إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة.
ورحمة لهم لما يبيّن لهم من الحقائق، ويعلّمهم من الحكمة، ويصرّف لهم فيه من الآيات المبصّرة، والأمثال المذكِّرة.
ورحمة لهم لما يعرّفهم به من أسمائه الحسنى وصفاته العليا؛ فتفضي إليه القلوب بمحبّتها وتعبّدها له جل وعلا بأنواع العبودية؛ التي حاجة القلب إليها أعظم من حاجة البدن إلى الغذاء؛ فإنّ في القلب تعطّشاً لا يرويه إلا التعبّد لله والتقرّب إليه حتى يفيض عليه من فضله ورحمته وبركاته؛ فيطمئنّ بعد قلقه وانزعاجه، ويَروَى بعد تعطّشه وإنهاكه، ويتّسع بعد ضيقه وتحسّره، ويرشُد بعد حيرته وضلاله، ويسعَد بعد شقائه وعذابه.
فهذه الرحمات الجليلة التي جعلها الله في القرآن داخلة في معنى قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}). [بيان فضل القرآن:60 - 61]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 11:59 AM
وصفه بأنه بشرى

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وصفه بأنه بشرى
وأمّا وصفه بأنه بشرى، ففي مواضع من كتاب الله تعالى؛ منها قول الله تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)}
وقوله تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)}
وقوله تعالى: { طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}
وقوله تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)}
ووصفه بأنّه بشرى مع التنبيه على أن التبشير من مقاصد إنزاله دليل على عظيم أثر بشاراته، وعظيم حاجة النفس البشرية للتبشير بما تنال به سعادتها وفلاحها.
وتنويع وصف المبشَّرين به دليل على تفاضل بشاراته؛ فهو بشرى للمسلمين، وبشرى للمؤمنين، وبشرى للمحسنين؛ وبين تلك المراتب من التفاضل العظيم في البشارات ما لا يعلمه إلا الله { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163)}
فترتّب البشارات على العمل وعلى بصر الله تعالى به تنبيه على معيار التفاضل، وحضّ على اغتنام أيام المهلة في الازدياد من بشاراته العظيمة.
وكلما قوي أثر التبشير على القلب ازداد إقبالاً على ما بُشّر به؛ وحرصا على تحقيق ما ينال به تلك البشرى، واحترازاً مما يحول بينه وبينها؛ فيثمر له ذلك من أنواع العبودية في القلب ما يثمر:
1. فتزداد محبّة الله في قلبه لشهود منّته بتلك البشارات.
2. ويزداد الرجاء لعظيم الاشتياق لها وتيسّر سبلها مع الوعد الكريم من الرحمن الرحيم.
3. ويزداد الخوف من فواتها بعد أن تبوّأت مكانتها في القلب، وعرف قدرها وفضلها.
فيجتمع لقلب المؤمن بتلك البشارات من المحبة والخوف والرجاء ما يكون به صلاح عبوديته لله تعالى، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله). [بيان فضل القرآن:61 - 62]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 12:05 PM
الباب الثالث: بيان عظمة القرآن


بيان عظمة القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (بيان عظمة القرآن
من أظهر الدلائل البيّنة على فضل القرآن ما دلّت عليه النصوص الصحيحة الصريحة من معاني عظمته التي من تأمّلها وتفكّر في مظاهرها ولوازمها وآثارها في الدنيا والآخرة ازداد يقيناً بعظمة هذا القرآن العظيم وفضله، وأدرك به عظيم منّة الله تعالى على هذه الأمة بما اختصّهم به من إنزاله، وأكرمهم بتيسيره لهم ليهتدوا به، وأيقن أنّ الشرف كلّ الشرف، والرفعة والعزّة إنما تكون بالإيمان به واتّباع هداه، وأنّ لتلك العظمة مقتضيات من العبودية لله تعالى.

وقد ذكرت فيما مضى شيئاً من تلخيص معاني عظمة القرآن، فيما شرح من معاني صفاته على وجه الإيجاز والتنبيه، ولسعة معاني عظمة القرآن أفردتها هنا بحديث مستقلّ؛ لنتوقّف فيه عند تلك المعاني، ونستجلي تلك الحقائق، ونتفكر في دلائلها وآثارها، ونتذكَّر نعمة الله علينا بهذا الكتاب العظيم). [بيان فضل القرآن:63]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 12:18 PM
عظمة قَدْرِ القرآن في الدنيا (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160347&posted=1#post160347)

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (عظمة قَدْرِ القرآن في الدنيا (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160347&posted=1#post160347)
ومعاني عظمة القرآن تتبيّن بمعرفة عظمة قدْره وعظمة صفاته.
فمن عظمة قَدْرِه: أنه كلام الله تعالى؛ الذي لا أعظم من كلامه ولا أصدق ولا أحسن، وشرف الحديث بشرف المتحدّث به، وقد سبق التنبيه إلى آثار أسماء الله تعالى وصفاته في كلامه، وتلك الآثار كما تدلّ على فضل القرآن وعظمته فإنّ لها مقتضيات من أنواع العبودية لله تعالى.
قال ابن القيّم رحمه الله: (القرآن كلام الله، وقد تجلى الله فيه لعباده بأسمائه وصفاته؛ فتارة يتجلى في جلباب الهيبة والعظمة والجلال؛ فتخضع الأعناق وتنكسر النفوس وتخشع الأصوات ويذوب الكبر كما يذوب الملح في الماء.
- وتارة يتجلى في صفات الجمال والكمال وهو كمال الأسماء وجمال الصفات وجمال الأفعال الدال على كمال الذات؛ فيستنفد حبُّه من قلبِ العبد قوةَ الحب كلها بحب ما عرفه من صفات جماله ونعوت كماله فيصبح فؤاد عبده فارغا إلا من محبته؛ فإذا أراد منه الغير أنْ يعلق تلكَ المحبة به أبى قلبه وأحشاؤه ذلك كلَّ الإباء كما قيل:
يراد من القلب نسيانكم ... وتأبى الطباع على الناقل

فتبقى المحبة له طبعا لا تكلفاً.
- وإذا تجلى بصفات الرحمة والبر واللطف والإحسان؛ انبعثت قوة الرجاء من العبد وانبسط أمله وقوي طمعه وسار إلى ربه وحادي الرجاءِ يحدو ركاب سيره، وكلما قوي الرجاء جدَّ في العمل كما أن الباذر كلما قوي طمعه في المغلّ غلَّق أرضه بالبذر، وإذا ضعف رجاؤه قصَّر في البذر.
- وإذا تجلى بصفات العدل والانتقام والغضب والسخط والعقوبة؛ انقمعت النفس الأمارة وبطلت أو ضعفت قواها من الشهوة والغضب واللهو واللعب والحرص على المحرمات، وانقبضت أعنَّة رعوناتها؛ فأحضرت المطية حظَّها من الخوف والخشية والحذر.
- وإذا تجلى بصفات الأمر والنهي والعهد والوصية وإرسال الرسل وإنزال الكتب وشرْع الشرائع؛ انبعثت منها قوة الامتثال والتنفيذ لأوامره، والتبليغ لها، والتواصي بها، وذكرها وتذكرها، والتصديق بالخبر، والامتثال للطلب، والاجتناب للنهي.
- وإذا تجلى بصفة السمع والبصر والعلم؛ انبعث من العبد قوَّةُ الحياء؛ فيستحيي ربَّه أن يراه على ما يكره، أو يسمع منه ما يكره، أو يخفي في سريرته ما يمقته عليه؛ فتبقى حركاته وأقواله وخواطره موزونة بميزان الشرع، غير مُهْمَلة ولا مرسلة تحت حكم الطبيعة والهوى.
- وإذا تجلى بصفات الكفاية والحسب والقيام بمصالح العباد وسوق أرزاقهم إليهم ودفع المصائب عنهم ونصره لأوليائه وحمايته لهم ومعيته الخاصة لهم؛ انبعثت من العبد قوة التوكل عليه والتفويض إليه والرضا به وبما في كل ما يجريه على عبده ويقيمه مما يرضى به هو سبحانه، والتوكل معنى يلتئم من علم العبد بكفاية الله وحسن اختياره لعبده وثقته به ورضاه بما يفعله به ويختاره له.
- وإذا تجلى بصفات العزّ والكبرياء أعطت نفسه المطمئنة ما وصلت إليه من الذل لعظمته، والانكسار لعزته، والخضوع لكبريائه، وخشوع القلب والجوارح له؛ فتعلوه السكينة والوقار في قلبه ولسانه وجوارحه وسمته، ويذهبُ طَيْشه وقوته وحدَّته)ا.هـ.
ومن عظمة قدره: كثرة أسمائه وأوصافه المتضمنة لمعان جليلة عظيمة تدل على عظمة المسمى بها والمتصف بها، وقد سبق بيان بعضها.
ومن عظمة قدره: إقسام الله تعالى به في آيات كثيرة؛ فإن القسم به دليل على شرفه وعظمته، وما أخبر الله به عنه من الأخبار العظيمة ما يكفي المؤمن دليلاً على بيان عظمته.
ومن عظمة قدره: أن تبليغه هو المقصد الأعظم من إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى: {كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك}، وقال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، وقال: { قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}.
ومن عظمة قدره: أنه أفضل الكتب المنزلة، وأحبّها إلى الله، قد اختار الله له أفضل رسله، وخير الأمم، وأفضل البقاع، وخير الليالي لنزوله، وفي ذلك من التنبيه عن عظمة قدْرِه ما يكفي اللبيب.
ومن عظمة قدره: أنّه محفوظ بحفظ الله {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}، فهو منزَّه عن الباطل والاختلاف والتناقض والضعف في الألفاظ والمعاني.
ومن عظمة قدره: أنه قول فصل ليس بالهزل، يحكم بين العباد، ويهدي إلى الرشاد، وينهى عن الفساد، معانيه أسمى المعاني، ومقاصده أشرف المقاصد، ومواعظه أحسن المواعظ {إنّ الله نعمّا يعظكم به}.
ومن عظمة قَدْرِه: أنَّ الله جعله فرقاناً بين الهدى والضلال، والحق والباطل؛ مَن قال به صدق، ومن حَكَم به عدل، ومن جاهد به نُصر، ومن حاجَّ به غَلب، ومن غَالبَه غُلِب، ومن اتبعه هدي إلى صراط مستقيم، ومن ابتغى الهدى في غيره ضل عن سواء السبيل.
ومن عظمة قدره: أنه يهدي للتي هي أقوم في كل ما يُحتاج إلى الهداية فيه، فهو شامل لجميع ما يحتاجه الفرد وتحتاجه الأمة من الهداية في كل شأن من الشؤون، فشريعته أحكم الشرائع، وهداه أحسن الهدى، وبيانه أحسن البيان.
ومن عظمة قدره: أن من اعتصم به عُصِمَ من الضلالة، وخرج من الظلمات إلى النور بإذن ربه، وهدي إلى سبل السلام من كل شر يخشى منه، فهو في أمن وإيمان، وسلامة وإسلام، لا يضل ولا يشقى، ولا يخاف ولا يحزن، ثابت الجنان ، سائرٌ على بيّنة من ربه، حظيٌّ بما أولى من فضله، ذو سكينة وطمأنينة، له نوره الذي يمشي به في الناس سوياً على صراط مستقيم، {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}
ومن عظمة قدره: أن خصه الله بأحكام ترعى حرمته وتبين جلالة شأنه؛ فنُدِب إلى التطهر من الحدث عند تلاوته، وحرمت تلاوته في الأماكن النجسة ، وحرمت تلاوته في حال السجود والركوع، ومن حلف به انعقدت يمينه؛ ومن استهزأ به أو بشيء منه ولو بكلمة فقد كفر وخرج من الملة فإن مات ولم يتب حرمت عليه الجنة أبداً، وكان من الخالدين في عذاب النار.
بل جعل للمصحف الذي يكتب فيه القرآن أحكام تخصه؛ فالورق والمداد بعد أن يتضمنَّا كتابة آياته يكون لهما شأن في شريعة الإسلام؛ فحرم على الحائض والجنب مس المصحف، ونهي عن السفر به إلى أرض العدو، ومن تعمد إهانته فقد كفر كفراً عظيماً.
ومن عظمة قدره: أن جعل الله له في قلوب المؤمنين مكانة عظيمة لا يساميها كتاب؛ فهو عزيز عليهم، عظيم القدر عندهم، يجلُّونه إجلالاً عظيماً ويؤمنون به، وينصتون عند تلاوته، ويتدبرون آياته، ويقفون عند مواعظه، بل إنهم من إجلالهم للقرآن يجلُّون قارئ القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه.
ومن عظمة قدره: أن تحدَّى الله تعالى المشركين أن يأتوا بسورة من مثله فلم يستطيعوا، ولو اجتمعت فصاحة الخلق كلهم على أفصح رجل منهم ثم طلب منهم أن يجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن العظيم لا يأتون بمثله، وكيف يضاهي كلام المخلوقين الضعفاء كلام خالقهم العظيم؟!!
كما أنه لا يضاهي علمهم علمه، ولا قدرتهم قدرته، ولا عظمتهم عظمته ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيراً.
فكلام الله صفة من صفاته اللائقة بعظمته ومجده، وهذا القرآن العظيم هو من كلامه جل وعلا، وكلام المخلوقين إنما يليق بمقدار علمهم وقدرتهم التي لا نسبة لها إلى علم الله وقدرته وعظمته). [بيان فضل القرآن:63 - 68]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 12:20 PM
عظمة قَدْرِ القرآنِ في الآخرة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (عظمة قَدْرِ القرآنِ في الآخرة
فهذه إلماحةٌ يسيرة تعرِّفك ببعض أنواع عظمة القرآن في الدنيا، وأما عظمته في الآخرة فأمر يجل عن الوصف، حين تنكشف الحجب وتتبين الحقائق وينتقل الناس من دار الامتحان والعمل إلى دار الجزاء والبقاء، يتبيّن لهم جلالة قَدْرِ هذا الكتاب العظيم، وأن أسعد الناس حظاً أوفرهم نصيباً من اتباعه وصحبته والاهتداء بهداه، ويكفي العبدَ أن يطلع على بعض ما ورد من الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم في شأن القرآن في الآخرة؛ ليتبيّن هذه الحقيقة، ويقوم بما تقتضيه من تعظيم قدره واتباع ما أنزل الله فيه من البينات والهدى.
- فمن عظمة قدره أنّه يحاجّ عن صاحبه في قبره ويشفع له، فيجد من أثر شفاعته ومحاجّته عنه ما يتبيّن به عظمة قدره حين تنقطه الأسباب، وتتجلّى الحقائق، وتذهب سَكرة الحياة الدنيا؛ فيتمنّى لو كان قضى عمره كلّه في صحبة هذا الكتاب العظيم.
-ومن عظمة قدره في الآخرة: أنه يظلّ صاحبه في الموقف العظيم حين تدنو الشمس من الخلائق؛ فعن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعته، يقول: « تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» ثم سكت ساعة، ثم قال: « تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان، وإنهما تظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف، وإن القرآن يأتي صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك بالهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذًّا كان أو ترتيلا». رواه أحمد وابن أبي شيبة والدارمي ومحمد بن نصر والطبراني والبغوي كلهم من طريق: بشير بن المهاجر الغنوي، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وحسّنه الألباني في السلسلة الصحيحة.
- ومن عظمة قدره: أنه يشفع لصاحبه، ويحاجّ عنه أحوج ما يكون إلى من يحاجّ عنه؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه )).
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما )).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( القرآن شافع مشفَّع ومَاحِلٌ مصدَّق، مَن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار )). رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني.
وعن ابن مسعود نحوه موقوفاً وصححه الدارقطني.
والماحل في لسان العرب الذي يسعى بالشخص إلى ذي سلطان ليوبقَه ويهلِكَه، أو إلى ذي شأنٍ ليُسقطه من عينه، يقال: محل فلان بفلان إذا مكر به وكاده وفعل به ذلك.
قال عمر بن أبي ربيعة:

ما أَطَعْتُ بها بالغيبِ قد عَلِمَتْ ... مقالةَ الكاشِحِ الواشي إذا مَحَلا
إنِّي لأرجِعُهُ فيها بسخْطَتِهِ ... وقد أتاني يرجّي طاعتي نَفَلا
قال الخليل بن أحمد: (وفي الحديث: ((القرآنُ ماحِلٌ مصدَّق)) يمحَل بصاحبه إذا ضيَّعه).
((مصدَّق)): أي أن ما يقوله فيمن أعرض عنه ولم يعمل به فهو مصدَّق فيه لا يَكْذِب ولا يُكَذَّب.
قال عبد الله بن مسعود: (من مَحَلَ به القرآن يوم القيامة كبَّه الله في النار على وجهه). رواه أحمد.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاباً قال فيه: (بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبدِ الله عمرَ إلى عبدِ اللهِ بن قيسِ ومَن معه من حملة القرآن، سلام عليكم، أما بعد:
فإنَّ هذا القرآن كائنٌ لكم أجراً وكائنٌ لكم شرفاً وذخراً، فاتبعوه ولا يتبعنَّكم، فإنه من اتبعه القرآنُ زجَّ في قفاه حتى يقذفه في النار، ومن تَبع القرآنَ ورد به القرآنُ جنات الفردوس، فلْيكونن لكم شافعا إن استطعتم، ولا يكونن بكم ماحلا فإنه من شفع له القرآن دخل الجنة، ومن مَحل به القرآن دخل النار، واعلموا أن هذا القرآن ينابيع الهدى، وزهرة العلم، وهو أحدث الكتب عهدا بالرحمن، به يفتح الله أعينا عمياً، وآذانا صمّا، وقلوبا غلفا).
- ومن عظمة قدره: أنه كرامة ورفعة عظيمة لصاحبه يوم الجزاء إذ يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها، كما صح بذلك الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.
وفي هذا الباب من الأحاديث والآثار ما يستدعي سفراً كبيراً، وشرحاً كثيراً، ولا يبلغ العبد بعد إدراك معاني تلك العظمة والإحاطة بتفاصيلها.

فهذا في شأن عظمة القدر). [بيان فضل القرآن:68 - 71]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 12:23 PM
عظمة صفاته

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (عظمة صفاته
وأما عظمة صفاته؛ فشأن آخر يطلعك على أبواب من العلم عظيمة، من استفتحها وتأمل ماوراءها أفضى إلى مهيع واسع من التفكر والتأمل، ودلَّه به تفكُّره على حدائق ذات بهجة، لا يملّ النظر إليها، ولا التربّع في رياضها، بل يدرك أن أعظم نعيم في هذه الحياة إنما هو في تنعّم الروح بما أنزل الله من روحه الذي يحيي به من يشاء من عباده {وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
فيكون للقلب حياة أخرى غير حياة الأبدان هي حياته الحقيقية التي من حرمها فهو ميت وإن عاش بجسده {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا}
فهو حياة القلوب وغذاؤها، ودواؤها من عللها وشفاؤها، وأنسها من وحشتها وبهاؤها، وميزانها الذي تزن به الأمور، وتدرك به حقائق الأمور، وعواقب الأمور.
ومن كان كذلك كان صاحب القرآن بحق، وكان القرآن العظيم ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه وغمه.

ذلك أن الله تعالى وصف القرآن بصفات عظيمة جليلة تنبئ عن عظمته؛ إذ عظمة الصفات تدل على عظمة الموصوف فوصفه الله بأنه عزيز وكريم، وعليٌّ وحكيم، ومبارك ومجيد، وهدى وبشرى، وذِكْرٌ وذكرى، وشفاء وفرقان، ونور وبيان إلى سائر ما وصفه الله تعالى به من صفات جليلة باهرة، تدل على عظمته دلالة ظاهرة.
فاجتماع هذه الصفات الجليلة في موصوف واحد دليل ظاهر على عظمته، ثم اتصافه في كل صفة من تلك الصفات بالعظمة فيها دليل آخر على عظمة تملأ قلب من يتأملها؛ فيدرك أنه لا يحيط بمعرفة أوجه عظمة هذا القرآن العظيم لكنه يوقن أنه عظيم جد عظيم؛ فهو عظيم في عزته، عظيمٌ في علوّه، عظيم في إحكامه وحكمه، عظيم في مجده، عظيم في بركته، عظيم في كرمه، عظيم في بيانه، عظيم في ما تضمنه من الهدى والرحمة والنور والبشرى، والذكر والذكرى، والشفاء الفرقان، والحق والتبيان، وكذلك سائر صفاته الجليلة العظيمة، كل صفة منها قد حاز هذا القرآن العظمةَ فيها.
وهذه العظمة لها لوازم يقتضيها الإيمانُ بها في قلب العبد المؤمن؛ فيعرف له قدره ويعظّمه في قلبه، ويعظمه إذا تحدث عنه، ويعظمه إذا تلاه، ويعظمه إذا تلي عليه {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}). [بيان فضل القرآن:72 - 73]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 12:26 PM
الباب الرابع: بيانُ بَرَكَةِ القُرْآن



معنى البركة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى البركة
إن من أوجه بيان فضل القرآن الحديث عن بركته، والتعريف بمعانيها ودلائلها وآثارها؛ فإن ذلك مما يعين على التفكّر في منّة الله تعالى علينا بهذا الكتاب العظيم المبارك الذي اختصّه بأعظم البركات:
- فقال الله تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ .. (92)}
- وقال تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)}
- وقال تعالى: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)}
- وقال تعالى: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)}

ووصفه بأنّه مبارك يدلّنا على أنّ الذي باركه هو الله جلّ وعلا، ومعنى باركه أي أودع فيه البركة، وهي الخير الكثير المتزايد.
قال أبو إسحاق الزجاج: (المبارك ما يأتي من قِبَله الخير الكثير).
وقال الخليل بن أحمد: (البركة: الزيادة والنماء).
وقيل: إن لفظ "البركة" دالّ على اللزوم والسعة في أصل استعماله.
وقيل: دالّ على الثبوت والدوام.
ولهذه المعاني شواهد من كلام العرب مبثوثة في معاجم اللغة؛ لا نطيل بذكرها.
وخلاصة القول في معنى البركة أنها خير كثير أصله ثابت، وآثاره تنمو وتتسع بطرق ظاهرة أو خفية.
وهذه المعاني متحققة في بركة القرآن.
ومعرفتنا بأن الذي باركه هو الله تفيدنا فوائد جليلة تُبيّن لنا عظمة هذه البركة وكثرتها وتنوّعها؛ فالله تعالى عليم قدير وواسع حكيم، وقد ظهرت آثار علمه وقدرته وسعته وحكمته في مباركة كلامه جلَّ وعلا؛ فكانت تلك البركة من آثار أسمائه تعالى وصفاته، فهي بركة عظيمة لا يحيط بها علماً إلا هو جلّ شأنه). [بيان فضل القرآن:75 - 76]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 12:36 PM
أنواع بركة القرآن في الدنيا

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع بركة القرآن في الدنيا
وأنواع بركة القرآن كثيرة يتعذّر حصرها واستقصاؤها.
· وأصل بركاته وأعظمها: ما تضمّنه من بيان الهدى والتبصير بالحقائق في كل ما يُحتاج إليه؛ كما قال الله تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}.
وقال تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}.
وقال تعالى: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل}.
وقال تعالى: { قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}
والبصيرة هي أصل الهداية ؛ فإنّ من تبصّر عرف فاعتبر وادّكر، وحاجة العبد إلى التبصّر دائمة متعددة، ولذلك يزداد العبد بصيرة كلما أحسن تدبر القرآن كما قال الله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} ، والتذكّر ثمرة التبصّر.
وبركة بصائر القرآن لها أصل وأنواع؛ فأصلها إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
وأما أنواعها وتفصيلاتها فكثيرة متجددة، وكم من حَدَثٍ عارضٍ يحارُ فيه المؤمن ثمّ يجد البصيرة فيه في كتاب الله تعالى.
وكل بصيرة يتبصّر بها العبد بالقرآن فهي من آثار بركة القرآن؛ لأنها تعرّفه بحقيقة الأمر، وتدلّه على الهدى، وتحذّر من مخالفته، وتبيّن له زيف ما تُزيّن به الضلالة من زخرف القول وأباطيل الشُّبه؛ فللبصيرة الواحدة بركات متعددة، وهكذا في كلّ بصيرة يتبصّر بها العبد من القرآن؛ فكم من إنسان سعد بآية قرأها فاعتبر بها؛ أو سمعها فاهتدى بها.
· ومن بركات القرآن: أنّه حياة للمؤمن ورفعة له؛ وقد وصفه الله بأنّه روح لما يحصل به من الحياة الحقيقية، التي هي حياة القلب.
قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}
وقال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا..}
وكلما ازداد نصيب العبد من الإيمان بالقرآن وتلاوته واتّباع هداه ازداد نصيبه من بركته والحياة به حتى يكون القرآنُ ربيعَ قلبه؛ لما يرى من حسنه وبركاته، وكثرة ما ينتفع به من ثمراته؛ فهو كالمقيم في الربيع يعجبه حسنه ويجد من رَوحه وطيبه، وينتفع بأنواع الثمرات التي يجتنيها منه، وكذلك حال صاحب القرآن، جنّته في صدره؛ يأنس به، ويتبصّر به، ويحيا به، ويجد من أنواع بركاته ما تقرّ به عينه، وتطيب به حياته.
· ومن بركته على النفس المؤمنة به: أنه يجلو الحزن، ويذهب الهمّ، وينير البصيرة، ويُصلح السريرة، ويشفي ما في الصدر، فيطمئنّ به القلب، وتزكو به النفس، ويحصل به اليقين، ويزداد به الإيمان، ويندفع به كيد الشيطان.
· ومن بركاته ما جعل الله فيه من الشفاء الحسي والمعنوي؛ فكم تعافت به النفس من علل مُضرّة، وأهواء مردية، وكم شُفي به من سقيم، وكم أُبطِلَ به من سحر وعين، وكم زال به من وسواس، وكم رفع به من بلاء؛ فآياته رقية ناجعة يُرقى بها، وشفاء للمؤمنين، وكلّ ذلك من بركات هذا القرآن العظيم.
· ومن بركاته: أن قارئه يُثاب عليه أنواعاً من الثواب: فيثاب على الإيمان به، ويثاب على تلاوته، ويثاب على الاستماع إليه، ويثاب على تدبّره، ويثاب على تعظيمه، ويثاب على حفظه، ويثاب على التفقّه فيه وطلب تفسيره، ويثاب على اتّباع هداه، حتى إنه ليثاب على النظر في المصحف.
· ومن بركاته أيضاً: كثرة وجوه الخير فيه؛ فهو علم لطالب العلم، وحكمة لطالب الحكمة، وهداية للحيران، وتثبيت للمبتلى، ورحمة للمؤمن، وشفاء للمريض، وبيان لمن يريد كشف الشبهات، ودليل لمن يدعو إلى الله، وحجّة لمن ينتصر لدين الله؛ وهو لكل صاحب حاجة مشروعة غنية وكفاية {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون}.
· ومن بركاته: بركة ألفاظه وأساليبه؛ فألفاظه ميسرة للذكر، معجزة في النظم، حسنة بديعة، لها حلاوة في السمع، وبهجة في النفس، وتأثير في القلب، يدلّ اللفظ الوجيز منه على معانٍ كثيرة مباركة.
· ومن بركاته: بركة معانيه وكثرتها واتّساعها وعظيم دلالتها حتى أدهش البلغاء وأبهرهم؛ وصنف العلماء الكبار في بيان معاني بعض آياته رسائل كثيرة مفردة؛ فصنف الحافظ ابن رجب رسالة طويلة في تفسير قول الله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} بيّن فيها من بديع المعاني ما يتعجب منه القارئ، وصنّف الحافظ ابن الجزري رسالة طويلة سماها "كفاية الألمعي في معنى قوله تعالى: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي}، وصنف الحافظ السيوطي رسالة في تفسير قول الله تعالى: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور...} الآية، واستخرج منها نحو مائة وعشرين وجها بلاغياً، وسمى رسالته "فتح الرب الجليل للعبد الذليل"، ومصنفات العلماء المفردة في تفسير بعض الآيات كثيرة، وهي من دلائل كثرة معاني القرآن العظيم وبركتها واتّساعها.
· ومن بركاته: أنه لا تنقضي عجائبه ولا يحاط بمعرفته فلو درس المرء تفسيره من فاتحته إلى خاتمته لم يحط بمعانيه، فإذا درسه مرة أخرى ظهرت له معان لم تكن قد ظهرت له من قبل.
· ومن بركاته على صاحبه الذي يقرأه وهو مؤمن به: أنه يرفع شأنه، ويعلي ذكره، ويوجب له حقاً لم يكن ليناله بغير هذا القرآن من الإجلال والتقديم، والرعاية والتكريم، وأجلّ ذلك أن يكون صاحب القرآن من أهل الله وخاصّته، وذلك أشرف ما لأهل القرآن، وهم في هذه الدنيا خير الأمة وأفضلها.
- روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين».
- وروى الإمام أحمد والنسائي في السنن الكبرى من حديث عبد الرحمن بن بديل بن ميسرة، عن أبيه، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لله أهلين من خلقه» قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «أهل القرآن هم أهل الله وخاصته»
· ومن بركاته: عموم فضله على الأمة وعلى الفرد؛ فإذا اتّبعت الأمّة هداه أعزّها الله ونصرها، ورفع عنها الذلة، والطائفة التي تقيم ما أمر الله به فيه لا يضرها من خذلها ولا من خالفها.
· ومن بركاته العظيمة أنه حيثما كان فهو مبارك:
- فهو مبارك في قلب المؤمن ونفسه وحواسّه وجوارحه، يهديه ويثبّته، ويرشده ويبصّره، ويزداد بتلاوته إيمانا ويقينا، وطمأنينة وسكينة.
- وهو مبارك في المجلس الذي يُقرأ فيه؛ وتُتَدارس فيه آياته؛ فتنزل على أهله السكينة، وتحفّهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده، كما في سنن أبي داوود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله تعالى يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم: إلا نزلت عليهم السكينة, وغشيتهم الرحمة, وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده).
- وهو مبارك في البيت الذي يتلى فيه، يكثر خيره، ويتّسع بأهله، ويطرد الشياطين ، كما روى ثابت البناني عن أبي هريرة أنه كان يقول في البيت إذا تلي فيه كتاب الله اتّسع بأهله وكثر خيره وحضرته الملائكة، وخرجت منه الشّياطين، والبيت إذا لم يُتْلَ فيه كتاب الله ضاق بأهله، وقلّ خيره , وحضرته الشّياطين. رواه ابن أبي شيبة.
وقال ابن سيرين: (البيت الّذي يقرأ فيه القرآن تحضره الملائكة، وتخرج منه الشّياطين، ويتّسع بأهله ويكثر خيره، والبيت الّذي لا يقرأ فيه القرآن تحضره الشّياطين، وتخرج منه الملائكة، ويضيق بأهله ويقلّ خيره). رواه ابن أبي شيبة.
ولذلك عدّ بعض السلف البيت الذي لا يُقرأ فيه القرآن صِفْراً من الخير، كما قال عبد الله بن مسعودٍ: (إنّ أصفر البيوت البيت الّذي صَفِرَ من كتاب الله). رواه ابن أبي شيبة.
ورواه عبد الرزاق بلفظ: (إن أصفر البيوت من الخير البيت الذي ليس فيه من كتاب الله تعالى شيء، وإن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء خَرِبٌ كخراب البيت الذي لا عامر له، وإن الشيطان يخرج من البيت يسمع سورة البقرة تقرأ فيه).
- وهو مبارك على الورق الذي يُكتب فيه؛ فالورق الذي يكتب فيه القرآن تكون له حرمة عظيمة، وأحكام كثيرة في الشريعة بسبب تضمّنه لهذا القرآن العظيم المبارك؛ فتشرع الطهارة لمسّه، ويجب تعظيمه، ويحرم الاستخفاف به بل يكفر من يدنّسه أو يطأ عليه امتهاناً له، وما كان ذلك الورق لينال تلك المكانة والحرمة في الشريعة إلا لتضمّنه كتاب الله تعالى؛ فما الظنّ بقلب حفظه ووعاه واتّبع هداه). [بيان فضل القرآن:76 - 82]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 12:40 PM
بركة القرآن في الآخرة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (بركة القرآن في الآخرة
وأما بركاته على صاحبه يوم القيامة فبركات جليلة القدر عظيمة الأثر: فهو أنيسه في قبره، وظلّه في الموقف العظيم، وقائده في عرصات القيامة، وحجيجه وشفيعه، ولا يزال به حتى يقوده إلى الجنة مكرماً.
- روى الإمام مسلم بإسناده عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة».
ومن أراد أن تحسن صحبة القرآن له في الآخرة فليحسن صحبته في الدنيا.
- وروى الترمذي من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:« يجيء القرآن يوم القيامة فيقول: يا رب حَلِّه، فيلبس تاج الكرامة، ثم يقول: يا رب زده، فيلبس حلة الكرامة، ثم يقول: يا رب ارض عنه، فيرضى عنه، فيقال له: اقرأ وارق، ويزاد بكل آية حسنة » .
- وروى الدارمي من طريق عاصم، عن مجاهد، عن ابن عمر أنه قال:« يجيء القرآن يشفع لصاحبه، يقول: يا رب لكل عامل عمالة من عمله، وإني كنت أمنعه اللذة والنوم؛ فأكرمْه. فيقال: ابسط يمينك، فيملأ من رضوان الله، ثم يقال: ابسط شمالك، فيملأ من رضوان الله، ويكسى كسوة الكرامة، ويحلى حلية الكرامة، ويلبس تاج الكرامة».

ومما ينبغي أن يُعلم أن بركات القرآن إنما ينالها من آمن به واتّبع هداه؛ كما قال الله تعالى: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)}
وقال تعالى: { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)}). [بيان فضل القرآن:82 - 83]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 12:44 PM
الباب الخامس: فضل تلاوة القرآن

فضل تلاوة القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فضل تلاوة القرآن
من دلائل فضل القرآن ما جعل الله لتاليه من الثواب العظيم والفضل الكبير، وما فتح له به من أبواب الخيرات والبركات، والتجارة العظيمة الرابحة.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)} لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) }
وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)}). [بيان فضل القرآن:85]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 12:46 PM
معنى تلاوة القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معنى تلاوة القرآن
وتلاوة القرآن يُرادُ بها معنيان متلازمان:
المعنى الأول: قراءته.
والمعنى الثاني: اتّباعه.
قال عبد اللّه بن مسعودٍ رضي الله عنه في تفسير قول الله تعالى: {يتلونه حقّ تلاوته}: (والّذي نفسي بيده إنّ حقّ تلاوته أن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه، ويقرأه كما أنزله اللّه، ولا يحرّف الكلم عن مواضعه، ولا يتأوّل منه شيئًا على غير تأويله). رواه ابن جرير.
وقال عبد الله بن عباس: «يتبعونه حق اتباعه». رواه أبو عبيد القاسم بن سلام وأبو داوود في الزهد وزاد: (ألا ترى إلى قوله: {والقمر إذا تلاها}).
وقال مجاهد: (يعملون به حقّ عمله). رواه سعيد بن منصور وابن جرير.
وقال الحسن البصري: (يعملون بمُحْكَمِه، ويؤمنون بمتشابهه، ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه). رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
وقال قتادة: (يتّبعونه حقّ اتّباعه يحلّون حلاله، ويحرّمون حرامه، ويقرؤونه كما أُنزل). رواه ابن جرير.

فتلاوة القرآن جامعة بين معنيَي قراءته واتّباعه.
قال الله تعالى: {واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك}
وقال تعالى: {اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة...}
وقال تعالى في مواضع أخرى: {اتّبع ما أوحي إليك من ربك}.
وقال تعالى: { وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)}
وقال تعالى: { المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)}
وقال تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ}
فورد الأمر بالقراءة، وورد الأمر بالاتباع، وورد الأمر بالتلاوة الجامعة بين المعنيين.
والتلاوة المعتبرة هي التلاوة التي يحبّها الله ويقبلها، وهي التلاوة التي تكون بإيمان واتّباع؛ أما القراءة من غير اتّباع فإنها لا تنفع صاحبها، بل هي حجّة عليه). [بيان فضل القرآن:85 - 87]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 12:51 PM
مراتب تلاوة القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مراتب تلاوة القرآن
وتلاوة القرآن على مراتب:
- فأعلاها مرتبة أهل الإحسان في تلاوة القرآن، وهم الذين جمعوا بين المهارة في قراءة القرآن، وحسن اتّباع هداه؛ فهؤلاء بأفضل المنازل، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)} لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) }
فوعدهم الله التجارةَ الرابحة التي ضمن لهم أنها لن تبور؛ فهي تجارة يجدون من ثوابها وبركاتها والرفعة بها ما تقرّ به أعينهم، وتطيب به حياتهم، وتحسن به عاقبتهم.
ووعدهم مع توفيتهم أجورهم أن يزيدهم من فضله زيادة كريمة من عنده جلّ وعلا؛ وأضاف الفضل إليه إضافة تشريف وتنبيه على أنّه فضل عظيم.
{إنه غفور شكور} وفي هذا تنبيه على وعد بمغفرة ذنوبهم، وعلى أنّ الله تعالى يحبّ هذه الأعمال، ويشكر من يتقرّب بها إليه؛ فيثيبهم ثواباً وافياً، ويزيدهم عليه زيادة كريمة.
قال قتادة: (كان مطرّف بن عبد الله إذا مرّ بهذه الآية: {إنّ الّذين يتلون كتاب اللّه} يقول: هذه آية القرّاء). رواه ابن جرير.
وذلك لما فيها من الشرف والفضل العظيم لهم.
- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويَتَتَعْتَعُ فيه، وهو عليه شاقّ، له أجران». رواه مسلم.
الماهر: الحاذق الذي يقرأ بإتقان من غير تردد.
فلما جمعوا مهارة القراءة وبرّ العمل به نالوا إكرام الله تعالى لهم.
قال ابن حجر: (والمراد بالمهارة بالقرآن جودة الحفظ وجودة التلاوة من غير تردد فيه، لكونه يسَّره الله تعالى عليه كما يسَّره على الملائكة؛ فكان مثلها في الحفظ والدرجة).
ويشهد لما قاله ابن حجر رواية البخاري رحمه الله لهذا الحديث في صحيحه بلفظ: «مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد فله أجران».
وحفظ القرآن هنا يشمل حفظ تلاوته وحفظ رعايته بالعمل به وما يوجبه الإيمان به.
وقوله: (مع السفرة الكرام البررة) إشارة إلى قول الله تعالى: {في صحف مكرّمة . مرفوعة مطهّرة . بأيدي سفرة . كرام بررة}.
وفي المراد بالسفرة أربعة أقوال:
القول الأول: هم الملائكة، واحدهم سافر، والجمع سَفَرة، وهذا القول رُوي عن ابن عباس بإسناد ضعيف، وقال به عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والفراء والبخاري في صحيحه، ورجّحه ابن جرير وابن عطية وابن كثير.
قال الفراء: (فَجُعِلَت الملائكة إذا نزلت بوحي الله تبارك وتعالى وتأديبه كالسفير الذي يصلح بين القوم، قال الشاعر:
ومــا أدع السّـفـارة بـيـن قـومـي ... وما أمشي بغشٍّ إن مشيت)ا.ه.
والقول الثاني: هم الكَتَبة؛ وهو قول ابن عبّاس، ورواية معمر عن قتادة، وقال به من علماء اللغة أبو عبيدة معمر بن المثنّى.
والقول الثالث: هم القرّاء، وهو رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أخرجها ابن جرير الطبري.
والقول الرابع: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا قول وهب بن منبّه؛ رواه عنه عبد بن حميد وابن المنذر كما في الدر المنثور.
وجمع الخليل بن أحمد وابن قتيبة والزجاج بين القولين الأولين؛ فذهبوا إلى أن معنى "السفرة" أي الكَتَبة، وأنّ المراد بهم الملائكة، وهو جمع حسن.
والمقصود أن قول النبي صلى الله عليه وسلم في الماهر بقراءة القرآن (مع السفرة الكرام البررة) تشريف عظيم للماهر بالقرآن، وقد اختلف في كونه معهم على أقوال:
القول الأول: المعيّة في المكانة والمنزلة.
والقول الثاني: هي معيّةُ مصاحَبة في الدنيا؛ فلكثرة تلاوته وتنزّل الملائكة لاستماع الذكر والتلاوة كان مصاحباً لهم.
والقول الثالث: هي معيّة مشاكلة ومشابهة؛ فهو بطاعته وكثرة ذكره قد شابه الملائكة وسلك مسلكهم.
وعلى كلّ هذه الأقوال فوصفه بأنه مع السفرة دون ذكر عين الجزاء دليل على إبهامه لتعظيمه، وأنّه أجر عظيم يكفي في وصفه أن يعدّ صاحبه مع السفرة الكرام البررة، ونظيره ما في الحديث الصحيح: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله)؛ فتذهب الآمال كل مذهب في رجاء عِظَمِ هذا الثواب، فيثابون بما لم يخطر على قلوبهم، ولم يبلغه علمهم، ولم تدركه أمانيهم من عظيم الفضل وجزيل الثواب.
ولذلك ذهب بعض أهل العلم إلى أن مضاعفة الثواب للماهر بالقرآن لا تُحصَر، وأنّ الله تعالى يضاعف له الأجر أضعافاً كثيرة؛ فكما يضاعف الحسنات لبعض عباده إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة؛ فكذلك يكون في خير ما يُتقرَّب به إليه – جلّ وعلا - وهو تلاوة كلامه واتّباع هداه.

والمقصود أنّ ثواب تلاوة القرآن يتفاضل بتفاضل القراء في معنيي التلاوة؛ وهما القراءة والاتباع؛ فمن بلغ فيهما مرتبة الإحسان فهو بأفضل المنازل.
ومن قصّر فيهما حصل له من النقص بحسب تقصيره وتفريطه.
وأما من كان يحسن القراءة ويخالف هدى الله تعالى فإنّ قراءته لا تنفعه عند الله، بل هي حجّة عليه). [بيان فضل القرآن:87 - 90]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 01:01 PM
أنواع ثواب تلاوة القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع ثواب تلاوة القرآن
ومن أحسن تلاوة القرآن فإنّه يُثاب بأنواع من الثواب العظيم في الدنيا والآخرة فضلاً من الله تعالى، وإكراماً منه لصاحب القرآن:
أ: فمما يثاب به في الدنيا:
1: أن تلاوته للقرآن طمأنينة للقلب وسكينة للنفس ونور للصدر، وجلاء للحزن وذهاب للهَمّ؛ كما قال الله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئنّ القلوب} ، وقد فسّر الذكر هنا بالقرآن، ولا شكّ أن القرآن من الذكر، وهو يدخل في معنى هذه الآية دخولاً أوّلياً؛ وتلاوته والاستماع له بقلب منيب يحصل بهما من الطمأنينة والسكينة ما يدفع عن المؤمن انزعاجه من المقلقات والأحداث العارضة والإيذاءات الشيطانية؛ ويثبّته في مواضع الفتن؛ وهذا الثواب النفسي الذي يجده قارئ القرآن بركته على روحه وجسده حتى كأنّ كلَّ عضو من أعضائه تناله بركة تلاوته، من أعظم الثواب المعجّل لقارئ القرآن.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما قال أحد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه، وأبدله مكان حزنه فرحا ".
قال: فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلمها؟
فقال: " بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها " رواه أحمد وابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن حبان والحاكم وغيرهم.
2. ومن ثواب تلاوة القرآن: محبة الله تعالى لمن يتلو كتابه مؤمنا به؛ معظّما لهداه؛ فرحاً بفضله ورحمته؛ وهذه المحبة العظيمة لها آثار مباركة على حياة المؤمن، وكلما كان أحسن تلاوة للقرآن كان نصيبه من هذه المحبة وآثارها أعظم.
ومن دلائل محبّة الله تعالى لمن يتلو كتابه مؤمنا به ثناؤه عليهم في مواضع من كتابه الكريم، ثناء يشرّفهم به ويرغّب به عباده في تلاوة كتابه، والتقرّب به إليه.
وتزداد محبّة الله تعالى بازدياد صدق العبد في التقرّب إلى الله تعالى بتلاوة كتابه وتقديمه إيّاه على ما تشتهيه نفسه كما دلّ عليه الحديث الذي رواه منصور بن المعتمر عن ربعي بن حراش، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة:
- يبغض الشيخ الزاني، والفقير المختال، والمكثر البخيل.
- ويحب ثلاثة: رجل كان في كتيبة؛ فكَرَّ يحميهم حتى قُتِل أو فتح الله عليه، ورجل كان في قوم فأدلجوا فنزلوا من آخر الليل، وكان النومُ أحبَّ إليهم مما يُعدل به، فناموا وقام يتلو آياتي ويتملَّقني، ورجل كان في قوم فأتاهم رجل يسألهم بقرابة بينهم وبينه فبخلوا عنه، وخلف بأعقابهم فأعطاه حيث لا يراه إلا الله ومن أعطاه). رواه الإمام أحمد والنسائي والترمذي بإسناد صحيح.
وقال فروة بن نوفل الأشجعي: كنت جاراً لخباب بن الأرتّ؛ فخرجنا مرة من المسجد، فأخذ بيدي فقال: « يا هناه، تقرب إلى الله بما استطعت، فإنك لن تَقَرَّب إليه بشيء أحبَّ إليه من كلامه » رواه الحاكم والبيهقي واللالكائي، واحتجّ به الإمام أحمد.
وقد فقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فَضْلَ هذا العمل الجليل فكانوا أحسن الأمّة عناية به.
- قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: « لو أن قلوبنا طهرت ما شبعنا من كلام ربنا، وإني لأكره أن يأتي عليَّ يوم لا أنظر في المصحف ». رواه البيهقي في كتاب الاعتقاد.
- وقال عبد الله بن مسعود: « لو أن رجلا بات يحمل على الجياد في سبيل الله، وبات رجل يتلو كتاب الله لكان ذاكرُ الله أفضلَهما» رواه ابن أبي شيبة
- وقال عبد الله بن عمر: « لو بات رجل ينفق دينارا دينارا، ودرهما درهما، ويحمل على الجياد في سبيل الله، وبات رجل يتلو كتاب الله حتى يصبح متقبَّلا منه، وبتُّ أتلو كتاب الله حتى أصبح متقبلا مني، لم أحبَّ أن لي عملَه بعملي » رواه ابن أبي شيبة.
- وروى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي أنه قال: «لو بات رجل يعطي البِيضَ القِيَان، وبات آخر يتلو كتاب الله عز وجل ويذكر الله تعالى» قال سليمان التيمي: (كأنه يرى أن الذي يذكر الله أفضل). رواه أبو نعيم الأصبهاني.
البيض القيان: الجواري ذوات الحسن في الصوت والصورة، وذكرها لأنّها من أَنفَسِ ما يُهدى؛ لمظنّة الشحّ بها.

3: ومن ثواب تلاوته: أن القارئ يتبصّر به ويعتبر فيهديه إلى معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته، ويذكّره بآلائه ونعمائه، ويبصّره بالصراط المستقيم والهدي القويم في جميع شؤونه، ويفقّهه في أحكام دينه وسلوكه وتعامله، ويعلّمه الاعتبار والتفكّر، والتبصّر والتذكر، والحكمة والسداد؛ فيستفيد من القرآن علماً كثيراً مباركاً بما تضمّنه من الآيات البيّنات، والأمثال التي صرّفها الله عزّ وجل عن علم وحكمة وحسن تقدير، وما فيه من القصص الكثيرة المباركة بما حوته من الدروس والمواعظ والعبر، إلى غير ذلك من أنواع البصائر والبيّنات التي تحصل لمن أحسن تلاوة القرآن؛ كما قال الله تعالى: { لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)} ،
- وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)}
- وقال تعالى: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} .
- وقال تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُإِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}
- وقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}
وفي القرآن من أنواع البصائر والبيّنات ما يفتح للعبد أبواب الإيمان واليقين والحكمة؛ فإنّه يرى الأمور بعين البصيرة، ويَنظر إلى الأحداث كما يحبُّ اللهُ أن يُنظر إليها، ولا تغرّه الظواهر التي تغرّ الجاهلين وتخدعهم، بل ينفذ بصره إلى حقيقة ما أراده الله، ويفقه سنن الابتلاء وعواقبه؛ ويعرف هدى الله فيما يعرض له؛ فيتّبع رضوان الله، ويفوز بمحبّته ومعيّته الخاصة، حتى ينال ما وعده الله من الكفاية وحسن العاقبة، وذلك أنّ عالم الغيب يختلف عن عالَم الشهادة، وأكثر الناس إنما ينظرون إلى ظواهر عالم الشهادة ويتخرّصون في عالم الغيب؛ فيغترون بما يرون في الحياة الدنيا، ويضلون عما تحصل لهم به العاقبة الحسنة في أمورهم، وصاحب القرآن يتّبع هدى الله الذي هو عالِمُ الغيب والشهادة، ومن بيده ملكوت كلّ شيء، وإليه عاقبة الأمور؛ فهو الذي يقدّر الأقدار ، ويدبّر الأمر، ويتولّى الجزاء، فتصديق وعده جلّ وعلا واتّباع ما بيّن من الهدى في كتابه الكريم يفضي بصاحبه إلى العاقبة الحسنة.
ولتفاصيل ذلك أمثلة كثيرة تبيّن تفاوت الناس في انتفاعهم من القرآن، فأوفرهم حظا وأحسنهم نصيباً من يحسن تلاوة القرآن بقلب منيب؛ لأنّ الله تعالى قد وعد أهل الإنابة بالهداية؛ كما قال تعالى: {قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب} وقال تعالى: {الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب}.
ومن هدى الله قلبه، ونوّره بنور وحيه، وأحياه بروح أمره : آتاه فرقانا يميّز به بين الحقّ والباطل، ويثبت به في مواضع الفتن التي تزلّ فيها الأقدام، ويبصّره بالحقائق على ما هي عليه، وينظر إلى العواقب كأنه يراها رأي عين، لا يرتاب فيها، ولا يتردد في اتّباع هدى الله، وهذا علم يقيني خاصّ خالص لأهل الخشية والإنابة الذين ينتفعون بما أنزل الله تعالى في كتابه، ويعتبرون بما فيه من الآيات والعبر، ويعقلون أمثاله، ويصدّقون أخباره، ويؤمنون به ويعظّمونه؛ فلا يستوي هؤلاء الموفّقون المهديّون ومن كانوا في غفلة عن هدى القرآن متبعين لما تهواه أنفسهم، كما قال الله تعالى: { أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}، وقال تعالى: { أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)}.
والمقصود أن من أعظم ما يثاب به قارئ القرآن بقلب منيب ما يحصل له من العلم اليقيني الخاصّ المبارك القائم على بصائر القرآن وبيّناته، وهذا العلم الجليل أصلٌ لهدايات عظيمة، وبركات كثيرة.
ولو ذهبنا نشرح كل نوع من أنواع ثواب القرآن لطال بنا المقام، وتشعّب الحديث شُعَباً كثيرة؛ ورأينا في كل شعبة ما يدعونا للوقوف عليها، والتفكّر فيها، وتأمّل آثارها المباركة، وتعرّف خلاصة ما ذكره أهل العلم فيها من الفوائد والتنبيهات؛ ولطائف الاستدلالات؛ فيفضي بنا ذلك إلى التطويل والإكثار من حيث أردنا التلخيص والاختصار، وحسبنا فيما بقي أن نوجز العبارة بما يكفي للدلالة والتنبيه على ما نَقْصُر عن تَقَصِّيه.

4: ومن أنواع ثواب تلاوة القرآن؛ زيادة الإيمان بتلاوته وبالاستماع إليه؛ كما قال الله تعالى: {وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا}، وقال تعالى: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا} ، وأوجه زيادة الإيمان بتلاوة القرآن وبالاستماع إليه متعددة؛ فإنّ الإيمان يزيد بالطاعات؛ وتلاوة القرآن عبادة قولية يثاب عليها العبد ويزداد بها إيمانه، ودعاء العبد لربّه إذا مرّ بآية رحمة أو آية عذاب؛ عبادة قولية قلبية يثاب عليها.
وما يقوم بقلب قارئ القرآن من أنواع العبادات القلبية من التصديق وزيادة اليقين والخشية والإنابة والرغبة والرهبة والصدق والإخلاص والتوكل والاستعانة وتعظيم حرمات الله وشعائره وغير ذلك من العبادات القلبية العظيمة؛ كل ذلك مما يزداد به إيمان العبد إذا أحسن تلاوة القرآن؛ فإنَّ القرآن يخاطبُ القلبَ وينمِّي فيه هذه العبادات العظيمة ؛ التي إذا صحّت في القلب صلح القلب وصلح سائر الجسد.
ثمّ ما يقوم به قارئ القرآن من أنواع العبادات العملية التي أرشد الله إليها في كتابه الكريم كإقامة الصلاة وإحسان الإنفاق في سبيله، والاجتهاد في فعل الخيرات، والكفّ عن المحرمات، مما يزداد به العبد إيمانا وصلاحاً ؛ فإنّ القارئ الصادق إذا وقف على أمر لله تعالى حرص على أن يكون من أهل ذلك الأمر، وإذا وقف على نهي عن أمر من الأمور حرص على اجتنابه، ولا يزال كذلك حتى يحقق التقوى التي مبناها على فعل ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه.
والخلاصة أن زيادة الإيمان بتلاوة القرآن تكون بقراءته وبما يترتّب عليها من أنواع العبادات القولية والقلبية والعملية، وأنّ زيادة الإيمان من عاجل ثواب قارئ القرآن.
5: ومن أنواع ثواب قراءة القرآن ما جعل الله تعالى لقارئه من الحسنات الكثيرة المضاعفة، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة:
- منها حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ حرفا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول "الم" حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». رواه الترمذي وصححه والبيهقيّ في شعب الإيمان وغيرهما، وقد رُوي عن ابن مسعود مرفوعاً وموقوفاً من طرق يشدّ بعضها بعضاً، وصححه الألباني وجماعة من أهل العلم.
- ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيحب أحدكم إذا رجع إلى أهله أن يجد فيه ثلاث خَلِفَات عظام سمان؟» قلنا: نعم، قال: «فثلاث آيات يقرأ بهن أحدكم في صلاته، خير له من ثلاث خلفات عظام سمان» رواه مسلم في صحيحه.
ورواه البخاري في جزء القراءة خلف الإمام، ولفظه: «هل يُحِبُّ أحدكم إذا أتى أهله أن يجد عندهم ثلاث خلفات عظاما سمانا» قلنا: نعم يا رسول الله؛ قال: «فثلاث آيات يقرأ بهن»
الخَلِفة: الناقة التي في بطنها ولدها.
- ومنها حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في الصفة، فقال: «أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان، أو إلى العقيق، فيأتي منه بناقتين كوماوين في غير إثم، ولا قطع رحم؟»، فقلنا: يا رسول الله نحب ذلك، قال: «أفلا يغدو أحدكم إلى المسجد فيَعْلَمُ أو يقرأُ آيتين من كتاب الله عز وجل، خير له من ناقتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، ومن أعدادهن من الإبل» رواه مسلم، وأحمد وأبو داوود ، وفي روايتهما (فيتعلم آيتين من كتاب الله..).
- الكوماء: الناقة العظيمة السنام). [بيان فضل القرآن:91 - 99]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 01:03 PM
أوجه تفاضل ثواب التلاوة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أوجه تفاضل ثواب التلاوة
ومما ينبغي أن يعلم أن ثواب التلاوة يتفاضل من وجوه:
فمن ذلك: أن التلاوة بحضور قلب وتدبّر وخشوع أعظم أجراً من التلاوة التي يضعف فيها حضور القلب وعقل المعاني وتدبّر الآيات.
فإنّ العبد يثاب على ما يقوم في قلبه من العبادات القلبية عند تلاوته، وما يظهر من آثارها على جوارحه؛ كما قال الله تعالى: { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)}
فهؤلاء بلغوا مرتبة الإحسان في استماع تلاوة القرآن؛ وأثنى الله عليهم بما يدل على محبّة عملهم؛ من معرفة الحقّ وظهور أثره عليهم وقولهم ما أحبّه الله تعالى؛ حتى نوّه بذكرهم في كتابه الكريم، وأعلى شأنهم وأحسن جزاءهم وأغرى بالاتّساء بهم.
- ومن أوجه التفاضل أن الإقبال على تلاوة القرآن في حال الفتن والعوارض والصوارف أعظم أجراً لصاحبها مع سلامته من تلك الفتن المثبّطة.
- ومن أوجه التفاضل في ثواب التلاوة: أن سور القرآن تتفاضل؛ وآياته تتفاضل كذلك، فتلاوة السور والآيات الفاضلة أعظم أجراً من تلاوة غيرها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (حروف القرآن تتفاضل لتفاضل المعاني وغير ذلك؛ فحروف الفاتحة له بكل حرف منها حسنة أعظم من حسنات حروف من {تبت يدا أبي لهب}).
وهذا مبني على أصل تفاضل آيات القرآن وسوره؛ فإنّ تفاضل ثواب التلاوة من آثار تفاضل الآيات نفسها؛ فقراءة الآية الأعظم فضلاً ثوابها أعظم، لعظمة معانيها ودلائلها وما تقتضيه من عبادات تقوم في قلب التالي.

ومن أوجه التفاضل أيضاً: أنَّ التلاوة الحسنة التي يرتّل القارئ فيها ما يقرأ، ويحبّر قراءته ويزيّن صوته بها، أعظم أجراً من التلاوة التي لا تكون كذلك.
وقد اختلف العلماء في المفاضلة بين إكثار التلاوة مع الإسراع وبين ترتيلها وتحبيرها، ولكل أصحاب قول أدلّتهم.
وخلص ابن القيّم رحمه الله من بحث هذه المسألة إلى قوله: (والصواب في المسألة أن يقال: إن ثواب قراءة الترتيل والتدبر أجل وأرفع قدرا، وثواب كثرة القراءة أكثر عددا
- فالأول: كمن تصدق بجوهرة عظيمة، أو أعتق عبدا قيمته نفيسة جدا.
- والثاني: كمن تصدق بعدد كثير من الدراهم، أو أعتق عددا من العبيد قيمتهم رخيصة)ا.هـ.
وقد يحتاج القارئ إلى التنويع في قراءته؛ فيقرأ أحيانا بتحبير وتجويد، وأحيانا يحدر في قراءته لتحقيق مقاصد أخرى كالتيسير على النفس بالتنويع، ومراجعة الحفظ، والاستكثار من الختمات في الأوقات الفاضلة والأماكن الفاضلة.
وهذه المسألة من مباحث آداب تلاوة القرآن، وإنما المراد هنا التنبيه على أسباب التفاضل في ثواب التلاوة.
وهذه الحسنات العظيمة التي جعلها الله للمؤمن الذي يقرأ القرآن؛ داخلة في جملة الفضل الكبير الذي بشّر الله به المؤمنين في قوله تعالى: {وبشّر المؤمنين بأنّ لهم من الله فضلاً كبيراً}.
فإن الحسنات تذهب السيئات، وترتفع بها الدرجات، وتقود إلى حسنات أخرى؛ فلا يزال المؤمن يستكثر من الحسنات بتلاوته حتى يكون القرآن ربيع قلبه ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب غمّه، فإنّ الغم والحزن من جملة عقوبات السيئات؛ فإذا كفّرت السيئات بالحسنات؛ ذهب أثرها، واستقبل القلب أثر الحسنات وبركاتها وهو في عافية من آثار السيئات). [بيان فضل القرآن:99 - 101]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 01:05 PM
ثواب تلاوة القرآن في الآخرة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ثواب تلاوة القرآن في الآخرة
وإذا انتقل صاحب القرآن من هذه الحياة الدنيا إلى الدار الآخرة تبيّن له من ثواب تلاوته للقرآن ما يحمد به عاقبة إقباله على تلاوته في الدنيا وتمسّكه به، واتّباعه لهداه؛ فإنّه يظلّه في الموقف، ويشفع له، ويحاجّ عنه، ويقوده إلى الجنة، ويجد بسببه من الكرامة والرفعة ما لا يخطر له على بال.
وقد رُوي في الثواب الأخروي لتلاوة القرآن أحاديث جليلة القدر عظيمة النفع:
- منها: حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة».
قال معاوية بن سلام: بلغني أن البطلة: السحرة،. رواه مسلم في صحيحه.
- ومنها: حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( يؤتى يوم القيامة بالقرآن وأهله الذين كانوا يعملون به في الدنيا تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجان عن صاحبهما )). رواه مسلم.
- ومنها: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( القرآن شافع مشفَّع ومَاحِلٌ مصدَّق، مَن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار )). رواه ابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني.
- ومنها: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» رواه أحمد وأبو داوود والترمذي والنسائي في الكبرى، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه ولفظه: (يقال لصاحب القرآن حين يدخل الجنة: اقرأ وارقه في الجنة، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك في الدرجات عند آخر ما تقرأ).
- ومنها: حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فسمعته، يقول: «تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة» ثم سكت ساعة، ثم قال: " تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان، وإنهما تظلان صاحبهما يوم القيامة، كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف، وإن القرآن يأتي صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك بالهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذا؟ فيقال لهما: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذًّا كان أو ترتيلا)). رواه أحمد وابن أبي شيبة والدارمي ومحمد بن نصر والطبراني والبغوي كلهم من طريق: بشير بن المهاجر الغنوي، عن عبد الله بن بريدة عن أبيه.
وهذا الحديث حسّنه الألباني رحمه الله في الصحيحة). [بيان فضل القرآن:102 - 104]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 01:26 PM
الباب السادس: فضل أهل القرآن



المراد بأهل القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المراد بأهل القرآن
مما يتصّل ببيان فضل القرآن بيان فضل أهله؛ فإنّ فضلهم من آثار فضله، وما ورد في فضلهم من نصوص الكتاب والسنّة مما يضاف إلى دلائل فضله؛ لما عُلم من أنّهم لم يكتسبوا هذا الفضل إلا بسببه؛ فبه أحبّهم الله، وبه نفعهم، وبه رفعهم وشرّفهم، واصطفاهم على من سواهم لصحبة كتابه؛ كما قال الله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا}.
ومن أشرف ما ورد في فضل أهل القرآن حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لله عز وجل أهلين من الناس »
قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟
قال : « أهل القرآن ؛ أهل الله وخاصته ». رواه أحمد والنسائي بإسناد صحيح.
فوصفهم بأهل القرآن لكثرة مصاحبتهم له كما يصاحب المرء أهله وينتمي إليهم ويواليهم.
وأضافهم إلى الله إضافة تشريف؛ تقتضي تخصيصهم بمزيّة شريفة ينفردون بها عن سائر حزب الله؛ فإنّ اسم الأهل أخصّ من الحزب.
والإضافة في قوله "أهل الله" كالإضافة في "أنصار الله" ، و"أولياء الله" ؛ هي إضافة مخلوق إلى خالقه؛ لكنّها تقتضي زيادة تشريف مع بيان وصف مخصوص تمتاز به تلك الإضافة.
فالإضافة في "أنصار الله" تقتضي تشريفهم بنصرتهم لله عزّ وجلّ وتولّيهم إيّاه إذ نصروا دينه وجاهدوا في سبيله بما أمكنهم من أنواع الجهاد.
والإضافة في "أولياء الله" تجمع مع معنى النصرة معنى المحبة الخالصة.
والإضافة في "أهل الله" تجمع مع ما تقدّم تشريفاً زائداً نالوه بكثرة مصاحبتهم لكتابه؛ وكثرة تلاوته وذكره جلّ وعلا بأحبّ الكلام إليه؛ وقد قال الله تعالى: {فاذكروني أذكركم}، وقال في الحديث القدسي: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ هم خير منهم » متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربّه جلّ وعلا.
وأهل القرآن هم خاصّة أصحابه، وأعرفهم بحدوده وحروفه، وأبصرهم بهداه وبيّناته؛ وهُم لكثرة تلاوتهم له وسماع الله تعالى لتلاواتهم، وذكرهم لله عزّ وجلّ وذكر الله لهم، وتبصّرهم بكلام الله وتبصير الله لهم، واتّباعهم لهدى الله وهداية الله لهم، ورضاهم عن الله ورضوان الله عليه؛ سمّاهم أهله تشريفاً لهم؛ إذ كانوا معه بالاستجابة والتعبّد والتقرّب، وهو معهم بالإجابة والإثابة والقرب، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}
وهم في هذه الحياة الدنيا مع هذا القرآن بقلوبهم وجوارحهم وتطلّعاتهم وأمانيهم، يتلونه حقّ تلاوته، ويتبّعونه حقّ اتّباعه، قد انحازوا للقرآن انحياز المرء إلى أهله، وألفوه كما يألف المرء أهله، وأحبّوه كما يحبّ المرء أهله، فكانوا أهل القرآن بحق.
وشرّفهم الله بأن عوّضهم عمّا تركوه لأجله بأشرف العوَض وأحسنه، وأثابهم على صدقهم في تلاوته واتّباعه أجزل الثواب وأجمله؛ بأن سمّاهم أهله، وفي تلك التسمية الشريفة - مع إبهام عين الجزاء إبهامَ تعظيم وتفخيم - ما يملأ قلوبهم طمأنينة وثقة بعظيم فضله جلّ وعلا، فتذهب آمالهم كلَّ مذهب في كَرَمه جلّ وعلا، ثمّ يعلمون أنّ ما لديه أعظم من أن تبلغه أمنياتهم أو أن يخطر على قلوبهم). [بيان فضل القرآن:105 - 107]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 01:32 PM
المراد بصاحب القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المراد بصاحب القرآن
ومما ينبغي أن يُعلم أن صاحب القرآن هو المؤمن به المتبع لما تضمنه من الهدى الذي يتعاهد تلاوته بالليل والنهار حفظاً أو نظراً من المصحف، حتى يكون له به اختصاص وصف الصحبة.
وهذه الصفات يتفاضل المسلمون فيها تفاضلاً كبيراً، فأكثرهم إيماناً واتباعاً وتلاوة أكثرهم صحبة للقرآن وأعظمهم حظاً بالفضائل المترتبة على ذلك.
ولا يشترط في صاحب القرآن أن يكون حافظاً لجميع ألفاظه عن ظهر قلب، بل يَصْدُق هذا الوصف على من يقرأُه نظراً بالشروط المذكورة آنفاً، والتي دلت عليها النصوص، ودلت على أن من اتصف بأضدادها لم يكن من أهل القرآن.
فالذي لا يؤمن بالقرآن ليس من أصحابه، والذي يهجره هجر عمل أو هجر تلاوة ليس من أصحابه أيضاً.
ومما يدل على عدم اشتراط حفظ القرآن عن ظهر قلب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (اقرؤوا القرآن فإنه يأتي شفيعا لأصحابه يوم القيامة) رواه مسلم.
فجعلهم بالقراءة المعتبرة شرعاً أصحاباً للقرآن، والقراءة قد تكون من المحفوظ، وقد تكون من المكتوب، فبقراءة القرآن قراءة صحيحة تحصل الصحبة، فمستقل ومستكثر.
والمراد بالقراءة الصحيحة هنا هي القراءة الصحيحة في حكم الشرع، وليس المراد صحّة الأداء عند أهل الاصطلاح، فالقراءة الصحيحة المعتبرة شرعاً هي ما توفر فيها شرطا الإخلاص والمتابعة على قدر الاستطاعة؛ فيدخل في ذلك من يقرأُه ويتتعتع فيه وهو عليه شاقّ؛ ويدخل فيه من يقرؤه ويخطئ في قراءته عن غير عمد، فإنّه ينال حظه من صحبة القرآن بصدقه وصلاح نيّتِه، وتعاهدِه تلاوةَ القرآن مع الإيمان به واتّباع ما يعرفه من هداه، وليس شيء أضرّ على المسلم من مخالفته لما يعرف من هدى القرآن.
وهذا يدلّك على أنّ أصحاب القرآن يتفاضلون في وصف صحبته تفاضلاً كبيراً، وأنّ الأصل الذي يُبنى عليه وصف الصحبة هو الإيمان بالقرآن.

ولفظ الصحبة يطلق في اللغة على معانٍ كثيرة ترجع إلى معنيين كبيرين:
أحدهما: صحبة الملازمة والاختصاص.
والآخر: صحبة الموالاة والمناصرة.
فأمّا صحبة الملازمة والاختصاص؛ فكما في قوله تعالى: {والصاحب بالجنب}، وقوله: {وما صاحبكم بمجنون}، وقوله: {يا صاحبي السجن..}، وقوله: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن}، ومن هذا المعنى: {أصحاب الجنّة}، و{أصحاب النار} لملازمتهم إياها واختصاصهم بها.
والاختصاص قد يكون اختصاص مُلك كما في قوله تعالى: {إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنّة}، وتقول: أنا صاحب هذه الدار، أي: مالكها.
وقد يكون اختصاصاً من غير إرادة معنى الملك؛ كأصحاب السبت؛ لاختصاصهم بفتنة يوم السبت وما كان بسببه من العذاب، وكقوله: {ولا تكن كصاحب الحوت}، وقوله: {ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل}.
وأمّا صحبة الموالاة والمناصرة؛ فمن شواهدها قول الله تعالى: {لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منّا يُصحبون} أي ليس لهم صاحب يناصرهم ويمنعهم منّا، ومن هذا المعنى قولهم: هذا من أصحابنا، وهذا من خصومنا.
وقال لبيد بن ربيعة:
فحمَى مقاتلَه وذادَ برَوقِه ... حَمْيَ المحاربِ عورةَ الصُّحْبَان


والمقصود أن لفظ الصحبة يطلق على المعنيين كليهما إطلاقاً صحيحاً؛ وقد يجتمعان؛ فصاحبك الذي يلازمك، وصاحبك الذي ينصرك ويؤيدك، والثاني خير من الأوّل، ومن جمعهما فهو بخير المنازل، ومن قصّر في صحبة الموالاة لم تجعله كثرة الملازمة أفضل حالاً ممن أحسن الموالاة؛ فإنّ الصحبة لها واجبها، ومن واجبها النصرة والموالاة والنصيحة للمصحوب.
وبهذا النوع من الصحبة امتاز الصحابة رضي الله عنهم على من سواهم، مع أنّ الذين جمعوا القرآن من الصحابة رضي الله عنهم قليل في جنب من لم يجمعه، ومنهم من مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجمعه، ثم جمعه بعد موته وكان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل القرآن الذين يعلّمونه ويُقرِئُونه.
فامتياز الصحابة على من سواهم باتّباعهم للقرآن، وحسن تلاوته، ومعرفتهم بتأويله، وجهادهم به ونصرتهم له أكثر من امتيازهم بحفظه عن ظهر قلب؛ والقرّاء الذين جمعوا القرآن حفظاً من التّابعين ومن بعدهم كانوا أكثر عدداً، والصحابة كانوا أحسن عملاً وأحسن مصاحبةً للقرآن، وتلاوة له، وقياماً به، ورعاية لحقّه، وكان تعلّمهم للقرآن أحسن التعلّم الدالّ على حسن الصحبة للقرآن.
- قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كان الرجل منَّا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن). رواه ابن أبي شيبة وابن جرير.
- وقال جندب بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: « كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن فازددنا به إيمانا» رواه البخاري في التاريخ الكبير وابن ماجه في سننه.
- وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: «لقد عشنا برهة من دهرنا وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة على محمد صلى الله عليه وسلم فيتعلم حلالها وحرامها، وما ينبغي أن يوقف عنده فيها كما تعلمون أنتم القرآن، ثم لقد رأيت رجالا يؤتى أحدهم القرآن؛ فيقرأ ما بين فاتحته إلى خاتمته ما يدري ما آمره ولا زاجره، ولا ما ينبغي أن يوقف عنده منه، ينثره نثر الدقل». رواه الطحاوي والحاكم والبيهقي.
ومن عرف مقاصد القرآن أدرك أن مَن استوعب ألفاظ القرآن حفظاً عن ظهر قلب مع تفريطه في كثير من فقهه وآدابه ليس بأولى بوصف الصحبة ممن تعلّم القرآن على طريقة الصحابة رضي الله عنهم وإن لم يبلغ استيعابَ حفظه.
ولا شكّ أن من حفظ القرآن عن ظهر قلب مع حسن اتّباعه لهدى القرآن خير ممن لم يحفظه، لكن من الخطأ البيّن تقديم معيار حفظ ألفاظه على معيار اتّباع هداه في وصف الصحبة.

وقد ذهب بعض المتأخرين من شرّاح الأحاديث إلى أنّ المراد بصاحب القرآن هو من يحفظه عن ظهر قلب، ومنهم من استدلّ بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» رواه أحمد وأبو داوود والترمذي وغيرهم.

وفي هذا الاشتراط غفلة عن مقصد الحديث ولازمه؛ فإنّ قوله "فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها" صريح في تفاضلهم في حفظ القرآن، ولا يكاد يخلو ملازمُ تلاوةِ القرآن مع العمل به من حفظ شيء من آيات القرآن؛ فلو كان حِفْظ القرآن كاملاً من شرط صحبته لكانوا سواء في الدرجة.
ويشهد لهذا التفسير قول الضحّاك بن قيس رضي الله عنه: (يا أيها الناس، علموا أولادكم وأهاليكم القرآن، فإنه من كُتب له من مسلم يدخله الله الجنة أتاه ملكان، فاكتنفاه، فقالا له: اقرأ وارتق في درج الجنة، حتى ينزلا به حيث انتهى علمه من القرآن). رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح.
ومقصد الحديث ظاهر في الحثّ على أخذ القرآن بقوّة والاجتهاد في التقرّب إلى الله به، لا مجرّد حفظ ألفاظه.
والقول في أصحاب القرآن نظير القول في أصحاب الصلاة، وأصحاب الصيام، وأصحاب الصدقة، وأصحاب الجهاد؛ فإنّ من الناس من تغلب عليه العناية بأنواع من الأعمال الصالحة حتى يكون له اختصاص بها لطول ملازمتها وإحسانها؛ فكذلك صاحب القرآن.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة: يا عبد الله، هذا خير؛ فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان).
قال أبو بكر الصديق: يا رسول الله! ما على أحد يدعى من تلك الأبواب من ضرورة؛ فهل يُدعى أحد من تلك الأبواب كلها؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم، وأرجو أن تكون منهم»). [بيان فضل القران:107 - 112]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 01:34 PM
قوادح صحبة القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (قوادح صحبة القرآن
مما ينبغي أن يعلم ويُحترز منه قوادح صحبة القرآن؛ وهي على أربع درجات:
الدرجة الأولى: ما يقدح في صحّة الإيمان بالقرآن، وذلك بارتكاب ناقض من نواقض الإيمان بالقرآن؛ فمن فعل ذلك فقد خان الله عزّ وجلّ، وخان صُحبة كتابه، ووقع في الشرك الأكبر المخرج عن الملة، والعياذ بالله.
ومن تلك النواقض: التكذيب بالقرآن، والاستهزاء ببعض آياته، والاستخفاف بالمصحف وإهانته، والمراءاة الكبرى بقراءته، وهي أن تكون قراءته من غير إيمان به وإنما ليقال: هو قارئ، أو ليصيب به عرضاً من الدنيا.
والدرجة الثانية: المراءاة الصغرى بقراءته، وهي المراءاة بتحسين التلاوة وإكثارها أحياناً، لما يرى من نظر بعض الناس إليه، أو لأجل أن يُثنى عليه بذلك، أو ليصيب عرضاً من الدنيا، مع بقاء أصل الإيمان بالله في قلبه، واجتنابه نواقض الإسلام؛ وهذا شركٌ أصغر؛ وهو من أعمال النفاق، وهو من أشنع القوادح التي يجب على صاحب القرآن تجنّبها والاحتراز منها؛ فإنّ الوعيد عليها شديد.
والدرجة الثالثة: هجر العمل به أحياناً؛ فأمّا الهجر التامّ فيلحق صاحبه بالدرجة الأولى، لأنه إعراض مطلق مخرج عن الملّة، وأما هجر العمل ببعض واجباته بما لا يخرج صاحبه من الملّة؛ فهو مما يقع من بعض المسلمين؛ فيقع منهم ارتكاب لبعض الكبائر التي يستحقون عليها العذاب إن لم يتوبوا إلى الله؛ ويقع منهم مخالفة لهدى القرآن في بعض الأمور؛ فيستحقون العقاب على مخالفتهم؛ وقد حذّر الله تعالى عباده من المخالفة؛ فقال: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
والدرجة الرابعة: هجر تلاوته مع بقاء العمل به؛ باجتناب الكبائر، وأداء الفرائض؛ وهذا قد يقع من بعض المسلمين؛ فتمضي عليه أيام لا يقرأ من القرآن إلا ما تصحّ به صلاته، وهذا الهجر مما يتخلّف به صاحبه عن الرتب العليا ودرجات الكمال التي فيها شرفه ورفعته.
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن مثل التمرة لا ريح لها وطعمها طيب حلو، ومثل المنافق الذي يقرأ القرآن مثل الريحانة ريحها طيب وطعمها مر، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر))). [بيان فضل القرآن:113 - 114]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 01:36 PM
تقديم أهل القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تقديم أهل القرآن
من فضائل أهل القرآن، وتشريف الله تعالى لهم؛ أن رفعهم به، وحكم بتقديمهم، وجعل لهم حُرمة تُرعى، وإجلالاً يُتقرّب به إليه تعالى، وقد دلّ على هذا جُملة من الأحاديث:
منها: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين». رواه مسلم.
ومنها: حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء، فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء، فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم سِلْما » رواه مسلم، وفي رواية عنده: « فأقدمهم سِنّا ».
ومنها: حديث عمرو بن سلمة الجرمي قال: (كان يمر علينا الركبان فنتعلم منهم القرآن، فأتى أبي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ليؤمكم أكثركم قرآنا»، فجاء أبي فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «يؤمكم أكثركم قرآنا»، فنظروا؛ فكنت أكثرهم قرآنا؛ فكنت أؤمّهم، وأنا ابن ثمان سنين). رواه النسائي في الكبرى.
ومنها: حديث هشام بن عامر الأنصاري رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقلنا: يا رسول الله! الحفر علينا لكل إنسان شديد؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احفروا وأعمقوا وأحسنوا، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد» قالوا: فمن نقدّم يا رسول الله؟ قال: «قدموا أكثرهم قرآنا» قال: فكان أبي ثالث ثلاثة في قبر واحد). رواه أحمد وأبو داوود والنسائي واللفظ له، وفي رواية عنده: (فكان أبي ثالث ثلاثة، وكان أكثرهم قرآنا فقدّم).
ومنها: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في ثوب واحد، ثم يقول: «أيهم أكثر أخذا للقرآن»، فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد، وقال: «أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة» رواه البخاري في صحيحه.
ومنها: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط» رواه ابن المبارك وأبو داوود والبيهقي مرفوعاً، ورواه البخاري في الأدب المفرد وابن أبي شيبة وابن المبارك في رواية موقوفاً على أبي موسى، وله شواهد من أقوال الصحابة رضي الله عنهم مما يدلّ على أنّ له أصلاً، وقد حسّنه الألباني.
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن؛ فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار؛ فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالا فهو يهلكه في الحق؛ فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل » رواه البخاري.
ومنها: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار ». رواه مسلم.
ومنها: حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويَتَتَعْتَعُ فيه، وهو عليه شاقّ، له أجران». رواه مسلم). [بيان فضل القرآن:114 - 116]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 01:38 PM
فضل تعلّم القرآن وتعليمه

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فضل تعلّم القرآن وتعليمه
إن السبيل إلى إدراك فضيلة أهل القرآن هو تعلّمه على منهاج الصحابة رضي الله عنهم؛ الذين أمرنا بإحسان اتّباعهم كما قال الله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)}.
فيتعلّمه كما تعلّموه؛ فيتحفّظ ألفاظه، ويتعرّف معانيه، ويهتدي بهداياته، ويأخذه شيئاً فشيئاً على قصد من غير غلوّ ولا جفاء.
وبسلوك المؤمن هذا السبيل صدقاً وإخلاصاً يكون من زمرة خير هذه الأمّة وأفضلها؛ بلغ غايته أو مات دونها.
- وفي صحيح البخاري من حديث سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « خيركم من تعلم القرآن وعلمه ».
وفي رواية في صحيح البخاري: «إن أفضلكم من تعلم القرآن وعلمه»
قال سعد بن عبيدة: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج قال: « وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا ».
قال ابن كثير: (كان أبو عبد الرحمن السلمي الكوفي أحد أئمة الإسلام ومشايخهم من رغب في هذا المقام، فقعد يعلم الناس من إمارة عثمان إلى أيام الحجاج قالوا: وكان مقدار ذلك الذي مكث فيه يعلم القرآن سبعين سنة، رحمه الله، وآتاه الله ما طلبه).
وقد رفع الله قدره، وأعلى شأنه، وأبقى ذكره؛ فعامّة مصاحف المسلمين اليوم وقراءاتهم إنما هي من طريقه؛ حتى دوّن اسمه في كثير من المصاحف عند توثيق روايته.
وأبو عبد الرحمن السلمي هو عبد الله بن حبيب بن ربيعة ، وهو القائل: « حدثنا من كان يقرئنا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يقترئون من رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر آياتٍ فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل قالوا فعلمنا العلم والعمل ». رواه الإمام أحمد.
وتعلّم القرآن يشمل تعلّم ألفاظه ومعانيه وهداياته.
- وعن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من علَّم آية من كتاب الله عز وجل كان له ثوابها ما تليت)). رواه أبو سهل القطّان، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
- وعن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن في الصفة، فقال: «أيكم يحب أن يغدو إلى بطحان أو العقيق، فيأتي كل يوم بناقتين كوماوين زهراوين، فيأخذهما في غير إثم، ولا قطع رحم؟» قال: قلنا: كلنا يا رسول الله يحب ذلك.
قال: «فلأن يغدو أحدكم إلى المسجد، فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل» رواه أحمد وأبو داوود.
- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «إن هذا القرآن مأدبة الله، فمن استطاع أن يتعلم منه شيئا فليفعل، فإن أصفر البيوت من الخير البيت الذي ليس فيه من كتاب الله تعالى شيء، وإن البيت الذي ليس فيه من كتاب الله شيء خرب كخراب البيت الذي لا عامر له، وإن الشيطان يخرج من البيت يسمع سورة البقرة تقرأ فيه» رواه عبد الرزاق والدارمي والطبراني في المعجم الكبير من طرق عن أبي إسحاق إبراهيم الهجري عن أبي الأحوص عن ابن مسعود، واللفظ لعبد الرزاق.
وأخرجه أيضاً عبد الرزاق وأبو عبيد وابن أبي شيبة والدارمي والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم بلفظ: «إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، وهو النور المبين، والشافع النافع، عصمة لمن يتمسك به، ونجاة لمن تبعه، لا يعوج فيقوم، ولا يزيغ فيستعتب، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق عن كثرة الرد، اتلوه فإن الله يأجركم على تلاوته بكل حرف منه عشر حسنات، أما إني لا أقول ألف ولام، ولكن ألف عشرا، ولام عشرا».
وإبراهيم الهجري فيه لين ؛ لكن لهذا الأثر طرق يشدّ بعضها بعضاً، فيصحّ به.
وقوله : (مأدبة الله ) اختلف في ضبطه ومعناه على قولين:
أحدهما: (مأدَبة): مَفْعَلة من الأدَب، أي أنّه يؤدّب من يقرأُه ويفقهه ؛ فيحمله على محاسن الأقوال والأعمال، وما تحسن به حاله وعاقبته، ويعظه عن المساوئ فيجتنبها، ولكثرة ما يؤدّب القرآنُ قرَّاءه سمّاه (مأدَبة) على المبالغة، أي كثير الأدب حسن التعليم، وإضافته إلى الله تعالى إضافة لها آثارها وبركاتها.
والقول الآخر: (مأدُبة) بضمّ الدال، وهي في الأصل: الصَّنيعة من الطعام يدعى لها الناس، فسمّى القرآن مأدُبة لما فيه من الخير الكثير الذي ينتفع به الناس، وهو أصل غذاء الأرواح، وفيه شفاء لما في الصدور، وزكاة للنفوس، وطمأنينة للقلوب، فلا يحرم خير هذا القرآن إلا مريض القلب جداً أو ميّته.
وفي شعب الإيمان للبيهقي من حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « كل مؤدب يحب أن تؤتى مأدبته، ومَأدبة الله القرآن فلا تهجروه » ، وفي إسناده ضعف.
والقولان صحيحان في نفسيهما، لكن سياق الحديث يرجّح المعنى الأوّل فإنه قال: « إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم » ، وهذا ظاهر في أنّه أراد معنى الأدَب والتعليم.
وذهب الخليل بن أحمد إلى أنّ المأدَبة والمأدُبة لغتان صحيحتان في صنيعة الطعام التي يُدعى إليها وحكاه أبو عبيد عن خلف الأحمر.
وأرجع أبو منصور الأزهري المعنيين إلى معنى واحد؛ فقال: (الأدَبُ الذي يتأدَّب به الأديبُ من الناس، سُمّيَ أَدَبا لأنه يَأْدِبُ الناسَ الذين يتعلَّمونه إلى المحامد وينهاهم عن المقابح، يأدِبهم أي يدعوهم، وأصل الأدب الدعاء، وقيل للصنيع يدعى إليه الناس: مدعاة ومأدبة)). [بيان فضل القرآن:117 - 120]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 01:43 PM
فضل حفظ القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فضل حفظ القرآن
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد فله أجران». رواه البخاري في صحيحه.
والمراد بحفظ القرآن في النصوص يشمل معنيين لا يتمّ الحفظ إلا بهما:
المعنى الأول: حفظ حدوده وأمانته ورعايتها.
المعنى الثاني: حفظ ألفاظه واستظهارها عن ظهر قلب.
والمعنى الأوّل أجلّ من الثاني، بل هو شرط الانتفاع به.
وقد قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)}
فقال: {استحفظوا} أي أمروا بحفظه، ولم يقل: بما حَفِظوا، فإنهم لم يحفظوه حقّاً، وإن كان عندهم مكتوباً، وكان أكبر إثمهم في عدم حفظ حدوده وأداء أمانته، وتغييرهم فيه.
وكانت الآية قد نزلت في كتم اليهود لآية الرجم وهي مكتوبة عندهم في التوراة يعرفونها، ومنهم من يحفظ ألفاظها ويعرف موضعها، لكنّهم لم يحفظوا أمانة الله فيها، ولم يرعوا حدوده بالحكم بها.
ففي صحيح مسلم من حديث البراء بن عازب، قال: مُرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمَّما مجلودا، فدعاهم صلى الله عليه وسلم، فقال: «هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟»، قالوا: نعم، فدعا رجلا من علمائهم، فقال: «أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم» قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا، فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، قلنا: تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم، والجلد مكان الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأمر به فرُجِمَ، فأنزل الله عز وجل: {يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر} إلى قوله {إن أوتيتم هذا فخذوه}، يقول: ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم، فإن أمركم بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تعالى {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}).
قال ابن عاشور: (الاستحفاظ: الاستئمان، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حق الفهم بما دلت عليه آياته. استعير الاستحفاظ الذي هو طلب الحفظ لمعنى الأمر بإجادة الفهم والتبليغ للأمة على ما هو عليه.. ويدخل في الاستحفاظ بالكتاب الأمر بحفظ ألفاظه من التغيير والكتمان)ا.هـ.
ومما يبيّن إرادة هذا المعنى قول الله تعالى: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}
فهم حُمّلوا أمانة حفظ التوراة حفظَ رعاية وصيانة وعمل بما فيها وحُكم بها بينهم؛ فلم يحفظوا أمانة الله فيها.
وإذا أطلق لفظ الحفظ في النصوص فإنّ أولى ما يُحمل عليه حفظ الأمانة والصيانة وأداء الحق وعدم تضييعه، قال الله تعالى: {واحفظوا أيمانكم}، {والحافظين فروجهم والحافظات}.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: {احفظ الله يحفظك}، وقال لوفد عبد القيس لمّا أوصاهم بوصايا: «احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم» ، وقال: «لله تسعة وتسعون اسما من حفظها دخل الجنة » كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة بهذا اللفظ، ومن المعلوم أنه ليس المراد مجرد حفظ ألفاظها دون الإيمان بها والتعبّد لله تعالى بمقتضاها.
وكتب عُمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأمصار في عهده: « إن أهم أمركم عندي الصلاة. فمن حفظها وحافظ عليها، حفظ دينه. ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع ». رواه مالك في الموطّأ.
فذكر الحفظ وذكر مقابله وهو الإضاعة.

وقال عنترة بن شداد العبسي:
ولقد حفظتُ وَصَاة عمّي بالضحّى .. إذ تقلص الشفتان عن وضح الفمِ
فحفظ الوصاة لمّا ضبط نصّها وعهدها، ولو أنه خالف مقتضى الوصيّة لم يكن حافظاً لها، ولو عرفها.

وهذا يدلّك على أنّ المراد الأعظم من حفظ القرآن حفظ أمانته وحدوده وأداء حقّه، وأنّ حفظ ألفاظه من تمام حفظه، لكن لا يعدّ في الشريعة حافظاً للقرآن من ضيّع حدوده ولو استظهر ألفاظه عن ظهر قلب.
وبذلك تعرف أن معنى الحفظ ينتقض بأحد أمرين:
1. بتضييع النصّ وعدم ضبطه.
2. وبتضييع أمانته وعهده.
وكان من السلف من يعبّر عن معنيي الحفظ بالوعي، وهو في معنى العقل والتبصّر والتذكّر والاهتداء بالقرآن، ومن ذلك قول أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه: «اقرءوا القرآن ولا تغرَّنكم هذه المصاحف المعلقة، فإن الله لن يعذب قلباً وعى القرآن» رواه الدارمي من طريق حريز بن عثمان عن شرحبيل بن مسلم عنه، وهذا إسناد صحيح.
وقال أبو وائل شقيق بن سلمة: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله [وهو ابن مسعود]، فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف؟ ألفا تجده أم ياء {من ماء غير آسن}، أو (من ماء غير ياسن)؟
قال: فقال عبد الله: « وكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟ »
قال: إني لأقرأ المفصل في ركعة.
فقال عبد الله: « هذّا كهذّ الشعر، إنَّ أقواما يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع » رواه مسلم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن ذي الخويصرة: « إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ». رواه البخاري ومسلم.
فهؤلاء لمّا خالفوا هدى القرآن وضلّوا عن اتّباع ما أمرهم الله به فيه من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اتّباع المهاجرين والأنصار بإحسان؛ لم يكونوا حافظين للقرآن؛ بل ضيّعوا أمانته، وخالفوه أشدّ المخالفة؛ فقاتلوا من أُمروا باتّباعهم بإحسان، وابتغوا تفريق جماعتهم، وكسر شوكتهم، والتغلّب عليهم، ولكنّ الله ردّ كيدهم في نحورهم، وأخزاهم، ولو أنّهم حفظوا القرآن لرعوا حدوده وأدّوا حقّ الله تعالى فيه.


وقد شاع في القرون المتأخّرة استعمال حفظ القرآن مقصوراً على المعنى الثاني، ولم يكن هذا الاستعمال شائعاً في القرون الأولى، وإنما كان الشائع التعبير عنه بـ"جمع القرآن" و"استظهاره"، ونحو ذلك مما يدلّ على استيعاب حفظ ألفاظه عن ظهر قلب.
ولشيوع هذا الاستعمال المتأخّر غلب على كثير من الأذهان، وعلّق عليه بعضهم كثيراً من أحاديث فضائل القرآن، وهي متعلّقة بنوعي الحفظ جميعاً). [بيان فضل القرآن:120 - 125]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 01:45 PM
تفاضل الحفّاظ في حفظ القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تفاضل الحفّاظ في حفظ القرآن
وحفظ القرآن يجري فيه التفاضل الكبير بين الحفظة لتفاضلهم في معنيي حفظ حروفه وحدوده.
- فأمّا حفظ حدوده فهو على درجات:
الدرجة الأولى: حفظ حدود الإيمان به؛ فلا يرتكب ما ينقض الإيمان بالقرآن؛ والمخالف في هذه الدرجة كافر خارج عن الملة؛ بارتكابه ما ينقض إسلامه؛ فإن كان ممن يُظهر الإسلام فهو منافق نفاقاً أكبر والعياذ بالله.
ومن أدّى هذه الدرجة فقد حفظ دينه في أعظم درجاته وهو ما يبقى به على أصل دين الإسلام، وله نصيب من فضل الحفظ بما حفظ من هذه الحدود العظيمة، وإن كان متوعّداً بالعذاب على ما ارتكب من الذنوب والمعاصي.
والدرجة الثانية: حفظ حدوده الواجبة؛ وهي درجة عباد الله المتّقين؛ فيحفظون حدود أوامره ونواهيه، فيؤدّون الواجبات وينتهون عن المحرّمات، وبذلك تحصل لهم الاستقامة الواجبة التي يسلمون بها العذاب، وينالون بها ما وعد الله به عباده المتّقين من الثواب العظيم والفضل الكبير.
والدرجة الثالثة: درجة إحسان حفظ حدوده ورعاية أمانته، والقيام به آناء الليل وآناء النهار، إيماناً واحتساباً، وهذه درجة أهل الإحسان الذين هم بأعلى المنازل.

- وأما تفاضلهم في حفظ ألفاظه؛ فظاهر في تفاضلهم في جودة الحفظ ومقداره والمهارة فيه، وتفاضل ثوابهم ومنازلهم بسبب ذلك، وقد تقدّم حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مثل الذي يقرأ القرآن، وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، ومثل الذي يقرأ، وهو يتعاهده، وهو عليه شديد فله أجران». رواه البخاري في صحيحه.
- وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها » رواه أحمد وأبو داوود وغيرهما.
- وحديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه مرفوعاً، وفيه: « ثم يقال: اقرأ واصعد في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذًّا كان أو ترتيلا ». رواه أحمد وابن أبي شيبة والدارمي وغيرهم). [بيان فضل القرآن:125 - 126]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 01:47 PM
كيف يحفظ القرآن؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (كيف يحفظ القرآن؟
وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يُمسك المرء به حفظه للقرآن ويجوّده، وهو تعاهده بالتلاوة والقيام، وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة منها:
- حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما مثل صاحب القرآن، كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت» متفق عليه من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر، وفي رواية لمسلم من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر مرفوعاً: « وإذا قام صاحب القرآن؛ فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه».
- وحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفصّيا من الإبل في عقلها » متفق عليه، وفي رواية مسلم "تفلّتاً".
- وحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بئسما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسِّي، استذكروا القرآن فلهو أشد تفصيا من صدور الرجال من النَّعَم بعقلها » متفق عليه.
- وقال عبد الله بن مسعود: (تعاهدوا هذه المصاحف - وربما قال: القرآن - فلهو أشدّ تفصيا من صدور الرجال من النعم من عقله). رواه مسلم.
وتعاهد القرآن يشمل:
1. تعاهد ألفاظه بالحفظ والضبط.
2. وتعاهد معانيه بالعلم والفهم.
3. وتعاهد هداه بالاتّباع والرعاية.
فمن جمع هذه الأمور الثلاثة فقد أحسن تعاهد القرآن). [بيان فضل القرآن:127 - 128]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 01:51 PM
الباب السابع: تفاضل الآيات والسور

تفاضل الآيات والسور
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تفاضل الآيات والسور
قال الله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}.
وقال تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات}.
وقال تعالى : {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم}.
- وعن أبي سعيد بن المعلَّى رضي الله عنه، قال: كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فلم أجبْه، فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي؛ فقال: ألم يقل الله: {استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}.
ثم قال لي: «لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد». ثم أخذ بيدي، فلما أراد أن يخرج، قلت له: «ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن»، قال: {الحمد لله رب العالمين} «هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته». رواه البخاري من طريق خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى.
- وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم: في مسيرٍ له فنزل ونزل رجل إلى جانبه؛ فالتفتَ إليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا أخبرك بأفضل القرآن» قال: «فتلا عليه الحمد لله رب العالمين». رواه النسائي في السنن الكبرى وابن حبان والحاكم من طريق سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس.
- وعن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا المنذر، أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟»
قال: قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: «يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟»
قال: قلت: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم}.
قال: فضرب في صدري، وقال: «والله ليهنك العلم، أبا المنذر». رواه مسلم من طريق أبي السليل، عن عبد الله بن رباح الأنصاري عن أبيّ.
- وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب فوضعت يدي على قدمه فقلت: أقرئني سورة هود أو سورة يوسف، فقال: «يا عقبة، اقرأ بقل أعوذ برب الفلق؛ فإنك لن تقرأ سورة أحب إلى الله عز وجل وأبلغ عنده منها، فإن استطعت أن لا تفوتك فافعل» رواه النسائي في السنن الكبرى وابن حبان من طريق يزيد بن أبي حبيب، عن أبي عمران أسلم بن عمران التجيبي عن عقبة.

فهذه الأدلة وما في معناها تدلّ دلالة بيّنة على أنّ بعض السور والآيات أفضل وأحبّ إلى الله من بعض، وهي وإن كانت كلّها في الذروة العليا من حسن البيان والإحكام، مكرَّمة عن كلّ وصف نقص وضعف واختلاف؛ إلا أنها ليست على درجة واحدة في الفضل؛ فبعضها أعظم من بعض، وبعضها أحبّ إلى الله من بعض، وتلاوة بعضها أعظم أجراً من بعض، ولبعضها خواصّ اختصّها الله بها:
- فجعل قراءة الفاتحة من آكد واجبات الصلاة؛ فلا تصحّ الصلاة إلا بها لمن استطاعها.
-وجعل لآخر آيتين من البقرة خصائص وفضائل في تشريف نزولها وتعظيم شأنها وفضل تلاوتها، وعظم ثوابها.
- وجعل للمعوّذتين فضلاً عظيماً، وبركة واسعة، ورتّب على تلاوتها من الثواب الجزيل، والحفظ من الشرور والآفات؛ ما فضّلهما به على سائر سور القرآن؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما: «ما تعوّذ الناس بأفضل منهما». رواه النسائي من حديث عبد الله بن خبيب رضي الله عنه.
- وجعل لسورة الإخلاص فضلاً عظيماً حتى أقسم النبي صلى الله عليه وسلم أنها تعدل ثلث القرآن؛ كما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن».
ولِيَتبيّن الأمر للصحابة رضي الله عنه وللأمّة من بعدهم بياناً شافياً لا لبس فيه، تنتفي به احتمالات المعاني غير المرادة، وليقرّ في نفوسهم ويرسخ في أذهانهم اليقين بعظم فضلها قرن النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا البيان بحادثة عملية؛ ففي صحيح مسلم من حديث يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احشدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن»، فحشد من حشد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ: {قل هو الله أحد}، ثم دخل، فقال بعضنا لبعض: إني أرى هذا خبراً جاءه من السماء فذاك الذي أدخله، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «إني قلت لكم سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا إنها تعدل ثلث القرآن».

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «والقول بأن كلام الله بعضه أفضل من بعض هو القول المأثور عن السلف، وهو الذي عليه أئمة الفقهاء من الطوائف الأربعة وغيرهم، وكلام القائلين بذلك كثير منتشر في كتب كثيرة».

وقد خالف في هذه المسألة أبو حاتم ابن حبان صاحب الصحيح، ومكّي بن أبي طالب القيسي، ونسب القاضي عياض والقرطبيّ والزركشي القول بعدم التفضيل إلى أبي الحسن الأشعري وأبي بكر محمد بن الطيّب الباقلاني وهو من كبار الأشاعرة ونظّارهم.

قال ابن حبّان (ت: 354هـ): (قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبرك بأفضل القرآن» أراد به: بأفضل القرآن لك، لا أن بعض القرآن يكون أفضل من بعض، لأن كلام الله يستحيل أن يكون فيه تفاوت التفاضل).
وقال في حديث أبي سعيد بن المعلّى: (قوله صلى الله عليه وسلم: " هي أعظم سورة "، أراد به في الأجر، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض).
وقال مكّي بن أبي طالب القيسي (ت: 437هـ) في تفسير قول الله تعالى: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}، قال: «ولا يجوز لذي علم ودين أن يتأوَّل بهذا النص تفضيلَ بعض القرآن على بعض؛ لأن القرآنَ كلام الله جلَّ ذكره ليس بمخلوق وإنما يقع التفضيل بين المخلوقات فاعلمه».
وقال القاضي عياض (ت:544هـ): (قوله عليه السلام لأبىّ: "أتدرى أيَّ آية من كتاب الله أعظم "، وذكر آية الكرسىّ، فيه حجة للقول بتفضيل بعض القرآن على بعض، وتفضيل القرآن على سائر كتب الله عند من أجازه، منهم إسحاق بن راهويه، وغيره من العلماء والمتكلمين، وذلك راجع إلى عظم أجر قارئ ذلك وجزيل ثوابه على بعضه أكثر من سائره، وهذا مما اختلف أهل العلم فيه، فأبى ذلك الأشعرى والباقلانى وجماعة من الفقهاء وأهل العلم؛ لأن مقتضى الأفضل نقص المفضول عنه، وكلام الله لا يتبعّض، قالوا: وما ورد من ذلك بقوله: " أفضل وأعظم " لبعض الآي والسور فمعناه: عظيم وفاضل)ا.هـ.
وقال أبو عبد الله القرطبي (ت:671هـ): (اختلف العلماء في تفضيل بعض السور والآي على بعض، وتفضيل بعض أسماء الله تعالى الحسنى على بعض:
فقال قوم: لا فضل لبعض على بعض، لأن الكل كلام الله، وكذلك أسماؤه لا مفاضلة بينها، ذهب إلى هذا الشيخ أبو الحسن الأشعري، والقاضي أبو بكر بن الطيب، وأبو حاتم محمد بن حبان البستي، وجماعة من الفقهاء، وروي معناه عن مالك.
قال يحيى بن يحيى: تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ، وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها.
وقال عن مالك في قول الله تعالى: {نأت بخير منها أو مثلها} قال: محكمة مكان منسوخة، وروى ابن كنانة مثل ذلك كله عن مالك.
واحتج هؤلاء بأن قالوا: إن الأفضل يشعر بنقص المفضول، والذاتية في الكلّ واحدة، وهي كلام الله، وكلام الله تعالى لا نقص فيه.
قال البستي: ومعنى هذه اللفظة (ما في التوراة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن): أن الله تعالى لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطي لقارئ أم القرآن، إذ الله بفضله فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم، وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه، وهو فضل منه لهذه الأمة. قال ومعنى قوله: (أعظم سورة) أراد به في الأجر، لا أن بعض القرآن أفضل من بعض. وقال قوم بالتفضيل، وأن ما تضمنه قوله تعالى" وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" وآية الكرسي، وآخر سورة الحشر، وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في" تبت يدا أبي لهب" وما كان مثلها.
والتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها، لا من حيث الصفة، وهذا هو الحق.
وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء والمتكلمين، وهو اختيار القاضي أبي بكر بن العربي وابن الحصار)ا.هـ.
البُسْتي هو أبو حاتم ابن حبّان صاحب الصحيح.
وقال بدر الدرين الزركشي (794هـ): (ذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر وأبو حاتم بن حبان وغيرهم إلى أنه لا فضل لبعض على بعض؛ لأن الكل كلام الله وكذلك أسماؤه تعالى لا تفاضل بينها، وروي معناه عن مالك قال يحيى بن يحيى تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها احتجوا بأن الأفضل يشعر بنقص المفضول وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيه)ا.هـ.

واحتجاج القرطبي والزركشي لهذا القول بأنّ القرآن كلام الله تعالى، وكلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفات الله لا تتفاضل، كما أنّ أسماءه لا تتفاضل؛ احتجاج غير صحيح؛ بل هو خطأ مخالف لدلالة الأدلّة الصحيحة، وللمأثور عن السلف الصالح من القول بمقتضى أدلّة التفاضل في القرآن وفي أسماء الله تعالى وصفاته.
- فأمّا التفاضل في القرآن وأن بعض السور أفضل من بعض، وبعض الآيات أفضل من بعض؛ فقد مضت أدلّته الصحيحة الصريحة.
- وأما التفاضل في أسماء الله تعالى فإنّ الله تعالى قد اختصّ بعض أسمائه بمزيد فضل، وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وغيره من طريق مالك بن مغول، عن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، قال: سَمِعَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول: (اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد؛ فقال: " قد سأل الله باسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب").
وفي صحيح مسلم من حديث الأعرج عن أبي هريرة، عن عائشة رضي الله عنهما، قالت: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةً من الفراش؛ فالتمستُه فوقَعت يدي على بطن قدميه، وهو في المسجد، وهما منصوبتان، وهو يقول: «اللهم أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».
وفي صحيح البخاري من حديث أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله لما قضى الخلق، كتب عنده فوق عرشه: إن رحمتي سبقت غضبي".
فأسماء الله تعالى كلّها حسنى وبعضها أحبّ إليه من بعض، وصفاته كلّها عليا، وبعضها أحبّ إليه من بعض، وكذلك كلامه جلّ وعلا كلّه حسن لا نقص فيه ولا اختلاف، وبعضه أفضل من بعض؛ وقد فضّل الله القرآن على سائر كتبه المنزّلة، وجعل له فضلاً بتلاوته وحفظه على سائر ما أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم من كلامه الذي ليس في القرآن، فتفاضل سور القرآن وآياته كذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «السلف والجمهور على أن بعض كلامه أفضل من بعض، وبعض صفاته أفضل من بعض، مع كونها كلها كاملة لا نقص فيها، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة»ا.هـ.
وقال أيضاً: (ثبت عنه في الصحيحين من غيره وجه أن: {قل هو الله أحد} تعدل ثلث القرآن.
وذلك أن القرآن: إما خبر، وإما إنشاء، والخبر: إما خبر عن الخالق، وإما عن المخلوق؛ فثلثه قصص، وثلثه أمر، وثلثه توحيد، فهي تعدل ثلث القرآن بهذا الاعتبار.
وأيضاً فالكلام وإن اشترك من جهة المتكلِّم به في أنه تكلَّم بالجميع؛ فقد تفاضل من جهة المتكلَّم فيه، فإن كلامه الذي وصف به نفسه، وأمر فيه بالتوحيد، أعظم من كلامه الذي ذكر فيه بعض خلقه، وأمر فيه بما هو دون التوحيد.
وأيضاً فإذا كان بعض الكلام خيراً للعباد وأنفع، لزم أن يكون في نفسه أفضل من هذه الجهة، فإن تفاضل ثوابه ونفعه إنما هو لتفاضله في نفسه، وإلا فالشيئان المتساويان من كل وجه، لا يكون ثواب أحدهما أكثر، ولا نفعه أعظم)ا.هـ.

وأمّا أبو الحسن الأشعري ومن قال بقوله القديم في القرآن وأنه عبارة عن كلام الله تعالى، وليس هو من كلامه حقيقة، وأنه لا يتبعّض، ولا يتجزّأ، وليس بحرف ولا صوت؛ فهذا مما لا ينبغي أن يُعتدّ به؛ لأنه مبنيّ على اعتقاد باطل في كلام الله تعالى مخالف لنصوص الكتاب والسنة وإجماع السلف الصالح؛ فلا يُتلفت إليه؛ على أنّ أبا الحسن الأشعري قد رجع عن قوله هذا في آخر حياته، وألّف كتاب "الإبانة" الذي أعلن فيه رجوعه إلى مذهب أهل السنة وتأسّيه بالإمام أحمد بن حنبل ، وقد كان رجوعه رجوعاً مجملاً لم يخلُ من أخطاء في تفصيل الاعتقاد.
وأما أبو بكر ابن الطيّب الباقلاني ففي كتابيه "إعجاز القرآن" و "الانتصار للقرآن" مواضع فيها النص على تفضيل القرآن على سائر الكتب، وتفضيل بعض آيات القرآن في أوجه الإعجاز على بعض.
وقد أشكل على بعض الأشاعرة الجمع بين مذهبهم في صفة الكلام وصراحة أدلّة التفاضل بين الآيات والسور، ولهم في جواب هذا الإشكال أوجه متعدّدة لا تخلو من التكلّف والبعد، وقد ذكر الحليمي والزركشي والسيوطي طائفة منها.

والمقصود أن القول بتفاضل سور القرآن وآياته هو القول الصحيح الذي دلّت عليه النصوص الكثيرة، وهو القول المأثور عن السلف.
وأما ما روي عن الإمام مالك في النهي عن التفضيل بين سور القرآن؛ فهو محمول – إن صحّ عنه – على النهي عن التفضيل المُشْعِر بتنقّص المفضول أو التزهيد فيه والترغيب عنه). [بيان فضل القرآن:129 - 138]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 05:30 PM
الباب الثامن:أنواع المرويات في فضائل القرآن



أنواع المرويات في فضائل القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع المرويات في فضائل القرآن
المرويات في فضائل القرآن كثيرة جداً، وهي على أقسام ودرجات متفاوتة، ولها تقسيمات باعتبارات متعددة.
ويحسن بطالب العلم أن يكون على إلمام حسن بالأصول والقواعد الضابطة لأحكام المرويات في فضائل القرآن، مع إلمامه بقدرٍ حَسَن من المعرفة بما صَحَّ من فضائل القرآن عامة، وفضائل السور والآيات، ومعرفة بما شاع من المرويات الضعيفة في هذا الباب.
ولكثرة المرويات الضعيفة في هذا الباب فإنّه يصعب تقصّيها ويتعذّر حصرها، وقد حاول استيعابها جماعة من العلماء فأعياهم ذلك لسببين:
أحدهما: أن المرويات في تلك الفضائل منها الصريح وغير الصريح.
وغير الصريح بحرٌ لا ساحل له، فما يمكن أن يستنبط منه بيان فضل السورة يصعب حصره وتقصّيه لتفاوت الأفهام في الاستنباط، ولكثرة المعاني التي يمكن أن يستخرج المتأمّل بينها وبين بعض السور أوجها من المناسبات التي تدلّ على فضلها.
والسبب الآخر: أن المرويات في هذا الباب متفرّقة في كتب كثيرة جداً، ومنها أجزاء حديثية صغيرة لا يكاد يعرفها كثير من طلاب العلم، ومنها كتب كثيرة مفقودة ينقل عنها بعض المفسّرين وشرّاح الأحاديث مرويات في فضائل القرآن وغيرها، وكثير منها لا يمكن الوقوف على إسناده؛ فمحاولة تقصّيها ودراستها تستأثر بشطر من عمر الإنسان.
ومن أراد أن يستجلي هذه الحقيقة فلينظر إلى مصادر كتاب "فضائل القرآن" لعبد الواحد الغافقي (ت:619هـ) الذي سمّاه "لمحات الأنوار ونفحات الأزهار"، وهو من أكثر الكتب جمعاً لمرويات فضائل القرآن، وبعض مصادره مفقود، على أنه حذف الأسانيد، وأكثر من ذِكر المرويات الضعيفة من غير تنبيه على ضعفها). [بيان فضل القرآن:139 - 140]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 05:34 PM
أسباب عناية العلماء بجمع المرويات الضعيفة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أسباب عناية العلماء بجمع المرويات الضعيفة
وقد اعتنى العلماء بجمع الضعيف من المرويات لثلاث فوائد:
الأولى: التنبيه على ضعفها، وبيان سببه، لئلا يُغترّ بها، وهذه من شأن الحذّاق من أهل الحديث، وقد أبقى الله من كتبهم ما حقق لأهل العلم فائدة كبيرة في معرفة أسباب ضعف بعض المرويات.
وقد قال أبو بكر الأثرم: (رأى أحمد بن حنبل يحيى بن معين بصنعاء في زاوية وهو يكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس، فإذا اطلع عليه إنسان كتمه. فقال له أحمد: تكتب صحيفة معمر عن أبان عن أنس وتعلم أنها موضوعة؟ فلو قال لك قائل: أنت تتكلم في أبان ثم تكتب حديثه على الوجه؟
فقال: رحمك الله يا أبا عبد الله! أكتب هذه الصحيفة عن عبد الرزاق عن معمر على الوجه فأحفظها كلها، وأعلم أنها موضوعة حتى لا يجئ إنسان بعده فيجعل أبان ثابتا ويرويها عن معمر، عن ثابت، عن أنس، فأقول له: كذبت إنما هو عن معمر، عن أبان لا عن ثابت).
وروى ابن الأبّار عن يحيى بن معين أنه قال: (كتبنا عن الكذابين وسجرنا به التنور، وأخرجنا به خبزا نَضِجا!).
يريد أنّه انتفع بما كتبه عنهم فعرف به علل بعض المرويات المنكرة، وسبب نكارتها.

والثاني: جمع الطرق للاستعانة بها على دراسة الأحاديث التي تقبل التقوية بتعدد الطرق والشواهد؛ فقد يقف المرء على حديث في إسناده رجل يضعّف في الحديث لضعف ضبطه أو فيه انقطاع يسير؛ فإذا تعددت طرق هذا الحديث أو كانت له شواهد صحيحة فإنه يحكم بصحّته.
والثالث: رصد ما روي في هذا الباب، وحفظه من الضياع، وجمعه في موضع واحد مع عزوه إلى مصادره، أو تصنيفه على الأبواب أو المسانيد ليسهل وصول أهل الحديث إليه، وليستفيد منه أهل العلم بعده؛ بالدراسة والتمحيص.
وهذه الأسباب الثلاثة هي أكثر ما يدعو أهل العلم لتدوين المرويات الضعيفة، والأصل هو السبب الأول، والآخران معينان عليه). [بيان فضل القرآن:140 - 141]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 05:38 PM
صيانة العلم من واجبات أهله

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (صيانة العلم من واجبات أهله
ومن واجبات أهل العلم نَفْيُ الكذب عن كتاب الله، وعن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيحترزون من نشر الضعيف الواهي، والمكذوب، ويبيّنون للناس – عند الحاجة – ما شاع من ذلك، وما يُسألون عنه.
ومن إحسان طالب العلم في طلبه أن يُحسن العدّة في كلّ علمٍ يتعلّمه، ومن ذلك أن يعدّ العدّة الحسنة له في علم فضائل القرآن.
ومما أوصي به طلاب العلم ليختصروا على أنفسهم كثيراً من الجهد والوقت ، وليستعينوا به في الدعوة والتعليم أن يعتنوا ببناء أصل علمي في كلّ علم يتعلمونه، ليكون مرجعاً لهم.

ومن ذلك أن يبني الطالب لنفسه أصلاً علمياً في فضائل القرآن يحقّق له خمسة أمور:
الأول: جمع الصحيح الصريح من فضائل القرآن وفضائل سوره وآياته، ليتفقّه فيها، وينتفع بها، ويدعو غيره ويعلّمهم.
والثاني: جمع ما اشتهر من المرويات الضعيفة في فضائل القرآن في دواوين السنّة الكبار، وفي كتب التفسير وشروح الأحاديث مما يشيع عند العامّة، أو يكثر السؤال عنه؛ ليكون على علم بحال تلك المرويات، ويحذّر منها ويبيّن حالها عند الحاجة إلى ذلك.
والثالث: جمع الأصول والقواعد الضابطة لبحث هذه المرويات وتعرّف أنواعها ودرجاتها وأحكامها، فيستعين بهذه المعرفة التأصيلية على معرفة أحكام كثير من المرويات التي تبلغه في هذا الباب.
والرابع: التدرّب على بحث هذه المرويات وتعرّف أحكامها، ليكون حاضر الأداة حين يُحتاج إلى بحثه، أو يُسأل عن شيء من تلك المرويات، أو يرى انتشار مرويات لم تبلغه في هذا الباب؛ فيتعرّف حالها ويبيّنه.
والخامس: المعرفة بالكتب والمراجع التي يرجع إليها في هذا الباب، واكتساب حسن المعرفة بمراتب كتب التفسير في تناول تلك المرويات، فلا يغترّ بشهرة بعض التفاسير ولا يقبل ما فيها علّاته؛ لعلمه بأنّ من المفسّرين من يكون محسناً في جوانب من التفسير ومقصّراً في معرفة أحكام الأحاديث والآثار؛ فيوردها من غير تمييز، وربما أوردها من غير نسبة.
وكثير من العامة وبعض المبتدئين من طلاب العلم ربما اعتقد صحّة بعض المرويّات الواهية لمجرّد ذكر بعض المفسّرين لها في كتبهم.
وهذا يقع لكثير من الخطباء والوعّاظ الذي ليس لهم معرفة بالحديث، ولا يتثبّتون من أهل العلم فيما يذكرون منها، فوقوعه ممن هو دونهم ورواجه لديهم من باب أولى.

وقد ذُكر أن خطيبا قرأ حديثاً من الأحاديث التي رواها ابن الجوزي في كتاب "الموضوعات" وهو لا يدري ما معنى "الموضوعات" فأعجبه، وخطب به على المنبر متأثّراً به ، وقال: "رواه ابن الجوزي في الموضوعات"

ومن الأمانة التي يتحمّلها صاحب كلّ علم: أن يعلّمه لمن يطلبه، وأن يحميه بنفي الكذب عنه وادّعاء المنتحلين المبطلين له، وبذلك يظهر العلم وينتشر). [بيان فضل القرآن:141 - 143]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 05:41 PM
شروط صحّة الحديث

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (شروط صحّة الحديث
ومما ينبغي أن يعلم أنَّ الحديث لا يُحكم بصحته إلا إذا صَحَّ إسنادُه ومتنُه.
وصحة الإسناد لا تتحقّق إلا بثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن يكون رجاله ممن تُقبل روايتهم؛ والذين لا تُقبل روايتهم على درجتين:
الدرجة الأولى: الذين يكون سبب جرحهم ضعف ضبطهم وهم أهل صدق في الجملة فهؤلاء لا يُطّرح حديثهم جُملة، ولا يقبلون مطلقاً، بل يُعتبر حديثهم فإذا ورد من طريق أخرى أو كان له شواهد فيُحكم بصحّته لانتفاء علّة ضعف الضبط.
والدرجة الثانية: الذين لا تُقبل مرويّاتهم مطلقاً، ولا يعتبر بها، وهم متروكو الحديث، من الكذّابين، والمتّهمين بالكذب، والذين بلغوا من كثرة الخطأ والتساهل في الرواية عن الواهين من غير تبيين مبلغاً استحقّوا به ترك حديثهم؛ فهؤلاء لا يُجبر ضعف حديثهم بمتابعة غيرهم.

والأمر الثاني: أن يكون الإسناد متّصلاً غير منقطع؛ فانقطاع الإسناد موجب لضعف الحديث.
والأمر الثالث: انتفاء العلّة القادحة في صحّة الإسناد؛ كالمخالفة، والتدليس، والاضطراب.
فالمخالفة أن يخالف الرواي من هو أوثق منه فيَصِل إسناداً منقطعاً، أو يُغفل ذِكْرَ راوٍ ضعيف.
والتدليس أن يسقط راوياً ضعيفاً من الإسناد ويروي عن شيخه بصيغة "عن" أو "أنّ"، ومن عُرف بالتدليس فلا يُقبل حديثه إلا أن يصرّح بالسمّاع.
والاضطراب أن يختلف الرواة في الإسناد اختلافاً شديداً فلا يُوقف على صحّته، والاضطراب موجب للضعف.

وصحة المتن لا تتحقّق إلا بأمرين:
الأمر الأول: صحّة الإسناد إليه.
والأمر الثاني: انتفاء العلّة القادحة في المتن؛ كالمخالفة، والنكارة، والاضطراب، والرواية بالمعنى المخلّ، والتصحيف والتحريف، وغيرها). [بيان فضل القرآن:144- -145]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 05:44 PM
تنبيه:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تنبيه:
وليُعلم أنّ ضعف الإسناد المعيّن لا يقتضي ضعف المتن مطلقاً ؛ فقد يروى بإسناد آخر صحيح، ولذلك أمثلة منها: حديث مسلمة بن علي الخشني عن حريز بن عثمان عن سليم بن عامر عن أبي أمامة مرفوعاً: «اقرؤوا القرآن فإنَّ الله لا يعذّبُ قلباً وَعَى القرآن».رواه تمّام في فوائده وابن عساكر في تاريخه، وأورده الألباني في السلسلة الضعيفة، وقال: ضعيف جدا.
ثم قال بعد ذكر إسناده:«وهذا إسناد واهٍ جدا، مسلمة بن علي - وهو الخشني - متروك؛ كما في " التقريب"».
وقد صدق رحمه الله وأعلى منزلته في حكمه على هذا الإسناد؛ فقد انفرد مسلمة برفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والصحيح فيه أنّه موقوف على أبي أمامة رضي الله عنه بلفظ: «اقرءوا القرآن ولا تغرَّنكم هذه المصاحف المعلَّقة، فإنَّ الله لن يعذّب قلباً وَعَى القرآن».
وهذا الأثر رواه عن أبي أمامة: شرحبيل بن مسلم الخولاني، وسليم بن عامر الخبائري، والقاسم بن عبد الرحمن الشامي.
أ: فأمّا شرحبيل بن مسلم فروى عنه هذا الأثر حَريزُ بن عثمان الرَّحبي وهو ثقة ثبت، ورواه عن حريز ثلاثة هم: يزيد بن هارون عند ابن أبي شيبة، والحكم بن نافع عند الدارمي، وحجّاج بن محمد عند ابن بطة العكبري.
ب: وأما سليم بن عامر الخبائري فروى هذا الأثر عنه معاوية بن صالح، ورواه عن معاوية عبد الله بن صالح كاتب الليث، ورواه عن عبد الله بن صالح: البخاري في "خلق أفعال العباد" والدارمي في سننه.
ج: وأما القاسم بن عبد الرحمن فرواه عنه حريز، ورواه عن حريز شبابة بن سوّار عند ابن أبي شيبة.
وهؤلاء كلهم رووه موقوفاً على أبي أمامة باللفظ المتقدّم، وتفرّد مسلمة بن عليّ بروايته عن حريز عن سليم عن أبي أمامة مرفوعاً وأسقط قوله: «ولا تغرنَّكم هذه المصاحف المعلقة».
ومسلمة بن عليّ متروك الحديث كما تقدّم فلا تعتبر مخالفته.
وبمجموع الطرق المعتبرة المتقدّمة فالأثر ثابت عن أبي أمامة رضي الله عنه، وهو وإن كان موقوفا على أبي أمامة فإنّه مما لا يقال بالرأي؛ فيأخذ حكم الرفع من جهة المعنى لا من جهة الرواية.

والمقصود بهذا المثال بيان أن ضعف الإسناد المعيّن لا يقتضي ضعف الحديث مطلقاً لأنه قد يصحّ من طريق آخر، وأنّ الموقوف قد يأخذ حكم المرفوع إذا صحّ عن الصحابي وكان مما لا مدخل للاجتهاد فيه، ولم تعرف له علّة أخرى توجب منع القول بالرفع). [بيان فضل القرآن:145 - 147]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 05:47 PM
درجات المرويات

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (درجات المرويات
المرويّات تعمّ ما يُروى بالأسانيد من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمرسلة عنه، والآثار التي تُروى عن الصحابة والتابعين.
وهي على خمس درجات:
الدرجة الأولى: المرويّات الصحيحة لذاتها، وهي التي ثبتت بإسناد صحيح من غير شذوذ ولا علّة قادحة في الإسناد ولا في المتن.
والدرجة الثانية: المرويات الصحيحة لغيرها، وهي التي يكون في أسانيدها بعض الضعف الذي يُجبر بالشواهد وتعدّد الطرق، ويكون المتن سالماً من العلّة القادحة.
والدرجة الثالثة: المرويات الضعيفة ضعفاً محتملاً، وهي التي يكون متنُها غيرَ منكر من جهة المعنى، وفي الإسناد ضعف قابلٌ للتقوية لو وُجدت.
والدرجة الرابعة: المرويات الواهية، وهي التي يكون في إسنادها ضعف شديد، أو يكون متنها منكراً مخالفاً للنصوص الصحيحة والقواعد الشرعية.
والدرجة الخامسة: المرويّات الموضوعة، وهي التي يتبيّن أنّها مكذوبة مختلقة.
فمرويات الدرجتين الأولى والثانية يحتجّ بهما.
ومرويات الدرجة الثالثة من أهل العلم من يحتجّ بها في الفضائل والرقاق والأخبار، ومنهم من يستأنس بها ولا يحتجّ بها، ومنهم من يذكرها لفائدة كأن يكون المتن حسناً جامعاً، أو لينبّه على ضعفه مع شهرته.
ومرويات الدرجة الرابعة لا يجوز أن تذكر إلا لبيان ضعفها، والتنبيه على عللها، وقد يرويها بعض المحدّثين لفوائد عارضة أو لغرض جمع الطرق ويعدّون ذكر الإسناد تبيينا لحالها، ثم يتساهل في نقلها بعض المفسّرين والفقهاء وشرّاح الأحاديث من غير معرفة بحال رواتها، وقد يحذفون الأسانيد اختصاراً.
وأما مرويات الدرجة الخامسة فلا تحلّ روايتها إلا على التبيين، وقد ورد الوعيد الشديد في التحديث بما هو مكذوب على النبي صلى الله عليه وسلم). [بيان فضل القرآن:147 - 148]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 05:51 PM
أنواع المرويات الضعيفة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أنواع المرويات الضعيفة
الضعفُ له أنواع وأسباب عائدة إلى الإسناد أو إلى المتن أو إليهما معاً، ومن تلك الأنواع:

النوع الأول: الإرسال، والمرسل هو ما أسنده التابعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والإرسال انقطاع في الإسناد، فلا يقبل إلا أن يرد من طريق آخر موصولا بإسناد صحيح أو يكون المرسل معتبراً يتقوّى بالشواهد والمتابعات.
والمراسيل على أنواع ودرجات فمن أهل العلم من يضعّفها مطلقاً، ومنهم من يقبلها بشروط منها أن يكون المرسِل من كبار التابعين، وأن يُعرف عنه أنه لا يروي إلا عن ثقة، وأن لا يعرف عنه شذوذ في الرواية، وأن يكون الحديث الذي أرسله غير منكر المتن.
والمراسيل المروية في فضائل القرآن كثيرة منها:
- مرسل الحسن البصري الذي أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن من طريق أبي نصيرة مسلم بن عبيد، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ فاتحة الكتاب فكأنما قرأ التوراة والإنجيل والزبور والفرقان».
- ومرسل عبد الملك بن عمير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في فاتحة الكتاب شفاء من كل داء» رواه الدارمي والبيهقي في شعب الإيمان وابن مروان الدينوري في المجالسة من طريق سفيان الثوري عن عبد الملك بن عمير مرسلاً.

والنوع الثاني: الانقطاع في السند، وهو أعمّ مما قبله، ويعرف الانقطاع بأمور:
- منها: معرفة تواريخ وفاة الشيخ وولادة الراوي عنه.
- ومنها: تصريح الراوي بأنّه لم يسمع ممن روى عنه، كما صرّح الضحّاك بن مزاحم أنّه لم يسمع من ابن عباس.
- ومنها : أن يحصر الراوي ما سمعه من شيخه، فيكون ما رُوي عنه مما سواه منقطعاً، كما ذكر الشعبي أنّه لم يسمع من ابن عمر سوى حديثين، وقد صحبه ثمانية أشهر.
- ومنها: نصّ الأئمّة النقّاد على أنّ ذلك الراوي لم يسمع من شيخه أو حصروا ما سمعه منه.
ومن أمثلة الضعيف لانقطاع إسناده ما رواه عبد الرزاق والدارمي من طريق أيوب، عن أبي قلابة الجرمي أن رجلاً قال لأبي الدرداء: إن إخوانك من أهل الكوفة، من أهل الذكر، يقرئونك السلام. فقال: «وعليهم السلام، ومرهم فليعطوا القرآن بخزائمهم فإنه يحملهم على القصد والسهولة، ويجنّبهم الجور والحزونة».
وهذا إسناد رجاله ثقات غير أنّ أبا قلابة لم يدرك أبا الدرداء.

النوع الثالث: المخالفة بالرواية بالمعنى المغيّر للفظ.
ومن أمثلته: حديث عبادة بن الصامت مرفوعاً: «أم القرآن عوض من غيرها، وليس غيرها منها بعوض» رواه الدارقطني والحاكم من طريق: محمد بن خلاد الإسكندراني، ثنا أشهب بن عبد العزيز، ثنا سفيان بن عيينة، عن ابن شهاب، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت.
قال الدارقطني: «تفرد به محمد بن خلاد عن أشهب عن ابن عيينة».
ومحمد بن خلاد مختلف فيه؛ وقد احترقت كتبه فصار يحدّث من حفظه ويروي بالمعنى فيقع في بعض حديثه ما يُنكر عليه.
وهذا الحديث قد رواه البخاري ومسلم وغيرهما من طريق سفيان بن عيينة عن ابن شهاب، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت بلفظ: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب»
فلعلّ ابن خلاد روى الحديث بالمعنى فأخطأ فيه.

النوع الرابع: الخطأ في الإسناد
ومن أمثلته: حديث هدبة بن خالد: ثنا حماد بن سلمة، ثنا أشعث بن عبد الرحمن الجرمي، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل كتب كتابا قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام، وأنزل فيه آيتين ختم بهما سورة البقرة، لا يقرآن في دار ثلاث ليال، فيقربها شيطان»رواه الطبراني في الكبير.
فهذا الحديث أخطأ في إسناده هدبة بن خالد، وليس هو من حديث شداد بن أوس، وإنما هو من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما؛ فقد روى الحديثَ أبو عبيد في فضائل القرآن والدارمي والترمذي وابن الضريس في فضائل القرآن، والنسائي في الكبرى والبزار وابن حبان والطبراني والحاكم والبيهقي في شعب الإيمان كلهم من طرق عن الأشعث بن عبد الرحمن الجرمي، عن أبي قلابة الجرمي، عن أبي الأشعث الصنعاني، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
ورواه النسائي في الكبرى والطبراني في الأوسط من طريق أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي صالح الحارثي، عن النعمان بن بشير.
فالصحيح أنه من حديث أبي الأشعث الصنعاني عن النعمان بن بشير، وهو ما صححه أبو زرعة الرازي رحمه الله.
ولا تصح روايته من حديث شداد بن أوس.


النوع الخامس: المرويات التي يكون في إسنادها مجهول العين أو مجهول الحال.
- ومن أمثلة الضعيف لجهالة عين أحد رواته: ما رواه الإمام أحمد وأبو يعلى والروياني والطبراني في الكبير وأبو الشيخ في العظمة كلهم من طريق معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي، عن أبيه، عن رجل، عن أبيه، عن معقل بن يسار رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكا، واستخرجت {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} من تحت العرش، فوصلت بها، أو فوصلت بسورة البقرة، ويس قلب القرآن، لا يقرؤها رجل يريد الله والدار الآخرة إلا غفر له، واقرءوها على موتاكم».
فشيخ سليمان التيمي مجهول العين لمّ يُسَمَّ، وكذلك أبوه الراوي عن معقل.

- ومن أمثلة رواية مجهول الحال ما رواه أبو عبيد في فضائل القرآن والدارمي في سننه وابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهم من طرق عن زياد بن مخراق، عن أبي إياس، عن أبي كنانة، عن أبي موسى، أنه قال: «إن هذا القرآن كائن لكم أجرا، وكائن لكم ذكرا، وكائن عليكم وزرا، اتبعوا القرآن ولا يتبعنكم القرآن، فإنه من يتبع القرآن، يهبط به في رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن يزخ في قفاه، فيقذفه في جهنم».
وأبو كنانة هذا مجهول الحال.
- ومن أمثلته أيضاً: ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه من طريق أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله بن قيس، عن ابن عباس قال: «من قرأ سورة النساء؛ فعلم ما يحجب مما لا يحجب علم الفرائض».
وعبد الله بن قيس مجهول الحال.

النوع السادس: الضعيف لكون أحد رواته متروك الحديث.
ومن أمثلته ما رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما من طريق حفص بن سليمان، عن كثير بن زاذان، عن عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من قرأ القرآن واستظهره، فأحل حلاله، وحرم حرامه أدخله الله به الجنة وشفعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت له النار ».
وحفص بن سليمان إمام في القراءة متروك الحديث لكثرة خطئه فيه.

النوع السابع: منكر المتن
ونكارة المتن غالباً ما يكون معها علة ظاهرة في الإسناد، وما كان كذلك فأمره بيّن؛ لأن ضعف الإسناد يدلّ على سبب نكارة المتن.
لكن ربما روي حديث أو أثر بإسناد ظاهره الصحّة، ومتنه منكر؛ ففي هذه الحالة:
- إما أن يُجاب عن الإشكال بما يزيل النكارة بحيث يكون للمتن معنى مقبول غير منكر يصحّ أن يُحمل عليه بلا تكلّف.
- وإمّا أن يُتعرّف على علة الإسناد التي أدّت إلى رواية هذا المتن المنكر.

ومن أمثلة ذلك: ما رواه أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن جرير من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سألتُ عائشة عن لَحْنِ القرآن: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون}، {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة}، و{إن هذان لساحران}؛ فقالت: «يا ابن أختي، هذا عَمَلُ الكُتَّاب، أخطأوا في الكِتَاب».
ورواه عمر بن شبّة من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن: إن هذان لساحران، وقوله: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى} ، {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة}، وأشباه ذلك فقالت: «أي بني إن الكتاب يخطئون»
فهذا الأثر إسناده في ظاهره صحيح، فقد رواه عن هشام بن عروة رجلان هما: أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، وعلي بن مسهر؛ فبرئت عهدة أبي معاوية من التفرّد به كما أعلّه بعضهم، وإن كان أبو معاوية قد انتقد بسبب اضطراب بعض حديثه، لكنّه قد توبع في هذا الأثر، وتابَعَه ثقة ثبت وهو علي بن مسهر.
ومتنه منكر جداً، يبعد أن يصدر عن مثل عائشة رضي الله عنها، وهي تقرأ هذه الآيات كما يقرؤها المسلمون، وتعلم أنَّ الأصل في القراءة الرواية مشافهة، وتعلم أيضاً أنّ كتابة المصاحف كانت عن إجماع من الصحابة رضي الله عنهم، وأن الذين انتدبوا لكتابته ومراجعته جماعة يستحيل تواطؤهم على الخطأ واللحن.
فهذه الأصول البيّنة توجب النظر والتدقيق في الإسناد للتعرف على علّته الخفيّة، وتَبيُّن منشأ الخطأ.
فنظرنا في الذين رووا هذا الحديث عن هشام فإذا هما عراقيّان، وحديث العراقيين عن هشام بن عروة متكلّم فيه لسبب يأتي شرحه.
فقد ذكر الذهبي عن عبد الرحمن بن خراش أنه قال: (بلغني أن مالكا نقم على هشام بن عروة حديثه لأهل العراق، وكان لا يرضاه).
ثم قال: (قدم الكوفةَ ثلاث مرات: قَدْمَةٌ كان يقول فيها: حدثني أبي، قال: سمعت عائشة، والثانية فكان يقول: أخبرني أبي، عن عائشة، وقَدِمَ الثالثة؛ فكان يقول: "أبي، عن عائشة"، يعني: يرسل عن أبيه).
وقال يعقوب بن شيبة: (هشام ثبت لم ينكر عليه إلا بعد ما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية وأرسل عن أبيه بما كان سمعه من غير أبيه عن أبيه).
حتى رماه ابن القطّان بالاختلاط، لأنّ تحديثه بالعراق كان بعدما أسنّ في خلافة أبي جعفر المنصور بعد أن قارب الثمانين من عمره، فإنّه قد التقى بأبي جعفر المنصور وهو حينذاك خليفة المسلمين.
فلأجل ما أنكر على هشام في بعض ما حدّث به أهل العراق وكبر سنّه رماه ابن القطّان بالاختلاط.
وقد ردّ الذهبي هذه التهمة عنه ردّاً شديداً، وعدّ ما أخطأ فيه من الأوهام التي لا يكاد يسلم منها مَن كثر حديثهم من الثقات؛ فقال في تاريخ الإسلام: (قول ابن القطان إنه اختلط قول مردود مرذول؛ فأرني إماماً من الكبار سلم من الخطأ والوهم!
فهذا شعبة، وهو في الذروة له أوهام، وكذلك معمر، والأوزاعي، ومالك رحمة الله عليهم).
وقال في ميزان الاعتدال في ترجمة هشام بن عروة: (حجة إمام، لكن في الكبر تناقص حفظه، ولم يختلط أبدا، ولا عبرة بما قاله أبو الحسن ابن القطان من أنه وسهيل بن أبي صالح اختلطا وتغيرا.
نَعَم الرجل تغير قليلا ولم يبق حفظه كهو في حال الشبيبة، فنسي بعض محفوظه أو وهم، فكان ماذا! أهو معصوم من النسيان!
لما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم، في غضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها، ومثل هذا يقع لمالك ولشعبة ولوكيع ولكبار الثقات)ا.هـ
وقد عدّ وليّ الدين العراقي وابن حجر العسقلاني هشام بن عروة من المدلّسين، لكن ابن حجر جعله من أهل المرتبة الأولى، وهم الذين لم يوصفوا بالتدليس إلا نادراً كيحيى بن سعيد الأنصاري.
وحديث هؤلاء حجّة ما لم تكن له علّة توجب ردّه.
والمقصود أنّ هذا الحديث مما أخطأ فيه هشام بن عروة؛ فرواه عن أبيه من غير ذكر الواسطة.
وهذه العلّة مع نكارة المتن كافية في ردّه.

النوع الثامن: الضعيف الذي لا أصل له.
وهو الذي لا يُعرف له إسناد ولا مخرج.
ومن أمثلته ما ذكره مكي بن أبي طالب القيسي في الهداية بقوله: (روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سورة المائدة تدعى في ملكوت الله: المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب وتخلصه». ).
وهذا الحديث لا أصل له.
ومن المتقدّمين من يصف الخبر الذي ليس له إسناد مخرجه صحيح بأنّه لا أصل له، وإن كان مروياً بإسناد من الأسانيد الواهية.
النوع التاسع: الموضوع
وهو شرّ هذه الأنواع، وهو ما كان من رواية الكذّابين.
ومن أشهر الموضوعات في فضائل القرآن الحديث الطويل المكذوب على أبيّ بن كعب رضي الله عنه في فضائل القرآن سورة سورة.
وقد رواه أبو بكر بن أبي داود السجستاني في "فضائل القرآن" له كما في الموضوعات لابن الجوزي من طريق مخلد بن عبد الواحد عن علّي بن زيد بن جدعان وعطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب أنه قال: «أيّما مسلم قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر كأنّما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة، ومن قرأ آل عمران بكل آية منها أمانًا على جسر جهنّم، ومن قرأ سورة النّساء أعطي من الأجر كأنّما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة، ومن قرأ المائدة أعطي عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهوديّ ونصراني تنفس في الدّنيا.. » إلخ.
- ورواه ابن مردويه من طريق مخلد بن عبد الواحد عن الحجّاج بن عبد الله عن أبي الخليل عن علّي بن زيد وعطاء بن أبي ميمونة عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب.
- ورواه الثعلبي والواحدي في تفاسيرهم من طريق سلام بن سليمٍ، حدّثنا هارون بن كثيرٍ، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة، عن أبيّ بن كعبٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم .. به مفرّقاً على السور.
- ورواه العقيلي من طريق بزيع بن حسان ثنا علّي بن زيد بن جدعان وعطاء بن أبي ميمونة كلاهما عن زر بن حبيش عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم «يا أبي من قرأ فاتحة الكتاب أعطي من الأجر...» فذكر فضل سورة سورة إلى آخر القرآن انتهى بحروفه.
قال ابن الجوزي: (وقد فرق هذا الحديث أبو إسحاق الثّعلبيّ في تفسيره فذكر عند كل سورة منها ما يخصها وتبعه أبو الحسن الواحدي في ذلك ولم أعجب منهما لأنّهما ليسا من أصحاب الحديث، وإنّما عجبت من الإمام أبي بكر بن أبي داود كيف فرقه على كتابه الّذي صنفه في فضائل القرآن وهو من أهل هذا الشّأن ويعلم أنه حديث محال ولكن شرَه جمهور المحدثين، فإنّ من عادتهم تنفيق حديثهم ولو بالبواطيل، وهذا قبيح منهم؛ فإنّه قد صحّ عن رسول الله صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «من حدث عني حديثا يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين».
قال: (وهذا حديث فضائل السّور مصنوع بلا شكّ وفي إسناد الطّريق الأول بزيع، قال الدّارقطنيّ: متروك.
وفي الطّريق الثّاني مخلد بن عبد الواحد، قال ابن حبان: منكر الحديث جدا.
وقد اتّفق بزيع ومخلد على رواية هذا الحديث عن علّي بن زيد قال أحمد وابن معين علّي بن زيد ليس بشيء وأيضًا فنفس الحديث.
يدل على أنه مصنوع فإنّه قد استنفذ السّور وذكر في كل واحدة ما يناسبها من الثّواب بكلام ركيك في نهاية البرودة لا يناسب كلام الرّسول).
ثمّ روى ابن الجوزي بإسناده عن محمود بن غيلان شيخ الترمذي أنه قال: (سمعت مؤمّلا يقول حدثني شيخ بفضائل سور القرآن الذي يروي عن أبي بن كعب، فقلت للشيخ من حدثك؟ فقال حدثني رجل بالمداين وهو حي فصرت إليه فقلت من حدثك؟ فقال حدثني شيخ بواسط وهو حي فصرت إليه، فقال حدثني شيخ بالبصرة فصرت إليه
فقال حدثني شيخ بعبَّادان فصرت إليه، فأخذ بيدي فأدخلني بيتا فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ، فقال: هذا الشيخ حدثني، فقلت يا شيخ من حدثك؟ فقال لم يحدثني أحد ولكنا رأينا الناس قد رغبوا من القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا وجوههم إلى القرآن).
قال الحافظ العراقي: (كلّ من أودع حديث أبيّ - المذكور - تفسيره، كالواحدي، والثعلبي والزمخشري مخطئ في ذلك؛ لكن من أبرز إسناده منهم، كالثعلبي، والواحدي فهو أبسط لعذره، إذ أحالَ ناظرَه على الكشف عن سنده، وإن كان لا يجوز له السكوت عليه من غير بيانه، وأما من لم يبرز سنده، وأورده بصيغة الجزم فخطؤه أفحش، كالزمخشري).
قلت: وقد أورده البيضاوي أيضاً في تفسيره مفرقاً على السور من غير إسناد ولا تنبيه.

وممن روى الموضوعات في فضائل السور رجل يقال له: ميسرة بن عبد ربه.
وقد ذكر ابن الجوزي عن عبد الرحمن بن مهدى أنه قال: قلت لميسرة من أين جئت بهذه الأحاديث من قرأ كذا فله كذا؟
قال: وضعته أرغب الناس فيه).
وروى الحاكم في المدخل عن جعفر بن أحمد بن نصر أنه قال: سمعت أبا عمار المروزي يقول: قيل لأبي عصمة من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه في فضائل القرآن سورة سورة وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟
فقال: «إني قد رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبي حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذا الحديث حسبة»). [بيان فضل القرآن:148 - 160]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 05:55 PM
تنبيه:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تنبيه:
ومن المرويات ما يجتمع فيها أكثر من علّة، فيكون فيها انقطاع في الإسناد، وضعف في بعض رجال السند، ونكارة في المتن، وكلما زادت العلل اشتدّ الضعف.

ومن أمثلة ما تعددت علله: حديث أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن عطية بن قيس الكلابي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المائدة من آخر القرآن تنزيلا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» رواه أبو عبيد في فضائل القرآن.
وهو على إرساله ضعيف الإسناد؛ فابن أبي مريم متروك الحديث على ما يذكر من صلاحه، وذلك لسوء حفظه وكثرة خطئه.
ومتنه منكر ليس مما يشبه كلام النبي صلى الله عليه وسلم). [بيان فضل القرآن:160]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 06:03 PM
الباب التاسع:خواص القرآن


خواص القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (خواص القرآن
من المباحث المتعلّقة بفضائل القرآن مبحث ما يسمّى بخواصّ القرآن، وهذه التسمية تسمية اصطلاحية متأخرة يطلقها بعض العلماء على ما عرف من الانتفاع ببعض السور والآيات في أحوال مخصوصة، ولم تكن هذه التسمية معروفة عند السلف الصالح وإن كان قد جرى في زمانهم بعض ما يدخل في هذا المعنى.
ولا مشاحّة في الاصطلاح إذا كان له معنى معقول، ولم يُستعمل فيما يخالف هدى الشريعة.
على أنّ كلمة "خواصّ القرآن" يستعملها العلماء لمعاني متعددة:
منها: ما تقدّم ذكره من تأثير بعض السور والآيات في أحوال مخصوصة في الرّقى والكرب وغيرها.
ومنها: ما يختصّ به القرآن من خصائص وأحكام يتميّز بها عن غيره.
ومنها: التأثير الإعجازي للقرآن، وهذا المعنى يذكره بعض من يكتب في إعجاز القرآن، ويغلب عليهم العناية ببلاغة القرآن وحسن بيانه وتأثير خطابه.
ومقصودنا في هذا الباب هو المعنى الأوّل). [بيان فضل القرآن:161]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 06:08 PM
دلائل معرفة خواصّ القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (دلائل معرفة خواصّ القرآن
الدلالة الأولى: دلالة نصوص الكتاب والسنة الصحيحة على تأثير بعض السور والآيات في أحوال مخصوصة
فأمّا القرآن فباب الفهم فيه واستخراج الخواصّ منه بابٌ واسع، وإذا أصاب فيه المؤمن دلالة صحيحة على بعض الخواصّ فهو فضل عظيم، وقد ذكر العلماء جملة من الأمثلة التي تدلّ اللبيب على ما ورائها:
- فمن ذلك: قول الله تعالى في شأن يونس عليه السلام إذ التقمه الحوت: {فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فاستجبنا له ونجيناه من الغمّ وكذلك ننجي المؤمنين}، وقال تعالى: {فلولا أنه كان من المسبّحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}
فتبيّن بدلالة الآيتين أثر التسبيح والتوحيد في النجاة من الغمّ والكرب، ودلّ قوله تعالى: {وكذلك ننجي المؤمنين} على أنّ هذا الأمر لا يختصّ بيونس عليه السلام، بل هو عامّ للمؤمنين إذا دعوا واستغاثوا بالله وسبّحوه معترفين ذنوبهم.
ومما يدلّ على صحّة استنباط هذا المعنى ما رواه الإمام أحمد في مسنده والنسائي في سننه وغيرهما من طريق إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت: {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء قط إلا استجاب له».
- ومن ذلك أيضاً: قول الله تعالى: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)}؛ والقول في هذه الآية نظير ما سبق؛ فإن قوله تعالى: {وذكرى للعابدين} تذكير لهم وحثّ على الاتّساء به عليه السلام.
- ومن ذلك أيضاً: قوله تعالى: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)}.
فقول هذه الكلمة بإيمانٍ عند الخبر المفزِع والخوف له أثر في دفع البلاء والسلامة منه.
- ومن ذلك أيضاً: قوله تعالى: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد } فقولها مع الإيمان بالله والتوكّل عليه وبذل ما يستطاع من الأسباب له أثر عظيم في دفع كيد الأعداء، لقول الله تعالى بعدها: {فوقاه الله سيئات ما مكروا}.
قال الأمين الشنقيطي: (وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد فوقاه الله سيئات ما مكروا} دليل واضح على أن التوكل الصادق على الله، وتفويض الأمور إليه سبب للحفظ والوقاية من كل سوء).

وأما الأحاديث النبوية التي رويت في هذا الباب فكثيرة، وفيها دلالة بيّنة على بعض ما يُسمّى بخواصّ القرآن:
- فمن ذلك رقية اللديغ بسورة الفاتحة، وفيها حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه المتقدّم في رقيته للديغ بسورة الفاتحة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له: «وما يدريك أنها رقية».
فهذا مما يُعدّ من خواصّ سورة الفاتحة.
وفي الحديث فائدة أخرى، وهي اجتهاد الراقي في اختيار الآيات التي يرى مناسبتها للحالة التي يرقيها، وأنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرّه على ذلك.
وللرُّقَى أثرٌ معروف في الرّوح والجسد، وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذن العامّ بالرّقى ما لم يكن فيها شرك، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال: كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك؟
فقال: «اعرضوا عليَّ رُقاكم، لا بأس بالرُّقى ما لم يكن فيه شرك».
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث الأعمش عن أبي سفيان، عن جابر، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرُّقى، فجاء آل عمرو بن حزم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنه كانت عندنا رقية نرقي بها من العقرب، وإنك نهيت عن الرُّقَى، قال: فعرضوها عليه، فقال: «ما أرى بأسا من استطاع منكم أن ينفع أخاه فلينفعه».
وفي هذا إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم لرقية آل عمرو بن حزم وكانوا يرقون في الجاهلية ويُنتفع برُقَاهم، وسبب استئذانهم من النبي صلى الله عليه وسلم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لمّا هاجر إلى المدينة نهى عن الرّقى لما كان الغالب على الرّقى التي كانت في الجاهلية الشرك، وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الرّقى والتمائم والتولة شرك».
والتعريف في "الرقى" في هذا الحديث للعهد الذهني وليس للجنس.
أي أنّ الرقى التي يعهدونها من الجاهلية عامّتها شرك؛ لما فيها من الاستغاثة والتعوّذ بغير الله تعالى، فلمّا كان هذا هو الغالب عليها، نهى النبيّ صلى الله عليه وسلّم عنها، وبيّن حالها وحكمها.
فامتنع من كان يُعرف بالرُّقى من الصحابة رضي الله عنهم امتثالاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثمّ استثنى النبي صلى الله عليه وسلم الرقى التي ليس فيها شرك، ومن ذلك الرّقى التي تضمّنت عهوداً ومواثيق أخذها سليمان عليه السلام على الجنّ وبعض الهوامّ، وكانت العرب تأثر شيئاً منها.

قال الزهري: (بلغنا عن الرجال من أهل العلم أنّهم كانوا يقولون: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الرقى حين دخل المدينة، وكانت الرّقى في ذلك الزمان فيها كثير من كلام الشرك؛ فانتهى الناس عنها حين نهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيناهم كذلك إذ لُدغ رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بنهشة حيّة أو عقرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل من راقٍ؟»
قالوا: يا رسول الله قد كان آل حزم يرقون برقية من الحيّة فلمّا نهيت عن الرُّقَى تركوها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا لي عمارة بن حزم»، ولم يكن له ولد، وقد شهد بدراً، فدُعي له، فقال رسول الله عليه السلام: «اعرض عليّ رقيتك»
فعرضها عليه فلم يرَ بها بأساً فأذن له أن يرقيَها). رواه ابن وهب في جامعه.
وكان الإذن أوّلاً بالرقية من العين والحُمة؛ ثمّ ورد الإذن العامّ بكلّ رقية ليس فيها شرك.
- ففي الصحيحين من حديث الأسود بن يزيد النخعي قال: سألتُ عائشة عن الرقية من الحُمَة؛ فقالت:«رخّص النبي صلى الله عليه وسلم لأهل بيت من الأنصار في الرُّقية من كل ذي حُمَة».
- وفي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود من حديث حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا رقية إلا من عين أو حُمة».
قال الخليل بن أحمد: (الحُمَة: اسم كلّ شيء يلدغ أو يلسع).
وقال الأصمعي: (هي فَوْعَة السُّمّ) أي حرارته وحدّته وانتشاره.
- وفي صحيح مسلم من حديث عاصم الأحول عن يوسف بن عبد الله بن الحارث عن أنس قال: (رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين والحُمَة والنملة).
والنملة: قروح تخرج في الجنب وغيره.

ثمّ ورد الإذن العام في الرّقى ما لم يكن فيها شرك كما دلّ عليه:
أ- حديث عوف بن مالك الأشجعي المتقدّم ذكره.
ب- وحديث عمير مولى آبي اللحم أنّه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في خيبَر رقية كان يرقي بها المجانين في الجاهلية؛ فقال له: (اطرح منها كذا وكذا، وارقِ بما بقي). رواه أحمد والترمذي والنسائي.
ج- وحديث ابن أبي حثمة القرشي قال: حدثتني أمّي [وهي الشفاء بنت عبد الله] أنها كانت ترقي في الجاهلية فلمّا جاء الإسلام قالت: لا أرقي حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأتته فاستأذنته؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارقي ما لم يكن فيها شرك). رواه ابن حبان والطبراني في الكبير بإسناد حسن.

قال ابن حجر: (وقد تمسّك قوم بهذا العموم فأجازوا كلّ رقية جُرّبت منفعتها، ولو لم يُعقل معناها، لكن دلّ حديث عوف أنّه مهما كان من الرُّقى يؤدّي إلى الشرك يُمنعْ، وما لا يعقل معناه لا يُؤمنُ أن يؤدي إلى الشرك فيُمنع احتياطاً).

والمقصود أنّ الرّقى لها تأثير مجرّب وقد أقرّت الشريعة الرُّقَى السَّالمة من الشرك، ولم تكن لتقرّ أمراً باطلاً، وإذا كان لبعض كلام الناس تأثير في الأرواح والأجساد التي تُرقَى بها، فتأثير كلام الله تعالى أولى وأقوى.

قال ابن القيّم رحمه الله: (ومن المعلوم أن بعض الكلام له خواصّ ومنافع مجربة، فما الظن بكلام رب العالمين، الذي فَضْلُه على كلِّ كلام كفضل الله على خلقه الذي هو الشفاء التام، والعصمة النافعة، والنور الهادي، والرحمة العامة الذي لو أنزل على جبل؛ لتصدع من عظمته وجلالته.
قال تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين}، و" من " هاهنا لبيان الجنس لا للتبعيض، هذا أصح القولين كقوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما} وكلهم من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وكقوله: {فاجتنبوا الرجس من الأوثان} والأوثان كلها رجس.
فما الظنّ بفاتحة الكتاب التي لم ينزل في القرآن، ولا في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزبور مثلها؟!!
المتضمنة لجميع معاني كتب الله المشتملة على ذكر أصول أسماء الربّ تعالى ومجامعها، وهي الله، والرب، والرحمن، وإثبات المعاد، وذكر التوحيدين: توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية، وذكر الافتقار إلى الرب سبحانه في طلب الإعانة، وطلب الهداية، وتخصيصه سبحانه بذلك، وذكر أفضل الدعاء على الإطلاق، وأنفعه وأفرضه، وما العباد أحوج شيء إليه، وهو الهداية إلى صراطه المستقيم، المتضمن كمال معرفته، وتوحيده وعبادته بفعل ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، والاستقامة عليه إلى الممات، ويتضمن ذكر أصناف الخلائق، وانقسامهم إلى منعم عليه بمعرفة الحق، والعمل به، ومحبته، وإيثاره، ومغضوب عليه بعدوله عن الحق بعد معرفته له، وضال بعدم معرفته له، وهؤلاء أقسام الخليقة مع تضمنها لإثبات القدر والشرع، والأسماء والصفات، والمعاد، والنبوات، وتزكية النفوس، وإصلاح القلوب، وذكر عدل الله وإحسانه، والرد على جميع أهل البدع والباطل، كما ذكرنا ذلك في كتابنا الكبير " مدارج السالكين " في شرحها.
وحقيقٌ بسورة هذا بعضُ شأنها أن يُستشفى بها من الأدواء، ويرقى بها اللديغ)ا.هـ.

وخلاصة ما تقدّم أنّ من خواصّ سورة الفاتحة الرقية بها، ولا سيما من السمّ؛ فقد ثبت نفعها بالأدلّة الصحيحة، وانتفع كثير من الناس بالرقية بها.
والخواصّ تعمّ الرقى وغيرها، وقد ورد في جملة من الأحاديث الصحيحة ذكر بعض الخواصّ لبعض سور القرآن وآياته.
- فمن خواصّ سورة البقرة نفور الشياطين من البيت الذي تُقرأ فيه، كما دلّ على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
- ومن خواصّها ما ثبت من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» رواه مسلم.
وفي مسند الإمام أحمد عن بريدة بن الحصيب مرفوعاً نحوه.
وقال معاوية بن سلام: بلغني أن البطلة السحرة.
- ومن خواصّ آية الكرسي ما ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: وكَّلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان؛ فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام فأخذته؛ فقلت لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث - فقال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «صدقك وهو كذوب ذاك شيطان».
وقد روي في هذا المعنى عدد من الأحاديث.
وهذا من خواصّ آية الكرسي ودلائل تأثير قراءتها.
- ومن خواصّ آخر آيتين في سورة البقرة أنهما « لا تقرآن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان » كما في فضائل القرآن لأبي عبيد وسنن الدارمي والترمذي من حديث أبي قلابة الجرمي عن أبي الأشعث الصنعاني عن النعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعاً.

- ومن خواصّ القرآن ما ثبت من أثر فواتح سورة الكهف في العصمة من فتنة الدجال؛ كما في صحيح مسلم وغيره من حديث معدان بن أبي طلحة اليعمري، عن أبي الدرداء، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال».
وفي سنن أبي داوود من حديث عبد الرحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان الكلابي، قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال، فقال: «إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم، وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤ حجيج نفسه، والله خليفتي على كل مسلم، فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف، فإنها جِواركُم من فتنته» وأصل الحديث في صحيح مسلم.

ومحاولة استيعاب ما روي في الخواصّ من الأحاديث وتمييز صحيحها من ضعيفها أمرٌ يطول، وما ذُكر من الأمثلة كافٍ في التعريف بالمقصود، غيرَ أنه ينبغي التنبّه إلى توسّع بعض الرواة في هذا الباب؛ فقد رُويت فيه أحاديث كثيرة واهية الإسناد، ومنها ما هو معضود بدعوى تجربة قد تكون صحيحة، وقد تكون مكذوبة أو متوهّمة.

والدلالة الثانية: ما ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم.
وقد روي عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب آثار كثيرة، وما يصحّ منها قليل.
فمن ذلك: ما رواه أبو داوود والبيهقي في الدعوات والضياء في المختارة من طريق النضر بن محمد، قال: حدثنا عكرمة -يعني ابن عمار- قال: وحدثنا أبو زميل، قال: سألت ابن عباس، فقلت: ما شيء أجده في صدري؟ قال: ما هو؟ قلت: والله ما أتكلم به، قال: فقال لي: أشيء من شك؟ قال: وضحك، قال: ما نجا من ذلك أحد، قال: حتى أنزل الله عز وجل: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} الآية ، قال فقال لي: إذا وجدت في نفسك شيئا فقل: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم}).
وقد حسَّنه الألباني في السلسلة الصحيحة.

ومن أهل العلم من يعمل بما كان فيه ضعف يسير ومتنه غير منكر.
- ومن ذلك: ما رواه ابن أبي شيبة والطبراني من طريق محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى، عن الحكم بن عتيبة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إذا عسر على المرأة ولدها، فيكتب هاتين الآيتين والكلمات في صحفة ثم تغسل فتسقى منها: «بسم الله لا إله إلا هو الحليم الكريم، سبحان الله رب السموات السبع ورب العرش العظيم» {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}، {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، بلاغ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون}).
وابن أبي ليلى يُضعّف في الحديث لسوء حفظه.
لكن هذا الأثر عمل به بعض الأئمة، بناء على أصل الإذن في الرقية، ولظهور المناسبة بين الحالة والرقية، ولكون الضعف في الإسناد غير شديد، ولوجود الحاجة وهي تعسّر الولادة.
قال الخلال: حدّثني عبد الله بن الإمام أحمد قال: رأيت أبي يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولادتها في جام أبيض أو شيء نظيف، يكتب حديث ابن عباس رضي الله عنه: لا إله إلا الله الحليم الكريم، سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ} ، {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}).
وقال ابن مفلح في الآداب الشرعية: (قال أحمد: يكتب للمرأة إذا عسر عليها ولدها في جام ٍأبيض أو شيء نظيف: (بسم الله الرحمن الرحيم: لا إله إلا الله الحليم الكريم...) فذكره بلفظه.
ثم قال: (ثُمَّ تُسقى منه، ويُنضح ما بقي على صدرها).

- ومن ذلك أيضا: ما رواه الدارمي وابن الضريس من طريق عاصم بن بهدلة عن عامر الشعبي، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من قرأ أربع آيات من أول سورة البقرة، وآية الكرسي، وآيتين بعد آية الكرسي، وثلاثاً من آخر سورة البقرة، لم يقربه ولا أهله يومئذ شيطان، ولا شيء يكرهه، ولا يُقرَأْن على مجنون إلا أفاق».
عاصم يُضعَّف في الحديث، والشعبي لم يدرك ابن مسعود.

والآثار التي تصحّ عن الصحابة رضي الله عنهم في هذا الباب محمولة على أحد أمرين:
الأول: أن تكون مما تعلّموه من النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني: أن تكون مما فعلوه اجتهاداً بناء على أصل الإذن الشرعي.

وأما الآثار المروية عن الصحابة رضي الله عنهم بأسانيد واهية في هذا الباب فكثيرة لا ينبغي أن يُغترّ بها، ولا تقبل في هذا الباب إلا أن تظهر المناسبة بين الآيات والحالة ولا يكون في المتن ما ينكر فتؤخذ على أنّها رقية لا على اعتقاد ثبوتها عن الصحابة رضي الله عنهم.
ومن ذلك: ما رواه البيهقي في الدعوات من طريق الحَسَن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (إذا استصعبت دابة أحدكم أو كانت شَموساً فليقرأ هذه الآية في أذنها {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}).
الشَّموس: المتمنّعة.
والحسن بن عمارة متروك الحديث.

الدلالة الثالثة: ما ثبت عن الصالحين من التابعين وتابعيهم.
- ومن ذلك: ما رواه سعيد بن منصور والدارمي من طريق أبي الأحوص، عن أبي سنان الشيباني، عن المغيرة بن سبيع العجلي أنه قال: (من قرأ عند منامه آيات من البقرة لم ينسَ القرآن: أربع آيات من {وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم}، وآية الكرسي، والثلاث آيات من آخرها).
والمغيرة تابعي ثقة من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه، والإسناد إليه صحيح.

واشتهر في هذا الباب عن جماعة من التابعين ما لا يصحّ عنهم.
- ومن ذلك: ما رواه أبو عبيد في فضائل القرآن والدارمي في سننه عن محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن عبدة بن أبي لبابة، قال: سمعت زِرَّ بنَ حبيش، يقول: «من قرأ آخر سورة الكهف لساعةٍ يريد أن يقومها من الليل قامها»
قال عَبْدَة: فجربناه، فوجدناه كذلك.
قال أبو عبيد: (وقال ابن كثير: وقد جربناه أيضا في السرايا غير مرة، فأقوم في الساعة التي أريد. قال: وأبتدئ من قوله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا خالدين} إلى آخرها).
محمد بن كثير المصيصي قال فيه الإمام أحمد: منكر الحديث، وقال البخاري: ليّن جدا، وقال ابن عدي: (له روايات عن معمر، والأوزاعي خاصة عداد لا يتابعه عليها أحد).
فهذا الأثر لا يثبت عن زرّ.
- ومن ذلك نشرة وهب بن منبّه المذكورة في جامع معمر بن راشد من غير إسناد.
قال عبد الرزاق: وفي كتب وهب: «أن تؤخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين، ثم يضربه في الماء، ويقرأ فيه آية الكرسي، وذوات قل، ثم يحسو منه ثلاث حسوات، ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كل ما به إن شاء الله، وهو جيد للرجل، إذا حبس من أهله».
على أنّ هذه النشرة يعمل بها بعض أهل العلم من باب الرقية لا على اعتقاد ثبوتها.
- ومن ذلك أيضاً ما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره عن أبي جعفر الرازي عن ليث بن أبي سليم أنه قال: (بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصب على رأس المسحور الآية التي في سورة يونس: {فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون} والآية الأخرى: {فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون} إلى انتهاء أربع آيات، وقوله: {إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى}).
وليث بن أبي سليم ضعيف الحديث، ولم يسمّ من أخذ عنه هذه الرقية.

الدلالة الرابعة: الاجتهاد في إدراك التناسب بين الآيات والأحوال المخصوصة.
ومن ذلك أن يرقي الراقي كلَّ حالة بما يناسبها من الآيات، وقد ورد عن جماعة من العلماء استعمال ذلك:
ومن أمثلته:
- أن الإمام أحمد بن حنبل بلغه أنّ صاحبه المرّوذِيّ أصابته حُمّى؛ فكتب إليه رقعة فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله، وبالله، محمد رسول الله، {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم . وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين}، اللهم رب جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، اشف صاحب هذا الكتاب بحولك وقوتك وجبروتك، إله الحق آمين).
فهذه الرقية فيها معنى التوسّل إلى الله تعالى بقدرته على جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم أن يذهب عن المحموم حرارة الحمّى التي من فيح جهنّم.
- وذكر ابن القيّم رحمه الله في زاد المعاد أن شيخ الإسلام ابن تيمية كان يكتب على جبهة الراعف: {وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر}.
قال: وسمعته يقول: (كتبتها لغير واحد فبرأ) وقال: (لا يجوز كتابتها بدم الراعف، كما يفعله الجهال، فإن الدم نجس، فلا يجوز أن يكتب به كلام الله تعالى).
وهذه الرقية مبناها على التوسّل إلى الله تعالى بقدرته على إيقاف انهمار المطر الشديد الذي جعله عذاباً على قوم نوح، وأَمْرِهِ الأرض أن تبلعَ ماءها حتى غاض الماء وقضى الله الأمر؛ فيتوسّل إليه تعالى أن يأمر جَسد المرعوف بإيقاف نزفه دمه، وأن يُذهب عنه ما يجد من ذلك النزف.
فدلالة المناسبة ظاهرة؛ فالأرض والجسد من خلق الله تعالى، ومن قدر على تلك الآية العظيمة من تصريف ماء الطوفان العظيم لا يعجزه أن يشفي المرعوف من رعافه.
وهذا التوسّل إذا صدر من قلب مؤمنٍ موقنٍ متوكّلٍ على الله مفتقرٍ إليه نفع بإذن الله.
- وذكر ابن القيّم رحمه الله في زاد المعاد أيضاً كتاباً لمن تعسّرت ولادتها، قال: (يكتب في إناء نظيف: {إذا السماء انشقت - وأذنت لربها وحقت - وإذا الأرض مدت - وألقت ما فيها وتخلت} وتشرب منه الحامل، ويرش على بطنها).
- وكتب بعض أهل العلم لمن تعسّرت ولادتها سورة الزلزلة.
- ومن هذا الباب أيضاً رقية الثآليل بقوله تعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً} لظهور المناسبة بأنّ القادر على نسف الجبال لا يعجزه إزالة الثآليل.
- وقال ابن القيّم رحمه الله في مدارج السالكين: (كان شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إذا اشتدت عليه الأمور: قرأ آيات السكينة.
وسمعته يقول في واقعة عظيمة جرت له في مرضه، تعجز العقول عن حملها - من محاربة أرواح شيطانية، ظهرت له إذ ذاك في حال ضعف القوة - قال: فلما اشتد علي الأمر، قلت لأقاربي ومن حولي: اقرءوا آيات السكينة، قال: ثم أقلع عني ذلك الحال، وجلست وما بي قَلَبَة.
وقد جربت أنا أيضا قراءة هذه الآيات عند اضطراب القلب بما يرد عليه. فرأيت لها تأثيرا عظيما في سكونه وطمأنينته)ا.هـ.
- ومن هذا الباب أن يقرأ من يجد ضيقاً في صدره سورة الشرح فيجد راحة وانشراحاً.
- ومن ذلك أن يقرأ من يخشى عدوّا يتربّص به قول الله تعالى: {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يُبصرون}، وقول الله تعالى: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا}.
وهذا مبناه على التوسل بقدرة الله تعالى في أمر مخصوص مناسب لحالة المتوسّل وكربه، ولو كان العدوّ الذي يخافه مسلماً ظالماً فالتوسّل هو بالقدرة وهي معنى متحقق.
وقد رُوي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قرأ آية يس على رَصد أحاط به من كفار قريش فخرج من بينهم وهم لا يبصرون حتى جعل على رؤوسهم التراب، وهذه الحادثة من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد اشتهرت في كتب السيرة وهي لا تصح لوهاء سندها.
لكن استعملها كثير من الصالحين، وانتفعوا بها في مثل هذه الأحوال.

والخلاصة في هذا الباب أن يقرأ صاحب كلّ بلاء ما يناسب بلاءه من السور والآيات؛ فيجد فيما يقرأ ما يشفي صدره، ويطمئن قلبه، ويتبصّر به سبيل الهدى فيما هو فيه، ويتوسّل إلى الله تعالى بآياته الباهرة، وقدرته الظاهرة، وعزّته القاهرة، ورحمته وإحسانه على أن يذهب عنه ما يجد ويحاذر، وأن يحفظه ويلطف به.
وقيام هذا الباب بالافتقار إلى الله تعالى والتوسّل إليه بآياته وما دلّت عليها من صفاته الجليلة لدفع أنواع من البلاء والكروب، وسؤال الله من فضله). [بيان فضل القرآن:162 - 178]

جمهرة علوم القرآن
22 محرم 1439هـ/12-10-2017م, 06:12 PM
التحذير من الغلوّ في باب خواصّ القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (التحذير من الغلوّ في باب خواصّ القرآن
وليحذر المسلم من الغلوّ في هذا الباب؛ فإنّه قد قاد الغلاة إلى فساد كبير، وضلال مبين، وانحلال من الدين، والعياذ بالله.
ومن ذلك ما ابتدعه بعض الصوفية الغلاة في خواصّ القرآن من دعاوى وضلالات، واستعمال أشياء غير معقولة المعنى من رسوم وأحوال، وجداول وأوفاق تبيّن للمحققين أنها من طلاسم السحر، لكنّهم موّهوا بها على أتباعهم، وسموّا الأمور بغير أسمائها، فسمّوا الشياطين الذين يتقرّبون إليهم خُدّام الآيات، وسمّوا الاستغاثات الشركية عزائم، وسمّوا غرائب أسماء الشياطين أسراراً، ولولا خشية الإغراء بها مع ضعف النفوس لذكرت أمثلة مما ذكروه في هذا الباب مما يدلّ على ضلالهم وتضليلهم وبعدهم عن هدى القرآن، وتلبيسهم على الناس.
وقد اعترف بذلك بعضُ مَنْ مَنَّ الله عليه بالتوبة من السِّحْر من أصحاب تلك الطرق، وذكر أنه كان يعتقد أنه يكلّم الملائكة ويخاطبهم، وأنّ ما هو فيه إنما هو من الكرامات التي يُؤتاها الأولياء والأقطاب عندهم.
وتلا قول الله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)}
ثم قال ما معناه: كانت هذه حالنا، كنا نظنّ أننا نخاطب الملائكة ونتقرب إليهم ويخدموننا؛ فإذا بهم شياطين.

والمقصود أن غلاة الصوفية قد أدخلوا على الأمّة من هذا الباب شرّا عظيماً، وبلاء وفتنة ضلّ بها طوائف من أتباع الطُّرُق والعامّة المخدوعين بضلالاتهم؛ فلبسوا الحق بالباطل، وموّهوا على الجهّال والعامّة، وروّجوا أباطيلهم وأسحارهم باسم خواصّ القرآن، وكان منهم من يكتب الحُجب والتمائم ويبيعها، ويزعم أنّ فيها من الخواصّ ما يدفع البلاء، ويجلب السعد، ويحفظ من العين والعدوّ، وأكلوا أموال الناس بالباطل والتمويه والتضليل.

ولكبار الصوفية مؤلفات فيما يدّعون أنّه من "خواصّ القرآن" فيها غلوّ وضلال مبين، ومنها:
1. كتاب "خواصّ القرآن الحكيم" لمحمّد بن أحمد بن سعيد التميمي (ت: 390هـ)، ولم أقف على كتابه، لكن ذُكرت عنه عظائم، وله مخطوطات يعتني بها السحرة.
2. ورسالة في "خواص بسم الله الرحمن الرحيم" لأحمد بن علي بن يوسف البوني (622هـ).
3. وكتاب "العقد المنظوم فيما تحتويه الحروف من الخواص والعلوم" لابن عربي الطائي (ت:638هـ) زعيم الصوفية في زمانه ، وهو كتاب سحرٍ ضمّنه ما ادّعى فيه أنه من خواص القرآن لقضاء الحاجات ودفع المضار تدليساً وتمويهاً.
4. وكتاب "السر الجليل في خواص حسبنا الله ونعم الوكيل " لأبي الحسن الشاذلي (ت: 656هـ ) زعيم الطريقة الشاذلية، وكتابه هذا كتاب سحر في حقيقته.
5. وكتاب "فضائل القرآن وخواصها" لأبي بكر الغساني الودياشي (ت696هـ).
6. وكتاب "البرهان والدليل في خواصّ سور التنزيل" لابن منظور القيسي الأندلسي (ت:750هـ)
7. وكتاب "الدر النظيم في خواصّ القرآن العظيم" لعبد الله بن أسعد اليافعي (ت:768هـ) وكان صوفيّاً أشعرياً متعصّبا، ومبالغاً في تعظيم ابن عربي وعلومه، وكانت الصوفيّة في زمانه تعظّمه وتقدّمه، وكتابه هذا قد أكثر فيه من الموضوعات والأباطيل، وذكر فيه تقاسيم وجداول وأوفاق، وتراسيم يذكرها لقضاء الحاجات؛ كلّها بواطيل تدلّ على اعتمادهم على طرق السحر وتلبيس صناعتهم لباس خواصّ القرآن وأسراره.

وكتب الصوفيّة في هذا الباب كثيرة، والمقصود التنبيه على باطلها بذكر أمثلة منها؛ فليحذرها طلاب العلم، وليحذّروا من اغترّ بها.
وما يذكرونه مما يُحذّر منه في هذا الباب على صنفين:
1. صنف حقيقته سحر وتقرّب إلى الشياطين بأعمال بدعية، ورسوم وأحوال وهيئات، واستغاثات وعزائم.
2. وصنف دعاوى مجرّدة، وكذب على الصالحين بذكر تجارب مزعومة، ودعاوى متوهّمة.
ومن ذلك ما ذُكر عن ابن منظور القيسي في خواصّ قوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} أنه نسب إلى ابن الجوزي رحمه الله أن من خواصّها أنها تُقرأ عند شراء البطّيخ، فمن أراد ذلك فليقرأها سراً وهو يقلب البطيخ فإنه يرشد إلى طيب ما فيها، فإذا أراد أكلها قرأ عليها عند شقها بالسكين {فذبحوها وما كادوا يفعلون} فإنه يجدها طيبة إن شاء الله تعالى.
فهذا كذب بيّن على ابن الجوزيّ رحمه الله.

وقد كتب في هذا الباب من غير الصوفية مَن خلط فيه وأساء، وجمع فيه ما يجمع حاطب الليل من الغثّ والسمين، والضعيف والصحيح، والباطل المكذوب، والحكايات البليدة التي تلوح عليها أمارات الكذب والاختلاق.
ومنهم من يأتي بدعاوى منكَرة كما قال الشاه ولي الله بن عبد الرحيم الدهلوي في كتابه "الفوز الكبير في أصول التفسير": (تكلمت طائفة من المتقدمين في خواص القرآن من ناحيتين: إحداهما ما يشبه الدعاء، والثانية ما يشبه السحر، أعوذ بالله منه، ولكنَّ الله تعالى فتح على الفقير باباً وراء ما نُقل من خواصّ القرآن، وألقى في حجري الأسماء الحسنى والآيات العظمى والأدعية المباركة مرة واحدة، وقال: إنها عطاؤنا للتصريف، إلا أن كل آية واسم ودعاء مشروط بشروط لا تضبطها قاعدة من القواعد، بل قاعدتها انتظار عالم الغيب، كما يكون في حالة الاستخارة، حتى ينظر بأي آية أو اسم يشار عليه من عالم الغيب ثم يتلو الآية أو الاسم على طريق من الطرائق المعلومة لدى أهل هذا الفن)ا.ه.
وكلام الدهلوي هذا ضرب من الجهل والغلو في هذا الباب، ودعواه هذه منكرة جداً، وهو وإن لم يكن معدودا من الصوفية، بل ذكر عنه ما يدل على منابذتهم والتحذير منهم وإصلاح ما أفسدوه في بلاد الهند إلا أنّه لم يسلم من التأثّر بهم في بعض الأبواب، فكلامه فيها مضطرب غير مقبول.
وإنما أوردته للتنبيه على أنّ بعض ما يكتب في هذا الباب غلوّ وابتداع حتى يُحذر مما يُكتب باسم "خواصّ القرآن" جهلاً وتخليطاً أو تمويهاً وتلبيساً، وحقيقته لغو وتضليل، أو سحر وتدجيل.

***

اللهمّ اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، ووفّقنا لاتّباع رضوانك، ومنّ علينا بفضلك وإحسانك، وأصلح لنا شؤوننا كلها، لا إله إلا أنت.
وصلى الله وسلّم على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين). [بيان فضل القرآن:179 - 183]