المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مسائل كتاب الإيمان بالقرآن


جمهرة علوم القرآن
16 محرم 1439هـ/6-10-2017م, 10:11 PM
مسائل كتاب الإيمان بالقرآن
[اضغط على المسألة لتطّلع على شرحها]


عناصر الكتاب:
- تمهيد (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159921#post159921)
الباب الأول: بيان وجوب الإيمان بالقرآن
- بيان وجوب الإيمان بالقرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160018#post160018)
الباب الثاني: أنواع مسائل الإيمان بالقرآن
- النوع الأول: مسائل اعتقادية (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160019#post160019)
- النوع الثاني: مسائل سلوكيّة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160020#post160020)
الباب الثالث: سبيل الاهتداء بالقرآن
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160021#post160021)كيف يكون الاهتداء بالقرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160021#post160021)
- أقسام أمثال القرآن
(http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160022#post160022)
الباب الرابع: بيان فضائل الإيمان بالقرآن
- بيان فضائل الإيمان بالقرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160023#post160023)
الباب الخامس: إثبات صفة الكلام لله تعالى
- إثبات صفة الكلام لله تعالى (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160024#post160024)
الباب السادس:عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن
- إجمال قولِ أهل السنّة والجماعة في القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160026#post160026)
- سبب تصريح أهل السنة بأن القرآن غير مخلوق (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160027#post160027)
الباب السابع: أقوال الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة في القرآن
- أقوال الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة في القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160028#post160028)
الباب الثامن: فتنة القول بخلق القرآن
- فتنة القول بخلق القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160029#post160029)
- نشأة القول بخلق القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160030#post160030)
- بداية المحنة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160031&posted=1#post160031)
- محنة الإمام أحمد بن حنبل (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160032&posted=1#post160032)
- المحنة في زمن المعتصم بن هارون الرشيد (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160033#post160033)
- المناظرة الكبرى في خلق القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160034&posted=1#post160034)
- محنة أهل السنة في مدة حبس الإمام أحمد (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160035#post160035)
- المحنة في عهد الواثق بن المعتصم (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160036#post160036)
- مقتل أحمد بن نصر الخزاعي (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160037&posted=1#post160037)
- رفع المحنة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160038#post160038)
الباب التاسع: فتنة الوقف في القرآن
- مقدمة في بيان آثار فتنة القول بخلق القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160039#post160039)
- فتنة الوقف في القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160040#post160040)
الباب العاشر: فتنة اللفظية
- المراد بفتنة اللفظية (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160041#post160041)
- بيان الإمام أحمد والبخاري للحقّ في فتنة اللفظ بالقرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160042#post160042)
- اختلاف المواقف في مسألة اللفظ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160043#post160043)
- رؤيا أبي حمدون المقرىء (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160044#post160044)
- متى نشأت اللفظية (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160045#post160045)
- محنة الإ لمام البخاري في مسألة اللفظ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160046#post160046)
الباب الحادي عشر: اختلاف الفِرَق في القرآن
- اختلاف الفِرَق في القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=160047&posted=1#post160047)


حفظ نسخة PDF من كتاب الإيمان بالقرآن: هنا (http://afaqattaiseer.com/up/do.php?id=1600)

http://afaqattaiseer.com/up/do.php?img=1517

جمهرة علوم القرآن
16 محرم 1439هـ/6-10-2017م, 10:20 PM
تمهيد
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تمهيد
الحمد لله الذي أنزل القرآن ذكراً للعالمين، وهدى ورحمة للمؤمنين، فبصَّرهم بهِ وهداهم، ووعظهم به وزكَّاهم، وأنزل لهم فيه تفصيل كلّ شيء، وضرب فيه من كلّ مثل، ويسّره للذكر، ووعد من آمن به واتّبعه بالنجاة من العذاب الأليم، والفوز بالفضل العظيم في الدنيا والآخرة، كما قال الله تعالى: {إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)}

والصلاة والسلام على النبيّ الأمين، والرسول الكريم، الذي أنزل الله عليه الكتاب والحكمة وكرَّمه، وعلّمه مما يشاء وفهّمه، وأرسله إلينا شاهداً ومبشّراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ فكان أعلم الناس بالقرآن، وأعظمهم نصيباً من بركته، وأحسنهم اتّباعاً لهداه؛ حتى كان خلقُه القرآن؛ كما صحَّ عن سعد بن هشام بن عامر أنه قال لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: «ألست تقرأ القرآن؟»
قال: بلى.
قالت: «فإنَّ خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن» رواه مسلم.
وهذا غايةُ ما يكونُ من الاهتداءِ بالقرآنِ، واستكمالِ الإيمانِ به، أن يكون خلق الإنسان ما بيَّنه الله عزَّ وجل وهدى إليه في القرآن اعتقاداً وقولاً وعملاً.
وقد أُمرنا باتّباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعَلى قدْرِ ما يبلغ العبدُ من إحسان اتّباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم؛ يكون حظّه من بركة هذا الاتباع، وحظّه من هُدى القرآن وما رتَّب الله عليه من الفضل العظيم.
أمّا بعد:
فإنّ الإيمان بالقرآن أصل من أصول الإيمان التي لا يصحّ الإيمان إلا بها، فحريّ بطالب العلم أن يعتني بفقه مسائل هذا الأصل العظيم حتى يتبيّن ما يتحقق به، وما يقدح في صحة الإيمان به، وأن يتعرّف المسائلَ التي يبحثها العلماء في أبواب الإيمان بالقرآن، ويعرف مراتب المخالفة في ذلك، وأحكام المخالفين ودرجاتهم.
ولما كانت هذه المباحث متفرّقة في كتب الاعتقاد والسلوك والتفسير وشروح الحديث وبعض المؤلفات المفردة في بعض ما يتّصل بمسائل الإيمان بالقرآن حرصت على جمع شتات تلك المسائل وترتيبها وتقريبها لطلاب العلم.
ثمّ ألقيت ما جمعته في دورة علمية لطلاب برنامج إعداد المفسّر في معهد آفاق التيسير للتعليم عن بعد في شهر ذي القعدة من عام 1436 هـ.
ثم راجعت المادّة العلمية لتلك الدورة في شهر شوال من عام 1437 هـ لتخرج في هذا الكتاب المختصر.
وأسأل الله تعالى أن يتقبّله بمنّه وكرمه إنه سميع عليم، وأن ينفع به طلاب العلم ويبارك فيه بركة من عنده إنه حميد مجيد) [ الإيمان بالقرآن: 5-8 ]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 01:32 PM
الباب الأول: بيان وجوب الإيمان بالقرآن


قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (بيان وجوب الإيمان بالقرآن
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ}.
وقال تعالى: { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) }
قال ابن جرير الطبري: (يقول: {وآمنوا بالنور الذي أنزلنا} وهو هذا القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم).
وقال الله تعالى لنبيه: { وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ}، ويدخل في ذلك الإيمان بالقرآن دخولا أوليٍّا.
وقال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
وقال الله تعالى فيما أنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله}.
والإيمان بالقرآن أصل من أصول الإيمان لا يصحّ الإيمان إلا بها؛ كما في حديث جبريل الطويل أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: فأخبرني عن الإيمان؟ قال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره» رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

ومن لم يؤمن بالقرآن فهو كافر متوعّد بالعذاب الشديد؛ كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)}
وقال تعالى: { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)}
وقال تعالى: { وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5)}
وتوعَّدَ اللهُ اليهودَ والنصارى بالوعيد الشديد إذا لم يؤمنوا بالقرآن بعد معرفتهم بما أنزل الله من قبل؛ فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)}
وقال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)}
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} – سماهم باسم الكفر- {لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) }.
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28)}
فسماهم الله عز وجل كافرين وتوعدهم بالوعيد الشديد وعدَّهم أعداءً له.
وقال تعالى: {بل هم في شكّ من ذكري بل لمّا يذوقوا عذاب}.
فدلَّت هذه الآيات دلالة بيّنة على وجوب الإيمان بالقرآن، وأنّ من لم يؤمن به فهو كافر بالله، عدوّ لله، متوعَّد بالعذاب الشديد، وأن الشاكّ في القرآن غير مؤمن به، وأنه متوعد بالعذاب لكفره وإعراضه عن الإيمان بالقرآن.

فصل: والإيمان بالقرآن يكون بالاعتقاد والقول والعمل.
- فالإيمان الاعتقادي بالقرآن: أن يصدّق بأنّه كلام الله تعالى أنزله على رسوله بالحقّ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى صراط مستقيم، وأنّ كل ما أنزل الله فيه فهو حقّ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وأنه قيّم لا عوج له، ولا اختلاف فيه، يهدي إلى الحقّ وإلى طريق مستقيم.
وأنه محفوظ بأمر الله إلى أن يأتي وعد الله، لا يخلق ولا يبلى، ولا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، ولا بسورة من مثله.
ومن الإيمان الاعتقادي بالقرآن أن يصدّق بكلّ ما أخبر الله به في كتابه الكريم، وأن يخضع لما أمر الله به، فيعتقد وجوب ما أوجب الله فيه، ويعتقد تحريم ما حرّم الله فيه، وأنّه لا طاعة لما خالفه.
- والإيمان القولي: أن يقول ما يدلّ على إيمانه بالقرآن، وتصديقه بما أنزل الله فيه، ومن ذلك تلاوة القرآن تصديقاً وتعبّداً.
- والإيمان العملي: هو اتّباع هدى القرآن؛ بامتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه في كتابه الكريم.
فمن جمع هذه الثلاث فهو مؤمن بالقرآن؛ قد وعده الله فضلاً كبيراً ، وأجراً عظيماً؛ كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)}.
وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)}
وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)}). [الإيمان بالقرآن:9 - 12]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 01:43 PM
الباب الثاني: أنواع مسائل الإيمان بالقرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الباب الثاني: أنواع مسائل الإيمان بالقرآن
مسائل الإيمان بالقرآن على نوعين كبيرين ينبغي أن يكون طالب العلم على معرفة حسنة بهما:
النوع الأول: مسائل اعتقادية
والنوع الثاني: مسائل سلوكيّة
فأمّا المسائل الاعتقادية فهي المسائل التي تُبحَث في كتب الاعتقاد، ويُعنى فيها العلماءُ بما يجب اعتقاده في القرآن، وأصلُ ذلك الإيمانُ بأنَّ القرآن كلامُ الله تعالى منزَّل غير مخلوق، أنزله على نبيّه محمّد صلى الله عليه وسلم ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأنّه مهيمنٌ على ما قبله من الكتب وناسخٌ لها، وأنَّ القرآن بدأ من الله عزَّ وجلَّ وإليهِ يعودُ، وأنْ يؤمنَ بما أخبر الله به عن القرآن وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يعتقد وجوبَ الإيمانِ بالقرآن، وأن يُحلَّ حلالَه ويحرِّمَ حرَامه ويعمَل بمُحْكَمِه ويردَّ متشابهه إلى محكمه، ويكلَ ما لا يعلمه إلى عالمه.
فهذه أشهر مسائل الاعتقاد في القرآن التي تبحث في كتب الاعتقاد وتحت هذه الجمل اليسيرة مسائل كثيرة ومباحث طويلة.
وقد أفاضَ علماء أهل السنة في كتبهم المؤلفة في الاعتقاد بحث تلك المسائل بما يشفي ويكفي، وما يذكرونه من المسائل في أبواب الإيمان بالقرآن في كتب الاعتقاد يمكن تقسيمه إلى أحكامٍ وآداب.
والمقصود بالأحكام هنا الأحكام العَقَدِيَّة، كبيان ما يجب اعتقاده، وما يحكم ببدعته، وبيان درجة البدعة، وهل هي مكفّرة أو مفسّقة، ونحو ذلك من الأحكام العقدية.
والمراد بالآدابِ أن يدرس تلك المسائل على منهج أهل السنة والجماعة في التلقّي والاستدلال، وفي بحث تلك المسائل، وأن يراعي آدابهم في البحث والسؤال، والدراسة والبيان، والتعليم والتأليف، والمناظرة والردّ على المخالفين، وأن يكون على حذر من طرق أهل البدع في بحث مسائل الاعتقاد، وأن يكفّ عن المراء في القرآن، وإثارة التنازُعِ فيه وضرب بعضه ببعض، وأن لا يتكلّف ما لا يحسن، وألا يقول ما ليس له به علم؛ إلى غير ذلك من الآداب الواجبة في بحث مسائل الاعتقاد في القرآن، وهذه الآداب قد اعتنى بها السلف الصالح عناية عظيمة؛ فيجب على طالب العلم أن يرعى تلك الآداب رعاية حسنة في دراسته، وأن لا يكون تعلّمه لمسائل الاعتقاد تعلّما نظريّاً عريّا من الآداب التي يجب أن تحتفّ به وتكتنفه.

وطلاب العلم عموماً، وطلاب علم التفسير على وجه الخصوص يحتاجون في مسائل الاعتقاد في القرآن إلى ثلاثة أمور:
الأمر الأول: معرفة القول الحق في مسائل الاعتقاد في القرآن، بما دلَّت عليه نصوصُ الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة رحمهم الله، وذلك حتى يصحِّحَ عقيدتَه في القرآن، فيكون معتقدُه في القرآن معتقداً صحيحا مبنيا على الدليل الصحيح والحجة البيّنة.
والأمر الثاني: تقرير الاستدلال لهذه المسائل -وهذه مرتبة يمتاز بها طالب العلم عن العامّي- بأن يعرف أدلتها ومآخذ الاستدلال، ويعرف ما تحسن به معرفته من الأدلة والآثار؛ ويحسن تقرير تلك المسائل بأدلتها؛ حتى يمكنه أن يدعو إلى الحق في تلك المسائل متى احتيج إليه في ذلك؛ فلو كان في مجتمع فيه مخالفات في مسائل الإيمان بالقرآن واحتيج إلى طالب علمٍ يقرّر مسائل الاعتقادِ، ويدعو الناس إلى الحقّ فيها، ويبيّنه لهم بأدلّته؛ فإذا هو حَسَن العُدَّة في ذلك، عارفٌ بأدلة تلك المسائل وطرق تقريرها على منهج أهل السنة والجماعة.
وأما من كان ضعيف العُدَّة فإنه ربما ذهب ليبحث لهم تلك المسائل فاغترّ ببعض الشُّبَه، وأساء فهم أقوال بعض الأئمة، وتعجَّل في بحثه، وتكلّف ما لا يحسن؛ وقال ما ليس له به علم، واتبع الظنَّ، فانحرف في بعض ما يتكلم فيه عن الحقّ، ومال إلى أقوال بعض الأهواء.
ولذلك كان ضبط المهمّ من مسائل الاعتقاد في القرآن ومعرفة أدلتها والتمرّن على تقريرها من أهمّ ما يُوصَى طالبُ العلمِ بالعناية بهِ قبل التوسّع في دراسة مسائل التفسير، ولأجل ذلك قرر هذا الكتاب في المستوى الأول من برنامج إعداد المفسّر.

والأمر الثالث: معرفةُ أقوالِ المخالفينَ لأهل السنة في مسائل الاعتقاد في القرآن، ومعرفة مراتبهم ودرجات مخالفاتهم، ومعرفة أصول شبهاتهم، ونشأة أقوالهم، وحجج أهل السنة في الردّ عليهم، ومنهجهم في معاملتهم، فيكون على الطريقة الحسنة التي كان عليها السلف الصالح غيرَ غالٍ ولا مفرّط.
وأهل البدع والأهواء تتشابه قلوبهم ومقاصدهم وأقوالهم، وعامّة شبهاتهم مما يتوارثه بعضهم عن بعض؛ فمن أحسن معرفة أصول الشبهات، وحجج أهل السنة في الرد عليها، فإنَّه يتبيَّن له من أصول الرد على المخالفين في العصر الحديث ما هو نظير ردودِ أهل السنة المتقدّمين على المخالفين لهم في زمانهم.

والمقصود التعريف الموجز بالنوع الأول من أنواع مسائل الإيمان بالقرآن، وهي المسائل الاعتقادية). [الإيمان بالقرآن:13 - 16]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 01:45 PM
وأما النوع الثاني فهو في المسائل السلوكية المتعلقة بالإيمان بالقرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وأما النوع الثاني فهو في المسائل السلوكية المتعلقة بالإيمان بالقرآن
وهي المسائل التي يُعنى فيها بالانتفاع ببصائر القرآن وهداياته ومواعظه، وكيف يستجيب لله تعالى ، ويهتدي بما بيّنه في كتابه، ويعقل أمثال القرآن، ويعرف مقاصدها ودلالاتها، ويعرف كيف يكون التبصُّر والتذكُّر، والتدبُّر والتفكُّر، ويعرف علامات الهداية والضلال في هذا الباب.

وهذه المسائل السلوكية العظيمة داخلة في اسم الإيمان بالقرآن؛ فإنَّ الإيمانَ قولٌ وعملٌ واعتقاد، ومسائل السلوك منها مسائل اعتقادية، ومسائل قولية، ومسائل عملية، لكن غلب على العلماء في كتب الاعتقاد بحث المسائل العلمية لشدّة الحاجة إلى بيان ما يصحّ به الاعتقاد في القرآن إذ هو الأصل الذي تُبنى عليه مسائل السلوك والأحكام، وغلب عليهم تقرير مسائل الاعتقاد والرد على المخالفين في تلك الأنواع واتجه بحثهم إلى البحث العقدي وما يجب اعتقاده في القرآن والقول الصحيح في القرآن.
وأمّا علماءُ السلوك فاعتنوا بما يتعلّق بتحقيق الإيمان بالقرآن في الجوانب المعرفية والعملية؛ والمراد بالمعرفية ما يتعلّق بالمعارف والحقائق المفيدة لليقين، والمراد بالجوانب العملية ما يتعلق بالعمل القلبي وعمل الجوارح، ولذلك غلبت عليهم العناية بتدبّر القرآن والتفقّه في طرق الانتفاع بمواعظه وهداياته، وهذه مسائل سلوكية.

وعلم السلوك يُعنى بأصلين مهمين:
الأصل الأول: البصائر والبينات، وهي التي يسميها بعض من كتب في علم السلوك: المعارف والحقائق، واسمها في النصوص البصائر والبيّنات، وهو اسم أشمل وأعمّ مما يذكرونه في أبواب المعارف والحقائق.
قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)}
وقال تعالى: {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)}
وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ}
وقال تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14)}
والأصل الثاني: اتبَّاع الهدى، ويعنى بالجانب العملي وهو الطاعة والامتثال، فيأتي ما يؤمر به، ويجتنب ما ينهى عنه، ويفعل ما يوعظ به.
فالأصل الأول - وهو البصائر والبينات - قائمٌ على العلمِ، ومثمِرٌ لليقين.
والأصل الثاني - وهو اتباع الهدى - قائمٌ على الإرادة والعزيمة ومثمرٌ للاستقامة والتقوى.
وعامّة ما يذكره العلماء من مسائل السلوك راجع إلى هذين الأصلين، وحاجة الناس إلى التفقّه فيهما ماسّة، وقد جمعهما الله تعالى في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}
فهذه الآية جمعت أصلي علم السلوك: البينات والهدى؛ فالناس بحاجة إلى البينات التي يعرفون بها الحقّ من الباطل، وبحاجة إلى معرفة الهدى ليتّبعوه.
والأصل الأول حجة على من خالف في الأصل الثاني؛ لأن من جاءته البيّنةُ ولم يتَّبعِ الهدى كان علمه بتلك البيّنة حجة عليه كما قال الله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}
وقال الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)}

فلا بد من الجمع بين الأمرين: أن يكون الإنسان على بيّنة وأن يتّبع الهدى، وكل ذلك من الإيمان بالقرآن، ومما جاءت به النصوص الصحيحة الصريحة في الكتاب والسنة.
وتحصيل الأصل الأول يكون بالتفقّه في بصائر القرآن وبيّناته، وتصديق أخباره، وعقل أمثاله، وفقه مقاصد الآيات والقصص والأخبار التي بيّنها الله تعالى في كتابه؛ فالتفكّر فيها بقلب منيب يثمر للعبد أنواعاً من البيّنات والبصائر التي يزداد بها إيمانه ويقينه.
وتحصيل الأصل الثاني يكون بإلزام النفس بكلمة التقوى، وصبرها على امتثال ما أمر الله به، واجتناب ما نهى الله عنه، وفعل ما وعظ الله به، كما قال الله تعالى: { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)}
ومن صحَّحَ الأصلين في نفسه صحّ له سلوكه، وجمع بين العلم والعمل، ولذلك كان مردّ فلاح السالكين إلى صحّة العلم وصلاح العمل؛ فالبصائر والبيّنات قائمة على العلم الصحيح، وصلاح العمل يحتاج فيه السالك إلى عزيمة وإرادة جازمة غير مترددة، ولتقرير هذين الأصلين عقد ابنُ القيّم رحمه الله تعالى كتابه العظيم «مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة» لأن السالك يحتاج إلى علم يتبصر به، ويحتاج إلى إرادة جازمة يتّبع بها الهدى.

والسلوك بشقَّيهِ المعرفيّ والعمليّ يجب أن يكونَ قائماً على الاعتقادِ الصحيحِ؛ ولذلكَ فإنَّ مَن غلبت عليهم العناية بعلم السلوك وأغفلوا علم الاعتقاد وقعوا في بدعٍ كثيرة، وشطحات كبيرة، وسبيلُ السلامة إنما يكون بالجمع بين تصحيحِ الاعتقادِ، وتصحيحِ السلوكِ.
وسنتناول في هذا الباب أصولاً مهمّة في نوعي مسائل الإيمان بالقرآن: المسائل الاعتقادية، والمسائل السلوكية؛ لأنّهما داخلان في اسم الإيمان بالقرآن، ونسأل الله تعالى الهدى والسداد، والتوفيق للصواب). [الإيمان بالقرآن:16 - 20]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 01:57 PM
الباب الثالث: سبيل الاهتداء بالقرآن


قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الباب الثالث: سبيل الاهتداء بالقرآن
والاهتداء بالقرآن يكون بتصديق أخباره،وعقل أمثاله، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه
فأمّا تصديق الأخبار فإنه يورث قلبَ المؤمن يقيناً يزدادُ به علماً وهدى؛ وكلما كان العبد أحسن تصديقاً كان اهتداؤه بالقرآن أرجى وأحسن؛ كما قال الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)}
فتبيّن بذلك أن التصديق الحسن يبلغ بصاحبه مرتبة الإحسان؛ وينال مرتبة الإحسان من وجهين:
أحدهما: أنّ الله تعالى سمّاه محسناً كما قال الله تعالى: {ذلك جزاء المحسنين}.
والوجه الآخر: أنّ الله يكفّر عنه سيئاته؛ فمن كفّر الله عنه سيئاته قَدِمَ يومَ القيامة ليس معه إلا الحسنات؛ فيكون بذلك من أهل الإحسان لأن سيئاته قد كُفّرت عنه.
ونظير هذا قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ } فسمى الله عزَّ وجل الذين اجتنبوا كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم من أهل الإحسان، وذلك أن الله عز وجل يكفّر عنهم سيّئاتهم فيقدمون يوم القيامة لا سيئات لهم.
وقال مجاهد رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} قال: (هم أهل القرآن يجيئون به يوم القيامة يقولون: هذا الذي أعطيتمونا، فاتبعنا ما فيه). رواه ابن جرير.
ومن أوتي التصديق الحسن المثمر لليقين فقد أوتي أعظم نعمة أنعم الله بها على خلقه، وهي نعمة اليقين؛ كما روى الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد وغيرهما من طرق أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قام خطيباً على المنبر بعد وفاة النبيّ صلى الله عليه وسلم بسَنة؛ فقال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامي هذا عامَ الأوَّل، ثم بكى أبو بكر، ثم قال: «سلوا الله العفو والعافية فإنَّ الناسَ لم يُعْطَوا بعد اليقين شيئاً خيراً من العافية».
فقدّم نعمة اليقين على نعمة العافية.
ومن ثمرات هذا التصديق الحسن أن الله تعالى يكفي عبده؛ كما قال الله تعالى بعد الآيات المتقدّم ذكرها في قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} إلى آخر الآيتين قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37)}.
ومن حصلت له الكفاية من الله فقد هُدِيَ ووُقِي؛ فتبيّن بهذا أنّ أعظم الناس اهتداء بالقرآن هم أصحاب التصديق الحسن.
والتصديق الحسن هو الذي لا يكون معه شكّ ولا تردد، ويثمر في قلب صاحبه اليقين وصدق الرغبة والرهبة؛ فيحصل بهذا التصديق من البصائر والبينات ما ترتفع به درجته ويزداد به علماً وهدى ويقيناً، ويكون به أحسن اتّباعاً لهدى؛ بسبب ما يثمر له تصديقه من صدق الرغبة والرهبة والخشية والإنابة والخوف الرجاء، فيكمّل أصلي علم السلوك ( التبصّر والتبيّن، واتّباع الهدى).
وبذلك يصلح القلب، وإذا صلح القلب صلح سائر الجسد، وصلح العمل والحال، وطابت الحياة.
ولذلك كانت تلاوة القرآن من أعظم أسباب صلاح القلب وتزكية النفس، وذهاب الهمّ والغم.
فهذا ما يتعلق بالتصديق الحسن وهو أصل من أصول الاهتداء بالقرآن.
والأصل الثاني: عَقْلُ الأمثالِ؛ فإنّ الله تعالى قد ضرب للناس في هذا القرآن من كلّ مثل؛ فمن وعى هذه الأمثال، وفقه مقاصدها، وعرف ما يراد منها ، فاعتبر بها؛ وفعل ما أرشدت إليه؛ فقد عَقَل تلك الأمثال، واهتدى بها، فصلح عمله وحسنت عاقبته.
وبهذا تعرف أنّ عقل الأمثال أوسع من مجرّد فهمها؛ فإنّ الفهم المجرّد لمعاني مفردات الأمثال إذا لم يكن معه فقه للمقاصد وعملٌ بما أرشد الله إليه لا يعدّ عقلاً للأمثال.
فليس كل من يعرف الأمثال يعقلها؛ إذ لا بد من الجمع بين التبصّر بها واتّباع الهدى الذي بينه الله عز وجل بهذه الأمثال.
قال الله تعالى: {واضرب لهم مثل الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه}.
وهذا مما يدلّك على أنّ عقل الأمثال ليس مجرّد معرفتها، ولو قرأ في تفسيرها ما قرأ، ولو عرف من معانيها وأسرارها ما عرف، فإنه إذا لم يفقه مقاصد هذه الأمثال ولم يتبع الهدى الذي أرشد الله عز وجل به فإنه لا يكون ممن عقلها {وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: (وقد أخبر اللّه سبحانه أنّه ضرب الأمثالَ لعبادِه في غير موضعٍ من كتابه، وأمر باستماع أمثاله، ودعا عباده إلى تعقُّلها، والتّفكُّر فيها، والاعتبار بها، وهذا هو المقصود بها)ا.هـ). [الإيمان بالقرآن:21 - 24]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 02:00 PM
أقسام أمثال القرآن:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وقد قسّم أهل العلم أمثال القرآن إلى أمثال صريحة وأمثال كامنة.
- فالأمثال الصريحة هي التي يصرّح فيها بلفظ المثل، كقول الله تعالى: {واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون} فهذه الآية صُرِّحَ فيها بلفظ المثل؛ فهو مثل صريح.
- والأمثال الكامنة هي التي تفيد معنى المثل من غير تصريح بلفظه.
فليس كل مثل في القرآن يصرح فيه بلفظ المثل؛ فإذا ذكر الله عزّ وجلّ خبراً من الأخبار أو قصة من القصص أو المشتملة على مقصد ووصف لعمل وبيان لجزائه؛ فإنَّ هذا مَثَلٌ قد اكتملت أركانُه، فمن فعَل فعْل أولئك فإنَّه ينالُ من جنس جزائهم؛ ولو لم يصرَّح فيه بلفظ المثل، ومما يدلّ على ذلك قول الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)} فسمّى ما ذكره في صدر الآية مَثَلاً مع عدم ورود لفظ المثل فيه.
ومن أكثر من أفاض في ذكر الأمثال الكامنة في القرآن الزركشيُّ في كتابه «البرهان في علوم القرآن»، وفقه أمثال القرآن من العلوم المهمة لطالب علم التفسير.
والمقصود هنا التنبيه إلى أنّ من أصول الاهتداء بالقرآن عقلُ أمثاله، وأن أمثال القرآن كثيرة كما قال الله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27)}
وأنّ أمثال القرآن تفيد المؤمن بأنواع من البصائر والبيّنات، والتنبيهات على العلل والنظائر، والإرشاد إلى أحسن السبل وأيسرها؛ والتبصير بالعواقب والمآلات فوائد جليلة عظيمة النفع لمن عقلها وفقه مقاصدها واتّبع الهدى.
وضرب الأمثال من أحسن من وسائل التعليم؛ لأنّ المثل يقرِّب المعانيَ الكثيرة بألفاظ وجيزة؛ يسهل تصوّرها واعتبارها؛ وتظهر كثيراً من حِكَم الأمرِ والتقدير؛ ويتبصّر بها المؤمن فيفقه مقاصدها؛ ويعرف إرشادها؛ فتثمر في قلبه ما تثمر من المعرفة الحسنة والتصديق الحسن والخشية والإنابة والرغبة والرهبة واليقين؛ وكل ذلك يورثه زكاة نفسه وطهارة قلبه وصلاح عمله وحسن عاقبته بإذن الله تعالى.
فإذا قرأ مثلا قول الله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)}
فهذا المثل من تدبّره وتفكّر فيه تبيّن له من دلائل توحيد الله عزّ وجلّ وبطلان الشرك ما يزداد به إيمانه ويعظم يقينه، وتبيّن له أن سبب الشرك ضعف المعرفة بالله تعالى وسوء الظنّ به جلّ وعلا، فيثمر له هذا التبيّن صلاحاً يجد أثره في قلبه، ويظهر على جوارحه، ويزداد به يقيناً بالله تعالى، وبصيرة في دينه.

والمقصود أن عقل الأمثال من أعظم أسباب الاهتداء بالقرآن؛ وهو معنى واسع جداً؛ لأن الله قد ضرب في القرآن من كلّ مثل؛ فما من أمر من أمور الدين يحتاجها المؤمن إلا وفي القرآن من الأمثال المضروبة المبيّنة للهدى فيها ما يكفي ويشفي.
وقد قيل: (ما كسب أحد شيئاً أفضل من عقل يهديه إلى هدى أو يردّه عن رَدَى).
وهذا المعنى مستغنى عنه بما بيّنه الله تعالى في كتابه عن الكفار بقوله: {وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل ما كنّا في أصحاب السعير}.
وهم قد أتتهم البيّنات، وعرفوا الحجّة وتبيّنوها واستيقنتها أنفسهم، ومع ذلك لم يعقلوا؛ فتبين بذلك أن عقل الأمثال ليس مجرد معرفة معانيها، وقد قال الله عز وجل: {وما يعقلها إلا العالمون} وفرق بين كلمة يعقلها وبين يفهمها.

أما الأصلان الثالث والرابع فهما فعل الأوامر واجتناب النواهي، وبهما يتحقق معنى التقوى، وتحصل الاستقامة؛ فإنّ الله تعالى قد أمر بما فيه الخير والصلاح ، ونهى عمّا فيه الشرّ والفساد؛ فمن أطاع الله بأن امتثل ما أمر الله به في كتابه واجتنب ما نهى عنه؛ فإنّه يُهدى بطاعته وإيمانه؛ ولا يزال يزداد من الهداية كلما ازداد طاعة لله تعالى وإيماناً به حتى يكتبه الله من المهتدين، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)}
وكثيراً ما يقرن الله تعالى في القرآن الكريم الإيمانَ بعمل الصالحات، {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} {وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ}، {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} إلى غير ذلك من الآيات التي تبيّن للمسلم أنه لا بدّ من الجمع بين الإيمان وعمل الصالحات.
وعمل الصالحات يشمل فعل المأمور به ، وترك المنهيّ عنه؛ وهما قوام الموعظة؛ فإنّ الموعظة ترغيب وترهيب يتضمّنان أمراً ونهياً؛ وقد قال الله تعالى في المنافقين: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)}.
وقال تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)}
والطاعة تشمل فعل المأمور به وترك المنهي عنه، والكفّ عن المحرّمات من أعظم أسباب وقاية العذاب والسلامة من الضلال؛ كما قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ}
وقال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)}

والاهتداء بالقرآن واجبٌ لأنّ تركه يوقع العبد في الضلال وما يترتّب عليه من سخط الله وعقابه، وقد قال الله تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}
وأمر الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يقول: { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآَنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92)}.
ومعرفةُ طالب العلم بما يتحقق به الاهتداء بالقرآن وتقرير ذلك بأدلَّتِه أمرٌ مهم جداً.

سؤال: هل صلاح الباطن شرط في الانتفاع بالقرآن؟
جواب: الإيمان شرط في الانتفاع بالقرآن، وكلما كان الإنسان أعظم إيماناً كان انتفاعه أعظم؛ لأن صلاح الباطن إذا كان المراد به مرتبة ما يسمى به المرء صالحاً من الصالحين؛ واشترط هذا الوصف للانتفاع بالقرآن لحُرم من الانتفاع بالقرآن كثير من المسلمين؛ والصواب أن يقال بما دلّت عليه النصوص من أن شرط الانتفاع بالقرآن هو الإيمان، فإذا كان الإيمان صحيحاً انتفع صاحبه بالقرآن، ثم كلما ازداد العبد إيمانا كان انتفاعه بالقرآن أعظم كما قال الله تعالى: {قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء}). [الإيمان بالقرآن:24 - 28]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 02:05 PM
الباب الرابع: بيان فضائل الإيمان بالقرآن


والإيمان بالقرآن له فضائل عظيمة، ولهذه الفضائل أثر عظيم على النفس المؤمنة:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (والإيمان بالقرآن له فضائل عظيمة، ولهذه الفضائل أثر عظيم على النفس المؤمنة:

فمن ذلك: أنه أعظم هادٍ للمؤمن إلى ربّه جلّ وعلا، يرشده إلى سبيله، ويعرّفه بأسمائه وصفاته، وآثارها في أوامره ومخلوقاته، ويعرّفه بوعد الله ووعيده، وحكمته في خلقه وتشريعه، ويبيّن له كيف يتقرّب إليه، وكيف ينجو من سخطه وعقابه، وكيف يفوز بمحبّته وثوابه.
ومن ذلك: أنّه يهدي المؤمن إلى التي هي أقوم في جميع شؤونه، فما من حالة يكون فيها المؤمن إلا ولله تعالى هدى يحبُّ أن يتّبع فيه، وهذا الهدى قد جاء القرآن ببيانه، علمه من علمه وجهله من جهله، وهدايات القرآن مقترنة بالرحمة والبشرى؛ كما قال الله تعالى: {وإنّه لهدى ورحمة للمؤمنين}، وقال تعالى: {تِلْكَ آَيَاتُ الْقُرْآَنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2)} وكلما ازداد المؤمن هداية بالقرآن زاد نصيبه من رحمته وبشاراته.
ومن فضائل الإيمان بالقرآن: أنه يحمل المؤمن على تلاوة القرآن ويرغّبه فيه؛ فتكون تلاوته ذكراً لله عز وجل، وعبادةً يثاب عليها؛ تزيد المؤمن إيمانا وتثبيتاً، وسكينة وطمأنينة، ويزداد بتدبّره والتفكّر فيه يقيناً بما أنزل الله فيه، وخلاصاً من كيد الشيطان وحبائله، وتذكراً ينفعه ويزكيه، ويهديه إلى ربّه ويقرّبه إليه.
ولا ينتفع تالي القرآن بقراءته إلا إذا كان مؤمناً بالقرآن فمن فضائل الإيمان بالقرآن وعظم خطره أنه شرط للانتفاع بتلاوة القرآن؛ وهو أصل الانتفاع بما جعل الله في كتابه من فضائل جليلة وبركات عظيمة؛ وما صرّف فيه من الآيات، وما ضرب فيه من الأمثال، وما جعل فيه من المواعظ المذكّرة، والآيات البيّنة، والهدايات الجليلة، والعلوم والمعارف، والحكمة والنور، والشفاء لما في الصدور؛ فكلّ تلك الفضائل لا ينالها إلا من آمن بالقرآن، وعلى قدر إيمان العبد بالقرآن يكون نصيبه من فضائله، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44)}
وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)}
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)}
وقال تعالى: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)}.
فهذا مما يدلّك على أن الإيمان بالقرآن يفتح للمؤمن أبواباً من البصائر والبينات، والمعارف والحقائق، يصحّ بها علمه ويعظم بها يقينه؛ فهذا في الجانب العلمي، وفي الجانب العملي يهديه للتي هي أقوم، ويورثه الاستقامة والتقوى، وطهارة القلب وزكاة النفس، وصلاح الباطن والظاهر بإذن الله تعالى). [الإيمان بالقرآن:29 - 30]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 02:09 PM
الباب الخامس: إثبات صفة الكلام لله تعالى


إثبات صفة الكلام لله تعالى

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (إثبات صفة الكلام لله تعالى
قال الله تعالى: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ}، وقال تعالى: {وكلم الله موسى تكليما}، وقال تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه}، وقال تعالى: {يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي}، وقال تعالى: {ومن أصدق من الله قيلا}، وقال تعالى: {وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة}، وقال تعالى: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين}، وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}.
ففي هذه الآيات دلائل بيّنة على تكلّم الله تعالى، وأنّ كلامه بحرف وصوت يسمعه من يشاء من عباده، وفي السنة أدلّة كثيرة على تكلم الله تعالى:
- منها: حديث عديّ بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة» متفق عليه، وفي رواية في صحيح البخاري: «ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، ولا حجاب يحجبه».
- ومنها: قول عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك: « ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيَّ بأمر يتلى » متفق عليه.
- ومنها: حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: « إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان، فيخرون سجدا، ثم يرفعون رؤوسهم فيقولون: {ماذا قال ربكم}؟ فيقال: قال {الحق وهو العلي الكبير} » وهذا الحديث علقه البخاري في صحيحه، ووصله في كتاب خلق أفعال العباد، ورواه أيضاً أبو داوود وأبو سعيد الدارمي ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم بإسناد صحيح.
- ومنها: حديث نيار بن مكرّم الأسلمي رضي الله عنه قال: (لمّا نزلت: {الم (1) غلبت الرّوم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون} إلى آخر الآيتين، قال: خرج رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم، فجعل يقرأ: " بسم اللّه الرّحمن الرّحيم: {الم (1) غلبت الرّوم (2) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون (3) في بضع سنين} ؛ فقال رؤساء مشركي مكّة: يا ابن أبي قحافة، هذا ممّا أتى به صاحبك؟
قال: (لا واللّه، ولكنّه كلام اللّه وقولُه). رواه ابن خزيمة في كتاب التوحيد.
والأدلة على إثبات صفة الكلام لله تعالى على ما يليق بجلاله وعظمته كثيرة.

وقد دلَّت النصوصُ على أنَّ الله تعالى يتكلّم بحرف وصوت يُسمعه من يشاء، وأنّه هو تعالى المتكلّم بالتوراة والإنجيل والقرآن وغير ذلك من كلامه تبارك وتعالى.
وكلامُ الله تعالى صفة من صفاته؛ لم يزل الله متكلماً إذا شاء، يتكلّم بمشيئته وقدرته متى شاء، وكيف يشاء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (قال أئمة السنة: لم يزلِ اللهُ متكلماً كيف شاء وبما شاء)ا.هـ.
ولذلك فإنَّ صفة الكلام لله تعالى صفة ذاتية باعتبار نوعها، وصفة فعلية باعتبار آحادِ كلامه جلّ وعلا.
وكلامه تعالى لا يشبه كلام المخلوقين، وكلماته لا يحيط بها أحد من خلقه، ولا تنفد ولا تنقضي ؛كما قال الله تعالى: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)}
وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)}). [الإيمان بالقرآن:31 - 33]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 02:22 PM
الباب السادس: عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن



حاصل قول أهل السنّة والجماعة في القرآن


قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (حاصل قول أهل السنّة والجماعة في القرآن مشتمل على الجمل التالية:
1. أنَّ القرآنَ كلامُ الله تعالى حقيقةً لا كلامُ غيره.
2. منه بدأ وإليه يعود، ومعنى قولهم: ( منه بدأ ) أي نزل من الله، ومعنى قولهم: (وإليه يعود) إشارة إلى رفعه في آخر الزمان.
3. وأنَّ القرآنَ حروفه ومعانيه من الله تعالى.
4. وأن القرآن ليس بمخلوق.
5. وأن من زعم أنّ القرآن مخلوق فهو كافر.
6. وأنّ جبريلَ عليه السلام سمع القرآن من الله تعالى، وأنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم نقل إلينا متواتراً.
7. وأنّ هذا الذي في المصحف بين الدفتين هو القرآن، محفوظ في السطور وفي الصدور.
8. وأنّ كل حرف منه قد تكلّم الله به حقيقة.
9. وأنه بلسان عربي مبين.
10. وأنّ من ادّعى وجودَ قرآنٍ غيره فهو كافر بالله تعالى.
فهذا مما أجمع عليه أهل السنَّة في شأن الإيمان بالقرآن، وما يجب اعتقاده فيه.
- قال سفيان بن عيينة: سمعت عمرو بن دينارٍ يقول: (أدركت مشايخنا والنّاس منذ سبعين سنةً يقولون: القرآن كلام اللّه، منه بدأ وإليه يعود). رواه أبو القاسم اللالكائي.
قال محمّد بن عمّارٍ –وهو أحد المحدثين- تعليقا على قول سفيان: (ومَن مَشيختُه إلّا أصحابُ رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: ابن عبّاسٍ، وجابرٌ، وذكرَ جماعةً).
وعمرو بن دينار من التابعين، قد روى عن عبد الله بن عمرو بن العاص وابن عباس وابن الزبير وابن عمر وجابر بن عبد الله وعن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وروى عن جلّة من التابعين منهم سعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير ومجاهد بن جبر وأبي الشعثاء جابر بن زيد وعطاء بن أبي رباح وغيرهم.
فهو يقول: أدركت مشايخنا والناس منذ سبعين سنة، يقولون: القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود. وفي هذا نسبة القول إلى الصحابة وجلة التابعين.
وفي رواية أخرى عن عمرو بن دينار أنّه قال: (أدركْتُ أصحابَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم فمَنْ دونَهم منذُ سَبعينَ سنةً، يقولونَ: الله الخالقُ، وما سواهُ مَخْلوقٌ، والقُرآنُ كلامُ الله منهُ خرجَ وإليه يعودُ).
فهذه عقيدة متلقَّاةٌ عن أصحابِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم الذين إنما أخذوا الدين عقيدة وشريعةً من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقد سلّمهم الله من الأهواء التي نشأت في الأمّة بعدهم.
- وقال أبو بكر بن عياش: (القرآنُ كلامُ الله، ألقاه إلى جبرائيلَ، وألقاهُ جِبرائيلُ إلى محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، منه بدَأ، وإليه يعودُ).
- وقال حمّاد بن زيد: (القرآن كلام اللّه عزّ وجلّ، أنزله جبريل من عند ربّ العالمين).
- وأملى سفيان الثوري عقيدته على تلميذه شعيب بن حرب فكان أوّل ما بدأ به أن قال: اكتب: (بسم اللّه الرّحمن الرّحيم . القرآن كلام اللّه غير مخلوقٍ، منه بدأ وإليه يعود، من قال غير هذا فهو كافرٌ...).
- وقال أبو نعيم الفضل بن دُكين لمّا امتُحن في مسألة خلق القرآن: (أدركت الكوفة وبها أكثر من سبعمائة شيخ، الأعمش فمن دونه يقولون: القرآن كلام الله)، وأبى أن يجيبهم إلى القول بخلق القرآن، وقطع زرّا من قميصه وقال: عنقي أهون عليَّ من زرّي هذا.
- وقال أحمد بن حنبل: (لقيتُ الرجالَ والعلماءَ والفقهاءَ بمكة والمدينة والكوفة والبصرة والشام والثغور وخراسان فرأيتهم على السنة والجماعة، وسألت عنها الفقهاء؛ فكلٌّ يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود). ذكره الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه اختصاص القرآن عن المرّوذي عن الإمام أحمد، وهذا فيه حكاية لإجماع السلف الصالح على أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود.
- وقال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه: (قال الله عز وجل في كتابه: {فأَجِرْه حتّى يسمع كلام الله} فجبريل سمعه من الله، وسمعه النّبي صلى الله عليه وسلم من جبريل عليه السّلام، وسمعه أصحاب النّبي صلى الله عليه وسلم من النّبي؛ فالقرآن كلام الله غير مخلوق).
- وقال ابن تيمية في الواسطية: (ومن الإيمان به [أي بالله تعالى] وبكتبه: الإيمانُ بأنَّ القرآنَ كلامُ الله، منزل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، وأنَّ الله تعالى تكلَّم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة، لا كلام غيره)ا.هـ.
- وقال الحافظ ابن حجر في التعليق على مرويات السلف في القرآن: (المنقولُ عن السَّلَفِ اتِّفاقُهم على أنَّ القرآنَ كلامُ اللَّهِ غيرُ مخلوقٍ، تَلقَّاهُ جبريلُ عن اللَّهِ، وبلَّغهُ جبريلُ إلى مُحَمَّدٍ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، وبلَّغَه مُحَمَّدٌ إلى أُمَّتِه).
فهذا بيان لعقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن، وذكر لأدلّتهم وأقوال أئمة أهل السنة من الصحابة والتابعين وكبار الأئمة والحفاظ من بعدهم في قرون متفرقة؛ كلها متفقة على أن القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق). [الإيمان بالقرآن:35 - 38]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 02:28 PM
سبب تصريح أهل السنة بأن القرآن غير مخلوق

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (سبب تصريح أهل السنة بأن القرآن غير مخلوق
كان العلماء قبل حدوث فتنة خلق القرآن يقولون: إن القرآن كلام الله؛ فلمّا حدثت فتنة القول بخلق القرآن صرّحوا ببيان أنه غير مخلوق.
ومن توقّف في كون القرآن مخلوقاً أو غير مخلوق عدّوه واقفيًّا وهجروه؛ لأنَّ من واجب الإيمان بالقرآن اعتقادَ أنّه كلام الله تعالى، وكلام الله صفة من صفاته، وصفات الله لا تكون مخلوقة.
قال أبو داود السجستاني: سمعت أحمد يُسأل: هل لهم رخصة أن يقول الرجل: القرآن كلام الله، ثم يسكت؟
فقال: (ولم يسكت؟! لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه السكوت، ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا، لأي شيء لا يتكلمون؟!!).
أي: حيث تكلم أهل الأهواء وقالوا: إن القرآن مخلوق وفتنوا العامَّةَ بذلك، وفتنوا بعضَ الولاةِ والقضاةِ بذلك: وَجَبَ التصريحُ بأنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق، بياناً للحقّ، ودفعاً للَّبس.
قال ابن تيمية رحمه الله: (لم يَقُلْ أحدٌ مِن السَّلَفِ: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ أو قديمٌ، بل الآثارُ متواتِرةٌ عنهم بأنَّهم يقولون: القرآنُ كلامُ اللَّهِ، ولمَّا ظَهَرَ مَن قال: إنَّه مخلوقٌ، قالوا رداًّ لكلامِه: إنَّه غيرُ مخلوقٍ)ا.هـ). [الإيمان بالقرآن:38 - 39]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 02:33 PM
الباب السابع: أقوال الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة في القرآن

أقوال الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة في القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أقوال الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة في القرآن
مسألة الكلام والقرآن من أكبر المسائل التي اختلفت فيها الفِرَق، وحصل بسبب هذا الاختلاف والتنازع فتن عظيمة، ومحن شديدة؛ فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يعرف القول الحق في هذه المسألة، ولو على سبيل الإيجاز؛ لئلا يغترّ بأقوال المخالفين، وما يزيّنون به باطلهم من زخرف القول؛ لأنَّ لأهل الباطل من زخرف القول والتفنّن في إيراد الشُّبه والأغاليط ما يفتنون به ضعيف العلم الذي ليس على بيّنة من الاعتقاد الصحيح بأدلته، ولم يعتصم بما يعصمه من الضلال في هذا الباب.
فعلى طالب العلم أن يكون على يقين من الاعتقاد الصحيح في هذه المسائل العظيمة، وأن يكون حسن المعرفة بالأدلة الصحيحة، وحجج أهل السنة في تقرير مسائل الاعتقاد، وأن يعرف أصولَ أقوالِ المخالفين، وطريقة أئمة أهل السنة في الرد عليهم ومعاملتهم؛ حتى يكون على بينة ويقين في بحثه لهذه المسائل ولا يغتر بشبهات المخالفين والمضلّلين.

وسأذكر خلاصة موجزة لأقوال الفرق المخالفة لأهل السنة في باب العقيدة في القرآن حتى يكون طالب العلم على بيّنة من تلك الأقوال؛ قبل الدخول في تفاصيل مسائل الاعتقاد في القرآن، وما جرى من الفتن والمحن بسبب الاختلاف في القرآن.
فأشهر الفرق التي لها مقالات وأتباع، وكان لبعضهم شوكة ودولة: الرافضة والجهمية والمعتزلة والزيدية والكرامية والكلابية والأشاعرة والماتريدية.
فأمّا الرافضة فاختلفوا على فرقٍ كثيرة، ولكثير منهم أقوال كفرية باطلة في شأن القرآن؛ فمنهم من يقول بتحريف القرآن، وهذا مستفيض عن الاثني عشرية الإمامية، ومنهم من يزعم أنّه ناقص، قد أسقط منه ما يدلّ على فضائل علي وإمامته، وأنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد انفرد بجمع القرآن، وأن ما لدى الناس منه قليل بالنسبة لما جمعه عليّ، وأنّ للقرآن ظاهراً يعلمه الناس، وباطناً لا يعلمه إلا أئمتهم وبعضُ معظَّميهم.
وهذه كلُّها أقوالٌ كفريَّة؛ من قال بها فقد كفر بالقرآن العظيم الذي أنزله الله هدى للناس وتكفَّل بحفظه.
وأمّا الجهمية الأوائل أتباع جهم بن صفوان؛ فإنهم قالوا بخلق القرآن لإنكارهم صفة الكلام لله جلّ وعلا، وإنكارهم سائر الأسماء والصفات، وقد أجمع السلف على تكفيرهم.
وأمّا المعتزلة: فزعموا أنّ كلام الله تعالى مخلوق منفصل عنه، وأنه إذا شاء أن يتكلّم خلق كلاماً في بعض الأجسام يُسمعِه من يشاء، وهذا الاعتقاد في كلام الله تعالى قادهم إلى القول بأنّ القرآن مخلوق.
وأمّا الكرَّاميّة فهم أتباع محمّد بن كرّام السجستاني (ت:255هـ)، وكان متعبّداً ناسكاً لم يُعرف بمجالسة أهل العلم ولا الأخذ عنهم، واشتغل بالكلام في التعبّد والتزهّد فاتّبعه خلق كثير في زمانه حتى قيل: إنه مات وأتباعه نحو عشرين ألفاً.
ثمّ قلّ أتباعه بعد ذلك واضمحلّ مذهبهم، ولابن كرام بدع شنيعة منها زعمه أن الإيمان مجرَّدُ الإقرارِ باللسان وإن لم يصحبه اعتقاد بالقلب، وهو من أخبث أقوال المرجئة، وقد اختلفت الكرامية على فرق، ومما نقل عنهم أنهم زعموا أن كلام الله تعالى حادث بعد أن لم يكن، وأنّ الله تعالى كان ممتنعاً عليه الكلام لامتناع حوادث لا أوّل لها عندهم، ثمّ حدثت له صفة الكلام، وقالوا: إنّ القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق؛ لكنّهم خالفوا أهل السنة في أصل صفة الكلام، وفي معنى الإيمان بالقرآن، ولذلك يجب التفريق بين قولهم وقول أهل السنة.
وأمّا الزيدية فهم أتباع زيد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (ت:120هـ)، وقد زعم الشهرستاني في الملل والنحل أنّ زيد بن علي تتلمذ على واصل بن عطاء، وأن أوائل الزيدية معتزلة، وهذا القول أنكره ابن الوزير اليماني في العواصم والقواصم إنكاراً شديداً، وأكثر النقلَ عن جماعةٍ من أئمة الزيدية ينكرون القول بخلق القرآن.
وأما الكلابية والماتريدية والأشاعرة فزعموا أن كلام الله تعالى هو المعنى النفسي القائم بالله جل وعلا، وأنه قديم بقدمه تعالى، وأنه ليس بحرف ولا صوت، ولا يتعلق بالقدرة والمشيئة، ولا يتجزّأ ولا يتبعّض، ولا يتفاضل.
وأوّل من أحدث هذا القول عبد الله بن سعيد بن كُلاب البصري (ت: بعد 240هـ)، وكان في عصر الإمام أحمد؛ وتبعه عليه الآخرون، ثمَّ اختلفوا في التفاصيل على أقوال فيها اضطراب وتعارض، وهذا شأن أهل الفرق والأهواء، يظهر فيهم الاختلاف والتناقض بسبب لوازم أقوالهم الباطلة؛ حتى ينقل عن الشخص الواحد منهم أقوال متعارضة.

واختلاف الفرق في القرآن مبسوط في كتب العقائد، لكن ينبغي لطالب علم التفسير أن يعرف أصول أقوال تلك الفرق في هذه المسألة العظيمة، وأن يعرف قول أهل السنة والجماعة، وكيف يردّ باطل أهل الأهواء، ويبيّن الحقّ بدليله، حتى إذا ما قرأ في تفاسير بعض المنتسبين إلى تلك الفرق كان على علم بما قالوه في تلك المسائل، وما يترتّب على أقوالهم من لوازم باطلة.

وقد زعم ابن كلاب أنَّ الحروف التي تُتلى من القرآن حكايةٌ عن كلام الله، وليست من كلام الله؛ لأنَّ الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم، والله يمتنع أن يقوم به حروف وأصوات.
وابن كُلاب أرادَ أن يردَّ على المعتزلة قولهم بخلق القرآن وينتصر لأهل السنة لكنه سلك طريقة فاسدة في هذا الانتصار؛ إذ صدر فيه عن علم الكلام، وسلّم للمعتزلة ببعض أصولهم؛ فخرج بقولٍ مبتدعٍ بين قول أهل السنة وقول المعتزلة، إذ زعم أنَّ القرآن حكايةٌ عن كلام الله، وأنّ كلام الله معنى نفسي ليس فيه حروف ولا أصوات، وأنَّ جبريل يحكي ما في نفسِ الله تعالى، ويُسمِعُه النبيَّ صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا القول باطل مخالف لما دلّت عليه النصوص الصحيحة الصريحة المتقدّم ذكرها، ولما كان عليه السلف الصالح رحمهم الله، ولذلك أنكره أئمة أهل السنة إنكاراً شديداً.

ثمّ أتى أبو الحسن الأشعري بعد ابن كلاب فسلك طريقته في الرد على المعتزلة، لكنّه استدرك عليه؛ فقال: الحكاية تقتضي مماثلة المحكي، وليست الحروف مثل المعنى، بل هي عبارة عن المعنى ودالة عليه.
فلذلك ذهبَ إلى أنَّ القرآن عبارةٌ عن كلام الله، وهذا المعنى إذا أطلقه الأشاعرة فهم يريدون به أن القرآن ليس كلام الله عز وجلَّ حقيقةً، ولكنَّه عبارةٌ عبَّر بها جبريلُ عن المعنى النفسي القائم بالله جل وعلا، وهذا ضلال مبين في مسألة صفة الكلام لله عز وجل.
ومن الأشاعرة من يطلق القول بأن القرآن كلام الله لكن على سبيل المجاز لا الحقيقة.
فالفرق بين قول الكلابية وقول الأشاعرة في القرآن؛ هو أن الكلابية يقولون: إن القرآن حكاية عن كلام الله، والأشاعرة يقولون: إن القرآن عبارة عن كلام الله تعالى، لأنَّ الحكاية تقتضي مماثلة للمحكي، والعبارة هو تعبير عن المعنى بألفاظ وحروف.
ويتّفقون على أنّ القرآن غير مخلوق، لكنّه عندهم ليس هو كلام الله حقيقة بألفاظه.

والفرق بين المعتزلة والأشاعرة:
أن المعتزلة يقولون: إن القرآن كلام الله تعالى، لكنّه مخلوق.
والأشاعرة يقولون: إن القرآن غير مخلوق، وليس هو كلام الله حقيقة، وإنما هو عبارة عبّر بها جبريل عن المعنى النفسي القائم بالله تعالى.
وكلا القولين باطلان، فالقرآن كلام الله تعالى حقيقةً، تكلّم الله به بحروفٍ سمعها جبريلُ من الله تعالى؛ ثمّ نزل به إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وبلَّغه إيّاه بحروفه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولا يجوز إطلاق القول: بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف؛ لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله حقيقة؛ فإنّ الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً، لا إلى من قاله مبلغا مؤديا.
وهو كلام الله؛ حروفه ومعانيه؛ ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف)ا.هـ). [الإيمان بالقرآن:41 - 46]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 02:39 PM
الباب الثامن: فتنة القول بخلق القرآن


فتنة القول بخلق القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فتنة القول بخلق القرآن
فتنة القول بخلق القرآن من أعظم الفتن التي بليت بها الأمة، وقد جرى بسببها من المحن والبلايا ما الله به عليم، وكانت هذه الفتنة من أعظم أسباب تفرّق الأمة، وظهور عدد من الفرق التي كان لاختلافها أثر سيّء على الأمّة الإسلامية؛ فجنت عليها الفُرقة ما جنت، وأوهنت منها ما أوهنت، وعصم الله طائفة من المسلمين لم يزالوا ظاهرين على الحقّ، وحجتهم ظاهرة على من خالفهم.
وسنعرض في هذا الباب تلخيصاً لنشأة هذه الفتنة، وأبرز أحداثها، وما كان بسببها من المحن والشدائد على أهل السنة، ونستكمل في الأبواب القادمة الحديثَ عن آثار هذه الفتنة العظيمة). [الإيمان بالقرآن:47]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 02:41 PM
نشأة القول بخلق القرآن:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (نشأة القول بخلق القرآن:
أوّل من أحدث بدعة القول بخلق القرآن هو الجعد بن درهم، وقد قتله أمير العراق في زمانه خالد بن عبد الله القسري عام 124 هــ، يوم الأضحى.
قال حبيب بن أبي حبيب: شهدت خالد بن عبد الله القسري بواسط، في يوم أضحى، وقال: «ارجعوا فضحوا تقبل الله منكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله علوا كبيرا عما يقول الجعد بن درهم، ثم نزل فذبحه» رواه البخاري في خلق أفعال العباد، وأبو سعيد الدارمي واللالكائي وغيرهم.
قال أبو القاسم اللالكائي: (لا خلاف بين الأمّة أنّ أوّل من قال: "القرآن مخلوقٌ" جعد بن درهم).
ثم أخذ هذه المقالة: الجهم بن صفوان، واشتهرت عنه، ولم يكن له أتباع لهم شأن في زمانه، وإنما بقيت مقالاته حتى تلقّفها بعض أهل الكلام فطاروا بها وفتحوا بها على الأمّة أبواباً من الفتن العظيمة، ولم يكن الجهمُ من أهل العلم ، ولم تكن له عناية بالأحاديث والآثار، وإنما كان رجلاً قد أوتي ذكاء ولساناً بارعاً وتفننا في الكلام، وجدلاً ومراءً، وكان كاتباً لبعض الأمراء في عصره؛ فانتشرت مقالاته، وكان من أعظم ما أدخله على الأمّة إنكار الأسماء والصفات، وإنكار علوّ الله، والقول بخلق القرآن، والجبر والإرجاء الغاليان، وقد كفّره العلماء في عصره؛ فقتله الأمير سلم بن الأحوز المازني سنة 128هـ.
قال بكير بن معروف: (رأيت سلم بن الأحوز حين ضربَ عُنُقَ الجهمِ فاسودَّ وجهه). رواه اللالكائي.
وقال أبو معاذ البلخي: (كان جهمٌ على معبَر ترمذٍ، وكان رجلًا كوفيَّ الأصل،ِ فصيح اللّسان، لم يكن له علمٌ، ولا مجالسةٌ لأهل العلم، كان تكلّم كلام المتكلّمين، وكلّمه السُّمَنيّة فقالوا له: صف لنا ربّك الّذي تعبده، فدخل البيت لا يخرج كذا وكذا.
قال: ثمّ خرج عليهم بعد أيّامٍ، فقال: هو هذا الهواء مع كلّ شيءٍ، وفي كلّ شيءٍ، ولا يخلو منه شيءٌ).
قال أبو معاذٍ: (كذب عدوّ اللّه، إنّ اللّه في السّماء على عرشه وكما وصف نفسه). رواه اللالكائي.
وقد ذكر ابن بطّة عن يوسف القطّان أنّ الجعد بن درهم جدّ الجهم بن صفوان.
وذكر البخاري في كتاب "خلق أفعال العباد" عن قتيبة بن سعيد أنه قال: «بلغني أن جهما كان يأخذ الكلام من الجعد بن درهم»

ثم ظهر بعدهما بمدّة بشر بن غياث المريسي، وكان في أوّل أمره مشتغلا بالفقه حتى عدّه بعضهم من كبار الفقهاء؛ أخذ عن القاضي أبي يوسف، وروى عن حماد بن سلمة وسفيان بن عيينة، وناظر الشافعيّ في مسائل، وكان مع أخذه عن هؤلاء العلماء يسيء الأدب ويشغّب، وأقبل على علم الكلام، وافتتن به، وكان خطيباً مفوَّها، ومجادلاً مشاغباً.
قال الإمام أحمد: (ما كان صاحب حُججٍ، بل صاحب خطبٍ).
وقال الذهبي: (نظر في الكلام فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتّقوى، وجرّد القول بخلق القرآن، ودعا إليه، حتّى كان عينَ الجهميّة في عصره وعالمهم، فمقته أهل العلم، وكفّره عدّةٌ، ولم يدرك جهمَ بن صفوان، بل تلقّف مقالاته من أتباعه).
وكان متخفياً في زمان هارون الرشيد لما بلغه وعيده بقتله؛ ثم أظهر مقالته ودعا إلى ضلالته بعد موت الرشيد سنة 193هـ.
قال الذهبي: (روى أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن محمد بن نوح، أن هارون الرشيد قال: بلغني أن بشر بن غياث يقول: "القرآن مخلوق" لله علي إن أظفرني به لأقتلنه. قال الدورقي: وكان بشر متواريا أيام الرشيد، فلما مات ظهر بشر ودعى إلى الضلالة).
وذكر البخاري عن يزيد بن هارون الواسطي أنه قال: «لقد حرَّضتُ أهل بغداد على قتله جهدي، ولقد أُخبرت من كلامه بشيء مرة وجدت وجَعَه في صلبي بعد ثلاث».
وقال علي ابن المديني: «إنما كانت غايته أن يدخل الناس في كفره»
وورى أيضا بإسناده عن أحمد بن خالد الخلال: أنه قال: سمعت يزيد بن هارون وذَكَر أبا بكر الأصم والمريسي فقال: «هما والله زنديقان كافران بالرحمن، حلالا الدم»
وقال عبد الرحمن بن مهدي: «لو أن جهميا بيني وبينه قرابة ما استحللت من ميراثه شيئا» ذكره البخاري في كتاب خلق أفعال العباد.
وقال أيضاً: «من زعم إن الله لم يكلم موسى فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل».
فكان تحذير أئمة أهل السنة من بشر المريسي وأصحابه ظاهراً مستفيضاً؛ حتى حَذِرَهم كثيرٌ من طلابِ العلم، لكنّهم تسللوا إلى الحكّام والولاة بما لهم من العناية بالكتابة والأدب، والتفنن في صياغة المكاتبات، وحفظ نوادر الأخبار، ولطائف المحاضرات.

ثم لمّا آلت الخلافة إلى المأمون سنة 198هـ ، وكان رجلاً له نصيب من العلم والأدب، لكنْ فَتَنَهُ إقبالُه على علم الكلام ولطائف ما يأتي به المعتزلة من زخرف القول ودقائق المسائل،
وعنايتهم بالأدب والمنطق وعلم الكلام؛ فكان يقرّبهم ويجالسهم وزادوه ولعاً بالفلسفة وعلم الكلام حتى أمر باستخراج كتب الفلاسفة اليونانيين من جزيرة قبرص وتعريبها؛ فزاد البلاء بتلك الكتب وما فيها من الشبه التي غرّت المتكلّمين وفتنتهم.
وكان من رؤوس المعتزلة في عهد المأمون: بشر بن غياث المريسي(ت:218هـ)، وثمامة بن أشرس النميري (ت:213هـ) ، وأبو الهذيل محمد بن الهذيل العلاف (ت:235هـ) ؛ وأحمد بن أبي دؤاد الإيادي (ت:240هـ)، فزيّنوا له القول بخلق القرآن، وأنّه لا يتمّ الدين إلا به، وشبّهوا عليه بشبههم؛ وكان في نفسه يرى القول بخلق القرآن لكنّه لا يتجاسر على إظهاره خشية إنكار العلماء عليه.
وكان يقول: (لولا مكان يزيد بن هارون لأظهرت أنّ القرآن مخلوق).
فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين، ومن يزيد حتى يكون يُتّقى؟!!
فقال: (ويحك! إني أخاف إن أظهرته فيردّ عليَّ فيختلف الناس؛ فتكون فتنة وأنا أكره الفتنة).
وأرسل إليه المأمون من يختبر أمره فوجده شديداً في منع القول بخلق القرآن؛ فلم يرد أن يثير الناس عليه، وكان أمر الناس مضطرباً في فتنة الخلاف بين المأمون والأمين، واستمرّ هذا الاضطراب سنوات بعد ذلك حتى إنّ المأمون لم يدخل بغداد إلا سنة 204هـ، بعد قتله لأخيه بستّ سنين.
ومات يزيد بن هارون سنة (206هـ)؛ فلم يزل المأمون يقدّم رجلاً ويؤخّر أخرى في دعوة الناس إلى القول بخلق القرآن؛ حتى تجاسر على ذلك سنة 212هـ، لكنّه لم يكن يمتحن الناس بهذا القول، وإنما يدعو إليه، ويقرّب من يقول به، ويقصي من يأباه؛ حتى كثر المعتزلة في زمانه، وكان منهم القضاة والكُتَّاب وجلساء الخليفة والأمراء). [الإيمان بالقرآن:47 - 52]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 02:43 PM
بداية المحنة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (بداية المحنة
وفي سنة 218هـ عزم المأمون على امتحان العلماء في القول بخلق القرآن؛ فكتب إلى الولاة بامتحانهم، ومن أبى هُدّد بالعزل أو الحبس أو القتل.
وكان أوّلَ من امتحن من العلماء عفّان بن مسلم الصفّار شيخ الإمام أحمد، وكان شيخاً كبيراً في الرابعة والثمانين من عمره لمّا امتحن، وكان رجلاً فقيراً ، وفي داره نحو أربعين إنساناً، ويُجرى عليه من بيت المال ألف درهم كلّ شهر.
فدعاه نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم المصعبي؛ فقرأ عليه كتاب المأمون، فإذا فيه: (امتحن عفّان وادعه إلى أن يقول: القرآن مخلوق، فإن قال ذلك فأقرَّه على أمره، وإلا فاقطع عنه الذي يجري عليه).
قال عفان: فقال لي إسحاق: ما تقول؟
فقرأت عليه: " {قل هو الله أحد} " حتى ختمتها.
فقلت: أمخلوق هذا؟
قال: يا شيخ إن أمير المؤمنين يقول: إنك إن لم تجبه يقطع عنك ما يجري عليك.
قال عفان: فقلت له: يقول الله تعالى: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}؛ فسكتَ وانصرفتُ.

ثمّ ورد كتاب المأمون بامتحان جماعة من أهل الحديث منهم: يحيى بن معين، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأحمد بن إبراهيم الدورقي، وإسماعيل الجوزي، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي، وأبو مسلم عبد الرحمن بن يونس المستملي، وابن أبي مسعود.
أمر المأمون بإحضارهم إليه في الرقّة ؛ ولم يُمتحنوا في بلدانهم؛ وإنما أحضروا إليه؛ فامتحنوا فهابوه وخافوا معارضته؛ فأجابوا وأطلقوا.
قال الإمام أحمد: (لو كانوا صبروا وقاموا لله عزّ وجلّ لكان الأمر قد انقطع، وحذرهم الرجل - يعني المأمون - ولكن لمّا أجابوا وهم عينُ البلد اجترأ على غيرهم).
وكان إذا ذكرهم اغتمّ وقال: (همّ أوّل من ثلم هذه الثلمة، وأفسد هذا الأمر).

وفي دمشق ورد كتاب المأمون على إسحاق بن يحيى بن معاذ أمير دمشق، أن أحضر المحدثين بدمشق فامتحنهم؛ فأحضر هشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن ذكوان، وأحمد بن أبي الحواري، وكان والي دمشق يجلّ هؤلاء العلماء ولا يقوى على مخالفة أمر الخليفة؛ فامتحنهم امتحانا ليس بالشديد، فأجابوا، خلا أحمد بن أبي الحواري الناسك العابد، وقد كان من أهل الحديث في أوّل أمره ويغلب عليه العناية بالسلوك والتعبّد وتزكية النفس؛ عالماً بأخبار النسّاك والعبّاد وأحوالهم؛ قال عنه أبو داوود السجستاني: (ما رأيت أحداً أعلم بأخبار النُّسَّاك منه).
وكان معروفا بصلاحه؛ حتى قال يحيى بن معين: (أظن أهل الشام يسقيهم الله به الغيث).
ثم إنّه ألقى كتبه في البحر واجتهد في العبادة، وكان معظَّماً محبوباً عند أهل الشام، وكان أمير دمشق يحبّه ويجلّه؛ فجعل يرفق به في المحنة، ويقول: أليست السماوات مخلوقة؟ أليست الأرض مخلوقة؟ وأحمد يأبى أن يطيعه؛ فسجنه في دار الحجارة.
واجتهد والي دمشق أن يجيبه ولو متأوّلاً لأنّه يعلم شدّة المأمون في هذه المحنة؛ فوجّه إلى امرأته وصبيانه ليأتوه ويبكوا عليه ليرجع عن رأيه.
وقيل له: قل: ما في القرآن من الجبال والشجر مخلوق.
فأجاب على هذا، وكتب إسحاق بإجابته إلى الخليفة.

وامتحن في تلك المدة أبو مسهر عبد الأعلى بن مسهر الغسّاني قاضي دمشق وهو من شيوخ الإمام أحمد؛ وكان موصوفا بالعلم والفقه؛ وكان عظيم القدر عند أهل الشام.
قال أبو حاتم الرازي: (ما رأيت أحدا في كورة من الكُوَر أعظم قدرا ولا أجل عند أهلها من أبي مسهر بدمشق، وكنت أرى أبا مسهر إذا خرج إلى المسجد اصطفت الناس يسلمون عليه).
وكان شيخاً كبيراً قد بلغ الثامنة والسبعين من عمره؛ فأُدخل على المأمون وبين يدي المأمون رجل مطروح قد ضُربت عنقه، ليرهبه بذلك؛ فقال له المأمون: ما تقول في القرآن؟
قال: كما قال الله: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}.
قال: أمخلوق أو غير مخلوق؟
قال: ما يقول أمير المؤمنين؟
قال: مخلوق.
قال: بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو عن الصحابة، أو التابعين؟
قال: بالنظر. واحتج عليه.
قال: يا أمير المؤمنين، نحن مع الجمهور الأعظم، أقول بقولهم، والقرآن كلام الله غير مخلوق.
وأخذ المأمون يجادله على طريقة المعتزلة؛ فأبى أبو مسهر أن يجيبه إلى ما قال؛ فدعا المأمون بالنطع والسيف؛ فلما رأى ذلك أجاب مترخّصاً بعذر الإكراه.
قال ابن سعد: (فتركه من القتل وقال: أما إنك لو قلت ذلك قبل أن أدعو لك بالسيف لقبلت منك ورددتك إلى بلادك وأهلك.
ولكنك تخرج الآن فتقول: قلت ذلك فرَقا من القتل؛ أشخصوه إلى بغداد فاحبسوه بها حتى يموت.
فأُشْخِصَ من الرَّقة إلى بغداد في شهر ربيع الآخر سنة ثماني عشرة ومائتين فحبس قِبَل إسحاق بن إبراهيم فلم يلبث في الحبس إلا يسيرا حتى مات فيه، في غرة رجب سنة ثماني عشرة ومائتين؛ فأخرج ليدفن فشهده قوم كثير من أهل بغداد)ا.هـ). [الإيمان بالقرآن:52 - 55]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 02:45 PM
محنة الإمام أحمد بن حنبل

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (محنة الإمام أحمد بن حنبل
ثم ورد الكتاب من الخليفة إلى أمير بغداد يأمره بامتحان الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح العجلي، وعبيد الله القواريري، والحسن بن حماد الحضرمي الملقّب بِسَجّادة، ومعهم جماعة من أهل الحديث.
فأحضر كل واحد منهم من موضعه، وأما الإمام أحمد فأتاه رسول صاحب الرَّبْع بعد غروب الشمس؛ فخرج معه عمّه إسحاق بن حنبل يشيّعه، فلما بلغوا دار صاحب الرَّبع، قال للإمام أحمد: إذا كان غداً فاحضر دار الأمير، يقصد إسحاق بن إبراهيم.
فلمّا انصرفوا من عنده قال له عمّه: لو تواريت!
قال: (كيف أتوارى؟ إن تواريت لم آمن عليك وعلى ولدي وولدك والجيران، ويلقى الناس بسببي المكروه، ولكنّي أنظر ما يكون).
فلما اجتمعوا في دار الأمير إسحاق بن إبراهيم ببغداد قرأ عليهم كتاب المأمون يدعوهم فيه إلى القول بخلق القرآن، وكان في كتاب المأمون: (الحمد لله الذي ليس كمثله شيء وهو خالق كلّ شيء..) فقال أحمد: {وهو السميع البصير}
فقال أحد الحاضرين من المعتزلة: ما أردت بقولك: {وهو السميع البصير}؟
قال أحمد: هكذا قال الله تبارك وتعالى.
ثمّ امتحن القوم فأجابوا جميعاً مصانعة وترخّصاً بالإكراه غير هؤلاء الأربعة.
قال ابن كثير: (كان من الحاضرين من أجاب إلى القول بخلق القرآن مصانعة مكرها ؛ لأنهم كانوا يعزلون من لا يجيب عن وظائفه ، وإن كان له رزق على بيت المال قطع ، وإن كان مفتيا منع من الإفتاء ، وإن كان شيخ حديث ردع عن الإسماع والأداء ، ووقعت فتنة صماء، ومحنة شنعاء، وداهية دهياء).
فمن أجاب أطلق، ومن أبى حُبس وقُيّد؛ فلمّا كان بعد ذلك دعا بالقواريري وسجّادة فأجابا وخلّى عنهما.
فكان الإمام أحمد يعذرهما ويقول: (قد أعذرا وحُبِسَا وقُيِّدا، وقال الله عزّ وجل: {إلا من أكره وقلبه مطمئنّ بالإيمان} القَيْدُ كُرْه، والحَبْسُ كُرْه).
وبقي أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح في الحبس؛ فمكثا أياماً؛ ثم ورد كتاب المأمون من طرسوس بأن يحملا إليه؛ فحملا مقيّدين زميلين؛ وشيّعهما العلماء وطلاب العلم إلى الأنبار.
وقال أبو بكر الأحول لأحمد بن حنبل: إن عرضت على السيف تجيب؟ قال: لا.
فلمّا وصلا إلى الرقّة حبسا فيها؛ حتى يقدم المأمون؛ وكان قد خرج إلى بلدة يقال لها: "البذندون".
ودخل عليه في حبسه في الرقّة أبو العبّاس الرقي - وكان من كبار أهل الحديث- في ذلك البلد، ومعه بعض أهل الحديث؛ فجعلوا يذكّرونه ما يُروى في التقية من الأحاديث؛ فقال أحمد: (وكيف تصنعون بحديث خبّاب: "إنّ من كان قبلكم كان يُنشر أحدهم بالمنشار، ثمّ لا يصدّه ذلك عن دينه ").
قال: فيئسنا منه.
فقال أحمد: (لستُ أبالي بالحبس، ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلاً بالسيف؛ إنما أخاف فتنة السوط، وأخاف أن لا أصبر).
فسمعه بعض أهل الحبس وهو يقول ذلك؛ فقال: لا عليك يا أبا عبد الله؛ فما هو إلا سوط ثمّ لا تدري أين يقع الثاني؛ فكأنّه سُرّي عنه).
ثمّ أُخِذ الإمام أحمد وصاحبه على محمل؛ وخرج عليهم الأمير رجاء الحضاري وكان من قادة الجيوش؛ فقال: هؤلاء الأشقياء!
فقال الإمام أحمد: يا عدوّ الله؛ أنت تقول: القرآن مخلوق، ونكون نحن الأشقياء.
ثم أنزلوا من المحامل وصيّروا في خيمة؛ فخرج عليهم خادم من خدم المأمون يمسح الدمع عن وجهه من البكاء وهو يقول: (عزّ عليَّ يا أبا عبد الله أن جرّد أمير المؤمنين المأمون سيفاً لم يجرّده قط، وبسط نطعاً لم يبسطه قط، ثم قال: وقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا دفعت عن أحمد وصاحبه حتى يقولا: القرآن مخلوق).
فبرك الإمام أحمد على ركبتيه ولحظ السماء بعينيه، ثم قال: (سيدي غرّ هذا الفاجرَ حلمُك حتى تجرّأ على أوليائك بالضرب والقتل، اللهمّ فإن يكن القرآن كلاُمك غير مخلوق فاكفنا مؤونته).
فما مضى ثلث الليل الأول حتى سمعوا صيحة وضجّة، وإذا رجاء الحُضاري قد أقبل فقال: (صدقت يا أبا عبد الله، القرآن كلام الله غير مخلوق، مات والله أمير المؤمنين).
وفي رواية أخرى أن الأمام أحمد قال: (كنتُ أدعو الله أن لا يريني وجهه - يعني المأمون - وذلك أنه بلغني عنه أنّه يقول: "لئن وقعت عيني على أحمد لأقطعنّه إرْبا إرْبا").
قال: (فلمّا دخلنا طرسوس أقمنا أيّاما وأنا في ذلك؛ إذا رجلٌ قد دخل علينا؛ قال لي: يا أبا عبد الله، قد مات الرجل؛ فحمدتُ الله تعالى، وكنت على ذلك أتوقّع الفرَج)). [الإيمان بالقرآن:56 - 59]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 05:41 PM
المحنة في زمن المعتصم بن هارون الرشيد

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المحنة في زمن المعتصم بن هارون الرشيد
وتولّى الخلافة بعد المأمون أخوه المعتصم، وكان رجلاً لا بصر له بالعلم، وإنما هو قائد جيش وصاحب حروب، لكنّه قلّد أخاه المأمون في هذه المسألة، وقرّب المعتزلة على طريقة أخيه؛ فزيّنوا له ما كانوا يزيّنونه لأخيه.
ومن أوّل يوم تولّى فيه المعتصمُ الخلافةَ عيَّن أحمدَ بن أبي دؤاد الإيادي قاضيَ القضاة؛ فكان من أشد المعتزلة أذية لأهل السنة في القول بالخلق القرآن والامتحان به؛ ومن عجائب ولعه بهذا الامتحان ما ذكره الذهبي في حوادث سنة 231هـ: أن الخليفة الواثق فادى من طاغية الروم أربعة آلاف وستمائة أسير من المسلمين؛ فتفضل أحمد بن أبي دؤاد فقال: (من قال من الأسارى: القرآن مخلوق، خلّصوه وأعطوه دينارين، ومن امتنع دعوه في الأسر!!).
والمقصود أنّ البلاء اشتدّ على أهل السنّة بتوليته، وبتقريب الخليفة له؛ فتولّى كبر هذه المحنة، واجتهد فيها اجتهاداً بالغاً، وحرّض عليها من قرّبهم من قضاة المعتزلة ومناظريهم.

ثم إنَّ ابنَ أبي دؤاد أمرَ بنقل الإمام أحمد ومحمّد بن نوح مقيّدين إلى بغداد؛ ليُحبسا فيها حتى ينظر في أمرهما، وكان الإمام أحمد ومحمد بن نوح قد مرضا تلك الأيام مرضاً شديداً، فأشخصا مقيّدين يُنقلان من بلد إلى بلد في طريق عودتهما إلى بغداد؛ فأما محمد بن نوح فاشتدّ به المرض حتى مات وهو مقيّد في موضع يقال له "عانات" على طريق بغداد؛ فصلى عليه الإمام أحمد.
وكان – رحمه الله – شابّا حديث السنِّ قويّا في أمر الله؛ لا يخاف في الله لومة لائم؛ قد هانت عليه نفسه في سبيل الله.
قال الإمام أحمد: (ما رأيت أحداً على حداثة سنّه أقومَ بأمر الله من محمّد بن نوح، وإنّي لأرجو أن يكون قد خُتم له بخير.
قال لي ذات يوم وأنا معه جالس: يا أبا عبد الله! .. اللهَ اللهَ؛ إنّك لستَ مثلي ولستُ مثلك؛ إنِ اللهُ ابتلاني فأجبتُ فلا يقاس بي، فإنّك لستَ مثلي ولستُ مثلك، أنت رجلٌ يُقتدى بك، وقد مدّ هذا الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك؛ فاتّق الله واثبت لأمر الله).
قال: (فتعجّبت من تقويته ومن موعظته إياي).
ونقّل الإمام أحمد في محابس متعددة إلى أن استقرّ حبسه في محبس العامّة في بغداد، فكان معه جماعة كثيرة في حبسه، ومكث في ذلك الحبس نحو سنتين.
قال الإمام أحمد: (فكنت أصلّي بهم وأنا مقيّد).

وفي تلك المدّة كانت المحنة جارية على أهل العلم؛ فامتحن جماعة من العلماء؛ فمنهم من أجاب ترخّصاً بعذر الإكراه، ومنهم من حُبس، ومنهم من عُزل، ومنهم ضُرب، ومنهم أوذي بالتفريق بينه وبين أهله، وبأنواع أخرى من الأذى؛ وكانت أعناق العامّة ممتدّة إلى أحمد بن حنبل لأنه كان رأس أهل الحديث في زمانه). [الإيمان بالقرآن:59 - 61]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 05:46 PM
المناظرة الكبرى في خلق القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المناظرة الكبرى في خلق القرآن
ولمّا رأى إسحاق بن حنبل عمُّ الإمام أحمد بن محمد بن حنبل أنَّ حبس ابن أخيه قد طال تردّد إلى الأمراء وقادة الجيوش وأصحاب السلطان وكلّمهم ليشفعوا في إطلاقه؛ فلمّا أيس منهم دخل على نائب بغداد إسحاق بن إبراهيم بن الحسين المصعبي؛ فذكّره بما كان لحنبل جدّ الإمام أحمد ووالد إسحاق بن حنبل من المكانة والإعانة في حروب بني العباس، وكان حنبل جاراً للحسين جدّ إسحاق بن إبراهيم بمرو؛ فذكّره بذلك وعرّفه؛ فقال إسحاق: قد بلغني ذلك.
ثم خلصا في تحاورهما إلى أن يناظره العلماء والفقهاء فمن أفلحت حجّته كان أغلب، وكان يريد بذلك أن يوجد وسيلة يخرج بها الإمام أحمد من سجنه.
ثم دخل إسحاق بن حنبل على ابن أخيه الإمام أحمد في السجن بصحبة الحاجب فقال له: (يا أبا عبد الله قد أجاب أصحابُك، وقد أعذرتَ فيما بينك وبين الله، وقد أجاب أصحابك والقوم، وبقيت أنت في الحبس والضيق!!).
فقال: (يا عمّ! إذا أجاب العالِم تقيّةً والجاهل يجهل فمتى يتبيّن الحق؟!!).
فأمسك عنه.
وكان ذلك في العشر الأواخر من رمضان سنة 219هـ؛ فمكثوا أياما حتى أَبلغ إسحاق بن إبراهيم الخليفةَ بالأمر؛ ثم أحضر الإمام أحمد من سجنه، إلى دار إسحاق بن إبراهيم ومنعت عنه زيارة أقاربه، ووجّه إليه اثنين من مناظري المعتزلة:
أحدهما أبو شعيب الحجام والآخر محمد بن رباح؛ فناظراه؛ فلم تقم لهما حجّة عليه، فكانا إذا ناظراه بعلم الكلام لم يجبهما، وإذا استدلا عليه بشيء من الكتاب والسنّة ردّ عليهما خطأهما في الاستدلال.
وكان مما سألاه عن القرآن: هل هو مخلوق ؟
فقال لهم: ما تقولون في علم الله هل هو مخلوق؟
فتورّط ابن الحجّام فالتزم أن علم الله مخلوق؛ فكفّره الإمام أحمد، وأنكر ابنُ رباح على صاحبه هذا الالتزام، وقاما من عنده.
فدخل إسحاق بن إبراهيم على الإمام أحمد فكلّمه بكلام ليّن ليثنيه عن موقفه من مسألة خلق القرآن، وكان مما قال له: يا أحمد إني عليك مشفق، وإن بيننا وبينك حُرمة، وقد حلف الخليفة لئن لم تجب ليقتلنَّك.
فقال له الإمام أحمد: ما عندي في هذا الأمر إلا الأمر الأول.
فحوّله من ليلته إلى غرفة مظلمة في دار الخليفة، وزيدت عليه القيود حتى أثقلته.
قال الإمام أحمد: (وحملت على دابّة والأقياد عليّ، وما معي أحد يمسكني؛ ظننتُ أنّي سأخرّ على وجهي من ثقل القيود، وسلّم الله؛ حتى انتهيت إلى الدار؛ فأدخلتُ إلى الدار في جوف الليل، وأغلق عليّ الباب، وأقعد عليه رجلان، وليس في البيت سراج، فقمت أصلّي ولا أعرف القبلة، فصليت فلما أصبحت فإذا أنا على القبلة).
فلما أصبح أحضر إلى مجلس الخليفة واجتمع القضاة وأهل الكلام من المعتزلة وزعيمهم ابن أبي دؤاد، وحضر المجلس بعض الأمراء وقادة الجيوش.
وكان المعتزلة من قبل يحقّرون شأن الإمام أحمد بن حنبل عند الخليفة ويزعمون أنّه شابّ حديث السنّ جاهل مبتدع يحبّ التصدّر والرياسة.
فلمّا رآه الخليفة قال: أليس زعمتم لي أنه حدَث؟ أليس هذا شيخاً مكتهلاً؟
وكان الإمام أحمد قد بلغ الخامسة والخمسين من عمره عام المحنة؛ فأدني من الخليفة وعليه قيوده الثقيلة؛ فسلّم عليه ثم أجلس.
قال الإمام أحمد: فلما مكثت ساعة، قلت له: يا أمير المؤمنين، تأذن لي في الكلام؟
قال: تكلّم.
قلت له: إلامَ دعا إليه ابن عمّك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: إلى شهادة أن لا إله إلا الله.
قلت: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله.
ثم قلت له: إن جدّكَ ابن عباس حكى أن وفد عبد القيس لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالإيمان بالله.
قال: فذكرت الحديث كلّه ، وقلت له: يا أمير المؤمنين؛ فإلى ما أُدعى وهذه شهادتي وإخلاصي لله بالتوحيد؟!!
يا أمير المؤمنين دعوة بعد دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؟!!
قال: فسكت.
وأُلقي في نفس المعتصم هيبة أبي عبد الله، وقال له: لولا أنّك كنت في يدِ مَن كان قبلي لما عرضتُ لك.
ثم قال: ناظروه وكلّموه.
فقال ابن أبي دؤاد لعبد الرحمن القزاز كلّمه؛ فقال: ما تقول في القرآن؟
فقال الإمام أحمد: ما تقول في العلم؟
فسكت عبد الرحمن.
فقال الإمام أحمد: القرآن من علم الله، ومن زعم أنّ علم الله مخلوق فقد كفر بالله، وكان يستدلّ على ذلك بقول الله تعالى: {ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم}.
فسكت عبد الرحمن القزاز ولم يردّ شيئاً.
فقالوا بينهم: يا أمير المؤمنين كفّرنا وكفّرك! فلم يلتفت إلى ذلك منهم.
ثم جعلوا يتكلمون من هاهنا ومن هاهنا، وكان الإمام أحمد وحده والمعتزلة نحو خمسين؛ هذا يدلي بشبهة، وهذا يعترض على حجة، وهذا ينزع باستدلال لغوي، وهذا يورد رواية معلولة، وهذا يورد حجّة كلامية؛ فكان إذا ذكروا له شيئاً من الكتاب والسنة واللغة أجابهم وردّ شبهتهم ، وإذا أوردوا عليه شيئا من علم الكلام لم يجبهم، وقال: لا أدري ما هذا، إيتوني بشيء من الكتاب والسنة.
حتى ضجر منه ابن أبي دؤاد وقال له: وأنت لا تقول إلا ما في كتاب الله أو سنّة رسوله؟
فقال الإمام أحمد: وهل يقوم الإسلام إلا بالكتاب والسنة؟!!
وذكر الإمام أحمد فيما بعد أن ابن أبي دؤاد لم يكن صاحب علم ولا حجّة ولا قدرة على المناظرة، إنما كان يستعين ببرغوث البصري وجماعته فإذا انقطع أحدهم عرض ابن أبي دؤاد فتكلم ليوهم أن صاحبه لم ينقطع.

قال الإمام أحمد: (ولقد احتجوا بشيء ما يقوى قلبي ولا ينطلق لساني أن أحكيه، وأنكروا الرواية والآثار، وما ظننتهم على هذا حتى سمعت مقالاتهم).
واستمرّت المناظرة، وجعل صوتُ الإمام أحمد يعلو على أصواتهم، وحجّته تدحض حججهم، ووهبه الله قوّة قلب وحسن جواب وحجّة قاطعة؛ فما أسرع ما كان يقطع حججهم ويردّ على شبههم، وما أسرع ما ينقطع أحدهم.
فلما طالت المناظرة قال ابن أبي دؤاد: هو والله يا أمير المؤمنين ضالُّ مضلٌّ مبتدع، وهؤلاء قضاتك والفقهاء فسَلْهُم؛ يقصد جماعته من المعتزلة.
فقال لهم الخليفة: ما تقولون؟
فقالوا: يا أمير المؤمنين هو ضالٌّ مضلٌّ مبتدع.
قال الإمام أحمد: وما كان في القوم أرأف بي ولا أرحم من أبي إسحاق المعتصم ؛ فأمّا الباقون فأرادوا قتلي، وشاركوا فيه لو أطاعهم وأجابهم إلى ذلك.
ثم صُرفوا من المجلس في ذلك اليوم، واجتمعوا من الغد حتى إذا كان آخر النهار؛ قال لهم المعتصم: انصرفوا، وأبقى عنده الإمام أحمد وعبد الرحمن بن إسحاق؛ فلمّا خلا بهما ذكر المعتصم للإمام أحمد أنّ مؤدّبه صالح الرشيدي كان جالساً في ذلك الموضع، وأشار إلى موضع من الدار، وخالفه في مسألة القرآن؛ فأمر به فسُحب ووطئ.
وأراد بذلك أن يرهب الإمام أحمد عن مخالفته في هذه المسألة، وكان يحبّ أن يجيب الإمام أحمد لأنه كان رأس أهل الحديث فإذا أجاب طمع أن يجيبه الناس.
وكان مما قاله المعتصم: والله إنه لفقيه، والله إنّه لعالم، ولوددت أنّه معي يصلح من شأني، فإن أجابني إلى ما أريد لأطلقنّ عنه.
ثم قال: يا أحمد! ويحك! لقد غمّني أمرُك، ولقد أسهرتَ ليلي، ولولا أنّك كنت في يدِ مَن كان قبلي ما عرضت لك، ولا امتحنتُ أحداً بعدك، ولو أنّه وراء حائطي هذا.
فقال الإمام أحمد: يا أمير المؤمنين ما أعطوني شيئاً من كتاب الله ولا سنّة عن رسول الله.
فرُدَّ الإمامُ أحمد إلى الموضع الذي كان فيه، ووجّه إليه اثنين من المعتزلة يناظرانه فكانا معه حتى حضر الإفطار وجيء بالطعام؛ فأكلا ولم يأكل الإمام أحمد إلا ما يقيم به أوده، وجعل نفسه بمنزلة المضطر.
فلما كان اليوم الثالث من مناظرته وذلك صبيحة خمس وعشرين من رمضان؛ دخل ابن أبي دؤاد على الإمام أحمد فقال له: يا أحمد؛ إنّه قد حلف أن يضربك ضرباً شديداً ، وأن يحبسك في أضيق الحبوس.
وكلّ ذلك ترهيب منهم طمعاً في أن يجيبهم ليتّبعهم العامّة على هذا القول.
ثم قال له ابن أبي دؤاد: يا أحمد والله ما هو القتل بالسيف، يا أحمد إنما هو ضرب بعد ضرب.
فلمّا أدخل على الخليفة في اليوم الثالث، وعنده ابن أبي دؤاد وأصحابه؛ قال المعتصم: أنا عليك شفيق، لقد أسهرت ليلي، كيف بليتُ بك؟!! ويحك! اتّق الله في نفسك وفي دمك.
ثم قال لهم: ناظروه وكلّموه؛ فدار بينهم كلام كثير، وكان مما احتجّ به عليهم الإمام أحمد أن احتجّ بقول الله تعالى: {ألا له الخلق والأمر} ففرّق بين الخلق والأمر، والقرآن من أمر الله تعالى كما قال تعالى: {وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا}.
ثم قال الإمام أحمد للخليفة المعتصم: علام تدعوني إليه؟ لا من كتاب الله ، ولا من سنّة نبيه، تأويلٌ تأوَّلوه، ورأيٌ رأوه، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن جدال في القرآن، وقال: (( المراء في القرآن كفر ))، ولستُ صاحبَ مِرَاءٍ ولا كلام، وإنما أنا صاحبُ آثارٍ وأخبارٍ؛ فاللهَ اللهَ في أمري؛ فارجع إلى الله، فوالله لو رأيتُ أمراً وصحّ لي وتبيّنته لَصِرْتُ إليه.
قال أحمد: فأمسك الخليفة، وكأنَّ أمره قد لان لمّا سمع كلامي ومحاورتي، عرف فلم يُترك، وكان أحلمهم وأوقرهم وأشدّهم عليّ تحنُّنا إلا أنّهم لم يتركوه، واكتنفه إسحاق وابن أبي دؤاد؛ فقالا له: ليس من التدبير تَخْلِيَته هكذا يا أمير المؤمنين، ابلُ فيه عذراً يا أمير المؤمنين، هذا يناوئ خليفتين!! هذا هلاك العامة!!
وقال برغوث البصري وشعيب: يا أمير المؤمنين كافر حلال الدم، اضربْ عنقه، ودمه في أعناقنا.
وقالا: إنّه ضالّ مضلّ.
قال أحمد: (ولم يكن في القوم أشدّ تكفيراً ولا أخبث منهما).
فاشتدّ الخليفة عند ذلك وعزم على ضربه؛ فدعا بالعقابين والسياط والجلادين؛ فلمّا صار الإمام أحمد بين العقابين وعظ الخليفة، وكان مما قال له: (يا أمير المؤمنين، اللهَ اللهَ، إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: (( لا يحلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث... )) الحديث.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله؛ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم)) فبمَ تستحلّ دمي ولم آت شيئاً من هذا يا أمير المؤمنين؟!!
يا أمير المؤمنين: اذكر وقوفك بين يدي الله كوقوفي بين يديك، يا أمير المؤمنين راقب اللهَ).
فكأنّه أمسك ولان، لكنّه لم يُترك؛ فقال ابن أبي دؤاد وخاف أن يكون منه عطف أو رأفة: يا أمير المؤمنين إنّه ضالّ مضلّ كافر بالله.
فقوي عزمُ الخليفةِ على ضرب الإمام أحمد؛ فدعا بكرسي فوضع له؛ فجلس عليه، وابن أبي دؤاد وأصحابه قيام على رأسه.
فقال أحد الحراس للإمام أحمد: خذ الخشبتين بيدك وشدّ عليهما؛ فلم يتبيّن أحمد كلامه؛ فتخلّعت يداه بعد ذلك من الضرب.
ثم قال المعتصم للجلادين: أروني سياطكم؛ فنظر فيها؛ فقال: إيتوني بغيرها؛ فأتوه بغيرها.
ثم قال لهم: تقدّموا؛ وقال لهم: ادنوا واحداً واحداً، ثم قال لأوّلهم: أوجعْ قطع الله يدك.
قال الإمام أحمد: فتقدّم فضربني سوطين، ثمّ تأخر.
ثم قال للآخر: ادن، شدّ قطع الله يدك، ثم جاء آخر ؛ فلم يزالوا كذلك حتى أغمي على الإمام أحمد، فوقف المعتصم عليه وهم محدقون به حتى أفاق، فقال له: يا أحمد ، ويلك تقتل نفسك، ويحك أجبني، أُطلق عنك.
وأجلب الحاضرون عليه: أمير المؤمنين قائم على رأسك، إمامك يسألك أن تجيبه، يريدون أن يجيبهم إلى مقالتهم.
وضربه عُجيف - أحد قادة جيوش المعتصم - بقائمة سيفه، وقال له: تريد تغلب هؤلاء كلهم؟!!
وجعل بعضهم يقول: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي.
فرجع إلى الكرسي، وقال للجلاد: ادنه، أوجع قطع الله يدك، ولم يزل يدعو واحداً واحداً ، وكلّ واحد يضربه سوطين ثمّ يتنحّى، حتى يكون ذلك أشدّ في الضرب، حتى أغمي عليه مرّة أخرى، ثمّ ترك حتى أفاق؛ فقام إليه ثانية، فكرر عليه مقالته فلم يجبه، ثم أعاد ضربه مرة ثالثة حتى أغمي عليه، ثم ترك حتى أفاق، ثمّ قام إليه الثالثة؛ فجعل يقول: يا أحمد أجبني.
قال أحمد: وجعل عبد الرحمن يقول لي: أصحابك يحيى وفلان وفلان، أليس قد أجابوا؟
فلم يجبهم، وعزم على احتمال الضرب والأذى.
وقال المعتصم لابن أبي دؤاد: لقد ارتبكت في أمر هذا الرجل.
فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّه والله كافر مشرك، قد أشرك من غير وجه؛ فلا يزال به حتى يصرفه عما يريد.
فأعيدَ عليه الضربُ حتى ضرب نيّفاً وثلاثين سوطاً، وأغمي عليه ؛ ثم سحبوه وكبّوه على وجهه وداسوه، فلمّا رأى المعتصم أنّه لا يتحرّك دخله الرعب، وأمر بتخليته.
فلم يفق إلا وهو في حجرة قد أطلقت عنه الأقياد.
وأراد الخليفة أن يطلق سراحه بعد الضرب؛ فقال ابن أبي دؤاد: يا أمير المؤمنين احبسه؛ فإنّه فتنة، يا أمير المؤمنين إنّه ضالّ مضلّ، وإن أخليته فتنتَ به الناس.
فلم يلتفت إليه الخليفة، وأخذه الندم والارتباك.
وجيء الإمام أحمد بسويق ليشرب؛ فأبى، وقال: لا أفطر، ثم قال: (لي ولهم موقف بين يدي الله عزّ وجل).
فنقلت هذه الكلمة إلى الخليفة؛ فقال: يخلّى سبيله الساعة.
وأمر أن يُكْسَى كسوة حسنة، مبطّنة وقميصا وطيلسانا وخفّا وقلنسوة، وأن يحمل إلى منزله.
وكان نائبُ بغداد قد أخذ عمَّ الإمام أحمد وبعض أقاربه من الليل وأوقفهم؛ فعلمَ الناسُ أنّه سيحدث في شأن أحمد حدثٌ؛ فاجتمع الناس في الميدان والطرقات، وأغلقت الأسواق، واجتمع الناس؛ فبينا هم كذلك إذ خرج عليهم الإمام أحمد على دابّة عليه كسوة حسنة، وابن أبي دؤاد عن يمينه، وإسحاق بن إبراهيم عن يساره.
وأُخِذ إلى دار إسحاق بن إبراهيم ؛ فبعث إلى جيرانه ومشايخ المجالس ؛ فجمعهم وأدخلوا عليه ؛ فقال لهم: هذا أحمد بن حنبل، إن كان فيكم من يعرفه، وإلا فليعرف.
ثم حملوه على دابّة إلى داره يشيّعه نائب بغداد والناس.
قال حنبل بن إسحاق - وهو ابن عمّ الإمام أحمد-: فلمّا صار إلى باب الدار؛ ذهب لينزل فاحتضنته ولم أعلم؛ فوقعت يدي على موضع الضربة فصاح وآلمه ذلك، ولم أعلم فنحّيت يدي؛ فنزل متوكّئا عليَّ، وأغلق الباب، ودخلنا معه، ورمى بنفسه على وجهه لا يقدر أن يتحرّك إلا بجهد، وخلع ما كان عليه من اللباس الذي كسوه، فأمر به فبيع، وتصدّق بثمنه.
وجاء رجل من أهل السجن يقال له " أبو الصبح"، يعالج من الضرب والجراحات؛ فقال: (قد رأيت مَن ضُرب الضرب العظيم، ما رأيت ضرباً مثل هذا؛ هذا ضرب التلف).
وكان لبعض الجراحات غور؛ فسبرها بالميل ؛ فلم يجدها نقبت، وعافاه الله من ذلك، ورأى بعض اللحم قد مات من الضرب؛ فقطعه بسكين، فلم يزل أثر الضرب في ظهره.

وجعل يضع له الدواء ويصنع له المراهم حتى تعافى بعد أيام، وقوي على شهود الصلاة مع المسلمين، وكان كهلاً في الخامسة والخمسين من عمره لمّا ضُرِبَ رحمه الله ورفع درجته.
قال عليّ بن المديني: (إنّ الله عزّ وجلّ أعزّ هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردّة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة). رواه الخطيب البغدادي وعبد الغني المقدسي.

ولم تنته المحنة بهذا عن المسلمين، لكنّهم كفّوا عن امتحان الإمام أحمد، فلم يعرض له المعتصم بقيّة حياته حتى مات سنة 226هـ.
وجرت في خلافته حروب واضطرابات شغلته كثيراً ؛ منها فتنة بابك الخرّمي، واستبداد الأفشين، وخيانات بعض العسكر، وحروب بينه وبين الروم؛ فأمكنه الله من قتل بابك الخرّمي وقتل الأفشين وأصحابه، وردّ عدوان الرّوم وفتح عمّورية.
ولم يزل الإمام أحمد بعدَ أن برئ من الضرب يحضر الجمعة والجماعة، ويحدّث ويفتي، حتى مات المعتصم.
ثم إنّ الإمام أحمد قد عفا عن المعتصم، وجعله في حلّ، وعفا عن كلّ من آذاه في تلك المحنة إلا من كان صاحب بدعة.
جاءه رجلٌ حسن الهيئة كأنّه كان مع السلطان؛ فجلس عنده حتى انصرف جلساؤه ثم دنا منه؛ فقال له: يا أبا عبد الله؛ اجعلني في حلّ.
قال: من ماذا؟
قال: كنت حاضراً يوم ضُربتَ، وما أعنتُ ولا تكلمتُ، إلا أنّي حضرتُ ذلك.
فأطرق الإمام أحمد رثم رفع رأسه إليه؛ فقال: أحدث لله توبةً، ولا تعدْ إلى مثل ذلك الموقف.
فقال له: يا أبا عبد الله أنا تائب إلى الله تعالى من السلطان.
فقال الإمام أحمد: فأنت في حلٍّ وكلّ من ذكرني إلا مبتدع.
ثم قال: قد جعلت أبا إسحاق [يعني المعتصم]في حلّ، ورأيت الله عزّ وجل يقول: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بالعفو في قضية مسطح.
ثم قال: العفو أفضل، وما ينفعك أن يعذّب أخوك المسلم بسببك، ولكن تعفو وتصفح عنه؛ فيغفر الله لك كما وعدك). [الإيمان بالقرآن:61 - 73]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 05:48 PM
محنة أهل السنة في مدّة حبس الإمام أحمد

وقال عبد العزيز بن داخل المطيري: (محنة أهل السنة في مدّة حبس الإمام أحمد
كان العلماءُ في مدّة سجن الإمام أحمد وبعدها يُمتحنون ويُؤذون:
ففي الكوفة: أُخذ أبو نعيم الفضل بن دكين وكان شيخاً كبيراً قد قارب التسعين؛ فأدخل على الوالي مع جماعة من أهل الحديث منهم أحمد بن يونس وابن أبي حنيفة؛ فامتحنه الوالي: فقال أبو نعيم: (أدركت الكوفة وبها أكثر من سبعمائة شيخ، الأعمش فمن دونه يقولون: القرآن كلام الله).
وفي رواية: (فما رأيتُ خَلقاً يقول بهذه المقالة -يعني بخلق القرآن - ولا تكلم أحد بهذه المقالة إلا رُمي بالزَّندقة).
ثمّ قطع زرّا من قميصه وقال: عنقي أهون علي من زري هذا.
ثمّ إنّه طُعن في عنقه وأصابه (وَرَشْكين) وهو كسر في الصدر، ومات بعد يوم من جراحته في يوم الشكّ من رمضان سنة 219هـ؛ قبل خروج الإمام أحمد بنحو شهر.
ذكر ابن سعد في طبقاته عن عبدوس بن كامل قال: كنا عند أبي نعيم الفضل بن دكين في شهر ربيع الأول سنة 217هـ يوما بالكوفة فجاءه ابن المحاضر بن المورّع؛ فقال له أبو نعيم: إني رأيت أباك البارحة في النوم وكأنه أعطاني درهمين ونصفا؛ فما تؤولون هذا؟
فقلنا: خيرا رأيت.
قال: أما أنا فقد أولتها أني أعيش يومين ونصفا، أو شهرين ونصفا، أو سنتين ونصفا، ثم أُلحق بالعصبة؛ فتوفي بالكوفة ليلة الثلاثاء ودفن يوم الثلاثاء لانسلاخ شعبان سنة تسع عشرة ومائتين وذلك بعد هذه الرؤيا بثلاثين شهرا تامة.

وفي البصرة: أُخذ العباس بن عبد العظيم العنبري، وعلي بن المديني؛ فامتحنا فلم يجيبا في أول الأمر؛ فأما العباس فأقيم فضرب بالسوط حتى أجاب، وعلي بن المديني ينظر إليه؛ فلما رأى ما نزل بعباس العنبري وأنّه قد أجاب أجاب مثله، ولم يُنل بمكروه ولا ضرب؛ فكان الإمام أحمد يعذر العباس ولا يعذر عليّا لذلك.
وكان علي بن المديني قد رأى في منامه أنه يصافح داوود عليه السلام؛ وكان عابراً ؛ فعبرها بأنه يفتن في دينه). [الإيمان بالقرآن:74 - 75]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 06:05 PM
المحنة في عهد الواثق بن المعتصم

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المحنة في عهد الواثق بن المعتصم
ثمّ ولي بعد المعتصم ابنه الواثق؛ فنشط في المحنة بتدبير من قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد؛ وأظهر القضاةُ القول بخلق القرآن؛ فكان الإمام أحمد يشهد الجمعة، ويعيد الصلاة إذا رجع، ويقول: تؤتى الجمعة لفضلها، والصلاة تعاد خلف من قال بهذه المقالة.
وفي خلافة الواثق ورد كتاب ابن أبي دؤاد إلى والي مصر؛ يأمره فيه بامتحان أبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي؛ عالم مصر ومفتيها، وتلميذ الشافعي وأعلم أصحابه، وخليفته في مجلسه بعد موته.
فاستدعاه والي مصر؛ فامتحنه فأبى أن يجيب، وكان الوالي حسن الرأي فيه؛ فقال: قل فيما بيني وبينك!
فقال: لا أقوله، ليس بي أنا، ولكن بي أن يقتدي بي مائة ألف يقولون: قال أبو يعقوب، ولا يدرون المعنى والسبب؛ فيضلون، ولا أقوله أبدا.
وكان ابن أبي دؤاد قد أمر أن يُحمل إلى بغداد في أربعين رطلاً من حديد يقيّد بها ويغرّمها من ماله إن لم يجب.
فيكون وزن القيد نحو 15 كيلوجرام من الحديد.
قال الربيع بن سليمان: (كان البويطي أبدا يحرك شفتيه بذكر الله، وما أبصرت أحدا أنزع بحجة من كتاب الله من البويطي، ولقد رأيته على بغل في عنقه غل، وفي رجليه قيد، وبينه وبين الغل سلسلة فيها لبنة، وزنها أربعون رطلا، وهو يقول: إنما خلق الله الخلق بـ"كن"، فإذا كانت مخلوقة، فكأن مخلوقا خلق بمخلوق، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه -يعني: الواثق- ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم).
وترك في السجن إلى أن مات في قيوده سنة 231هـ.

وممن حبس في تلك المحنة مع البويطي: نعيم بن حماد المروزي، من أئمة أهل السنة، وهو أوّل من صنّف المسند، وهو الذي حثّ الإمام أحمد على كتابة المسند.
قال الإمام أحمد: ( جاءنا نعيم بن حماد ونحن على باب هُشيم نتذاكر المقطعات فقال: جمعتم أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: (فعُنينا بها منذ يومئذ).
قال محمد بن سعد في طبقاته: ( نعيم بن حماد..كان من أهل خراسان، من أهل مرو، وطلب الحديث طلبا كثيرا بالعراق والحجاز، ثم نزل مصر؛ فلم يزل بها حتى أُشخص منها في خلافة أبي إسحاق بن هارون - يعني المعتصم - فسُئل عن القرآن فأبى أن يجيب فيه بشيء مما أرادوه عليه؛ فحبس بسامرا؛ فلم يزل محبوسا بها حتى مات في السجن في سنة ثمان وعشرين ومائتين)ا.هـ.
وقال الذهبي: (حُمل إلى العراق في امتحان القرآن مع البويطي مقيدين، فمات نعيمٌ بسرَّ من رأى)
وروى الخطيب البغدادي عن نفطويه أنَّه جُرَّ بأقياده فألقي في حفرة، ولم يكفَّن ولم يصلَّ عليه، بأمرٍ من صاحب ابن أبي دؤاد.

وممن حُبس في تلك المحنة: الحافظ المحدّث محمود بن غيلان المروزي نزيل بغداد من شيوخ البخاري ومسلم، وقد أكثر الترمذي من الرواية عنه.
سئل عنه الإمام أحمد فقال: (ثقة، أعرفه بالحديث، صاحب سنة، قد حبس بسبب القرآن).

وفي زمان الواثق حدثت فتنة أخرى بسبب تشدّده في الامتحان بخلق القرآن، وسجنه لكثير من العلماء والأئمة والمؤذنين الذين لا يجيبون إلى القول بخلق القرآن، وهي أنّ نفراً من فقهاء بغداد ضاقوا ذرعاً بما جرى من المحنة فأتوا الإمام أحمد فقالوا له: إن هذا الأمر قد فشا وتفاقم، ونحن نخافه على أكثر من هذا، وذكروا له أنّ ابن أبي دؤاد يأمر المعلمين بتعليم الصبيان في الكتاتيب القولَ بخلق القرآن، وأنّهم يخشون أن ينشأ جيل على هذا الكفر، وقالوا: نحن لا نرضى بإمارته.
واحتجّوا للخروج عليه بحجج؛ فنهاهم الإمام أحمد عمّا أرادوه؛ وقال لهم: (عليكم بالنُّكْرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ولا دماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، ولا تعجلوا، واصبروا حتى يستريح برٌّ ويُستراح من فاجر).
فقال بعضهم: (إنا نخاف على أولادنا إذا ظهر هذا لم يعرفوا غيره، ويمحى الإسلام يدرس).
قال: (كلا، إنّ الله عزّ وجل ناصر دينه، وإنّ هذا الأمر له ربٌّ ينصره، وإنّ الإسلام عزيز منيع).
فلم يقبلوا منه، وخرجوا من عنده.
قال حنبل بن إسحاق: (فمضى القوم، فكان من أمرهم أنهم لم يحمدوا، ولم ينالوا ما أرادوا، اختفوا من السلطان وهربوا، وأُخد بعضهم فحبس، ومات في الحبس).

ثمّ ورد كتاب من الأمير إسحاق بن إبراهيم إلى الإمام أحمد يبلغه ما أمره به الخليفة الواثق، وكان في كتابه: (إن أمير المؤمنين قد ذكرك، فلا يجتمعن إليك أحد، ولا تساكني بأرض ولا مدينة أنا فيها، فاذهب حيث شئت من أرض الله).
فاختفى الإمام أحمد ثلاثة أيام في دار صاحبه أبي إسحاق إبراهيم بن هانئ النيسابوري، ثم تنقل في أماكن متخفياً ثم رجع إلى منزله واحتبس فيه، وامتنع عن التحديث، ومجالسة الناس.
ولم يزل البلاء بهذه المحنة يشتدّ سنة بعد سنة حتّى كانت سنة 231هـ من أشدّ تلك السنوات على أهل السنة:
ففيها: فادى الخليفة الواثق من طاغية الروم أربعة آلاف وستمائة أسير من المسلمين؛ فتفضَّل أحمدُ بن أبي دؤاد بوضع شرط لمن يفادَون؛ فقال: (من قال من الأسارى: القرآن مخلوق، خلّصوه وأعطوه دينارين، ومن امتنع دعوه في الأسر!!).
وفي رواية: (فلا تفتكّوه).

وفي تلك السنة ورد كتاب الخليفة الواثق إلى أمير البصرة يأمره أن يمتحن الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن؛ فسجن جماعة منهم). [الإيمان بالقرآن:75 - 79]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 06:10 PM
مقتل أحمد بن نصر الخزاعي

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مقتل أحمد بن نصر الخزاعي
وفي آخر شعبان من تلك السنة أُحضر أحمد بن نصر الخزاعي إلى مجلس الواثق؛ وكان شيخاً أبيض الرأس واللحية، فأُوقف على النطع مقيّداً؛ وامتحنه الواثق بنفسه، قال له: ما تقول في القرآن؟
قال: كلام الله.
قال: أفمخلوق هو؟
قال: كلام الله.
قال: فترى ربك في القيامة؟
قال: كذا جاءت الرواية.
قال الواثق: ويحك! يُرى كما يُرى المحدود المتجسم، ويحويه مكان، ويحصره ناظر! أنا كفرت بمن هذه صفته.
ثمّ قال لمن حضره من قضاة المعتزلة: ما تقولون فيه؟
فقال عبد الرحمن بن إسحاق: يا أمير المؤمنين هو حلال الدم.
وقال أبو عبد الله الأرمني: اسقني دمه يا أمير المؤمنين.
وقال ابن أبي دؤاد: هو كافر يستتاب، لعلّ به عاهةً أو نقصَ عقل.
فقال الواثق: إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي.
ثم نهض إليه بالصمصامة -وكانت سيفا لعمرو بن معد يكرب الزبيدي أهدي لموسى الهادي ثم صار إليه؛ فلما انتهى إليه ضربه بها على عاتقه وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع، ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط على النطع صريعا رحمه الله وتقبّله في الشهداء.
قال جعفر بن محمد الصائغ: رأيت أحمد بن نصر حيث ضربت عنقه قال رأسه: لا إله إلا الله.
وذكر السرّاج عن إبراهيم بن الحسن أنه قال: رأى بعض أصحابنا أحمد بن نصر في النوم فقال: ما فعل بك ربك؟ قال: ما كانت إلا غفوةٌ حتى لقيتُ الله، فضحك إلي.
ثم عُلّق رأسه رحمه الله في بغداد، وربطوا في أذنه ورقة كتبوا فيها: (هذا رأس أحمدَ بنِ نصر بن مالك، دعاه عبد الله الإمام هارون إلى القول بخلق القرآن ونفي التشبيه، فأبى إلا المعاندة، فعجله الله إلى ناره).
وصُلب جسده في سامرا، وبقي مصلوباً ستّ سنين ؛ ثمّ جمع رأسه وجسده ودفع إلى أهله فدفنوه، واجتمع لتشييعه ودفنه ما لا يحصى من العامّة.
وذُكر عند الإمام أحمد فقال: (رحمه الله ما كان أسخاه، لقد جاد بنفسه).
وقال أيضا: (ما دخل على الخليفة أحد يصدقه سواه).
وكان جدّه مالك بن الهيثم أحد نقباء الدولة العباسية، وأخوه أميراً من أمراء الجيوش مات سنة 208هـ، ولم يشفع له ذلك عندهم.
وممن أوذي في هذه المحنة من المحدّثين: فضل بن نوح الأنماطي؛ فإنّه ضُرب، ثمّ فرّقوا بينه وبين امرأته.

وفي آخر زمن الواثق جيء بشيخ من أهل الشام من بلدة يقال لها "أذنه" ليُمتحن في مسألة خلق القرآن بحضرة الواثق؛ وكان الواثق إذا أراد أن يقتل أحداً أحضر ابنه المهتدي ليشهد قتله.
قال المهتدي بن الواثق: (فأدخل الشيخ على الواثق مقيدا، وهو جميل الوجه تام القامة، حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه، ورقّ له، فما زال يدنيه ويقربه، حتى قرب منه، فسلم الشيخ فأحسن السلام، ودعا فأبلغ الدعاء، وأوجز، فقال له الواثق: اجلس.
ثم قال له: يا شيخ، ناظر ابن أبي دؤاد على ما يناظرك عليه).
ثمّ حكى المناظرة التي جرت بينهما، وخلاصتها أن هذا الشيخ قال لابن أبي دؤاد: يا أحمد بن أبي دؤاد! إلى ما دعوت الناس ودعوتني إليه؟
فقال ابن أبي دؤاد: إلى أن تقول: القرآن مخلوق؛ لأن كل شيء دون الله مخلوق.
قال الشيخ: أخبرني يا أحمد عن مقالتك هذه، أواجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت؟
قال ابن أبي دؤاد: نعم
قال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله تعالى إلى عباده، هل ستر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أمر الله تعالى به في دينه؟
قال ابن أبي دؤاد: لا
قال الشيخ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: تكلم؛ فسكت.
فالتفت الشيخ إلى الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين، واحدة.
فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن الله تعالى حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} أكان الله تعالى الصادقَ في إكمال دينه، أم أنت الصادقُ في نقصانه، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: أجب يا أحمد، فلم يجبه.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، اثنتان.
فقال الواثق: اثنتان.
فقال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن مقالتك هذه، أَعَلِمَها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟
قال ابن أبي دؤاد: علمها
قال الشيخ: فدعا الناس إليها؟
فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، ثلاث.
فقال الواثق: ثلاث).
وفي رواية أنه قال له: ما تقول في القرآن؟
قال ابن أبي دؤاد: مخلوقٌ.
قال الشيخ: هذا شيءٌ عَلِمَه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وأبو بكرٍ وعمر والخلفاء الرّاشدون، أم شيءٌ لم يعلموه؟
قال: شيءٌ لم يعلموه.
فقال: سبحان الله! شيءٌ لم يعلمه النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم علمته أنت؟
فخجل، فقال: أقلني.
قال الشيخ: المسألة بحالها.
قال ابن أبي دؤاد: نعم، علموه.
فقال: علموه، ولم يدعوا النّاس إليه؟
قال: نعم.
قال: أفلا وسعك ما وسعهم؟).

ثم أعرض الشيخ عن ابن أبي دؤاد، وأقبل على الواثق، فقال: يا أمير المؤمنين..إن لم يتسّع لك الإمساك عن هذه المقالة ما اتّسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسَّع الله على من لم يتسع له ما اتّسع لهم من ذلك.
فقال الواثق: نعم إن لم يتسع لنا من الإمساك عن هذه المقالة ما اتسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فلا وسع الله علينا، اقطعوا قيد الشيخ.
وفي رواية أخرى أن الواثق دخل مجلساً وأخذ يردّد ما دار في المناظرة؛ ثم أمر بقطع قيود الشيخ، وسقط من عينه ابن أبي دؤاد، ولم يمتحن بعدها أحداً.
قال المهتدي بن الواثق: (فرجعت عن هذه المقالة - القول بخلق القرآن - منذ ذلك اليوم، وأظن الواثق بالله كان رجع عنها من ذلك الوقت).
قال الحافظ أحمد بن عبد الرّحمن الشّيرازيّ : (هذا الأذنيّ هو أبو عبد الرّحمن عبد الله بن محمّد بن إسحاق الأذرميّ).
وتوفّي الواثق لستٍّ بقين من ذي الحجّة سنة 232هـ ، وبويع بعده أخوه جعفر المتوكّل، وكان شابّا في السادسة والعشرين من عمره لمّا تولّى الخلافة، وكان كارهاً لأمر المحنة). [الإيمان بالقرآن:79 - 85]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 06:15 PM
رفع المحنة

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (رفع المحنة
وفي سنة 233هـ رفعت المحنة رفعاً تامّا ومُنع القضاة من امتحان الناس، وأظهر المتوكّل السنة، وأكرم المحدّثين، وأشهرت مجالس الحديث، وروى المحدّثون أحاديث الصفات، وانكشفت الغمّة عن أهل السنة بفضل الله ورحمته.
لكن بقي في السجون جماعة ممن حبسوا في تلك المحنة تأخّر إطلاقهم إلى سنة 237هـ إذ صدر أمر الخليفة المتوكّل بإطلاق جميع من في السجون ممن امتنع عن القول بخلق القرآن في أيام أبيه، وأمر بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي، فدفعت إلى أقاربه فدفنت.
ولعلّ من أسباب تأخّر إطلاقهم أنّ المتوكل لم يعزل ابن أبي دؤاد بعد أمره برفع المحنة، ولمّا فُلج سنة 233هـ ؛ ولّى مكانه ابنه محمّد؛ وبقي في منصبه إلى سنة 237هـ؛ فارتكب ما أغضب الخليفةَ فعزله وصادر منه أموالاً طائلة وأمر بحبسه.

وممّن حُبس في هذه المحنة وطال حبسه المحدّث الفقيه: الحارث بن مسكين المصري؛ شيخ أبي داوود والنسائي.
قال الخطيب البغدادي: (كان فقيها ثقة ثبتا؛ حمله المأمون إلى بغداد وسجنه في المحنة، فلم يُجِب؛ فلم يزل محبوسا ببغداد إلى أن ولي المتوكل فأطلقه).
فيكون قد مكث في السجن بضع عشرة سنة؛ ثمّ إنه حدّث ببغداد بعد إطلاقه، وأقبل عليه طلاب الحديث؛ ثمّ ولاه المتوكّل قضاء مصر فمكث في القضاء إلى أن استعفى منه سنة 245هـ فأعفي، ومات بعدها بخمس سنين.
وفي عام 233 ه أُصيب أحمد بن أبي دؤاد بالفالج، وقيل: إنه قد دعا على نفسه بذلك إن كان القرآن غير مخلوق؛ فحبس في جسده؛ لا يستطيع الحركة سبع سنين؛ ولم يزل أمره في سفال، وغضب عليه المتوكّل وصادر منه أموالاً طائلة، وتوالت عليه النكبات حتى هلك في أوّل عام 240هـ بعد موت ابنه محمّد بعشرين يوماً). [الإيمان بالقرآن:85 - 86]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 06:24 PM
الباب التاسع: فتنة الوقف في القرآن


مقدّمة في آثار فتنة القول بخلق القرآن:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مقدّمة في آثار فتنة القول بخلق القرآن:
كان بدء المحنة في سنة 218هـ ، ورفعت عام 233هـ؛ لكن رفع المحنة لم يكن رفعا للفتنة
فقد أوقف امتحان العلماء في مسألة القول بخلق القرآن، لكن بقي من المعتزلة قضاة ومفتون وخطباء ولهم مجالس وحلقات، وكتب ومصنفات يبثون فيها شبهاتهم، ويلقنونها تلاميذهم، وكان لهم تمكّن في بعض البلدان؛ بسبب اتصالهم ببعض الولاة، وكانوا يعتمدون في إثارة شبهاتهم وتقرير مذاهبهم على ما فُتنوا به من علم الكلام؛ فضلوا به وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل.
والخليفة المتوكّل على الله لمّا أمر برفع المحنة لم يعزل قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد بل أقرّه على منصبه مع كراهة الخليفة لمذهبه في القرآن، ولما أصيب أحمد بن أبي دؤاد بالفالج في جمادى الآخرة سنة 233هـ ؛ ولى مكانه ابنه أبا الوليد محمّد، وبقي في هذا المنصب إلى سنة 237هـ .
ثمّ إن الخليفة غضب عليه وعلى أبيه فعزله وضيّق عليه وحبسه في ديوان الخراج وصادر منه أموالاً طائلة وضياعاً، ثم أحدرهم إلى بغداد، وبقوا فيها حتى مات أبو الوليد في شهر ذي الحجة سنة 239هـ ، ومات أبوه بعده بعشرين يوماً في أوّل سنة 240هـ.
ولعلّ هذا من أسباب بقاء بعض من حبس في المحنة من أهل السنة إلى سنة 237هـ بعد الأمر برفع المحنة بأربع سنين.
والمقصود أنّ بطانة الخليفة المتوكّل قد بقي فيها من الجهمية بقيّة؛ حتى إنّهم كانوا يرفعون إلى المتوكّل بأسماء من يريدون توليتهم القضاء ممن هو على شاكلتهم أو يداهنهم.

وكان المتوكّل بعد أن رفعت المحنة يستشير الإمام أحمد فيمن يرفع إليه بتوليتهم القضاء؛ فكان ينهى عن تولية أهل البدع.
وكتب المتوكل مرة كتاباً إلى الإمام أحمد مع عبد الرحمن بن يحيى بن خاقان وهو ابن وزيره؛ يسأله عن جماعة ممن يريد توليتهم القضاء؛ فكان أكثرهم من الجهمية؛ فبيّن الإمام أحمد حالهم واحداً واحداً ثم قال في خاتمة جوابه لأمير المؤمنين: (أهل البدع والأهواء لا ينبغي أن يُستعان بهم في شيء من أمور المسلمين، مع ما عليه رأي أمير المؤمنين - أطال الله بقاءه - من التمسك بالسنة والمخالفة لأهل البدع)

والمقصود أنّ فتنة القول بخلق القرآن بقيت وولّدت فتناً أخرى كثيرة في الأمة طال أمدها؛ وانتشر أثرها، واتّسع خطرها، وكانت من أعظم أسباب نشأة الفرق، وظهور النحل.

وكانت الردود بين أهل السنة والمعتزلة قائمة على أشدّها، والشبه خطّافة، والأهواء لا تنضبط.
وكان أئمة أهل السنة إنما يردّون على المعتزلة وغيرهم بالكتاب والسنة، ولا يتعاطون علم الكلام في الرد عليهم، ولا يتشاغلون به؛ فسلموا بذلك من فتن كثيرة.
ثم نشأ أقوام أرادوا الردّ على المعتزلة والانتصار لأهل السنة بالحجج المنطقية والطرق الكلامية؛ فخاضوا فيما نهاهم عنه أهل العلم؛ ووقعوا في بدع أخرى، وخرجوا بأقوال محدثة مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة.
فأنتج كلّ ذلك فتناً عظيمة من أهمّها: فتنة الوقف، وفتنة اللفظ، وجرى بسببهما محن ومواقف يطول وصفها، وظهرت نحل وأهواء لم تكن تعرف من قبل: فظهرت بدعة ابن كلاب والقلانسي وأبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي وغيرهم.
وسنتناول أهمّ هذه الفتن بالدراسة وبيان ما ينبغي لطالب علم التفسير معرفته من أسباب اختلاف الفرق في القرآن، وأصول نشأة تلك الفرق، وموقف أئمة أهل السنة منها، وحجج أهل السنة في الرد عليهم، ومنهجهم في معاملتهم؛ لأنّ هذا مما لا يحسن بالمفسّر جهله). [الإيمان بالقرآن:87 - 89]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 06:26 PM
فتنة الوقف في القرآن

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فتنة الوقف في القرآن
الواقفة هم الذين يقولون: القرآن كلام الله ويقفون، فلا يقولون: مخلوق ولا غير مخلوق.
وهم على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: طائفة من الجهمية يتستّرون بالوقف، وهم في حقيقة أمرهم يقولون بخلق القرآن، لكنّهم في ظاهر قولهم يقولون بالوقف ويدعون إلى القول به، وينكرون على من يقول: القرآن غير مخلوق.
وقد نبغ القول بالوقف في زمن الإمام أحمد بن حنبل، وكان زعيم هذه الطائفة في بغداد محمد بن شجاع الثلجي، وهو جهميّ متكلّم من أصحاب بشر بن غياث المريسي.
وابن الثلجي هذا ممن كان يكيد الإمام أحمد بالحيل بعد خروجه من السجن؛ فقد وشى به مرّة إلى الخليفة المتوكّل واتّهمه بأنّه يؤوي علويا يدبّر للخروج؛ فدُهم بيت الإمام أحمد ليلاً ورُوّع أهله وأخرج من فيه من الرجال والنساء؛ وفتشوا بيته فلم يجدوا فيه أحداً ممن يُتَّهم بهم؛ وقرؤوا عليه كتاب الخليفة وفيه كلام كثير يتّهمه فيه ويتوعّده؛ فردّ الإمام أحمد على الخليفة بتكذيب ما اتّهم به، وأنّه يرى السمع والطاعة له في المنشط والمكره؛ فعلم الخليفة أنّه قد كُذب عليه.
قال حنبل بن إسحاق: (وكان الذي دسّ من رفع على أبي عبد الله رجلٌ من أهل البدع والخلاف، ولم يمت حتّى بيّن الله أمره للمسلمين، وهو ابن الثلجي).
وأهل هذا الصنف جهمية مخادعون؛ وفتنتهم على العامّة أشدّ من فتنة الجهمية الذين يصرّحون بالقول بخلق القرآن؛ لأنّهم يستدرجونهم بذلك؛ ثم يشكّكونهم في كلام الله؛ فلا يدرون أمخلوق هو أم غير مخلوق، وإذا ابتلي المرء بالشكّ وقع في الفتنة، وكان أقرب إلى التزام قولهم.
ولذلك اشتدّ إنكار الإمام أحمد على هؤلاء الواقفة وكثرت الروايات عنه في تكفيرهم والتحذير منهم.
ذكر عبد الله بن الإمام أحمد أنّ أباه سئل مرّة عن الواقفة؛ فقال: «صنفٌ من الجهميّة استتروا بالوقف»
وقال يعقوب الدّورقيّ: سألت أحمد بن محمّد بن حنبلٍ، قلت: فهؤلاء الّذين يقولون: نقف ونقول كما في القرآن: كلام اللّه، ونسكت؟
قال: « هؤلاء شرٌّ من الجهميّة، إنّما يريدون رأي جهمٍ ».
وقال في رواية أخرى: « هم أشدّ تربيثًا على النّاس من الجهميّة، وهم يشكّكون النّاس، وذلك أنّ الجهميّة قد بان أمرهم، وهؤلاء إذا قالوا: "لا يتكلّم"؛ استمالوا العامّة، إنّما هذا يصير إلى قول الجهميّة »
والتربيث هنا التخذيل عن الحق والتعويق عن اتّباعه، وهو من أعمال المنافقين.
وقال في رواية أخرى: (هؤلاء يستترون، فإذا أحرجتهم كشفوا الجهميّة، فكلّهم جهميّةٌ).

وقد ذكر الذهبي في ميزان الاعتدال عن المروزي أنه قال: حدثنا أبو إسحاق الهاشمي، سمعت الزيادي يقول: أشهدنا ابن الثلاج وصيته، وكان فيها: (ولا يعطى من ثلثي إلا من قال: القرآن مخلوق).
فهذا مما يبيّن معرفة الإمام أحمد بمذاهب القوم، وخبرته بهم.
وكان ابن الثلجي على مذاهبه الرديئة وضّاعاً للأحاديث؛ كثير التلاوة والتعبّد؛ متصدراً في الفقه والإفتاء ببغداد، وله أصحاب وتلاميذ وكتب كثيرة؛ حتى قيل: إنه صنّف في أحكام المناسك كتاباً كبيراً في أكثر من ستين جزءاً.
وكان المتوكّل أراد أن يولّيه القضاء فسأل عنه الإمام أحمد فقال: (لا، ولا على حارس).
وقال عنه ابن عدي: (كان يضع أحاديث في التشبيه وينسبها إلى أصحاب الحديث، يثلبهم بذلك).

والمقصود أن أصحاب هذا الصنف من الواقفة؛ هم جهمية، وعلامة هؤلاء أنّهم يتعاطون علم الكلام ويجادلون؛ فمن كان متكلماً مجادلاً ويقول بالوقف في القرآن فهو جهمي.
ولذلك لمّا سُئل الإمام أحمد عن الواقفة قال: «من كان يخاصم ويُعرف بالكلام فهو جهمي »
وذكر عبد الله بن الإمام أحمد أنّ أباه سئل عن الواقفة أيضاً؛ فقال: «من كان منهم يحسن الكلام فهو جهميٌّ»
وقال زياد بن أيوب: (قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله وعلماء الواقفة جهمية؟
قال: نعم مثل ابن الثلجي وأصحابه الذين يجادلون).
وقال ابن تيمية: (وكانت الواقفة الذين يعتقدون أن القرآن مخلوق ويظهرون الوقف، فلا يقولون مخلوق ولا غير مخلوق، ويقولون: إنه محدث، ومقصودهم مقصود الذين قالوا هو مخلوق فيوافقونهم في المعنى ويستترون بهذا اللفظ؛ فيمتنعون عن نفي الخلق عنه، وكان إمام الواقفة في زمن أحمد: محمد بن شجاع الثلجي يفعل ذلك، وهو تلميذ بشر المريسي وكانوا يسمونه "ترس الجهمية")ا.هـ.
وابن الثلجي كان في بغداد، وكان له أتباع.
وكان من الواقفة في البصرة: أحمد بن المعذّل العبدي، وكان من كبار فقهاء البصرة في زمانه تفقّه على ابن الماجشون، وله مصنفات في الفقه، وكان من الفصحاء المذكورين، والأدباء المعدودين، حلو العبارة بارعاً في انتقاء الألفاظ، والتنبيه على المعاني الدقيقة، يستميل من يحدّثه من فصاحته.
وكان يحطّ على أبي حنيفة أصحابه، وهو القائل:
إن كنتِ كاذبةَ الذي حدَّثتني .. فعليك إثم أبي حنيفة أو زفر
المائلين إلى القياس تعمّداً .. والراغبين عن التمسّك بالأثر.
ولم تكن له عناية بالحديث، بل ذكر أبو داوود السجستاني أنه نهاه عن طلب الحديث.
واشتغل بشيء من علم الكلام؛ وأتي من هذا الباب، وهو الذي فتق القولَ بالوقف في البصرة؛ ففَتن به خلقاً منهم؛ حتى فَتن بعض أهل الحديث؛ فوافقوه على قوله.
قال نصر بن عليّ الجهضمي: قال الأصمعي ومرَّ به أحمد بن معذَّل فقال: (لا تنتهي أو تفتُقَ في الإسلام فتقا).
وقال حرب الكرماني: سألت أحمد بن حنبل: أيكون من أهل السنة من قال: لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق؟
قال: (لا، ولا كرامة. وقد بلغني عن ابن معذَّلٍ الذي يقول بهذا القول أنه فُتن به ناسٌ من أهل البصرة كثير).
قال الذهبي: (قد كان ابن المعذَّل من بحور العلم، لكنه لم يطلب الحديث، ودخل في الكلام، ولهذا توقف في مسألة القرآن).

الصنف الثاني: الذين يقفون شكّاً وتردداً؛ فلا يقولون هو مخلوق ولا غير مخلوق لشكّهم في ذلك.
فهؤلاء لم يؤمنوا حقيقة بكلام الله تعالى؛ لأن الإيمان يقتضي التصديق، والشك منافٍ للتصديق الواجب؛ فالشاكّ غير مؤمن؛ إلا أنَّ الجاهل قد يُعذر لجهله، ومن عرضت له شُبهة قد يُعذر بسبب شهته حتى تقوم عليه الحجة.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: سُئل أبي رحمه الله وأنا أسمع عن اللفظية والواقفة؛ فقال: (من كان منهم جاهلا ليس بعالم؛ فليسأل وليتعلم).
قال: وسمعت أبي رحمه الله مرة أخرى وسئل عن اللفظية والواقفة فقال: (من كان منهم يحسن الكلام فهو جهمي).
وهاتان الروايتان تدلان على تفريق الإمام أحمد رحمه الله بين الواقف الجهمي والواقف العامّي.
فالعامّيّ الذين لم يدخل في علم الكلام ولم يجادلْ جدال أصحاب الأهواء؛ يبيّن له الحقّ ويعلَّم، ويجب عليه الإيمان والتصديق بأنّ القرآن كلام الله تعالى، وكلام الله صفة من صفاته، وصفات الله غير مخلوقة.
فإن قبل واتّبع الحقّ قُبل منه، وإن أبى واستكبر أو بقي شاكّاً مرتاباً في كلام الله تعالى بعد إقامة الحجّة عليه؛ حُكم بكفره.
وقد كثرت الآثار عن السلف في تكفير الشاكّة من الواقفة.
قال سلمة بن شبيبٍ: سمعت أحمد بن حنبلٍ يقول: (الواقفيّ لا تشكَّ في كفره).
وقال أبو داود: سألت أحمد بن صالح عمَّن قال: القرآن كلام الله، ولا يقول غير مخلوق، ولا مخلوق.
فقال: (هذا شاك، والشاك كافر).
وقال عبد الملك بن عبد العزيز الماجشون: «من وقف في القرآن بالشّكّ فهو مثل من قال: مخلوقٌ».
وذلك لأنّ الشك والتكذيب كلاهما منافيان للتصديق الواجب.
والآثار في هذا الباب عن السلف كثيرة جداً.

الصنف الثالث: طائفة من أهل الحديث؛ قالوا بالوقف، وأخطؤوا في ذلك؛ ومنهم من دعا إلى القول بالوقف.
وهؤلاء ينكرون على من يقول: إنّ القرآن مخلوق، ولا يعتقدون أنّ كلام الله مخلوق.
لكنّهم قالوا: إن القول بخلق القرآن قول محدث، فنحن لا نقول إنّه مخلوق، ولا نقول إنّه غير مخلوق، بل نبقى على ما كان عليه السلف قبل إحداث القول بخلق القرآن؛ فنقول: القرآن كلام الله ، ونسكت.
قال أبو داوود: سمعتُ أحمد يُسأل: هل لهم رخصة أن يقول الرجل: القرآن كلام الله، ثم يسكت؟
فقال: ولم يسكت؟ لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه السكوت، ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا، لأي شيء لا يتكلمون؟ ).
وكان الإمام أحمد شديداً على من يقول بالوقف من المحدّثين، ويأمر بهجرهم؛ لأنّهم يوطّئون الطريق لأصحاب الأهواء، ويشكّكون العامّة في كلام الله، وإذا أثيرت الشبهة وعمّت الفتنة وجب التصريح بالبيان الذي يزيل الشبهة ويكشف اللبس.
ونفي التشكيك في صفات الله تعالى عند حدوث الفتنة في ذلك من البيان الواجب على العلماء، وليس من الخوض المنهي عنه، وقد ظنَّ من وقف من المحدّثين أنّ الكلام في هذه المسألة كلَّه من الخوض المنهي، وليس الأمر كما ظنّوا.
وقد كانت فتنة القول بخلق القرآن فتنة عظيمة، وكذلك فتنة الوقف كانت فتنة عظيمة؛ وكان العامّة أكثر قبولاً للقول بالوقف منهم للقول بخلق القرآن؛ فمن وقف من المحدّثين فقد وافق قوله قول الواقفة من الجهمية والشاكّة، وكان عوناً لهم على التشكيك في كلام الله.
ولذلك أنكر عليهم كبار الأئمة وهجروهم.
وممن نُسب إليه القول بالوقف من أهل الحديث: مصعب بن عبد الله الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل المروزي، وبشر بن الوليد الكندي، وعلي بن الجعد الجوهري، ويعقوب بن شيبة السدوسي.

فأمّا مصعب بن عبد الله الزبيري (ت:236هـ) وإسحاق بن أبي إسرائيل المروزي (ت:245هـ) فقد صرّحا بأنّهما لم يقفا على الشكّ، وإنما سكتا كما سكت من قبلهم، وكرها الدخول في هذه المسألة من أصلها، وكرهوا الكلام فيما ليس تحته عمل.
قال ابن أبي خثيمة: قلت لمصعب ابن عبد الله: إن هؤلاء يقولون القرآن كلام الله، ويقفون؛ فيقولون من قال: مخلوق ابتدع، ومن قال: غير مخلوق ابتدع، ويحتجون بك، ويزعمون أنك تقول بهذا القول، وأن مالكاً يقوله.
فقال: معاذ الله؛ أما أنا فأقول كلام الله وأسكت، وقلبي يميل إلى أنه غير مخلوق، ولكني أسكت لأنه بلغني عن مالكٍ أنه يقول: الكلام في الدين كلُّه أكرهه، ولم يزل أهل بلدنا يكرهونه، القدرَ ورأيَ جهم، وكلَّ ما أشبهه، ولا أحب الكلام إلا فيما تحته عمل، فأما الكلام في الله فأحبُّ إليَّ السكوتُ عن هذه الأشياء؛ لأن أهل بلدنا ينهون عن الكلام إلا فيما تحته عمل.
قال مصعب: ولقد ناظرني إسحاق بن أبي إسرائيل فقال: لا أقول كذا ولا كذا، ولا أقول ذلك على الشك، ولكني أسكت كما سكت القوم قبلي.

وكان هذا اجتهاد منهم أخطؤوا فيه رحمهم الله؛ فإنّ كلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفات الله ليست مخلوقة، ولو كانت المسألة لم يُتكلّم فيها بالباطل ويُمتحن الناسُ فيها لكان يسعهم السكوت؛ فأمّا مع ما حصل من الفتنة وحاجة الناس إلى البيان، وكثرة تلبيس الجهمية؛ فلا بدّ من التصريح بردّ باطلهم، وأن لا يترك الناس في عماية؛ فيكونوا أقرب إلى قبول الأقوال المحدثة.
قال الحسين بن فهم: (كان مصعب إذا سئل عن القرآن يقف، ويعيب من لا يقف).
وقال شاهين العبدي: سمعت أبا عبد الله، يعنى أحمد بن حنبل، يقول: (إسحاق بن أبي إسرائيل واقفيٌّ مشؤوم، إلا أنه صاحب حديث كيّس).
وقال أبو حاتم الرازي: (كتبتُ عنه فوقف في القرآن، فوقفنا عن حديثه، وقد تركه الناس حتى كنت أمر بمسجده وهو وحيدٌ لا يقربه أحد بعد أن كان الناس إليه عنقاً واحداً).
وقد روى أبو القاسم اللالكائي عن مصعب الزبيري رواية من طريق عليّ بن الفرات الأصفهاني توافق قول أهل السنة في تخطئة الواقفة وتضليلهم؛ فلعلّه رجع عن قوله المشهور عنه، والله تعالى أعلم.

وأما عليّ بن الجعد الجوهري (ت:230هـ) فقد نُسب إليه الوقف، وما هو أشدّ من الوقف، وهو أنه لم ينكر على من يقول بخلق القرآن، وهو في نفسه لا يقول بخلق القرآن.
وكان ابنه الحسن من قضاة الجهمية في بغداد، ثم قيل: إنّ ابنه رجع عن التجهم في خلافة المتوكّل، والله أعلم.
قال الدارقطني: (منع أحمد بن حنبل عبدَ الله ابنه أن يحدِّثَ عن علي بن الجعدِ؛ فسألته ما سبب ذلك؟
فقال: (لأنه وقف في خلق القرآن).
وقال زياد بن أيوب :كنت عند علي بن الجعد؛ فسألوه عن القرآن فقال: القرآن كلام الله، ومن قال: مخلوق؛ لم أعنِّفه.
فذكر زيادُ ذلك لأحمد بن حنبل؛ فقال: (ما بلغني عنه أشد من هذا).
وكان عليّ بن الجعد قد اتّهم بشيء من التشيّع لأجل تكلّمه في بعض الصحابة كعثمان ومعاوية، فعاب ذلك عليه أهل الحديث وأنكروه، وهو موثّق في حديثه غير متّهم، وكان له مسند كبير، ومصنَّفات في الحديث، وقد روى عن الكبار من أمثال ابن أبي ذئب وشعبة والسفيانين والليث بن سعد وغيرهم ، وروى عنه البخاري في صحيحه، وأبو داوود وأبو زرعة وأبو حاتم وغيرهم.
وكان كثير العبادة؛ مكث ستين سنة يصوم يوماً ويفطر يوماً.
ولمّا أظهر الوقف نهى الإمام أحمد عن الكتابة عنه.

وأمّا بشر بن الوليد الكندي (ت:238هـ)؛ فكان قاضياً في عهد المأمون ؛ فامتُحن في القول بخلق القرآن؛ فأبى أن يجيب؛ فعُرض على السيف؛ فأجاب ترخّصاً؛ فكان الإمام أحمد يعذره لذلك، ولما خرج الإمام أحمد من السجن كان كثيراً ما يجالسه؛ ثمّ إنه سُعي به إلى المعتصم بأنّه لا يقول بخلق القرآن؛ فأمر المعتصم أن يُحبس في منزله؛ ووكّل به شرطياً، ومُنع من الإفتاء والتحديث؛ حتى ولي المتوكّل فأطلقه.
قال ابن سعد: (فبقي حتى كبرت سنه، وتكلم بالوقف؛ فأمسك أصحاب الحديث عنه وتركوه).

وأمّا يعقوب بن شيبة السدوسي (ت:262هـ)؛ فمتأخّر عنهم؛ وهو صاحب المسند الكبير، وله مصنفات كثيرة، لكنَّه دخل في شيء من علم الكلام بسبب تتلمذه على أحمد بن المعذَّل العبدي، وعنه أخذ الوقف؛ فاشتدّ إنكار أهل الحديث عليه.
قال الذهبي: (أخذ الوقفَ عن شيخه أحمدَ بن المعذل).
وقال المرّوذيّ: (لمّا أظهر يعقوب بن شيبة الوقف، حذّر منه أبو عبد الله، وأمر بهجرانه).

قال الذهبي: (وقد وقف علي بن الجعد، ومصعب الزبيري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وجماعة، وخالفهم نحو من ألف إمام، بل سائر أئمة السلف والخلف على نفي الخلقية عن القرآن).
والمقصود أنّ من قال بالوقف من المحدّثين لشبهة عرضت له؛ كان يحذّرُ منه ويُهجرُ حتى يرجعَ عن قوله.
قال أبو داوود: ( سمعت أحمد -وذكر رجلين كانا وقفا في القرآن، ودعوا إليه فجعل يدعو عليهما- وقال لي: (هؤلاء فتنة عظيمة، وجعل يذكرهما بالمكروه)). [الإيمان بالقرآن:89 - 100]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 06:39 PM
الباب العاشر: فتنة اللفظية

فتنة اللفظية

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (فتنة اللفظية
كانت فتنة القول بخلق القرآن فتنة عظيمة، عمّ بلاؤها عامّة الناس، وامتحن فيها علماء أهل السنة محنة شديدة، وذلك بسبب تقريب المأمون ومن تبعه من الخلفاء للمعتزلة، وتعيين كثير من الولاة والقضاة والكتاب منهم أو ممن يداهن في هذه المسألة أو يداري، واجتهادهم في حمل الناس على القول بخلق القرآن، وأنّه لا يتم الدين إلا به؛ وجرت أمور يطول وصفها؛ حتى قُتل من قتل من علماء أهل السنة، وحبس من حُبس، وضُرب من ضرب، واستمرّت هذه المحنة بضع عشرة سنة؛ حتى فشا هذا القول وانتشر، وفُتن به خلق من العامة، ونشأ عليه جيل لا يعرفون قولاً ظاهراً غيره.
وكان من يجرؤ على معارضة الخلفاء والقضاة في هذا الأمر يُنال بألوان من الأذى، حتى إن من كان يريد أن يؤذي أحداً من علماء السنّة أو يتسبب في الإضرار به يشي به إلى القضاة أو الخلفاء بأنّه لا يقول بخلق القرآن؛ فكانت تلك تهمة كافية عندهم لتعذيبه والتضييق عليه.
كما حصل لبشر بن الوليد الكندي؛ فإنّه امتحن في زمان المأمون فامتنع فعرض على السيف فأجاب مكرهاً؛ ثم أطلق؛ فلما كان في زمان المعتصم وكان يحدّث ويفتي ولا يقول بخلق القرآن ؛ فوشى به رجل سوء إلى المعتصم بأنّه لا يقول بخلق القرآن؛ فأمر المعتصم بحبسه في بيته والتضييق عليه وإقامة شرطيّ على بابه يمنعه من الخروج.

ولولا أن حفظ الله هذا الدين برجال صدقٍ ثبتوا في هذه المحنة فثبت بثباتهم خلق من العامة؛ لقد كاد أن يطبق على هذا القول عامة الناس.
فكانت حاجة الناس إلى بيان الحق بياناً لا لبس فيه ماسة.
ولكن جرت حكمة الله بأن تُبتلى الفئة التي ثبتت في المحنة في أوّل الأمر بابتلاء آخر ؛ ويبتلى عامّة الناس بهم.

فظهر من قال بالوقف؛ وكان بسبب القول بالوقف فتنة عظيمة؛ حتى قال بالوقف بعض أهل الحديث الذين لا يقولون بخلق القرآن، واغترّ بهم جماعة من العامّة كما سبق بيانه.

وظهرت فتنة اللفظية فكانت فتنتها أعظم وأطول مدى من فتنة الوقف؛ فإنّها استمرّت قروناً من الزمان وجرى بسببها مِحَن يطول وصفها، وسنذكر بعضها في خلاصة موجزة بإذن الله تعالى.

وكان أوّل من أشعل فتنة اللفظية: حسين بن علي الكرابيسي ، وكان رجلاً قد أوتي سعة في العلم ؛ فحصّل علماً كثيراً، وصنّف مصنّفات كثيرة، وكان له أصحاب وأتباع ؛ لكنّه وقع في سقطات مردية، تدلّ على ضعف إدراكه للمقاصد الشرعية، وضعف السعي في تحقيق المصالح ودرء المفاسد؛ والعلم إذا لم يصحبه عقل ورشد كان وبالاً على صاحبه لأنّه ينصرف عن المقاصد السامية للعلم إلى التشغيب على العلماء ومماحكتهم؛ وربما تمكّن بذكائه وسعة معرفته من إثارة شبهات يريد بها إفحام بعض العلماء والارتفاع عليهم؛ فيعاقب بنقيض قصده؛ فيسقط ويكون ما أثاره من الشبهات مثلبة عليه؛ ينكرها أهل العلم ويذمونه بها.
ومن ذلك أنّ الكرابيسيّ ألّف كتاباً حطّ فيه على بعض الصحابة وزعم أنّ ابن الزبير من الخوارج، وأدرج فيه ما يقوّي به جانب الرافضة ببعض متشابه المرويات؛ وحطّ على بعض التابعين كسليمان الأعمش وغيره، وانتصر للحسن بن صالح بن حيّ وكان يرى السيف.
فعرض كتابه على الإمام أحمد وهو لا يدري لمن هو؛ فاستبشع بعض ما فيه، وقال: (هذا أراد نصرة الحسن بن صالح، فوضع على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد جمع للروافض أحاديث في هذا الكتاب...)
وقال: (قد جمع للمخالفين ما لم يحسنوا أن يحتجوا به).
فحذّر منه الإمام أحمد، ونهى عن الإخذ عنه؛ فبلغ ذلك الكرابيسيَّ فغضب وتنمّر، وقال: لأقولنَّ مقالة حتى يقول ابن حنبلٍ بخلافها فيكفر؛ فقال: لفظي بالقرآن مخلوق.
وهذه الكلمة التي فاه بها الكرابيسي أثارت فتنة عظيمة على الأمّة؛ وكان الناس بحاجة إلى بيان الحقّ ورفع اللبس، لا زيادة التلبيس والتوهيم، وإثارة فتنة كانوا في عافية منها.
وبهذا نعرف الفرق العظيم بين مقاصد الربانيين من العلماء، ومقاصد الذين يريدون الإثارة والتغليط ومماحكة العلماء ومشاغبتهم، ثم لنتأمّل كيف كانت عاقبة هؤلاء وعاقبة هؤلاء.
نقل أبو بكر المرّوذي وهو من خاصة أصحاب الإمام أحمد مقالة الكرابيسي للإمام أحمد، وذكر له أن الكرابيسي قال: (أقول: إنّ القرآن كلام الله غير مخلوقٍ من كلّ الجهات إلاّ أنّ لفظي به مخلوقٌ، ومن لم يقل: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، فهو كافرٌ).
فقال الإمام أحمد: (بل هو الكافر - قاتله الله - وأيّ شيءٍ قالت الجهميّة إلاّ هذا؟ وما ينفعه، وقد نقض كلامُه الأخير ُكلامَه الأوَّل؟!).
ثم قال الإمام أحمد للمرّوذي: أيشٍ خبر أبي ثورٍ، أوافقه على هذا؟
قال المروذي: قلت: قد هجره.
قال: (أحسن، لن يفلح أصحاب الكلام).
ثم قال الإمام أحمد: (ما كان الله ليدعه وهو يقصد إلى التابعين مثل سليمان الأعمش، وغيره، يتكلم فيهم).
وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله، عن الكرابيسي، وما أظهر، فكلح وجهه ثم أطرق، ثم قال: هذا قد أظهر رأي جهم.
قال الله تعالى: " {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله}، " فممن يسمع؟ إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها. تركوا آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأقبلوا على هذه الكتب).

وقبل بيان تلبيس الكرابيسي ؛ يجب أن نفرّق بين أمرين عظيمين:
الأمر الأول: أن القرآن كلام الله تعالى وهو غير مخلوق، فالقرآن يتلوه القارئ، ويكتبه الكاتب في المصحف، ولا يخرج بذلك عن كونه كلام الله، لأن الكلام يُنسب إلى من قاله ابتداء.
فإذا سمعت قارئاً يقرأ: (قل هو الله أحد). وسئلت كلام من هذا ؟
قلت: هو كلام الله.
وإذا سمعت من يقرأ: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكلّ امرئ ما نوى).
عرفت أنّ هذا كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لشهرته عنه، وأنّ الذي قرأ هذا لم يُنشئ هذا الكلام من تلقاء نفسه.
وإذا سمعت من يُنشد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل
عرفت أنّ هذا من قصيدة لبيد بن ربيعة لشهرتها عنه.
وكذلك إذا سمعت قصيدة معروفة لشاعر قديم ينشدها أحدهم ، وسُئلت: قصيدة من هذه؟
فإنّك تنسبها للشاعر الذي قالها ابتداءً، ولا تنسبها لمن أنشدها، ولو أن واحداً من الناس ألقى هذه القصيدة ونسبها لنفسه لعدَّه الناس كذاباً منتحلاً.
لأن الكلام يُنسب نسبة إنشاء إلى من قاله ابتداءً.

والمقصود أن القرآن كلام الله تعالى، وقارئ القرآن إنما يقرأ كلام الله تعالى، فهذا الكلام يُنسب إلى الله تعالى لا إلى القارئ.
وكلام الله تعالى صفة من صفاته، وصفات الله تعالى غير مخلوقة.
وهذه المسألة خالف فيها المعتزلة والجهمية وزعموا أنَّ كلام الله مخلوق.

الأمر الثاني: أنَّ أفعال العباد مخلوقة، فكما أنَّ ذواتهم مخلوقة؛ فكل ما يصدر منهم من قول أو فعل فهو مخلوق؛ كما هو معلوم متقرر من أدلّة كثيرة؛ منها قول الله تعالى: {والله خلقكم وما تعملون}.
وهذه المسألة خالف فيها القدرية؛ فكفَّرهم العلماء؛ لأنَّ من زعم أن الله لم يخلق أفعال العباد؛ وأن العباد يخلقون أفعال أنفسهم فقد أثبت خالقاً غير الله تعالى، ولذلك سمّيت القدرية مجوس هذه الأمة.
وكلام السلف في تكفير من لم يقل بخلق أفعال العباد معروف مشتهر.
قال يحيى بن إسحاق العنبري: سألت حمّاد بن زيدٍ عمن قال: كلام النّاس ليس بمخلوقٍ.
فقال: هذا كلام أهل الكفر "
وقال يحيى بن إسحاق أيضاً: سألت معتمر بن سليمان عمن قال: كلام النّاس ليس بمخلوقٍ.
قال: «هذا كفرٌ»
وقال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد: (حدثنا عبيد الله هو ابن قدامة بن سعيد، ثنا حماد بن زيد، قال: «من قال كلام العباد ليس بمخلوق فهو كافر» وتابعه على ذلك يحيى بن سعيد القطان ومعتمر بن سليمان).
والمقصود أن قراءة القارئ من فعله وفعله مخلوق.
فيقال في تلخيص هذين الأمرين: القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة.

فجاءت مسألة اللفظ للتلبيس بين الأمرين؛ فقول القائل: لفظي بالقرآن مخلوق؛ قد يريد به ملفوظه وهو كلام الله الذي تلفّظ به فيكون موافقاً للجهمية الذين يقولون بخلق القرآن.
وقد يريد به فعلَ العبد الذي هو القراءة والتلفّظ بالقرآن؛ لأنَّ اللفظ في اللغة يأتي اسماً ومصدراً؛ فالاسم بمعنى المفعول أي الملفوظ، والمصدر هو التلفظ.
ويتفرّع على هذين الاحتمالين احتمالات أخرى، ولذلك اختلف الناس في تأويل قول القائل: "لفظي بالقرآن مخلوق" إلى أقوال، يأتي بيانها بإذن الله.

فهي كلمة مجملة حمّالة لوجوه، ولا نفع في إيرادها، والناس كانوا أحوج إلى البيان والتوضيح والتصريح بأنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق.
لا أن تلقى إليهم كلمة مجملة فيها تلبيس تتأوَّلها كلّ فرقة على ما تريد.
ولذلك فرحت طائفة من الجهمية بهذه المقالة؛ فقالوا: ألفاظنا بالقرآن مخلوقة، ومنهم من قال: القرآن بألفاظنا مخلوق.
وهم يريدون أنَّ القرآن مخلوق؛ لكن القول باللفظ أخفّ وطأة وأقرب إلى قبول العامّة من التصريح بقولهم: إن القرآن مخلوق.
فتستّروا باللفظ؛ كما تستّرت طائفة منهم بالوقف.
ولذلك قال الإمام أحمد: (افترقت الجهمية على ثلاث فرق:
فرقة قالوا: القرآن مخلوق.
وفرقة قالوا :كلام الله، وتسكت.
وفرقة قالوا: لفظنا بالقرآن مخلوق).
فالفرقة الأولى هم جمهور المعتزلة الذين قالوا بخلق القرآن، وأظهروا هذا القول وأشهروه ودعوا إليه.
والفرقة الثانية هم الذين سُمّوا بالواقفة.
والفرقة الثالثة هم اللفظية.

وليس كلّ من قال باللفظ جهمي، كما أنَّه ليس كلّ من قال بالوقف جهمي، وقد سبق بيان ذلك.
وقد اشتدّ إنكار الإمام أحمد على من قال باللفظ إثباتاً أو نفياً لأنه تلبيس يفتن العامة ولا يبيّن لهم حقاً ولا يهديهم سبيلاً.
وجرت محنة عظيمة للإمام البخاري بسبب هذه المسألة، ووقعت فتنة بين أصحاب الإمام أحمد بعد وفاته بسب هذه المسألة، ودخل الغلط على بعض أهل الحديث بسبب هذه المسألة.
وقام الإمام أحمد والإمام البخاري في هذه المسألة بما هو الحقّ فيها، وإن دقّت عنه أفهام بعض الناس، وافتتن بها بعضهم). [الإيمان بالقرآن:101 - 110]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 06:41 PM
بيان الإمام أحمد والبخاري للحقّ في فتنة اللفظ بالقرآن.

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (بيان الإمام أحمد والبخاري للحقّ في فتنة اللفظ بالقرآن.
قال فوران صاحب الإمام أحمد: سألني الأثرم وأبو عبد الله المعيطيّ أن أطلب من أبي عبد الله خلوةً، فأسأله فيها عن أصحابنا الذين يفرّقون بين اللّفظ والمحكيّ.
فسألته، فقال: القرآن كيف تصرّف في أقواله وأفعاله، فغير مخلوقٍ؛ فأمّا أفعالنا فمخلوقةٌ.
قلت: فاللّفظيّة تعدّهم يا أبا عبد الله في جملة الجهميّة؟
فقال: لا، الجهميّة الّذين قالوا: القرآن مخلوقٌ.
ووردت عن الإمام أحمد روايات أخرى تفيد بأنَّ اللفظية جهمية، وهي محمولة على من قال بخلق القرآن وتستَّر باللفظ.

وقال البخاري في كتاب خلق أفعال العباد: (حركاتهم وأصواتهم واكتسابهم وكتابتهم مخلوقة، فأما القرآن المتلو المبين المثبت في المصاحف المسطور المكتوب الموعى في القلوب فهو كلام الله ليس بمخلوق، قال الله عز وجل: {بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم}).
وقال البخاري أيضاً: (جميع القرآن هو قوله [تعالى]، والقول صفة القائل موصوف به فالقرآن قول الله عز وجل، والقراءة والكتابة والحفظ للقرآن هو فعل الخلق لقوله: {فاقرءوا ما تيسر منه} والقراءة فعل الخلق).
وروى أبو القاسم اللالكائي أن أبا ثور واسمه خالد بن يزيد الكلبي سُئل عن ألفاظ القرآن، فقال للسائل: هذا ممّا يسعك جهله، واللّه لا يسألك عزّ وجلّ عن هذا، فلا تتكلّموا فيه، فإنّ من زعم أنّ كلامه بالقرآن مخلوقٌ فقد وافق اللّفظيّين؛ لأنّه إذا سمع منك القرآن فقد زعمت أنّ لفظك بالقرآن مخلوقٌ، فقد أجبت القوم أنّه مخلوقٌ).
وقال الذهبي: (ومعلومٌ أنّ التّلفّظ شيءٌ من كسب القارئ غير الملفوظ، والقراءة غير الشّيء المقروء، والتّلاوة وحسنها وتجويدها غير المتلوّ، وصوت القارئ من كسبه فهو يحدث التّلفّظ والصّوت والحركة والنّطق، وإخراج الكلمات من أدواته المخلوقة، ولم يُحدث كلمات القرآن، ولا ترتيبه، ولا تأليفه، ولا معانيه.
فلقد أحسن الإمام أبو عبد الله حيث منع من الخوض في المسألة من الطّرفين، إذ كلّ واحدٍ من إطلاق الخلقيّة وعدمها على اللّفظ موهمٌ، ولم يأت به كتابٌ ولا سنّةٌ، بل الّذي لا نرتاب فيه أنّ القرآن كلام الله منزلٌ غير مخلوقٍ - والله أعلم )). [الإيمان بالقرآن:110 - 111]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 06:48 PM
اختلاف المواقف في مسألة اللفظ:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (اختلاف المواقف في مسألة اللفظ:
مسألة اللفظ من المسائل التي كان لها ذيوع وانتشار كبير في عصر الإمام أحمد وبعده بقرون، وقد اختلفت مواقف الناس اختلافاً كثيراً كلٌّ يفهمها بفهم ويتأوّلها بتأوّل ويبني موقفه على ما فهم وتأوّل:
الموقف الأول: موقف الجهمية المتستّرة باللفظ، وهم الذين يقولون بخلق القرآن، ويتستَّرون باللفظ، وهم نظير الجهمية المتسترة بالوقف.
وهؤلاء فرحوا بهذه المقالة؛ لأنها أخف شناعة عليهم عند العامّة، ولأنّها أقرب إلى قبول الناس لها؛ فإذا قبلوها كانوا أقرب إلى قبول التصريح بخلق القرآن.
وهؤلاء كانوا من أكثر من أشاع مسألة اللفظ؛ وكثرت الروايات عن الإمام أحمد في التحذير من اللفظية وتسميتهم بالجهمية؛ يقصد بهم من يقول بخلق القرآن، ويتستّر باللفظ.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: سمعت أبي يقول: « كلُّ من يقصد إلى القرآن بلفظ أو غير ذلك يريد به مخلوق؛ فهو جهمي »
وقال أيضاً: سمعت أبي يقول: « من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، يريد به القرآن، فهو كافر ».
وقال أيضاً: سألت أبي فقلت: إنّ قومًا يقولون: ألفاظنا بالقرآن مخلوقةٌ؟
قال: «هم جهميّةٌ، وهم شرٌّ ممّن يقف» .
وقال: " هذا هو قول جهمٍ، وعظّم الأمر عنده في هذا، وقال: قال اللّه عزّ وجلّ: {وإن أحدٌ من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام اللّه}، وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «حتّى أبلّغ كلام ربّي»، وقال صلّى اللّه عليه وسلّم: «إنّ هذه الصّلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام النّاس» فمن قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، فهو جهميٌّ "

وقال أيضا: قلت لأبي: إنّ الكرابيسيّ يقول: لفظي بالقرآن مخلوقٌ.
فقال: «هذا كلام سوءٍ رديءٌ، وهو كلام الجهميّة، كذب الكرابيسيّ، هتكه اللّه، الخبيث»
وقال: «قد خلف هذا بشرًا المرّيسيّ».
وذكر الخلال عن الإمام أحمد أنه قال: (القرآن حيث تصرف كلام الله، واللفظية جهمية.
قلنا: هل علمتَ أن أحداً من الجهمية كان يقوله؟
قال: بلغني أنّ المريسي كان يقوله).

وروى يعقوب الدورقي(ت:252ه): عن الإمام أحمد أنّه قال: «إنّ اللّفظيّة إنّما يدورون على كلام جهمٍ، يزعمون أنّ جبريل إنّما جاء بشيءٍ مخلوقٍ إلى مخلوقٍ».
وقال أخوه أحمد الدّورقيّ (ت:246هـ): قلت لأحمد بن حنبلٍ: ما تقول في هؤلاء الّذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوقٌ؟
فرأيته استوى، واجتمع، وقال: (هذا شرٌّ من قول الجهميّة، من زعم هذا، فقد زعم أنّ جبريل تكلّم بمخلوقٍ، وجاء إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم بمخلوقٍ).

وقال عبد الله بن أحمد: سئل أبي، وأنا أسمع عن اللّفظيّة والواقفة، فقال: من كان منهم يحسن الكلام، فهو جهميٌّ.

وكان الإمام أحمد يحمل اللفظية في أوَّل الأمر على هذا المحمل؛ لأنَّ أهل السنَّة ليسوا بحاجة إلى التلبيس؛ فهم يصرّحون بأنّ القرآن غير مخلوق، وأنَّ أفعال العباد مخلوقة.
وكان شديد الحذر من حيل الجهمية، وما يدخلونه على الناس من الشُّبَه وزخرف القول، وينهى عن الدخول في علم الكلام للرد عليهم، وينهى عن استعمال عباراتهم؛ لأنهم يلبّسون بالألفاظ المجملة.

قال جعفر بن أحمد: سمعت أحمد بن حنبلٍ يقول: «اللّفظيّة والواقفة زنادقةٌ عتقٌ».
وقال عبّاسٌ الدّوريّ: كان أحمد بن حنبلٍ يقول: «الواقفة واللّفظيّة جهميّةٌ»
وروى أبو القاسم اللالكائي عن أبي بكر الأسدي أنه قال: أتى قومٌ أبا مصعبٍ الزّهريّ؛ فقالوا: إنّ قبلنا ببغداد رجلًا يقول: لفظه بالقرآن مخلوقٌ.
فقال: (يا أهل العراق، ما يأتينا منكم هناه، ما ينبغي أن نتلقّى وجوهكم إلّا بالسّيوف، هذا كلامٌ نبطيٌّ خبيثٌ).

وقد كانت فتنة الجهمية باللفظ فتنة عظيمة؛ فلذلك اشتدّ تحذير العلماء من هذه الفتنة، ومما يدلّ على انتشار فتنة الجهمية ما رواه الخطيب البغدادي في تاريخه عن محمد بن الْحَسَن بن هَارُون الموصلي أنّه قَالَ: سألت أبا عَبْد اللَّهِ أَحْمَد بنَ مُحَمَّدِ بْنِ حنبل، فقلت: يا أبا عَبْد اللَّهِ أنا رجل من أهل الموصل والغالب عَلَى أهل بلدنا الجهمية، وفيهم أهل سنة نفر يسير يحبونك، وقد وقعت مسألة الكرابيسي نطقي بالقرآن مخلوق؟
فَقَالَ لِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: (إياك إياك وهذا الكرابيسي، لا تكلّمه ولا تكلّم من يكلّمُه) أربع مرات أو خمس مرات.
قُلْتُ: يا أبا عَبْد اللَّهِ، فهذا القول عندك فما تشاغب منه يرجع إِلَى قول جهم؟
قَالَ: (هذا كله من قول جهم).

وكان الكرابيسيّ صاحب كتب كثيرة وله أصحاب وأتباع ؛ فهجره أهل الحديث حتى قلَّ الانتفاع بعلمه واضمحلّ ذكره إلا فيما أثاره من مغالطات، وما ينقل عنه في مسائل معدودة، واختلفوا في سنة وفاته؛ فقيل: سنة 245هـ ، وقيل: 248هـ.
قال الخطيب البغدادي: (وحديث الكرابيسي يعزّ جدا وذلك أن أَحْمَد بن حنبل كَانَ يتكلم فيه بسبب مسألة اللفظ، وكان هو أيضا يتكلم فِي أَحْمَد، فتجنب الناس الأخذ عنه لهذا السبب).
وقال عنه: (وكان فهما عالما فقيها، وله تصانيف كثيرة فِي الفقه وفي الأصول تدل عَلَى حسن فهمه، وغزارة علمه).

قال الذهبي: (وكان من أوعية العلم، ووضع كتاباً في المدلّسين، يحطّ على جماعةٍ: فيه أنّ ابن الزّبير من الخوارج.
وفيه أحاديث يقوّي به الرّافضة، فأعلم أحمد، فحذّر منه).
وقال ابن عدي: (سمعت محمد بن عبد الله الصيرفي الشافعي يقول لهم، يعني التلامذة: اعتبروا بهذين: حسين الكرابيسي، وأبو ثور. فالحسين في علمه وحفظه، وأبو ثور لا يعشّره في علمه، فتكلم فيه أحمد بن حنبل في باب اللفظ فسقط، وأثنى على أبي ثور، فارتفع للزومه السنة).
وقال عنه ابن حبّان: (وكان ممن جمع وصنف ممن يحسن الفقه والحديث، ولكن أفسده قلة عقله؛ فسبحان من رفع من شاء بالعلم اليسير حتى صار عَلَما يقتدى به، ووضع من شاء مع العلم الكثير حتى صار لا يلتفت إليه).

الموقف الثاني: موقف طائفة ممن خاض في علم الكلام وتأثّر ببعض قول الجهمية وإن كان كلامهم غيرَ جارٍ على أصول الجهمية، وعلى رأس هؤلاء رجل من أهل الشام يقال له: الشرّاك؛ قال: إن القرآن كلام الله؛ فإذا تلفظنا به صار مخلوقاً، وهذا يعود إلى صريح قول الجهمية عند التحقيق.
قال أبو طالبٍ للإمام أحمد: كُتب إليّ من طرسوس أنّ الشّرّاك يزعم أنّ القرآن كلام اللّه، فإذا تلوته فتلاوته مخلوقةٌ.
قال: «قاتله اللّه، هذا كلام جهمٍ بعينه».
قال: قلت: رجلٌ قال في القرآن: كلام اللّه ليس بمخلوقٍ، ولكنّ لفظي هذا به مخلوقٌ؟
قال: «هذا كلام سوءٍ، من قال هذا فقد جاء بالأمر كلّه»
قلت: (الحجّة فيه حديث أبي بكرٍ: لمّا قرأ: {الم غلبت الرّوم} فقالوا: هذا جاء به صاحبك؟ قال: لا، ولكنّه كلام اللّه)؟
قال: «نعم، هذا وغيره، إنّما هو كلام اللّه، إن لم يرجع عن هذا فاجتنبه، ولا تكلّمه، هذا مثل ما قال الشّرّاك» .
قلت: كذا بلغني.
قال: «أخزاه اللّه، تدري من كان خاله؟»
قلت: لا.
قال: «كان خاله عبدَك الصّوفيّ، وكان صاحب كلامٍ ورأي سوءٍ، وكلّ من كان صاحب كلامٍ، فليس ينزع إلى خيرٍ»، واستعظم ذلك واسترجع، وقال: «إلى ما صار أمر النّاس؟».
وهذه الرواية ذكرها ابن بطّة في الإبانة.

و"عَبْدَك" الذي ذكره الإمام أحمد؛ هو أوّل من لقّب بالصوفي في بغداد ، وكان أصله من الكوفة ثم انتقل إلى بغداد، وكان له أبتباع يعظمونه، و"عبدك" لقب له، واسمه عبد الكريم.
وكان صاحب كلام وتصوف، وقد اشتهرت عنه بدع: منها بدعة الملامية، ومنها بدعة التحريم المطلق، كان يزعم أن كل ما في الدنيا حرام، ولا يحلّ منها إلا القوت، وخلط التصوّف بالتشيّع، وتوفي بغداد سنة (210هـ).
ذكر ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد عن إسحاق بن داود أنه قال: أول من سمى ببغداد «صوفيا» عبدك الصوفي.
وقد ذكر بعض مقالاته الشيخ إحسان إلهي ظهير في كتابه عن نشأة التصوف.
والشرّاك ابن اخت عبدك الصوفي كما ذكر الإمام أحمد، وهذا من شواهد سعة معرفة الإمام أحمد رحمه الله بالرجال.
ذكر أبو القاسم اللالكائي عن محمّد بن أسلم الطّوسيّ أنه قال: (إنّ من قال: إنّ القرآن يكون مخلوقًا بالألفاظ، فقد زعم أنّ القرآن مخلوقٌ).

الموقف الثالث: موقف داوود بن عليّ بن خلف الأصبهاني الظاهري (ت:270هـ) رأس أهل الظاهر وإمامهم، وكان رجلاً قد أوتي ذكاءً حادّاً وقوّة بيان وتصرّفاً في الاستدلال، وكان مولعاً بكتب الشافعيّ في أوّل عمره؛ معتنيا بجمع الأقوال ومعرفة الخلاف حتى حصّل علماً كثيراً، ثم ردّ القياس وادّعى الاستغناء عنه بالظاهر، وصنّف كتباً كثيرة.
قال أبو زرعة الرازي: ( لو اقتصر على ما يقتصر عليه أهل العلم لظننت أنه يكمد أهل البدع بما عنده من البيان والآلة، ولكنه تعدَّى).
وهو من أصحاب حسين الكرابيسي، وعنه أخذ مقالته في اللفظ، لكنّه تأوّلها على مذهبه في القرآن؛ فإنّ له قولاً في القرآن لم يسبق إليه: قال: (أما الذي في اللوح المحفوظ: فغير مخلوق، وأما الذي هو بين الناس: فمخلوق).
قال الذهبي: (هذه التفرقة والتفصيل ما قالها أحد قبله فيما علمت).
واشتهر عنه أنه قال: (القرآن مُحدث) وكلمة الإحداث عند المعتزلة تعني الخلق؛ لأنّ المحدث هو ما كان بعد أن لم يكن؛ ويقولون بأن كلّ ما كان بعد أن لم يكن فهو مخلوق.ولذلك نفوا صفة الكلام عن الله جل وعلا، وضلوا في ذلك وكذبوا على الله؛ فإنّ الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء ، ويفعل ما يشاء متى يشاء.
وهذه الكلمة "محدث" واردة في القرآن في قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربّهم محدَث إلا كانوا عنه معرضين}
لكنّها ليست على المعنى الذي أراده المعتزلة من أنّه مخلوق، ولكنّ الله يحدث من أمره ما يشاء؛ فيكون حديثا أي جديداً عند إنزاله أو وقوعه.
ولمّا حدثت فتنة اللفظ كان ممن تكلّم بها داوود الظاهري؛ وقال: (لفظي بالقرآن مخلوق).
قال: محمد بن الحسين بن صبيح: سمعت داوود الأصبهاني يقول: القرآن مُحدَث، ولفظي بالقرآن مخلوق). رواه الخلال.
وقال أبو عليٍّ أحمد بن إبراهيم القوهستانيّ(ت:267ه): سمعت إسحاق بن راهويه يقول: إنّ لفلانٍ يعني داود الأصفهانيّ في القرآن قولًا ثالثًا، قولَ سوءٍ؛ فلم يزل يُسأل إسحاق ما هو؟
قال: أظهر اللّفظ، يعني قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ) رواه أبو القاسم اللالكائي.
وقد أنكر عليه إسحاق بن راهويه، وشهد على داوود أنه قال: (القرآن محدث) بعض من حضره، فكتب قاضي نيسابور محمد بن يحيى الذهلي إلى الإمام أحمد ببغداد
أنّ داوود بن علي قال: (القرآن محدث) فأمر الإمام أحمد بهجره ومجانبته.
قال أبو بكر المروذي: إن داوود خرج إلى خراسان إلى ابن راهويه، فتكلم بكلام شهد عليه أبو نصر بن عبد المجيد وآخر، شهدا عليه أنه قال: القرآن محدث.
فقال لي أبو عبد الله [أحمد بن حنبل]: مَن داود بن علي لا فرج عنه الله؟
قلت: هذا من غلمان أبي ثور.
قال: جاءني كتاب محمد بن يحيى النيسابوري أن داوود الأصبهاني قال ببلدنا: إن القرآن محدَث.
فهجره الإمام أحمد، وأمر بهجره.
وذكر الخطيب البغدادي عن أبي زرعة الرازي أن داوود بن علي كانت بينه وَبين صالح بْن الإمام أَحْمَد معرفة حسنة، فكلم صالحا أن يتلطف له فِي الاستئذان على أبيه، فأتى صالح أباه، فَقَالَ له: رجل سألني أن يأتيك؟
قَالَ: ما اسمه؟
قَالَ: دَاوُد.
قَالَ: من أين؟
قَالَ: من أَهْل أصبهان.
قَالَ: أي شيء صناعته؟
قَالَ: وَكَانَ صالح يروغ عَنْ تعريفه إياه؛ فما زال أَبُو عَبْد اللَّهِ يفحص عنه حَتَّى فطن له.
فَقَالَ: هذا قد كتب إلي مُحَمَّد بْن يَحْيَى النيسابوري فِي أمره أنه زعم أن القرآن محدث فلا يقربني.
قَالَ: يا أبت إنه ينتفي من هذا وَينكره.
فَقَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ أَحْمَد: مُحَمَّد بْن يَحْيَى أصدق منه، لا تأذن له فِي المصير إلي).
وقد كان في كتب داوود أحاديث ُكثيرة؛ فهجره أهل الحديث حتى قال الخطيب البغدادي: (وَفي كتبه حَدِيث كثير، إِلا أن الرواية عنه عزيزة جدا).
والمقصود أنّ داوود بن علي الظاهري كان مما تكلّم باللفظ لكنّه تأوّله على مذهبه في القرآن.
فهجره الإمام أحمد، وأمر بهجره.

الموقف الرابع: موقف جمهور أهل الحديث كالإمام أحمد وإسحاق بن راهويه والبخاري وأبي ثور وجماعة.
فهؤلاء منعوا الكلام في اللفظ مطلقاً لالتباسه؛ وبدّعوا الفريقين: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق.
واشتدّوا على من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ خشية التذرّع بهذا التلبيس إلى إرادة القول بخلق القرآن، وقد جرى من المحنة في القول بخلق القرآن ما جرى فكانوا شديدي الحذر من حيل الجهمية وتلبيسهم.
وبيّنوا أنّ أفعال العباد مخلوقة.
قال إسحاق بن حنبلٍ: (من قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ، فهو جهميٌّ، ومن زعم أنّ لفظه بالقرآن غير مخلوقٍ، فقد ابتدع، فقد نهى أبو عبد اللّه عن هذا، وغضب منه، وقال: (ما سمعت عالمًا قال هذا! أدركت العلماء مثل: هشيمٍ، وأبي بكر بن عيّاشٍ، وسفيان بن عيينة، فما سمعتهم قالوا هذا).
قال إسحاق: (وأبو عبد اللّه أعلم النّاس بالسّنّة في زمانه، لقد ذبّ عن دين اللّه، وأوذي في اللّه، وصبر على السّرّاء والضّرّاء).
وهذا الكلام نصّ عليه غير واحد من أصحاب الإمام أحمد مثل: يعقوب الدورقي.
وقال أبو إسحاق الهاشميّ: سألت أبا عبد اللّه أحمد بن حنبلٍ، فقلت: إذا قالوا لنا: القرآن بألفاظنا مخلوقٌ، نقول لهم: ليس هو بمخلوقٍ بألفاظنا أو نسكت؟
فقال: " اسمع ما أقول لك: القرآن في جميع الوجوه ليس بمخلوقٍ ".
ثمّ قال أبو عبد اللّه: «جبريل حين قاله للنّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم كان منه مخلوقًا؟ والنّبيّ حين قاله كان منه مخلوقًا؟ هذا من أخبث قولٍ وأشرّه» ثمّ قال أبو عبد اللّه: «بلغني عن جهمٍ أنّه قال بهذا في بدء أمره».
ذكر ذلك ابن بطّة في الإبانة الكبرى.

وقال عبد الله بن الإمام أحمد: (كان أبي رحمه الله يكره أن يتكلم في اللفظ بشيء أو يقال: مخلوق أو غير مخلوق).

وقال صالح بن الإمام أحمد: تناهى إليَّ أن أبا طالب يحكي عن أبي أنه يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق؛ فأخبرت أبي بذلك.
فقال: من أخبرك؟
فقلت: فلان.
قال: ابعث إلى أبي طالب، فوجهت إليه فجاء وجاء فُوران.
فقال له أبي: أنا قلت لفظي بالقرآن غير مخلوق؟!!
وغضب وجعل يرعد؛ فقال له: قرأت عليك {قل هو الله أحد} ؛ فقلت لي: هذا ليس بمخلوق.
قال: فلم حكيت عنّي أنّي قلت: لفظي بالقرآن غير مخلوقٍ؟!!
وبلغني أنك وضعت ذلك في كتابك، وكتبت به إلى قوم؛ فإن كان في كتابك؛ فامحه أشد المحو، واكتب إلى القوم الّذين كتبت إليهم: إنّي لم أقل لك هذا.
فعاد أبو طالب فذكر أنه قد حكَّ ذلك من كتابه، وأنه كتب إلى القوم يخبرهم أنه وهم على أبي عبد الله في الحكاية).
وأبو طالب هو أحمد بن حميد المُشْكانيّ (ت:244هـ) من خاصّة أصحاب الإمام أحمد، وكان الإمام أحمد يحبّه ويعظّمه، وكان رجلاً صالحاً فقيهاً فقيراً صبوراً على الفقر، وله مسائل يرويها عن الإمام أحمد.
وفُوران هو أبو محمد عبد الله بن محمد بن المهاجر (ت:256هـ) كان من أخصّ أصحاب الإمام أحمد وأحبّهم إليه.
وهذه المسألة تعرف بمسألة أبي طالب؛ وقد جرى خلاف بين أصحاب الإمام أحمد بعد وفاته بسبب هذه المسألة.
قال ابن تيمية: (وهذا الذي ذكره أحمد [يريد جوابه لأبي طالب في قوله: هذا كلام الله لما قرأ قل هو الله أحد، وقال له: هذا ليس بمخلوق ] من أحسن الكلام وأدقه فإن الإشارة إذا أطلقت انصرفت إلى المقصود.
وهو كلام الله الذي تكلم به.
لا ما وصل به إلينا من أفعال العباد وأصواتهم.
فإذا قيل لفظي جعل نفس الوسائط غير مخلوقة.
وهذا باطل كما أن رأى راء في مرآة فقال أكرم الله هذا الوجه وحياه أو قبحه كان دعاؤه على الوجه الموجود في الحقيقة الذي رأى بواسطة المرآة لا على الشعاع المنعكس فيها، وكذلك إذا رأى القمر في الماء فقال قد أبدر، فإنما مقصوده القمر الذي في السماء لا خياله وكذلك من سمعه يذكر رجلا فقال هذا رجل صالح أو رجل فاسق، علم أن المشار إليه هو الشخص المسمى بالاسم، لا نفس الصوت المسموع من الناطق، فلو قال: هذا الصوت أو صوت فلان صالح أو فاسق فسد المعنى)ا.هـ
وقال ابن تيمية: (ونكتة الأمر أن العبرة بالحقيقة المقصودة لا بالوسائل المطلوبة لغيرها، فلما كان مقصود الرائي أن يرى الوجه مثلا فرآه بالمرآة حصل مقصوده، وقال رأيت الوجه وإن كان ذلك بواسطة انعكاس الشعاع في المرآة، وكذلك من كان مقصوده أن يسمع القول الذي قاله غيره ألف ألفاظه وقصد معانيه، فإذا سمعه منه أو من غيره حصل هذا المقصود، وإن كان سماعه من غيره هو بواسطة صوت ذلك الغير باختلاف الصائتين والقلوب، وإنما أشير إلى المقصود لا إلى ما ظهر به المقصود، كما في الاسم والمسمى، فإن القائل إذا قال: جاء زيد وذهب عمرو لم يكن مقصوده الإخبار بالمجيء والإتيان هو لفظ زيد ولفظ عمرو وإلا كان مبطلا، فكذلك إذا قال القائل هذا)ا.ه.


الموقف الخامس: موقف طائفة من أهل الحديث صرحوا بأنّ اللفظ بالقرآن غير مخلوق، وهم يريدون أنّ القرآن غير مخلوق، وأخطؤوا في استعمال هذه العبارة.
وحصل في الأمر التباس عليهم؛ حتى إنّ منهم من نسب ذلك إلى الإمام أحمد كما تقدّم عن أبي طالب وأنّ الإمام أحمد أنكر عليه وتغيّظ عليه وأنّه رجع عن ذلك؛ لكن بقي على ذلك بعض أصحاب الإمام أحمد، ثم قال بهذا القول بعض أتباعهم.
وممن نُسب إليه التصريح بأنّ اللفظ بالقرآن غير مخلوق: محمد بن يحيى الذهلي شيخ البخاري وقاضي نيسابور في زمانه، وأبو حاتم الرازي، ومحمد بن داوود المصيصي قاضي أهل الثغر وهو شيخ أبي داوود السجستاني صاحب السنن، وابن منده ، وأبو نصر السجزي، وأبو إسماعيل الأنصاري، وأبو العلاء الهمذاني.
وقد ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية.
وهؤلاء :
1. يقولون إن القرآن غير مخلوق.
2. وإن أفعال العباد مخلوقة.
لكنّهم أخطؤوا في إطلاق القول بأن اللفظ بالقرآن غير مخلوق.
وظنوا أنّهم بقولهم: (ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة) يقطعون الطريق على الجهمية الذين يريدون التحيّل باللفظ للقول بخلق القرآن.
قال ابن تيمية: (وكان أهل الحديث قد افترقوا في ذلك، فصار طائفة منهم يقولون: لفظنا بالقرآن غير مخلوق ومرادهم أن القرآن المسموع غير مخلوق، وليس مراده صوت العبد، كما يذكر ذلك عن أبي حاتم الرازي، ومحمد بن داود المصيصي، وطوائف غير هؤلاء.
وفي أتباع هؤلاء من قد يدخل صوت العبد أو فعله في ذلك أو يقف فيه، ففهم ذلك بعض الأئمة، فصار يقول: أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة، رداً لهؤلاء، كما فعل البخاري ومحمد بن نصر المروزي وغيرهما من أهل العلم والسنة.
وصار يحصل بسبب كثرة الخوض في ذلك ألفاظ مشتركة، وأهواء للنفوس، حصل بسبب ذلك نوع من الفرقة والفتنة، وحصل بين البخاري وبين محمد بن يحيى الذهلي في ذلك ما هو معروف، وصار قوم مع البخاري كمسلم بن الحجاج نحوه، وقوم عليه كأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين وغيرهما.
وكل هؤلاء من أهل العلم والسنة والحديث، وهم من أصحاب أحمد بن حنبل، ولهذا قال ابن قتيبة: إن أهل السنة لم يختلفوا في شيء من أقوالهم إلا في مسألة اللفظ).

اختلاف الأفهام في مسألة اللفظ:
مسألة اللفظ من المسائل الغامضة لتوقفها على مراد القائل، ودخول التأول فيها.
قال ابن تيمية: (الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة المشتبهة، لما فيه من لبس الحق بالباطل، مع ما توقعه من الاشتباه والاختلاف والفتنة، بخلاف الألفاظ المأثورة والألفاظ التي بينت معانيها، فإن ما كان مأثوراً حصلت له الألفة، وما كان معروفا حصلت به المعرفة، كما يروى عن مالك رحمه الله أنه قال: "إذا قل العلم ظهر الجفاء، وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء".
فإذا لم يكن اللفظ منقولاً ولا معناه معقولاً ظهر الجفاء والأهواء).
وقال ابن تيمية أيضاً: (الذين قالوا التلاوة هي المتلو من أهل العلم والسنة قصدوا أن التلاوة هي القول والكلام المقترن بالحركة، وهي الكلام المتلو.
وآخرون قالوا: بل التلاوة غير المتلو، والقراءة غير المقروء، والذين قالوا ذلك من أهل السنة والحديث أرادوا بذلك أن أفعال العباد ليس هي كلام الله، ولا أصوات العباد هي صوت الله، وهذا الذي قصده البخاري، وهو مقصود صحيح.
وسبب ذلك أن لفظ: التلاوة، والقراءة، واللفظ مجمل مشترك: يراد به المصدر، ويراد به المفعول.
فمن قال: اللفظ ليس هو الملفوظ، والقول ليس هو المقول وأراد باللفظ والقول المصدر، كان معني كلامه أن الحركة ليست هي الكلام المسموع، وهذا صحيح.
ومن قال اللفظ هو الملفوظ، والقول هو نفسه المقول وأراد باللفظ والقول مسمى المصدر، صار حقيقة مراده أن اللفظ والقول المراد به الكلام المقول الملفوظ هو الكلام المقول الملفوظ، وهذا صحيح.
فمن قال: اللفظ بالقرآن، أو القراءة، أو التلاوة، مخلوقة أو لفظي بالقرآن، أو تلاوتي دخل في كلامه نفس الكلام المقروء المتلو، وذلك هو كلام الله تعالى.
وإن أراد بذلك مجرد فعله وصوته كان المعني صحيحاً، لكن إطلاق اللفظ يتناول هذا وغيره)ا.هـ.

الموقف السادس: موقف أبي الحسن الأشعري وبعض أتباعه ومن تأثر بطريقته كأبي بكر بن الطيب الباقلاني، والقاضي أبي يعلى.
وهؤلاء فهموا من مسألة اللفظ معنى آخر ؛ وقالوا إنّ الإمام أحمد إنما كره الكلام في اللفظ؛ لأنّ معنى اللفظ الطرح والرمي، وهذا غير لائق أن يقال في حق القرآن.
قال ابن تيمية: (والمنتصرون للسنة من أهل الكلام والفقه: كالأشعري والقاضي أبي بكر بن الطيب والقاضي أبي يعلى وغيرهم يوافقون أحمد على الإنكار على الطائفتين على من يقول: لفظي بالقرآن مخلوق وعلى من يقول: لفظي بالقرآن غير مخلوق، ولكن يجعلون سبب الكراهة كون القرآن لا يلفظ؛ لأن اللفظ الطرح والرمي. ثم هؤلاء منهم من ينكر تكلم الله بالصوت. ومنهم من يقر بذلك).

الموقف السابع: موقف طوائف زعمت أنّ ألفاظ القراء بالقرآن غير مخلوقة؛ وزعموا أن سماعهم لقراءة القارئ هي سماع مباشر من الله، وأنهم يسمعون كلام الله من الله إذا قرأه القارئ كما سمعه موسى بن عمران.
واختلفوا في تفصيل ذلك على أقوال:
فقال بعضهم: إن صوت الربّ حلّ في العبد.
وقال آخرون: ظهر فيه ولم يحلّ فيه.
وقال آخرون: لا نقول ظهر ولا حلّ.
وقال آخرون: الصوت المسموع قديم غير مخلوق.
وقال آخرون: يسمع منه صوتان مخلوق وغير مخلوق.
وهذه الأقوال حكاها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن بعض الطوائف، وحكى أقوالاً أخرى نحوها في البطلان؛ ثم قال: (وهذه الأقوال كلها مبتدعة، لم يقل السلف شيئا منها، وكلها باطلة شرعا وعقلا، ولكن ألجأ أصحابها إليها اشتراك في الألفاظ واشتباه في المعاني، فإنه إذا قيل: سمعت زيدا وقيل: هذا كلام زيد، فإن هذا يقال على كلامه الذي - تكلم هو به بلفظه ومعناه، سواء كان مسموعا منه أو من المبلغ عنه مع العلم بالفرق بين الحالين، وأنه إذا سمع منه سمع بصوته، وإذا سمع من غيره سمع من ذلك المبلغ لا بصوت المتكلم، وإن كان اللفظ لفظ المتكلم، وقد يقال مع القرينة هذا كلام فلان، وإن ترجم عنه بلفظ آخر، كما حكى الله كلام من يحكي قوله من الأمم باللسان العربي، وإن كانوا إنما قالوا بلفظ [عبري] أو سرياني أو قبطي أو غير ذلك).
وقال أيضا: (فمن قال إن لفظه بالقرآن غير مخلوق أو صوته أو فعله أو شيئا من ذلك فهو مبتدع.
وهؤلاء قد يحتجون بقوله: {حتى يسمع كلام الله} [التوبة: 6] ، ويقولون هذا كلام الله غير مخلوق، فهذا غير مخلوق، ونحن لا نسمع إلا صوت القارئ، وهذا جهل منهم. فإن سماع كلام الله بل وسماع كل كلام يكون تارة من المتكلم به بلا واسطة الرسول المبلغ له، قال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] ، ومن قال: إن الله كلمنا بالقرآن كما كلم موسى بن عمران، أو إنا نسمع كلامه كما سمعه موسى بن عمران، فهو من أعظم الناس جهلا وضلالا.)
وقال أيضا: (وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن القرآن الذي يقرؤه المسلمون كلام الله - تعالى - وإن كان مسموعا عن المبلغ عنه، فإن الكلام قد يسمع من المتكلم به، كما سمعه موسى بلا واسطة وهذا سماع مطلق - كما يرى الشيء رؤية مطلقة - وقد يسمعه من المبلغ عنه فيكون قد سمعه سماعا مقيدا - كما يرى الشيء [في] الماء والمرآة رؤية مقيدة لا مطلقة - ولما قال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} كان معلوما عند جميع من خوطب بالقرآن أنه يسمع سماعا مقيدا من المبلغ، ليس المراد به أنه يسمع من الله (كما سمعه موسى بن عمران، فهذا المعنى هو الذي عليه السلف والأئمة).
وقال أيضا: (قال أحمد وغيره من السلف: القرآن كلام الله حيث تصرف غير مخلوق ولم يقل أحد من السلف والأئمة إن أصوات العباد بالقرآن غير مخلوقة أو قديمة ولا قال أيضا أحد منهم: إن المداد الذي يكتب به القرآن قديم أو غير مخلوق. فمن قال إن شيئا من أصوات العباد أو أفعالهم أو حركاتهم أو مدادهم: قديم أو غير مخلوق فهو مبتدع ضال مخالف لإجماع السلف والأئمة).

وقريب من هؤلاء طائفة زعمت أن كلام الله بعينه في المصحف؛ وقد ردّ عليهم البخاري في كتابه خلق أفعال العباد بقوله: (ويقال لمن زعم أني لا أقول: القرآن مكتوب في المصحف ولكن القرآن بعينه في المصحف، يلزمك أن تقول: إن من ذكر الله في القرآن من الجن والإنس والملائكة والمدائن ومكة والمدينة وغيرهما وإبليس وفرعون وهامان وجنودهما والجنة والنار عاينتهم بأعيانهم في المصحف، لأن فرعون مكتوب فيه، كما أن القرآن مكتوب!!)

وعلى كلّ فبعض الأقوال اندثرت، وسوء الفهم ليس له حدود، ومقصودنا التنبيه على الأقوال التي اشتهرت وكان لأصحابها أتباع، أو جرت بسببها محن، وأما الأقوال الواهية المندثرة فيصعب حصرها). [الإيمان بالقرآن:112 - 131]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 06:54 PM
رؤيا أبي حمدون المقرئ

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( رؤيا أبي حمدون المقرئ
قال أبو حمدونٍ المقرئ قال: لمّا هاج النّاس في اللّفظ بالقرآن مخلوقٌ، وأمر حسينٍ الكرابيسيّ في ذلك، كنت أقرأ بالكرخ، فأتاني رجلٌ فجعل يناظرني ويقول: أنا أريد لفظي مخلوقٌ، والقرآن غير مخلوقٍ. قال: فشكّكني، فدعوت اللّه عزّ وجلّ الفرج، فلمّا كان اللّيل نمت فرأيت كأنّي في صحراء واسعةٍ فيها سريرٌ عليه نضدٌ فوقه شيخٌ ما رأيت أحسن وجهًا منه ولا أنقى ثوبًا منه ولا أطيب رائحةً، وإذا النّاس قيامٌ عن يمينه وعن يساره، إذ جيء بالرّجل الّذي كان يناظرني فأوقف بين يديه وجيء بصورةٍ في سونجرد، فقيل: هذه صورة ماني الّذي أضلّ النّاس، فوضعت على قفا الرّجل، فقال الشّيخ: اضربوا وجه ماني ليس نريدك. قال: فنحّ عن قفاي واضرب به كيف شئت. فقال: وأنت فنحّ لفظك عن القرآن وقل في لفظك ما شئت.
قال: فانتبهت وقد سرى عنّي.). ذكره أبو القاسم اللالكائي). [الإيمان بالقرآن:131]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 07:13 PM
متى نشأت اللفظية؟

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (متى نشأت اللفظية؟
قال الذهبي: (أول من أظهر اللفظ الحسين بن علي الكرابيسي، وذلك في سنة أربع وثلاثين ومائتين).
هكذا قال رحمه الله، والأقرب أنّ نشأة فتنة اللفظية كانت في زمان الخليفة الواثق بن المعتصم لما ذكر أبو داوود السجستاني في مسائله للإمام أحمد، قال: كتبت رقعة، وأرسلت به إلى أبي عبد الله، وهو يومئذ متوار، فأخرج إلي جوابه مكتوبا فيه: قلت: رجل يقول: التلاوة مخلوقة، وألفاظنا بالقرآن مخلوقة والقرآن ليس بمخلوق، ما ترى في مجانبته؟ وهل يسمى مبتدعا؟ وعلى ما يكون عَقْدُ القلب في التلاوة والألفاظ؟ وكيف الجواب فيه؟
قال: هذا يجانب، وهو فوق المبتدع، وما أراه إلا جهمياً، وهذا كلام الجهمية، القرآن ليس بمخلوق، قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هو الذي أنزل عليك الكتاب، يريد حديثها» : {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات}، فقالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فاحذروهم، فإنهم هم الذين عنى الله» ، والقرآن ليس بمخلوق)ا.هـ). [الإيمان بالقرآن]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 07:17 PM
محنة الإمام البخاري في مسألة اللفظ:

قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (محنة الإمام البخاري في مسألة اللفظ:
كان البخاري قد رأى ما نال الإمام أحمد في مسألة اللفظ وهو ببغداد فجعل على نفسه أن لا يتكلم في هذه المسألة، ورأى أنها مسألة مشؤومة، وفطن لذلك بعض أهل بغداد.
ولمّا توجّه البخاري إلى خراسان في آخر حياته وهو في الثانية والستين من عمره؛ وجد في بلده بخارى كثرة المخالفين له؛ فعزم على الإقامة في نيسابور، فبلغ ذلك أهل نيسابور.
فاحتفوا بمقدمه احتفاء بالغاً خرج إليه العلماء والوجهاء والعامة من مسيرة ليلتين أو ثلاث يستقبلونه.
وكان ممن احتفى بمقدمه قاضي نيسابور محمد بن يحيى الذهلي وكان رجلاً مسموع الكلمة في نيسابور ومحدّثا من كبار المحدّثين.
قال مسلم بن الحجاج النيسابوري [صاحب الصحيح]: لما قدم محمد بن إسماعيل نيسابور ما رأيت واليا ولا عالما فَعل به أهل نيسابور ما فعلوا به استقبلوه مرحلتين وثلاثة.
فقال محمد بن يحيى في مجلسه: من أراد أن يستقبل محمد بن إسماعيل غدا فليستقبله فاستقبله محمد بن يحيى، وعامة العلماء فنزل دار البخاريين فقال لنا محمد بن يحيى: لا تسألوه عن شي من الكلام فإنه إن أجاب بخلاف ما نحن فيه، وقع بيننا وبينه ثم شمت بنا كل حروري وكل رافضي، وكل جهمي وكل مرجئ بخراسان.
قال الإمام مسلم: فازدحم الناس على محمد بن إسماعيل حتى امتلأ السطح والدار فلما كان اليوم الثاني، أو الثالث قام إليه رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن.
فقال: أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا فوقع بينهم اختلاف.
فقال بعض الناس: قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقال بعضهم: لم يقل حتى تواثبوا؛ فاجتمع أهل الدار وأخرجوهم). ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء.
وقال ابن عدي: ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن إسماعيل لما ورد نيسابور اجتمع الناس عليه فحسده بعض من كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور لما رأوا إقبال الناس إليه، واجتماعهم عليه؛ فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق فامتحنوه في المجلس فلما حضر الناس مجلس البخاري قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أم غير مخلوق؟
فأعرض عنه البخاري، ولم يجبه فقال الرجل: يا أبا عبد الله فأعاد عليه القول فأعرض عنه ثم قال في الثالثة فالتفت إليه البخاري، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة فشغب الرجل وشغب الناس وتفرقوا عنه وقعد البخاري في منزله.
ونقلت مقالته على غير وجهها إلى قاضي نيسابور محمد بن يحيى الذهلي؛ فقال في مجلسه فيما قال: (من زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهذا مبتدع لا يجالس ولا يكلم، ومن ذهب بعد مجلسنا هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه).
وروى الحاكم بإسناده عن ابن عليّ المخلدّي أنه قال: (سمعت محمد بن يحيى يقول: قد أظهر هذا البخاري قول اللفظية، واللفظية عندي شر من الجهمية).

وقال أبو حامد الأعمشي: رأيت محمد بن إسماعيل في جنازة أبي عثمان سعيد بن مروان، ومحمد بن يحيى يسأله عن الأسامي والكنى وعلل الحديث، ويمر فيه محمد بن إسماعيل مثل السهم؛ فما أتى على هذا شهر حتى قال محمد بن يحيى: إلا من يختلف إلى مجلسه فلا يختلف إلينا فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلم في اللفظ ونهيناه فلم ينته فلا تقربوه، ومن يقربه فلا يقربنا فأقام محمد بن إسماعيل ها هنا مدة ثم خرج إلى بخارى.
وقال محمد بن شاذل يقول: (لما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري دخلت على البخاري فقلت: يا أبا عبد الله أيش الحيلة لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى كل من يختلف إليك يطرد؟
فقال: كم يعتري محمد بن يحيى الحسد في العلم، والعلم رزق الله يعطيه من يشاء.
فقلت: هذه المسألة التي تحكى عنك؟
قال: (يا بني هذه مسألة مشؤومة رأيت أحمد بن حنبل، وما ناله في هذه المسألة وجعلت على نفسي أن لا أتكلم فيها).
قال الذهبي: (المسألة هي أن اللفظ مخلوق، سئل عنها البخاري فوقف فيها فلما وقف، واحتج بأن أفعالنا مخلوقة واستدل لذلك فهم منه الذهلي أنه يوجه مسألة اللفظ فتكلم فيه، وأخذه بلازم قوله هو).
وكلام البخاري المتقدّم يدلّ على أنّ الإمام أحمد أوذي في مسألة اللفظ بما جعل البخاري ينأى عن الحديث عنها لالتباسها ودقّة أفهام كثير من الناس عنها ولأنّ الأذى فيها كثير؛ لكن قدّر الله تعالى أن يبتلى بها.

قال الخطيب البغدادي: (وكان مسلم يناضل عن البخاري حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي بسببه).
ثم روى بإسناده عن محمد بن يعقوب الحافظ أنه قال: (لما استوطن محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور، أكثر مسلم بن الحجاج الاختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ ونادى عليه، ومنع الناس من الاختلاف إليه حتى هجر، وخرج من نيسابور في تلك المحنة، قطعه أكثر الناس غير مسلم، فإنه لم يتخلف عن زيارته، فأنهي إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديما وحديثا، وأنه عوتب على ذلك بالعراق والحجاز ولم يرجع عنه، فلما كان يوم مجلس محمد بن يحيى، قال في آخر مجلسه: ألا من قال باللفظ فلا يحل له أن يحضر مجلسنا، فأخذ مسلم الرداء فوق عمامته وقام على رءوس الناس وخرج من مجلسه، وجمع كل ما كان كتب منه وبعث به على ظهر حمَّال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت بذلك الوحشة، وتخلف عنه وعن زيارته).

وقام مع مسلم بن الحجاج أحمد بن سلمة.
قال محمد بن يعقوب الأخرم: سمعت أصحابنا يقولون: لما قام مسلم وأحمد بن سلمة من مجلس الذهلي، قال الذهلي: لا يساكنني هذا الرجل في البلد فخشي البخاري وسافر.

قال أبو عمرو الخفاف [وهو أحمد بن نصر النيسابوري]: (كنا يوما عند أبي إسحاق القيسي ومعنا محمد بن نصر المروزي، فجرى ذكر محمد بن إسماعيل البخاري، فقال محمد بن نصر: سمعته يقول: من زعم أني قلت لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب، فإني لم أقله.
قال: فقلت له: يا أبا عبد الله قد خاض الناس في هذا وأكثروا فيه.
فقال: ليس إلا ما أقول وأحكي لك عنه.
قال أبو عمرو الخفاف: فأتيت محمد بن إسماعيل فناظرته في شيء من الأحاديث حتى طابت نفسه فقلت: يا أبا عبد الله هاهنا أحد يحكى عنك أنك قلت هذه المقالة.
فقال: يا أبا عمرو احفظ ما أقول لك: من زعم من أهل نيسابور، وقومس، والري، وهمذان، وحلوان، وبغداد، والكوفة، والمدينة، ومكة، والبصرة، أني قلت: لفظي بالقرآن مخلوق فهو كذاب فإني لم أقل هذه المقالة إلا أني قلت: أفعال العباد مخلوقة.

وقال أحمد بن سلمة: دخلت على البخاري فقلت: يا أبا عبد الله هذا رجل مقبول بخراسان خصوصا في هذه المدينة وقد لج في هذا الحديث حتى لا يقدر أحد منا أن يكلمه فيه فما ترى? فقبض على لحيته ثم قال: {وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد} ، اللهم إنك تعلم أني لم أرد المقام بنيسابور أشرا ولا بطرا، ولا طلبا للرئاسة، وإنما أبت علي نفسي في الرجوع إلى وطني لغلبة المخالفين، وقد قصدني هذا الرجل حسدا لما آتاني الله لا غير ثم قال لي: يا أحمد إني خارج غدا لتتخلصوا من حديثه لأجلي.
قال: فأخبرت جماعة من أصحابنا فوالله ما شيعه غيري كنت معه حين خرج من البلد، وأقام على باب البلد ثلاثة أيام لإصلاح أمره.

وقد أوذي البخاري رحمه الله في هذه المحنة كثيراً ؛ حتى كفّره بعضهم، وهو صابر محتسب ثابت على قول الحق؛ مجتنب للألفاظ الملتبسة.
قال محمد بن أبي حاتم: أتى رجل عبد الله البخاري فقال: يا أبا عبد الله إن فلانا يكفرك فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر فقد باء به أحدهما".
وكان كثير من أصحابه يقولون له: إن بعض الناس يقع فيك فيقول: {إن كيد الشيطان كان ضعيفا}، ويتلو أيضا: {ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله}
فقال له عبد المجيد بن إبراهيم: كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك، ويتناولونك ويبهتونك؟
فقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اصبروا حتى تلقوني على الحوض»، وقال صلى الله عليه وسلم: «من دعا على ظالمه فقد انتصر».
قال محمد بن أبي حاتم: وسمعته يقول: لم يكن يتعرض لنا قط أحد من أفناء الناس إلا رمي بقارعة، ولم يسلم وكلما حدث الجهال أنفسهم أن يمكروا بنا رأيت من ليلتي في المنام نارا توقد ثم تطفأ من غير أن ينتفع بها فأتأول قوله تعالى: {كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله}
وكان هجيراه من الليل إذا أتيته في آخر مقدمه من العراق: {إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده} الآية.

محنة الإمام البخاري في بلده بخارى
لما رأى البخاري الوحشة في نيسابور خرج منها إلى بخارى على ما سبق ذكره؛ مع كراهيته للمقام في بخارى لكثرة المخالفين له.
قال أحمد بن منصور الشيرازي قال: سمعت بعض أصحابنا يقول: لما قدم أبو عبد الله بخارى نصب له القباب على فرسخ من البلد، واستقبله عامة أهل البلد حتى لم يبق مذكور إلا استقبله، ونثر عليه الدنانير والدراهم والسكر الكثير فبقي أياما.
قال: فكتب بعد ذلك محمد بن يحيى الذهلي إلى خالد بن أحمد أمير بخارى: إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة فقرأ كتابه على أهل بخارى فقالوا: لا نفارقه فأمره الأمير بالخروج من البلد فخرج.
وقال أحمد بن منصور: فحكى لي بعض أصحابنا عن إبراهيم بن معقل النسفي قال: رأيت محمد بن إسماعيل في اليوم الذي أخرج فيه من بخارى فتقدمت إليه فقلت: يا أبا عبد الله، كيف ترى هذا اليوم من اليوم الذي نثر عليك فيه ما نثر؟
فقال: لا أبالي إذا سلم ديني.
قال بكر بن منير بن خليد: بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمد بن إسماعيل، أن احمل إلي كتاب الجامع والتاريخ وغيرهما لأسمع منك.
فقال محمد بن إسماعيل لرسوله: أنا لا أذل العلم ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة فاحضرني في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة؛ لأني لا أكتم العلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار " قال فكان سبب الوحشة بينهما هذا.

وقال أبو بكر بن أبي عمرو الحافظ: كان سبب مفارقة أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري البلد، يعني: بخارى، أن خالد بن أحمد الذهلي الأمير، خليفة الطاهرية ببخارى، سأل أن يحضر منزله فيقرأ الجامع والتاريخ على أولاده فامتنع أبو عبد الله عن الحضور عنده، فراسله أن يعقد مجلسا لأولاده لا يحضره غيرهم فامتنع عن ذلك أيضا، وقال: لا يسعني أن أخص بالسماع قوما دون قوم، فاستعان خالد بن أحمد بحريث بن أبي الورقاء وغيره من أهل العلم ببخارى عليه، حتى تكلموا في مذهبه ونفاه عن البلد، فدعا عليهم أبو عبد الله محمد بن إسماعيل، فقال: اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهاليهم.
فأما خالد فلم يأت عليه إلا أقل من شهر حتى ورد أمر الطاهرية بأن ينادى عليه، فنودي عليه، وهو على أتان، وأشخص على أكاف ثم صار عاقبة أمره إلى ما قد اشتهر وشاع.
وأما حريث بن أبي الورقاء فإنه ابتلى بأهله فرأى فيها ما يجل عن الوصف.
وأما فلان أحد القوم وسماه فإنه ابتلي بأولاده وأراه الله فيهم البلايا.

فلما أخرج من بخارى توجّه إلى بلدة يقال لها خرتنك وفيها له أقارب.
قال عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي: جاء محمد بن إسماعيل إلى خرتنك، قرية من قرى سمرقند، على فرسخين منها وكان له بها أقرباء فنزل عندهم، قال: فسمعته ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يدعو ويقول في دعائه: اللهم إنه قد ضاقت على الأرض بما رحبت فاقبضني إليك.
قال: فما تم الشهر حتى قبضه الله تعالى وقبره بخرتنك.

ولقد أكثروا التأليب عليه واشتدوا في أذيته؛ ونحلوه أقوالا شنيعة لم يتفوّه بها، وكذبوا عليه في ذلك.
قال أبو العباس الفضل بن بسام: سمعت إبراهيم بن محمد يقول: أنا توليت دفن محمد بن إسماعيل لما أن مات بخرتنك أردت حمله إلى مدينة سمرقند أن أدفنه بها، فلم يتركني صاحب لنا، فدفناه بها.
فلما أن فرغنا ورجعت إلى المنزل الذي كنت فيه، قَالَ لي صاحب القصر: سألته أمس، قلت: يا أبا عبد الله ما تقول في القرآن؟ فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق.
قَالَ: فقلت له: إن الناس يزعمون أنك تقول: ليس في المصاحف قرآن ولا في صدور الناس.
فقال: استغفر الله أن تشهد على بشيء لم تسمعه مني، أقول كما قَالَ الله تعالى {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2)}.
أقول: في المصاحف قرآن وفي صدور الناس قرآن، فمن قَالَ غير هذا يستتاب، فإن تاب وإلا فسبيله سبيل الكفر). ذكره الخطيب البغدادي في تاريخه وأبو القاسم اللالكائي في شرح السنة.

قال عبد الواحد بن آدم الطواويسى: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع ذكره فسلمت عليه فرد السلام.
فقلت: ما وقوفك يا رسول الله؟
فقال: أنتظر محمد بن إسماعيل البخاري.
فلما كان بعد أيام بلغني موته فنظرنا فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيها). رواه الخطيب البغدادي.
قال مهيب بن سليم بن مجاهد: توفي أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم ليلة السبت، ليلة الفطر، سنة ست وخمسين ومائتين.

ردّ البخاري على الطائفتين:
كان الذين يقول بأن اللفظ بالقرآن غير مخلوق ينسبون قولهم هذا إلى الإمام أحمد، ويظنّون أنّ هذا قوله.
وكان الذين يقابلونهم في هذا الأمر يفعلون ذلك؛ فيدّعون نسبة هذا القول إلى الإمام أحمد، وأنّ هذا مذهبه.
وذلك بسبب ما في هذه المسألة من الغموض والالتباس، وظنّ كل طائفة أنّ هذا هو الحق ، وأن الإمام أحمد كان على ما يقولون به.

وقد ردّ البخاري على الطائفتين، وبيّن الحقّ في هذه المسألة في كتابه "خلق أفعال العباد" بياناً شافياً.
وكان فيما قال: (فأما ما احتج به الفريقان لمذهب أحمد ويدعيه كل لنفسه، فليس بثابت كثير من أخبارهم، وربما لم يفهموا دقة مذهبه، بل المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام الله غير مخلوق، وما سواه مخلوق، وأنهم كرهوا البحث والتنقيب عن الأشياء الغامضة، وتجنبوا أهل الكلام والخوض والتنازع إلا فيما جاء فيه العلم وبيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم "
ثم قال: (حدثنا إسحاق، أنبأ عبد الرزاق، أنبأ معمر، عن الزهري، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوما يتدارءون فقال: «إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضا، فلا تضربوا بعضه بعضا، ما علمتم منه فقولوا، وما لا، فكلوه إلى عالمه» قال أبو عبد الله: «وكل من اشتبه عليه شيء فأولى أن يكله إلى عالمه »
كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وما أشكل عليكم فكلوه إلى عالمه »)). [الإيمان بالقرآن:132 - 142]

جمهرة علوم القرآن
18 محرم 1439هـ/8-10-2017م, 07:21 PM
الباب الحادي عشر:اختلاف الفِرَق في القرآن



اختلاف الفِرَق في القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( اختلاف الفِرَق في القرآن
كان أئمة أهل السنة إنما يردّون على المعتزلة وغيرهم بالكتاب والسنة، ولا يتعاطون علم الكلام في الرد عليهم، ولا يتشاغلون به؛ فسلموا بذلك من فتن كثيرة.
ثم نشأ أقوام أرادوا الردّ على المعتزلة والانتصار لأهل السنة بالحجج المنطقية والطرق الكلامية؛ فخاضوا فيما نهاهم عنه أهل العلم؛ ووقعوا في بدع أخرى، وخرجوا بأقوال محدثة مخالفة لمنهج أهل السنة والجماعة.

فمن ذلك أن أبا محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري (ت: 243هـ) - وكان معاصراً للإمام أحمد بن حنبل- أراد الرد على المعتزلة بمقارعتهم بأصولهم المنطقية وحججهم الكلامية؛ فأدّاه ذلك إلى التسليم لهم ببعض أصولهم الفاسدة، وتمكّن من ردّ بعض قولهم وبيان فساده وإفحام بعض كبرائهم؛ فغرّه ذلك، وصنّف الكتب في الردّ على المعتزلة، واجتهد في ذلك اجتهاداً بالغاً، واشتهرت ردوده على المعتزلة، وإفحامه لبعض كبرائهم، وانقطاعهم عند مناظرته، فظنّ بذلك أنّه نصر السنة، وأعجبت ردودُه ومناظراته بعض من كان مغتاظاً من المعتزلة، فذاع صيته واشتهر ذكره، وأشادوا بذكائه وبراعته في المجادلة، حتى تبعه على طريقته بعض الناس وفتن بها.
وكان بسبب تقصيره في معرفة السنة وعلوم أهلها، وسلوكه طريقة المتكلّمين، وتسليمه للمعتزلة بعض أصولهم الفاسدة قد خرج بقول بين قول أهل السنة وقول المعتزلة، وأحدث أقوالاً لم تكن تعرف في الأمّة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وابن كلاب لما رد على الجهمية لم يهتدِ لفساد أصل الكلام المحدث الذي ابتدعوه في دين الإسلام بل وافقهم عليه).
فإنّه وافقهم على أصلهم الذي أصّلوه، وهو مبدأ امتناع حلول الحوادث به جلّ وعلا؛ وتفسيرهم لهم يقتضي نفي كلام الله تعالى، بل جميع الصفات الفعلية المتعلّقة بالمشيئة.
فلذلك خرج ابن كلاب بقول محدث في القرآن، وهو أنّه القرآن حكاية عن المعنى القديم القائم بالله تعالى، وأنّه ليس بحرف ولا صوت، ولا يتجزأ ولا يتباعض، ولا يتفاضل إلى آخر ما قال.
وهذا كلّه بسبب أنّه التزم هذا الأصل الذي أصّلوه وهو باطل.
ولابن كلاب أقوال أخرى محدثة في الصفات والإيمان والقدر.
قال ابن تيمية: (فأحدث ابن كلاب القول بأنه كلام قائم بذات الرب بلا قدرة ولا مشيئة. فهذا لم يكن يتصوره عاقل، ولا خطر ببال الجمهور، حتى أحدث القول به ابن كلاب).
وقال الذهبي عن ابن كلاب: (وقد صنف كتبا كثيرة في التوحيد والصفات، وبين فيها أدلة عقلية على فساد قول الجهمية. وبين أن علو الله تعالى على عرشه ومباينته لخلقه معلوم بالفطرة والأدلة العقلية، كما دل على ذلك الكتاب والسنة).
وظنّ بعض الجهلة أن ابن كُلاب قد انتصر لأهل السنة لمّا بيّن بعض باطل المعتزلة وتناقضهم بتلك الطريقة المبتدعة، ووافقه على طريقته من انتحل الطرق الكلامية في الردّ على المعتزلة؛ كالحارث بن أسد المحاسبي وأبي العباس أحمد بن عبد الرحمن القلانسي، ثم سلك هذه الطريقة فيما بعد أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري(324هـ) وأبو منصور محمد بن محمد الماتريدي (ت:333هـ) وامتاز كلّ واحد منهما عن الآخر بأقوال انفرد بها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (كان الناس قبل أبي محمد ابن كلاب صنفين:
- فأهل السنة والجماعة يثبتون ما يقوم بالله تعالى من الصفات والأفعال التي يشاؤها ويقدر عليها.
- والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر هذا وهذا.
فأثبت ابن كلاب قيام الصفات اللازمة به، ونفى أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها. ووافقه على ذلك أبو العباس القلانسي، وأبو الحسن الأشعري، وغيرهما)ا.هـ.

وقد أنكر أئمّة أهل السنة على ابن كلاب طريقته المبتدعة، وما أحدث من الأقوال، وحذّروا منه ومن طريقته.
قال ابن خزيمة: (كان أحمد بن حنبل من أشد الناس على عبد الله بن سعيد بن كلاب، وعلى أصحابه مثل الحارث وغيره).
وكان الحارث المحاسبي في أوّل أمره على طريقة أهل السنة وينزع إلى التصوف والكلام في الخطرات والوساوس ودقائق علم السلوك، وكان يُبكي الناس بمواعظه، وكَفّر أباه لأنّه كان واقفياً، ولم يرث من ماله الوفير شيئاً بعد موته على شدة فقره، ولمّا سُئل عن ذلك قال: (لا يتوارث أهل ملتين).
ثم إنّ الحارثَ أعجبته ردود ابن كلاب على المعتزلة فتبعه على قوله، وتكلّم بشيء من علم الكلام؛ فهجره الإمام أحمد وأمر بهجره وحذّر منه؛ فهجره أهل الحديث، حتى إنه لما مات لم يشهد جنازته سوى أربعة نفر.
وقد قيل: إنه رجع عن علم الكلام قبل موته، والله تعالى أعلم.
وكذلك كان إمام الأئمّة ابن خزيمة (ت:311هـ) من أشدّ العلماء على الكلابية، وأكثرهم تحذيراً منهم، وردّا عليهم.

وأما أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (ت:324هـ)؛ فإنّه كان معتزلياً في شبابه حتى بلغ الأربعين من عمره، وقد نشأ في كنف زوج أمّه أبي علي الجبّائي، وكان الجبّائي من رؤوس المعتزلة في زمانه، وعنه أخذ الأشعري علمَ الكلام حتى بلغ فيه الغاية عندهم؛ وعدّوه إماما من أئمّتهم، حتى كان الجبّائي ينيبه في بعض مجالسه.
وكان الأشعري تحيك في نفسه أسئلة لا يجد لها جواباً شافياً فيتحيّر فيها، ويسأل الجبّائيَّ فلا يجد عنده ما يشفيه، حتى ناظره في مسائل انقطع عنها الجبّائيّ؛ وتبيّن للأشعري فساد قول المعتزلة، وأدرك أنّهم موّهوا على الناس وفتنوهم.
فأصابته حيرة شديدة احتبس بسببها عن الناس خمسة عشر يوماً، ثم دخل جامع البصرة يوم الجمعة واعتلى المنبر، وأعلن للناس توبته من الاعتزال، والتزامه قول أهل السنة؛ وعزمه على الانتصار لها، والردّ على المعتزلة، وكان قد امتلأ غيظاً من المعتزلة بسبب تمويههم على الناس بشبهات تبيّن له بطلانها وفسادها وقبح مؤدّاها، وضياع شطر من عمره في أباطيلهم.
لكنّه كان متبحّراً في علم الكلام، قليل البضاعة في علوم السنّة؛ بصيراً بعلل أقوال المعتزلة وتناقضهم وتهافت أقوالهم، وأعجبته طريقة ابن كلاب؛ لقربها من فهمه وإدراكه؛ وكان يرى أنّ ابن كلاب متكلّم أهل السنّة، والمحاجّ عنهم؛ فانتهج طريقته واستدرك عليه فيها، وزاد فيها، واجتهد في الرد على المعتزلة ومناظرتهم حتى اشتهرت أخبار مناظراته وردوده، وإفحامه لعدد من أكابرهم بالطرق الكلامية والحجج العقلية المنطقية؛ حتى أحرجهم وصار بعضهم يتجنّب المجالس التي يغشاها الأشعري؛ فعظّمه بعض الناس لذلك، وعدّوه منافحاً عن السنّة، مبطلا لقول خصوم أهل السنة من المعتزلة.
ثمّ إنّه خاض في معامع الردود مدّة من عمره على هذه الطريقة، وهو يظنّ أنه ينصر السنّة المحضة، وهو – وإن كان أقرب إلى السنة من المعتزلة – إلا أنّه قد خالف أهل السنة وطريقتهم، وأحدث أقوالاً في مسائل الدين وأصوله لم تكن تعرف من قبل.
ثم إنّه في آخر حياته ألّف كتابه "الإبانة" الذي رجع فيه عن الطريقة الكلامية ، والتزم قول أهل الحديث، وكان مما قال فيه: (قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب الله ربنا عز وجل، وبسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل- نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين؛ فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم...) إلى آخر ما قال.
فهذا رجوع عامٌّ مجمل إلى قول أهل السنة، وقد حكى في الإبانة من عقيدته ما خالف فيه ابن كلاب في مسائل الصفات والكلام والقرآن وغيرها، وأخطأ في مسائل ظنّ أنه وافق فيها أهل السنة، وهو مخالف لهم؛ كمسألة الاستطاعة وغيرها.
ولذلك اختلف في شأنه أهل العلم؛ فمنهم من قال إنه رجع رجوعاً صحيحاً إلى مذهب أهل السنة، ومنهم من ذهب إلى أنّ رجوعه كان رجوعاً مجملاً لم يخل من أخطاء في تفاصيل مسائل الاعتقاد.
وعلى كلّ حال فإنّ أتباعه بقوا على طريقته الأولى، بل زادوا في أخذهم بالطرق الكلامية، ولم يزل الانحراف يزداد شيئاً فشيئا حتى عظمت الفتنة بالأشاعرة فيما بعد.
قال ابن تيمية: (ويوجد في كلام أبي الحسن من النفي الذي أخذه من المعتزلة ما لا يوجد في كلام أبي محمد بن كلاب الذي أخذ أبو الحسن طريقَه، ويوجد في كلام ابن كلاب من النفي الذي قارب فيه المعتزلة ما لا يوجد في كلام أهل الحديث والسنة والسلف والأئمة، وإذا كان الغلط شبراً صار في الأتباع ذراعاً ثم باعاً حتى آل هذا المآل؛ فالسعيد من لزم السنة)ا.هـ.
قال الإمام أحمد: (لا تجالس صاحب كلام وإن ذب عن السنة فإنه لا يؤول أمره إلى خير).
وقال أبو محمّد البربهاري: (ت:328هـ): ( احذر صغار المحدثات من الأمور؛ فإن صغار البدع تعود كبارا).
وكان البربهاري شيخ الحنابلة في زمانه، مهيباً مسموع الكلمة كثير الأتباع، وهو معاصر لأبي الحسن الأشعري، فدخل عليه أبو الحسن وعرض عليه ردوده على المعتزلة ؛ فأنكر عليه أبو محمد البربهاري طريقته.
وفي القرن الخامس ألّف الإمام الحافظ أبو نصر السجزي (ت:444هـ) في الردّ على ابن كلاب والأشعري والقلانسي رسالته في الحرف والصوت، وكتاب الإبانة، واجتهد في نصرة السنّة والذبّ عنها.

والمقصود أن ابن كلاب على ما لديه من المخالفات والمحدثات كان أقرب إلى أقوال السلف من أبي الحسن الأشعري، وكان أبو الحسن الأشعري مع ما أحدث أقرب من أتباعه الذين انتحلوا طريقته وزادوا فيها.
فإنّ الأشاعرة بعده كانوا على طبقات؛ كل طبقة يكون في بعض متكلميهم من الانحراف والأقوال المحدثة ما ليس عند متقدّميهم، فازدادوا بذلك بعداً عن السلف وعن طريقة أبي الحسن الأشعري التي كان عليها مع انتسابهم إليه، إلى أن وصل الأمر بمتأخري الأشاعرة كأبي المعالي الجويني وأبي بكر الرازي إلى نفي الصفات الخبرية جملة فلا يثبتون منها إلا ما دلّ على العقل، وجرّدوا القول بتقديم العقل على النقل.
وخلط بعض متأخري الأشاعرة التصوف بالكلام؛ فأنتج لهم ذلك أنواعاً من الأقوال الفاسدة المحدثة، والفتن العظيمة التي سرى أثرها في الأمّة بسبب تعصّب أتباعهم لأقوالهم، وتقريب بعض أصحاب السلطان للقضاة والفقهاء من ينتحلون هذه المذاهب؛ فعظمت الفتنة بهم في القرن السابع والثامن، وانبرى للردّ عليهم أئمة أهل السنة من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وغيرهما ، ولقوا في ذلك ما لقوا.


والمقصود التنبيه إلى أنّ فتنة القول بخلق القرآن؛ كانت فتنة عظيمة، سرى أثرها في الأمّة وتشعّب، وكانت سبباً من أسباب تفرّق الفرق وظهور النحل المخالفة لأهل السنة). [الإيمان بالقرآن:143 - 150]