مشاهدة النسخة كاملة : مسائل كتاب جمع القرآن
جمهرة علوم القرآن
12 محرم 1439هـ/2-10-2017م, 11:07 PM
مسائل كتاب جمع القرآن
[اضغط على المسألة لتطّلِع على شرحها]
عناصر الكتاب:
الباب الأوّل: مقدمات في جمع القرآن
- تمهيد (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159554#post159554)
- بيان تكفل الله بجمع القرآن وحفظه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159555#post159555)
- أنواع جمع القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159556#post159556)
- عناية العلماء المتقدمين ببيان مراحل جع القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159561#post159561)
- عناية علماء القرن الرابع عشر الهجري بتاريخ جمع القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159562#post159562)
- عناية علماء العصر بتاريخ جمع القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159572#post159572)
- مقاصد التأليف في جمع القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159575#post159575)
- مباحث جمع القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159577#post159577)
-الباب الثاني: جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
- جمع النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن في صدره (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159603#post159603)
- ذِكْرُ قُرّاء الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ جمع القرآن منهم (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159604#post159604)
- كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159605#post159605)
- تأليف القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159606#post159606)
- الباب الثالث: التعريف ببعض كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم
- عناية بعض العلماء بتتبّع أسماء كٌتاب النبي صلى الله عليه سلم (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159607#post159607)
- التعريف ببعض كُتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159608#post159608)
- الباب الرابع: معارضة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والعرضة الأخيرة
- معارضة جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159609#post159609)
- (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159609#post159609)معارضة أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم له بالقرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159610&posted=1#post159610)
- العرضة الأخيرة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159611#post159611)
- المراد بالعرضة الأخيرة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159612#post159612)
- معنى شهود العرضة الأخيرة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159613&posted=1#post159613)
- الباب الخامس: جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
- جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159614#post159614)
- أسباب جمع أبي بكر رضى الله عنه للقرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159615#post159615)
- أسباب اختيار زيد بن ثابت لكتابة المصحف (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159616#post159616)
- كيف كان جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159617#post159617)
- تفسير العُسبِ واللِّخَافِ والرّقاعِ والأكتافِ والأقتابِ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159618#post159618)
- الغرض من جمع أبي بكر (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159619#post159619)
- موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع أبي بكر الصديق للقرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159620#post159620)
- مصير مصحف أبي بكر (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159621#post159621)
- تنبيه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159622#post159622)
- تسمية المصحف (معنى المصحف) (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159623#post159623)
- مبدأ تسمية المصحف (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159624#post159624)
- أسماء أجزاء المصحف وملحقاته (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159625#post159625)
- الباب السادس: جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
- تمهيد (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159626#post159626)
- أسباب جمع عثمان رضي الله عنه للقرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159627#post159627)
- تأريخ جمع عثمان (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159629#post159629)
- موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع عثمان (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159630#post159630)
- وكذلك كان موقف كبار التابعين وقرائهم (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159631&posted=1#post159631)
- موقف ابن مسعود من جمع عثمان رضي الله عنهما (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159632#post159632)
- الباب السابع: كتابة المصاحف العثمانية
-كتابة المصاحف العثمانية (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159633#post159633)
- عدد المصاحف العثمانية (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159635&posted=1#post159635)
- مصير مصحف عثمان (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159636&posted=1#post159636)
- أسماء كتبة المصاحف العثمانية (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159637#post159637)
- الجمع العثماني والأحرف السبعة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159638#post159638)
- أمثلة لما تُرك من الأحرف السبعة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159639#post159639)
- الباب الثامن: الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما
- الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159640#post159640)
- المسألة الأولى: هل كان جمع أبي بكر الصديق في مُصحَف أو صحف غير مرتبة السور؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159641#post159641)
- المسألة الثانية: هل كان مصحف أبي بكر جامعاً للأحرف السبعة؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159642#post159642)
- المسألة الثالثة: هل كلّ ما خالف المصاحف العثمانية منسوخ بالعرضة الأخيرة؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159643#post159643)
- المسألة الرابعة: هل كان المصحف الذي جمعه عثمان نسخةً مطابقةً لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159644#post159644)
- المسألة الخامسة: الخلاصة في بيان الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما. (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159645#post159645)
- الباب التاسع: ترتيب السور والآيات في المصاحف
- ترتيب السور والآيات في المصاحف (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159646#post159646)
- المسألة الأولى: معنى تأليف القرآن (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159647#post159647)
- المسألة الثانية: ترتيب الآيات في السورة الواحدة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159648#post159648)
- المسألة الثالثة: ترتيب السور في المصحف (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159649#post159649)
- المسألة الرابعة: الكلام على حديث يزيد الفارسي عن ابن عباس في شأن سورتي الأنفال وبراءة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159650#post159650)
- المسألة الخامسة: الجواب عن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159651#post159651)
- المسألة السادسة: الفصل بين السور بالبسملة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159652#post159652)
- المسألة السابعة: سبب ترك كتابة البسملة في أول براءة (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159653#post159653)
- الباب العاشر: مصاحف الصحابة رضي الله عنهم
- مصاحف الصحابة رضي الله عنهم (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159670#post159670)
- هل كتب أحد من الصحابة مصحفاً على ترتيب النزول؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159671&posted=1#post159671)
- هل ثبت أن الصحابة علّقوا على مصاحفهم شيئاً من التفسير؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159672&posted=1#post159672)
- مصحف سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159676#post159676)
- مصحف أبي بكر رضي الله عنه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159677#post159677)
- مصحف عمر بن الخطاب رضي الله عنه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159678&posted=1#post159678)
- مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159679#post159679)
- مصحف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159690#post159690)
- مصحف أبيّ بن كعب رضي الله عنه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159691#post159691)
- مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159692#post159692)
- مصحف أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159694#post159694)
- مصحف أمّ المؤمنين حفصة رضي الله عنها (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159698#post159698)
- مصحف أمّ المؤمنين أمّ سلمة رضي الله عنها (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159705#post159705)
- مصحف عبد الله بن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159709#post159709)
- مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159710&posted=1#post159710)
- مصحف عبد الله بن عباس رضي الله عنهما (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159711&posted=1#post159711)
- مصحف عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159714&posted=1#post159714)
- مصحف عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159717&posted=1#post159717)
- الباب الحادي عشر: جواب ما أشكل من الروايات والمسائل في شأن جمع القرآن
- ما يثار من الأسئلة في جمع القرآن على نوعين (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159883#post159883)
- السؤال الأول: ما سبب عدم جمع القرآن الكريم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159886#post159886)
- السؤال الثاني: كيف يوثق بأنّ ما جُمع من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال قد تمّ به جمع القرآن؛ وما ضمانة عدم الزيادة عليه؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159893&posted=1#post159893)
- السؤال الثالث: كيف لم توجد آخر براءة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159897#post159897)
- السؤال الرابع: ما الجواب عما روي عن عثمان رضي الله عنه مما يفهم منه الاجتهاد في ترتيب الآيات؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159903&posted=1#post159903)
- السؤال الخامس: ما الجواب عن الخبر المروي عن زيد بن ثابت أنه قال في آخر آيتين من سورة التوبة: (لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة)؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159907#post159907)
- السؤال السادس: ما جواب ما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها»؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159914&posted=1#post159914)
- السؤال السابع: ما جواب ما روي عن عائشة رضي الله عنها في تلحين كتَّاب المصاحف وتخطئتهم؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159916&posted=1#post159916)
- السؤال الثامن: ما جواب ما روي عن ابن عبّاس في تخطئة بعض كتّاب المصاحف؟ (http://www.jamharah.net/showthread.php?p=159917&posted=1#post159917)
حفظ نسخة من الكتاب ( PDF ) من هنا (http://afaqattaiseer.com/up/do.php?id=1606)
http://afaqattaiseer.com/up/do.php?img=1424
جمهرة علوم القرآن
12 محرم 1439هـ/2-10-2017م, 11:20 PM
الباب الأول: مقدمات في جمع القرآن
تمهيد:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( تمهيد:
الحمد لله الذي أنزل القرآن وجعل فيه الهدى والنور، وحَفِظَه للمسلمين في الصدور وفي السطور، يُتلى على مَرِّ الأزمانِ، وتباعُدِ البلدانِ، لا يُخرَم منه حرف، ولا تُغيّر منه كلمة؛ قد تكفّل الله بجمعه وحفظه، وتيسيره وتبيينه، فهو قريب من طالبه، مُيسَّر لتاليه، لم تفلح محاولات أعداء الله في تحريفه، والطعن في ثبوته وحفظه، على شدّة عداوتهم، ونَهَمِهم في التشغيب والتشكيك، فكانوا كلما صالوا صولة لقصد التشكيك في جمعه، والطعن في ثبوته، ومحاولة تحريف شيء منه؛ عادوا خائبين بحسرتهم، لم يزيدوا على أن قدّموا أدلّة جديدة على حفظ الله لكتابه من طعن الطاعنين، وتحريف المحرّفين.
وتلك آية بيّنة تدلّ اللبيبَ الموفّق على أنَّ هذا القرآن العظيم محفوظ بحفظ الله، لا يبلغ كيد كائد مهما عَظُم كيدُه أن يسقط منه كلمة، أو يحرّف فيه شيئاً.
وإنّ من مهمّات ما ينبغي لطالب علم التفسير أن يعتني به معرفة مسائل جمع القرآن، وتاريخ تدوين المصاحف، وما يتّصل بذلك من المباحث، وأسباب عناية العلماء بها.
وسأوجز الحديث في هذا الباب عن مقدمات بين يدي دراسة مسائل جمع القرآن تعرّف بمعنى جمع القرآن، وأنواعه، ومراحله، وأوجه عناية العلماء بهذا العلم الشريف.
وأسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل بقبوله الحسن، وأن ينفع به، ويبارك فيه، إنه حميد مجيد
مقدمات في دراسة جمع القرآن
1. بيان تكفّل الله تعالى بجمع القرآن وحفظه
2. بيان أنواع جمع القرآن
3. عناية العلماء المتقدّمين ببيان مراحل جمع القرآن
4. عناية علماء القرن الرابع عشر الهجري بتاريخ جمع القرآن
5. عناية علماء العصر بتاريخ جمع القرآن
6. مقاصد التأليف في جمع القرآن
7. مباحث جمع القرآن). [جمع القرآن:5 - 6]
جمهرة علوم القرآن
12 محرم 1439هـ/2-10-2017م, 11:42 PM
1. بيان تكفل الله تعالى بجمع القرآن وحفظه:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (1. بيان تكفل الله تعالى بجمع القرآن وحفظه:
قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) }
والمراد بالذكر هنا القرآن، من غير خلاف بين المفسرين.
- قال عبد الرحمن بن زيد: (الذكر القرآن، وقرأ: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}). رواه ابن جرير.
- وقال ابن الجوزي في تفسير هذه الآية : (والذكر القرآن في قول جميع المفسّرين).
واختلف في مرجع الضمير في قوله تعالى: {وإنا له لحافظون} على قولين:
أحدهما: القرآن لأنّه أقرب مذكور، وهو قول مجاهد وقتادة وثابت وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وقال به أكثر المفسّرين.
والآخر: محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قول مقاتل بن سليمان، وذكره الفراء وابن جرير من غير نسبة، واستدلّ له الزمخشري والبغوي وغيرهما بقول الله تعالى: {والله يعصمك من الناس}.
وهذا القول ضعيف من وجهين:
أحدهما: أن سورة الحجر مكية، وسورة المائدة مدنية.
والآخر: أن الأصل أن يرجع الضمير إلى أقرب مذكور ما لم يصرفه صارف؛ ولا صارف هنا.
قال محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: (بيّن تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي نزل القرآن العظيم، وأنه حافظ له من أن يزاد فيه أو ينقص أو يتغير منه شيء أو يبدل، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيمٍ حميدٍ } وقوله: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} إلى قوله: {ثم إن علينا بيانه } وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية أن الضمير في قوله: {وإنا له لحافظون} راجع إلى الذكر الذي هو القرآن.
وقيل: الضمير راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كقوله: {والله يعصمك من الناس} والأول هو الحق كما يتبادر من ظاهر السياق)ا.هـ.
وفي المراد بحفظ القرآن هنا أقوال:
- فقال مجاهد: ({وإنا له لحافظون} أي عندنا) يريد في اللوح المحفوظ. رواه ابن جرير
- وقال قتادة وثابت: (حفظه الله من أن يزيد فيه الشيطان باطلاً أو يبطل منه حقا). رواه عبد الرزاق.
- وقال الزجاج: ( نحفظه من أن يقع فيه زيادة أو نقصان).
- وقال ابن عاشور: (وشمل حفظه الحفظ من التلاشي، والحفظ من الزيادة والنقصان، بأن يسّر تواتره وأسباب ذلك، وسلّمه من التبديل والتغيير حتى حفظته الأمّة عن ظهور قلوبها من حياة النبي صلى الله عليه وسلم فاستقرّ بين الأمّة بمسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وصار حفّاظه بالغين عدد التواتر في كلّ مصر)ا.هـ.
والمقصود أن الله تعالى قد تكفّل بحفظ القرآن، ومن حفظه أن هيَّأ الله أسباب جمعه، وتدوينه، وروايته بتواتر قطعي الثبوت؛ فلا يمكن لأحد مهما بلغ كيده أن يغيّر منه شيئاً أو يحرّف فيه.
وقال تعالى: {إنَّ علينا جمعه وقرآنه . فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه . ثمّ إنَّ علينا بيانه}
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث موسى بن أبي عائشة، قال: حدثنا سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباسٍ في قوله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} ، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدةً، وكان مما يحرك شفتيه - فقال ابن عباسٍ: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحركهما، وقال سعيدٌ: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباسٍ يحركهما فحرك شفتيه- فأنزل الله تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه}
قال: جمعه لك في صدرك وتقرأه {فإذا قرأناه فاتبع قرآنه} قال: فاستمع له وأنصت، {ثم إن علينا بيانه} ثم إن علينا أن تقرأه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه).
ففسَّر ابن عباس قوله تعالى: {جمعه وقرآنه} بقوله: (جمعه لك في صدرك، وتقرأه).
- وقال الفرّاء: ( {إنّ علينا جمعه} في قلبك {وقرآنه} وقراءته، أي أنّ جبريل سيعيده عليك).
- وقال البخاري في كتاب التفسير: ( {إن علينا جمعه وقرآنه} تأليف بعضه إلى بعض {فإذا قرأناه فاتّبع قرآنه} فإذا جمعناه وألّفناه فاتّبع - قرآنه أي: ما جمع فيه فاعمل بما أمرك الله وانته عمّا نهاك الله).
والمقصود بالجمع في هذه الآية جمعه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم فيحفظه مجموعاً لا يُنسى منه شيء، ولا يتفلَّت منه شيء إلا ما شاء الله أن ينسخه منه.
- {وقرآنه} مصدر بمعنى قراءته؛ يقال: قرأ يقرأ قرآنا وقراءة.
واختلف في سبب تحريك النبي صلى الله عليه وسلم لسانه على قولين:
أحدهما: أنه يريد تعجّل حفظه؛ كما في رواية الترمذي (يحرك به لسانه يريد أن يحفظه) وفي رواية النسائي (يعجل بقراءته ليحفظه).
- وفي رواية عند ابن أبي حاتم: (يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره).
والقول الآخر: أنه من شدّة حبّه إيَّاه، كما قال الشعبي: (كان إذا نزل عليه عجل يتكلم به من حبّه إياه). رواه ابن جرير.
وهذه الروايات ذكرها ابن حجر العسقلاني في فتح الباري ثم قال: (وكلا الأمرين مراد ولا تنافي بين محبته إياه والشدة التي تلحقه في ذلك؛ فأمر بأن ينصت حتى يقضى إليه وحيه ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره ونحوه قوله تعالى: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} أي بالقراءة)ا.هـ). [جمع القرآن: 7 - 11]
جمهرة علوم القرآن
12 محرم 1439هـ/2-10-2017م, 11:58 PM
2. أنواع جمع القرآن:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (2. أنواع جمع القرآن:
جمع القرآن على أنواع:
النوع الأول: جمعه حفظاً في الصدور، وقد جمعه النبي صلى الله عليه وسلم في صدره، وجمعه حملة القرآن من الصحابة في عهده صلى الله عليه وسلم منهم: أبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وسالم مولى أبي حذيفة، وثابت بن قيس، ومعاذ بن جبل، وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.
النوع الثاني: جمعه كتابةً في مصحف واحد، وهو الجمع الذي تولاه أبو بكر بإشارة من عمر بن الخطّاب لمّا استحرّ القتل في القراء في وقعة اليمامة.
النوع الثالث: جمعه على رَسْمٍ واحدٍ، ولغةٍ واحدةٍ هي لغة قريش، وهو الجمع الذي تولاه عثمان رضي الله عنه لما رأى اختلاف الناس في القراءات وخشي أن تحدث فتنة بسبب ذلك الاختلاف.
ومن أهل العلم من يضيف نوعين قبل هذه الأنواع:
أحدهما: جمعه في اللوح المحفوظ.
والثاني: جمعه في بيت العزّة في السماء الدنيا قبل نزوله منجماً على النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن الكلام في هذين النوعين داخل في علم نزول القرآن، ولا يكاد يذكرهما أهل العلم في مسائل جمع القرآن، وإنما غالب مباحث هذا العلم متعلقة بتدوين المصاحف). [جمع القرآن: 11 - 12]
جمهرة علوم القرآن
13 محرم 1439هـ/3-10-2017م, 09:26 AM
3. عناية العلماء المتقدمين ببيان مراحل جمع القرآن:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( 3. عناية العلماء المتقدمين ببيان مراحل جمع القرآن:
اعتنى أهل العلم ببيان تاريخ جمع القرآن وكتابته وما يتصل بذلك من مسائل كلّ بحسب ما انتهى إليه:
- فروى أهل الحديث في صحاحهم وسننهم ومسانيدهم مرويات كثيرة من الأحاديث والآثار في شأن جمع القرآن.
- وتكلّم شرّاح الأحاديث في بيان معاني هذه الأحاديث والآثار وجمع رواياتها وتخريجها؛ كالطحاوي والخطابي وابن عبد البر والمازري وابن العربي والقاضي عياض والنووي وابن حجر والعيني والقسطلاني وغيرهم، وهؤلاء من أكثر من فصّل القول في هذه المسائل.
- ولبعض المفسّرين عناية ببيان مسائل جمع القرآن في مقدمات تفاسيرهم كما فعل القرطبي، والخازن، وابن جزي، وابن كثير، والألوسي، وابن عاشور.
- ولعلماء رسم المصاحف عناية بمسائل جمع القرآن وكتابته وتدوينه؛ فأخرج أبو عبيد في كتابه فضائل القرآن آثاراً في جمع القرآن، ثم كتب ابن أبي داوود السجستاني في كتابه "المصاحف" وأبو عمرو الداني في مقدمة كتابه "المقنع في رسم مصاحف الأمصار" في هذا الباب فصولاً مهمة.
- وروى عمر بن شبّة في كتابه "تاريخ المدينة" آثاراً كثيرة في جمع القرآن، وذلك لأنّ جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما كانا في المدينة النبوية، وقد اعتنى في كتابه هذا بجمع وتصنيف الآثار المروية في ما وقع في المدينة النبوية من الوقائع والأحداث.
- ولبعض العلماء المتقدمين كتب مفقودة في عصرنا، نقل منها بعض أهل العلم في القرون الماضية نقولاً مهمة في هذا الباب، ومن تلك الكتب "كتاب القراءات" لأبي عبيد القاسم بن سلام، وهو أوّل كتاب صُنّفَ في القراءات، وكتاب "المصاحف" لأبي بكر ابن أشته تلميذ ابن مجاهد صاحب كتاب "السبعة في القراءات" وهو أوّل من اختار السبعة واقتصر عليهم.
- ولما ظهر التأليف الجامع لعلوم القرآن كان هذا الباب من أهم الأبواب التي عني بها العلماء الذين صنّفوا في هذا النوع، كما فعل علم الدين السخاوي (ت:643هـ) في كتابه "جمال القراء" إذ أفرد فيه مبحث "تأليف القرآن" وأراد به جمعَه وتدوينه، وبعده تلميذه أبو شامة المقدسي (ت:665هـ) في كتابه "المرشد الوجيز" ثم بدر الدين الزركشي (ت:795هـ) في كتابه "البرهان في علوم القرآن" ثم جلال الدين السيوطي (ت: 911هـ) في كتابه الكبير (الإتقان في علوم القرآن)). [جمع القرآن:12 - 13]
جمهرة علوم القرآن
13 محرم 1439هـ/3-10-2017م, 09:49 AM
4. عناية علماء القرن الرابع عشر الهجري بتاريخ جمع القرآن:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( 4. عناية علماء القرن الرابع عشر الهجري بتاريخ جمع القرآن:
وفي القرن الماضي كثرت محاولات الطاعنين في القرآن من المستشرقين والمنافقين، وبثوا ما استطاعوا من الشُّبَه والأضاليل؛ فظهر التأليف المفرد والتفصيل المطوّل في هذا الباب، وكان من أهمّ ما ألّف في ذلك القرن من الكتب في جمع القرآن:
- كتاب "تاريخ القرآن" للمفسّر الهندي عبد الحميد الفراهي (ت:1347هـ).
- وكتاب "تاريخ القرآن الكريم" لمحمد طاهر الكردي.
- ومن العلماء المؤلفين في علوم القرآن مَن أسهب في هذا الباب وزاده تفصيلاً وتحريراً كما فعل الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني (ت:1367هـ) في كتابه "مناهل العرفان" فإنَّه توسّع في هذا الباب ثم قال: (ولعلك أيها القارئ الكريم لا تستكثر منا هذا المجهود الطويل في حديث أنس السابق فإن بعض الملاحدة قد اتخذ منه مثاراً للطعن في تواتر القرآن، ومِن وظيفتنا أن نردَّ المَطَاعِنَ ونُفْحِمَ الطَّاعِن؛ فأردنا أن نشبع الكلام في هذا الموضوع عند هذه المناسبة أداء للواجب من ناحية، ولنستغني عن إيراده في الشبهات الآتية من ناحية أخرى. {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ})ا.هـ). [جمع القرآن:14]
جمهرة علوم القرآن
13 محرم 1439هـ/3-10-2017م, 01:37 PM
5. عناية علماء العصر بتاريخ جمع القرآن:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( 5. عناية علماء العصر بتاريخ جمع القرآن:
وما يزال التأليف في هذا الباب يتسّع وتزداد مباحثه؛ وتتنوع أوجه العناية به، ولعلماء هذا العصر عناية حسنة بهذا الباب جمعاً وتقريباً، وشرحاً وتحريراً؛ فكان هذا الباب من الأبواب المهمّة في علوم القرآن يدرسها طلاب التفسير في المقررات الدراسية في كثير من المعاهد والكليات والجامعات والدروس العلمية في المساجد والمراكز التعليمية وغيرها.
وممن كتب في هذا الباب فأحسن:
- الشيخ غانم قدوري الحمد في محاضراته في علوم القرآن.
- والشيخ فهد الرومي في كتابه "دراسات في علوم القرآن"
- والشيخ عبد الله الجديع في كتابه "المقدمات الأساسية في علوم القرآن"
- والشيخ مساعد الطيار في كتابه "المحرر في علوم القرآن"
وأفرد بعض الأساتذة الأفاضل كتباً في هذا الموضوع من أجمعها وأجودها:
1. كتاب "جمع القرآن حفظاً وكتابة"، للدكتور علي العبيد، نشره مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
2. وكتاب "جمع القرآن في عهد الخلفاء الراشدين" للدكتور فهد بن سليمان الرومي.
3. وكتاب " جمع القرآن في عهد الخلفاء الراشدين"، للدكتور عبد القيوم السندي، نشره مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
4. وكتاب " جمع القرآن دراسة تحليلية لمروياته"، للدكتور أكرم الدليمي، وهو رسالة علمية في جامعة بغداد.
5. وكتاب "جمع القرآن في مراحله التاريخية من العصر النبوي إلى العصر الحديث" للأستاذ: محمد شرعي أبو زيد، وهو رسالة علمية في جامعة الكويت). [جمع القرآن:15 - 16]
جمهرة علوم القرآن
13 محرم 1439هـ/3-10-2017م, 01:44 PM
6. مقاصد التأليف في جمع القرآن:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( 6. مقاصد التأليف في جمع القرآن:
يمكن إجمال مقاصد التأليف في ثلاثة مقاصد عظيمة النفع:
أولها: تبصير طلاب العلم بتاريخ جمع القرآن ومراحل تدوينه، وتقريب هذه المسائل وتلخيصها لهم.
وثانيها: دراسة المرويات في هذا الباب من الأحاديث والآثار وتخريجها وبيان أحكامها، والجواب عما يشكل من ذلك.
وثالثها:الردّ على شبهات الطاعنين في جمع القرآن وثبوته ألفاظه.
وهذه المعارف من أهمّ ما ينبغي أن يعتني به طالب علم التفسير، ولذلك حرصت على إقامة هذه الدورة العلمية رجاء تحقيق هذه المقاصد، والله الموفّق والمعين). [جمع القرآن:16]
جمهرة علوم القرآن
13 محرم 1439هـ/3-10-2017م, 01:51 PM
7. مباحث جمع القرآن:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( 7. مباحث جمع القرآن:
كلام أهل العلم في جمع القرآن مُجْمَلٌ في المباحث التالية:
1. مقدمات في جمع القرآن.
2. جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
3. كتابة الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، والتعريف بكُتّاب الوحي.
4. معارضة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، والعرضة الأخيرة.
5. جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
6. جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه.
7. كتابة المصاحف العثمانية.
8. الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما.
9. ترتيب السور والآيات في المصاحف.
10. مصاحف الصحابة رضي الله عنهم.
11. جواب ما أشكل من الروايات والمسائل في شأن جمع القرآن.
وفي كلّ مبحث من هذه المباحث تفصيل وإجابات على ما قد يشكل على بعض الدارسين، وردّ على شبهات الطاعنين في جمع القرآن، وقد بنيت هذا الكتاب على هذه المباحث، وأسأل الله تعالى العون والتسديد، والعفو عن الخطأ والتقصير، لا إله إلا هو، ولا حول ولا قوة إلا به). [جمع القرآن:17]
جمهرة علوم القرآن
14 محرم 1439هـ/4-10-2017م, 12:11 AM
الباب الثاني: جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
جمع النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن في صدره
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( جمع النبي صلى الله عليه وسلم للقرآن في صدره
تكفّل الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم بجمع القرآن في صدره وأن يقرأه كما أنزل الله، قال الله تعالى: {إن علينا جمعه وقرآنه}.
قال ابن عباس: (جمعه لك في صدرك وتقرأه).
وقال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
وقال تعالى: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله}
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يحفظ ما أنزل الله إليه من القرآن ولا ينسى منه إلا ما شاء الله مما اقتضت حكمته أن تُنسخ تلاوته.
وهذه أُولى مراتب جمع القرآن، وأصلها، وهي جمعه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم، جمعاً تاماً محفوظاً بضمان الله تعالى لا يتفلَّت ولا يختلف، ولا يخشى عليه ضياعاً ولا نسياناً). [جمع القرآن:19]
جمهرة علوم القرآن
14 محرم 1439هـ/4-10-2017م, 02:15 PM
ذِكْرُ قُرّاء الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ جَمَعَ القرآن منهم:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( ذِكْرُ قُرّاء الصحابة رضي الله عنهم ومَنْ جَمَعَ القرآن منهم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يُقرئ أصحابه القرآن، فيحفظ كلّ واحد منهم ما شاء الله أن يحفظ، وكانوا أهل حفظ وضبطٍ، وقيام بآيات الله آناء الليل وأطراف النهار؛ وكان ربما أمر بعض من يريد القراءة عليه بالقراءة على بعض قرّاء أصحابه أولاً.
- قال عبد الله بن مسعود: جاء معاذٌ إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله أقرئني! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( يا عبد الله أقرئه )) فأقرأتُه ما كان معي، ثمّ اختلفتُ أنا وهو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقرأه معاذٌ، وكان معلّمًا من المعلّمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه ابن أبي شيبة من عبد الله بن إدريس عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود.
- وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «خذوا القرآن من أربعةٍ من عبد الله بن مسعودٍ، وسالمٍ، ومعاذ بن جبلٍ، وأبي بن كعبٍ» رواه البخاري من طريق عمرو بن مرة عن إبراهيم النخعي عن مسروق عن عبد الله بن عمرو.
- وقال أنس بن مالك: (جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد أحد عمومتي) متفق عليه من حديث شعبة عن قتادة عن أنس.
وهذا القول من أنس رضي الله عنه وإن كان خاصاً بذكر من جَمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس على سبيل الحصر؛ فإنه قد ثبت جمع غيرهم للقرآن كابن مسعود وعبد الله بن عمرو بن العاص، وقد يكون إنما ذكر ما بلغه من ذلك.
- وقال عامر بن شراحيل الشعبي وكان لقي نحو خمسمائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قرؤوا القرآن في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم: أبيٌّ، ومعاذٌ، وزيدٌ، وأبو زيدٍ، وأبو الدّرداء، وسعيد بن عبيدٍ، ولم يقرأه أحدٌ من الخلفاء من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم إلاّ عثمان، وقرأه مجمّع ابن جارية إلاّ سورةً أو سورتين). رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن إدريس عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي.
ثمّ بلغ الذين جمعوا القرآن من الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم عددا كبيراً يصعب حصرهم.
قال أبو شامة المقدسي في كتابه "المرشد الوجير": (وقد سمَّى الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام أهلَ القرآن من الصحابة في أول "كتاب القراءات" له
- فذكر من المهاجرين: أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلياً، وطلحة، وسعداً، وابن مسعود، وسالماً مولى أبي حذيفة، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعمرو بن العاص، وأبا هريرة، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن السائب قارئ مكة.
- ومن الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وأبا الدرداء، وزيد بن ثابت، ومجمع بن جارية، وأنس بن مالك.
- ومن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: عائشة، وحفصة، وأم سلمة.
قال: وبعض ما ذكرنا أكثر في القراءة وأعلى من بعض، وإنما خصصنا بالتسمية كل من وصف بالقراءة، وحكي عنه منها شيء)ا.هـ.
وكتاب القراءات لأبي عبيد مفقود، ويضاف إلى من ذكرهم على وصفه: ثابت بن قيس بن شماس، وأسيد بن الحضير، وأبو اليسر الأنصاري، وعثمان بن أبي العاص، وعقبة بن عامر، وشريح الحضرمي رضي الله عنهم أجمعين.
وقتلى بئر معونة من الصحابة رضي الله عنهم عامّتهم من القراء وكانوا سبعين رجلاً.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: (ما رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وجدَ على سريَّة ما وجد على السبعين الذين أصيبوا يوم بئر معونة، كانوا يُدعون القُرَّاء؛ فمكث شهراً يدعو على قتلتهم). رواه مسلم من حديث سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن أنس.
وهؤلاء كانوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي صحيح البخاري وغيره من حديث ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده؛ قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن..) فذكر الحديث.
وهذا مما يدلّ على كثرة القرّاء من الصحابة لأنهم يبلغون أن يكونوا جيشاً يقاتل الأعداء ولهم شوكة.
قال الحافظ ابن حجر: (وهذا يدلّ على أن كثيراً ممن قُتل في وقعة اليمامة كان قد حفظ القرآن، لكن يمكن أن يكون المراد أنَّ مجموعهم جمعه لا أن كلَّ فرد جمعه)ا.هـ.
والمقصود أنّ القرآن كان مجموعاً في صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على نوعين من الجمع:
النوع الأول: الجمع الفردي؛ والمراد به أن يجمعه الفرد من أوّله إلى آخره في صدره حفظاً واستظهاراً، وقد جمعه بهذا المعنى جماعة من قرّاء الصحابة رضي الله عنهم، ومنهم: عثمان بن عفان، وعليّ بن أبي طالب، وأبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو الدرداء، وأبو زيد النجاري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، ومجمع بن جارية، وغيرهم.
والنوع الثاني: الجمع العام، وهو أن تكون كلّ آية من القرآن محفوظة في صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لا تبقى آية غير محفوظة في صدورهم، وهذا النوع مظاهر للنوع الأول؛ فإنّ الذين يحفظون بالمعنى الثاني عدد كثير يصعب حصرهم، وتحصل الطمأنينة بحفظهم وضبطهم.
قال بدر الدين الزركشي: (كل قطعة منه كان يحفظها جماعة كثيرة أقلُّهم بالغون حدَّ التواتر)). [جمع القرآن:19 - 23]
جمهرة علوم القرآن
14 محرم 1439هـ/4-10-2017م, 02:23 PM
كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( كتابة القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه شيء من القرآن يأمرُ بعض الكُتّاب من أصحابه أن يكتبوا له، وكان من أؤلئك الكُتّاب: خالد بن سعيد بن العاص، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وشرحبيل بن حسنة، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وحنظلة بن الربيع، وأبان بن سعيد بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين.
وكانت الآيات تكتب في الرِّقَاع واللِّخَافِ والعُسُب والأكتاف والألواح، ونحو ذلك.
- روى البخاري في صحيحه من طريق إسرائيل بن يونس عن جدّه أبى إسحاق السبيعي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (لما نزلت {لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فى سبيل الله} قال النبى صلى الله عليه وسلم: « ادع لى زيداً وليجئ باللوح والدواة والكتف » - أو الكتف والدواة - ثم قال « اكتب: {لا يستوى القاعدون} » وخلف ظهر النبيّ صلى الله عليه وسلم عمرو بن أم مكتوم الأعمى، قال: يا رسول الله؛ فما تأمرنى؛ فإنى رجلٌ ضريرُ البصر؛ فنزلت مكانها: [لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله غير أولي الضرر]). هكذا ترتيب الآية في هذه الررواية، ولعلها - إن كانت محفوظة - حرفاً من الأحرف السبعة التي نسخت بما أُثبتَ في الجمع العثماني كما هو مشهور في المصاحف اليوم.
قال ابن حجر: (هكذا وقع بتأخير لفظ {غير أولي الضرر} والذي في التلاوة {غير أولى الضرر} قبل {والمجاهدون في سبيل الله} وقد تقدم على الصواب من وجه آخر عن إسرائيل)ا.هـ.
وفي رواية عند الإمام أحمد وغيره من طريق عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه زيد بن ثابت أنه قال: (فألحقتُها؛ فوالله لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدعٍ كانَ في الكتف).
وكان من الصحابة من يَكتب لنفسه، فمستقلّ ومستكثر، ومنهم من يحفظ ولا يكتب، لكن ثبت في الصحيح أنه وجد مكتوباً تاماً من مجموع ما عند الصحابة رضي الله عنهم). [جمع القرآن:23 - 24]
جمهرة علوم القرآن
14 محرم 1439هـ/4-10-2017م, 02:25 PM
تأليف القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تأليف القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كُتَّاب الوحي بتأليف القرآن أي جمع آيات كلّ سورة منه ووضع الآيات في مواضعها التي أرادها الله، ولم يكن الوحي قد انقطع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان إذا أوحي إليه بشيء من القرآن بعث إلى بعض الكتّاب من أصحابه فكتبوا له وعيّن لهم مواضع الآيات من كلّ سورة .
ومما رُوي في ذلك حديث عوف بن أبي جميلة عن يزيد الفارسي عن ابن عباس عن عثمان بن عفان أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا أنزل عليه الشىء دعا بعض من يكتب له فيقول: (( ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا )) ، وإذا أنزلت عليه الآيات قال: (( ضعوا هذه الآيات فى السورة التي يذكر فيها كذا وكذا )) ، وإذا أنزلت عليه الآية قال: (( ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا)) ). رواه الإمام أحمد وأبو داوود والترمذي وغيرهم في خبر طويل، ومداره على يزيد الفارسي، وقد اختلف فيه؛ فقال أبو حاتم الرازي لا بأس به، وقال ابن حجر: مقبول، وهو تابعي من أهل البصرة، قليل الرواية، لم يرو عنه غير عوف بن أبي جميلة الأعرابي في قول يحيى بن معين.
وسيأتي الحديث عن تمام الخبر إن شاء الله، لكن هذا القدر منه مما لا نكارة فيه.
وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع إذ قال: (( طوبى للشام ))
قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟
قال: (( إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها )). رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والترمذي وابن حبان والبيهقي وغيرهم من طريق يحيى بن أيوب عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة عن زيد بن ثابت.
قال أبو بكر البيهقي رحمه الله: (وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانت مثبتة في الصدور مكتوبة في الرقاع واللخاف والعسب)أ.ه.
والمقصود أن آيات السور ذوات العدد الكثير من الآيات قد يتراخى نزولها فيستتم بعد سنوات وكان النبي صلى الله عليه وسلم يرشد كتّاب الوحي إلى موضع كلّ آية في السورة التي يعيّنها لهم؛ فيكتبونها كما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال النووي رحمه الله: (اعلم أن القرآن العزيز كان مؤلَّفاً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم على ما هو في المصاحف اليوم، ولكن لم يكن مجموعاً في مصحف، بل كان محفوظاً في صدور الرجال؛ فكان طوائف من الصحابة يحفظونه كلَّه، وطوائف يحفظون أبعاضاً منه)ا.هـ.
قلت: وهو كما هو محفوظ في الصدور؛ فهو محفوظ في السطور، لكنّه كان متفرّقاً في صحائف الصحابة رضي الله عنهم، وقد تتبعه زيد بن ثابت بأمر أبي بكر رضي الله عنه حتى وجده مكتوباً تاماً على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
ولم يجمع القرآن في مصحف واحد بين دفّتين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف بين أهل العلم.
قال الديرعاقولي: حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد، عن زيد بن ثابت قال: « قُبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء ». ذكره الحافظ ابن حجر في الفتح.
وقال ابن جرير الطبري: حدثني سعيد بن الربيع، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: « قُبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جُمع، وإنما كان في الكرانيف والعسب »
وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً من أن ينسى شيئاً من القرآن؛ فكانت حياته ضماناً لحفظ القرآن وإن لم يُكتَب، ولأنَّ القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان يزاد فيه وينسخ منه ؛ فكان جمعه في مصحف واحد في عهده مظنة لاختلاف المصاحف، وفي ذلك مشقة بالغة.
قال النووي: (وإنما لم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم في مصحف واحد لما كان يتوقع من زيادته ونسخ بعض المتلو، ولم يزل ذلك التوقع إلى وفاته صلى الله عليه وسلم)ا.هـ). [جمع القرآن:25 - 27]
جمهرة علوم القرآن
14 محرم 1439هـ/4-10-2017م, 11:07 PM
الباب الثالث: التعريف ببعض كتاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم
عناية بعض العلماء بتتبّع أسماء كٌتاب النبي صلى الله عليه سلم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( عناية بعض العلماء بتتبّع أسماء كٌتاب النبي صلى الله عليه سلم
كتبَ للنبي صلى الله عليه وسلم جماعةٌ من أصحابِه رضي الله عنهم وأرضاهم، وقد اختلفت الأقوال في عَدَدِهم وتَعْدَادهم؛ وأقدم ما وصلنا من أخبار تعدادهم أثر عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، وذلك فيما رواه محمد بن حميد الرازي قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر [بن الزبير] عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استكتب عبد الله بن الأرقم؛ فكان يكتب إلى الملوك فبلغ من أمانته عنده أنه كان يكتب إلى بعض الملوك، فيكتب ثم يأمره أن يطبقه ثم يختم لا يقرأه لأمانته عنده، واستكتب أيضا زيد بن ثابت، فكان يكتب الوحي، ويكتب إلى الملوك أيضا، وكان إذا غاب عبد الله بن الأرقم وزيد بن ثابت، فاحتاج أن يكتب إلى بعض أمراء الأجناد والملوك، ويكتب لإنسان كتابا يقطعه أمر من حضر أن يكتب، وقد كتب له عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية بن أبي سفيان، وخالد بن سعيد بن العاص رضي الله عنهم وغيرهم ممن قد سمي من العرب» أخرجه أبو القاسم البغوي في معجم الصحابة، والطبراني في الكبير، والبيهقي في السنن الكبرى، وابن عساكر في تاريخ دمشق، وقد تصحّف اسم "محمد بن جعفر" في المطبوع من معجم الطبراني إلى "محمد بن جعفر بن عبد الله بن الزبير"، ومحمد بن جعفر ثقة من رجال الصحيحين إلا أن روايته عن عمّه عبد الله بن الزبير مرسلة.
وعُني جماعة من العلماء بتتبّع أسماء كُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأفرد في ذلك عمر بن شبّة النميري (ت:262هـ) مصنّفاً مفرداً سمّاه (الكُتَّاب) وذكر منهم ثلاثة وعشرين كاتباً مما جمعه من الروايات التي فيها ذِكْرٌ لكتابة أحد من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وكتاب عمر بن شبَّة مفقود، لكنَّه كان متداولاً عند العلماء السابقين، وقد لخَّص أبو القاسم السهيلي (ت:581هـ) في كتابه "الروض الأنف" أسماء أؤلئك الكُتَّاب الذين ذكرهم عمر بن شبّة؛ فقال بعد خبر كتابة صلح الحديبية: (وقد كتب له [صلى الله عليه وسلم] عدة من أصحابه منهم: عبد الله بن الأرقم، وخالد بن سعيد، وأخوه أبان، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، وأبي بن كعب القارئ، وقد كتب له أيضا في بعض الأوقات أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وكتب له كثيراً معاوية بن أبي سفيان بعد عام الفتح، وكتب له أيضا الزبير بن العوام، ومعيقيب بن أبي فاطمة، والمغيرة بن شعبة، وشرحبيل بن حسنة وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وجُهيم بن الصلت، وعبد الله بن رواحة، ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن سعد بن أبي سرح، وحنظلة الأسيدي وهو حنظلة بن الربيع وفيه يقول الشاعر بعد موته:
إنَّ سواد العين أودى به ... حزن على حنظلة الكاتب
والعلاء بن الحضرمي، ذكرهم عمر بن شبة في كتاب "الكُتَّابِ" له)ا.هـ.
وهؤلاء الكتاب منهم من كان مكثراً معروفاً بالكتابة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يُعثر في خبرٍ أو خبرين على أنه كتب للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولذلك اقتصر علي بن الحسين المسعودي (ت:346هـ) في تعدادهم على ستة عشر كاتباً في كتابه "التنبيه والإشراف" ثم قال: (وإنما ذكرنا من أسماء كُتَّابِه صلّى الله عليه وسلّم من ثبت على كتابته واتصلت أيامه فيها وطالت مدته وصحت الرواية على ذلك من أمره دون من كتب الكتاب والكتابين والثلاثة إذ كان لا يستحق بذلك أن يسمى كاتباً ويضاف إلى جملة كتابه)ا.هـ.
وقال الحافظ عبد الغني المقدسي (ت:600هـ) في مختصره في السيرة: (كتب له صلّى اللّه عليه وسلّم: أبو بكرٍ الصّدّيق، وعمر بن الخطّاب، وعثمان بن عفّان، وعليّ بن أبي طالبٍ، وعامر بن فهيرة، وعبد اللّه بن الأرقم الزّهريّ، وأبيّ بن كعبٍ، وثابت بن قيس بن شمّاسٍ، وخالد بن سعيد بن العاص، وحنظلة بن الربيع الأسديّ، وزيد بن ثابتٍ، ومعاوية بن أبي سفيان، وشرحبيل ابن حسنة.
وكان معاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابتٍ ألزمهم لذلك، وأخصّهم به)ا.هـ.
فهؤلاء ثلاثة عشر كاتباً ذكرهم في مختصره في السيرة، وفي مقدّمة كتابه (الكمال في أسماء الرجال) ، ولم يزد عليه الحافظ المزّي في تهذيبه للكمال غيرَهم.
ثمّ أتى الحافظ ابن كثير (ت:774هـ) فعقد فصلاً طويلاً في البداية والنهاية للتعريف بكُتَّاب النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر منهم ستة وعشرين كاتباً وذكر بعض أخبارهم وشيئاً من تراجمهم.
ثمَّ تتبَّعهم الحافظ زين الدين العراقي (ت:806هـ) وذكر كلَّ من وقف على خبر له أنه كتب للنبي صلى الله عليه وسلم حتى أوصلهم إلى اثنين وأربعين كاتباً، ونظم أسماءهم في ألفيته في السيرة النبوية، وقد شرحها الحافظ المُناوي (ت:1031هـ) في كتاب له سمَّاه (العجالة السنيّة على ألفيّة السيرة النبوية).
قال العراقيّ في ألفيّته بعد أن نظم أسماء الذين ذكرهم الحافظان عبد الغني المقدسي وأبو الحجاج المِزي:
واقتصر المزيّ مع عبد الغنيّ ... منهم على ذا العدد المبيَّنِ
وزِدتُ من مفترقاتِ السِّيَرِ ... جمعاً كثيراً فاضبطنْهُ واحصُرِ
وقبله كتب أبو عبد الله محمد بن علي ابن حُديدة الأنصاري (ت:783هـ) كتاباً مفرداً في هذا الباب سمَّاه (المصباح المضيء في كُتَّاب النبيّ الأميّ ورسله إلى ملوك الأرض من عربيّ وعجميّ) وأوصلهم إلى أربعة وأربعين كاتباً، وكتابه مطبوع.
ثم في هذا العصر ألَّف الدكتور محمد مصطفى الأعظمي كتاباً سمّاه (كُتَّاب النبيّ صلى الله عليه وسلم) وأوصلهم إلى ثمانية وأربعين كاتباً.
وفي بعض الأسماء المضافة في هذه الكتب نظر، وتتبُّعُ أسمائهم يُحتاج فيه إلى مزيد دراسة وتحقيق للمرويات.
وهذا في عموم الكُتَّاب الذين رُوي أنّهم كتبوا للنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أمر بكتابته وإن كان من غير القرآن، وأكثر الآثار المروية في هذا الباب هي في كتابة غير القرآن من العهود والرسائل، وكُتُب الأمان، والصلح، والحقوق، والديات، والأعطيات، والصدقات، وخَرْصِ الثمارِ، والمكتَتبين في الغزوات، وغير ذلك من أغراض الكتابة، وفي المروي من ذلك الصحيح والضعيف.
والذي يعنينا في هذا الباب هو أسماء الذين كتبوا القرآن للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت أنّهم جماعة، وأنَّ الكتابة كانت على سنوات متعاقبة). [جمع القرآن:29 - 33]
جمهرة علوم القرآن
14 محرم 1439هـ/4-10-2017م, 11:12 PM
التعريف ببعض كُتَّاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلَّم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( التعريف ببعض كُتَّاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلَّم
كتبَ الوحي للنبي صلى الله عليه وسم جماعة من قراء أصحابه رضي الله عنهم، ومنهم: خالد بن سعيد بن العاص، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وشرحبيل بن حسنة، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وحنظلة بن الربيع، وأبان بن سعيد بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان.
وكتب له أيضاً: عبد الله بن سعد بن أبي السرح، ورجلٌ من بني النجار.
قال المقريزي في "إمتاع الأسماع" : (وكان كتاب الوحي: عثمان بن عفان، وعلى بن أبى طالب، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، فإن غابا كتب أبى بن كعب، وزيد بن ثابت، رضى اللَّه تبارك وتعالى عنهما، وكان أبىّ ممن كتب لرسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، الوحي قبل زيد بن ثابت، وكتب معه أيضا.
وكان زيد ألزم الصحابة لكتابة الوحي، وكان زيد وأبىّ يكتبان الوحي بين يدي رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فإن لم يحضر أحد من هؤلاء الأربعة، كتب من حضر من الكتاب، وهم: معاوية بن أبى سفيان، وخالد بن سعيد، وأبان بن سعيد، والعلاء بن الحضرميّ، وحنظلة بن الربيع، وكتب عبد اللَّه بن سعد بن أبى سرح الوحي، ثم ارتد)ا.هـ.
1. خالد بن سعيد بن العاص بن أمية القرشيّ، من السابقين الأولين إلى الإسلام أسلم بعد أبي بكر، وهو شابّ حديث عهد بزواج، وأوذي في الله فصبر مع من صبر، ثمّ أذن له النبي صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى الحبشة؛ فهاجر مع جعفر بن أبي طالب، وقدم معه عام خيبر، ولزم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، وشهد معه المشاهد، وكان فصيحاً جميلاً شجاعاً أميناً حصيفاً، وهو الذي ولي عقد نكاح أمّ المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان؛ إذ كان أقرب أوليائها من المسلمين حينئذ.
واستعمله النبيّ صلى الله عليه وسلم على صدقات اليمن، وكان من كتّابه، ووهبه صمصامة عمرو بن معدي كرب الزبيدي المذكورة، وهو صاحب أوّل لواء عقده أبو بكر لحرب المرتدين، وقاتل الروم في الشام تحت إمرة خالد بن الوليد، واستشهد في وقعة مرج الصفر سنة ثلاث عشرة للهجرة.
وكان من وصيّة أبي بكر لشرحبيل بن حسنة: (فإذا نزل بك أمر تحتاج فيه إلى رأي التقى الناصح فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وليك خالد بن سعيد ثالثاً؛ فإنك واجد عندهم نصحا وخيرا، وإياك واستبداد الرأي عنهم أو تطوي عنهم بعض الخبر). رواه ابن سعد في الطبقات.
قالت ابنته أم خالد وهي صحابية رضي الله عنها: (كان أبي خامساً في الإسلام، وهاجر إلى أرض الحبشة، وأقام بها بضع عشرة سنة، وولدت أنا بها). ذكره الذهبي في تاريخ الإسلام.
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: وروى إبراهيم بن عقبة، عن أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص، قالت: (أبي أوَّل من كتب بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).
فإن ثبت هذا فهو أوّل من كتب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم بمكّة.
2. عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية القرشي، ذو النورين، وثالث الخلفاء الراشدين، وأحد العشرة المبشرين بالجنّة، بشَّره النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة، وكان كثير التلاوة ربما قرأ القرآن في ليلة، وفضائله كثيرة معروفة.
كان يحسن الكتابة، وقد كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد رُوي أنّه أوّل من كتب المفصّل.
- روى محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: لما قدم المصريون دخلوا على عثمان رضي الله عنه؛ فضرب ضربة على يده بالسيف، فقطر من دم يده على المصحف وهو بين يديه يقرأ فيه على {فسيكفيكهم الله}
قال: وشدَّ يده وقال: «إنها لأول يد خطَّت المفصل» ). رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة.
- وروى ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: (لما ضَرب الرَّجلُ يدَ عثمان قال: « إنها لأول يد خطت المفصل »). رواه الطبراني وابن أبي عاصم.
- وذكر عمر بن شبّة في تاريخ المدينة وابن كثير في البداية والنهاية في خبر مقتله أنه ضُرب بالسيف وهو ناشر المصحف بين يديه، فاتّقى الضربة بيده فقُطعت يده؛ فقال: والله إنها أول يدٍ كتبتِ المفصَّل، فكان أوَّل قطرة دم منها سقطت على هذه الآية {فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم}.
وكان استشهاده يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من شهر ذي الحجة سنة خمس وثلاثين للهجرة.
وذكر ابن كثير في البداية والنهاية عن المدائني عن أشياخه أنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما جعل الخلافة من بعده شورى بين الستة قال: (ما أظن الناس يعدلون بعثمان وعلي أحداً، إنهما كانا يكتبان الوحي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينزل به جبريل عليه)ا.هـ.
3. علي بن أبي طالب رضي الله عنه، رابع الخلفاء الراشدين، من السابقين الأولين إلى الإسلام، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، من قراء الصحابة وفقهائهم ومن أعلمهم بالتفسير ونزول القرآن، وفضائله كثيرة معروفة.
قال أبو الطفيل عامر بن واثلة: شهدت عليا وهو يخطب ويقول: (سلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار وأم في سهل، أم في جبل). رواه عبد الرزاق في تفسيره.
كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي وغيره، وهو الذي كتب صلح الحديبية.
4. شرحبيل بن حسنة، وهو شرحبيل بن عبد الله بن المطاع الكندي، وحَسَنةُ أمُّه، تزوجها رجل من قريش بعد أبيه، وتبنّى ابنها في الجاهلية، ولذلك نشأ في قريش وهو كنديّ، ثم حالف بني زهرة في خلافة عمر بعد موت أخويه لأمّه.
وشرحبيل بن حسنة من السابقين الأولين إلى الإسلام، أسلم قديماً بمكة، وهاجر إلى الحبشة، وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد أمراء الجيوش الذين أمَّرهم أبو بكر في فتوح الشام، مات في طاعون عمواس سنة 18هـ وهو ابن سبع وستين.
قال ابن حُديدة الأنصاري(ت:783هـ): (وهو أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم).
5. أبو المنذر أبيّ بن كعب بن قيس النجاري الخزرجي الأنصاري، شهد بيعة العقبة الثانية، وبدراً وما بعدها، وكان من علماء الصحابة وقرائهم الكبار.
قال ابن سعد في الطبقات: (وكان أبيّ يكتب في الجاهلية قبل الإسلام وكانت الكتابة في العرب قليلة، وكان يكتب في الإسلام الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال ابن عبد البر: (وكان أبيّ بن كعب ممن كتب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحي قبل زيد بن ثابت ومعه أيضًا، وكان زيد ألزم الصحابة لكتابه الوحي، وكان يكتب كثيرًا من الرسائل).
وقال أحمد بن يحيى البلاذري(ت:279هـ) في كتابه "فتوح البلدان": (وحدثني الوليد ومحمد بن سعد عن الواقدي عن أشياخه قالوا: أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مَقْدَمَهُ المدينةَ أبيُّ بن كعب الأنصاري، وهو أول من كتب في آخر الكتاب: "وكتب فلان"؛ فكان إذا لم يحضر دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت الأنصاري؛ فكتب له؛ فكان أبيّ وزيد يكتبان الوحي بين يديه).
وقال أحمد بن زهير ابن أبي خيثمة (ت:279هـ): ( كان أول من كتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب؛ فكان إذا لم يحضر دعا زيد بن ثابت؛ فكانا يكتبان له الوحي ويكتبان إلى من كاتبه من الناس، وكان يكتب له عثمان بن عفان، وخالد بن سعيد، وأبان بن سعيد كتبه إلى من يكاتب من الناس وما يُقْطِع وغير ذلك). رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
قوله: (أول من كتب..) يريد بالمدينة.
6: زيد بن ثابت بن الضحاك النجاري الأنصاري، من أشهر كتّاب الوحي،
قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهو ابن إحدى عشرة سنة، وكان غلاماً ذكيا فَهماً فطناً، حسن التعلم، ماهراً بالكتابة؛ فكان النبي صلى الله عليه السلام يعلّمه القرآن، ويأمره بكتابة الوحي؛ وكان جاراً للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فلزمه وتعلّم منه، وشاهد نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وعرض عليه القرآن مراراً.
- روى الزهري عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: اكتب: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله} فجاء عبد الله ابن أم مكتوم ، وقال: يا رسول الله «إني أحب الجهاد في سبيل الله , ولكن فيَّ من الزمانة ما قد ترى، وذهب بصري»
قال زيد: «فثقلت فخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي؛ حتى حسبت أن يرضها» ثم قال: " اكتب: {لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله} ). رواه عبد الرزاق.
ولمّا عزم أبو بكر على جمع القرآن قال له: « إنك رجل شاب عاقل، ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه». رواه البخاري.
- قال ابن شهاب الزهري: حدثني سعيد بن سليمان، عن أبيه سليمان، عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان «إذا نزل عليه أخذته برحاء شديدة، وعرق عرقا شديدا مثل الجمان، ثم سري عنه» ، فكنت أدخل عليه بقطعة الكتف أو كسرة، فأكتب وهو يملي علي، فما أفرغ حتى تكاد رجلي تنكسر من ثقل القرآن، وحتى أقول: لا أمشي على رجلي أبدا، فإذا فرغت قال: «اقرأه» ، فأقرؤه، فإن كان فيه سقط أقامه، ثم أخرج به إلى الناس). رواه الطبراني في الكبير والأوسط.
وقال الليث بن سعد: حدثني أبو عثمان الوليد بن أبي الوليد عن سليمان بن خارجة عن خارجة بن زيد بن ثابت قال: «دخل نفر على زيد بن ثابت؛ فقالوا له حدّثنا أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ماذا أحدّثكم؟ كنت جاره فكان إذا نزل عليه الوحي بعث إليّ فكتبته له، فكنّا إذا ذكرنا الدنيا ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطّعام ذكره معنا، فكلّ هذا أحدّثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم». رواه الترمذي في الشمائل المحمدية، وأبو الشيخ الأصبهاني، والطبراني في الأوسط والكبير والبيهقي في السنن الكبرى ودلائل النبوة وغيرهم، وحسّنه الهيثمي في مجمع الزوائد.
الوليد بن أبي الوليد روى له البخاري في الأدب المفرد، ووثّقه أبو زرعة الرازي، وذكره ابن حبان في الثقات وقال ربما خالف على قلة روايته، ولذلك قال ابن حجر في التقريب: ليّن الحديث، وفي هذا الحكم نظر، فقد وثّقه يحيى بن معين والعجلي وأبو داوود، وروى له مسلم في صحيحه؛ فالرجل ثقة إن شاء الله، لكن عبارة ابن حبان يمكن أن يعلّ بها إذا خالف مَن هو أوثق منه، وهذا المتن ليس فيه نكارة ولا مخالفة؛ فهو حديث حسن الإسناد إن شاء الله تعالى.
7. حنظلة بن الربيع بن صيفي التميمي المعروف بحنظلة الكاتب، وهو ابن أخي أكثم بن صيفي حكيم العرب، وهو الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكن يا حنظلة ساعة وساعة).
وقال قيس بن زهير: انطلقنا مع حنظلة بن الربيع إلى مسجد فرات بن حيان فحضرت الصلاة فقال له: تقدَّم، فقال له: ما كنت لأتقدَّمَك وأنت أكبر مني سنا، وأقدم هجرة، والمسجد مسجدك.
فقال فرات: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيك شيئا لا أتقدَّمك أبداً.
قال: (أشهدته يوم أتيته بالطائف فبعثني عينا؟)
قال: نعم.
فتقدَّم حنظلة فصلى بهم.
فقال فرات: يا بني عجلان إنما قدَّمت هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه عينا إلى الطائف، فجاء فأخبره الخبر، فقال: صدقت ارجع إلى منزلك فإنك قد شهدت الليلة، فلما ولى قال لنا: «ائتموا بهذا وأشباهه» رواه الطبراني في الكبير.
قال البخاري في تاريخه الكبير: (حنظلة كاتب النبي صلى الله عليم وسلم).
وقَال أَحْمَد بن عَبد اللَّهِ بن البرقي: (إنما سمي الكاتب لأنه كتب للنبي صلى الله عليم وسلم الوحي، وكان بالكوفة فلما شُتِمَ عثمان انتقل إلى قرقيسيا، وَقَال: لا أقيم ببلد يشتم فيه عثمان، وتوفي بعد علي، وكان معتزلا للفتنة حتى مات). ذكره المزي في تهذيب الكمال.
شهد القادسية، ومات في خلافة معاوية، وقيل في رثائه:
تعجَّـب الدهر لمحــــــــــزونـــــــــــة ... تبكي على ذي شيبة شاحب
إنْ تسألـــــيني اليوم ما شفني ... أخبرك أني لســـــــت بالكـــاذب
إنَّ ســـــــــــــــواد العين أودى به ... حــــــــــــزني على حنظلة الكاتب
8. أبان بن سعيد بن العاص بن أمية القرشي، أخو خالد وعمرو ، وكانا قد سبقاه إلى الإسلام وهاجرا إلى الحبشة؛ فلما عادا من الحبشة كتبا إليه فقدم مسلماً، وهو الذي أجار عثمان لما دخل مكة زمن الحديبية، وكان إسلامه بعدها، وكان كاتباً فصيح اللسان، حسن البيان، استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على بعض السرايا، واستعمله على البحرين، وبقي أميراً عليها حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قدم على أبي بكر، وسار إلى الشام فقاتل حتى استشهد يوم أجنادين سنة 13هـ.
9. معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية القرشي، أوَّل ملوك المسلمين، وخال المؤمنين، أسلم في عمرة القضاء، وأظهر إسلامه يوم الفتح، وكان شابا فهماً حصيفاً يحسن الكتابة.
وقال أبو مسهر: حدثنا سعيد بن عبد العزيز، عن ربيعة بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة المزني، وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: (( اللهم علمه الكتاب والحساب، وقه العذاب)).
قال الذهبي: (وقد صح عن ابن عباس قال: كنت ألعب، فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " ادع لي معاوية"، وكان يكتب الوحي).
وأصل الحديث في صحيح مسلم من غير هذه الزيادة، وفي مسند الإمام أحمد من طريق أبي عوانة عن أبي حمزة قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت غلاما أسعى مع الغلمان، فالتفتُّ فإذا أنا بنبي الله صلى الله عليه وسلم خلفي مقبلاً، فقلت: ما جاء نبيّ الله صلى الله عليه وسلم إلا إليَّ.
قال: فسعيتُ حتى أختبئَ وراء باب دار.
قال: فلم أشعر حتى تناولني، فأخذ بقفاي فَحَطَأَني حَطْأَة؛ فقال: ((اذهب فادع لي معاوية))
قال: وكان كاتبه، فسعيت فأتيت معاوية، فقلت: (أجب نبي الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنَّه على حاجة).
الحَطْءُ هو الضرب باليد المبسوطة.
وكان معاوية حليماً حكيماً، عالماً فقيهاً، ذا سياسة وكياسة، وكان داهية من دهاة العرب المعدودين؛ وكان عمر إذا نظر إليه قال: (هذا كسرى العرب).
قال همام بن منبه: سمعت ابن عباس يقول: (ما رأيت رجلا كان أخلق للملك من معاوية، كان الناس يَرِدُون منه على أرجاءِ وادٍ رَحْب). رواه عبد الرزاق.
وقال قبيصة بن جابر: (صحبت معاوية، فما رأيت رجلا أثقل حلماً، ولا أبطأ جهلاً، ولا أبعد أناةً منه) رواه ابن عساكر.
ولَّاه عمر إمارةَ دمشق، ثم جمع له عثمان الشامَ كلَّه؛ فكانت مدّة إمارته عشرين سنة، ولما قتل عثمان قام بطلب دمه؛ فحصل من الفتنة ما حصل، ثم استوسق له الأمرُ عام الجماعة؛ وبويع بالخلافة؛ على بلاد المسلمين كافة؛ فبقي خليفة عشرين سنة حتى مات سنة 60هـ.
10. عبد الله بن سعد بن أبي السرح العامري القرشي، أخو عثمان بن عفان من الرضاعة.
أسلم قديماً بمكة، وكان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الواقدي: (وأول من كتب له من قريش عبد الله بن سعد بن أبي سرح)
ثم إنّه أدركته فتنة فارتدّ ولحق بالمشركين؛ فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، وأمر بقتله عام الفتح؛ ثم شفع فيه عثمان وعفا عنه النبي صلى الله وعليه وسلم، وحسن إسلامه بعد ذلك، واشتغل بالجهاد وكان شجاعاً مذكوراً وقائداً من قادات الجيوش وهو الذي فتح أفريقية وكان قائد الجيش في غزوة ذات الصواري، ولاه عثمان إمرة مصر؛ فكان محمود السيرة، واعتزل الفتنة بعد مقتل عثمان، ومات بعسقلان سنة 36هـ.
قال الذهبي: (لما احتضر قال: اللهم اجعل آخر عملي صلاة الصبح، فلما طلع الفجر توضأ وصلى، فلما ذهب يسلّم عن يساره فاضت نفسه).
قال ابن عباس: كان عبد الله بن سعد بن أبي السَّرْح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزلَّه الشيطان، فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُقتَل يومَ الفتح؛ فاستجار له عثمان بن عفان، فأجاره رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه أبو داوود من طريق علي بن الحسين بن واقد، عن أبيه، عن يزيد النحوي، عن عكرمة عن ابن عباس.
وقال سعد بن أبي وقاص: (لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي سرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه، ثلاثا، كل ذلك يأبى، فبايعه بعد ثلاث، ثم أقبل على أصحابه فقال: "أما كان فيكم رجل رشيد، يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله؟ " فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك؟ ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: "إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين). رواه أبو داوود والنسائي من طريق أسباط بن نصر عن مصعب بن سعد عن أبيه.
قال الواقدي: (قالوا: وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح قد أسلم قديما، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فربما أملى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم {سميع عليم} فكتب «عليم حكيم» فيقرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: «كذلك الله» ويقرّه. فافتتن عبد الله بن سعد وقال: ما يدري محمد ما يقول، إني لأكتب له ما شئت، هذا الذي كتبت يوحى إلي كما يوحى إلى محمد. وخرج هاربا من المدينة إلى مكة مرتدا).
وهذا الذي قاله خطأ، وهو خلط بين خبرين، ولم يثبت أنّه كان يغيّر، ولم أقف على خبر صحيح لكتابته الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم بعد توبته.
11. وكتب للنبي صلى الله عليه وسلم الوحي رجل من بني النجار ثم فتن فارتدّ ومات كافراً، وهو الذي ذُكرت عنه دعوى التغيير.
قال أنس بن مالك: ( كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلق هاربا حتى لحق بأهل الكتاب، قال: فرفعوه، قالوا: هذا قد كان يكتب لمحمد فأعجبوا به، فما لبث أن قصم الله عنقه فيهم، فحفروا له فواروه، فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له، فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، ثم عادوا فحفروا له، فواروه فأصبحت الأرض قد نبذته على وجهها، فتركوه منبوذا). رواه مسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس.
ورواه الإمام أحمد من طريق يزيد بن هارون قال: أخبرنا حميد، عن أنس، أن رجلا كان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان قرأ: البقرة، وآل عمران، وكان الرجل إذا قرأ: البقرة، وآل عمران، جدَّ فينا - يعني عَظُم -، فكان النبي صلى الله عليه وسلم، يملي عليه غفوراً رحيماً، فيكتب عليماً حكيماً، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (اكتب كذا وكذا، اكتب كيف شئت) ويملي عليه عليما حكيما، فيقول: أكتب سميعا بصيرا؟ فيقول: " اكتب كيف شئت ". فارتد ذلك الرجل عن الإسلام، فلحق بالمشركين، وقال: أنا أعلمكم بمحمد إن كنت لأكتب كيفما شئت، فمات ذلك الرجل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إن الأرض لم تقبله ))
وقال أنس: فحدثني أبو طلحة: أنه أتى الأرض التي مات فيها ذلك الرجل، فوجده منبوذا، فقال أبو طلحة: ما شأن هذا الرجل؟
قالوا: قد دفنَّاه مرارا فلم تقبله الأرض).
ولعل ما ذكر من أمر التغيير الذي فتن به هذا الرجل هو مما نزل من الأحرف السبعة؛ كما في مسند الإمام أحمد وغيره من حديث سليمان بن صرد، عن أبي بن كعب، قال: قرأت آية، وقرأ ابن مسعود خلافها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟
قال: "بلى "
فقال ابن مسعود: ألم تقرئنيها كذا وكذا؟
فقال: "بلى، كلاكما محسن مجمل "
قال: فقلت له: فضرب صدري، فقال: "يا أبي بن كعب، إني أقرئت القرآن، فقلت: على حرفين، فقال: على حرفين، أو ثلاثة؟ فقال الملك الذي معي: على ثلاثة، فقلت: على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: {غفورا رحيما}، أو قلت: {سميعا عليما}، أو {عليما سميعا} فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب).
وفي رواية في مسند الإمام أحمد: (قال: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده في صدري، ثم قال: "اللهم أذهب عن أبيٍّ الشكَّ " ففضت عرقا، وامتلأ جوفي فرقا..) ثمّ ذكر الحديث بنحوه.
وهذه فتنة قدّرها الله على علمٍ فَضَلَّ بها من لم يكن موقناً بكلام الله تعالى، ولا بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعصم الله من أراد له الهداية، والثبات على الدين.
ومما يدل على صحّة هذا المحمل ما رواه ابن جرير في مقدمة تفسيره عند حديثه عن الأحرف السبعة بإسناده عن ابن شهاب الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب أن الذي ذكر الله تعالى ذكره {إنما يعلمه بشر} إنما افتتن أنه كان يكتب الوحي، فكان يملي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: سميع عليم، أو عزيز حكيم، أو غير ذلك من خواتم الآي، ثم يشتغل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الوحي، فيستفهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيقول: أعزيز حكيم، أو سميع عليم أو عزيز عليم؟
فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أي ذلك كتبت فهو كذلك)). ففتنه ذلك، فقال: (إن محمدا وكل ذلك إلي، فأكتب ما شئت).
وهو الذي ذكر لي سعيد بن المسيب من الحروف السبعة)ا.ه.
قال أبو بكر البيهقي: (وأمّا الأخبار الّتي وردت في إجازة قراءة: {غفورٌ رحيمٌ} بدل {عليمٌ حكيمٌ}؛ فلأنّ جميع ذلك ممّا نزل به الوحي، فإذا قرأ ذلك في غير موضعه ما لم يختم به آية عذابٍ بآية رحمةٍ أو رحمةٍ بعذابٍ؛ فكأنّه قرأ آيةً من سورةٍ، وآيةً من سورةٍ أخرى؛ فلا يأثم بقراءتها كذلك، والأصل ما استقرّت عليه القراءة في السّنة الّتي توفّي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ما عارضه به جبرائيل عليه السّلام في تلك السّنة مرّتين، ثمّ اجتمعت الصّحابة على إثباته بين الدّفّتين)ا.هـ.
قلت: هكذا قال، والأرجح حمل هذا الحديث على اختلاف الأحرف السبعة). [جمع القرآن:33 - 48]
جمهرة علوم القرآن
14 محرم 1439هـ/4-10-2017م, 11:23 PM
الباب الرابع: معارضة القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم والعرضة الأخيرة
معارضة جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معارضة جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن
كان جبريل عليه السلام يُعارِضُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان من كلّ عام، حتى كان العام الذي توفّي فيه النبي صلى الله عليه وسلم فعارضه به مرتين، وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك دنوّ أجله.
فكان يعارضه في كلّ عام بما نزل من القرآن إلى ذلك الوقت على الترتيب الذي أراده الله للآيات في كلّ سورة مما لم تُنسخ تلاوته.
قال داود بن أبي هند: قلت للشعبي: قوله {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن..} أما نزل عليه القرآن في سائر السنة، إلا في شهر رمضان؟
قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمدا صلى الله عليه وسلم بما ينزل في سائر السنة في شهر رمضان). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن
ورواه أيضاً ابن الضريس ولفظه: قال: «كان الله تعالى ينزل القرآن السنة كلها، فإذا كان شهر رمضان عارضَهُ جبريلُ عليه السلام بالقرآن، فينسخ ما ينسخ، ويثبت ما يثبت، ويحكم ما يحكم، وينسئ ما ينسئ».
قال ابن كثير رحمه الله: (والمراد من معارضته له بالقرآن كل سنةٍ: مقابلته على ما أوحاه إليه عن الله تعالى، ليبقي ما بقي، ويذهب ما نسخ توكيدًا، أو استثباتًا وحفظًا؛ ولهذا عرضه في السنة الأخيرة من عمره، عليه السلام، على جبريل مرتين، وعارضه به جبريل كذلك؛ ولهذا فهم، عليه السلام، اقتراب أجله)ا.هـ.
وقد دلَّ على ثبوت معارضة القرآن أحاديث صحيحة منها:
1. حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة» متفق عليه من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس.
وفي رواية في صحيح البخاري: «فيدارسُه القرآن»
2. وحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «كان يُعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشرا، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه» رواه أحمد والبخاري والدارمي وأبو داوود وابن ماجه والنسائي كلهم من طريق أبي حصين عثمان بن عاصم الأسدي عن أبي صالح السمَّان، عن أبي هريرة.
3. وحديث عائشة رضي الله عنها قالت: إنا كنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عنده جميعا، لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة عليها السلام تمشي، لا والله ما تخطى مشيتها من مشية رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فلما رآها رحَّب قال: «مرحبا بابنتي» ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارَّها، فبكت بكاء شديدا، فلما رأى حزنها سارَّها الثانية، فإذا هي تضحك، فقلت لها أنا من بين نسائه: خصَّكِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالسرِّ من بيننا، ثم أنت تبكين؟!!
فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتُها: عمَّا سارَّك؟
قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله صلى الله عليه وسلَّم سرَّه.
فلما توفي قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني، قالت: أما الآن فنعم، فأخبرتني، قالت: أما حين سارَّني في الأمر الأول، فإنَّه أخبرني: «أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري، فإني نِعْمَ السلَفُ أنا لك».
قالت: فبكيت بكائي الذي رأيتِ، فلما رأى جزعي سارَّني الثانية، قال: «يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين [أو سيدة نساء هذه الأمة]» متفق عليه من حديث الشعبيّ عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها.
والأحاديث المروية في معارضة القرآن رويت بألفاظ:
- منها: ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يعرض القرآن على جبريل.
- ومنها: ما يفيد أن جبريل عليه السلام كان هو الذي يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم.
- ومنها: ما هو نصّ على المعارضة التي تفيد المفاعلة من الطرفين.
- ومنها: لفظ المدارسة كما في رواية في الصحيحين (وهو أعمّ من المعارضة؛ إذ المعارضة مختصة بالألفاظ، والمدارسة تشمل الألفاظ والمعاني.
والمتوجّه الجمع بين هذه الألفاظ إذْ صحّت بها الرواية، وهي صحيحة المعنى لا تعارض بينها.
قال ابن حجر رحمه الله في شرحه على صحيح البخاري: (قوله: "يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن" هذا عكس ما وقع في الترجمة لأنَّ فيها أن جبريل كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض على جبريل، وتقدم في بدء الوحي بلفظ: "وكان يلقاه في كل ليلةٍ من رمضان فيدارسه القرآن" فيحمل على أن كلا منهما كان يعرض على الآخر)ا.هـ). [جمع القرآن:49 - 52]
جمهرة علوم القرآن
14 محرم 1439هـ/4-10-2017م, 11:29 PM
معارضة أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم له بالقرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (معارضة أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم له بالقرآن
وكان قراء الصحابة يعرضون قراءتهم على النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ فيقوّمهم ويجيزهم بالإقراء والتعليم، وربما عرَضَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن أو بعضه أو عرضوا عليه فحفظوا عنه.
- وقد روى الإمام أحمد وابن أبي شيبة وغيرهما من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، قال: سمعت أبي بن كعب، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أمرتُ أن أعرض عليك القرآن»، قلت: سماني لك، قال: «نعم»، فقال أبيّ: {بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون}).
- وروى البخاري ومسلم من طريق همام عن قتادة، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لأبي: «إنَّ الله أمرني أن أقرأ عليك»، قال: آلله سماني لك؟ قال: «الله سماك لي»، قال: فجعل أبيّ يبكي.
لكن حديث أنس ليس فيه لفظ العرض، ولعله مختصر من خبر قراءة سورة البيّنة، لكن المعوَّل في الاستدلال على رواية ابن أبزى عن أبيّ.
- وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (وإنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعارَض بالقرآن في كلّ رمضان، وإني عَرضْتُ في العام الذي قبض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن). رواه الإمام أحمد وسيأتي بطوله إن شاء الله). [جمع القرآن:52 - 53]
جمهرة علوم القرآن
14 محرم 1439هـ/4-10-2017م, 11:33 PM
العرضة الأخيرة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (العرضة الأخيرة
- قال محمد بن سيرين: (كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في كل شهر رمضان؛ فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه مرتين).
قال: (فيرجى أن تكون قراءتنا هذه على العرضة الأخيرة). رواه سعيد بن منصور عن هشيم عن منصور بن زاذان عن ابن سيرين وهذا إسناد صحيح إلى ابن سيرين.
- وأخرج ابن شبّة في تاريخ المدينة عن عبد الأعلى عن هشام عن ابن سيرين في قصة جمع عثمان وفيه أن محمد بن سيرين قال: فحدثني كثير بن أفلح: أنه كان فيمن يكتب لهم، فكانوا كلما اختلفوا في شيء أخَّروه.
قلت: لم أخروه؟
قال: لا أدري.
قال محمد: فظننت أنا فيه ظنا، ولا تجعلوه أنتم يقينا، ظننت أنهم كانوا إذا اختلفوا في الشيء أخروه حتى ينظروا آخرهم عهداً بالعرضة الأخيرة فكتبوه على قوله).
قال ابن شبّة: حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا هشام بنحوه، وزاد: قال محمد: (فأرجو أن تكون قراءتنا هذه آخرتها عهدا بالعرضة الأخيرة).
وهذا الذي قاله ابن سيرين باجتهاده هو المتوجّه؛ لأن ما اتفقوا عليه فلا إشكال فيه؛ فتكون كتابتهم له موافقة للعرضة الأخيرة بإجماعهم، وما اختلفوا فيه فإنَّ تأخيره لأجل أن يجتمعوا له ليكتبوه على وجهه الصحيح وهو ما اقتضته العرضة الأخيرة ولا بدّ، إذ لو كان فيه ما نسخ أو بُدّل لم يكن لهم أن يكتبوه على خلاف العرضة الأخيرة وهم حينئذ متوافرون يشهد بعضهم بصدق بعض.
وإنما كان اختلافهم اختلاف تأريخ واختلاف أحرف لا اختلاف ضبط؛ فاختلاف التاريخ لا بدَّ أن يكون مُعتمدهم فيه ما اقتضته العرضة الأخيرة، وأما اختلاف الأحرف التي يجزئ بعضها عن بعض؛ فقد وقع إجماعهم على ما احتمله رسم المصاحف العثمانية، وترك ما سواها.
- قال البغوي في شرح السنة: (وروي عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: "كانت قراءة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه".
وكان على طول أيامه يقرأ مصحف عثمان، ويتخذه إماما)ا.ه.
- وقال: (قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين.
وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كَتَبَةَ المصاحف رضي الله عنهم أجمعين).
وهذا الأثر عن أبي عبد الرحمن السلمي لم أجده مسنداً، ولعل قوله: (وإنما سميت...) إلخ من كلام البغوي.
- وروى شعبة عن عبد الرحمن بن عابس النخعي أنه قال: حدثنا رجل من همدان من أصحاب عبد الله، وما سماه لنا، قال: لما أراد عبد الله أن يأتي المدينة جمع أصحابه، فقال: (والله إني لأرجو أن يكون قد أصبح اليوم فيكم مِن أفضلِ ما أصبح في أجنادِ المسلمين من الدين والفقهِ والعلمِ بالقرآن، إنَّ هذا القرآنَ أُنزلَ على حُروف، والله إن كان الرجلان ليختصمان أشدَّ ما اختصما في شيء قط، فإذا قال القارئ: هذا أقرأني، قال: "أحسنت"
وإذا قال الآخر، قال: "كلاكما محسن"، فأقرأنا: [إن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، والكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار]، واعتبروا ذلك بقول أحدكم لصاحبه: كذب وفجر، وبقوله إذا صدقه: صدقت وبررت.
إن هذا القرآن لا يختلف ولا يستشِنُّ ولا يَتْفَهُ لكثرة الرد، فمن قرأه على حرف فلا يدعْه رغبةً عنه، ومن قرأه على شيء من تلك الحروف التي علم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدعه رغبة عنه، فإنه من يجحد بآية منه يجحد به كله، فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه: اعجل، وحيَّ هلا، والله لو أعلم رجلا أعلم بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم مني لطلبته، حتى أزداد علمه إلى علمي، إنه سيكون قوم يميتون الصلاة، فصلوا الصلاة لوقتها، واجعلوا صلاتكم معهم تطوعا وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعارَض بالقرآن في كلّ رمضان، وإني عرضت في العام الذي قبض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن، وقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة). رواه أحمد وابن الضريس ورجاله ثقات معروفون إلا الهمداني الذي أبهمه ابن عابس؛ ورواه عمر بن شبة والبيهقي في شعب الإيمان من طريق محمد بن طلحة بن مصرف عن زبيد بن الحارث اليامي عن عبد الرحمن بن عابس به.
وقد صحب ابنَ مسعود جماعة من الهمدانيين منهم مسروق بن الأجدع ومرة الطيب وأبو ميسرة عمرو بن شرحبيل، وهؤلاء من الأئمة الثقات ومن خاصة أصحاب ابن مسعود؛ وقد يكون المبهم من غيرهم؛ فلا يجزم بحاله، وإن كان قوله بأنه من أصحاب ابن مسعود يشعر بشيء من التزكية مع قرينة كونه من الخاصة الذين جمعهم ابن مسعود، وأكثر ما تضمنه هذا الأثر عن ابن مسعود له شواهد صحيحة.
وقد رواه ابن جرير من طريق عليّ بن أبي عليّ عن علقمة عن ابن مسعود؛ هكذا موصولاً، لكن عليّ بن أبي عليّ هو اللَّهبي القرشي من ولد أبي لهب منكر الحديث.
والشاهد فيه قوله: (وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعارَض بالقرآن في كلّ رمضان، وإني عرضت في العام الذي قبض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن).
وهذه الزيادة لها شواهد:
- منها ما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام من طريق أيوب، عن ابن سيرين، قال: نبئت أن ابن مسعود، قال: «لو أعلم أنَّ أحدا تبلغنيه الإبل أحدث عهدا بالعرضة الأخيرة مني لأتيته، أو لتكلفت أن آتيه».
- ومنها: ما رواه الإمام أحمد والبخاري في خلق أفعال العباد والنسائي في الكبرى والحاكم وغيرهم من طريق الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: أيّ القراءتين تعدون أول؟
قالوا: قراءة عبد الله.
قال: لا، بل هي الآخرة، كان يعرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل عام مرة؛ فلما كان العام الذي قبض فيه عرض عليه مرتين، فشهد عبد الله؛ فعلم ما نُسخ وما بُدِّل).
وقد صححه الحاكم وابن حجر، وأعلّه بعضهم بعنعة الأعمش وقد وصف بالتدليس، ولا أرى لهذا الإعلال موجباً؛ إذ لا نكارة في المتن ولا مخالفة توجب المصير إلى إعلاله بهذه العلة، والأعمش من القراء الكبار، وقوله في هذا الباب حجة.
وهذه الآثار متوافقة غير مختلفة يقوّي بعضها بعضاً.
وتفسيرها أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان بعد كلّ عرضة يعارضه بها جبريل القرآن يعارض قرّاء أصحابه فيثبتون ما اقتضاه ذلك العرض من الترتيب والإثبات.
فلما كان في العام الذي قبض فيه كان ابن مسعود ممن عارضه النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن.
وقد توهَّم أناسٌ أن العرضة الأخيرة على قراءة زيد وأن قراءة ابن مسعود هي القراءة الأولى وشبهتهم في ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث ابن مسعود إلى العراق معلّماً فكان في العراق بقية خلافة عمر وشطر خلافة عثمان وقد توفي سنة 32هـ وأن زيد بن ثابت كان في المدينة وهو الذي ولاه عثمان كتابة المصاحف وقد علموا أن عثمان جمع الناس على حرف واحد فظنوا أن قراءة ابن مسعود هي القراءة الأولى وأن قراءة زيد هي القراءة الثانية.
وهذا الوهم قديم وقد ردّه ابن عباس رضي الله عنهما كما تقدّم من رواية أبي ظبيان.
- وقال مسدد بن مسرهد – كما في المطالب العالية وإتحاف الخيرة-: ثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم أن ابن عباس سمع رجلا يقول: الحرف الأول؛ فقال ابن عباس: ما الحرف الأول؟!
فقال له الرجل: يا ابن عباس، إن عمر بعث ابن مسعود معلماً إلى أهل الكوفة، فحفظوا من قراءته فغيَّر عثمان القراءة فهم يدعونه: "الحرف الأول".
فقال ابن عباس: إن جبريل كان يعارض رسول الله صلى الله عليه وسلم عند كل رمضان مرة، وإنه عارضه في السنة التي قبض فيها مرتين، وإنه لآخر حرف عرض به النبي صلى الله عليه وسلم جبريل".
- وروى إبراهيم بن مهاجر البجلي عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: أي القراءتين كانت أخيرا، قراءة عبد الله أو قراءة زيد؟
قال: قلنا: قراءة زيد
قال: لا، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - كان يعرض القرآن على جبرائيل كل عام مرة، فلما كان في العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين، وكانت آخر القراءة قراءة عبد الله). رواه أحمد والبزار والطحاوي والحاكم.
وإبراهيم بن مهاجر ليّن الحديث لا يحتجّ به إذا تفرّد أو خالف لكنَّه معتبر الحديث في الشواهد والمتابعات، وروايته هنا موافقة لما روي في هذا الباب.
قال أبو جعفر الطحاوي: (والاختلاف في هاتين القراءتين في هذا الحرف من أيسر الاختلاف ; لأنا إذا صححنا ما روي في العين التي تغرب فيها الشمس استحق بذلك الحمأ والحرارة جميعا فكانتا من صفاتها وكان من قرأ حامية وصفها بإحدى صفاتها ومن قرأ حمئة وصفها بصفتها الأخرى , وذلك واسع غير ضيق على أحد ممن روى قراءة من هاتين القراءتين).
وقد تقدّم قول ابن مسعود: (فمن قرأه على حرف فلا يدعْه رغبةً عنه، ومن قرأه على شيء من تلك الحروف التي علم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يدعه رغبة عنه، فإنه من يجحد بآية منه يجحد به كله، فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه: اعجل، وحيَّ هلا).
وأبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله الذي ترجع إليه أكثر أسانيد القراءات أخذ القراءة على أبيّ وعثمان وعليّ وابن مسعود وزيد بن ثابت.
وأقرأَ الناس في المسجد الأعظم في الكوفة أربعين سنة، فكانت قراءتهم واحدة ليس فيها من الخلاف إلا نحو ما هو معروف اليوم لدى القراء.
وروى ابن أبي شيبة من طريق ابن عيينة، عن ابن جريج وعن ابن سيرين [هكذا بالعطف] عن عَبيدة قال: «القراءة التي عرضت على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه هي القراءة التي يقرؤها الناس اليوم فيه».
قال ابن الجزري: (القراءات التي تواترت عندنا عن عثمان وعنه [أي عن عليّ بن أبي طالب] وعن ابن مسعود وأبيّ وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم لم يكن بينهم فيها إلا الخلاف اليسير المحفوظ بين القراء)ا.هـ.
وقد تقدّم قوله: (كانت قراءة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وزيد بن ثابت، والمهاجرين والأنصار واحدة، كانوا يقرءون قراءة العامة، وهي القراءة التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبريل مرتين في العام الذي قبض فيه)ا.ه.
وهو القائل: (حدثني الذين كانوا يقرءوننا عثمان وابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزنها إلى عشر أخرى، حتى يتعلموا ما فيها من العمل فتعلمنا القرآن والعمل جميعا)ا.هـ.
وقال الذهبي في معرفة القراء الكبار: (وقال عبد الواحد بن أبي هاشم: حدثنا محمد بن عبيد الله المقرئ، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن، حدثنا أبي حدثنا حفص بن عمر عن عاصم بن بهدلة وعطاء بن السائب، ومحمد بن أبي أيوب الثقفي، وعبد الله بن عيسى بن أبي ليلى، أنهم قرءوا على أبي عبد الرحمن، وذكروا أنه أخبرهم أنه قرأ على عثمان رضي الله عنه عامَّة القرآن، وكان يسأله عن القرآن وكان وليَ الأمرَ فشقَّ عليه، وكان يسأله عن القرآن فيقول: إنك تشغلني عن أمر الناس؛ فعليك بزيد بن ثابت؛ فإنه يجلس للناس ويتفرَّغ لهم ولست أخالفه في شيء من القرآن)ا.هـ.
وروى حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة بن جندب رضي الله عنه، قال: « عُرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضات؛ فيقولون: إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة». رواه البزار والروياني والحاكم واللفظ له وصححه ووافقه الذهبي، وحسَّن الحافظ ابن حجر إسناده.
والمقصود أن قراءة زيد وقراءة ابن مسعود وقراءات غيرهما من الذين أخذت عنهم القراءة واشتهرت من قراء الصحابة رضي الله عنهم كانت على العرضة الأخيرة وأن الخلاف بينهما خلاف أحرف فقط؛ فإنَّ العرضة الأخيرة لم تنسخ الأحرف.
ومن قراء الصحابة من كان يقرأ على حرف، ومنهم من يقرأ على أكثر من ذلك؛ كما دلّ عليه قول ابن مسعود المتقدم.
ومما يدلّ على ذلك أيضاً ما رواه البخاري في صحيحه من حديث حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال عمر: « أُبيّ أقرؤنا، وإنا لندع من لحن أبيّ، وأبيّ يقول: أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أتركه لشيء ».
ولحن أبيّ لُغَته وطريقته في القراءة؛ وهي بعض الأحرف التي قرأ بها مما علّمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما ساغ لعمر أن يدع من لحن أبيّ لأنَّ هذه الأحرف يجزئ بعضها عن بعض كما تقدّم بيانه، ومن أظهر الأمثلة على ذلك اختلاف قراءة زيد بن ثابت ومن معه في (التابوت) فكان زيد يقرؤها (التابوه) وقرّاء المهاجرين القرشيين يقرؤونها (التابوت)؛ فرفع اختلافهم إلى عثمان رضوان الله عليه، فقال: «اكتبوه التابوت، فإنه لسان قريش» ؛ فكتبوها بالتاء اختياراً لا ردّا لقراءة زيد.
وقد فُسّر قول عمر (وإنا لندع من لحن أبيّ) أي مما يقرأ به مما نسخت تلاوته، وهو معنى صحيح يوافق ما تقدّم ولا يخالفه؛ لأنَّ قول عمر (وإنا لندع) يشعر بأنَّ عمل قراء الصحابة على ترك القراءة بما نسخت تلاوته وأنهم لم يتابعوا أبيَّ بن كعب في قراءته لما نُسخت تلاوته، وأنَّ ما عليه عمر وجماعة القراء هو السنة المتَّبعة الموافقة للعرضة الأخيرة). [جمع القرآن:53 - 62]
جمهرة علوم القرآن
14 محرم 1439هـ/4-10-2017م, 11:36 PM
المراد بالعرضة الأخيرة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المراد بالعرضة الأخيرة
الذي يظهر من تأمّل الآثار الواردة في هذا الباب أن لفظ "العرضة الأخيرة" يطلق على معنيين:
أحدهما: ما عرضه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان شهده النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه العرضة قد نزل بعدها باتّفاق آيات من القرآن؛ كما ثبت في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنّ قول الله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا..} نزل يوم عرفة من حجة الوداع، ولم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا نحو ثلاثة أشهر.
والمعنى الثاني: ما عرضه الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم آخر الأمر، فيدخل في ذلك ما نزل بعد رمضان من السنة العاشرة؛ فيكون بهذا الاعتبار كلّ من عرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم بعد رمضان من السنة العاشرة للهجرة، فيكون لكلّ قارئ منهم عرضة أخيرة له عرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقع التفاضل في وصف الآخرية باعتبار تعدد العرض، وقد مكث النبي صلى الله عليه وسلم نحو ستة أشهر كانت مدة كافية لأن يعرض عليه قراء أصحابه قراءاتهم مع ما عرف من شدة عنايتهم بالقرآن وحرصهم على مدارسته.
وهذا المعنى يدلّ عليه مفهوم قول ابن مسعود رضي الله عنه: (وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعارَض بالقرآن في كلّ رمضان، وإني عَرضْتُ في العام الذي قبض فيه مرتين، فأنبأني أني محسن). رواه الإمام أحمد وسيأتي بطوله إن شاء الله.
مع قوله: «لو أعلم أنَّ أحدا تبلغنيه الإبل أحدث عهدا بالعرضة الأخيرة مني لأتيته، أو لتكلفت أن آتيه».
وهذا شبه الصريح بأنه لا يعلم أحداً أحدث عرضاً للقرآن منه، إذ لو كان المراد هنا بالعرضة الأخيرة ما كان في رمضان لم يكن للمفاضلة معنى.
ويدلّ على هذا المعنى أيضاً قول ابن سيرين: (إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الآخرة فيكتبونها على قوله)). [جمع القرآن:62 - 63]
جمهرة علوم القرآن
14 محرم 1439هـ/4-10-2017م, 11:39 PM
معنى شهود العرضة الأخيرة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( معنى شهود العرضة الأخيرة
- قال ابن أبي شيبة: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن في كل رمضان مرة إلا العام الذي قُبض فيه فإنه عُرض عليه مرتين بحضرة عبد الله فشهد ما نسخ منه وما بدل.
- وقال البغوي في شرح السنة: (قال أبو عبد الرحمن السلمي: قرأ زيد بن ثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفاه الله فيه مرتين، وإنما سميت هذه القراءة قراءة زيد بن ثابت، لأنه كتبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأها عليه، وشهد العرضة الأخيرة، وكان يقرئ الناس بها حتى مات، ولذلك اعتمده أبو بكر وعمر في جمعه، وولاه عثمان كتبة المصاحف رضي الله عنهم أجمعين)ا.هـ.
وشهود العرضة هنا يحمل على واحد من ثلاثة معانٍ كلها صحيحة:
المعنى الأول: أن يكون حاضراً في المجلس الذي نزل فيه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان من الصحابة من يشهد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في غير ما حديث، وقد تقدّم قول زيد بن ثابت في نزول قول الله تعالى: {غير أولي الضرر..}
وهذا لا يلزم منه أن يسمعوا قراءة جبريل عليه السلام ولا أن يروه، ولا أن يكون حضورهم مستغرقاً لجميع آيات القرآن.
والمعنى الثاني: أن يراد به أن يكون حاضراً في ذلك الوقت في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم حضور القارئ المعتني بمعرفة ما نُسخ وما أُثبت من القرآن، وإن لم يحضر مجلس العرض؛ فيصدق عليه أنه شهد العرضة الأخيرة لمعرفته بما تضمنته من نسخ وتغيير؛ لكونه حاضراً آنذاك غير مسافر ولا منقطع عن مجالس النبي صلى الله عليه وسلم وإقرائه القرآن.
والمعنى الثالث: أن تكون هذه اللفظ قد رويت بالمعنى وأنَّ المراد بها عرض الصحابي قراءته على النبي صلى الله عليه وسلم بعد العرضة الأخيرة.
وهذا الأمر محتمل فإنَّ الأثر الأول قد روي بألفاظ متعددة، والأثر الثاني لا أعلم له إسناداً وهو مشتهر في كتب القراءات وعلوم القرآن، وفي بعض الألفاظ ما يفيد التفاضل ولا يقع التفاضل في الآخرية إلا أن يكون المراد به عرض الصحابي قراءته على النبي صلى الله عليه وسلم عرضاً يطمئنّ به إلى ثبوت حفظه على ما أراد الله أن يستقرّ عليه ترتيب آيات القرآن وإحكام ما أراد الله أن تبقى تلاوته ولا تنسخ.
وعلى جميع هذه المعاني لا يختلف تقرير أن القرآن قد نقل متواتراً على ما اقتضته العرضة الأخيرة بإجماع من قرّاء الصحابة رضي الله عنهم، واتّفاقهم على ذلك اتفاقاً تقوم به الحجة وتنتفي به الشبهة). [جمع القرآن:64 - 65]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 09:25 AM
الباب الخامس: جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه
كان جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه للقرآن في مصحف واحد رحمةً للأمّة، وسبباً لحفظ القرآن، ورفعة عظيمة لأبي بكر رضي الله عنه.
- قال عبد خير بن يزيد الهمداني: سألت عليا رضي الله عنه عن أوَّل مَن جمع القرآن في المصحف؛ فكان أوَّلَ ما استقبلني به قال: (رحم الله أبا بكر! كان أعظم الناس أجراً في القرآن، هو أول من جمعه بين اللوحين). رواه أبو نعيم في معرفة الصحابة، وابن أبي داوود في المصاحف.
ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه والقطيعي في زياداته على فضائل الصحابة للإمام أحمد بلفظ مقارب.
قال ابن كثير رحمه الله: (وهذا من أحسنِ وأجلِّ وأعظمِ ما فعله الصديق رضي الله عنه).
- وروى البخاري في صحيحه من طريق ابن شهاب الزهري، عن عبيد بن السباق، أن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده.
قال أبو بكر رضي الله عنه: « إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن، فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن».
قلتُ لعمر: كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال عمر: «هذا والله خير» فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت في ذلك الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: « إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك، وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه »
فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن.
قلت: كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: « هو والله خير »
فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للَّذي شرَحَ له صدرَ أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
فتتبعت القرآن أجمعه من العُسُبِ واللخافِ وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنه)). [جمع القرآن:67 - 68]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 09:28 AM
أسباب جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( أسباب جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن:
مما يُستخلص من الأثر السابق أن جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن كان بإشارة من عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى كثرة من قُتِل من القراء في وقعة اليمامة، وقد انقطع الوحي وزال السبب المانع من جمعه في مصحف واحد.
وقد روى ابن أبي داوود في كتاب "المصاحف" من طريق المبارك بن فضالة عن الحسن (أن عمر بن الخطاب سألَ عن آيةٍ من كتاب الله؛ فقيل كانت مع فلان فقُتِل يوم اليمامة؛ فقال: «إنا لله » ، وأمر بالقرآن فجُمِع، وكان أوَّلَ من جمعه في المصحف).
وهو منقطع لأن الحسن لم يدرك السماع من عمر، وهو محمول على أنّه أوّل من أشار بجمعه.
وقد اختلف في عدد القراء الذين قتلوا يوم اليمامة؛ فذكر ابن كثير أنهم نحو خمسمائة، وقيل أكثر من ذلك.
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث معاذ بن هشام الدستوائي قال: حدثني أبي، عن قتادة قال: (ما نعلم حيّاً من أحياء العرب أكثر شهيداً أعزَّ يوم القيامة من الأنصار)
قال قتادة: وحدثنا أنس بن مالك أنه قُتِلَ منهم يوم أحد سبعون، ويوم بئر معونة سبعون، ويوم اليمامة سبعون، قال: « وكان بئر معونة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوم اليمامة على عهد أبي بكر، يوم مسيلمة الكذاب ».
فهذا فيه أنَّ قتلى الأنصار يوم اليمامة سبعون، فإذا أضيف إليهم قتلى المهاجرين، ومن أسلم بعد الفتح من قبائل العرب؛ ربما قاربوا هذا العدد.
وقد روى أهل السير أن القراء قاتلوا يوم اليمامة قتال الأبطال وثبتوا ثباتاً عظيماً بعدما انكشف الناس، وكان عدّتهم بعد انكشاف عامة الجيش نحو ثلاثة آلاف، وعدة أصحاب مسيلمة أضعاف عددهم؛ فثبتوا واستبسلوا حتى فتح الله عليهم ونصرهم.
روى أنس بن مالك أن ثابت بن قيس جاء يوم اليمامة وقد تحنَّطَ ولبس أكفانه، وقد انهزم أصحابه، وقال: (اللهم إني أبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، وأعتذر إليك مما صنع هؤلاء، فبئس ما عوَّدتم أقرانكم، خلُّوا بيننا وبين أقراننا ساعة، ثم حَمَل فقاتل ساعة فقُتل). رواه الحاكم في المستدرك وأصله في صحيح البخاري مختصراً.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: قالَ أنس بن مالك: (لما انكشف الناس يوم اليمامة قلت لثابت بن قيس ابن شماس: ألا ترى يا عمّ، ووجدته قد حسر عن فخذيه وهو يتحنط، فقال: « ما هكذا كنا نقاتل مع رسول الله صَلَّى الله عليه وَسَلَّمَ، بئس ما عودتم أقرانكم. وبئس ما عودتم أنفسكم، اللَّهمّ إني أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء » ثم قاتل حتى قُتل رضي الله عنه).
وكان من أشهر الذين قتلوا يوم اليمامة من القرّاء: سالم مولى أبي حذيفة، وكان من كبار حملة القرآن، وممن أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بأخذ القرآن عنهم، وكان يؤمّ المسلمين في المدينة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إليها.
وقُتِلَ معه يوم اليمامة: مولاه أبو حذيفة بن عتبة، وثابت بن قيس بن شماس، وشجاع بن أبي وهب الأسدي وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام ممن هاجر إلى الحبشة وشهد بدراً والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعبد الله بن مخرمة العامري كذلك، وعباد بن بشر الأنصاري، وأبو دجانة سماك بن خرشة بن لوذان الخزرجي الأنصاري، وابن عمّه سعد بن حارثة بن لوذان، وعبد الله بن عتيك الأنصاري، وأبو مرثد الغنوي، وأبو عقيل البلوي، ومخرمة بن شريح الحضرمي، وبشير بن سعد أبو النعمان، ومعن بن عدي ابن العجلان أخو عاصم حَمِيّ الدبر، ويزيد بن ثابت الأنصاري أخو زيد بن ثابت، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وعبد الله بن عبد الله بن أبيّ بن سلول، وإياس بن ودفة من بني سالم بن عوف، وثابت بن هزال من بني عمرو بن عوف، وثابت بن خالد من بني النجار، والحارث بن أبي صعصعة من بني النجار، وزيد بن الخطاب العدوي أخو عمر، والسائب بن العوام الأسدي أخو الزبير، وجنادة بن عبد الله المطّلبي، وجبير بن بحينة الأنصاري، ورافع بن سهل بن رافع الأنصاري، وجرول بن العباس الأوسي، وجَزْء بن العباس حليف بني جحجبى، وحاجب بن يزيد الأشهلي، وحبيب بن أسيد الثقفي، وحييّ بن حارثة الثقفي، وحكيم بن حزن المخزومي عمّ سعيد بن المسيّب بن حزن، وقيس بن الحارث بن عديّ الأنصاري عمّ البراء بن عازب، والسائب بن عثمان بن مظعون، والوليد بن عبد شمس المخزومي ابن عمّ خالد بن الوليد، وسعد بن حمار بن مالك الأنصاري، وسلمة بن مسعود بن سنان الأنصاري، وسهيل بن عديّ الأزدي، وعامر بن بكيل الليثي، وعباد بن الحارث ابن جحجبى المعروف بفارس ذي الخرق، وضمرة بن عياض الجهني، وضرار بن الأزور الأسدي وقد ذُكر أنه قاتل قتالاً شديداً حتى قطعت ساقاه كلتاهما؛ فجعل يحبو ويقاتل حتى وطئته الخيل.
وتَتَبُّعُ أسمائهم يطول به المقام، وهؤلاء أكثرهم بدريون من أفاضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجنوده الذين كانوا يقاتلون معه، ومنهم من شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم من أصحاب بيعة الرضوان، وعامّتهم من القرّاء، وكانوا كتيبةَ صِدْقٍ ثبتوا حتى نصرهم الله على عدوّهم، وأعزّ بهم الدين.
وذكر ابن عبد البرّ في الاستيعاب عن نافع عن ابن عمر أن زيد بن ثابت شهد وقعة اليمامة وأصابه سهم فلم يضرّه.
وكثيرٌ من هؤلاء إنما لم يشتهر ذكرهم في القرَّاء لتقدّم وفاتهم، وقلّة الرواية عنهم، مع أنَّ لبعضهم من الفضل في القراءة ما ثبتت به بعض الأحاديث الصحيحة ؛ كما صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل سالم مولى أبي حذيفة، وقوله صلى الله عليه وسلم في مخرمة بن شريح: (( ذاك رجل لا يتوسّد القرآن )) أي لا ينام عنه.
ويكفيهم وصف أبي بكر وعمر لهم بالقرَّاء، واشتهار تلقيبهم بذلك لدى الصحابة رضي الله عنهم، وإن كان عددهم غير معروف على وجه التقريب لكنَّهم جماعة كثيرة من القرّاء). [جمع القرآن:69 - 72]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 09:33 AM
أسباب اختيار زيد بن ثابت لكتابة المصحف:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أسباب اختيار زيد بن ثابت لكتابة المصحف:
وكان اختيار أبي بكر رضي الله عنه لزيد بن ثابت دون غيره لكتابة المصحف لأسباب منها:
1. أنه رجل شابّ، وذلك مظنّة قوّته واجتهاده وقدرته على تتبّع القرآن وتحصيل ما كتبه الصحابة رضي الله عنهم وما حفظوه من القرآن.
2. وأنه رجل عاقل، وذلك دليل على رشده وحسن تصرّفه في تعامله مع الرجال واستنساخ ما كتبوه.
3. وأنه أمين غير متّهم، فيُطمئنّ إلى كتابته وجمعه.
4. وأنه كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عارف بطريقة كتابة القرآن، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم راضٍ عن كتابته، وتلك منقبة عظيمة، وهذا السبب أَجَلُّ الأسباب، ولعله إنما أخَّر ذكرَه للبدء بالأسباب المتعلقة بشخصه قبل عمله.
والمتأمّل في هذه الأسباب يدرك حكمة أبي بكر رضي الله عنه في إسناد الأمر إلى أهله، واختيار الرجل الأنسب للمهمّة الجليلة). [جمع القرآن:73]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 09:37 AM
كيف كان جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( كيف كان جمع القرآن في عهد أبي بكر رضي الله عنه؟
دَلَّت الآثار المروية في هذا الباب على أنَّ الذي تولَّى هذا الأمر زيد بن ثابت رضي الله عنه، وأنه كان القائم الأوَّل بأمر الكتابة والجمع بتكليف من أبي بكر رضي الله عنه؛ لكنَّه لم يكن وحده في ذلك الأمر، بل شاركه جماعة من قرّاء الصحابة رضي الله عنهم، فكان تنظيم العمل فيه متقناً، وتعاون قُرَّاءِ الصحابة في جمعه تعاوناً حسناً تحصل الطمأنينة بحجيته وكفايته.
ومن تلك الدلائل:
1- أنَّ الكاتب زيد بن ثابت وهو ممن جمع القرآن حفظاً في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقد عُرف بذكائه وحفظه وفقهه.
2- وأن أبا بكر كلَّف زيداً وعمر بن الخطاب بالقعود عند باب المسجد، وأمر من كان عنده شيء من القرآن مكتوباً أن يأتي به، وأن يقيم شاهدين على صِحَّةِ ما كتب.
3- وأنَّهم حصّلوا من مجموع ما نَسَخَه الصحابةُ رضي الله عنهم مفرَّقاً نُسْخَةً تامة من القرآن بشهادة رجلين على الأقل في كلِّ آية، مع حفظ الحفاظ منهم للقرآن في صدورهم، وتصديقهم لصحة ما كُتب.
4- وأنَّ أبيَّ بن كعب رضي الله عنه وجماعة من قراء الصحابة كانوا يراجعون المكتوب، ويعرضونه على حفظهم.
5- وأن الصحابة لم يقع بينهم خلاف في جمعهم هذا، وإجماعهم حجّة قاطعة بصواب ما كتبوه.
فهذا الأوجه مما يحصل بها الطمأنينة بصحة ذلك الجمع، وتقوم الحجة به.
ومن الآثار المروية في هذا الباب:
1. ما رواه الزهري عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت أنه قال: (فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره، {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} حتى خاتمة براءة). رواه البخاري في صحيحه.
2. وقال ابن وهب: أخبرني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: لما استحر القتل بالقراء يومئذ فَرَق أبو بكر على القرآن أن يضيعَ فقال لعمر بن الخطاب ولزيد بن ثابت: «اقعدوا على باب المسجد فمن جاءَكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه». رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
3. وقال أبو جعفر الرازي: حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبي بن كعب، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون}؛ فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن، فقال لهم أبي بن كعب: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} إلى {وهو رب العرش العظيم}). رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه وابن أبي داوود في كتاب المصاحف والضياء في المختارة.
4. وقال ابن شهاب الزهري: (لما أصيب المسلمون باليمامة فزع أبو بكر وخاف أن يهلك من القراء طائفة فأقبل الناس بما كان معهم وعندهم حتى جمع على عهد أبي بكر في الورق فكان أبو بكر أول من جمع القرآن في الصحف). رواه موسى بن عقبة في مغازيه كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
وهذه الآثار تدلّ دلالة بيّنة على أنَّ أبا بكر رضي الله عنه قد احتاط في جمع المصحف احتياطاً كبيراً؛ واجتهد في التوثّق من جمعه ومراجعته، وأنَّ زيد بن ثابت رضي الله عنه لم يتفرّد بمراجعة هذا الجمع، بل شاركه فيه بعض قراء الصحابة ومنهم أبيّ بن كعب؛ كما دلّ على ذلك قصة أبي خزيمة الأنصاري رضي الله عنه). [جمع القرآن:73 - 76]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 09:42 AM
تفسير العُسُبِ واللِّخَافِ والرّقاعِ والأكتافِ والأقتابِ
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (قال السيوطي: ( تفسير العُسُبِ واللِّخَافِ والرّقاعِ والأكتافِ والأقتابِ
العُسُب: جمع "عسيب" وهو جريد النخل كانوا يكشطون الخوص ويكتبون في الطرف العريض.
واللخاف: بكسر اللام وبخاء معجمة خفيفة آخره فاء جمع "لخفة" بفتح اللام وسكون الخاء وهي الحجارة الدقاق،
وقال الخطابي: صفائح الحجارة.
والرقاع: جمع "رقعة" وقد تكون من جلد أو رَقٍّ أو كاغد.
والأكتاف: جمع "كَتِف" وهو العظم الذي للبعير أو الشاة كانوا إذا جف كتبوا عليه،
والأقتاب: جمع "قَتَب" هو الخشب الذي يوضع على ظهر البعير ليركب عليه)ا.هـ). [جمع القرآن:76]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 09:45 AM
الغرض من جمع أبي بكر
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الغرض من جمع أبي بكر
كان الغرض من جمع أبي بكر أن يجمع القرآن كله في مصحف واحد، مع بقاء قراءات الصحابة كلٌّ يقرأ كما عُلّم.
وكانت الآياتُ والسور قبل جمع أبي بكر متفرقة في العسب واللخاف وصدور الرجال، وكانت العمدة على الرواية المحفوظة في الصدور، وإنما جمع المُصحف للتوثيق.
قال الحارث المحاسبي: (كتابة القرآن ليست محدثة فإنه صلَّى الله عليه وسلَّم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب).
وقال: (وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان، وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشر فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء)ا.هـ). [جمع القرآن:76 - 77]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 09:54 AM
موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع أبي بكر الصديق للقرآن:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع أبي بكر الصديق للقرآن:
لم يقع بين الصحابة رضي الله عنهم خلافٌ في جمع أبي بكر للمصحف، وهم متوافرون في المدينة؛ فكان محلّ إجماع.
- قال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن السدي، عن عبد خير، عن علي، قال: «رحم الله أبا بكر، كان أول من جمع القرآن».
- وقال يعقوب بن سفيان: حدثنا قبيصة قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن عبد خير قال: سمعت علياً يقول: «أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر رحمة الله على أبي بكر هو أول من جمع بين اللوحين» رواه ابن أبي داوود في كتاب "المصاحف" والقطيعي في زياداته على فضائل الصحابة للإمام أحمد). [جمع القرآن:77]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 09:58 AM
مصير مصحف أبي بكر:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( مصير مصحف أبي بكر:
- قال ابن وهبٍ: أخبرني مالكٌ، عن ابن شهابٍ، عن سالمٍ وخارجة (أنّ أبا بكرٍ الصّدّيق كان جمع القرآن في قراطيس، وكان قد سأل زيد بن ثابتٍ النّظر في ذلك، فأبى حتّى استعان عليه بعمر ففعل، وكانت تلك الكتب عند أبي بكرٍ حتّى توفّي، ثمّ عند عمر حتّى توفّي، ثمّ كانت عند حفصة زوج النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ فأرسل إليها عثمان؛ فأبت أن تدفعها إليه حتّى عاهدها ليردّنّها إليها، فبعثت بها إليه؛ فنسخها عثمان في هذه المصاحف، ثمّ ردّها إليها ؛فلم تزل عندها حتّى أرسل مروان فأخذها فحرّقها) رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
- وقال ابن شهاب الزهري: حدثني أنس رضي الله عنه قال: (لما كان مروان أمير المدينة أرسل إلى حفصة يسألها عن المصاحف ليمزّقها وخشي أن يخالف الكتاب بعضه بعضا، فمنعتها إياه).
قال الزهري: فحدثني سالم قال: (لما توفيت حفصة أرسل مروان إلى ابن عمر رضي الله عنهما بعزيمة ليرسلن بها، فساعة رجعوا من جنازة حفصة أرسل بها ابن عمر رضي الله عنهما، فشققها ومزقها مخافة أن يكون في شيء من ذلك خلاف لما نسخ عثمان رضي الله عنه). رواه ابن شبة في تاريخ المدينة، وأبو عبيد في فضائل القرآن، وابن حبان في صحيحه.
قال أبو عبيد: (لم يسمع في شيء من الحديث أن مروان هو الذي مَزَّقَ الصحف إلا في هذا الحديث).
- ورواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق أبي اليمان قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرني سالم بن عبد الله: أن مروان كان يرسل إلى حفصة يسألها الصحف التي كتب منها القرآن، فتأبى حفصة أن تعطيه إياها قال سالم: فلما توفيت حفصة ورجعنا من دفنها، أرسل مروان بالعزيمة إلى عبد الله بن عمر ليرسلن إليه بتلك الصحف، فأرسل بها إليه عبد الله بن عمر، فأمر بها مروان فشققت، فقال مروان: «إنما فعلت هذا لأن ما فيها قد كتب وحفظ بالمصحف، فخشيت إن طال بالناس زمان أن يرتاب في شأن هذه الصحف مرتاب، أو يقول إنه قد كان شيء منها لم يكتب».
ورواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة من طريق حفص بن عمر الدوري قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن عمارة بن غزية، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: «لما ماتت حفصة أرسل مروان إلى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما بعزيمة، فأعطاه إياها، فغسلها غسلا»). [جمع القرآن:78 - 79]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:02 AM
تنبيه:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تنبيه:
- قال ابن وهبٍ: أخبرني عمر بن طلحة اللّيثيّ، عن محمّد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرّحمن بن حاطبٍ قال: أراد عمر بن الخطّاب أن يجمع القرآن، فقام في النّاس فقال: (من كان تلقّى من رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم شيئًا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصّحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحدٍ شيئًا حتّى يشهد شهيدان)
فقُتِل وهو يجمع ذلك إليه فقام عثمان بن عفّان فقال: (من كان عنده من كتاب اللّه شيءٌ فليأتنا به وكان لا يقبل من ذلك شيئًا حتّى يشهد عليه شهيدان)
فجاء خزيمة بن ثابتٍ فقال: إنّي قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما.
قالوا: وما هما؟
قال: تلقّيت من رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيزٌ عليه ما عنتّم حريصٌ عليكم بالمؤمنين رءوفٌ رحيمٌ} إلى آخر السّورة.
قال عثمان: (فأنا أشهد أنّهما من عند اللّه فأين ترى أن نجعلهما؟).
قال: اختم بها آخر ما نزل من القرآن؛ فختُمت بها براءة ). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
وهذا الخبر ضعيف الإسناد منكر المتن؛ فيه محمد بن عمرو بن علقمة الليثي ليس بالقوي، ويحيى بن عبد الرحمن لم يدرك عمر، ومتنه منكر لمخالفته ما ثبت من أن الجمع كان في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وأن المصحف قد تمّ جمعه في حياة أبي بكر رضي الله عنه، وبقي عنده حتى مات.
وكذلك خبر آخر آيتين من سورة التوبة كان في زمن أبي بكر، وكانتا قد وجدتا عند أبي خزيمة وليس خزيمة بن ثابت، ولعله التبس عليه خبر جمع القرآن بعزيمة عمر على جمع السنة ثم عدوله عن ذلك). [جمع القرآن:79 - 80]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:11 AM
تسمية المصحف
معنى المصحف:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: ( معنى المصحف:
الأصل في لفظ "المُصحف" ضَمُّ الميمِ لأنه مصدرٌ من أُصْحِفَ؛ فهو مُصحَفٌ، أي جُعل في صحائف مضمومة إلى بعضها، مجموعة بين دفَّتين.
قال الخليل بن أحمد: (وسُمِّيَ المُصْحَفُ مُصْحَفاً لأنَّه أُصْحِفَ، أي جُعِلَ جامعاً للصُحُف المكتوبة بين الدَّفَّتَيْن).
وقال أبو منصور الأزهري وجماعة من اللغويين بنحو هذا القول؛ فهو شبه اتّفاق على مأخذ التسمية.
ثمَّ حُكي فيه كسر الميم وهي لغة تميم، وحكي فيه فتح الميم وهي لغة غير مشتهرة، ذكرها أبو جعفر النحاس.
قال الفراء: (يُقَال: مُصحفٌ ومِصْحَف، كَمَا يُقَال: مُطرَفٌ ومِطرَفٌ، وَقَوله: "مُصحفٌ" مِن أُصْحِفَ، أَي جُمِعت فِيهِ الصُّحُف، وأُطرِف: جُعل فِي طرَفيْه العَلَمان).
قَالَ: (فاستثقلت العربُ الضمة فِي حُرُوفٍ فَكسرتِ الْمِيم، وَأَصلُهَا الضَّم، فَمن ضَمّ جَاءَ بِهِ على أَصلِهِ، وَمن كَسَرَهُ فلاستثقالِه الضمة)ا.هـ). [جمع القرآن:81]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:14 AM
مبدأ تسمية المصحف:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مبدأ تسمية المصحف:
كانت العربُ أُمّةً أُميَّةً، لا تقرأ ولا تكتب، وأوَّل كتاب باللسان العربي هو القرآن ، ولم يكن للعرب قبل ذلك كتاب معروف بلسانهم، وكانت الكتابة فيهم قليلة جداً، وإنما يكتبون ما يحتاجون إليه من الرسائل والعهود والمواثيق في صحائف متفرقة لا تبلغ أن تكون كتاباً.
وقد اشتهرت بعض صحائفهم، ولها ذكر في أشعارهم، كصحيفة المتلمس، وصحيفة لقيط، والصحيفة الظالمة التي قاطعت فيها بطونُ قريش بني هاشم.
قال المتلمّس في خبر صحيفته:
مَنْ مُبلِغُ الشّعراءِ عن أخَوَيْهِمُ ... خَبَراً، فَتَصْدُقَهُم بذاكَ الأنفُسُ
أودى الذي عَلِقَ الصّحيفَةَ منهما ... ونَجَا حِذارَ حِبائِهِ المُتَلَمّس
ويقصد بالذي عَلِقَ الصحيفة طرفةَ بن العبد البكري؛ فإنَّه ظنَّ أن الملك عمرو بن هند قد كتب له فيها إلى عامل البحرين أن يُجِيزَه ويُحْسِنَ إليه، فإذا هي أَمْرٌ بقَتْلِه وصَلْبِه، وفيها يقول:
أبا منذرٍ كانت غُروراً صحيفتي ... ولم أُعْطِكم في الطَّوْعِ مالي ولا عِرْضي
وقال الممزّق العَبدي يخاطب الملك عمرو بن هند:
أكلفتني أدواء قوم تركتهم ... وإلا تداركني من البحر أغرق
فإن يُتْهِموا أُنجِدْ خِلافاً عليهم ... وإن يُعْمِنوا مُستحقِبي الحربِ أُعْرِق
فلا أنا مولاهم ولا في صحيفةٍ ... كَفَلْتُ عليهم والكفالة تعتق
(يُتهموا): أي يحلّوا بأرض تهامة، و(أُنجد): أي أرحل إلى نجد، و(يُعمنوا) يحلّوا بأرض عُمان، و(أُعرِق) أرحل إلى العِرَاق.
وقال لقيط بن معمر الإيادي في أبيات له بعث بها في صحيفة إلى قومه ينذرهم غزو كسرى:
سلام فى الصّحيفة من لقيط ... إلى مَن بالجزيرةِ من إِيادِ
بأنّ الّليث كسرى قد أتاكم ... فلا يَشْغَلكم سَوْقُ النِّقَادِ
النِّقَاد: صِغَار الغنم.
و"الصحيفة" تُجمع على صُحُف وصَحَائف إذا كانت متفرقة غير مضمومة، فإذا ضُمَّت سُميت مُصحفاً؛ فإذا تعدَّدَتْ أجزاء الكتاب سمّيت تلك الأجزاء "مصاحف".
ولذلك كانت العرب تسمّى كُتُبَ أهلِ الكتابِ "مصاحف"، كما قال امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفانِ ... ورسمٍ عَفَتْ آياتُه منذُ أزْمانِ
أتت حِجج بعدي عليها فأصبحت ... كَخَطِّ زَبورٍ في مَصاحفِ رُهبان
وقال أبو مصعب الزهري راوية الموطأ: حدثنا مالك، عن زيد بن أسلم، أنه قال: (جاء كعب الأحبار إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقام بين يديه، فاستخرج من تحت يده مُصْحَفاً، قد تشرَّمَت حواشيه، فقال: يا أمير المؤمنين، في هذه التوراة فأقرؤها؟
فقال عمر: "إن كنت تعلم أنها التوراة التي أُنزلَت على موسى، يومَ طور سَيناء، فاقرأها آناءَ الليلِ وآناءَ النهارِ، وإلا فلا" فراجعه كعب، فلم يزده على ذلك).
وقال محمد بن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه)
ثمّ ذكرت خبر احتيال قريش بهداياها إلى النجاشي ليسلّمهم إليها في خبر طويل، وفيه أن النجاشي دعا أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله.
وفيه أن جعفر بن أبي طالب كلَّمَه وقرأ عليه سورة مريم، قالت: (فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مَصَاحِفَهم حين سمعوا ما تلا عليهم). رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد أقلّ درجاته الحسن، رجاله ثقات رجال الصحيحين غير محمد بن إسحاق وقد صرّح بالتحديث، ومن أهل العلم من يصححه أحاديثه في السير.
ومصاحفهم إنما هي كتبهم التي جمعوا صحائفها وضموا بعضها إلى بعض.
ولم أقف على خبر صحيح في أوّل من سمَّى القرآن المكتوب مُصحفاً؛ إلا أنَّ تسميته بهذا الاسم جارية على الأصل في تسمية الصحفِ المجموعة إلى بعضها بين دفتين مصحفاً، ولأجل أنَّ المسلمين لم يكن لهم كتاب غيره اشتهرت تسميته بالمصحف حتى جُعلت علماً عليه.
وهذا نظير أسماء القرآن الأخرى كالكتاب والذكر والفرقان؛ فإنها إذا أطلقت انصرفت إلى القرآن لأجل العهد الذهني في التعريف، وإذا وردت في سياق يراد به غيرها تقيدت به.
وبقي استعمال المصحف للصحف المضمومة بين دفتين بعد ذلك بزمن، حتى قال الجاحظ في كتاب "البيان والتبيين" : (كانت العادة في كتاب الحيوان أن أجعل في كل مصحف من مصاحفها عشر ورقات من مقطّعات الأعراب، ونوادر الأشعار)ا.هـ.
وقد قيل إن تسمية ما كتب من القرآن بالمصحف كانت معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وروي في ذلك أحاديث وآثار لكنها معلولة، ومنها:
1: حديث محمد بن إسحق عن نافع عن ابن عمر: (سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم ينهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو). رواه الإمام أحمد والبخاري في خلق أفعال العباد بهذا اللفظ.
وقد رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو).
ومالك أثبت من ابن إسحاق.
وقد روى هذا الحديث عن نافع كلّ من: الليث بن سعد وعبيد الله العمري وأيوب السختياني وجويرية بن أسماء وعبد الله بن دينار، كلهم رووه بلفظ "القرآن" وتفرد محمد بن إسحاق بلفظ "المصحف" فدلّ ذلك على أنه أخطأ في الرواية.
2: وحديث مرزوق بن أبي الهذيل قال: حدثني الزهري قال: حدثني أبو عبد الله الأغر، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته علما علمه ونشره، وولدا صالحا تركه، ومصحفا ورثه، أو مسجدا بناه، أو بيتا لابن السبيل بناه، أو نهرا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته، يلحقه من بعد موته» رواه ابن ماجه وابن خزيمة.
ومداره على مرزوق بن أبي الهذيل الثقفي قال فيه البخاري: (تعرف وتنكر).
فهو مما لا يحتجّ به إذا تفرّد.
وله شاهد رواه ابن خزيمة والبزار والبيهقي في شعب الإيمان من حديث محمد بن عبيد الله العرزمي عن قتادة عن أنس، لكنه مما لا يفرح به فالعرزمي متروك الحديث.
وأعلّ بأنّ المحفوظ في هذا الباب عن أبي هريرة رضي الله عنه ما رواه العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، مرفوعاً: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له). رواه مسلم.
وله علَّة في متنه وهي أنَّ صحف القرآن لم تكُن قد أُصحفت في مُصحف على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير خلاف بين أهل العلم.
3: وحديث عنبسة بن عبد الرحمن الكوفي، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعطوا أعينكم حظها من العبادة» ، قيل: يا رسول الله، ما حظها من العبادة؟، قال: «النظر في المصحف، والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه» رواه أبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإيمان، وهو ضعيف جداً، بل حكم عليه الألباني بأنه موضوع، من أجل عنبسة الكوفي قال فيه أبو حاتم الرازي: كان يضع الحديث.
وقد روي في منشأ تسمية المصحف آثار واهية لا تصحّ:
منها ما ذكره السيوطي في الإتقان عن ابن أشته أنه أخرج في كتاب المصاحف من طريق موسى بن عقبة عن ابن شهاب أنه قال: لما جمعوا القرآن فكتبوه في الورق قال: أبو بكر التمسوا له اسما فقال بعضهم السفر وقال بعضهم: المصحف فإن الحبشة يسمونه المصحف وكان أبو بكر أول من جمع كتاب الله وسماه المصحف).
وقال السيوطي في موضع آخر: ومن غريب ما ورد في أول من جمعه ما أخرجه ابن أشته في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال: "أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة، أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه ثم ائتمروا ما يسمونه. فقال بعضهم: سموه السفر. قال: ذلك اسم تسميه اليهود، فكرهوه، فقال: رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف".
إسناده منقطع أيضا وهو محمول على أنه كان أحد الجامعين بأمر أبي بكر).
قلت: لا يصحّ هذا المحمل لأنَّ سالماً قُتل يوم اليمامة قبل الأمر بجمع القرآن.
وقال الزركشي: ذكر المظفري في تاريخه لما جمع أبو بكر القرآن قال سموه فقال بعضهم:
سموه إنجيلا فكرهوه وقال بعضهم سموه السفر فكرهوه من يهود فقال ابن مسعود رأيت للحبشة كتابا يدعونه المصحف فسموه به).
وهذه الأخبار واهية من جهة الإسناد لا يُعوَّل عليها). [جمع القرآن:81 - 87]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:16 AM
أسماء أجزاء المصحف وملحقاته:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أسماء أجزاء المصحف وملحقاته:
ولأجزاء المصحف وملحقاته أسماء يحسن بطالب العلم معرفتها
- فدفّتا المصحف ضمامتاه من جانبيه، قاله الخليل بن أحمد.
- والشَّرَج: عُرى المصاحف.
- والرَّصيع: زرّ عروة المصحف.
- والرَّبعة: الصندوق الذي يوضع فيه المصحف.
وكانت أوراق المصاحف من أُدم رِقَاق). [جمع القرآن:88]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 12:22 PM
الباب السادس: جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (جمع القرآن في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه
كان الناس قبل جمع عثمان كلٌّ يقرأ كما تعلَّم من وجوه القراءات وأحرفها؛ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أقرأ بعض الصحابة بأحرف وأقرأ بعضهم بأحرف أخرى، وكان الرجل منهم ربما أنكر على صاحبه وربما اختصما فلما بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم أنكر عليهم الاختلاف في القرآن ونهاهم عنه نهياً شديداً، فتأدَّب الصحابة رضي الله عنهم بما أدَّبهم به النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كلّ يقرأ كما عُلّم لا ينكر على أخيه ما صحّ من قراءته، ولا يترك الحرف الذي يقرأ به رغبة عنه.
وقد صحّ في هذا الباب أحاديث كثيرة منها:
1. ما رواه ابن شهاب الزهري قال: حدثني عروة بن الزبير، أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن عبد القاري، حدثاه أنهما سمعا عمر بن الخطاب، يقول: سمعت هشام بن حكيم بن حزام، يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرأ على حروف كثيرة، لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فتصبرت حتى سلم، فلببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقرأنيها على غير ما قرأت، فانطلقت به أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرسله، اقرأ يا هشام» فقرأ عليه القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت»، ثم قال: «اقرأ يا عمر» فقرأت القراءة التي أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك أنزلت إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منه» رواه البخاري وأحمد والترمذي والنسائي وغيرهم.
وهشام بن حكيم بن حزام من مسلمة الفتح ، وهذا مما يدلّ أنَّ نزول الأحرف السبعة كان بعد فتح مكة؛ إذ لو كان قبل ذلك لعرف واشتهر، وسورة الفرقان مكية في الأصل، لكن نزول الأحرف الأخرى فيها مما تأخر عن نزول أصلها.
2. وقال شعبة بن الحجاج: حدثنا عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت النزال بن سبرة الهلالي، عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: سمعت رجلا قرأ آية وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ خلافها؛ فجئت به النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فعرفتُ في وجهه الكراهية، وقال: «كلاكما محسن، ولا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا» رواه البخاري في صحيحه، ورواه أحمد وابن أبي شيبة والنسائي في السنن الكبرى وغيرهم.
وفي رواية عند ابن أبي شيبة أن ابن مسعود قال: (فعرفت الغضب في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وفي رواية عند أحمد: (فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
3. وقال إسماعيل بن أبي خالد: حدثني عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن جده، عن أبيّ بن كعب، قال: كنت في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلما قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: إن هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرآ، فحسَّن النبي صلى الله عليه وسلم شأنهما، فسَقَطَ في نفسِي من التكذيبِ ولا إذ كنت في الجاهلية، فلمَّا رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما قد غشيني ضربَ في صدري، ففضتُ عَرَقاً وكأنما أنظر إلى الله عز وجل فرقاً، فقال لي: « يا أبي أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين، فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: اللهم اغفر لأمتي، اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم، حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم ». رواه أحمد ومسلم وابن حبان.
4. وقال همّام بن يحيى: حدثنا قتادة، عن يحيى بن يعمر، عن سليمان بن صرد، عن أبيّ بن كعب، قال: قرأت آية وقرأ ابن مسعود خلافها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ألم تقرئني آية كذا وكذا؟
قال: "بلى "
فقال ابن مسعود: ألم تقرئنيها كذا وكذا؟
فقال: "بلى، كلاكما محسن مجمل "
قال: فقلت له: فضرب صدري،
فقال: "يا أبي بن كعب، إني أقرئت القرآن،
فقلت: على حرفين،
فقال: على حرفين، أو ثلاثة؟
فقال الملك الذي معي: على ثلاثة
فقلت: على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف، ليس منها إلا شاف كاف، إن قلت: غفورا رحيما، أو قلت: سميعا عليما، أو عليما سميعا فالله كذلك، ما لم تختم آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب). رواه أحمد
- وهذا الحديث رواه إسرائيل بن يونس، عن جدّه أبي إسحاق السبيعي ، عن سقير العبدي، عن سليمان بن صرد، عن أبي بن كعب، قال: سمعت رجلا يقرأ، فقلت: من أقرأك؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: انطلق إليه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: استقرئ هذا، فقال: "اقرأ " فقرأ، فقال: "أحسنت " فقلت له: أولم تقرئني كذا وكذا؟ قال: "بلى، وأنت قد أحسنت " فقلت بيدي: قد أحسنت مرتين، قال: فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده في صدري، ثم قال: "اللهم أذهب عن أبي الشكَّ " ففضت عرقا، وامتلأ جوفي فرقا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أبي، إن ملكين أتياني، فقال أحدهما: اقرأ على حرف، فقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأ على حرفين، فقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأ على ثلاثة، فقال الآخر: زده، فقلت: زدني، قال: اقرأ على أربعة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال: اقرأ على خمسة أحرف، قال الآخر: زده، قلت: زدني، قال: اقرأ على ستة، قال الآخر: زده، قال: اقرأ على سبعة أحرف، فالقرآن أنزل على سبعة أحرف). رواه أحمد.
5: وفي حديث شعبة عن عبد الرحمن بن عابس النخعي عن رجل من همدان من أصحاب عبد الله بن مسعود أن ابن مسعود جمعهم وقال: (إن هذا القرآن أنزل على حروف، والله إن كان الرجلان ليختصمان أشد ما اختصما في شيء قط، فإذا قال القارئ: هذا أقرأني، قال: "أحسنت"، وإذا قال الآخر، قال: "كلاكما محسن"). رواه أحمد وغيره وقد تقدم.
وهذه الأحاديث والآثار تدلّ دلالةً بيّنة على أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد بيّن الهدى لأصحابه في شأن هذه الأحرف وما يصنع أحدهم إذا سمع قراءة غير التي يقرأ بها.
وقد فقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأمر أحسن الفقه، وتأدبوا به أحسن الأدب، وعلّموه أصحابهم من التابعين لهم بإحسان.
قال شعيب بن الحبحاب: كان أبو العالية الرياحي إذا قرأ عنده رجل لم يقل: ليس كما تقرأ، ويقول: أما أنا فأقرأ كذا وكذا.
قال شعيب: فذكرت ذلك لإبراهيم [النخعي]؛ فقال: (أرى صاحبك قد سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله). رواه أبو عبيد وابن جرير.
وأبو العالية الرياحي من كبار التابعين أسلم في خلافة أبي بكر، وقرأ على عمر وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت، وتفقه بهم، وكان ابن عباس يحبّه ويكرمه ويرفع من شأنه.
والمقصود أنَّ الصحابة رضي الله عنهم وفقهاء التابعين لم يكن بينهم اختلاف ولا تنازع في القراءات بسبب ما عرفوه من الهدى في هذا الباب.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يكتبون القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده، وكان كلٌّ يكتب كما أُقرئ؛ ولما استخلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه وجمع القرآن في مصحف لم يمنع الناس من كتابة المصاحف؛ فكانت المصاحف تُكتب في عهد أبي بكر وعمر وصدر خلافة عثمان على نحو ما يقرأ كلّ قارئ؛ فكثرت المصاحف وتعددّت، ولم يكن بين الصحابة رضي الله عنهم خلاف ولا تخاصم فيما تختلف فيه مصاحفهم؛ فكان اختلافهم في هذا الباب مأمونا لما أدّبهم به النبي صلى الله عليه وسلم، ولما عقلوا من نهيه عن الاختلاف في القرآن، وأن يقرأ كل واحد منهم كما عُلّم، وقد ورد في ذلك في الأحاديث المتقدّم ذكرها.
وكان المعوَّل في قراءة القرآن وإقرائه على السماع والتلقّي، وإنما يستعان بالكتابة على تذكّر ما قد ينساه القارئ من حفظه). [جمع القرآن:89 - 94]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 12:24 PM
أسباب جمع عثمان رضي الله عنه للقرآن:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أسباب جمع عثمان رضي الله عنه للقرآن:
لما كثرت الفتوحات في زمن عمر ثم زمن عثمان واتّسعت بلاد المسلمين، وأقبل الناس على قراءة القرآن وحفظه ظهر الخلاف والتخاصم في القراءات؛ حتى اشتدّ الخلاف في بعض البلدان، وكفَّر بعض الجهّال بعض من قرأ غير قراءتهم، وكادت أن تكون بينهم فتنة بسبب ذلك.
فكان بعض الصحابة يلحظ ذلك وينكره، ويبلغ عثمان أنواع من الخلاف والتنازع؛ فلما تفاقم الأمر، وجاء حذيفة بخبر الفتنة التي حصلت بسبب هذا الاختلاف؛ خطب عثمان في الناس، واستشار فقهاء الصحابة وقراءهم، واجتمعت كلمتهم على جَمْعِ مصحفٍ إمامٍ تستنسخ منه المصاحف، ويلغى ما خالفه.
وقد روى أهل الحديث آثاراً كثيرة تدلّ على تعدّدِ الأسباب التي حملت عثمان رضي الله عنه على الأمر بجمع المصاحف، ومن ذلك:
1. خبر إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثنا ابن شهاب [الزهري] عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان - وكان يغازي أهل الشام في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق - فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة؛ فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى.
فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان؛ فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف). رواه البخاري والترمذي والنسائي في الكبرى.
- وروى يونس وابن وهب عن ابن شهاب أنه قال: (حدثني أنس بن مالك رضي الله عنه: أنه اجتمع لغزوة أرمينية وأذربيجان أهل الشام وأهل العراق، فتذاكروا القرآن فاختلفوا فيه حتى كاد يكون بينهم فتنة). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.
2. وروى أبو إسحاق السبيعي عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قام عثمان فخطب الناس فقال: " أيها الناس عهدكم بنبيكم منذ ثلاث عشرة وأنتم تمترون في القرآن، وتقولون قراءة أبيّ وقراءة عبد الله، يقول الرجل: والله ما تقيم قراءتك فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به...) رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة وابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
3. وروى علقمة بن مرثد الحضرمي، عن العيزار بن جرول الحضرمي عن سويد بن غفلة الجعفي قال: والله لا أحدثكم إلا بشيء سمعته من علي: سمعته يقول: " اتقوا الله في عثمان ولا تغلوا فيه، ولا تقولوا حراق المصاحف، فوالله ما فعل إلا عن ملأ منا أصحاب محمد، دعانا فقال: ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضكم يقول: قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا، وإنكم إن اختلفتم اليوم كان لمن بعدكم أشد اختلافا "،
قلنا: فما ترى؟ قال: «أن أجمع الناس على مصحف واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف» ، قلنا: فنعم ما رأيت، قال: «فأي الناس أقرأ؟» قالوا: زيد بن ثابت،
قال: «فأي الناس أفصح وأعرب؟»
قالوا: سعيد بن العاص، قال: «فليكتب سعيد وليمل زيد» ، قال: فكانت مصاحف بعث بها إلى الأمصار، قال علي: «والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل» رواه عمر بن شبة.
4. وقال يحيى بن عبد الرحمن الأرحبي: حدثني عبد الله بن عبد الملك الحر، عن إياد بن لقيط، عن يزيد بن معاوية النخعي قال: إني لفي المسجد زمن الوليد بن عقبة في حلقة فيها حذيفة قال: وليس إذ ذاك حَجَزَةٌ ولا جَلاوزة، إذ هتف هاتف: من كان يقرأ على قراءة أبي موسى؛ فليأت الزاوية التي عند أبواب كندة، ومن كان يقرأ على قراءة عبد الله بن مسعود فليأت هذه الزاوية التي عند دار عبد الله، واختلفا في آية من سورة البقرة قرأ هذا (وأتموا الحج والعمرة للبيت) وقرأ هذا: {وأتموا الحج والعمرة لله}
فغضب حذيفة واحمرَّت عيناه، ثم قام ففزر قميصه في حجزته وهو في المسجد وذاك في زمن عثمان فقال: إما أن يركب إليَّ أمير المؤمنين وإما أن أركب، فهكذا كان من قبلكم، ثم أقبل فجلس فقال: «إن الله بعث محمدا فقاتل بمن أقبل من أدبر حتى أظهر دينه، ثم إن الله قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواد ثم إن الله استخلف أبا بكر فكان ما شاء الله، ثم إن الله قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواد، ثم إن الله استخلف عمر فنزل وسط الإسلام، ثم إن الله قبضه فطعن الناس في الإسلام طعنة جواد، ثم إن الله استخلف عثمان وايم الله ليوشكن أن يطعنوا فيه طعنة تخلفونه كله» رواه ابن أبي داوود.
5. وقال حفص بن عمر الدوري المقرئ: حدثنا إسماعيل بن جعفر أبو إبراهيم المديني، عن عمارة بن غزية، عن ابن شهاب الزهري، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت: أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قدم من غزوة غزاها بفرج أرمينية فحضرها أهل العراق وأهل الشام، فإذا أهل العراق يقرءون بقراءة عبد الله بن مسعود، ويأتون بما لم يسمع أهل الشام، ويقرأ أهل الشام، بقراءة أبي بن كعب، ويأتون بما لم يسمع أهل العراق، فيكفرهم أهل العراق، قال: «فأمرني عثمان رضي الله عنه أن أكتب له مصحفا» فكتبته، فلما فرغت منه عرضه). رواه عمر بن شبة.
6. وقال عبد الله بن وهب: حدثني عمرو بن الحارث أن بكيرا، حدثه: (أن ناساً كانوا بالعراق يسأل أحدهم عن الآية، فإذا قرأها قال: "فإني أكفر بهذه"، ففشا ذلك في الناس، واختلفوا في القراءة، فكُلِّمَ عثمانُ بن عفان رضي الله عنه في ذلك، فأمر بجمع المصاحف فأحرقها، وكتب مصاحف ثم بثَّها في الأجناد). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.
7. وروى هشام بن حسان عن محمد بن سيرين أنه قال: (كان الرجل يقرأ فيقول له صاحبه: "كفرت بما تقول"، فرُفِعَ ذلك إلى ابن عفان فتعاظم في نفسه، فجمع اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، منهم أبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأرسل إلى الرَّبْعَةِ التي كانت في بيت عمر رضي الله عنه، فيها القرآن "
قال: «وكان يتعاهدهم».
قال ابن سيرين: فحدثني كثير بن أفلح: أنه كان فيمن يكتب لهم، فكانوا كلما اختلفوا في شيء أخَّرُوه.
قلت: لم أخَّرُوه؟
قال: لا أدري
قال محمد: فظننت أنا فيه ظنا، ولا تجعلوه أنتم يقينا، ظننت أنهم كانوا إذا اختلفوا في الشيء أخروه حتى ينظروا آخرهم عهدا بالعرضة الأخيرة فكتبوه على قوله). رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة وابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
تصحفت "الرَّبعة" في المطبوع من تاريخ المدينة لابن شبة إلى (الرقعة)، و"الربعة" الصندوق الذي توضع فيه أجزاء المصحف.
8: وقال يحيى بن آدم: حدثنا عمرو بن ثابت قال: حدثنا حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الشعثاء قال: (كنا جلوسا في المسجد وعبد الله يقرأ فجاء حذيفة فقال: " قراءة ابن أم عبد وقراءة أبي موسى الأشعري، والله إن بقيت حتى آتي أمير المؤمنين، يعني عثمان، لأمرته بجعلها قراءة واحدة قال: فغضب عبد الله فقال لحذيفة كلمة شديدة قال فسكت حذيفة). رواه عمر بن شبة.
وهذا مما يدلّ على أنَّ حذيفة كان يكره هذا الاختلاف من قبل لكنَّه لم يكلّم فيه عثمان حتى رأى بوادر الفتنة.
9. وقال إسماعيل بن عليّة: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: لما كان في خلافة عثمان جعل المعلم يعلم قراءة الرجل، والمعلم يعلم قراءة الرجل، فجعل الغلمان يلتقون فيختلفون حتى ارتفع ذلك إلى المعلمين.
قال أيوب: لا أعلمه إلا قال: حتى كفر بعضهم بقراءة بعض، فبلغ ذلك عثمان، فقام خطيبا فقال: «أنتم عندي تختلفون فيه فتلحنون، فمن نأى عني من الأمصار أشد فيه اختلافاً، وأشد لحناً، اجتمعوا يا أصحاب محمد واكتبوا للناس إماماً» رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف، وهو منقطع.
وهذه الآثار تدلّ على أن هذه الأسباب اجتمعت وتظافرت؛ وأنَّ جمع القرآن كان عن إجماع من الصحابة رضي الله عنهم لما رأوه من الاختلاف فجمعوا الناس على مصحف واحد نصحاً للأمّة ودرءا للاختلاف والتنازع في كتاب الله تعالى، وما كان من خلاف ابن مسعود في أوّل الأمر فإنّه رجع عنه، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
قال البغوي في شرح السنة: (إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يقرءون القرآن بعده على الأحرف السبعة التي أقرأهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بإذن الله عز وجل، إلى أن وقع الاختلاف بين القراء في زمن عثمان، وعظم الأمر فيه، وكتب الناس بذلك من الأمصار إلى عثمان، وناشدوه الله تعالى في جمع الكلمة، وتدارك الناس قبل تفاقم الأمر، وقدم حذيفة بن اليمان من غزوة أرمينية، فشافهه بذلك، فجمع عثمان عند ذلك المهاجرين والأنصار، وشاورهم في جمع القرآن في المصاحف على حرف واحد، ليزول بذلك الخلاف، وتتفق الكلمة، واستصوبوا رأيه، وحضوه عليه، ورأوا أنه من أحوط الأمور للقرآن، فحينئذ أرسل عثمان إلى حفصة، أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف، فأرسلت إليه، فأمر زيد بن ثابت، والرهط القرشيين الثلاثة فنسخوها في المصاحف، وبعث بها إلى الأمصار)ا.هـ
تنبيه:
- قال إسماعيل بن عياش الحمصي: حدثنا حبان بن يحيى البهراني، عن أبي محمد القرشي: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب إلى الأمصار: (أما بعد، فإن نفراً من أهل الأمصار اجتمعوا عندي فتدارسوا القرآن، فاختلفوا اختلافا شديدا، فقال بعضهم: قرأت على أبي الدرداء، وقال بعضهم: قرأت على حرف عبد الله بن مسعود، وقال بعضهم: قرأت على حرف عبد الله بن قيس، فلما سمعت اختلافهم في القرآن - والعهد برسول الله صلى الله عليه وسلم حديث - ورأيت أمرا منكراً فأشفقت على هذه الأمة من اختلافهم في القرآن، وخشيت أن يختلفوا في دينهم بعد ذهاب من بقي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين قرأوا القرآن على عهده وسمعوه من فيه، كما اختلفت النصارى في الإنجيل بعد ذهاب عيسى ابن مريم، وأحببت أن ندارك من ذلك، فأرسلت إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن ترسل إلي بالأُدُم الذي فيه القرآن، الذي كُتب عن فَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوحاه الله إلى جبريل، وأوحاه جبريل إلى محمد، وأنزله عليه، وإذ القرآن غض، فأمرت زيد بن ثابت أن يقوم على ذلك، ولم أفرغ لذلك من أجل أمور الناس والقضاء بين الناس، وكان زيد بن ثابت أحفظنا للقرآن، ثم دعوت نفرا من كُتَّاب أهل المدينة وذوي عقولهم، منهم نافع بن طريف، وعبد الله بن الوليد الخزاعي، وعبد الرحمن بن أبي لبابة؛ فأمرتهم أن ينسخوا من ذلك الأُدُم أربعةَ مصاحفَ وأن يتحفظوا ). رواه عمر بن شبة، وهو خبر لا يصحّ، إسناده مظلم، ومتنه منكر، وإنما أوردته ليُعلم حاله، وليتبيّن ضعف الأقوال التي كان مستندها هذا الأثر). [جمع القرآن:94 - 101]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 12:29 PM
تأريخ جمع عثمان:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (تأريخ جمع عثمان:
روى إسرائيل وزيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق السبيعي عن مصعب بن سعد قال: : جلس عثمان بن عفان رضي الله عنه على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ( إنما عهدكم بنبيكم صلى الله عليه وسلم منذ ثلاث عشرة سنة..). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.
وخالفهما غيلان بن جامع المحاربي فروى عن أبي إسحاق عن مصعب أنه قال: سمع عثمان قراءة أبي وعبد الله ومعاذ، فخطب الناس ثم قال: ( إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة، وقد اختلفتم في القرآن..). رواه ابن أبي داوود.
قال الحافظ ابن حجر: (وكانت هذه القصة في سنة خمس وعشرين في السنة الثالثة أو الثانية من خلافة عثمان وقد أخرج بن أبي داود من طريق أبي إسحاق عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: خطب عثمان فقال: "يا أيها الناس إنما قبض نبيكم منذ خمس عشرة سنة وقد اختلفتم في القراءة.." الحديثَ في جمع القرآن، وكانت خلافة عثمان بعد قتل عمر، وكان قتل عمر في أواخر ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين من الهجرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة إلا ثلاثة أشهر؛ فإن كان قوله: "خمس عشرة سنة" أي كاملة فيكون ذلك بعد مضي سنتين وثلاثة أشهر من خلافته، لكن وقع في رواية أخرى له "منذ ثلاث عشرة سنة" فيجمع بينهما بإلغاء الكسر في هذه وجبره في الأولى؛ فيكون ذلك بعد مضي سنة واحدة من خلافته فيكون ذلك في أواخر سنة أربع وعشرين، وأوائل سنة خمس وعشرين، وهو الوقت الذي ذكر أهل التاريخ أن أرمينية فتحت فيه، وذلك في أوَّل ولاية الوليد بن عقبة بن أبي مُعيط على الكوفة من قِبَل عثمان، وغفل بعض من أدركناه فزعم أن ذلك كان في حدود سنة ثلاثين، ولم يذكر لذلك مستنداً)ا.هـ). [جمع القرآن:101 - 102]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 12:32 PM
موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع عثمان
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (موقف الصحابة رضي الله عنهم من جمع عثمان
أجمع الصحابة رضي الله عنهم على استحسان ما فعله عثمان رضي الله عنه من جمع الناس على مصحف إمام، ولم يخالفه منهم أحد على أمر الجمع سوى ما ذكر عن ابن مسعود في أول الأمر وكان لمعارضته أسباب تخصّه يأتي بيانها إن شاء الله، ثم إنه رجع عن المعارضة إلى موافقة ما أجمع عليه الصحابة، واستقرّ إجماع المسلمين على القراءة بما تضمنته المصاحف العثمانية وترك القراءة بما سواها.
1. قال سويد بن غَفَلة: والله لا أحدثكم إلا شيئاً سمعته من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، سمعته يقول: (يا أيها الناس لا تغلوا في عثمان، ولا تقولوا له إلا خيرا في المصاحف وإحراق المصاحف؛ فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منّا [جميعاً] أصحابَ محمد، دعانا فقال: « ما تقولون في هذه القراءة؟ فقد بلغني أن بعضكم يقول: قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرا، وإنكم إن اختلفتم اليوم كان لمن بعدكم أشد اختلافا »
قلنا: فما ترى؟
قال: «أن أجمع الناس على مصحف واحد؛ فلا تكون فرقة ولا اختلاف»
قلنا: فَنِعْمَ ما رأيت).
قال علي: « والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل».
رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة وابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق علقمة بن مرثد، عن العيزار بن جرول عن سويد به.
2. وقال أبو إسحاق السبيعي: سمعت مصعب بن سعد يقول: «أدركت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرين فما رأيت أحداً منهم عاب ما صنع عثمان رضي الله عنه في المصاحف» رواه أبو عبيد في فضائل القرآن وعمر بن شبة واللفظ له وابن أبي داوود.
وفي وراية عند ابن شبة من طريق السدي قال: حدثنا محمد بن سلمة، عن أبي عبد الرحمن، عن زيد بن أبي أنيسة، عن أبي إسحاق، عن مصعب بن سعد قال: (سمعت رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: لقد أحسن).
3. وروى الأعمش، عن شقيق، قال: (لمَّا شق عثمان رضي الله عنه المصاحف بلغ ذلك عبد الله فقال: «قد علم أصحاب محمد أني أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته» ).
قال أبو وائل: (فقعدت إلى الخلق لأسمع ما يقولون؛ فما سمعت أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم عابَ ذلك عليه). رواه عمر بن شبة). [جمع القرآن:102 - 104]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 12:36 PM
وكذلك كان موقف كبار التابعين وقرائهم:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (وكذلك كان موقف كبار التابعين وقرائهم:
- قال ثابت بن عمارة الحنفي: سمعت غنيم بن قيس المازني قال: (قرأت القرآن على الحرفين جميعاً، والله ما يسرّني أن عُثمان لم يكتب المصحف وأنه ولد لكل مسلم كلما أصبح غلاماً؛ فأصبح له مثل ما له.
قال: قلنا له: يا أبا العنبر لم؟
قال: (لو لم يكتب عثمان المصحف لطفق الناس يقرؤون الشعر). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
وغنيم بن قيس من كبار التابعين وفقهائهم أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يره، وقرأ على كبار الصحابة رضي الله عنهم.
- وقال محمد بن عبد الله الأنصاري: حدثني عمران بن حدير، عن أبي مجلز قال: «لولا أن عثمان كتب القرآن لألفيت الناس يقرؤون الشعر» رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
وقد طعن بعض أهل الأهواء على عثمان في شأن المصاحف وحرقه ما سوى المصاحف التي جمع الناس عليها، وكانت أوّل فتنة ظهرت في هذا فرقة من أهل مصر في زمن عثمان أتوا ناقمين على عثمان حتى إذا نزلوا بالجحفة أرسل إليهم عليّ بن أبي طالب ، فقال لهم عليّ: ما الذي نقمتم؟
قالوا: نقمنا أنه محا كتاب الله عز وجل.. وذكروا سائر ما نقموا عليه.
فبيّن لهم الحقّ في كلّ ما نقموا عليه من ذلك، وطفئت تلك الفتنة، ثم ظهرت فتن أخرى.
وفي زمن عليّ بن أبي طالب ظهرت طائفة في عسكره غلوا في تفضيل عليّ على عثمان حتى تناولوا عثمان وذمّوه بحرق المصاحف حتى لقّبه بعضهم (حَرَّاق المصاحف) فخطب فيهم علي بن أبي طالب، وأنكر عليهم غلوَّهم، وبيّن لهم أنه لم يحرق المصاحف إلا عن إجماع من الصحابة رضي الله عنهم لما رأوا من اختلاف الناس في القرآن.
قال عبد الرحمن بن مهدي: حدثنا يزيد بن زريع، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، قال: « عابوا على عثمان رضي الله عنه تشقيق المصاحف، وقد آمنوا بما كتب لهم، انظر إلى حمقهم» رواه عمر بن شبة.
ورواه أبو عبيد ولفظه: « ألا تعجب من حمقهم؛ كان مما عابوا على عثمان تمزيقه المصاحف، ثم قبلوا ما نسخ »). [جمع القرآن:104 - 105]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 12:39 PM
موقف ابن مسعود من جمع عثمان رضي الله عنهما:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (موقف ابن مسعود من جمع عثمان رضي الله عنهما:
كان ابن مسعود رضي الله عنه من كبار قرّاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، أخذ من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة، وكان من معلّمي القرآن على زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال مسروق: كنا نأتي عبد الله بن عمرو، فنتحدث إليه؛ فذكرنا يوما عبد الله بن مسعود؛ فقال: لقد ذكرتم رجلاً لا أزال أحبّه بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « خذوا القرآن من أربعة: من ابن أم عبد - فبدأ به - ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وسالم مولى أبي حذيفة ». رواه مسلم.
وروى الإمام أحمد وابن ماجه والنسائي في السنن الكبرى وغيرهم من طرق عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من سره أن يقرأ القرآن غضا كما أنزل؛ فليقرأه على قراءة ابن مسعود »
وعن عيسى بن دينار الخزاعي عن أبي عن عمرو بن الحارث بن المصطلق رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن يقرأ القرآن غضّاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد» رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد.
وكان الصحابة يعرفون لابن مسعود إمامته وفضله وحسن قراءته، وسابقته في الدين.
قال عبد الرحمن بن يزيد: سألنا حذيفة عن رجلٍ قريب السَّمْتِ والهَدْيِ من النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم حتى نأخذَ عنه، فقال: « ما أعرفُ أحداً أقربَ سمتاً وهدياً ودلاً بالنبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم من ابن أمِّ عبْدٍ » رواه البخاري.
وبعثه عمر بن الخطاب إلى الكوفة معلّماً ووزيراً؛ فكان يقرئ الناس في الكوفة مدة خلافة عمر وصدر خلافة عثمان؛ ونفع الله به به نفعاً مباركاً؛ وكان يقرئهم كما أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان أبو موسى الأشعري يقرئ أهل البصرة، وكان من قرّاء الصحابة رضي الله عنه.
روى أبو الضحى، عن مسروق قال: كان عبد الله وحذيفة وأبو موسى في منزل أبي موسى، فقال حذيفة: (أما أنت يا عبد الله بن قيس فبُعثتَ إلى أهل البصرة أميرا ومعلما، وأخذوا من أدبك ولغتك ومن قراءتك، وأما أنت يا عبد الله بن مسعود فبُعثت إلى أهل الكوفة معلما؛ فأخذوا من أدبك ولغتك ومن قراءتك؛ فقال عبد الله: أما إني إذا لم أضلَّهم، وما من كتاب الله آية إلا أعلم حيث نزلت، وفيم نزلت، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني، تبلغنيه الإبل لرحلت إليه). رواه ابن أبي داوود.
وفي رواية عند عمر بن شبّة أن حذيفة قال لهما: «أما إنكما إن شئتما أقمتما هذا الكتاب على حرف واحد، فإني قد خشيت أن يتهوَّن الناس فيه تهوُّنَ أهل الكتاب»
فكان حذيفة يرى اختلاف الناس في القراءة وتنازعهم، ويخشى أن تقع بينهم فتنة وتفرّق بسبب اختلافهم وتنازعهم، وكان شديد التوقي من الفتن، عظيم النصح للأمّة، مسموع الكلمة عند الخلفاء الراشدين، ولعله رأى تكرر الاختلاف فعاود النصيحة.
قال أبو الشعثاء: كنا جلوسا في المسجدِ وعبد الله يقرأ؛ فجاء حذيفة فقال: (قراءة ابن أم عبْد وقراءة أبي موسى الأشعري!! والله إن بقيت حتى آتي أمير المؤمنين، يعني عثمان، لأمرته بجعلها قراءة واحدة.
قال: فغضب عبد الله؛ فقال لحذيفة كلمة شديدة.
قال: فسكت حذيفة). رواه ابن أبي داوود في المصاحف.
فلما تفاقم الأمر ووقعت الخصومة وكادت أن تحدث فتنة واختلاف؛ لم يجد حذيفة بدّا من رفع الأمر إلى عثمان؛ كما سبق ذكره.
قال ابن فضيل: حدثنا حصين، عن مرة قال: ذُكر لي أن عبد الله وحذيفة وأبا موسى فوق بيت أبي موسى فأتيتهم، فقال عبد الله لحذيفة: (أما إنه قد بلغني أنك صاحب الحديث قال: أجل، كرهت أن يقال: قراءة فلان وقراءة فلان؛ فيختلفون كما اختلف أهل الكتاب.
قال: وأقيمت الصلاة، فقيل لعبد الله: تقدم صلّ، فأبى، فقيل لحذيفة: تقدم، فأبى، فقيل لأبي موسى: تقدم فإنَّك رب البيت). رواه ابن أبي داوود.
وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يأمر المتعلّمين أن يقرأ كلٌّ منهم كما عُلّم، وأن لا ينكر على من قرأ قراءة صحيحة؛ بل ربما اشتدّ على من يسأل عن الأحرف مخافة أن يضرب السائل بعض القراءات ببعض، ويصرف نظره إلى التدبّر والتفكر والعمل.
قال أبو وائل شقيق بن سلمة: جاء رجل يقال له نهيك بن سنان إلى عبد الله، فقال: يا أبا عبد الرحمن كيف تقرأ هذا الحرف؟ ألفا تجده أم ياء {من ماء غير أسن}، أو [من ماء غير ياسن]؟
قال: فقال عبد الله: وكلَّ القرآن قد أحصيتَ غير هذا؟!!
قال: إني لأقرأ المفصَّلَ في ركعة!
فقال عبد الله: «هذّا كهذّ الشِّعر! إنَّ أقواماً يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ولكن إذا وقع في القلب فرسخ فيه نفع »رواه مسلم.
وكان يسير في تعليم الناس القرآن على الطريقة التي تعلّمها من النبي صلى الله عليه وسلم.
لكنَّ أمر الخلاف تفاقم، ولم يسع الصحابة رضي الله عنهم إلا جمع الناس على مصحف واحد.
فلما اجتمع رأيهم على ذلك بالمدينة، وكان ابن مسعود نائياً في العراق، وكان عثمان قد اختار زيد بن ثابت لعلمه بالكتابة والخطّ، وكان أكتبَ الناسِ في زمانه، وجعل معه من جعل من القراء والكتبة والمملين، ولم يجعل ابن مسعود منهم شقّ ذلك على ابن مسعود لأنَّ ذلك يفضي إلى ترك بعض الأحرف التي قرأ بها وتلقاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يختار القراءة التي جمع عثمان عليها الناس، ولم يكن غضبُه لمجرّد أنه لم يوكل إليه جمع القرآن كما يغضب المرء على فوات منصب أو نهزة شرف، كما توهَّمه من لم يقدر فضل ابن مسعود وعلمه وزهده في المنصب وما يحرص عليه أهل الدنيا.
لكنَّه رأى أنه لو جُعل مع النفر الذين أوكل إليهم جمع القرآن وتوحيد رسمه لكان أدعى لحفظ الحروف التي يقرأ بها مما تلقّاه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغضب أن تُرك مع أنه كان من المعلّمين على زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك الزمان، وهو نحو ثلاثين سنة أو تزيد، وكان مقدَّما في إقراء القرآن وتعليمه، فلمّا اجتمع الناس لكتابة المصاحف لم يكن ممن يُستدعى لهذا الأمر الجلل، ويؤخذ من علمه فيه.
وقد سبق ذكر الحديث الذي فيه اختلاف بعض الأحرف التي قرأ بها ابن مسعود عن الأحرف التي قرأ بها أبيّ.
وكان أبيّ ممن يَرجع إليه النفر الذين كلّفهم عثمان كتابة المصاحف، وكان من ضرورة التنظيم الذي رسمه عثمان رضي الله عنه أن يختلف اختيار أولئك القراء في بعض الأحرف عما يقرأ به ابن مسعود، وأن تجتمع كلمة المسلمين على ذلك الاختيار، ولذلك شقّ هذا الأمر جداً على ابن مسعود رضي الله عنه، ولم يشقّ على أبيّ؛ فإنَّ أُبيّا دفع مصحفه الذي كتبه بخطّ يده إلى عثمان طيبة به نفسه لما اطمأنّ إلى صحة الجمع وجودة مراجعته؛ فأحرقه عثمان فيما أحرق من المصاحف.
وأمّا ابن مسعود فقام في الناس خطيباً واستنكر هذا الجمع أوّل الأمر لمّا بلغه، ثمّ إنه لمّا تبيّن له أن المصير إليه هو الحقّ رضي ما رضيه عثمان وسائر الصحابة واجتمعت عليه كلمة المسلمين.
- قال عبدة بن سليمان: حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله أنه قال: {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة }، ثم قال: (على قراءة من تأمروني أن أقرأ؟!! فلقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله، ولو أعلم أنَّ أحداً أعلم مني لرحلتُ إليه).
قال شقيق: (فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدا يرد ذلك عليه ولا يعيبه). رواه مسلم
- ورواه النسائي من طريق أبي شهاب الحناط، قال: حدثنا الأعمش، عن أبي وائل قال: خطبنا ابن مسعود فقال: «كيف تأمروني أقرأ على قراءة زيد بن ثابت بعد ما قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة، وإن زيدا مع الغلمان له ذؤابتان».
- ورواه ابن أبي داوود من هذا الطريق بسياق أتمّ عن أبي وائل أنه قال: خطبنا ابن مسعود على المنبر فقال: « {ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة} غُلُّوا مصاحفكم، وكيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت، وقد قرأت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، وإن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤابتان، والله ما أنزل من القرآن إلا وأنا أعلم في أي شيء نزل، ما أحد أعلم بكتاب الله مني، وما أنا بخيركم، ولو أعلم مكانا تبلغه الإبل أعلم بكتاب الله مني لأتيته».
قال أبو وائل: (فلما نزل عن المنبر جلست في الحلق فما أحد ينكر ما قال).
- وروى أبو الضحى، عن مسروق أنه قال: قال عبد الله حين صُنِعَ بالمصاحف ما صنع: «والذي لا إله غيره ما أنزلت من سورة إلا أعلم حيث أنزلت، وما من آية إلا أعلم فيما أنزلت، ولو أني أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته» رواه ابن أبي داوود.
- روى إسرائيل، عن جدّه أبي إسحاق السبيعي، عن خُمَير بن مالك قال: ( لما أمر بالمصاحف تغير ساء ذلك عبد الله بن مسعود؛ فقال: (من استطاع منكم أن يغلَّ مصحفه فليغله، فإن من غلَّ شيئاً جاء به يوم القيامة)
ثم قال: (قرأتُ من فمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سورة [وزيد صبي]؛ أفأترك ما أخذتُ من في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟). رواه أحمد وعمر بن شبة والطبراني وابن أبي داوود، وما بين المعكوفين عندهم ما عدا أحمد، ورواه أبو داوود الطيالسي من طريق عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق السبيعي به.
- وقال عبد الله بن عون: حدثني عمرو بن قيس، عن عمرو بن شرحبيل أبي ميسرة الهمداني، قال: أتى عليَّ رجل وأنا أصلي، فقال: (ألا أراك تصلي وقد أمر بكتاب الله أن يُمزَّق)
قال: فتجوَّزت في صلاتي وكنت لا أُحبَس، فدخلتُ الدَّار ولم أُحبس، ورَقَيت فلم أُحبَس، فإذا أنا بالأشعري، وإذا حذيفة وابن مسعود يتقاولان، وحذيفة يقول لابن مسعود: « ادفع إليهم المصحف »
فقال: « والله لا أدفعه ».
فقال: « ادفعه إليهم، فإنَّهم لا يألون أمة محمد إلا خيراً »
قال: « والله لا أدفعه إليهم، أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة وأدفعه إليهم؟!! والله لا أدفعه إليهم » رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك.
ثمّ إنّ موقفه هذا قد كرهه جماعة من كبار الصحابة وقرائهم وأنكروه.
- قال ابن شهاب الزهري: (بلغني أن كَرِهَ من مقالة ابن مسعود رجال أفاضل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم). رواه أبو عبيد في فضائل القرآن، والترمذي في سننه، وأبو يعلى في مسنده.
- وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة أنه قال: قدمت الشام فلقيت أبا الدرداء فقال: «كُنَّا نَعُدّ عبدَ الله حَنَّانا فما بالُه يواثِبُ الأمراء» رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف ومن طريقه ابن عساكر في تاريخ دمشق.
ثمّ إنّ ابن مسعود رضي الله عنه قد رجع عن موقفه هذا إلى موافقة ما اجتمعت عليه كلمة الصحابة رضي الله عنهم.
قال كثير بن هشام الكلابي: حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا عبد الأعلى بن الحكم الكلابي: أتيت دار أبي موسى الأشعري، فإذا حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري فوق إجَّار لهم، فقلت: هؤلاء والله الذين أريد فأخذت أرتقي إليهم، فإذا غلام على الدرجة فمنعني فنازعته فالتفت إليَّ بعضهم قال: خلِّ عن الرجل فأتيتهم حتى جلستُ إليهم، فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان، وأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه؛ فقال أبو موسى: (ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه)
فقال حذيفة: كيف بما صنعنا؟!! والله ما أحد من أهل هذا البلد يرغب عن قراءة هذا الشيخ، يعني ابن مسعود، ولا أحد من أهل اليمن يرغب عن قراءة هذا الشيخ، يعني أبا موسى الأشعري).
قال عبد الأعلى: (وكان حذيفة هو الذي أشار على عثمان رضي الله عنه بجمع المصاحف على مصحف واحد، ثم إن الصلاة حضرت؛ فقالوا لأبي موسى الأشعري: تقدم فإنا في دارك، فقال: لا أتقدم بين يدي ابن مسعود، فتنازعوا ساعة، وكان ابن مسعود بين حذيفة وأبي موسى فدفعاه حتى تقدَّم فصلَّى بهم). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.
وكان ابن مسعود بعد ذلك يسكّن الناسَ في أمر الاختلاف في القراءات، ويخبرهم أن اختلاف الأحرف ليس باختلاف في معاني القرآن، وأنّ كلّ حرف منها كافٍ شافٍ، وأنّ من قرأ على قراءة فليثبت عليها ولا يشكنّ فيها ولا يدعنّها رغبة عنها.
قال فلفلة الجعفي: فَزعتُ فيمن فزع إلى عبد الله في المصاحف، فدخلنا عليه، فقال رجل من القوم: إنا لم نأتك زائرين، ولكنا جئنا حين راعنا هذا الخبر، فقال: «إن القرآن أنزل على نبيكم من سبعة أبواب على سبعة أحرف، وإن الكتاب قبلكم كان ينزل من باب واحد على حرف واحد، معناهما واحد». رواه ابن أبي داوود.
- روى الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (قد سمعت القراء، فوجدتهم مقاربين، فاقرأوا كما علمتم، وإياكم والتنطع والاختلاف، فإنما هو كقول أحدكم: هلم وتعال). رواه عمر بن شبة.
- وروى عبد الرحمن بن عابس النخعي عن رجل من همدان من أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه أنه اجتمع إلى ابن مسعود ناسٌ من أهل الكوفة فقرأ عليهم السلام، وأمرهم بتقوى الله، وألا يختلفوا في القرآن ولا يتنازعوا فيه فإنه لا يختلف ولا يتشانّ ولا يَتْفَه لكثرة الردّ..
وقال لهم: (ألا ترون أن شريعة الإسلام فيه واحدة حدودها وفرائضها وأَمْرَ اللهِ فيها، فلو كان شيء من الحرفين يأمر بشيء وينهى عنه الآخر كان ذلك الاختلاف، ولكنه جامع ذلك كله). رواه عمر بن شبة.
وفي رواية عند أحمد: (إن هذا القرآن لا يختلف ولا يستشنّ ولا يتفه لكثرة الرد، فمن قرأه على حرف فلا يدعه رغبة عنه، ومن قرأه على شيء من تلك الحروف التي علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يدعه رغبة عنه، فإنه من يجحد بآية منه يجحد به كله، فإنما هو كقول أحدكم لصاحبه: اعجل، وحيَّ هلا).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (لا نزاع بين المسلمين أن الحروف السبعة التي أنزل القرآن عليها لا تتضمن تناقض المعنى وتضاده، بل قد يكون معناها متفقا أو متقاربا كما قال عبد الله بن مسعود: "إنما هو كقول أحدكم: أقبل، وهلم، وتعال".
وقد يكون معنى أحدها ليس هو معنى الآخر، لكن كلا المعنيين حق، وهذا اختلاف تنوع وتغاير لا اختلاف تضاد وتناقض)ا.هـ). [جمع القرآن:106 - 115]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 01:36 PM
الباب السابع: كتابة المصاحف العثمانية
كتابة المصاحف العثمانية
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (كتابة المصاحف العثمانية
روى أهل الحديث والأثر في شأن كتابة المصاحف التي أمر الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه بكتابتها جملة من الآثار الصحيحة والحسنة، ورويت روايات أخرى في بعضها نكارة.
والذي تلخص لي من مجموع الروايات المقبولة في هذه القضية ما يلي:
- أن عثمان رضي الله عنه لما عزم على جمع الناس على مصحفٍ إمامٍ قام في الناس خطيباً؛ فذكر لهم ما رآه وما بلغه من اختلاف الناس في شأن القراءات، وما يحذره على الأمّة من الفتنة والخصومة والتفرق؛ فاجتمعت كلمتهم على ما رآه عثمان وما أُشيرَ به عليه.
- فعزم عثمان على كلّ من بيده صحيفة أو مصحف كُتب فيه قرآن أن يأتي به؛ فاستجابوا له كلُّهم، ولم يُذكر عن أحد منهم أنه امتنع إلا ما كان من ابنِ مسعود في أوّل الأمر ولم يكن بالمدينة في ذلك الوقت، ثم إنه قد رجع عن رأيه.
- طلب عثمان البيّنة على كلّ واحد بصحّة كتابته وأنها من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.
- أرسل عثمان إلى حفصة لِتُرسل إليه المصحف الذي كُتب على عهد أبي بكر رضي الله عنه.
- أخذ الصحفَ التي قامت البيّنة بصحتها، والمصحفَ الذي جُمع على عهد أبي بكر، ووكّل زيد بن ثابت ومن معه بجمع تلك الصحف في مُصحف واحد.
- تولّى زيد بن ثابت عملَ الجمعِ، وكان الذي يُملي عليه سعيد بن العاص، وكان معه كَتَبَةٌ آخرون اختلف في عددهم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
- ما اتّفق من تلك الصُّحف كتبوه على الاتفاق، وما كان فيها من اختلاف أخَّروه، حتى يُرفع إلى عثمان.
- اجتهد عثمان ومن معه من قرّاء الصحابة في الاختيار بين الأحرف المختلفة بما يوافق لسان قريش والعرضة الأخيرة.
- لما فرغوا من المصحف الإمام عُرض مرة أخرى على عثمان، وكان ربما بعث إلى أبيّ بن كعب يسأله عن بعض الأحرف فيكتب له ما يختار منها.
- كان عثمان يتعاهدهم في جميع مراحل عملهم، وهو الذي نظّم لهم العمل ورسم لهم طريقته.
- لما تمّ جمع النسخة الأولى من المصحف من مجموع تلك الصحف عُرض مرّة أخرى على عثمان فلم يجدوا فيه شيئاً من الاختلاف لم يحسم أمره، وكانوا قبل ذلك قد اختلفوا في (التابوت) فكان قراء الأنصار يقرؤونها (التابوه) وقراء المهاجرين يقرؤونها (التابوت).
- لما طابت نفسُ عثمان بصحة ما جمع في نسخة الأصل، أمر بنسخ مصاحف أخرى من المصحف الإمام، واختلف في عددها على ما سيأتي بيانه.
- لما تمّ نسخ المصاحف أمر عثمان بإعادة مصحف أبي بكر إلى حفصة، ثم أمر ببقية المصاحف أن تُحرّق، وكان ذلك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما سيأتي بيانه إن شاء الله.
والملخص السابق مستفاد من مجموع الآثار التي ترجّح لي صحتها أو حسنها، وقد وقع في بعضها إجمال وفي بعضها تفصيل، ومن تلك الآثار:
1. ما رواه الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وفيه أنه قال: (فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان؛ فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمانُ للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفقٍ بمصحفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق). رواه البخاري والترمذي والنسائي في الكبرى وابن حبان والبيهقي.
2. وما رواه الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (نسخت الصحف في المصاحف، ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين» وهو قوله: {من المؤمنين، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} فألحقناها في سورتها في المصحف). رواه البخاري في صحيحه.
ورواه الترمذي وابن حبان والبيهقي وزادوا: (قال الزهري: فاختلفوا يومئذ في التابوت والتابوه، فقال القرشيون: التابوت، وقال زيد: التابوه، فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال: اكتبوه التابوت؛ فإنه نزل بلسان قريش).
ورواية الزهري ههنا في الخلاف في التابوت مرسلة، ورواها الطحاوي في شرح مشكل الآثار موصولة بسياق آخر فقال: حدثنا يونس قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه فذكر الحديث، وفيه:
قال زيد: (فأمرني عثمان أن أكتب له مصحفا، وقال: إني جاعل معك رجلا لبيبا فصيحا، فما اجتمعتما فيه فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إلي؛ فجعل معه أبان بن سعيد بن العاص فلما بلغ: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت}
قال زيد: فقلت أنا: التابوه، وقال أبان: {التابوت}، فرفعنا ذلك إلى عثمان فكتب: التابوت، ثم عرضته، يعني المصحف، عرضة أخرى فلم أجد فيه شيئا، وأرسل عثمان إلى حفصة أن تعطيه الصحيفة وحلف لها ليردنها إليها، فأعطته؛ فعرضت المصحف عليها فلم يختلفا في شيء؛ فردها عليها وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا المصاحف).
ونعيم بن حماد ثقة يخطئ كثيراً، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي ثقة من رجال مسلم لكنه انتُقد فيما يحدّث به من حفظه، ولذلك فما في هذا الأثر مما يخالف ما صحّ من الآثار فلا يقبل.
3. وفي رواية زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق السبيعي ، عن مصعب بن سعد، أنَّ عثمان عزم على كل من كان عنده شيء من القرآن إلا جاء به، قال: فجاء الناس بما عندهم، فجعل يسألهم عليه البينة أنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه عمر بن شبة.
4. وفي رواية إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مصعب بن سعد أن عثمان قال في خطبته: (فأعزم على كل رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به) وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرةً، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً رجلاً فناشدهم لسمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك؟
فيقول: نعم، فلما فرغ من ذلك عثمان قال: (من أَكْتَبُ الناسِ؟)
قالوا: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت.
قال: (فأيّ الناسِ أعرب؟)
قالوا: سعيد بن العاص.
قال عثمان: (فليملَّ سعيدٌ وليكتب زيد) فكتب زيد، وكتب مصاحف ففرقها في الناس، فسمعت بعض أصحاب محمد يقول: قد أحسن). رواه ابن أبي داوود.
5. وروى علقمة بن مرثد عن العيزار بن جرول عن سويد بن غفلة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن عثمان قال في خبر جمع المصاحف: «فأي الناس أقرأ؟»
قالوا: زيد بن ثابت.
قال: «فأي الناس أفصح وأعرب؟»
قالوا: سعيد بن العاص.
قال: «فليكتب سعيد وليمل زيد»
قال: فكانت مصاحف بعث بها إلى الأمصار، قال علي: «والله لو وليت لفعلت مثل الذي فعل» رواه عمر بن شبة.
وهذا قَلْبٌ من الرواي أو خطأ من الناسخ، والصواب: (فليكتب زيد، وليملّ سعيد).
6. وروى ابن شهاب الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه قال: «فأمرني عثمان رضي الله عنه أن أكتب له مصحفا؛ فكتبته، فلما فرغت منه عرضه ». رواه عمر بن شبة.
7. وروى هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن كثير بن أفلح أنه قال: (لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف، جمع له اثني عشر رجلا من قريش والأنصار، فيهم أبي بن كعب، وزيد بن ثابت قال فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر، فجيء بها.
قال: وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه.
قال محمد: فقلت لكثير - وكان فيهم فيمن يكتب -: هل تدرون: لم كانوا يؤخرونه؟
قال: لا
قال محمد: فظننت ظناً، إنما كانوا يؤخرونها لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الآخرة فيكتبونها على قوله). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف واللفظ له، وعمر بن شبة في تاريخ المدينة.
8. قال عبد الله بن المبارك: حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن، عن هانئ البربري مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب، فيها «لم يتسن» ، وفيها «لا تبديل للخلق» ، وفيها «فأمهل الكافرين» .
قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب {لخلق الله}، ومحا «فأمهل»، وكتب {فمهّل}، وكتب {لم يتسنَّه} ألحق فيها الهاء). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، وابن جرير الطبري.
وأبو وائل هو عبد الله بن بحير بن ريسان المرادي قاصّ أهل صنعاء، وثّقه يحيى بن معين وابن حبان.
وقال علي ابن المديني: سمعتُ هشام بن يوسف وسئل عن عبد الله بن بحير القاصّ الذي روى عن هانئ مولى عثمان، فقال: (كان يُتقن ما سمع)
تنبيه:
قول أنس بن مالك فيما رواه البخاري: ((فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان؛ فأمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف).
يشعر أن مصحف أبي بكر جُعل أصلاً لتنسخ منه المصاحف، وهو أثر صحيح الإسناد.
وقول زيد بن ثابت فيما رواه الطحاوي: (وأرسل عثمان إلى حفصة أن تعطيه الصحيفة وحلف لها ليردنها إليها، فأعطته؛ فعرضت المصحف عليها فلم يختلفا في شيء؛ فردها عليها وطابت نفسه، وأمر الناس أن يكتبوا المصاحف).
يشعر أن زيد بن ثابت ومن معه كتبوا المصحف الأصل أولاً ثم عرضوه على ما كتب في عهد أبي بكر، ولو صحّ عن زيد لكان مقدماً على قول أنس لأن زيداً هو صاحب الشأن وأدرى بتفصيله، لكن الإسناد إليه لا يعتمد عليه مع ما فيه من المخالفة.
تنبيه آخر:
قال إبراهيم بن يوسف السعدي: حدثني أبو المحياة، عن بعض أهل طلحة بن مصرف قال: (دفن عثمان المصاحفَ بين القبر والمنبر) رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
وهذا الخبر ضعيف الإسناد لجهالة شيخ أبي المحياة.
والصحيح الثابت أنه أحرقها كما تقدم من غير وجه، ولو صحّ هذا الخبر لأمكن أن يُحمل على دفنها بعد حرقها). [جمع القرآن:117 - 124]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 01:44 PM
عدد المصاحف العثمانية
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (عدد المصاحف العثمانية
اختلف العلماء في عدد المصاحف التي أمر عثمان بكتابتها، وأصحّ ما روي في هذا الباب ما رواه البخاري في صحيحه من طريق الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّ عثمان "أرسل إلى كل أفقٍ بمصحفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق".
وهذا مشعر بالكثرة من غير تحديد، ولا يلزم منه أن يكون الإرسال دُفعةً واحدةً.
وأقلّ ما قيل في عددها أنها كانت أربعة مصاحف: أبقى واحداً منها في المدينة، وبعث إلى الشام مصحفاً وإلى الكوفة والبصرة مصحفاً مصحفاً.
- وروى ابن أبي داوود عن عبد الأعلى بن الحكم الكلابي أنه دخل على حذيفة وابن مسعود وأبي موسى الأشعري؛ فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان وأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه).
والذي يظهر أنّ اجتماعهم كان في البصرة لما ذُكر في الأثر أنهم لما حضرتهم الصلاة قدّموا أبا موسى ليصلي بهم لأنهم في داره، وكان أبو موسى أمير البصرة.
- وقال إبراهيم النخعي: (قال رجل من أهل الشام: مصحفنا ومصحف أهل البصرة أحفظ من مصحف أهل الكوفة). فذكر الخبر، وهو في كتاب المصاحف لابن أبي داوود من طريق جرير عن مغيرة عن إبراهيم.
- وروى إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أنه قال: «إنَّ أول مَن جمع القرآن في مصحف وكتبه عثمانُ بن عفان، ثم وضعه في المسجد فأمر به يُقرأ كلَّ غداة» رواه عمر بن شبة.
وفي الصحيحين من حديث يزيد بن أبي عبيد قال: كنت آتي مع سلمة بن الأكوع فيصلي عند الأسطوانة التي عند المصحف.
فقلت: يا أبا مسلم، أراك تتحرى الصلاة عند هذه الأسطوانة!
قال: « فإني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها».
وهذه الأسطوانة كانت تسمّى أسطوانة المهاجرين لأنهم كانوا يجلسون إليها ويتحدثون عندها.
وذكر ابنُ رجب في شرحه على صحيح البخاري أنها متوسطة في الروضة الشريفة؛ فهي الأسطوانة الثالثة من القبر الشريف، والثالثة من المنبر، والثالثة من القبلة.
وقال ابن حجر: (قوله: (التي عند المصحف) هذا دالٌّ على أنه كان للمصحف موضع خاص به، ووقع عند مسلم بلفظ "يصلي وراءَ الصندوق" وكأنه كان للمصحف صندوق يوضع فيه)ا.هـ.
قلت: وهذا الصندوق كان يُسمَّى "الرَّبْعة".
والمقصود أن هذه الآثار أفادت الخبر عن أربعة مصاحف: مصحف المسجد النبوي بالمدينة، ومصحف الشام، ومصحف الكوفة، ومصحف البصرة.
- قال حمزة الزيات القارئ: (كتب عثمان أربعةَ مصاحف، فبعث بمصحف منها إلى الكوفة، فوُضِعَ عند رجل من مُراد، فبقي حتى كتبتُ مصحفي عليه). رواه ابن أبي داوود.
- وقال ابن حجر في فتح الباري: (واختلفوا في عدة المصاحف التي أرسل بها عثمان إلى الآفاق فالمشهور أنها خمسة).
فيكون خامسها المصحف الذي أمسكه لنفسه، وهو الذي يُدعى المصحف الإمام.
- وقال ابن أبي داوود: سمعت أبا حاتم السجستاني قال: (لما كتب عثمان المصاحف حين جمع القرآن، كتب سبعة مصاحف، فبعث واحدا إلى مكة، وآخر إلى الشام، وآخر إلى اليمن، وآخر إلى البحرين، وآخر إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وحبس بالمدينة واحدا).
- وقال أبو عمرو الداني: (أكثر العلماء على أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما كتب المصحف جعله على أربع نسخ، وبعث إلى كل ناحية من النواحي بواحدة منهن؛ فوجّه إلى الكوفة إحداهن، وإلى البصرة أخرى، وإلى الشام الثالثة، وأمسك عند نفسه واحدة، وقد قيل إنه جعله سبع نسخ، ووجّهَ من ذلك أيضاً نسخة إلى مكة، ونسخة إلى اليمن، ونسخة إلى البحرين، والأوَّلُ أصحّ وعليه الأئمة)ا.هـ.
- وقال ابن الجزري في النشر: (فكتب منها عدة مصاحف، فوجه بمصحف إلى البصرةِ، ومصحف إلى الكوفةِ، ومصحف إلى الشامِ، وترك مصحفاً بالمدينة، وأمسك لنفسه مصحفاً الذي يقال له: "الإمام"، ووجَّهَ بمصحف إلى مكة، وبمصحف إلى اليمن، وبمصحف إلى البحرين)ا.هـ.
فهذه ثمانية مصاحف.
وأيَّا ما كان عدد تلك المصاحف التي كُتبت في أوَّل الأمر؛ فإنّ القراء في كلّ أُفُقٍ قد استنتسخوا منها نسخاً كثيرة، وأقبلَ الناس على كتابة المصاحفِ حتى كثر عددها، وانتشرت في البلدان.
وقد روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث بن يعقوب عن بكير بن عبد الله بن الأشج(ت:117هـ): أنَّ عثمان رضي الله عنه أمر بجمع المصاحف فأحرقها ثم بثَّ في الأجناد التي كتب.
وهذا الأثرُ وإن كان منقطعاً من جهة أنَّ بكيراً لم يدرك عثمان إلا أنَّ هذا الخبر مما استفاض العلمُ به لديهم، وغير بعيد أن يكون بكيرٌ قد أدرك بعض الكَتبةِ، وبكير بن الأشج من العلماء الأثبات، قال فيه علي بن المديني: (لم يكن بالمدينة بعد كبار التابعين أعلم من ابن شهاب، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وبكير بن عبد الله بن الأشج)). [جمع القرآن:125 - 128]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 01:50 PM
مصير مصحف عثمان
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصير مصحف عثمان
قال ابن وهب: سألتُ مالكاً عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقال لي: «ذهب» رواه ابن أبي داود.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: (رأيت في الإمامِ مصحفِ عثمانَ بن عفان - استُخرج لي من بعض خزائن الأمراء ورأيت فيه دمه - في سورة البقرة " خطيكم " بحرف واحد والتي في الأعراف " خطيئتكم " بحرفين). رواه أبو عمرو الداني في المقنع.
وذكر نور الدين السمهودي (ت:911هـ) في كتابه "الوفاء بأخبار دار المصطفى" أن هذا النصّ في كتاب "القراءات" لأبي عبيد، وهو مفقود اليوم.
وقال ابن الجزري في النشر في مسألة رسم (ولات حين): (رأيتها مكتوبة في المصحف الذي يقال له: "الإمام" مصحف عثمان رضي الله عنه (لا) مقطوعة والتاء موصولة بحين، ورأيت به أثر الدم، وتبعت فيه ما ذكره أبو عبيد؛ فرأيته كذلك، وهذا المصحف هو اليوم بالمدرسة الفاضلية من القاهرة المحروسة)ا.هـ.
قال السمهودي في تعقيبه على كلام أبي عبيد: (وردَّه أبو جعفر النحاس بما تقدم من كلام مالك.
قال الشاطبي: وأباه المنصفون لأنه ليس في قول مالك «تغيّب» ما يدل على عدم المصحف بالكلية بحيث لا يوجد؛ لأن ما تغيَّب يُرجى ظهوره).
قال السمهودي: (قلت: فيحتمل أنه بعد ظهوره نقل إلى المدينة، وجُعل بالمسجد النبوي.
لكن يوهن هذا الاحتمال أن بالقاهرة مصحفا عليه أثر الدم عند قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} الآية كما هو بالمصحف الشريف الموجود اليوم بالمدينة، ويذكرون أنه المصحف العثماني، وكذلك بمكة، والمصحف الإمام الذي قتل عثمان رضي الله عنه وهو بين يديه لم يكن إلا واحداً، والذي يظهر أنَّ بعضهم وضعَ خَلُوقاً على تلك الآية تشبيهاً بالمصحف الإمام)ا.هـ.
ويؤيّد ما ذهب إليه السمهودي ما رواه عمر بن شبّة في تاريخ المدينة عن محرز بن ثابت مولى مسلمة بن عبد الملك، عن أبيه قال: كنت في حرس الحجاج بن يوسف، فكتب الحجاج المصاحف، ثم بعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحف إلى المدينة، فكره ذلك آل عثمان، فقيل لهم: أخرجوا مصحف عثمان يُقرأ، فقالوا: أصيب المصحفُ يومَ قتل عثمان رضي الله عنه.
قال محرز: (بلغني أن مصحف عثمان بن عفان صار إلى خالد بن عمرو بن عثمان).
قال: (فلما استُخلِف المهديُّ بعثَ بمصحفٍ إلى المدينة؛ فهو الذي يقرأ فيه اليوم، وعزل مصحف الحجاج، فهو في الصندوق الذي دون المنبر)). [جمع القرآن:128 - 129]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 01:52 PM
أسماء كتبة المصاحف العثمانية
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أسماء كتبة المصاحف العثمانية
اختُلف في عدد الكَتَبةِ الذين كتبوا المصاحف العثمانية
- ففي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه أن عثمان أمر زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوا الصحف التي كانت عند حفصة في المصاحف.
- وفي كتاب المصاحف من حديث ابن سيرين عن كثير بن أفلح أن عثمان جمع اثني عشر رجلاً من قريش والأنصار، منهم أبيّ بن كعب وزيد بن ثابت.
- وذكر ابن سيرين أن كثير بن أفلح مولى أبي أيّوب الأنصاري كان من كتاب المصاحف.
- وروى ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق عمارة بن غزية عن خارجة بن زيد أن الذي كان يملي على زيد هو أبان بن سعيد بن العاص، وهو وهم، والصواب أنه سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أبي أمية، وهو معدود في صغار الصحابة رضي الله عنهم، وأبان بن سعيد عمّه قتل يوم أجنادين في أوّل خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قال الحافظ في الفتح: (قال الخطيب: ووهم عمارة في ذلك لأن أبانَ قتل بالشام في خلافة عمر، ولا مدخل له في هذه القصة، والذي أقامه عثمان في ذلك هو سعيد بن العاص ابن أخي أبان المذكور).ا.هـ.
وقد عُدّ منهم مالك بن أبي عامر الأصبحي الحميري(ت:74هـ) جدّ الإمام مالك بن أنس، وكان من القراء زمن عثمان بن عفان، وهو من أمدادِ حِمْيَر ليس معدوداً من المهاجرين ولا من الأنصار.
قال الإمام مالك في الموطأ: «ولا بأس بالحلية للمصحف، وإنَّ عندي مصحفا كتبه جَدّي إذْ كَتَب عثمان رضي الله عنه المصاحف، عليهِ فِضَّةٌ كثيرة».
وهذا ليس بنصٍّ على أنه كان من كُتّاب المصاحف العثمانية، وإنما يدلّ على أنَّه كتبه في ذلك الزمان؛ ويدلّ لذلك أنَّ هذا المصحف بقي في ملكه حتى ورثه حفيدُه الإمام مالك، ولو كان من المصاحف التي أُمر بكتابتها لمصلحة المسلمين لما كان له أن يتملَّكه.
وقد كَثُرَ استنساخُ المصاحف بعد أن جمع عثمان رضي الله عنه الناس على مصحف إمام؛ فالأظهر أن مراد الإمام مالك أن جدّه كتب ذلك المصحف لنفسه في ذلك الوقت.
قال ابن حجر: (ووقع من تسمية بقية من كتب أو أملى عند بن أبي داود مفرقا جماعة:
- منهم: مالك بن أبي عامر جدّ مالك بن أنس من روايته، ومن رواية أبي قلابة عنه.
- ومنهم: كثير بن أفلح كما تقدَّم.
- ومنهم أبيّ بن كعب كما ذكرنا.
- ومنهم أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس وقع ذلك في رواية إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع عن ابن شهاب في أصل حديث الباب.
فهولاء تسعة عرفنا تسميتهم من الاثني عشر.
وقد أخرج بن أبي داود من طريق عبد الله بن مغفل وجابر بن سمرة قال: قال عمر بن الخطاب: (لا يملين في مصاحفنا إلا غلمان قريش وثقيف) وليس في الذين سميناهم أحد من ثقيف، بل كلهم إمَّا قريشى أو أنصاري، وكأن ابتداء الأمر كان لزيد وسعيد للمعنى المذكور فيهما في رواية مصعب، ثم احتاجوا إلى من يساعد في الكتابة بحسب الحاجة إلى عدد المصاحف التي تُرسل إلى الآفاق؛ فأضافوا إلى زيد مَن ذُكِرَ ثم استظهروا بأبيّ بن كعب في الإملاء)ا.هـ.
قلت: تقدّم ما يتعلّق بجدّ الإمام مالك، وأما عدّ ابن عباس وأنس بن مالك فإن كان مستنده إنما هو ما رواه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمّع الأنصاري عن الزهريّ؛ فلا يصحّ؛ لأنه متروك الحديث لكثرة وهمه وضعف سَمْعِه، وقد قال فيه البخاري: (كثيرُ الوهم في الزهري)). [جمع القرآن:130 - 132]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 01:56 PM
الجمع العثماني والأحرف السبعة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الجمع العثماني والأحرف السبعة
كانت المصاحف قبل جمع عثمان رضي الله عنه تكتب بحسب ما بلغ كاتبيها من القراءة التي تعلّموها؛ فيكتب كل واحد منهم مصحفه أو بعض السور على نحو ما أُقرئ، وكان القرآن يُقرأ على أحرف كما صحّت بذلك الأحاديث، وقد تقدّم بعضها.
فكانت مصاحف الصحابة والتابعين قبل جمع عثمان على وجوه من الأحرف السبعة؛
وكان ما أنزل الله من القرآن على الأحرف السبعة توسعة على الناس ورحمة بهم؛ فإنّ العرب كانت على قبائل مختلفة اللهجات وطرائق النطق، وحَمْل أهل كلّ لسان منهم على ما يخالف سجيتهم فيه مشقّة بالغة، ولا تستطيعه ألسنتهم إلا برياضة شديدة ومِرَان طويل، فكان من رحمة الله أن نزل القرآن على سبعة أحرف وكان الاختلاف في الأحرف السبعة على نوعين:
النوع الأول: اختلاف في طريقة نطق الحروف والكلمات كقراءة {الصراط} بالسين والصاد والزاي وبإشمام الزاي بالصاد؛ وهذه راجعة في الأصل إلى طريقةِ أهلِ كل لغةٍ من العرب في نطق هذه الكلمات.
والنوع الثاني: اختلاف في بعض الكلمات؛ كقوله تعالى: {وأتموا الحجّ والعمرة لله} وفي بعض الأحرف: [وأقيموا الحجّ والعمرة للبيت] ، وقوله تعالى: {وما خلق الذكر والأنثى} وفي قراءة أخرى: [والذكر والأنثى]، وقوله تعالى: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا} وفي قراءة أخرى [وما أوتوا من العلم إلا قليلا]
وهذا النوع من الاختلاف منه ما نُسخت تلاوته، ومنه ما بقي حتى اجتمع الصحابة في عهد عثمان على جمع الناس على رسم واحد.
وأما النوع الأول من الاختلاف فقد قلَّ أثرُه بعد انتشار الإسلام وتداخل القبائل، واشتراك رجال تلك القبائل في الجهاد والغزوات، وفي سكنى بعض البلدان التي أنشئت بعد الفتوحات كالكوفة والبصرة وبعض حواضر الشام، وارتحل بعضهم لطلب العلم، وبعضهم للتجارة وطلب الرزق آمناً في بلاد المسلمين؛ وكثر ذلك منهم، حتى نشأ جيل ارتاضت ألسنتهم على التلاوة بلسان قريش، فلم يكن في جمع الناس على لسان قريش حرجٌ بعد ذلك.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر بالإقراء بلغة قريش.
قال محمد بن الصباح البزاز: حدثنا هشيم، عن عبد الرحمن بن عبد الملك يعني ابن كعب بن عجرة، عن أبيه، عن جده، قال: كنت عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقرأ رجل من سورة يوسف (عتا حين) ، فقال عمر رضي الله عنه: «من أقرأك هكذا؟» قال: ابن مسعود.
فكتب عمر رضي الله عنه إلى ابن مسعود: «أما بعد، فإن الله أنزل هذا القرآن بلسان قريش، وجعله بلسان عربي مبين، فأقرئ الناس بلغة قريش، ولا تقرئهم بلغة هذيل، والسلام» رواه عمر بن شبة.
وقد اختار عثمان لإملاء المصاحف أعرب قريش لساناً وأفصحهم بياناً سعيد بن العاص، وكان فيما يذكرونَ عنه أشبهَ الناسِ لهجةً برسول الله صلى الله عليه وسلم، واختار لكتابة المصاحف أعلمَ الصحابة بالكتابة والخطّ زيد بن ثابت؛ فكان يكتب على نحو ما يُملي سعيد بن العاص في طريقة نُطْقِه وأَدائِه.
والعلاقة بين الجمع العثماني والأحرف السبعة من دقيق مسائل جمع القرآن، وفيها خلاف كثير بين أهل العلم.
1. فذهب الحارث المحاسبي وابن جرير الطبري وابن القيّم وجماعة من أهل العلم إلى أن عثمان حمل الناس على حرف واحد من تلك الأحرف السبعة.
قال ابن جرير: (وجمعهم [أي:عثمان] على مصحف واحد، وحرف واحد، وخَرَّق ما عدا المصحف الذي جمعهم عليه، وعزم على كل من كان عنده مُصحفٌ مخالفٌ المصحفَ الذي جمعهم عليه أن يخرقه؛ فاستوسقتْ له الأمة على ذلك بالطاعة، ورأت أنّ فيما فعلَ من ذلك الرشدَ والهداية، فتركت القراءة بالأحرف الستة التي عزم عليها إمامُها العادلُ في تركها، طاعةً منها له، ونظرًا منها لأنفسها ولمن بعدَها من سائر أهل ملتها، حتى دَرَست من الأمة معرفتها، وتعفت آثارها، فلا سبيلَ لأحد اليوم إلى القراءة بها، لدثورها وعُفُوِّ آثارها، وتتابعِ المسلمين على رفض القراءة بها، من غير جحود منها صحتَها وصحةَ شيء منها، ولكن نظرًا منها لأنفسها ولسائر أهل دينها؛ فلا قراءة للمسلمين اليوم إلا بالحرف الواحد الذي اختاره لهم إمامهم الشفيقُ الناصحُ، دون ما عداه من الأحرف الستة الباقية)ا.هـ.
وهذا القول لا يصحّ لأنَّ المصاحف العثمانية لم تكن منقوطة ولا مشكولة وقد وقع بينها اختلاف في بعض المواضع في الرسم، وكان القراء يقرؤون من قراءاتهم بما وافق الرسم، ويدعون ما خالف الرسم، فقرؤوا من الأحرف السبعة ما وافق الرسم، وبذلك نشأت القراءات المعروفة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ليست هذه القراءات السبعة هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها باتفاق العلماء المعتبرين).
وقال الشيخ عبد الرحمن المعلمي: (كُتب القرآن بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم في قِطَعٍ من الجريد وغيره، تكون في القطعة الآية والآيتان وأكثر، وكان رسم الخطّ يومئذ يحتمل - والله أعلم - غالب الاختلافات التي في الأحرف السبعة، إذ لم يكن له شَكْل ولا نَقْط، وكانت تحذف فيه كثير من الألفات ونحو ذلك كما تراه في رسم المصحف، وبذاك الرسم عينه نُقِل ما في تلك القطع إلى صحف في عهد أبي بكر، وبه كتبت المصاحف في عهد عثمان، ثم صار على الناس أن يضبطوا قراءتهم، بأن يجتمع فيها الأمران: النقل الثابت بالسماع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، واحتمال رسم المصاحف العثمانية.
وبذلك خرجت من القراءات الصحيحة تلك التغييرات التي كان يترخَّص بها بعض الناس، وبقي من الأحرف الستة المخالفة للحرف الأصلي ما احتمله الرسم)ا.هـ.
2. وذهب بعض أهل العلم إلى أنّ جمع عثمان يحتمل الأحرف السبعة كلها، وهو بعيد مخالف لمقصود جمع عثمان رضي الله عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ذهب طوائف من الفقهاء والقراء وأهل الكلام إلى أن هذا المصحف مشتمل على الأحرف السبعة وقرر ذلك طوائف من أهل الكلام كالقاضي أبي بكر الباقلاني وغيره؛ بناء على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الأحرف السبعة)ا.هـ.
وقال الحافظ ابن الجزري في النشر: (ذهب جماعات من الفقهاء والقرّاء والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة، وبنوا ذلك على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل القرآن بها)ا.هـ.
وهذا كما تراه استناد على غير الأثر.
وقال ابن الجزري في منجد المقرئين: (إذا قلنا: إنَّ المصاحف العثمانية محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أنزلها الله تعالى كان ما خالف الرسم يقطع بأنه ليس من الأحرف السبعة، وهذا قول محظور لأن كثيرا مما خالف الرسم قد صح عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم).
وقال أيضاً: (نحن نقطع بأن كثيراً من الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقرؤون بما خالف رسم المصحف العثماني قبل الإجماع عليه من زيادة كلمة وأكثر، وإبدال أخرى بأخرى، ونقص بعض الكلمات كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، ونحن اليوم نمنع من يقرأ بها في الصلاة وغيرها منع تحريم لا منع كراهة، ولا إشكال في ذلك، ومن نظر أقوال الأولين علم حقيقة الأمر، وذلك أن المصاحف العثمانية لم تكن محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أبيحت بها قراءة القرآن كما قال جماعة من أهل الكلام وغيرهم بناء منهم على أنَّه لا يجوز على الأمة أن تُهمل نقل شيء من الأحرف السبعة)ا.هـ.
3. والراجح أن عثمان اختار من الأحرف السبعة ما وافق لغة قريش والعرضة الأخيرة وقراءة العامّة، وبقي الرسم العثماني محتملاً لبعض ما في الأحرف الأخرى.
قال مكيّ بن أبي طالب القيسي(ت:437هـ): (فالمصحف كتب على حرف واحد، وخطه محتمل لأكثر من حرف إذ لم يكن منقوطاً ولا مضبوطاً).
وقال في موضع آخر: (إن هذه القراءات كلها التي يقرأ بها الناس اليوم، وصحت روايتها عن الأئمة، إنما هي جزء من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووافق اللفظ بها خط المصحف، مصحف عثمان الذي أجمع الصحابة فمن بعدهم عليه، واطرح ما سواه مما يخالف خطه).
وقال أحمد بن عمار المقرئ(ت:440هـ): (أصحُّ ما عليه الحذاق من أهل النظر في معنى ذلك إنما نحن عليه في وقتنا هذا من هذه القراءات هو بعض الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن). نقله أبو شامة في المرشد الوجيز.
وقال ابن الجزري: (وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي صلى الله عليه وسلم على جبرائيل عليه السلام - متضمنة لها لم تترك حرفا منها).
قال: (وهذا القول هو الذي يظهر صوابه؛ لأن الأحاديث الصحيحة والآثار المشهورة المستفيضة تدلُّ عليه وتشهد له).
وقال الحافظ ابن حجر: (والحق أن الذي جُمع في المصحف هو المتفق على إنزاله المقطوع به المكتوب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه بعض ما اختلف فيه الأحرف السبعة لا جميعها، كما وقع في المصحف المكي {تجري من تحتها الأنهار} في آخر براءة وفي غيره بحذف من، وكذا ما وقع من اختلاف مصاحف الأمصار من عدة واوات ثابتة في بعضها دون بعض، وعدة هاءات، وعدة لامات، ونحو ذلك، وهو محمول على أنه نزل بالأمرين معاً)ا.هـ.
ومما ينبغي أن يُعلم أنَّ المعوَّل في القراءة والإقراء على السماع، وإنما يُستفاد من الكتابة في أمرين:
الأمر الأول: أن يستعين القارئ بالمصحف على تذكّر ما قد ينساه؛ فيقرأه على نحو ما أُقرئ سماعاً.
والأمر الثاني: أن يُقرئ القرّاءُ في ذلك الزمان الناسَ بما وافق الرسم العثماني، وأن يدعوا الإقراء بما خالفه وإن كان صحيحاً.
ومن هنا نشأت القراءات المعروفة لأنّ القراء التزموا القراءة بالرسم العثماني، لكن بقي من الاختلاف في القراءات أربعة أنواع احتملهما الرسم في المصاحف العثمانية:
النوع الأول: الاختلاف في طرائق نطق بعض الحروف والكلمات؛ ويدخل في ذلك الاختلاف في الهمز والتسهيل والإبدال والإشمام والإمالة والإدغام والمدّ والقصر وغيرها، ومن هذا النوع الاختلاف في نطق الصاد في قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} مع اتحاد رسمها في المصاحف بالصاد، والأصل في الكلمة (السراط) بالسين لأنها مشتقة من السَّرط، وقد نقل أبو منصور الأزهري عن بعض علماء اللغة أن السراط إنما سمّي سراطاً لأنّه يسترط المارّة؛ فعدول الصحابة إلى كتابة هذه الكلمة ونحوها بالصاد دون السين لا بد أن يكون له غرض، وقد اجتهد العلماء في تلمّس ذلك الغرض؛ فقال ابن الجزري: (انظر كيف كتبوا الصراط والمصيطرون بالصاد المبدلة من السين، وعدلوا عن السين التي هي الأصل لتكون قراءة السين وإن خالفت الرسم من وجه قد أتت على الأصل فيعتدلان، وتكون قراءة الإشمام محتملة، ولو كتب ذلك بالسين على الأصل لفات ذلك، وعُدَّت قراءة غير السين مخالفة للرَّسم والأصل).
والنوع الثاني: الاختلاف في ضبط بعض الكلمات وهو على قسمين:
- قسم لا يتغيّر به المعنى كالاختلاف في {ضَعْف} و{ضُعف} قرأ عاصم وحمزة بفتح الضاد والباقون بضمها، و{ميسَرة} قرأها نافع {ميسُرة} بضمّ السين، والباقون بفتحها، وقوله تعالى: {بنُصْبٍ وعذاب} قرأها أبو جعفر {بنُصُبٍ} وقرأها يعقوب {بنَصَبٍ}، وقوله تعالى: {الرُّشْد} قرأه حمزة والكسائي [الرَّشَد] بفتح الرَّاء والشين، وهما لغتان، وغير ذلك كثير.
- وقسم يتغيّر به المعنى كالاختلاف في قوله تعالى: {يَطْهُرن} قرأه حمزة والكسائي: {يطَّهَّرن} والاختلاف في قوله: {فعدَلَك} قرأه الكوفيون بالتخفيف، والباقون بالتشديد {فعدَّلك}، وقوله: {بل عجبتَ ويسخرون} قرأه حمزة والكسائي بضمّ التاء {بل عجبتُ} والباقون بفتحها.
- وقريب من هذا القسم الاختلاف في نطق الأحرف المتقاربة مع اتحاد الرسم كالاختلاف في قوله: {ظنين} و{ضنين}، وقد يختلف الرسم اختلافاً يسيراً كما في قوله تعالى: {ونزل الملائكة تنزيلا} بنون واحدة في أكثر المصاحف، وفي المصحف المكي بنونين: [ونُنْزِل الملائكة] وهي قراءة ابن كثير المكّي.
والنوع الثالث: الاختلاف الذي يكون سببه عدم النقط؛ فإنَّ الكتابة في ذلك الوقت لم تكون منقوطة ولا مشكولة، ولذلك احتمل الرسم أن يقرأ نحو قول الله تعالى: {وما الله بغافل عما يعملون} بالياء وبالتاء، وقوله: {فتبينوا} قرئ: {فتثبتوا} إذ كان كلّ ذلك من الأحرف التي قرئ بها القرآن، والرسم يحتملها لعدم النقط في زمن الجمع العثماني.
والنوع الرابع: ما اختلف فيه الرسم بين المصاحف العثمانية، وهي أحرف يسيرة نقلها الرواة، ومن أمثلتها ما كتب في بعض المصاحف في سورة الحديد: {فإن الله هو الغني الحميد} وفي المصحف المدني والشامي [فإنّ الله الغني الحميد] بغير (هو) وهي قراءة نافع المدني وابن عامر الشامي، وقوله تعالى في سورة التوبة {تجري تحتها الأنهار} وفي المصحف المكّي وقراءة ابن كثير: {تجري من تحتها الأنهار}.
وهذا النوع قليل في رسم المصاحف، وهو مما تحتمله الأحرف السبعة؛ إذ كان المعوّل على ما ثبتت القراءة به سماعاً من أفواه القرَّاء.
وقد اختلف العلماء في أسباب اختلاف الرسم بين المصاحف العثمانية، فمِن زاعمٍ أنَّ عثمان أراد أن يجمع الأحرف السبعة كلَّها وهذا بعيد، لثبوت ترك القراءة ببعض الأحرف التي كان يُقرأ بها.
وذهب بعضهم إلى أنهم أرادوا الإشارة إلى اختلاف الأحرف، وجمع ما يستطاع من ذلك، وهذا يردّه أمران:
أحدهما: أنه خلاف المقصود من الجمع العثماني.
والثاني: أنهم لو أرادوا ذلك لكتبوا سائر الأحرف التي تُركت القراءة بها بهذه الطريقة؛ فكتبوا في بعض المصاحف [وأقيموا الحج والعمرة للبيت] وفي بعضها: {وأتموا الحجّ والعمرة لله} وهكذا في سائر الأحرف التي كان يقرأ بها قبل جمع عثمان). [جمع القرآن:133 - 142]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 02:00 PM
أمثلة لما تُرك من الأحرف السبعة:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (أمثلة لما تُرك من الأحرف السبعة:
قال الإمام الشافعي: أخبرنا سفيان عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: (ما سمعت عمر يقرؤها قط إلا قال: [فامضوا إلى ذكر الله]).
وهذا إسناد غاية في الصحة على شرط الشيخين.
ورواه عبد الرزاق من طريق معمر وغيره عن ابن شهاب الزهري عن سالم عن ابن عمر قال: (لقد توفي عمر وما يقرأ هذه الآية التي في سورة الجمعة إلا [فامضوا إلى ذكر الله]).
وصحّ عن إبراهيم النخعي وقتادة أنّ ابن مسعود كان يقرأها كذلك.
وقد ذكر مكيّ بن أبي طالب القيسي في كتابه "الإبانة عن معاني القراءات" أمثلة لما بلغه من الأحرف الأخرى في سورة الفاتحة ليبيّن كثرة الاختلاف الذي سبق جمع عثمان؛ فقال: (ذكر اختلاف الأئمة المشهورين، غير السبعة في سورة الحمد مما يخالف خط المصحف، فلا يُقرأ به اليوم:
- قرأ أبو هريرة: [مليك يوم الدين] بياء بين اللام والكاف، وهو معنى حسن؛ لأنه بناء للمبالغة.
- قرأ ابن السوار الغنوي: [هياك نعبد وهياك نستعين] بالهاء في موضع الهمزة، وهي لغة قليلة، أكثر ما تقع في الشعر.
- روى الأصمعي عن أبي عمرو أنه قرأ: [الزراط] بزاي خالصة، وهو حسن في العربية.
- قرأ الحسن البصري: [اهدنا صراطاً مستقيما] منونتين من غير ألف ولام فيهما، وبذلك قرأ الضحاك، وهو معنى حسن لولا مخالفته للمصحف.
- قرأ جعفر بن محمد: [اهدنا صراط المستقيم] بإضافة الصراط إلى المستقيم من غير ألف ولام في الصراط، وهو جائز في العربية كدار الآخرة.
- قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [صراط مَن أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين]، فجعل "من" في موضع "الذين" و"غير" في موضع "لا"، وهو في المعنى حسن كالذي قرأ الجماعة في المعنى. وهو مروي أيضا عن أبي بكر رضي الله عنهما.
- قرأ ابن مسعود: [أرشدنا الصراط] في موضع "اهدنا"، والمعنى واحد.
- قرأ ثابت البناني: [بصرنا الصراط] في موضع اهدنا والمعنى واحد.
- قرأ ابن الزبير: [صراط مَن أنعمت عليهم] مثل قراءة عمر في هذا الحرف وحده)ا.ه.
ثم قال: (وهذا الاختلاف الذي يخالف خطَّ المصحف، وما جاء منه مما هو زيادة على خطِّ المصحف، أو نقصان من خط المصحف، وتبديل لخط المصحف، وذلك كثير جدا: هو الذي سمع حذيفة في المغازي، وسمع ردّ الناس بعضهم على بعض، ونكير بعضهم لبعض، فجرَّأه ذلك على إعلام عثمان رضي الله عنه، وهو الذي حدا عثمان على جمع الناس على مصحف واحد، ليزول ذلك الاختلاف فافهمْه).
قال: (فهذا المثال من الاختلاف الثالث، هو الذي سقط العمل به من الأحرف السبعة، التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الأكثر في القرآن من الاختلاف، وإنما قرئ بهذه الحروف التي تخالف المصحف قبل جمع عثمان رضي الله عنه الناسَ على المصحف، فبقي ذلك محفوظا في النقل غير معمول به عند الأكثر، لمخالفته للخطّ المجمع عليه).
ثم قال: (فإنما مثَّلت لك ذلك لتقف عليه، وتعرف قدر الاختلاف في هذه السورة على قلة حروفها، فكيف يظن الاختلاف فيما طال من السور؟!
فتعلم بذلك كله المثالات التي اختلف القراء فيها، وما يجوز أن يقرأ به، وما لا يجوز، وما زاد من الاختلاف على قراءة السبعة المشهورين، وأن قراءتهم لم تحتو على الأحرف السبعة، التي نص النبي "صلى الله عليه وسلم" عليها، وأنها ليست بحرف واحد، كما ذكرنا من قول الطبري أنَّ ما زاد على قراءة في كل حرف فهو من السبعة الأحرف، قرئ به لموافقته لخط المصحف على ما قدمنا وبيَّنَّا، وبالله التوفيق)ا.هـ.
وقال ابن الجزري في النشر: (قراءة عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء: [والذكر والأنثى] في {وما خلق الذكر والأنثى} وقراءة ابن عباس [وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وأما الغلام فكان كافرا] ونحو ذلك مما ثبت بروايات الثقات، واختلف العلماء في جواز القراءة بذلك في الصلاة، فأجازها بعضهم لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة، وهذا أحد القولين لأصحاب الشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد.
وأكثر العلماء على عدم الجواز؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت بالنقل فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني...)). [جمع القرآن:142 - 145]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 02:47 PM
الباب الثامن: الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما
الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما
مبحث الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان من أدقّ مباحث جمع القرآن، وقد كثر النزاع في تفصيل الفروق بين الجمعين في القرون المتأخرة، ولم يؤثر عن السلف في هذا المبحث خلاف، وكان أصل مبعث الخلاف لدى المتأخرين ما عرض لبعضهم من الإشكالات بسبب اختلافهم في فهم بعض الآثار المروية في هذا الباب، وضعف بعضها، والتزام ما لا يلزم؛ فأدّت بهم محاولات الخروج من تلك الإشكالات إلى دعاوى لا تصحّ، وذكر احتمالات لا يقتضيها الاستدلال الصحيح، ولا يوقف على حقيقتها.
وسلك المحققون من أهل العلم مسلك التمحيص والتدقيق، وتمييز صحيح الآثار من ضعيفها، ومقبولها من مردودها، وتعرّفوا علل الآثار المروية بأسانيد ظاهرها الصحة، وفي متونها ما يستنكر، وفرَّقوا بين ما يلزم وما لا يلزم؛ فتبيّن لهم من العلم الصحيح ما تزول به الإشكالات وتندفع به الاعتراضات، وظهر لهم خطأ كثير من تلك الدعاوى المتأخرة التي لا نجد لها أثراً في القرون الفاضلة.
وكلام الأئمة المحققين في هذا المبحث متفرّق في كتب القراءات، وعلوم القرآن، وكتب العقيدة، وشروح الحديث، والرسائل المفردة؛ فحرصت على جمع ذلك في موضع واحدٍ وترتيبه وتلخيصه؛ وشرح ما يحسن شرحه، فكان هذا المبحث في المسائل التالية:
المسألة الأولى: هل كان جمع أبي بكر الصديق في مُصحَف أو صحف غير مرتبة السور؟
المسألة الثانية: هل كان مصحف أبي بكر جامعاً للأحرف السبعة؟
المسألة الثالثة: هل كلّ ما خالف المصاحف العثمانية منسوخ بالعرضة الأخيرة؟
المسألة الرابعة: هل كان المصحف الذي جمعه عثمان نسخةً مطابقة لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف؟
المسألة الخامسة: الخلاصة في الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما). [جمع القرآن:147 - 148]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 02:50 PM
المسألة الأولى: هل كان جمع أبي بكر الصديق في مُصحَف أو صحف غير مرتبة السور؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الأولى: هل كان جمع أبي بكر الصديق في مُصحَف أو صحف غير مرتبة السور؟
ذهب عبد الواحد بن عمر الصفاقسي المعروف بابن التين (ت:611هـ) في شرحه على صحيح البخاري فيما نقله عنه ابن حجر في فتح الباري إلى أنّ ما جمعه أبو بكر كان في صحائف متفرقة، وأن آيات كلّ سورة فيه مرتبة، غير أنّه لم يكن مرتباً على السور، وأنّ عثمان هو الذي جمع القرآن في مصحف واحد ورتّبه على السور.
وهذا القول لم يتعقّبه ابن حجر، ونقله السيوطي أيضاً في الإتقان ولم يتعقّبه؛ فاشتهر في كتب علوم القرآن، وهو خطأ بيّن فقد صحّ أن أبا بكر رضي الله عنه قد جمع القرآن بين دفّتين.
وقد تقدّم قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (رحم الله أبا بكر، كان أعظم الناس أجرا في القرآن، هو أول من جمعه بين اللوحين). رواه ابن أبي شيبة وأبو نعيم وابن أبي داوود وغيرهم.
وقال صعصعة بن صوحان العبدي وكان من القراء في زمن عثمان: «أول من جمع بين اللوحين، وورَّث الكلالةَ أبو بكر» رواه ابن أبي شيبة.
ومن ضرورة جمعه بين لوحين أن يكون له ترتيب، وإن لم نقف على تعيينه.
وأما الآثار التي فيها أنَّ أبا بكر جمع القرآن في قراطيس أو صحف فينبغي أن تفهم بما يوافق هذه الآثار ولا يخالفها؛ فهي في قراطيس مجموعة في مصحف واحد، وفي صحف بين لوحين.
والكلام في ترتيب السور يأتي في الباب القادم إن شاء الله تعالى). [جمع القرآن:148 - 149]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 02:54 PM
المسألة الثانية: هل كان مصحف أبي بكر جامعاً للأحرف السبعة؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الثانية: هل كان مصحف أبي بكر جامعاً للأحرف السبعة؟
القولُ بأنّ مصحف أبي بكر رضي الله عنه كان جامعاً للأحرف السبعة لم يكن معروفاً في القرون الأولى، وفي نشأة هذا القول خطأ والتباس ينبغي توضيحه.
وأصل ذلك أنَّ أبا الحسن الأشعري (ت:324هـ) زعم أنّ حفظ القرآن شامل لحفظ الأحرف السبعة، وحكى الإجماع على أنه لا يجوز منع القراءات بالأحرف التي نزل بها القرآن، وهذه مصادَمةٌ لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترك القراءة بما خالف المصحف الإمام من الأحرف الأخرى.
قال بدر الدين العيني في عمدة القارئ: (قال الشيخ أبو الحسن الأشعري: أجمع المسلمون على أنه لا يجوز حظر ما وسَّعه الله تعالى من القراءات بالأحرف التي أنزلها الله تعالى، ولا يسوغ للأمة أن تمنع ما يطلقه الله تعالى، بل هي موجودة في قراءتنا، وهي مفرقة في القرآن غير معلومة بأعيانها)ا.هـ.
وأبو الحسن الأشعري عفا الله عنه له أقوال كثيرة في القرآن مخالفة لاعتقاد أهل السنة والجماعة، وكان الأولى بهذا القول أن يُردَّ ويبيَّن خَطؤه.
لكن أتى تلميذُ تلاميذه القاضي أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المالكي (ت:403هـ) فنصر هذا القول في كتابه "الانتصار" وأظهره في مظهر الانتصار لحفظ القرآن؛ فذهب إلى أن جميعَ هذه الأحرف السبعة قد كانت ظهرت واستفاضت عن الرسول صلى الله عليه وسلم وضبطتها الأمة عنه، وأن عثمان والجماعة قد أثبتت جميع تلك الأحرف في المصاحف، وأخبرت بصحتها.
وزعم أنّ ما تركه عثمان إنما هي أحرف غير معروفة ولا ثابتة، وأنها كانت منقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم نقل الآحاد التي لا يجوزُ إثبات قرآن وقراءات بها، وأنّ المصاحف التي أحرقها عثمان إنما أحرقها لما فيها من التخليط والفساد في الضبط..) إلى آخر ما قال.
وهذه الجُمَل فيها أخطاء بيّنة، ومخالَفة لما صحّ من الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم، وهي مبنية على أصل التلازم بين حفظ القرآن وحفظ الأحرف السبعة، فأدّاه هذا التلازم إلى القول بأنّ جمع عثمان مشتمل على الأحرف السبعة، وأنّ ما خالفه غير ثابت؛ فهو - عنده- إمَّا منقول بخبر الآحاد أو منسوخ، أو مغيَّر بسبب سوء الضبط.
وأبو بكر الباقلاني من كبار نُظَّار الأشاعرة ومتكلّميهم أخذ علم الكلام عن ابن مجاهد الطائي صاحب أبي الحسن الأشعري، وإليه انتهت رئاسة المالكيين في زمانه، لكنه كان غير متمكّن في علم القراءات، وكان الأولى أن يُردّ قولُه ويُبيّن خطؤه.
لكن أتى بعده تلميذه أبو عمرو الداني، وهو على جلالة قدره في علم القراءات وحرصه على توخّي السنّة إلا أنّه ابتلي بالتتلمذ على بعض الأشاعرة، ومن أشهرهم: شيخه أبو بكر الباقلاني، وأبو عمران الفاسي، وأبو الحسن القابسي، وأخذ أيضاً عن بعض أئمة أهل السنة كابن أبي زمنين وغيره، وله عناية ظاهرة بتعظيم السنة والتحذير من البدع.
وكان يُجِلُّ أبا بكر الباقلاني ويعظّمه مع مخالفته له في كثير من المسائل، لكنه تابعه في جملة منها، وله رسالة في العقيدة مطبوعة باسم "الرسالة الواعية" وطبعت أيضاً باسم "الرسالة الوافية" هذّب فيها كثيراً مما ذكره القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه "الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به في علم الكلام"
ولذلك لا تعدّ تلك الرسالة من الرسائل الخالصة في وصف اعتقاد أهل السنة، ولا من الرسائل المعدودة في عقائد الأشاعرة.
وهو من أهل السنة من حيث الجملة إلا أنّه لا يُتابع على ما وافق فيه الأشاعرة من المسائل التي ذكرها في رسائله في الاعتقاد وفي علوم القرآن.
ومسألتنا التي نبحث فيها كان أصل بحثها عَقَدياً لما تقدّم شرحه، ولما كان لها تعلّق بجمع القرآن ورسم المصاحف ذكرها أبو عمرو الداني في كتابه "المقنع في رسم مصاحف الأمصار" لكنّه هذّب قول الباقلاني المتقدّم، فقال: (فإن قال قائل: فإذْ قد أَوضحتَ ما سُئلتَ عنه من تأوّل هذين الخبرين؛ فعرّفنا بالسبب الذي دعا عثمان رضي الله عنه إلى جمع القرآن في المصاحف، وقد كان مجموعا في الصحف عَلَى ما رويته لنا في حديث زيد بن ثابت المتقدم؟
قلت: السبب في ذلك بيّن؛ فذلك الخبر على قول بعض العلماء وهو أنَّ أبا بكر رضي الله عنه كان قد جمعه أَولاً عَلى السبعة الأحرف التي أَذِن الله عزَّ وجلَّ للأمّة في التلاوة بها، ولم يخصَّ حرفا بعينه؛ فلمَّا كان زمان عثمان ووقع الاختلاف بين أهل العراق وأهل الشام في القراءة وأَعلمه حذيفةُ بذلك رأَى هو ومن بالحضرة من الصحابة أن يُجمع الناس على حرف واحد من تلك الأحرف، وأن يسقط ما سواه؛ فيكون ذلك مما يرتفع به الاختلاف ويوجب الاتفاق، إذ كانت الأمّة لم تؤمر بحفظ الأحرف السبعة، وإنما خُيّرت في أيّها شاءت لزمته وأجزأها؛ كتخييرها في كفارة اليمين بالله بين الإطعام والكسوة والعتق، لا أن يجمع ذلك كله فكذلك السبعة الأحرف.
وقيل: إنما جمع الصحف في مصحف واحد لما في ذلك من حياطة القرآن وصيانته وجعل المصاحف المختلفة مصحفا واحداً متفقا عليه وأسقط ما لا يصحّ من القراءات ولا يثبت من اللغات، وذلك من مناقبه وفضائله رضي الله عنه)ا.هـ.
وهذا كما ترى فيه ردٌّ لكثير مما ذهب إليه الباقلاني مما يخالف ما هو متقرر لدى أهل القراءات، لكنَّه نقلَ دعوى جمع الأحرف السبعة من مصحف عثمان إلى مصحف أبي بكر.
ومصحف أبي بكر مفقود لا يمكن الوقوف عليه، ولم يُنقل خَبَرُ ما فيه على التحقيق، ولذلك قال: (فذلك الخبر على قول بعض العلماء، وهو أنَّ أبا بكرٍ رضي الله عنه كان قد جمعه أَولاً عَلى السبعة الأحرف)
وهذا القول ليس مما ثبت لديه بنقل صحيح، وقد علم القُرّاء أنَّ رَسْمَ مصحف أبي بكر ليسَ له إسناد يُنقل به علم ما فيه، كما تنقل أحرف القراءات، ومسائل الرسم العثماني، وعدّ الآي، وغيرها من علوم القراءات والمصاحف.
وإنما هو اجتهاد في محاولة الجمع بين ما قرَّرَه شيخُه أبو بكر الباقلانيّ وبين ما هو متقرر لدى أهل القراءات لإيجاد جوابٍ عن سؤال الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان؛ فخرج بهذا الاحتمال المبني على فرض التسليم بصحة هذا القول.
وأبو عمرو الداني من علماء القراءات الكبار؛ وقد ذكر هذه المسألة في كتابه "المقنع في رسم مصاحف الأمصار"؛ فلذلك حَمَل عنه هذا القول من لم يعرف علَّته، بل تلقّاه بعض العلماء على أنّه صحيح متقرر، وهو إنما ذكره احتمالاً، وقولاً من قولين فيهما نظر.
وهذه العلّة كانت فيما يظهر لي هي منشأ شهرة هذا القول؛ وذلك لشهرة كتاب "المقنع" لأبي عمرو الداني وكثرة الناقلين عنه.
ثمّ أتى بعده أبو القاسم الشاطبي(ت:590هـ) فنظم المقنع في منظومته التي سماها "عقيلة أتراب القصائد في أسنى المقاصد في علم رسم المصاحف"
وكان مما قال فيها:
إن اليمامة أهواها مسيلمة الـ ... ـكذاب في زمن الصديق إذ خسرا
وبعد بأس شديد حان مصرعه ... وكان بأساً على القراء مستعرا
نادى أبا بكرٍ الفاروقُ: خفتُ على الـْ ... ـقراء فادرك القرآن مستطرا
فأجمعوا جمعه في الصحْف واعتمدوا ... زيدَ بن ثابتٍ العدلَ الرضا نظرا
فقام فيه بعون الله يجمعه ... بالنصح والجدّ والحزم الذي بهرا
من كل أوجهه حتى استتمّ له ... بالأحرف السبعة العليا كما اشتهرا).
وهذا كما ترى إنما هو نظم لما في المقنع، وقد صرّح بنظم المقنع في منظومته فقال:
وهاك نظم الذي في "مقنعٍ" عن أبي ... عمروٍ وفيه زياداتٌ فَطِبْ عُمُرا
وقد أثنى في منظومته على أبي بكر الباقلاني وكتابيه "الانتصار للقرآن" و"إعجاز القرآن" بقوله:
لله درّ الذي تأليف "معجزه" ... و"الانتصار" له قد أوضح الغُررا
ثمّ أتى بعده تلميذه علم الدين السخاوي (ت:643هـ) شيخ القراء بدمشق؛ فشرح هذه المنظومة في كتابه "الوسيلة إلى كشف العقيلة" فقال في شرح تلك الأبيات المتقدّمة: (فإن قيل: فقد زعمتم أن زيداً كان جامعاً للقرآن؛ فما هذا التتبع والطلب لشيء يحفظه ويعلمه؟!!
فالجواب: أنه كان يتتبع وجوهه وقراءاته، ويسأل عنها غيره ليحيط بالسبعة التي نزل بها القرآن، وكذلك نظره في الرقاع والعسب واللخاف التي قد عرف كتابتها وتيقّن أمرها.
قال: ويجوز أن تكون تلك الرقاع والعسب واللخاف والأكتاف مما كُتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الظاهر، وعليه يُحمل قوله: (فوجدت آخر سورة براءة مع خزيمة) يعني الصحيفة التي فيها الآية.
وإذا كانت مما كتب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا بدّ من النظر فيها، وإن كان حافظاً ليستظهر بذلك، وليعلم هل فيها قراءة غير قراءته أم لا؟).ا.هـ.
فجعل هذا القول احتمالاً من احتمالين، وجعل الثاني هو الظاهر، ولم يبنِ الاحتمال الأوّل على دليل يُعتمد عليه، وإنما هو حكاية لقول قيل في هذه المسألة، وقد علمتَ أصلَ نشأته وعلّته.
ومن أخذ هذه النقول غير مرتّبة ترتيباً يَكشِفُ عِلَّتها ربما قُذف في نفسه أنها مستندة على حُجّة يُعتمد عليها، وهي دعوى كبيرة لا يمكن قبولها إلا بنقل ثابت.
وهذه الدعوى يلزم منها القول بأن مصحف أبي بكر قد كُتب سبع مرات أو أن تكون كتابة المصحف بالجمع بين الأحرف السبعة في الرسم في المصحف الواحد وهو أمر غير ممكن؛ إذ يلزم منه أن تكرر كتابة الكلمة أو الآية التي فيها اختلاف ضبط أو اختلاف تقديم وتأخير، وهذه دعوى محدثة.
ولا حاجة إلى هذه الدعوى للجواب عن سؤال الفرق بين الجمعين، فإنَّ أبا بكر قد جمع المصحف بين اللوحين نسخة واحدة، وليس نسخاً متعددة لكل حرف نسخة، ولم يُؤثر أن جمعها كان فيه تكرار لكتابة بعض الكلمات على عدد الأحرف المقروءة بها، ولم يكونوا يقرءون بالجمع بين القراءات، وإنّما كان يقرأ كلّ قارئ منهم كما عُلّم، وكلّ قراءة منها كافية شافية، وبأيّ حرف منها كُتب المصحف فهو صحيح كافٍ فيما كُتب لأجله.
وكان مستند القراءة على السماع لا على الرسم، وقد كتب الصحابة بعد ذلك مصاحف بحسب ما قرأ كاتبوها؛ فكان لابن مسعود مصحف، ولأبيّ بن كعب مصحف، ولأبي موسى الأشعري مصحف، وكان بين هذه المصاحف اختلاف في بعض الأحرف من زيادة بعضها على بعض، وتقديم وتأخير، وإبدال كلمة بأخرى، واختلاف ضبط، مما يكون مستندهم فيه أصلاً السماع، ويكتبون مصاحفهم بحسب ما أُقرئوا، وكان منها صُحُفٌ من إملاءِ النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد بَقيت تلك المصاحف والصحف حتى جمع عثمان الناس على رسم واحد في الجملة، وأحرق ما خالفه من المصاحف.
والقول بأنّ جمع أبي بكر كان حاوياً للأحرف السبعة لا يصحّ عن أحد من السلف.
وقال ابن عبد البرّ (ت:463هـ) في التمهيد: (وأمّا جمع أبي بكرٍ للقرآن فهو أوّل من جمع ما بين اللّوحين، وجمع عليّ بن أبي طالبٍ للقرآن أيضًا عند موت النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم وولاية أبي بكرٍ فإنّما كلّ ذلك على حسب الحروف السّبعة لا كجمع عثمان على حرفٍ واحدٍ، حرف زيد بن ثابتٍ وهو الّذي بأيدي النّاس بين لوحي المصحف اليوم)ا.هـ.
وهذا كما ترى فيه إجمال من جهة الحروف السبعة، وفيه خطأ في مواضع أخرى.
فإنّ قوله: (فإنّما كلّ ذلك على حسب الحروف السبعة) كلام مجمل وأولى ما يحمل عليه أن يقال: إنّ مراده أن جمع أبي بكر كان على وجوه من الأحرف السبعة لم يتقيّد فيها بلسان قريش، ولا باختيار حرف بعينه.
وقد يُفهم منه أنه أراد أنّ جمع أبي بكر وجمع عليّ بن أبي طالب كان مشتملا على الأحرف السبعة.
وهذا – إن كان هو مراده – فلعله فَهِم من جمع عثمان الناسَ على حرف واحد أنّ جمع أبي بكر كان على الأحرف السبعة، وأنّ جمع عليّ بن أبي طالب كان كذلك، وكلا الأمرين غيرُ لازمين.
فإنّ مصحف أبي بكر لم يكن شائعاً في الناس، ولم يكنِ القُرَّاءُ كابن مسعود وأبي موسى وأبي الدرداء وأبيّ بن كعب - وهم أشهر قراء الأمصار في زمانهم - لم يكونوا يعتمدونه في الإقراء، وإنما كان يقرأ كلّ واحد منهم كما أقرأه النبي صلى الله عليه وسلم، ويقرئ الناس بذلك، حتى حصل من الاختلاف في أوّل عهد عثمان ما حصل.
وكذلك جمع عليّ بن أبي طالب إنما أراد به جمعه في صدره كما هو ظاهر المراد بقولهم: جمع فلان القرآن، وفلان لم يجمعه، وفلان جمعه إلا سوراً يسيرة، ونحو ذلك مما يراد به حفظ الصدر.
وقول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه عن أبي بكر: إنّه "أوّل من جمع القرآن بين لوحين" يدلّ على ذلك.
ولو كان جمعه متقدماً على جمع أبي بكر لبيّن ذلك؛ كما بيّن سعة علمه بنزول كلّ آية من القرآن ومعرفة مكان نزولها وفيم أنزلت.
وقد كان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه يقرأ كما عُلّم، وهو أحد رواة حديث: ((اقرؤوا كما عُلّمتم)).
وربما كتب مصحفاً خاصاً به كما كتب غيره من الصحابة، بحسب ما عُلّم، وأما دعوى أنّ عليّ بن أبي طالب كتب مصحفاً مشتملاً على الأحرف السبعة فهذه دعوى عريضة لا أصل لها، ولو كان الأمر كذلك لعلمه خواصّ أصحابه، ولنقل واشتهر؛ فإنّه من أعظم الأمور التي تشتد الرغبة في السؤال عنها وذكرها ونشرها ولا سيّما من القراء لو كان ذلك حقيقة، وقد اجتهدوا في نقل دقائق من أحوال القراء وأخبارهم؛ فكيف يغفلون عن نقل هذا الأمر العظيم في شأن القرآن وجمع حروفه.
وربما كان قول ابن عبد البرّ – إذا حُمل على المعنى الثاني- مستفاداً من كلام أبي عمرو الداني أو كلام شيخه الباقلاني؛ فابن عبد البرّ وأبو عمرو قرينان قارئان مالكيان أندلسيان قد اشتركا في عدد من الشيوخ والتلاميذ، ولابن عبد البرّ كتاب مفقود في القراءات، لكن غالب عناية ابن عبد البر بالحديث والفقه، وغالب عناية أبي عمرو الداني بالقراءات وعلوم القرآن.
ولابن الجزري كلام حسن دقيق في هذه المسألة، وهو أجود ما قيل فيها، إذ قال في كتابه "منجد المقرئين": (والحق ما تحرَّرَ من كلام الإمام محمد بن جرير الطبري وأبي عمر بن عبد البر وأبي العباس المهدوي ومكي بن أبي طالب القيسي وأبي القاسم الشاطبي وابن تيمية وغيرهم، وذلك أن المصاحف التي كتبت في زمن أبي بكر رضي الله عنه كانت محتوية على جميع الأحرف السبعة).
وهذا الكلام صحيح لكنّه منصرف إلى المصاحف والصحف التي كانت موجودة في زمن أبي بكر لا إلى المصحف الذي جمعه أبو بكر وحده.
وقد تقدّم أنّ مصحف ابن مسعود كان فيه ما يخالف مصحف أبي موسى، وكان في مصاحفهما ما يخالف مصحف زيد ومصاحف أهل الشام من أصحاب أبي الدرداء.
ولم نجد في الآثار المروية في جمع أبي بكر ما يدلّ على أنّه جمعه بالأحرف السبعة لا جمعاً ولا تكراراً.
وقول ابن الجزري: (والحق ما تحرر من كلام الإمام محمد بن جرير الطبري وأبي عمر بن عبد البر وأبي العباس المهدوي ومكي بن أبي طالب القيسي وأبي القاسم الشاطبي وابن تيمية وغيرهم..).
ربما فُهم منه أنّ ما خرج به هو منصوص أقوالهم، وأنهم اتفقوا عليه، وليس الأمر كذلك، فإنّ الخلاف بينهم ظاهر، ومن تأمّل كلامهم في كتبهم ظهر له من الخلاف بينهم ما لا يمكن التئامه على قول واحد.
وإنما مراد ابن الجزري أنّ هذا القول هو ما تحرَّرَ له بَعد نَظره في كلامهم، وتفكُّرِه فيه، لا أنّه قول اتّفقوا عليه.
وما خرج به ابنُ الجزري قولٌ صحيح لكن أسيء فهمه من وجهين:
أحدهما: دعوى أن مصحف أبي بكر كان جامعاً للأحرف السبعة.
والآخر: أنّ هذا القول هو ما اتفق عليه العلماء الذين ذكر أسماءهم.
وكلام ابن جرير وأبي العباس المهدوي ومكي بن أبي طالب وابن تيمية ليس فيه هذه الدعوى؛ فبقي كلام ابن عبد البرّ والشاطبي وقد علمتَ أصلَ قولِهما في هذه المسألة.
ثم جاء بعد ابن الجزري بدرُ الدين العيني فقال في شرح صحيح البخاري: (لو قيل: إن زيداً كان جامعاً للقرآن فما معنى هذا التتبع والطلب لشيء إنما هو ليحفظه ويعلمه؟!!
أجيب: أنه كان يتتبع وجوهه وقراءاته ويسأل عنهما غيره ليحيط بالأحرف السبعة التي نزل بها الكتاب العزيز، ويعلم القراءات التي هي غير قراءته)ا.هـ.
وهذا النقل مستفاد من كلام عَلَم الدين السخاوي المتقدّم في "الوسيلة".
وقال في موضع آخر: (غرض أبي بكر كان جمع القرآن بجميع حروفه ووجوهه الّتي نزل بها وهي على لغة قريش وغيرها، وكان غرض عثمان تجريد لغة قريش من تلك القراءات).
وهذا القول مع ما قبله من الأقوال من أسباب شيوع القول بأنّ مصحف أبي بكر كان جامعاً للأحرف السبعة، وهو كما ترى قول محدث لا يسنده أثر، وإنما هو فهم تحصَّل من محاولات الخروج من إشكالات واردة، والتزام ما لا يلزم، وأصل المسألة عقديّ ثمّ نقل إلى كتب علوم القرآن.
وقول مروان بن الحكم لابن عمر لما أراد إتلاف مصحف أبي بكر أنه يخشى أن يكون فيه ما يخالف مصحف عثمان فيه دلالة على أنّه لم يكن جامعاً للأحرف السبعة، إذ لو كان كذلك لكان مشهوراً معروفاً، ولما احتاج إلى التعبير بالخشية مع التحقق بأنّه كان جامعاً للأحرف السبعة، وكانت حجته أظهر في إتلافه لو كان كذلك.
ومن الأدلة على خطأ هذا القول أيضاً أنّ مصحف أبي بكر لو كان جامعاً للأحرف السبعة لما احتاج عثمان إلى التوثّق من الصحابة في صحفهم التي قبضها منهم أنها من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يكفيه أن يجمعها ويتلفها، وينسخ من مصحف أبي بكر، لكنّه أراد أن يجمع من مجموع مصاحف الصحابة وصحفهم المتفرقة مصحفاً واحداً يجتمعون عليه.
ولذلك ربما ترك بعض ما في مصحف أبي بكر ترجيحاً منه لبعض الأحرف التي في المصاحف الأخرى، ويدلّ على ذلك صراحة الآثار المروية في المراسلات التي كانت بين زيد بن ثابت وعثمان في رسم بعض الكلمات وقد تقدّم ذكرها). [جمع القرآن:149 - 161]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 02:56 PM
المسألة الثالثة: هل كلّ ما خالف المصاحف العثمانية منسوخ بالعرضة الأخيرة؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الثالثة: هل كلّ ما خالف المصاحف العثمانية منسوخ بالعرضة الأخيرة؟
ذهب الزرقاني في مناهل العرفان إلى أنّ ما خالف المصاحف العثمانية فهو منسوخ بالعرضة الأخيرة؛ فقال: (ما لا يوافق رسم المصحف بحال من الأحوال نحو قوله سبحانه: {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} وقرأ ابن عباس هكذا [يأخذ كل سفينة صالحة غصبا] بزيادة كلمة صالحة فإنَّ هذه الكلمة لم تثبت في مصحف من المصاحف العثمانية فهي مخالفة لخطّ المصحف، وذلك لأنَّ هذه القراءة وما شاكلها منسوخة بالعرضة الأخيرة، أي عرض القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل آخر حياته الشريفة، ويدل على هذا النسخ إجماع الأمة على ما في المصاحف)ا.هـ.
وهذه الدعوى لا تصحّ؛ فإنّه من المقطوع به أنّ الصحابة كانوا يقرءون قبل جمع عثمان على أحرف مختلفة غير منسوخة، وكانوا يصلون بها في الجمع والجماعات ويتلونها في المجامع وحلق التعليم، ولو كان أحد منهم يقرأ بالمنسوخ لأُنكِرَ عليه.
- والقراءة بالمنسوخ قد تُتَصوّر من الرجل والرجلين في أحرف يسيرة، وأما ما يحمله العدد الكثير من القراء، ويشتهر ذكره ولا ينكر فلا.
- وقد كان في حِلَقِ ابن مسعود في الكوفة العدد الكثير، وكان يدور على تلك الحِلَق، ويُشرف على قراءة كلّ حلقة ومقرئها، وروي أنّ في حِلَق أبي الدرداء نحو ألف رجل، لكل عشرة منهم ملقّن، وأنّ أبا الدرداء كان يطوف عليهم قائماً؛ فإذا أحكمَ الرجلُ منهم تحوَّل إلى أبي الدرداء يعرض عليه.
- ثمّ إنّ الصحابة رضي الله عنهم إنما حملهم على الجمع في زمن عثمان اختلافُ الناس في الأحرف، لا أنّ أحداً من القرّاء كان مصرّا على الإقراء بالمنسوخ، واعتراضُ ابن مسعود رضي الله عنه يدلّ دلالة بيّنة على أنّ قراءته تخالف قراءة زيد في بعض الأحرف التي لم تكن منسوخة قطعاً، وقد بيّن أنّه لا يعلم أحداً في زمانه ذلك أعلم منه بكتاب الله، وأنه يعلم أين نزلت كلّ آية ومتى نزلت، وأنّه عارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن مرتين في العام الذي قبض فيه.
- وقد شهد ابنُ عباس لابن مسعود أن قراءته هي الأخيرة، كما تقدّم، وزيد بن ثابت ممن عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض فيه، فكلاهما قد شهد العرضة الأخيرة، واختلفت قراءتاهما في بعض الأحرف لا أنّ أحدهما يقرأ بما هو منسوخ، وكلاهما أقرأ الناسَ زمناً طويلاً بعد النبي صلى الله عليه وسلم، من غير إنكار، وابن عباس قرأ على زيد بن ثابت وروي أنه أخذ بعض الأحرف من قراءة ابن مسعود، ولم ينكر على أحد منهما أنه يقرئ بالمنسوخ.
قال هارون بن موسى الأزدي: حدثنا صاحبٌ لنا، عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن ابن عباس قال: (قراءتي قراءة زيد، وأنا آخذ ببضعة عشر حرفاً من قراءة ابن مسعود، هذا أحدها [من بقلها وقثائها وثومها وعدسها وبصلها] ). رواه ابن أبي داوود في المصاحف، وقد رويت هذه القراءة عن ابن مسعود من طرق أخرى.
- وكان حذيفة عالماً باختلاف القرَّاء، ولو كان أحدهم يُقرئ بالمنسوخ لأَنكر عليه، ولما احتاج الجمعُ إلى أكثر من الإنكار على من يُقرئ بالمنسوخ.
- ولمّا تكلّم أئمة القراء في ردّ دعوى احتواء المصاحف العثمانية للأحرف السبعة كان من أدلّتهم أنه يلزم من ذلك القول بنسخ ما لا يوافق رسم المصاحف العثمانية من الأحرف الأخرى، وذكروا أنه قول باطل، وهذا مما يدلّ على تقرر بطلان هذه الدعوى.
قال ابن الجزري: (إذا قلنا إن المصاحف العثمانية محتوية على جميع الأحرف السبعة التي أنزلها الله تعالى كان ما خالف الرسم يُقطع بأنه ليس من الأحرف السبعة، وهذا قول محظور لأن كثيرا مما خالف الرسم قد صح عن الصحابة رضي الله عنهم، وعن النبي صلى الله عليه وسلم)ا.هـ
وقال مكي بن أبي طالب القيسي: (ولو كانت هي السبعة كلها، وهي موافقة للمصحف لكان المصحف قد كتب على سبع قراءات، ولكان عثمان رضي الله عنه، قد أبقى الاختلاف الذي كرهه، وإنما جمع الناس على المصحف، ليزول الاختلاف)ا.هـ.
فهذا كلّه مما يدلّ دلالة بيّنة على خطأ هذه الدعوى، وقد تفكّرت في منشأ هذه الدعوى؛ فوجدت كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية في فتواه في الأحرف السبعة وآخر لابن الجزري رحمه الله في كتابه النشر وفيهما ما يستدعي التوضيح لإزالة اللبس.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وأما القراءة الشاذة الخارجة عن رسم المصحف العثماني مثل قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهما [والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى . والذكر والأنثى] كما قد ثبت ذلك في الصحيحين، ومثل قراءة عبد الله: [فصيام ثلاثة أيام متتابعات]. وكقراءته: [إن كانت إلا زقية واحدة] . ونحو ذلك؛ فهذه إذا ثبتت عن بعض الصحابة فهل يجوز أن يقرأ بها في الصلاة؟ على قولين للعلماء: هما روايتان مشهورتان عن الإمام أحمد وروايتان عن مالك:
إحداهما: يجوز ذلك لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة.
والثانية: لا يجوز ذلك وهو قول أكثر العلماء، لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبت فإنها منسوخة بالعرضة الآخرة، فإنه قد ثبت في الصحاح عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم أن جبريل عليه السلام كان يعارض النبي صلى الله عليه وسلم في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عارضه به مرتين.
والعرضة الأخيرة هي قراءة زيد بن ثابت وغيره، وهي التي أمر الخلفاء الراشدون: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي بكتابتها في المصاحف، وكتبها أبو بكر، وعمر في خلافة أبي بكر في صحف أمر زيد بن ثابت بكتابتها، ثم أمر عثمان في خلافته بكتابتها في المصاحف وإرسالها إلى الأمصار وجمع الناس عليها باتفاق من الصحابة علي وغيره)ا.هـ.
وهذا القول استدرك عليه ابن الجزري في النشر وهذّبه تهذيباً حسناً فقال: (قراءة عبد الله بن مسعود وأبي الدرداء: [والذكر والأنثى] في {وما خلق الذكر والأنثى} وقراءة ابن عباس [وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبا وأما الغلام فكان كافرا] ونحو ذلك مما ثبت بروايات الثقات، واختلف العلماء في جواز القراءة بذلك في الصلاة، فأجازها بعضهم لأن الصحابة والتابعين كانوا يقرءون بهذه الحروف في الصلاة، وهذا أحد القولين لأصحاب الشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن مالك وأحمد.
وأكثر العلماء على عدم الجواز؛ لأن هذه القراءات لم تثبت متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن ثبتت بالنقل فإنها منسوخة بالعرضة الأخيرة أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني أو أنها لم تنقل إلينا نقلا يثبت بمثله القرآن أو أنها لم تكن من الأحرف السبعة، كل هذه مآخذ للمانعين)ا.هـ
فابن الجزري رحمه الله جمع أجوبة العلماء في منع الإقراء بما ثبت مما يخالف رسم المصاحف العثمانية، وبيَّن أنّ ما خالف رسم المصحف منه ما يكون من المنسوخ تلاوة، ومنه ما يكون مما أجمع الصحابة على ترك القراءة به بعد جمع عثمان، ولذلك فإنّ الإجماع على ترك القراءة بما خالف رسم المصحف لا يقتضي القول بالنسخ مطلقاً.
والقول بأنّ كلّ ما خالف رسم المصحف فهو منسوخ قد تقدّم عن بعض المتكلمين كأبي الحسن الأشعري وأبي بكر الباقلاني وغيره، لكنّهم زعموا أنّ رسم المصحف مشتمل على الأحرف السبعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن هؤلاء من يقول بأن الترخيص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولا، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيرا عليهم وهو أوفق لهم، أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الآخرة، ويقولون إنه نسخ ما سوى ذلك.
وهؤلاء يوافق قولهم قول من يقول إن حروف أبي بن كعب وابن مسعود وغيرهما مما يخالف رسم هذا المصحف منسوخة)ا.هـ.
وهذا حكاية لأقوال المتكلمين في الأحرف السبعة). [جمع القرآن:161 - 166]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 02:59 PM
المسألة الرابعة: هل كان المصحف الذي جمعه عثمان نسخةً مطابقةً لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الرابعة: هل كان المصحف الذي جمعه عثمان نسخةً مطابقةً لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف؟
ذهب بعض العلماء إلى أنّ مصحف عثمان كان نسخة مطابقة لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف لا اختلاف بينهما، وأنّ مصحف أبي بكر كان على العرضة الأخيرة.
وهذا القول فيه صواب وخطأ
- فأما صوابه: فالقول بأنّ مصحف أبي بكر كان على العرضة الأخيرة، لكن العرضة الأخيرة لا تقتضي أن تكون على حرف واحد.
وقد تقدّم البيان بأن ابن مسعود وزيد بن ثابت قد عرضا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قبض عليه مرتين، وبينهما من الاختلاف في بعض الأحرف ما هو معلوم.
- وأما خطؤه: فلأنّه يلزم منه أنّ كل ما خالف مصحف أبي بكر فهو على غير العرضة الأخيرة، وهذا يقتضي أن يكون ابن مسعود وأبو موسى وأبو الدرداء وجماعة من الصحابة كانوا يقرئونَ الناسَ بالمنسوخ، وهذا قول محظور.
- ولو كان الأمر كذلك لما احتاج عثمان إلى أن يأخذ البيّنة على أصحاب الصحف أنها من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، ولما احتاج إلى مقابلتها على مصحف أبي بكر، ولا إلى الاجتهاد في الاختيار بين الأحرف المختلف فيها.
- ومن تأمّل الآثار المروية في جمع عثمان تبيّن له اجتهاد عثمان ومن معه من قرّاء الصحابة اجتهاداً بالغاً في كلّ ما تقدّم، وأن من ضرورة ذلك الاجتهاد أن يكون في جمع عثمان اختيارٌ يخالف بعض الأحرف التي كانت في مصحف أبي بكر.
قال عبد الله بن المبارك: حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن، عن هانئ البربري مولى عثمان قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب، فيها «لم يتسن» ، وفيها «لا تبديل للخلق» ، وفيها «فأمهل الكافرين».
قال: فدعا بالدواة فمحا إحدى اللامين، وكتب {لخلق الله}، ومحا «فأمهل»، وكتب {فمهّل}، وكتب {لم يتسنه} ألحق فيها الهاء). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، وابن جرير الطبري.
- ولو كان جمعهم لا اختيار فيه بين الأحرف لكان يكفيهم أن يكتبوه على ما في مصحف أبي بكر، ولما احتاجوا إلى سؤال أبيّ عن هذه الأحرف.
- وكذلك ما ثبت من الاختلاف بين المصاحف العثمانية في بعض الأحرف دليل على أنّ مثل هذا الاختلاف ممكن بينها وبين مصحف أبي بكر.
- ولو كانت المصاحف العثمانية نسخة مطابقة لمصحف أبي بكر حرفاً بحرف لما احتاج مروان بن الحكم إلى إتلاف هذا المصحف، ولما أقرّه ابن عمر على دعواه بأنه يخشى أن يكون فيه ما يخالف المصاحف العثمانية.
- وهذه الدعوى مقابلة لدعوى من زعم أن مصحف أبي بكر كان حاوياً للأحرف السبعة). [جمع القرآن:167 - 168]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 03:01 PM
المسألة الخامسة: الخلاصة في بيان الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما.
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الخامسة: الخلاصة في بيان الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما.
تلخيص الفرق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان أنّ جمع أبي بكر كان سببُه الحاجة إلى حفظ نسخة مكتوبة من القرآن بعد موت كثير من حفظة القرآن في حروب الردّة، وجمع عثمان كان سببه ما وقع من الفتنة والاختلاف في الأحرف.
واختلاف الأسباب والمقاصد مؤثر في منهج العمل، فأمّا جمع أبي بكر فكان يكفي فيه أن تكتب نسخة منه على أيّ حرف من الأحرف السبعة إذ كلها كافٍ شافٍ، ولم يكن بين الصحابة تنازع في أحرف القراءات، بل كان كلّ منهم يقرأ كما عُلّم، ولا ينازِع غيره فيما أُقرئوا، ولا ينازعونه فيما أقرئَ، لما أدّبهم به النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدّم.
وأمّا جمع عثمان فكان لا بدّ فيه من الاجتهاد في اختيار حرف واحد من مجموع الأحرف السبعة، ولذلك اجتهدوا اجتهاداً بالغاً في الموازنة بين الأحرف المختلف فيها، وكتبوا المصاحف على ما ارتضوه من الاختيار بما يوافق لسان قريش، ولا يخالف العرضة الأخيرة، ثم انعقد إجماع الصحابة والتابعين في ذلك الوقت على الرضا بذلك الاختيار، وترك القراءة بما يخالفه، وأجمعت عليه الأمّة بعد ذلك إلى وقتنا الحاضر.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم). [جمع القرآن:169]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 03:10 PM
الباب التاسع: ترتيب السور والآيات في المصاحف
ترتيب السور والآيات في المصاحف
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ترتيب السور والآيات في المصاحف
من المباحث المهمّة في جمع القرآن مبحث "تأليف القرآن" ويراد به ترتيب آياته وسوره في المصاحف، وقد تضمّن هذا المبحث مسائل مهمّة ينبغي لطالب علم التفسير أن يكون على دراية حسنة بها، وأن يعرف أقوال العلماء فيها وأدلّتهم.
وسأرتّب الكلام في هذا الدرس على المسائل التالية:
المسألة الأولى: معنى تأليف القرآن
المسألة الثانية: ترتيب الآيات في السورة الواحدة
المسألة الثالثة: ترتيب السور في المصحف
المسألة الرابعة: الكلام على حديث يزيد الفارسي في خبر سؤال ابن عباس لعثمان عن الأنفال وبراءة.
المسألة الخامسة: الجواب عن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة
المسألة السادسة: الفصل بين السور بالبسملة
المسألة السابعة: سبب ترك كتابة البسملة في أول براءة). [جمع القرآن:171]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 03:12 PM
المسألة الأولى: معنى تأليف القرآن
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الأولى: معنى تأليف القرآن
التأليف في اللغة مصدر ألّف يؤلّف تأليفاً، وهو الوصل والمتابعة.
قال أبو منصور الأزهري: (أَلَّفْتُ الشيءَ: وَصَلْتُ بعضَه بِبَعْض؛ وَمِنْه: تَأليفُ الكُتب).
ورد لفظ تأليف القرآن في الأحاديث والآثار يراد به ترتيب الآيات في السورة الواحدة تارة، ويراد به ترتيب السور في المصحف تارة أخرى.
- فمن الأول: قولُ زيد بن ثابت رضي الله عنه: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلّف القرآن من الرقاع إذ قال: (( طوبى للشام ))
قيل: ولم ذلك يا رسول الله؟
قال: (( إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها )). رواه الإمام أحمد وابن أبي شيبة والترمذي والبيهقي وغيرهم من طريق يحيى بن أيوب الغافقي عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الرحمن بن شماسة المهري عن زيد بن ثابت.
ويحيى بن أيوب صالحٌ في نفسه معروف بطلب العلم ومحلّه الصدق، وقد وثّقه يحيى بن معين، وقال فيه أحمد بن حنبل: (سيء الحفظ).
وقال أبو حاتم الرازي: (يُكتب حديثه ولا يحتج به).
ولذلك اختُلف في هذا الحديث فضعّفه بعض أهل العلم لسوء حفظ يحيى بن أيوب، وحسّنه بعضهم.
وهذا الحديث لم يتفرّد به يحيى بن أيوب؛ فقد رواه جماعة منهم عبد الله بن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد به، ورواية ابن وهب عن ابن لهيعة يصححها بعض أهل العلم.
ورواه أيضاً ابن حبان والطبراني من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث المصري عن يزيد به.
وبمجموع هذه الطرق صحح الألباني هذا الحديث في السلسلة الصحيحة.
والشاهد فيه ذكر تأليف القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الآيات تنزل متفرقة منجَّمة على مُدَدٍ متفاوتة، وتأليفها جمعها ووصل بعضها ببعض.
قال أبو بكر البيهقي: (وهذا يشبه أن يكون أراد به تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها، وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كانت مثبتة في الصدور مكتوبة في الرقاع واللخاف والعسب)أ.ه.
ومن الثاني: ما في صحيح البخاري من حديث ابن جريج قال: أخبرني يوسف بن ماهك، قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير؟
قالت: (ويحك، وما يضرك؟!!)
قال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك؟
قالت: (لم؟)
قال: لَعَلِّي أؤلّف القرآن َعليه، فإنه يقرأ غير مُؤلَّف.
قالت: (وما يضرك أيه قرأت قبل؟)
ثمّ ذكر الحديث إلى أن قال: فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السور).
وتأليف القرآن بالمعنى الأوّل كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، كما دلّ عليه حديث زيد بن ثابت، لكن هل كان تأليفاً تاماً لجميع آيات السور أو لبعضها؟
اختلف في ذلك أهل العلم على قولين:
القول الأول: أنّه كان جمعاً تاماً لآيات كلّ سورة، وأن جمع أبي بكرٍ كان لاستنساخه في صحف بين لوحين؛ إذ كان قبل ذلك يكتب في الرقاع واللخاف والعسب.
والقول الثاني: أنه لم يكن تأليفاً تاماً بالكتابة كما كان بالحفظ في الصدر، وأنّ جمع أبي بكر رضي الله عنه كان أوّل جمع تامّ لآيات كلّ سورة.
والقول الثاني هو الراجح لدلالة زيد بن ثابت رضي الله عنه في شأن جمع أبي بكر: (فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف، وصدور الرجال، حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم} حتى خاتمة براءة). رواه البخاري في صحيحه.
إذ لو كانت مكتوبة تامة لوجدها عند غيره، وهذا القول هو الذي تدلّ عليه ظواهر الآثار المروية في هذا الباب.
وأصحاب القول الأول على صنفين:
- صنف فهموا من حديث زيد المتقدّم في التأليف وحديث عثمان مرفوعاً: (( ضعوا هذه الآيات فى السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ))
دلالة العموم على تأليف جميع الآيات مكتوبة في السطور كما هي محفوظة في الصدور.
- وصنف فهموا من قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} التلازم بين حفظ القرآن في الصدور وحفظه مكتوباً حتى في زمن النبوة، ولذلك ذهب بعضهم إلى أنّ المصحف كان مجموعاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا القول قال به بعض المتكلمين، وهو قول غير قائم على الأثر الصحيح وإنما مستنده توهّم لزوم ما لا يلزم.
فأمّا أصحاب الصنف الثاني فيُردّ عليهم بنفي التلازم بين الأمرين.
وأما أصحاب الصنف الأول فيورد عليهم أنّ قولهم هذا يلزم منه أن تكون آيات كلّ سورة مجموعة في موضع واحد، وهذا مخالف لواقع الحال في ذلك الزمان، وما فهموه لا تقتضيه دلالة حديثي زيد وعثمان؛ لأن وضع الآيات في موضعها من السورة لا يلزم منه أن تكون السورة كلها مجموعة في موضع واحد، وقد عُلم أن منها سوراً طوالاً، وأنّ الكتابة كانت في رقاع وعسُب وأكتاف.
ولذلك فإنّ الأقرب أن تكون السور ذوات العدد مكتوبة مرتبة آياتها في مواضع بما تيسّر لهم من أدوات الكتابة وما يكتبون فيه، وتلك الصحف والرقاع متفرّقة مع كُتَّاب الوحي من الصحابة رضي الله عنهم إذ لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم كاتب مستقلّ بكتابة جميع ما يُوحى إليه.
ولذلك احتاج زيد بن ثابت في جمع أبي بكر إلى تتبّع ما تفرّق في الصحف والرقاع والأكتاف والعسب واللخاف وصدور الرجال حتى جمع نسخة تامّة من القرآن في صُحُفٍ بين لوحين). [جمع القرآن:172 - 175]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 03:16 PM
المسألة الثانية: ترتيب الآيات في السورة الواحدة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الثانية: ترتيب الآيات في السورة الواحدة
ترتيب الآيات في السورة الواحدة لا خلاف في أنه متلقّى من النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّ قرّاء الصحابة رضي الله عنهم كانوا يقرَأُون ويقرِئون السور من القرآن على ترتيب الآيات الذي تلقّوه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد صَحّت الأحاديث بما يفيد توقيف ترتيب الآيات وانعقد الإجماع على ذلك.
- قال عبد الله بن أبي مليكة: قال ابن الزبير: قلت لعثمان: هذه الآية التي في البقرة {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا} إلى قوله {غير إخراج} قد نسختها الأخرى، فلم تكتبها؟ قال: «تدعها يا ابن أخي، لا أغيّر شيئاً منه من مكانه». رواه البخاري في صحيحه من حديث يزيد بن زريع عن حبيب بن الشهيد عن ابن أبي مليكة به.
وابن الزبير كان من كَتَبَةِ المصاحف العثمانية.
وهذا الأثر الصحيح صريح الدلالة على أنّ عثمان رضي الله عنه لم يغيّر شيئاً في ترتيب الآيات، وأن ترتيب الآيات لم يكن فيه اختلافٌ بين الصحابة رضي الله عنهم.
وقد وردت جملة من الأحاديث يُفهم منها توقيف ترتيب الآيات، ومن ذلك:
1. حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري، وقال: «يا عمر! ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء » رواه مسلم من حديث قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن عمر به.
2. وحديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء، فقرأها، ثم افتتح آل عمران، فقرأها، يقرأ مترسلا، إذا مر بآية فيها تسبيح سبح، وإذا مر بسؤال سأل، وإذا مر بتعوذ تعوذ، ثم ركع، فجعل يقول: «سبحان ربي العظيم»، فكان ركوعه نحوا من قيامه، ثم قال: «سمع الله لمن حمده»، ثم قام طويلا قريبا مما ركع، ثم سجد، فقال: «سبحان ربي الأعلى»، فكان سجوده قريبا من قيامه). رواه مسلم وأحمد والنسائي من طريق المستورد بن الأحنف، عن صلة بن زفر، عن حذيفة .
وفي رواية عند النسائي: (فافتتح البقرة، فقرأ فقلت: يركع عند المائة فمضى، فقلت: يركع عند المائتين فمضى، فقلت: " يصلي بها في ركعة، فمضى).
3. وحديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: (نسخت الصحف في المصاحف، ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين» وهو قوله: {من المؤمنين، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} فألحقناها في سورتها في المصحف). رواه البخاري في صحيحه من طرق عن ابن شهاب الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه.
وهذا في جمع عثمان، وقصةُ آخر آيتين من سورة التوبة قصة أخرى غير هذه، وتلك كانت في جمع أبي بكر، وقد وقعتا لرجلين وليستا لرجل واحد:
أحدهما: أبو خزيمة الخزرجي
والآخر: خزيمة بن ثابت الأوسي.
- فأما أبو خزيمة فهو ابن أوس بن زيد من بني النجار من الخزرج من قرابة زيد بن ثابت وأبيّ بن كعب وأنس بن مالك، شهد بدراً وما بعدها ومات في خلافة عثمان.
- وأمّا خزيمة بن ثابت فهو من الأوس ويكنى بأبي عمارة وهو الذي أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين، وقد قتل مع عليّ بن أبي طالب في صفين، كان كافّا سلاحه حتى قُتل عمار بن ياسر؛ وكان قد سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم (تقتل عماراً الفئة الباغية) فجرّد سيفه وقاتل مع عليّ حتى قُتل.
وقد وقع خلط في بعض الروايات بين الرجلين، ونبّه إلى التفريق بينهما ابن بطّال وأبو شامة وغيرهما.
4. وحديث أبي العالية، عن أبيِّ بن كعب أنهم جمعوا القرآن في مصاحف في خلافة أبي بكر، فكان رجال يكتبون ويملي عليهم أبيُّ بن كعب، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة: {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون}؛ فظنوا أن هذا آخر ما أنزل من القرآن، فقال لهم أبي بن كعب: (إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} إلى {وهو رب العرش العظيم}). رواه عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه وابن أبي داوود في كتاب المصاحف والضياء في المختارة من طريق أبي جعفر الرازي: حدثنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية.
وإسناده حسن، ودلالته على توقيف ترتيب الآيات ظاهر؛ فإنَّه عرف موضع الآيتين في سورة التوبة بما أقرأه إيّاه النبيّ صلى الله عليه وسلم.
والأحاديث التي فيها تعيين مواضع بعض الآيات كثيرة يتعسّر تقصّيها، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتلو سور القرآن في الصلوات وغيرها بترتيب الآيات كما أنزله الله، حتى حُفظ عنه ذلك الترتيب، وتواتر النقل به من غير خلاف.
ولمّا جُمع القرآن في عهد أبي بكر وعهد عثمان لم يكن بين الصحابة خلاف في ترتيب الآيات، وإنما كان الاختلاف في بعض الأحرف وفي فواصل بعض الآي، والاختلاف في عدد آيات كلّ سورة كالاختلاف في بعض القراءات لا أثر له على ترتيب الآيات.
وقد روي في ترتيب الآيات حديث لا يصحّ استدلّ به بعض العلماء، وهو ما رواه الإمام أحمد من طريق ليث بن أبي سليم، عن شهر بن حوشب، عن عثمان بن أبي العاص، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ شخص ببصره ثم صوَّبه حتى كاد أن يلزقه بالأرض، قال: ثم شخص ببصره فقال: (أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون} ).
وليث وشهر ضعيفان، وقد اختلف على شهر فيه؛ فرواه عبد الحميد بن بهرام عن شهر عن ابن عباس في خبر إسلام عثمان بن مظعون بسياق آخر من غير ذكر موضع هذه الآية من السورة.
قال ابن كثير: (وهذا إسناد لا بأس به، ولعله عند شهر بن حوشب من الوجهين).
وقال في الأول: (إسناد جيد متصل حسن).
قال الألباني: (أنَّى له الحسْنُ، وفيه شهر؟! وعنه ليث، وقد زاد في متنه ما لم يذكره عبد الحميد في روايته عن شهر).
ولذلك جعله الألباني في السلسة الضعيفة.
وهذا الحديث الضعيف تغني عنه الأحاديث الصحيحة المتقدّمة.
- قال القاضي عياض: (لا خلاف أن تأليف كل سورة وترتيب آياتها توقيف من الله تعالى على ما هى عليه الآن فى المصحف، وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها عليه السلام).
- وقال ابن حجر: (أما ترتيب الآيات فتوقيفي بلا خلاف)). [جمع القرآن:176 - 180]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 03:21 PM
المسألة الثالثة: ترتيب السور في المصحف
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الثالثة: ترتيب السور في المصحف
الراجح من أقوال العلماء في هذه المسألة هو قول جمهورهم والمحققين منهم أنّ الصحابة رضي الله عنهم اجتهدوا في ترتيب سور القرآن في المصحف، إلا أنّ هذا الاجتهاد لم يكن مستنده مجرّد الرأي والاستحسان، بل كان قائماً على أصول صحيحة وأدلّة تفصيلية علموها، ولصواب اجتهادهم علامة بيّنة ظاهرة، وهي إجماعهم على هذا الترتيب الذي تلقته الأمّة بالقبول في زمانهم وبعده على مَرِّ القرون.
ولو كان أحد من الصحابة يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أمراً بخلاف هذا الترتيب لقال به، ولو كان الحقّ في غير هذا الترتيب لوجد من يقول به؛ إذ لا بدّ للحقّ من قائم به؛ فلمَّا أجمعوا على هذا الترتيب علمنا أنه صواب وحقّ، وأنّ الأمّة لا تجتمع على ضلالة.
وأما الأصول والأدلة التفصيلية التي اعتمدوا عليها في اجتهادهم فمنها ما يمكن معرفته بدلالة الأحاديث والآثار المروية في هذا الباب، ومنها ما لا نعرفه، لكن نقطع بأنّ مسألة الترتيب من المسائل التي تقتضي ضرورةُ الجمعِ بحثَها ومناقشتَها، وأنّهم خلصوا فيها إلى ما أجمعوا عليه، ولم يُذكر عنهم خلاف صحيح في هذا الترتيب.
ونحن يغنينا إجماعُهم عن تطلّب أدلّتهم في ارتضاء هذا الترتيب.
قال سليمان بن بلال التَّيمي: سمعتُ ربيعةَ يُسأل: لم قُدِّمَت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة بمكة، وإنما نزلتا بالمدينة؟
فقال: «قُدِّمَتا، وأٌلّفَ القرآن على علمٍ ممن ألَّفه به، ومن كان معه فيه، واجتماعهم على علمهم بذلك، فهذا مما يُنتهى إليه، ولا يُسأل عنه» رواه ابن وهب في جامعه كما في جامع بيان العلم لابن عبد البر، ورواه أيضا ابن شبة في تاريخ المدينة.
وربيعة هو ابن أبي عبد الرحمن المدني(ت:136هـ) المعروف بربيعة الرأي، شيخ الإمام مالك، ومفتي أهل المدينة في زمانه، وهو من عداد التابعين من طبقة الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري.
وفي هذا الأثر التأكيد على أنّ تأليف السور كان على علمٍ من قرّاء الصحابة وعلمائهم، وأن لديهم من العلم ما اقتضى هذا الترتيب، إذ من المقطوع به أنهم ألَّفوه عن علمٍ صحيحٍ يُعتدّ به، وأنهم أصابوا ولم يخطئوا.
وإنما اختلافُ العلماء في نوع هذا العلم؛ هل هو توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو هو اجتهاد اجتهدوه فأصابوا فيه؟
ومراد ربيعة ظاهرٌ في أنّ هذا العلم مما خفي علينا أصله وعلمنا نتيجته، وأنَّ في إجماعهم على هذا الترتيب غنيةً عن تكلّف العلم بما بنوا عليه هذا الترتيب.
ولو أنَّ هذه المسألة كُفَّ عنها لما وسعنا إلا الكفّ، ولكن لمّا اختلف فيها أهل العلم بعد ذلك وكثر بحث هذه المسألة في كتب علوم القرآن احتاج طالب علم التفسير إلى أن يُلخّص له بحث هذه المسألة حتى يعرف أقوال العلماء فيها وأدلَّتهم والقول الراجح فيها.
قال ابن وهب: سمعت مالكاً يقول: (إنما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبى صلى الله عليه وسلم).
وهذا الأثر عن مالك فَهِمَ منه بعضُ أهل العلم أنه أراد التوقيف، ولذلك ذهب أبو عمرو الداني وابن بطال وجماعة من العلماء إلى أنّ ترتيب سور القرآن توقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بهذا القول أبو بكر ابن الأنباري وأبو جعفر النحاس وغيرهما.
قال أبو عمرو الداني: (القول عندنا في تأليف السور وتسميتها وترتيب آيها في الكتابة أن ذلك توقيف من رسول الله وإعلام منه به لتوفر مجيء الأخبار بذلك واقتضاء العادة بكونه كذلك، وتواطؤ الجماعة، واتفاق الأمة عليه، وبالله التوفيق).
وقال ابن بطال: (وأما ما رُوي من اختلاف مصحف أبىّ وعلىّ وعبد الله إنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتَّب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك، روى يونس عن ابن وهب قال: سمعت مالكًا يقول: "إنما أُلف القرآن على ما كانوا يسمعونه من قراءة رسول الله")ا.هـ.
وهذا ظاهر في أنّه إنما فهم التوقيف من كلام الإمام مالك رحمه الله؛ فأدّاه ذلك إلى حمل اختلاف التأليف في مصاحف الصحابة إلى أنه كان قبل العرضة الأخيرة، ولا يصحّ ذلك؛ فإنّ ابن مسعود رضي الله عنه ممن شهد العرضة الأخيرة وتأليف مصحفه الأوّل كان مختلفاً عن تأليف المصاحف العثمانية.
وقال أبو بكر بن الأنباري فيما نقله الزركشي في البرهان: (أنزل الله القرآن كله إلى سماء الدنيا ثم فرق في بضع وعشرين فكانت السورة تنزل لأمر يحدث والآية جوابا لمستخبر ويقف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم على موضع السورة والآية فاتساق السور كاتساق الآيات والحروف كله عن النبي صلى الله عليه وسلم فمن قدم سورة أو أخرها فقد أفسد نظم لآيات).
وقال أبو جعفر النحاس: (المختار أن تأليف السور على هذا الترتيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
فهؤلاء العلماء ذهبوا إلى أنّ ترتيب السور توقيفي من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وذهب القاضي عياض وحكاه عن جمهور أهل العلم والمحققين منهم إلى أنّ الصحابة اجتهدوا في ترتيب السور، وأنهم توخَّوا في الترتيب ما كانوا يعرفونه من النبي صلى الله عليه وسلم في غالب أحوال قراءته.
قال القاضي عياض: (ترتيب السور اجتهاد من المسلمين حين كتبوا المصحف لم يكن ذلك من تحديد النبى عليه السلام، وإنما وكله إلى أمته بعده، وهو قول جمهور العلماء، وهو قول مالك واختيار القاضى أبى بكر الباقلانى وأصح القولين عنده).
وقال في موضع آخر: (قول الحجاج: "ألّفوا القرآن كما ألّفه جبريل عليه السلام: السورة التى يذكر فيها البقرة..." الحديث، ولم ينكر عليه إبراهيم قوله: " ألَّفه جبريل " كما أنكر عليه ما تقدم، فإن كان يريد بقوله تأليف الآي فى كل سورة ونظمها على ما هى عليه فى المصحف الآن؛ فهو إجماع المسلمين، وأن ذلك توقيف من النبى عليه السلام، وإن كان يريد تأليف السور بعضها إثر بعض، فهو قول بعض الفقهاء والقراء، والمحققون على خلافه، وأنه اجتهاد من الأمَّة وليس بتوقيف)ا.هـ.
وهذا القول أقرب إلى الصواب إذ لو كان هذا الترتيب عن توقيفٍ من النبي صلى الله عليه وسلم لما ساغَ أن تختلفَ مصاحفُ الصحابةِ في ترتيبِ السُّوَرِ قبل جَمْعِ عثمان، ولأُنكِر على من خالفَ الترتيب الذي أَمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الصحابة أكثر تعظيماً للقرآن، وهم أحسن الأمّة عنايةً به من غير تكلّف، وأشدّ حفظاً لعهد النبي صلى الله عليه وسلّم ووصيته.
فعلمنا بذلك أن الصحابة رضي الله عنهم قد اجتهدوا في ترتيب سور المصحف اجتهاداً بعلمٍ، وقد أرادوا أن يجمعوا الأمّة على مصحف واحد لا يُختلف فيه؛ فاقتضى اجتهادُهم هذا الترتيب الذي أجمعوا عليه.
ومن دلائل توخّيهم موافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الترتيب واستنادهم في اجتهادهم إلى أصول ضابطة أنهم قدموا فاتحة الكتاب، ثم السبع الطوال، ثم المئين، ثم المثاني، ثم المفصّل.
وهذا الترتيب العامّ مأثورٌ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، ثمّ في كلّ مجموعة من تلك المجموعات أدلّة تفصيلية يفهم منها ما يوافق هذا الترتيب في الجملة، ومنها:
1. الأحاديث المروية في تسمية سورة الفاتحة بفاتحة الكتاب ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: بينما جبريل قاعد عند النبي صلى الله عليه وسلم سمع نقيضا من فوقه؛ فرفع رأسه، فقال: ((هذا بابٌ من السماء فُتِحَ اليوم لم يفتح قطّ إلا اليوم؛ فنزل منه مَلَكٌ؛ فقال: هذا مَلَكٌ نزل إلى الأرض لم ينزل قطّ إلا اليوم، فَسَلَّمَ، وقال: "أبشر بنورين أوتيتَهما لم يؤتَهما نبيٌّ قبلَك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته")). رواه مسلم وابن أبي شيبة والنسائي في الكبرى وغيرهم من طريق عمار بن رزيق، عن عبد الله بن عيسى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وفي هذا الاسم أحاديث أخرى في الصحيحين وغيرهما منها حديث عائشة وعبادة بن الصامت وأبي قتادة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم.
2. وحديث النواس بن سمعان الكلابي رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران»، وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد، قال: «كأنهما غمامتان، أو ظلتان سوداوان بينهما شرق، أو كأنهما حِزْقان من طير صواف، تحاجان عن صاحبهما» رواه أحمد ومسلم والترمذي من طريق الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان الكلابي.
3. وقال عبد الرحمن بن يزيد النخعي: سمعت ابن مسعودٍ يقول في بني إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: «إنهن من العتاق الأول، وهنَّ من تلادي» رواه البخاري.
فذكرهنّ على نسق الترتيب الذي هي عليه في المصحف.
4. وحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا أوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه، ثم نفث فيهما فقرأ فيهما: قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات). رواه البخاري من حديث ابن شهاب الزهري عن عروة عن عائشة.
قال أبو جعفر ابن الزبير: (فكيف ما دار الأمر؛ فمنه صلى الله عليه وسلم عُرِفَ ترتيب السور، وعلى ما سمعوه منه بنوا جليل ذلك النظر، فإذاً إنما الخلاف هل ذلك بتوقيف قولي أو بمجرد استناد فعلي بحيث بقي لهم فيه مجال للنظر؛ فهذا موضع الخلاف)ا.هـ
وقال ابن عطية: (وظاهر الآثار أن السبع الطول والحواميم والمفصل كان مرتباً في زمن النبي عليه السلام، وكان في السور ما لم يرتب، فذلك هو الذي رُتّب وقت الكَتْب).
قال أبو جعفر ابن الزبير معقباً عليه: (وظواهر الآثار شاهدة بصحة ما ذهب إليه في أكثر ما نُص عليه، ثم يبقى بعدُ قليل من السور يمكن فيها جري الخلاف أو يكون وقع، وإذا كان مستند المسألة النقل لم يصعب خلاف غير أهله)ا.هـ.
ونقل السيوطي في الإتقان عن البيهقي في المدخل أنه قال: (كان القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرتبا سوره وآياته على هذا الترتيب إلا الأنفال وبراءة لحديث عثمان السابق).
وهو قول فيه نظر لأن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة رضي الله عنهم كان في أكثر من ذلك، ولم أقف على نصّ كلام البيهقي، ولعله نقله بالمعنى، وسيأتي الكلام على حديث عثمان وابن عباس في شأن براءة والأنفال.
وخلاصة القول الراجح في هذه المسألة أن ترتيب السور في المصاحف العثمانية كان باجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم لكنّهم لم يكن اجتهاداً مستنَدُه مجرّد الرأي والاستحسان، بل كانوا يتوخّون ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجيح بعض الأدلة على بعض، وكانوا هم أعلم الأمّة بذلك، وقد أجمعوا على ما انتهوا إليه؛ فصار إجماعهم حجّة قاطعة للنزاع، فلا يجوز أن يُكتب مصحف تامّ يخالف ترتيب السور في المصاحف العثمانية.
ونحن وإن كان قد خفيَ علينا بعضُ أدلَّتهم فإنَّ في النتيجة التي خلصوا إليها وإجماعِهم عليها كفايةً عن تطلُّب تفاصيل أدلّتهم ومآخذ اجتهادهم في الترتيب، وقد تقرَّر أنّ الأمّة لا تجمع على ضلالة، وأنّا مأمورون باتّباع سُنَّة الخلفاء الراشدين، وقد أقرّ هذا الترتيب عثمان بن عفان وعليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما، وأقرّه قُرَّاء الصحابة وعلماؤهم؛ فعلمنا أن هذا الترتيب هو الحقّ الذي رضي الله أن يُرتّب به كتابه، وأن تكتب به المصاحف على مرّ القرون وتطاول الأعصر). [جمع القرآن:181 - 188]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 03:26 PM
المسألة الرابعة: الكلام على حديث يزيد الفارسي عن ابن عباس في شأن سورتي الأنفال وبراءة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الرابعة: الكلام على حديث يزيد الفارسي عن ابن عباس في شأن سورتي الأنفال وبراءة
قال عوف بن أبي جميلة الأعرابي: حدثنا يزيد الفارسي قال: قال لنا ابن عباس: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر "بسم الله الرحمن الرحيم" فوضعتموها في السبع الطوال، فما حملكم على ذلك؟
قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من يكتب له فيقول: «ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» وإذا أنزلت عليه الآيات قال: «ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا» وإذا أنزلت عليه الآية، قال: «ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا»).
قال: (وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما أنزل من القرآن).
قال: (فكانت قصتها شبيها بقصتها، فظننا أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطرا: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال). رواه الإمام أحمد وأبو عبيد وأبو داوود والترمذي والنسائي في الكبرى، ومداره على يزيد الفارسي، وقد اختلف فيه: هل هو يزيد بن هرمز الفارسي أو غيره؟
فذهب الإمام أحمد وعبد الرحمن بن مهدي إلى أنهما واحد.
وذهب يحيى بن سعيد القطان وأبو حاتم الرازي ويحيى بن معين إلى التفريق بينهما.
قال أبو حاتم الرازي: (يزيد بن هرمز هذا ليس بيزيد الفارسي، هو سواه، فأما يزيد بن هرمز فهو والد عبد الله بن يزيد بن هرمز، وكان ابن هرمز من أبناء الفرس الذين كانوا بالمدينة وجالسوا أبا هريرة مثل أبي السائب مولى هشام بن زهرة ونظرائه، وليس هو يزيد الفارسي البصري الذي يروي عن ابن عباس ويروي عنه عوف الأعرابي، إنما روى عن يزيد بن هرمز الحارث بن أبي ذباب وليس بحديثه بأس، وكذلك صاحب ابن عباس لا بأس به)ا.هـ.
وقال ابن الجنيد: (قيل ليحيى بن معين وأنا أسمع: يزيد الفارسي روى عنه أحد غير عوف؟
قال: «لا»
قلت ليحيى: فإنهم يزعمون أن يزيد بن هرمز هو يزيد الفارسي الذي روى عنه الزهري وقيس بن سعد حديث نجدة.
فقال: «باطل، كذب، شيء وضعوه، ليس هو ذاك»).
وذكره البخاري في الضعفاء، وذكر عن يحيى بن سعيد القطان أنه كان مع بعض الأمراء.
وقد روى له ابن أبي داوود خبراً في كِتاب "المصاحف" من طريق عبد الله بن فيروز وفيه أنه كان كاتباً لعبيد الله بن زياد، وأنه كتب له مصحفاً بأمره فيه مخالفة لرسم المصاحف العثمانية.
وروى ابن أبي شيبة وابن شبّة عن عوف الأعرابي أن يزيد الفارسي كان يكتب المصاحف، وأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وقصّ خبره على ابن عباس فصدّقه في وصفه.
فالذي يظهر أنه غير يزيد بن هرمز، وقول المفرّقين بينهما مقدّم هنا لما معهم من زيادة علم.
ويحيى بن سعيد القطان قد روى هذا الخبر عن عوف عن يزيد الفارسي كما في تاريخ المدينه لابن شبة؛ فهو أخبرُ به، وقد حدّثه عوفٌ به من غير واسطة.
ويزيد الفارسي ممن لا يحتمل تفرّده بمثل هذا الخبر، وقد ضعّفه البخاري، وأما قول أبي حاتم فيه: لا بأس به؛ فإنما تُمشَّى به روايته فيما لا نكارة فيه.
وهذا الخبر مما اختلف في حكمه أهل العلم
- فحسّنه الترمذي وابن حجر في كتابه "موافقة الخُبْر الخبَر".
- وصححه الحاكم بناء على أنّ يزيد هو ابن هرمز.
- وضعّفه أحمد شاكر والألباني وجماعة من المعاصرين.
قال أحمد شاكر: (فهذا يزيد الفارسي الذي انفرد برواية هذا الحديث، يكاد يكون مجهولا، حتى شُبِّهَ على مثل ابن مهدي وأحمد والبخاري أن يكون هو ابن هرمز أو غيره، ويذكره البخاري في الضعفاء، فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به).
ثمّ ذكر الشيخ أحمد شاكراً كلاماً في نقد المتن فيه نظر، فقال: (وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي، قراءةً وسماعاً وكتابةً في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور، كأنَّ عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأيه، وحاشاه من ذلك).
وهذا غير لازم، لأن اجتهاد عثمان ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم لم يكن عن مجرّد الرأي والاستحسان، وإنما كان اجتهادهم في الاختيار من الأحرف التي يُقرأ بها.
وسيأتي الكلام على ترك البسملة في أول براءة قريباً إن شاء الله.
والمتن معلول بعلل توجب عدم قبول تفرّد يزيد الفارسي به، وما ذكره الشيخ أحمد شاكر في نقد المتن فيه نظر.
وأمّا الألباني فضعّفه لأجل أن يزيد الفارسي لم تثبت عدالته، ولأنَّ البخاري ذكره في الضعفاء، ولأن في المتن نكارة ولا متابع له عليه.
وهذه العلل كافية في ردّ رواية يزيد الفارسي هذه، وعدم الاعتداد بها.
وقد تبع الشيخين أحمد شاكر والألباني جماعة من المصنفين في علوم القرآن على تضعيف هذا الأثر وإنكاره.
وقد ردّ الشيخ عبد الله الجديع على الشيخ أحمد شاكر تضعيفَه، وذهب إلى تصحيح الأثر ترجيحاً منه بأن يزيد الفارسي هو ابن هرمز، وعلى فرض أنه غيره فدفع عنه الجهالة بقول ابن أبي حاتم فيه: (لا بأس به)، وبأنّ ما ذكره الشيخ أحمد شاكر من نكارة المتن غير لازم، وأنّ أهل الحديث على مرّ القرون كانوا يروونه من غير نكير، وأنّه لم يؤثر عن أحد من الأئمة المتقدمين تضعيف هذا الخبر، وإنما المأثور عنهم تصحيحُه أو تحسينُه.
وقول الشيخ الجديع مُتعقَّب بما ذكره الطحاوي في شرح مشكل الآثار من إعلال بعض العلماء المتقدمين لمتن الأثر؛ إذ قال فيما حكى عنهم: (وأَنِفُوا أنْ يكونَ مثلُ هذا يذهب عن عثمان رضي الله عنه لعنايته بالقرآن قديماً وحديثاً إلى أن توفَّاه الله رضي الله عنه على ذلك).
وما روي عن عثمان أنه قال في هذا الأثر: (فكانت قصتها شبيها بقصتها، فظننا أنها منها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطرا: بسم الله الرحمن الرحيم).
ففيه علل توجب ردّ هذه الجمل:
منها: أنّه يلزم من ذلك أن يكون قد غاب عن عثمان وجميع قرّاء الصحابة والتابعين في زمان الجمع معرفة كون سورة الأنفال من التوبة أو لا، وأنه لم يكن لدى أحد منهم علم تقوم به الحجّة في هذا الأمر.
ومنها: أنه يلزم من ذلك أن يكون هذا الإشكال قد عرض في جمع أبي بكر ولم يُحسم، وقد كان قراء الصحابة فيه أكثر توافراً.
ومنها: أنه يلزم من ذلك مخالفة الإجماع في ترتيب آيات كلّ سورة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظها في الصدور.
ومنها: أنه يلزم من ذلك أنه قد فات علمُ هذا الأمر على من شهد العرضة الأخيرة من الصحابة رضي الله عنهم.
ومنها: أن هذا الخبر ينقض أوَّلُه آخرَه؛ فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يوقفهم على مواضع الآيات من السور؛ فكيف يظنّ أنه لم يبيّن لهم ما هو أعظم من ذلك وهو أن سورة تزيد على مائة آية لا يدرون هل هي مستقلة أو تابعة لسورة أخرى؟!!
فكيف يقول: ((فكانت قصتها شبيها بقصتها، فظننا أنها منها..).
ومنها: أن يقال: كيف خفي علم هذا الأمر العظيم المتعلق بمسألة من مظانّ ما يعتنى به وتتوافر الهمم على فقهه مدارسة وتقريراً كيف خفي علمه عن خاصة أصحاب ابن عباس وأعلمهم بالتفسير كسعيد بن جبير ومجاهد وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان وأضرابهم حتى يتفرد بروايته يزيد الفارسي.
والخلاصة أنّ هذا الخبر فيه مواضع منكرة مخالفة لما صحّ من الأحاديث والآثار وهو ما يتعلق بتميّز سورة الأنفال عن سورة التوبة، ودعوى أن عثمان ومن معه كانوا يجهلون هذا الأمر العظيم، وقد علموا دقائق الفروق بين الأحرف السبعة ووازنوا بين القراءات واختاروا منها.
وقد يقال: إنّ سورتي التوبة والأنفال سورة واحدة في بعض الأحرف، وسورتان في أحرف أخرى، كما حُكي في سورتي الفيل وقريش أنّهما سورة واحدة في قراءة أبيّ بن كعب، ويكون الاجتهاد المذكور عن عثمان هو اجتهاد مفاضلة بين الأحرف، إذ لا بدّ من أن يُكتب المصحف على قول واحد مختار، ثم جرى من حكاية الأثر بالمعنى ما أثار بعض الإشكالات التي تزول بالتفصيل والتمحيص.
والنتيجة المتّفق عليها أنّ ما كُتب عليه المصحف واستقرّ عليه الاختيارُ أمرٌ مجمعٌ على صحّته لا يُرتاب في ذلك، وإن خفيت علينا بعض أسباب الخلاف ومآخذ الاختيارات.
وأما ما يتعلّق بترتيب السُّوَرِ وترك كتابة البسملة في أوَّل براءة فهو أمرٌ يدخله الاجتهادُ في المفاضلة بين الأحرف السبعة، ولا نكارة في ذلك كما تقدّم، غير أنّ العمدة في ذلك ليست على خبر يزيد الفارسي). [جمع القرآن:188 - 194]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 03:28 PM
المسألة الخامسة: الجواب عن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة الخامسة: الجواب عن اختلاف ترتيب السور في مصاحف الصحابة
مصاحف الصحابة وكبار التابعين منها ما كُتب قبل جمع عثمان، ومنها ما كتب بعده أو بقي بعده لم يتلف في زمن عثمان.
فأما ما كان قبل جمع عثمان فإنّ اختلاف الترتيب فيه راجع إلى اجتهاد كلّ قارئ، ولم يكن ترتيب السور في مصاحفهم واجباً عليهم كما أنه لم يكن من الواجب عليهم في التلاوة ترتيب السور.
لكن لمّا جمع عثمان الناسَ على مصحف واحد بترتيب واحد وانعقد الإجماع عليه لم يسغ لأحد أن يكتب مصحفاً يخالف فيه ترتيب سور المصاحف العثمانية.
وقد كان لبعض الصحابة قبل الجمع العثماني مصاحف وصحف كتبوا فيها عدداً من السور تختلف في ترتيبها عن ترتيب السور في المصاحف العثمانية.
قال شقيق بن سلمة: قال عبد الله بن مسعود: «لقد تعلمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن اثنين اثنين، في كل ركعة»، فقام عبد الله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه، فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن الحواميم: حم الدخان وعم يتساءلون). رواه البخاري.
فقوله: (على تأليف ابن مسعود) يدلّ على أنّ لها تأليفاً مختلفاً عما يعهده المخاطبون، وكان ذلك التأليف قبل جمع عثمان.
وكان لابن مسعود مصحف، ولأبيّ بن كعب مصحف، ولأبي موسى الأشعري مصحف، ولأبي الدرداء مصحف، ولغيرهم من الصحابة وكبار التابعين مصاحف قبل جمع عثمان، وسيأتي الحديث عنها في درس "مصاحف الصحابة "، وعامّة هذه المصاحف قد أُتلف بأمر عثمان بن عفان، وبقي عدد قليل تأخّر إتلافُه.
وكان بين تلك المصاحف من الاختلاف في الأحرف وترتيب السور ما استدعى الجمع العثماني، بل نُقل ما هو أشدّ من ذلك وهو تضمّن بعض تلك المصاحف لآيات وسور منسوخة التلاوة كسورتي الخلع والحفد.
قال عبد الأعلى بن عبد الأعلى: حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين (أن أبيَّ بن كعب كتبهن في مصحفه خمسَهن، أم الكتاب، والمعوذتين، والسورتين، وتركهن ابن مسعود كلهن، وكتب ابن عفان فاتحة الكتاب، والمعوذتين، وترك السورتين). رواه عمر بن شبة.
فأما كتابة السور والآيات المنسوخة في بعض المصاحف قبل جمع عثمان فهو راجع إلى أحد أمرين:
أولهما: عدم العلم بالنسخ، ولا ريب أن اجتماع القراء في زمن عثمان أدعى لانتفاء هذه العلّة، ولذلك لم يثبت في المصاحف العثمانية ما نُسخت تلاوته.
والثاني: أن بقاءها ليس لتلاوتها كما تتلى سور القرآن غير المنسوخة، ولا لإقرائها، وإنما للعلم بها، ولأنّ تلك المصاحف خاصة بأصحابها.
ولمّا جمع عثمان الناس على مصحف واحد عزم على كلّ من عنده مصحف أو صحف فيها قرآن أن يأتي به؛ فسلّمه الناس مصاحفهم فلمّا نسخ ما فيها وأتمّ جمع المصاحف واطمئنّ الصحابة لصحّة الجمع، أمر بحرق بقية المصاحف؛ وبعث إلى الأمصار بمصاحف وأمر بحرق ما سواها.
فأتلفت عامّة المصاحف بأمر عثمان بن عفان رحمه الله كما سبق بيانه، لكن بقي مما لم يتلف: المصحف الذي جمعه أبو بكر؛ فإنّ عثمان ردّه إلى حفصة وبقي إلى زمن معاوية ثم أتلفه مروان بن الحكم.
وكان ابن مسعود قد خطب في الكوفة وأمر الناس ألا يسلموا مصاحفهم؛ ثمّ إنّه استجاب بعد ذلك وأقام مصحفه على المصحف الذي بعث به عثمان إلى أهل الكوفة.
واستقرّ ترتيب السور في المصاحف على ترتيب المصاحف العثمانية، وأجمعت الأمّة على ذلك، فلا يسوغ أن يُكتب مصحف تامّ على ترتيب يخالف ترتيب المصاحف العثمانية.
لكن بقي بين المصاحف أوجهٌ من الاختلاف في الرسم وفي عدّ الآي كما سبق بيانه.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أنّ ما خالف المصاحف العثمانية في الترتيب من مصاحف الصحابة فإنما سببه أنه كان قبل العرضة الأخيرة.
قال ابن بطال: (وأما ما روى من اختلاف مصحف أبىّ وعلىّ وعبد الله إنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك).
وهذا القول أدّاه إليه قوله بتوقيف ترتيب السور، وهو قول مرجوح كما تقدّم، وقد ثبت اختلاف مصاحف الصحابة في الترتيب، وليس كلّ الاختلاف مرجعه إلى النسخ.
وعلى هذا فكلّ اختلاف قبل جمع عثمان فهو مرفوع بالجمع العثماني الذي استقرّ عليه الأمر.
وما بقي من اختلاف في مصاحف بعض الصحابة أو التابعين فالأظهر أنه من بقايا ما لم يُتلف من تلك المصاحف، ثم لم يبق بعد ذلك منها شيء.
قال ابن جريج: أخبرني يوسف بن ماهك، قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، إذ جاءها عراقي، فقال: أي الكفن خير؟
قالت: (ويحك، وما يضرك؟)
قال: يا أم المؤمنين، أريني مصحفك؟
قالت: (لمَ؟)
قال: (لعلي أؤلّف القرآنَ عليه، فإنه يُقرأ غير مؤلف).
قالت: (وما يضرّكَ أيَّهُ قرأتَ قبل!! إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لـَجاريةٌ أَلعب: {بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر} وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده).
قال: (فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السور). رواه البخاري.
قال ابن كثير: (كأنَّ هذا قبل أن يبعث أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه إلى الآفاق بالمصاحف الأئمة المؤلفة على هذا الترتيب المشهور اليوم، وقبل الإلزام به).
وتعقّبه ابن حجر بقوله: (كذا قال وفيه نظر؛ فإن يوسف بن ماهك لم يدرك زمان أرسل عثمان المصاحف إلى الآفاق؛ فقد ذكر المزي أن روايته عن أبيّ بن كعب مرسلة، وأبيّ عاش بعد إرسال المصاحف على الصحيح وقد صرَّح يوسف في هذا الحديث أنه كان عند عائشة حين سألها هذا العراقي)ا.هـ.
قلت: يوسف بن ماهك توفّي سنة 113هـ، وبين جمع عثمان ووفاته نحو 88 سنة؛ ولم أجد له رواية متصلة عمّن مات في زمن عثمان؛ فلعله إنما ولد في زمانه أو بعده.
وقد حُمل سؤال هذا السائل العراقي على أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون سؤاله عن ترتيب السور، ويشهد له قولها رضي الله عنها: (وما يضرّك أيّه قرأت قبل).
والثاني: أن يكون سؤاله عن عدد الآي، وهو من علوم القرآن التي يُعنى بها القُرّاء، ويشهد لهذا الاحتمال قولُه: (فأملت عليه آي السور).
قال ابن حجر: (كأن تقول له سورة كذا مثلا كذا آية، الأولى كذا، الثانية إلخ، وهذا يرجع إلى اختلاف عدد الآيات، وفيه اختلاف بين المدني والشامي والبصري، وقد اعتنى أئمة القراء بجمع ذلك وبيان الخلاف فيه)ا.هـ.
والاحتمال الأوّل أجاب عنه ابن حجر بقوله: (الذي يظهر لي أن هذا العراقي كان ممن يأخذ بقراءة ابن مسعود، وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على إعدام مصحفه...فكان تأليف مصحفه مغايراً لتأليف مصحف عثمان، ولا شكَّ أنَّ تأليف المصحف العثماني أكثر مناسبة من غيره فلهذا أطلق العراقي أنه غير مؤلف وهذا كله على أن السؤال إنما وقع عن ترتيب السور ويدل على ذلك قولها له وما يضرك أيه قرأت قبل)ا.هـ.
قال: (ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين).
وقد أحسن ابن حجر رحمه الله الجواب عن هذا الأثر). [جمع القرآن:195 - 200]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 03:31 PM
المسألة السادسة: الفصل بين السور بالبسملة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة السادسة: الفصل بين السور بالبسملة
قال ابن عباس رضي الله عنهما: « كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرف فصل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم » رواه أبو داوود والحاكم وغيرهما من طرق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، ولهذا الحديث طرق أخرى بألفاظ مختلفة.
ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار، أن سعيد بن جبير أخبره (أن المؤمنين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا لا يعلمون انقضاء السورة حتى ينزل: {بسم الله الرحمن الرحيم} فإذا نزل: {بسم الله الرحمن الرحيم} علموا أن قد نزلت السورة، وانقضت الأخرى). هكذا مرسلاً.
وروى البيهقي في شعب الإيمان عن عثمان بن الحجاج العبدي عن عبد الله بن أبي حسين النوفلي ذكر عن ابن مسعود، قال: (كنا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى تنزل {بسم الله الرحمن الرحيم})
عثمان مجهول، وابن أبي حسين لم يدرك ابن مسعود، لكن المعوّل على حديث ابن عباس، وعلى كتابة الصحابة رضي الله عنهم إياها في فواتح السور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فيه أنها نزلت للفصل، وليس فيه أنها آية منها، و {تبارك الذي بيده الملك} ثلاثون آية بدون البسملة؛ ولأن العادين لآيات القرآن لم يعدّ أحد منهم البسملة من السورة)ا.هـ.
وقال في موضع آخر: (توسّط أكثر فقهاء الحديث كأحمد ومحققي أصحاب أبي حنيفة، فقالوا: كتابتها في المصحف تقتضي أنها من القرآن؛ للعلم بأنهم لم يكتبوا فيه ما ليس بقرآن، لكن لا يقتضي ذلك أنها من السورة، بل تكون آية مفردة أنزلت في أول كل سورة، كما كتبها الصحابة سطرا مفصولا، كما قال ابن عباس: " كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم".
فعند هؤلاء: هي آية من كتاب الله في أول كل سورة كتبت في أولها، وليست من السورة. وهذا هو المنصوص عن أحمد في غير موضع. ولم يوجد عنه نقل صريح بخلاف ذلك. وهو قول عبد الله بن المبارك وغيره. وهو أوسط الأقوال وأعدلها)ا.هـ.
قال عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل: (من ترك {بسم الله الرحمن الرحيم} في فواتح السور، فقد ترك مائة وثلاث عشرة آية من القرآن). رواه البيهقي في شعب الإيمان عنهما.
وقد مضى بحث مسألة عدّ البسملة آية من السور في تفسير سورة الفاتحة بما أغنى عن إعادته، وإنما المقصود هنا التنبيه على أنّ الصحابة رضي الله عنهم كتبوا البسملة في سطر مفصول في أوّل كل سورة ما عدا سورة براءة، وأنها آية من القرآن.
قالَ أبو بكرٍ البيهقيُّ (ت:458هـ): (لم يختلف أهل العلم في نزول {بسم الله الرحمن الرحيم} قرآنا، وإنما اختلفوا في عدد النزول).
ثم قال: (وفي إثبات الصحابة رسمها حيثُ كتبوها في مصاحفهم دلالةٌ على صحةِ قولِ من ادَّعى نزولَها حيث كُتِبَت، والله أعلم)ا.هـ.
ولا يقدح في الإجماع الذي ذكره البيهقي ما نُقل من شذوذ الأقوال فهي إما غير ثابتة عن أصحابها أو مما أنكره أهل العلم.
قال إبراهيم بن يزيد القرشي: قلت لعمرو بن دينار: (إنَّ الفضلَ الرقاشي زعم أن {بسم الله الرحمن الرحيم} ليس من القرآن!
قال: سبحان الله ما أجرأ هذا الرجل!! سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس يقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزلت عليه {بسم الله الرحمن الرحيم} علم أن تلك السورة قد ختمت وفتح غيرها). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
إبراهيم بن يزيد متروك الحديث، والفضل بن عيسى بن أبان الرقاشي قَدَريٌّ مُنكَر الحديث؛ مُجمَعٌ على تركِه، قال فيه حماد بن زيد: (كان من أخبث الناس قولاً). فلا يلتفت إلى قوله). [جمع القرآن:200 - 202]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 03:37 PM
المسألة السابعة: سبب ترك كتابة البسملة في أول براءة
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (المسألة السابعة: سبب ترك كتابة البسملة في أول براءة
قال ابن الجزري: (لا خلاف في حذف البسملة بين الأنفال وبراءة، عن كل من بسمل بين السورتين، وكذلك في الابتداء ببراءة على الصحيح عند أهل الأداء، وممن حكى بالإجماع على ذلك أبو الحسن بن غلبون، وابن القاسم بن الفحام، ومكي، وغيرهم، وهو الذي لا يوجد نصّ بخلافه)ا.هـ.
واختلف بعد ذلك: هل ترك البسملة في أوّل براءة عامّ في الأحرف كلها؟ أو هو خاصّ بما اقتضاه الجمع العثماني؟
فنقل ابن الباذش أن التسميةَ في أوَّل بَراءةَ كانت في مصحف ابن مسعود؛ فإنْ ثبتَ هذا فيكون تركُ التسميةِ في بعض الأحرف دون بعض، ويكون اختيار عثمان ومن معه ترك التسمية في أوّل براءةَ من جنسِ اجتهادِهم في الاختيار بين الأحرف السبعة.
قال ابن الباذش في كتابه "الإقناع في القراءات السبع": (أجمعوا على تركها بين الأنفال وبراءة اتباعاً لمصحف عثمان رضي الله عنه المجمع عليه، إلا أنه رُوي عن يحيى وغيره عن أبي بكر عن عاصم أنه كان يكتب بينهما التسمية، ويُروى ذلك عن زرّ عن عبد الله، وأنه أثبته في مصحفه، ولا يؤخذ بهذا).
قال ابن حجر: (ونقل صاحب الإقناع أن البسملة لبراءة ثابتة في مصحف ابن مسعود، قال: "ولا يؤخذ بهذا")ا.هـ.
قلت: سبب عدم الأخذ بهذا الإجماع على ترك القراءة بما خالف المصاحف العثمانية كما تقدّم.
فالمعوّل في إثبات التسمية وحذفها إنما هو على ما ثبت بالتلقّي عن النبي صلى الله عليه وسلم رواية.
وقد ذكر مكيّ بن أبي طالب في الهداية عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال: (آخر ما نزل "براءة " وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر في أول كل سورة بـ: {بسم الله الرحمن الرحيم}، ولم يأمر في سورة " براءة " بشيء).
قال: (فلذلك ضُمّت إلى سورة " الأنفال "، وكانت أولى بها لشبهها بها).
ولم أقف عليه مسنداً.
وقال القشيري: (الصّحيح أن البسملة لم تكتب فيها لأن جبريل عليه السّلام ما نزل بها فيها).
قلت: وهذا القول لا يمكن الجزم به في جميع الأحرف.
ثمّ اختلف العلماء بعد ذلك في التماس الحكمة من ترك البسملة في أوّل براءة على أقوال مبناها على الاجتهاد:
القول الأول: لأن براءة نزلت بالسيف والبسملة أمان، وهذا القول رُوي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بإسناد ضعيف.
قال محمد بن زكريا الغلابي: حدثنا يعقوب بن جعفر بن سليمان الهاشمي، حدثني أبي، عن أبيه، عن علي بن عبد الله بن عباس، قال: سمعت أبي يقول: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لم لم تكتب في براءة بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: لأن «بسم الله الرحمن الرحيم أمان وبراءة نزلت بالسيف، ليس فيها أمان»). رواه ابن الأعرابي في معجمه، والحاكم في المستدرك، وهو ضعيف الإسناد؛ محمد بن زكريا رماه الدارقطني بالوضع.
وقريب من هذا القول ما رواه الثعلبي عن سفيان بن عيينة.
وقال أبو يزيد حاتم بن محبوب الشامي: سمعت عبد الجبار بن العلاء العطار يقول: سُئل سفيان بن عيينة: لِـمَ لَـمْ يكن في صدر براءة:{بسم الله الرحمن الرحيم} ، فقال: (لأن التسمية رحمة، والرحمة أمان، وهذه السورة نزلت في المنافقين وبالسيف ولا أمان للمنافقين). رواه الثعلبي.
وهذا القول اعتُرض عليه بأنّ من سور القرآن ما نزل في شأن الكفار والمنافقين بل سمّيت السور بذلك كما في سورتي الكافرون والمنافقون وقد بُدئتا بالبسملة.
ويمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأنّ مقام إعلان البراءة والنذارة مقام خاصّ يناسب معه ترك البدء بالبسملة.
وقال أبو إسحاق الزجاج: (أخبرنا بعض أصحابنا عن صاحبنا أبي العباس محمد بن يزيد المبرّد أنَّه قال: (لم تفتتح بـ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، لأن "بسم اللَّه" افتتاح للخير، وأوَّل "براءَة" وَعيدٌ ونقض عُهود، فلذلك لم تفتتح بـ{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}).
والقول الثاني: لأنها نسخت مع ما نسخت تلاوته من أوّل سورة براءة، وقد روي أنها كانت تعدل سورة البقرة؛ وهذا القول مروي عن الإمام مالك.
قال القرطبي: (وقال مالك فيما رواه ابن وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم: إنه لما سقط أوَّلها سقط {بسم الله الرحمن الرحيم} معه).
وقد تعقّب ابن عاشور نسبة هذا القول إلى الإمام مالك.
والقول الثالث: لأن الصحابة اختلفوا فيها فمنهم من ذهب إلى أن الأنفال والتوبة سورة واحدة، ومنهم من ذهب إلى أنهما سورتان؛ فقرن بينهما، ولم يفصل بينهما ببسملة، وهذا القول ذكره القرطبي عن خارجة وأبي عصمة وغيرهما، ويمكن أن يستدلّ لهذا القول بحديث يزيد الفارسي المتقدّم.
وقال ابن وهب: حدثني ابن لهيعة قال: (يقولون إن براءة من: {يسألونك عن الأنفال}، قالوا: وإنما ترك {بسم الله الرحمن الرحيم} أن يكتب في براءة لأنها من: {يسألونك}).
وروى عبد الرزاق عن معمر وعطاء أنهما ذكرا ذلك.
وقال الزمخشري في تفسيره: (وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: الأنفال وبراءة سورة واحدة. وقال بعضهم: هما سورتان، فتركت بينهما فرجة لقول من قال: هما سورتان، وتركت بسم الله الرحمن الرحيم لقول من قال: هما سورة واحدة)ا.هـ
والقول الرابع: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كتب في صلح الحديبية «بسم الله الرحمن الرحيم» ، لم يقبلوها وردُّوها، فما ردَّها الله عليهم، وهذا القول ذكره ابن الجوزي عن عبد العزيز بن يحيى المكي). [جمع القرآن:202 - 206]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 05:32 PM
الباب العاشر: مصاحف الصحابة رضي الله عنهم
مصاحف الصحابة رضي الله عنهم
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصاحف الصحابة رضي الله عنهم
من المسائل المتّصلة بجمع القرآن ما يتعلق بمصاحف الصحابة رضي الله عنهم قبل الجمع العثماني وبعده، ومعرفة أحوال تلك المصاحف وتحرير أحكام ما يُنسب إليها مما يعين على معرفة الجواب عن الإشكالات التي تثار في هذا الباب، وكشف شبهات الطاعنين في جمع القرآن من الرافضة والمستشرقين والزنادقة.
وقد عُلم مما تقدّم أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكن لهم مصحفٌ جامع في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لما سبق ذكره من أنّ الوحي لم يكن قد انقطع؛ وكان القرآن يزيد الله فيه ما يشاء وينسخ على ما تقتضيه حكمته.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر كتّاب الوحي أن يكتبوا له، وأذن للصحابة رضي الله عنهم أن يكتبوا عنه القرآن، بل كان ينهى عن كتابة غير القرآن لئلا يلتبس عليهم بغيره كما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمداً فليتبوَّأ مقعده من النار).
ثمّ إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعبد الله بن عمرو بن العاص أن يكتب عنه كلامه صلى الله عليه وسلم؛ فكانت عنده صحيفة تسمّى "الصادقة"، وأذن لبعض أصحابه بالكتابة لمّا أُمنت فتنة التباس القرآن بغيره، وكَثُر حملة القرآن من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.
فكان من الصحابة رضي الله عنهم من يكتب لنفسه بعض السور والآيات، وبعض أؤلئك كانت كتابتهم من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، كما في كتاب المصاحف لابن أبي داوود من رواية إسرائيل بن يونس، عن جدّه أبي إسحاق السبيعي، عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص أن عثمان قال في خطبته: (فأعزمُ على كلِّ رجل منكم ما كان معه من كتاب الله شيء لما جاء به)
قال مصعب: وكان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرةً، ثم دخل عثمان فدعاهم رجلاً رجلاً فناشدهم: (لسمعتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك؟)
فيقول: نعم..). ثم ساق الخبر.
ورواه عمر بن شبة من طريق زيد بن أبي أنيسة عن أبي إسحاق السبيعي ، عن مصعب بن سعد أنَّ عثمان عزم على كلِّ مَن كان عنده شيء من القرآن إلا جاء به، قال: (فجاء الناس بما عندهم، فجعل يسألهم عليه البينة أنهم سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وكانوا يكتبون في العسب واللخاف والأكتاف والأدُم كما تقدّم بيانه؛ فلمّا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من أعظم أوجه عناية الصحابة رضي الله عنهم بالقرآن استكمال جمعه والتفقّه في معانيه وتدارسه، ومنهم من حبس نفسه لذلك.
قال يزيد بن هارون: أخبرنا ابن عونٍ، عن محمّد [بن سيرين]، قال: لمّا استُخلف أبو بكرٍ قعد عليٌّ في بيته؛ فقيل لأبي بكرٍ؛ فأرسل إليه: (أكرهت خلافتي؟)
قال: لا، لم أكره خلافتك، ولكن كان القرآنُ يزاد فيه، فلمّا قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلتُ عليّ أن لا أرتدي إلاّ لصلاةٍ حتّى أجمعه للنّاس، فقال أبو بكرٍ: (نعم ما رأيتَ). رواه ابن أبي شيبة.
وهذا مرسل جيد رجاله أئمة ثقات، غير أنّ محمّد بن سيرين لم يدرك عليّ بن أبي طالب.
وقد رواه ابن الضريس من طريق هوذة بن خليفة قال: (حدثنا عوف، عن محمد بن سيرين، عن عكرمة فيما أحسب..) فذكره بنحوه.
ورواه أيضا من طريق النضر بن شميل عن عوف عن ابن سيرين عن عكرمة (من غير شك).
وقد ورى نحو هذا الأثر عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن عكرمة قال: (لما بويع لأبي بكر تخلَّف عليٌّ في بيته فلقيَه عمر فقال: "تخلفت عن بيعة أبي بكر؟"
فقال: "إني آليتُ بيمين حين قُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا أرتدي برداء إلا إلى الصلاة المكتوبة حتى أجمع القرآن؛ فإنّي خشيتُ أن يتفلَّت القرآن" ثم خرج فبايعه).
وهذا الخبر استشكله بعض أهل العلم حتى ضعّفه ابن حجر في الفتح لانقطاعه، لما تبادر منه أنه أراد جمع القرآن مكتوباً للناس، وهذا من المعلوم أنه مخالف لقول علي بأنّ أبا بكر هو أوّل من جمع القرآن بين دفّتين.
والصواب أنّ الجمعَ المراد في الأثر المرويّ عن عليّ جمع الحفظ في صدره، ولا يمنع أن يكون كتب سوراً كثيرة في صحف، وأما جمعُ أبي بكر فكان كان مكتوباً في مصحف جامع بين لوحين.
وقد اختلف في المراد من كون زيد بن ثابت لم يجد آخر آيتين من براءة مكتوبة إلا عند أبي خزيمة على قولين:
أحدهما: حمله على ظاهره، وهو أنهما لم توجدا مكتوبتين إلا عنده.
والآخر: أن الصحابة اشترطوا في اعتبار الكتابة أن تكون من إملاء رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه، وأنّهم لم يجدوهما على هذا الشرط إلا عند أبي خزيمة.
ولمّا تيسّر للصحابة من أدوات الكتابة في زمن الخلفاء الراشدين ما تيسّر كثر فيهم اتّخاذ المصاحف، فمنها ما كتب قبل الجمع العثماني ومنها ما كتب بعده، واعتنوا بتعليم القرآن وعرض المصاحف، حتى إنّ منهم من كان يخصص موضعاً في مسجده لعرض المصاحف كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وذكر ابن عبد البر في التمهيد عن الإمام مالك أنه قال: (قد كان الناس ولهم مصاحف، والستَّةُ الذين أوصى إليهم عمر بن الخطاب كانت لهم مصاحف).
يريد بالستة: عثمان، وعلي، والزبير، وطلحة، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم أجمعين.
وكان لبعض أمهات المؤمنين مصاحف صحّ ذلك عن عائشة وحفصة وأم سلمة.
وممن روي أن لهم مصاحف: أبيّ بن كعب، وابن مسعود، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وابن عباس). [جمع القرآن:207 - 211]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 05:34 PM
هل كتب أحد من الصحابة مصحفاً على ترتيب النزول؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (هل كتب أحد من الصحابة مصحفاً على ترتيب النزول؟
قال ابن عبد البرّ: حدثنا خلف بن القاسم رحمه الله قال: حدثنا أبو جعفر عبد الله بن عمر بن إسحاق الجوهري بمصر، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن الحجاج بن رشدين، قال: حدثنا يحيى بن سليمان الجعفي، قال: حدثنا إسماعيل ابن علية، قال: حدثنا أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، قال: (لما بويع أبو بكر أبطأ علي عن بيعته فجلس في بيته؛ فبعث إليه أبو بكر ما بطأك عني أكرهت إمرتي؟!).
فقال علي: (ما كرهت إمارتك، ولكني آليت أن لا أرتدي ردائي إلا إلى صلاة حتى أجمع المصحف)
قال ابن سيرين: (وبلغني أنه كتبه على تنزيله، ولو أصيب ذلك الكتاب لوجد فيه علم كثير).
قال ابن عبد البر: (أجمع أهل العلم بالحديث أن ابن سيرين أصح التابعين مراسل، وأنه كان لا يروي ولا يأخذ إلا عن ثقة وأن مراسله صحاح كلها ليس كالحسن وعطاء في ذلك والله أعلم)ا.هـ.
وهذا الأثر سبق ذكره من غير زيادة قوله: (وبلغني أنه كتبه على تنزيله..) فهذه الزيادة منكرة، لا تصحّ عن ابن سيرين، وفي إسنادها ابن رشدين، كذَّبه الحافظ أحمد بن صالح المصري، وقال ابن عديّ: له مناكير.
وقد روى هذا الأثرَ ابنُ الضريس في فضائل القرآن من طريق هوذة بن خليفة والنضر بن شميل عن عوف عن ابن سيرين أنه قال: فقلت لعكرمة: ألَّفوه كما أُنزل، الأوَّلَ فالأوَّلَ؟
قال: (لو اجتمعت الإنس والجن على أن يؤلفوه ذلك التأليف ما استطاعوا !!).
قال محمد: (أراه صادقاً).
وفي طريق هوذة شكّ في شيخ ابن سيرين هل هو عكرمة أو غيره.
فدعوى أنّ أحداً من الصحابة رتّب المصحف على ترتيب النزول دعوى باطلة.
وكذلك لفظة (حتى أجمع المصحف) منكرة لما تقدّم بيانه، وهي مبدلة من قوله: (حتى أجمع القرآن)، وكانت هذه الزيادة مما أُنكر على أشعث بن سَوَّار الكندي؛ فإنّه قد روى هذا الخبر عن ابن سيرين وفيه أنه قال: (لما توفي النبيُّ صلى الله عليه وسلم أقسم علي أن لا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف؛ ففعل؛ فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام: « أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟»
قال: «لا والله إلا أني أقسمت أن لا أرتدي برداء إلا لجمعة » فبايعَه ثم رجع»). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف وتعقَّبَه بقوله: (لم يذكر المصحفَ أحدٌ إلا أشعث، وهو ليّن الحديث، وإنما رووا «حتى أجمع القرآن» يعني: أُتمّ حفظه؛ فإنه يقالُ للذي يحفظ القرآن قد جَمَعَ القرآن)). [جمع القرآن:211 - 212]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 05:36 PM
هل ثبت أن الصحابة علّقوا على مصاحفهم شيئاً من التفسير؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (هل ثبت أن الصحابة علّقوا على مصاحفهم شيئاً من التفسير؟
ذكر بعض أهل العلم أنّ بعض الصحابة كانوا يكتبون في مصاحفهم شيئاً من التفسير، وهذه دعوى لا تصحّ، وإنما قاد إليها إرادة الجمع بين الأثر المروي عن عليّ، وما صحّ من أنّ أبا بكر هو أوّل من جمع القرآن.
قال الألوسي في مقدمة تفسيره: (وما شاع أن عليا كرم الله وجه لما توفي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تخلف لجمعه فبعض طرقه ضعيف، وبعضها موضوع، وما صح؛ فمحمول كما قيل على الجمع في الصدر، وقيل كان جمعا بصورة أخرى لغرض آخر، ويؤيده أنه قد كتب فيه الناسخ والمنسوخ فهو ككتاب علم)ا.هـ.
وهذه الدعوى لا دليل عليها، والصحيح أنه محمول على جمع الصدر كما تقدّم). [جمع القرآن:213]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 05:39 PM
مصحف سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف سالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه
رُوي أنّ سالماً مولى أبي حذيفة كان أوّل من جمع القرآن في مصحف، لكنّه خبر معلول المتن والإسناد لا يصحّ.
قال السيوطي: (ومن غريب ما ورد في أول من جمعه ما أخرجه ابن اشته في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال: (أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة، أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه ثم ائتمروا ما يسمونه؛ فقال بعضهم: سموه السفر.
قال: ذلك اسم تسميه اليهود، فكرهوه.
فقال: رأيت مثله بالحبشة يسمى المصحف، فاجتمع رأيهم على أن يسموه المصحف).
وقد قُتل سالم يوم اليمامة، ولم يدرك جمع أبي بكر، بل كان موته وموت إخوانه من قراء الصحابة رضي الله عنهم من أسباب جمع أبي بكر رضي الله عنه للقرآن.
وسالم مولى أبي حذيفة من السابقين الأوّلين إلى الإسلام والهجرة، هاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يؤمّ المسلمين في صلاتهم ويقرئهم القرآن.
- قال عبد الله بن عمر: «لما قدم المهاجرون الأوَّلون العُصْبَةَ - موضع بقباء - قَبلَ مَقدَمِ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤمّهم سالم مولى أبي حذيفة، وكان أكثرهم قرآنا» رواه البخاري من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر.
- وقال عبد الله بن وهب: أخبرني ابن جريج أن نافعاً أخبره أن ابن عمر رضي الله عنهما، أخبره قال: «كان سالم مولى أبي حذيفة يؤم المهاجرين الأولين وأصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم في مسجد قباء، فيهم أبو بكر، وعمر، وأبو سلمة، وزيد، وعامر بن ربيعة» رواه البخاري.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «استقرئوا القرآن من أربعة، من عبد الله بن مسعود - فبدأ به -، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل» رواه البخاري ومسلم من طرق عن مسروق عن عبد الله بن عمرو.
- وروى عبد الرحمن بن سابط الجمحي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أَبطأتُ على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: «ما حبسك يا عائشة؟»
قالت: يا رسول الله، إنَّ في المسجد رجلاً ما رأيت أحدا أحسن قراءة منه.
قال: فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك» رواه الإمام أحمد، وله شاهد عند البزار من طريق عبد الله بن أبي مليكة عن عائشة). [جمع القرآن:213 - 215]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 05:41 PM
مصحف أبي بكر رضي الله عنه
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف أبي بكر رضي الله عنه
وهو المصحف الذي أمر بجمعه، وكتبه له زيد بن ثابت، وقد بقي محفوظاً عند أبي بكر حتى مات، ثمّ بقي عند عمر حتى استُشهِد، ثم بقي عند حفصة، وأخذه عثمان لما جمع المصاحف حتى نسخه ثمّ ردّه إليها، وبقي عندها حتى ماتت، ثم أرسل مروان بن الحكم وكان أمير المدينة في خلافة معاوية إلى عبد الله بن عمر بعزيمة أن يبعث به إليه؛ فأخذه مروان فأتلفه واختلف في طريقة إتلافه؛ فقيل: حرّقه، وقيل: غسله بالماء، وقد تقدّم ذكر الآثار الواردة في ذلك عند الحديث عن جمع أبي بكر رضي الله عنه.
وكان مصحف أبي بكر مجموعاً بين لوحين على الصحيح، وذهب بعض أهل العلم إلى أنّه كان صحفاً متفرّقة غير مرتب على السور، والأول أصحّ.
وكان على حرف واحد خلافاً لمن زعم أنه كان مشتملاً على الأحرف السبعة.
وقد تقدّم كلّ ذلك عند الحديث عن الفَرْق بين جمع أبي بكر وجمع عثمان رضي الله عنهما، وحشرنا معهما). [جمع القرآن:215 - 216]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 05:44 PM
مصحف عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عمر بن الخطاب رضي الله عنه
تقدّم أنّ عمر بن الخطّاب رضي الله عنه كان من كُتّاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنّه هو أوّل من أشار على أبي بكر بجمع المصحف فتمّ ذلك بفضل الله ورحمته.
ولم يصحّ أنّ عمر جمع القرآن في مصحف بعد ذلك في خلافته، وقد رُوي في ذلك أخبار منكرة لا تصحّ، منها:
1: ما رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن أن عمر بن الخطاب سأل عن آية من كتاب الله فقيل كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة فقال: «إنا لله وأمر بالقرآن فجمع، وكان أول من جمعه في المصحف».
وهذا الخبر ضعيف الإسناد لضعف مبارك بن فضالة وشدة تدليسه، ولأن الحسن لم يدرك عمر بن الخطاب.
وقوله: (وكان أوّل من جمعه في المصحف) لا يصحّ بهذا الإطلاق، لمخالفته ما صحّ من أنّ أوّل من جمع المصحف أبو بكر رضي الله عنه، وأنّ عمر بن الخطاب هو أوّل من أشار بذلك.
2. وما رواه ابن أبي داوود أيضاً من طريق ابن وهب قال: أخبرني عمر بن طلحة الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن، فقام في الناس فقال: (من كان تلقَّى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان فقتل وهو يجمع ذلك إليه؛ فقام عثمان بن عفان فقال: من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شهيدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما. قالوا: وما هما؟ قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} إلى آخر السورة قال عثمان: فأنا أشهد أنهما من عند الله فأين ترى أن نجعلهما؟ قال: اختم بها آخر ما نزل من القرآن فختمت بها براءة).
وهذا الخبر ضعيف الإسناد معلول المتن، محمد بن عمرو بن علقمة متكلّم فيه من جهة خفة ضبطه، ويحيى بن عبد الرحمن لم يدرك عمر، ومتنه مخالف لسياق روايات الثقات المتقدّم ذكرها.
3. وما رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة من طريق يزيد بن عياض الليثي، عن الوليد بن سعيد، عن عروة بن الزبير قال: قدم المصريون فلقوا عثمان رضي الله عنه فقال: «ما الذي تنقمون؟»
قالوا: تمزيق المصاحف.
قال: (إنَّ الناس لما اختلفوا في القراءة خشي عمر رضي الله عنه الفتنة؛ فقال: من أَعْرَبُ الناسِ؟
فقالوا: سعيد بن العاص.
قال: فمن أخطُّهم؟
قالوا: زيد بن ثابت.
فأمر بمصحف فكُتِبَ بإعراب سعيد وخط زيد، فجمع الناس ثم قرأه عليهم بالموسم؛ فلما كان حديثاً كتبَ إليَّ حذيفةُ: إنَّ الرجل يلقي الرجل فيقول: قرآني أفضل من قرآنك حتى يكاد أحدهما يكفّر صاحبَه، فلما رأيت ذلك أَمرتُ الناس بقراءة المصحف الذي كتبه عمر رضي الله عنه، وهو هذا المصحف، وأمرتهم بترك ما سواه، وما صنع الله بكم خيرٌ مما أردتم لأنفسكم).
وهذا الخبر لا يصحّ، يزيد بن عياض متروك الحديث، قال فيه البخاري ومسلم: منكر الحديث، واتّهمه النسائي وغيره بالوضع، والوليد بن سعيد مجهول الحال.
وقال عمر بن شبّة: (يقال: إنّ نافع بن طريف بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف كان كتب المصحفَ لِعُمر بن الخطاب رضي الله عنه).
وقد اختلف في ضبط اسمه فقيل: (نافع بن طريف) وقيل: (ابن ظُريب) وعَدّه ابن البر في الاستيعاب من الصحابة، وذكر أنه أسلم يوم الفتح.
وكتابةُ هذا المصحف إن أريد بها أنه كتب مصحفاً إماماً للناس فلا يصحّ، وإن أريد بها أنه كتب مصحفاً خاصّا بعمر؛ فمُحتمَل إلا أننا لم نجد له أثراً في الآثار المروية في مصاحف الصحابة.
وقد رُويت عن عمر أحرف تُركت القراءة بها كقراءة [صراط مَن أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين] وقراءة [والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان] من غير الواو.
ولا تلازم بين صحّة إسناد بعض الأحرف عن بعض الصحابة وبين كتابتها في مصاحفهم؛ إذ لم تكن الكتابة فرضاً على آحادهم، وقد أخطأ مَنْ عدّ ما روي من الأحرف عن بعض الصحابة مما كُتب في مصاحفهم مطلقاً). [جمع القرآن:216 - 219]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 05:51 PM
مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه
روى عمر بن شبّة في تاريخ المدينة من طريق ابن شهاب الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه قال: «فأمرني عثمان رضي الله عنه أن أكتب له مصحفاً فكتبته، فلما فرغتُ منه عرَضَه».
وهذا الخبر مختصرٌ من خبر الجمع العثماني المروي من هذا الطريق، وظاهر هذه الرواية أنّ هذا المصحف مختصّ بعثمان، والأقرب أنّه المصحف الذي يُسمّى "الإمام" وهو الذي استنتخت منه مصاحف الأمصار، وبقي عنده حتى استشهد رضي الله عنه.
وقد تقدّم الحديث عن مصحف عثمان فيما سبق، وأنّ الصحيح أنه فقد مُنذ زمن قديم.
قال ابن وهب: سألتُ مالكاً عن مصحف عثمان رضي الله عنه فقال لي: «ذهب» رواه ابن أبي داود.
وروى عمر بن شبّة أنّ الحجاج بن يوسف بعث إلى آل عثمان أن أخرجوا مصحف عثمان يُقرأ؛ فقالوا: أصيب المصحف يوم قُتل عثمان رضي الله عنه.
وما ذُكر أنه وجد في بعض خزائن الملوك فلم يثبت أنه عين مصحف عثمان، وقد تقدّم الحديث عن ذلك.
- قال ثابت بن العجلان: حدثني سليم أبو عامر قال: كنت حاضراً حين حُصر عثمان؛ فأخذ المصحف يقرأ فيه، فدخل عليه، فضرب فقطرت قطرة من دمه على {فسيكفيكهم الله}). رواه عمر بن شبة .
- وقال أشعث بن سالم العدوي: حدثني أبي، عن عمرة بنت قيس قالت: (رأيت على مصحف عثمان رضي الله عنه {فسيكفيكهم الله} قطرة من دم). رواه عمر بن شبة.
- وروى محمد بن إبراهيم التيمي عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: لما قدم المصريون دخلوا على عثمان رضي الله عنه؛ فضرب ضربة على يده بالسيف، فقطر من دم يده على المصحف وهو بين يديه يقرأ فيه على {فسيكفيكهم الله}
قال: وشدَّ يده وقال: «إنها لأوَّل يدٍ خطَّتِ المفصَّل» ). رواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة.
- وروى ابن شهاب الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: (لما ضربَ الرَّجلُ يدَ عثمان قال: « إنها لأوَّل يد خطَّتِ المفصَّل » ). رواه الطبراني وابن أبي عاصم.
- قال عثمان بن أبي شيبة: حدَّثنا يونس بن أبي يعفور العبدي، عن أبيه، عن مسلم أبي سعيد مولى عثمان أنَّ عثمان بن عفان أعتق عشرين مملوكاً، ثم دعا بسراويل فشدَّها عليه، ولم يلبسها في الجاهلية ولا في الإسلام ثم قال: (إني رأيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم البارحة في المنام، ورأيت أبا بكر وعمر، وإنهم قالوا: اصبر فإنَّك تفطر عندنا القابلة)
ثم دعا بمصحف؛ فنشَرَه بين يديه؛ فقُتل وهو بين يديه). رواه أبو يعلى وعبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه، وقال البوصيري: رواته ثقات). [جمع القرآن:219 - 221]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 09:55 PM
مصحف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه
روى ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق أشعث بن سوار، عن محمد بن سيرين قال: لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أقسم عليٌّ أن لا يرتدي برداء إلا لجمعة حتى يجمع القرآن في مصحف؛ ففعل فأرسل إليه أبو بكر بعد أيام: « أكرهتَ إمارتي يا أبا الحسن؟»
قال: «لا والله إلا أني أقسمت أن لا أرتدي برداء إلا لجمعة فبايعه ثم رجع»
قال أبو بكر ابن أبي داوود: (لم يذكر المصحفَ أحدٌ إلا أشعث وهو ليّن الحديث، وإنما رووا "حتى أجمع القرآن" يعني: أتمَّ حفظه؛ فإنه يقال للذي يحفظ القرآن قد جمع القرآن).
قال ابن كثير: (وهذا الذي قاله أبو بكر أظهر، والله أعلم، فإن عليا لم ينقل عنه مصحف على ما قيل ولا غير ذلك، ولكن قد توجد مصاحف على الوضع العثماني، يقال: إنها بخط علي، رضي الله عنه، وفي ذلك نظر، فإنه في بعضها: كتبه علي بن أبي طالب، وهذا لحن من الكلام ؛ وعلي رضي الله عنه من أبعد الناس عن ذلك)ا.هـ.
وقد تقدّم الحديث عن بطلان دعوى كتابة عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مصحفاً مرتّباً على النزول). [جمع القرآن:221 - 222]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:02 PM
مصحف أبيّ بن كعب رضي الله عنه
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف أبيّ بن كعب رضي الله عنه
قال بكير بن عبد الله بن الأشجّ: حدثني بسر بن سعيد، عن محمد بن أبيّ بن كعب أن ناساً من أهل العراق قدموا إليه؛ فقالوا: إنما تحمَّلنا إليك من العراق، فأخرج لنا مصحف أُبَيّ قال محمد: (قد قبضه عثمان)
قالوا: سبحان الله أخرجْه لنا !
قال: (قد قبضه عثمان) رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن وابن أبي داوود في كتاب المصاحف، وهذا إسناد صحيح رجاله ثقات.
ويعضده ما تقدّم من غير وجه أنّ عثمان بن عفان رضي الله عنه أمر بجمع المصاحف وإحراقها، وفي صحيح البخاري وغيره من حديث الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنّ عثمان أرسل إلى كل أفقٍ بمصحفٍ مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق.
فهذا مما يستدلّ به على أنّ مصحف أبيّ بن كعب قد أُتلف.
أصناف ما يُنسب إلى مصحف أبي بن كعب
وما ينسب إلى مصحف أبيّ بن كعب مما يخالف المصاحف العثمانية على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: ما رُوي عمّن رأى مصحف أبيّ قبل أن يقبضه عثمان، وهذا الصنف لا يكاد يصحّ منه إلا النادر فيما وقفتُ عليه.
والصنف الثاني: ما روي عن أبيّ بن كعب من قراءته بما يخالف المصاحف العثمانية، فهذا منه ما لا يصحّ عنه وهو كثير، وما صحّ فهو محمول على أنه أقرأ به قبل جمع عثمان، أو أخبر به إخباراً لا إقراءً؛ ومن تلك الأحرف ما هو منسوخ، ومنها ما تُركت القراءة به لإجماع الصحابة على ترك الإقراء بما خالف المصاحف العثمانية.
وقد تقدّم التنبيه على أنّه لا تلازم بين صحة إسناد القراءة وكونها مكتوبة في مصحف الصحابي.
والصنف الثالث: ما نُسب إلى مُصحفٍ بالعراق يُدَّعى أنه مصحف أبيّ، وقد اختُلف فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه مصحف أنس بن مالك رضي الله عنه أملاه عليه أبيّ بن كعب.
قال القاضي أبو بكر الباقلاني: (قد رأينا مصحف أنسٍ الذي ذُكر أنه مصحفُ أُبيّ وكان موافقا لمصحفِ الجماعة بغيرِ زيادةٍ ولا نقصان).
ونقل عن أبي الحسن الأشعري أنه قال: (قد رأيتُ أنا مصحف أنسٍ بالبصرة عندَ بعض ولد أنس، فوجدتُه مساويا لمصحفِ الجماعةِ لا يغادرُ منه شيئا"، وكان يُروى عن ولدِ أنسِ عن أنسٍ أنّه خَط أنسٍ وإملاءُ أُبيّ).
وهذا الذي ذكره الباقلاني والأشعري لا يتحقق فيه وصف ما نُقل عن بعض الأئمة أنهم قرؤوه في مصحف أبيّ، ولا يبعد أن تتعدّد المصاحف المنسوبة إلى أبيّ كما تعددت المصاحف المنسوبة إلى عليّ وعثمان وابن مسعود.
والقول الثاني: أنه مصحف مستنسخ من مصحف أبيّ قبل الجمع العثماني، من المصاحف التي بلغت الآفاق ولم تُتلف فيما أتلف من المصاحف.
قال ابن عطية:(وانتشرت في خلال ذلك صحف في الآفاق كتبت عن الصحابة، كمصحف ابن مسعود، وما كتب عن الصحابة بالشام، ومصحف أبيّ، وغير ذلك، وكان في ذلك اختلاف حسب الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها)
قوله: (في خلال ذلك) أي بعدَ جمع أبي بكر وقبل جمع عثمان.
وهذه المصاحف لم يوقف على طريقة نسخها، ولم يُتحقق من صحّة مراجعتها، وقد وقع الإجماع على ترك القراءة بها، وإنما ينقل منها بعض أهل العلم ما وجدوه من الاختلاف.
وقد تعددت المصاحف المنسوبة إلى أبيّ بن كعب، ولم يُمكن التوثّق من صحّة نسبتها؛ فلذلك هي معدودة من الوجادات الضعيفة المنقطعة، يُستأنس بها ولا يعتمد عليها، وإنما يُعوّل في صحة القراءة على ما ثبت بالتلقي المتصل إسناده عن القراء الثقات.
والقول الثالث: أنه مصحف أبيّ بن كعب نفسه، وهذا القول مبنيّ على ظنّ صحة نسبة تلك المصاحف إلى أبيّ، وهو خطأ بيّن، لما صحّ من أنّ مصحف أبيّ قبضه عثمان، وأنّ عثمان أمر بكلّ مصحف أو صحيفة فيها قرآن أن تحرق، ولم يكن لأبيّ أن يخالف أمر أمير المؤمنين، ولو نازعه في ذلك لاشتهر أمره كما اشتهر أمر منازعة ابن مسعود ثم رجوعه إلى امتثال أمر الخليفة الراشد عثمان بن عفان في ذلك.
ومن أمثلة ما يُنسب إلى مصحف أبيّ:
1. ما رواه ابن أبي داوود قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن زيد، حدثنا حجاج، حدثنا حماد قال: (قرأت في مصحف أبي: [للذين يُقسمون]).
وقال ابن أبي داود: مصحفنا فيه {يؤلون من نسائهم}
وبهذا الإسناد قال حماد: (وجدت في مصحف أبيّ: [فلا جناح عليه ألا يطوف بهما]).
إسحاق بن إبراهيم متكلّم فيه، وهو صدوق في نفسه، لكن له غرائب ومناكير، وحجاج هو ابن منهال الأنماطي من شيوخ البخاري ومسلم، وحماد هو ابن سلمة من طبقة أتباع التابعين؛ فهو متأخر جداً عن زمن الجمع العثماني.
2. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا يزيد، عن سليمان التيمي، عن عزرة، قال: (قرأت في مصحف أبي بن كعب هاتين السورتين: (اللهم نستعينك) و (اللهم إياك نعبد)).
عزرة هو ابن عبد الرحمن الخزاعي لم يدرك زمن الجمع.
3. وقال جرير بن حازم: (قرأتها في مصحف أُبيّ بن كعب [يُوَفِّيهمُ اللهُ الحَقُّ دِينَهُمْ]). رواه ابن جرير.
4. وقال هدبة بن خالد: حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، أن أنس بن النضر تغيب عن قتال بدر، وقال: تغيبت عن أول مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم، والله لئن أراني الله قتالاً ليرينَّ ما أصنع، فلما كان يوم أحد انهزم أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأقبل سعد بن معاذ يقول: أين أين؟ فوالذي نفسي بيده، إني لأجد ريح الجنة دون أحد، قال: فحمل؛ فقاتل؛ فقُتل فقال سعد: والله يا رسول الله ما أطقت ما أطاق؛ فقالت أخته: والله ما عرفتُ أخي إلا بحسن بنانه؛ فوُجد فيه بضع وثمانون جراحة؛ ضربة سيف، ورمية سهم، وطعنة رمح، فأنزل الله {من المؤمنين رجال صدقوا، ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا}
قال حماد: (وقرأت في مصحف أبيّ: [ومنهم من بدَّل تبديلا]). رواه ابن حبان.
5. وقال ميمون بن مهران: (قرأت في مصحف أبيّ بن كعب [اللهم نستعينك ونستغفرك] إلى قوله: [بالكافرين ملحق]). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن وعمر بن شبة في تاريخ المدينة من طرق عن جعفر بن برقان عن ميمون بن مهران.
ميمون لم يدرك زمان الجمع العثماني الذي قُبض فيه مصحف أبيّ.
6. وقال ابن إسحاق: (وقد قرأتُ في مصحف أبيّ بن كعب بالكتابِ الأول العتيق: {بسم الله الرحمن الرحيم . قل هو الله أحد ... } إلى آخرها
{بسم الله الرحمن الرحيم . قل أعوذ برب الفلق...} إلى آخرها
{بسم الله الرحمن الرحيم . قل أعوذ برب الناس...} إلى آخرها
[بسم الله الرحمن الرحيم . اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير، ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك].
[بسم الله الرحمن الرحيم . إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق].
[بسم الله الرحمن الرحيم . اللهم لا ينزع ما تعطي، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، سبحانك وغفرانك وحنانيك إله الحق]). رواه محمد بن نصر المروزي في قيام الليل.
فهذه الآثار وما شابهها مما ذكره المتأخّرون عن زمن الجمع العثماني لا تُحمل على ما في مصحف أبيّ بن كعب الذي كتبه لنفسه؛ فذاك قد قبضه عثمان، وما اطّلعوا عليه إنما هو من مصاحف منسوبة إلى أبيّ بن كعب، ومن دلائل ذلك اختلاف الألفاظ في هاتين السورتين.
فقد روى المروزي نفسه عن سلمة بن خصيف أنه قال: سألت عطاء بن أبي رباح: أي شيء أقول في القنوت؟
قال: (هاتين السورتين اللتين في قراءة أبي: [اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق، اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك]).
فهي قراءة تروى عن أبيّ مما نُسخ من القرآن، وقد اختُلف في ألفاظها، وفي كتابتها في المصاحف المنسوبة إلى أبيّ، فنسبتها إلى أبيّ نسبة قراءة لا نسبة كتابة، أي أن تلك المصاحف كُتبت على ما يُروى من قراءة أبيّ، ولم يوقف على صحة تلك الروايات، لا أنّ أبيّ بن كعب كتبها أو أملاها بنفسه لما تقدّم شرحه.
ويُحتمل أن تكون مما كتب بعد الجمع العثماني بزمن، ويُحتمل أن تكون مما استنتخ من المصاحف وبلغ الآفاق قبل الجمع العثماني ولم يُتلف فيما أُمر بإتلافه.
ولا حجّة في تلك المصاحف المخالفة للمصاحف العثمانية ولا يعوّل عليها، وإنما يُستدلّ بما صحّت الرواية به في مسائل التفسير واللغة، ولذلك يذكرها بعض المفسّرين في تفاسيرهم.
وأمّا الآثار التي تُروى عمّن أدرك زمن الجمع العثماني ويمكن أنه يكون اطّلع على مصحف أبيّ قبل أن يقبضه عثمان فهو محمول على ما كان في مصحف أبيّ قبل الجمع العثماني من الأحرف التي انعقد الإجماع على ترك الإقراء بها مع ما ترك من الأحرف التي تخالف المصاحف العثمانية، وإن صحّ الإسناد بتلك الأحرف، ومنها ما هو منسوخ التلاوة.
وهذا الصنف كما تقدّم يُروى فيه الصحيح والضعيف، ومما روي من أخبار هذا الصنف:
1. قول عمرو بن دينار: سمعت بجالة التميمي، قال: وجد عمر بن الخطاب مصحفاً في حجر غلام في المسجد فيه: [النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبوهم] ؛ فقال: «احككها يا غلام»
فقال: والله لا أحكّها وهي في مصحف أبيّ بن كعب؛ فانطلق إلى أبيّ فقال له: «إني شغلني القرآن، وشغلك الصفق بالأسواق إذ تعرض رداءك على عنقك بباب ابن العجماء» رواه عبد الرزاق وعمر بن شبة والبيهقي من طرق عن عمرو بن دينار بألفاظ متقاربة.
وبجالة هو ابن عبدة التميمي كان كاتب جَزْء بن معاوية عمّ الأحنف بن قيس في زمان عمر.
وهذه القراءة منسوخة باتفاق.
وكان أبيّ ربما نازع في بعض المنسوخ في أوّل الأمر لكنّه رجع إلى ما في المصاحف العثمانية، وكان من القرَّاء الذين راجعوا الجمع على الصحيح.
وفي صحيح البخاري من حديث حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال عمر: « أبيّ أقرؤنا، وإنا لندع من لحن أبيّ، وأبيّ يقول: أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أتركه لشيء ».
وإجماع الصحابة على المصاحف العثمانية يقضي على كلّ خلاف قبله.
2. وقال عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي: حدثنا هشام يعني ابن حسان، عن محمد بن سيرين، أن عمر رضي الله عنه سمع كثير بن الصلت، يقرأ: [لو أنَّ لابن آدم واديين من مال لتمنى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب]فقال عمر رضي الله عنه: ما هذا؟
قال: هذا في التنزيل.
فقال عمر رضي الله عنه: (من يعلم ذاك؟ والله لتأتين بمن يعلم ذاك أو لأفعلن كذا وكذا).
قال: أبي بن كعب.
فانطلق إلى أُبيّ فقال: (ما يقول هذا؟)
قال: ما يقول؟
قال: فقرأ عليه.
فقال: صدق، قد كان هذا فيما يُقرأ.
قال: أكتبها في المصحف؟
قال: لا أنهاك.
قال: أتركها؟
قال: لا آمرك). رواه عمر بن شبّة في تاريخ المدينة ورجاله ثقات إلا أنّه منقطع.
وله شاهد من حديث شعبة، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش، عن أبيّ بن كعب، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله أمرني أن أقرأ عليك القرآن)) قال: فقرأ: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} قال: فقرأ فيها: [ولو أن ابن آدم سأل واديا من مال فأعطيه، لسأل ثانياً ولو سأل ثانياً فأعطيه لسأل ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب، وإن ذلك الدين القيم عند الله الحنيفية، غير المشركة ولا اليهودية ولا النصرانية، ومن يفعل خيرا فلن يكفره] ). رواه الإمام أحمد وغيره، واختلاف الألفاظ يدلّ على أنّه مما أُنسي نصّه من القرآن ونُسخ، وأنَّ الرواة إنما رووه بالمعنى.
3. وقال نصر بن عليّ الجهضمي: أخبرنا المعتمر بن سليمان عن عاصم الأحول عن عكرمة قال: (كان ابن عباس يقرأ بقراءة أبيّ، وكان في مصحف أبيّ [إلا أن تفحش عليكم]). رواه القاضي أبو إسحاق المالكي في كتابه أحكام القرآن.
وهو محمول على أنه كان يقرأ بها قبل الجمع العثماني، وأنه أخبرهم بذلك.
4. وقال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن عيسى، قال: ثنا نصير بن أبي الأشعث، قال: ثني ابن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، قال: أعطاني ابن عباس مصحفاً؛ فقال: هذا على قراءة أبيّ بن كعب، قال أبو كريب: قال يحيى: رأيت المصحف عند نُصير فيه: «ووصى ربّك» يعني: وقضى ربك). وهذا الخبر رجال إسناده ثقات، وابن حبيب وإن لم يُسمَّ إلا أنّ الدارقطني ذكر في العلل أنّ أبناءه ثلاثة كلّهم ثقات.
لكنَّ هذا الخبر مختصر من خبرٍ أطول منه لم أقف على أصله، وقد قطَّعه ابن جرير في تفسيره، والأخبار المقطّعة قد لا تظهر علّتها إلا بالوقوف على أصلها؛ فإنّ من عادة ابن جرير أن يكرر الإسناد في الأخبار التي يُقطّعها، وقد لا يكون بعض تلك الأجزاء مما يتحقق فيه اتصال ذلك الإسناد.
ثم إن هذا الخبر ليس فيه أنه من كتابة ابن عباس ولا أنّه راجعه وأصلح ما قد يكون من خطأ الكاتب، وإنما هو خبرٌ عن مصحفٍ كُتبَ على قراءة أبيّ، لم يصلنا منه إلا أحرف يسيرة لا إشكال فيها.
عدد السور في مصحف أبيّ بن كعب
قال عبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي: حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين (أنَّ أبيَّ بن كعب كتبهن في مصحفه خمسَهن: أمَّ الكتاب، والمعوذتين، والسورتين، وتركهنَّ ابنُ مسعود كلَّهن، وكتبَ ابنُ عفان فاتحةَ الكتاب، والمعوذتين، وترك السورتين). رواه عمر بن شبة.
يقصد بالسورتين سورتي الحفد والخلع، وقد تقدّم ذكر خبرهما.
وهذا الخبر صحيح الإسناد إلى ابن سيرين لكنّه لم يدرك أبيّ بن كعب، ولا زمن الجمع العثماني، لكنه كان يروي عن كثير بن أفلح أحد كتبة المصاحف العثمانية، وكان بينهما مصاهرة.
قال جلال الدين السيوطي: (نقل جماعة عن مصحف أبيّ أنه ست عشرة سورة ومائة، والصواب أنه خمس عشرة؛ فإنَّ سورة الفيل وسورة لإيلاف قريش فيه سورة واحدة).
وهذا القول من السيوطي محمولٌ على المصاحف المنسوبة إلى أبيّ، وهو غير متحقّق أنه مصحف أبيّ كما تقدّم.
ومما يدلّ على ذلك ما نُسب إلى مصحف أبيّ بن كعب من تسميات بعض السور كما قال السيوطي: ( {لم يكن}:تُسمّى سورة "أهل الكتب"، كذلك سُمِّيت في مصحف أبيٍّ).
وقال أيضاً: (المجادلة: سُمِّيت في مصحف أبيٍّ الظهار).
وقد عُلم أنّ الصحابةَ رضي الله عنهم كانوا يجرّدون المصاحف من غير القرآن، ولم تُكتب أسماء السور في المصاحف إلا في زمن الحجّاج بن يوسف.
قال النووي في المنهاج: (ما أثبت في المصحف الآن من أسماء السور والأعشار شيء ابتدعه الحجاج في زمنه).
وقال ابن تيمية: (أمر الصحابة والعلماء بتجريد القرآن وأن لا يكتب في المصحف غير القرآن فلا يكتب أسماء السور ولا التخميس والتعشير ولا آمين ولا غير ذلك والمصاحف القديمة كتبها أهل العلم على هذه الصفة).
فهذا مما لا ينبغي أن يظُنّ أنه من فعل أبيّ بن كعب ولا إملائه ولا رضاه.
ترتيب السور في مصحف أبيّ بن كعب
نقل السيوطي في الإتقان عن أبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن أشته (ت:360هـ) تلميذ ابن مجاهد صاحب «السبعة في القراءات» أنه قال: (أنبأنا محمد بن يعقوب حدثنا أبو داود حدثنا أبو جعفر الكوفي قال: هذا تأليف مصحف أبيّ: الحمد، ثم البقرة، ثم النساء، ثم آل عمران، ثم الأنعام، ثم الأعراف، ثم المائدة، ثم يونس، ثم الأنفال، ثم براءة، ثم هود، ثم مريم، ثم الشعراء، ثم الحج، ثم يوسف، ثم الكهف، ثم النحل، ثم الأحزاب، ثم بني إسرائيل، ثم الزمر أولها حم، ثم طه، ثم الأنبياء، ثم النور، ثم المؤمنون، ثم سبأ، ثم العنكبوت، ثم المؤمن، ثم الرعد، ثم القصص، ثم النمل، ثم الصافات، ثم ص، ثم يس، ثم الحجر، ثم حم عسق، ثم الروم، ثم الحديد، ثم الفتح، ثم القتال، ثم الظهار، ثم تبارك الملك، ثم السجدة، ثم إنا أرسلنا نوحا، ثم الأحقاف، ثم ق، ثم الرحمن، ثم الواقعة، ثم الجن، ثم النجم، ثم سأل سائل، ثم المزمل، ثم المدثر، ثم اقتربت، ثم حم الدخان، ثم لقمان، ثم حم الجاثية، ثم الطور، ثم الذاريات، ثم ن، ثم الحاقة، ثم الحشر، ثم الممتحنة، ثم المرسلات، ثم عم يتساءلون، ثم لا أقسم بيوم القيامة، ثم إذا الشمس كورت، ثم يا أيها إذا طلقتم النساء، ثم النازعات، ثم التغابن، ثم عبس، ثم المطففين، ثم إذا السماء انشقت، ثم والتين والزيتون، ثم اقرأ باسم ربك، ثم الحجرات، ثم المنافقون، ثم الجمعة، ثم لم تحرم، ثم الفجر، ثم لا أقسم بهذا البلد، ثم والليل، ثم إذا السماء انفطرت، ثم والشمس وضحاها، ثم والسماء والطارق، ثم سبح اسم ربك، ثم الغاشية، ثم الصف، ثم سورة أهل الكتاب وهي لم يكن، ثم الضحى، ثم ألم نشرح، ثم القارعة، ثم التكاثر، ثم العصر، ثم سورة الخلع، ثم سورة الحفد، ثم ويل لكل همزة، ثم إذا زلزلت، ثم العاديات، ثم الفيل، ثم لإيلاف، ثم أرأيت، ثم إنا أعطيناك، ثم القدر، ثم الكافرون، ثم إذا جاء نصر الله، ثم تبت، ثم الصمد، ثم الفلق، ثم الناس)ا.هـ.
أبو جعفر الكوفي من شيوخ أبي داوود السجستاني، وما ذكره من الترتيب إنما هو على ما اطّلع عليه من المصاحف المنسوبة إلى أبيّ بن كعب). [جمع القرآن:222 - 234]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:05 PM
مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من كبار قرّاء الصحابة رضي الله عنهم وأفاضلهم، وكان من المعلّمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي معلّماً للقرآن بعده حتى مات رضي الله عنه، وقد تقدّم الحديث في فضله وتقدّمه في القراءة والإقراء.
وقد بعثه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه إلى الكوفة معلّماً ووزيراً، فكان يعلّمهم القرآن، ويفتيهم، ويأخذون من علمه وأدبه وسمته، وربّما أملى عليهم المصاحف فكتبوا.
روى الأعمش عن إبراهيم النخعي عن علقمة أنه قال: جاء رجل إلى عمر وهو بعرفات؛ فقال: جئت يا أمير المؤمنين من الكوفة، وتركت بها رجلاً يملي المصاحف عن ظهر قلبه!!
فغضب عمر وانتفخ حتى كاد يملأ ما بين شُعبتي الرَّحْل !
فقال: ومن هو ويحك؟!
قال: عبد الله بن مسعود
فما زال يطفأ ويسرَّى عنه الغضب، حتى عاد إلى حاله التي كان عليها، ثم قال: "ويحك والله ما أعلمه بقي من الناس أحد هو أحق بذلك منه"). رواه الإمام أحمد وأبو يعلى وابن خزيمة وغيرهم.
فكان غضبه من خشية أن يكون المتصدّي لهذا الأمر جلل من ليس له بأهل؛ فلمّا علم أنّه ابن مسعود سكن جأشه، وذهب ما في نفسه.
فكان في الكوفة مصاحف كُتبت على ما كان يعلّمهم ابن مسعود من القراءة، وكان منهم من يعرض عليه المصحف فيقيم له فيه ما يكون من الخطأ في الكتابة.
- قال زرّ بن حبيش: كنا نعرض المصاحف على عبد الله فسأله رجل من ثقيف فقال: يا أبا عبد الرحمن، أي الأعمال أفضل؟
قال: «الصلاة، ومن لم يصلّ فلا دين له» رواه ابن أبي شيبة من طريق شريك عن عاصم عن زرّ، وله متابع يأتي ذكره قريباً.
- وقال سحيم بن نوفل: كنا نعرض المصاحف عند عبد الله؛ فجاءت جارية أعرابية إلى رجلٍ من القوم؛ فقالت: اطلب راقياً فإنَّ فلانا قد لقع فرسك بعينه؛ فتركه يدور كأنه فلك!!
قال: فقال عبد الله لا تطلب راقياً اذهب فانفث في منخره الأيمن أربعا وفي الأيسر ثلاثا ثم قل: "بسم الله، لا باس لا باس، أذهب الباس رب الناس، واشف أنت الشافي، لا يذهب بالضر إلا أنت"
قال: فذهب الرجل ثم رجع؛ فقال: فعلت الذي أمرتني؛ فأكل وبال وراث). رواه الطبراني في الدعوات والخرائطي في مكارم الأخلاق من طريق سفيان الثوري عن حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف عن سحيم به.
بل كان في مسجده موضع مخصص لعرض المصاحف، كما دلّ عليه ما رواه محمّد بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة من طريق شعبة، عن عاصم ابن بهدلة، عن زر بن حبيش، قال: كان عبد الله رضي الله عنه يعجبه أن يقعد حيث تُعرض المصاحف فجاءه ابن الحضارمة رجل من ثقيف فقال: أي درجات الإسلام أفضل؟ قال: «الصلاة على وقتها من ترك الصلاة فلا دين له».
فلمّا كان الجمع العثماني حصل من ابن مسعود من المعارضة في أوّل الأمر ما تقدّم بيانه، وأنّه خطب في الناس وأمرهم أن يغلّوا مصاحفهم ثمّ إنه رجع إلى ما أجمع عليه الصحابة رضي الله عنهم من الاجتماع على حرف واحد ومصحف إمام لا تختلف فيه هذه الأمة.
وتقدّم البيان بأنّه أقام مصحفَه على المصحف الإمام الذي بعث به عثمان إلى الكوفة، وأمر أن يقيموا مصاحفهم عليه، وأن تترك القراءة بما خالفه، وأن تسلّم المصاحف المخالفة للرسم العثماني.
قال كثير بن هشام الكلابي: حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا عبد الأعلى بن الحكم الكلابي قال: أتيت دار أبي موسى الأشعري، فإذا حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وأبو موسى الأشعري فوق إجَّار لهم، فقلت: هؤلاء والله الذين أريد؛ فأخذت أرتقي إليهم؛ فإذا غلام على الدرجة؛ فمنعني فنازعته؛ فالتفت إليَّ بعضهم، قال: خلِّ عن الرجل؛ فأتيتهم حتى جلستُ إليهم؛ فإذا عندهم مصحف أرسل به عثمان، وأمرهم أن يقيموا مصاحفهم عليه؛ فقال أبو موسى: (ما وجدتم في مصحفي هذا من زيادة فلا تنقصوها، وما وجدتم من نقصان فاكتبوه)
فقال حذيفة: كيف بما صنعنا؟!! والله ما أحدٌ من أهل هذا البلد يرغَب عن قراءة هذا الشيخ، يعني ابنَ مسعود، ولا أحدٌ من أهل اليمن يرغَب عن قراءة هذا الشيخ، يعني أبا موسى الأشعري).
قال عبد الأعلى: (وكان حذيفة هو الذي أشار على عثمان رضي الله عنه بجمع المصاحف على مصحف واحد، ثم إن الصلاة حضرت؛ فقالوا لأبي موسى الأشعري: تقدم فإنا في دارك، فقال: لا أتقدم بين يدي ابن مسعود، فتنازعوا ساعة، وكان ابن مسعود بين حذيفة وأبي موسى فدفعاه حتى تقدَّم فصلَّى بهم). رواه عمر بن شبة وابن أبي داوود.
لكن من الجائز أن يكون بعض تلك المصاحف لم يُتلف فيما أُتلف، وهي مصاحف كتبها أصحابها لم يكن فيها من التوثّق والاحتياط والمراجعة وأَمْنِ الخطأ ما في المصاحف العثمانية.
وهي مصاحف ملغاة إجماعاً، لا يُعتدّ بها في القراءة لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ترك القراءة بما خالف المصحف الإمام.
وقد بقيت مصاحف منسوبة إلى ابن مسعود رضي الله عنه لا يوقف لها على إسناد متّصل إلى ابن مسعود، وهي معدودة من الوجادات الضعيفة، ولا يُؤمن أن تكون إنما نسبت إليه على ما يُظنّ أنها على قراءته وتأليفه، لا على أنه أملاها.
أنواع ما يُنسب إلى مصحف ابن مسعود:
وما يُنسب إلى مصحف ابن مسعود مما يُخالف المصاحف العثمانية على أنواع:
النوع الأول: ما صحّ إسناده إلى مَن قرأ على ابن مسعود قبل الجمع العثماني مما يخالف رسم المصاحف العثمانية.
فهذا النوع يُستدلّ به في التفسير واللغة ولا يُقرأ بما فيه، ويستدلّ بما لم يُنسخ منه في الأحكام، ويُعتقد صحته وأنّه مما تركت القراءة به من الأحرف المخالفة للرسم العثماني.
ومن أمثلة ذلك ما في الصحيحين من حديث علقمة بن قيس النخعي قال: قدمت الشأم فصليت ركعتين، ثم قلت: اللهم يسر لي جليسا صالحا، فأتيت قوما فجلست إليهم، فإذا شيخ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: من هذا؟
قالوا: أبو الدرداء.
فقلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليسا صالحا، فيسَّرَك لي.
قال: ممن أنت؟
قلت: من أهل الكوفة.
قال: أوليس عندكم ابن أمّ عبدٍ صاحب النعلين والوساد والمطهرة؟!! وفيكم الذي أجاره الله من الشيطان - يعني على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم -؟!! أوليس فيكم صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلمه أحد غيره؟!!
ثم قال: كيف يقرأ عبد الله: {والليل إذا يغشى}؟
فقرأتُ عليه: [والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى . والذكر والأنثى]
قال: «والله لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيه إلى في»
وفي رواية لمسلم: أن علقمة قال: قدمنا الشام فأتانا أبو الدرداء، فقال: «فيكم أحد يقرأ على قراءة عبد الله؟»
فقلت: نعم، أنا.
قال: " فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية {والليل إذا يغشى}؟
قال: سمعته يقرأ: {والليل إذا يغشى} [والذكر والأنثى]، قال: (وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ {وما خلق} فلا أتابعهم).
يريد بالذي أجاره الله من الشيطان عمّار بن ياسر، وهذه المحاورة بين علقمة وأبي الدرداء كانت في حياة ابن مسعود، وقبل الجمع العثماني، وكان هذا الحرف مما اتفقت فيه قراءة ابن مسعود وأبي الدرداء، وكانوا يُقرئون الناس به، ولا يبعد أن يكون مكتوباً في مصاحف أصحابهم قبل الجمع العثماني.
وقراءة عثمان بن عفان وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت والعامّة {وما خلق الذكر والأنثى} وهي التي اختيرت في الرسم العثماني.
والنوع الثاني: ما روي عمّن لم يقرأ على ابن مسعود زمن الجمع العثماني، وإنما اطّلع على مصاحف منسوبة إلى ابن مسعود؛ فهذا النوع لا يُعتمد عليه في الرواية، ولا يُحتجّ به في الأحكام، وقد يُستفاد منه في التفسير واللغة، ولذلك يعتني بذكره بعض المفسّرين، ومن أمثلة ذلك:
1. قول عبد الله بن وهب: أخبرني جرير بن حازم قال: (قرأت في مصحف عبد الله بن مسعود: {فاذكروا اسم الله عليها} صوافن).
2. قال هشيم بن بشير: أنا داود بن أبي هند، قال: (هي في مصحف عبد الله: [وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بأمهاتهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم]). رواه سعيد بن منصور وابن جرير.
لكن ينبغي أن يُتنبّه إلى أنّ تلك المصاحف غير متحقق صحّة نسبتها إلى ابن مسعود رضي الله عنه، ومن دلائل ذلك ما أضيف إليها من أسماء السور وما وقع بينها من الاختلاف.
ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه
- قال زرّ بن حبيش: قلت لأبي بن كعب: إنَّ ابن مسعود كان لا يكتب المعوذتين في مصحفه، فقال: "أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرني: "أن جبريل قال له: قل أعوذ برب الفلق، فقلتها، فقال: قل أعوذ برب الناس، فقلتها ". فنحن نقول ما قال النبي صلى الله عليه وسلم). رواه الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة قال: أخبرنا عاصم بن بهدلة عن زرّ به.
- وروى الإمام أحمد من طريق الأعمش، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الرحمن بن يزيد النخعي قال: كان عبد الله يحكّ المعوذتين من مصاحفه، ويقول: (إنهما ليستا من كتاب الله).
- وروى الإمام أحمد أيضاً عن سفيان بن عيينة، عن عبدة، وعاصم، عن زر، قال: قلت لأبي: إن أخاك يحكهما من المصحف، قيل لسفيان: ابن مسعود؟ فلم ينكر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "قيل لي، فقلت " فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال سفيان: (يحكهما: المعوذتين، وليسا في مصحف ابن مسعود، كان يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوّذ بهما الحسن والحسين، ولم يسمعه يقرؤهما في شيء من صلاته؛ فظن أنهما عوذتان، وأصرَّ على ظنه، وتحقق الباقون كونهما من القرآن، فأودعوهما إياه).
- وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه بالإبهام؛ فقال: حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا عبدة بن أبي لبابة، عن زر بن حبيش، ح وحدثنا عاصم، عن زر، قال: سألت أبي بن كعب، قلت: يا أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول كذا وكذا، فقال أبيّ: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: «قيل لي فقلت» قال: فنحن نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم).
- وروى البزار والطبراني من طريق حسان بن إبراهيم، عن الصلت بن بهرام، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود أنه كان يحكّ المعوذتين من المصحف ويقول: «إنما أُمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتعوذ بهما» وكان عبد الله لا يقرأ بهما).
قال البزار: (وهذا الكلام لم يتابع عبدَ الله عليه أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ بهما في الصلاة وأثبتتا في المصحف).
- وروى الطبراني في الكبير من طريق عبد الحميد بن الحسن، عن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن ابن مسعود، أنه: كان يقول: "لا تخلطوا بالقرآن ما ليس فيه، فإنما هما معوذتان تعوذ بهما النبي صلى الله عليه وسلم: {قل أعوذ برب الفلق}، و{قل أعوذ برب الناس}". وكان عبد الله يمحوهما من المصحف.
- وقال محمد بن سيرين: (كتب أبيّ بن كعب في مصحفه فاتحة الكتاب والمعوذتين، و{اللهم إنا نستعينك}، و{اللهم إياك نعبد}، وتركهنّ ابنُ مسعود، وكتب عثمان منهنَّ فاتحة الكتاب والمعوذتين). رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن وعمر بن شبّة في تاريخ المدينة.
وقد اختلف أهل العلم فيما نُسب إلى ابن مسعود رضي الله عنه في شأن المعوذتين، والصواب ما قاله سفيان بن عيينة والبزار وغيرهما من أهل الحديث من القول بصحّة ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، والتماس العذر له بكونه لم يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما في صلاته، وأنّه سمعه يعوّذ بهما؛ فظنّهما عوذتين وليستا سورتين من القرآن، ولم يُنكر أنهما وحي من الله.
وقد صحّت الأحاديث بإثبات أنهما سورتين من القرآن، كما في حديث أبيّ بن كعب المتقدّم.
- وحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: "ألا أعلّمك سورتين من خير سورتين قرأ بهما الناس؟"
قال: قلت: بلى يا رسول الله !
قال: فأقرأني {قل أعوذ برب الفلق} و{قل أعوذ بربّ الناس} ). رواه الإمام أحمد والنسائي وابن خزيمة من طريق الوليد بن مسلم قال: حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني القاسم أبو عبد الرحمن، عن عقبة بن عامر، وهذا إسناد صحيح.
- وفي سنن أبي داوود وشرح مشكل الآثار للطحاوي وسنن البيهقي من طريق محمد بن إسحاق، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن عقبة بن عامر، قال: بينا أنا أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بأعوذ برب الفلق، وأعوذ برب الناس، ويقول: «يا عقبة ! تعوذ بهما؛ فما تعوذ متعوذ بمثلهما»
قال: وسمعته يؤمنا بهما في الصلاة).
- وروى الإمام أحمد والطحاوي في شرح مشكل الآثار من طريق شعبة، عن الجريري، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير، عن رجل من قومه أن رسول الله عليه السلام مر به، فقال: (اقرأ في صلاتك بالمعوذتين).
ويزيد بن عبد الله من بني الحريش بطن من بني عامر بن صعصعة، ولذلك فإنّ الصحابيّ الذي روى عنه هذا الحديث غير عقبة بن عامر الجهني.
- وقد روي عن عائشة رضي الله عنها من طرق يشدّ بعضها بعضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بثلاث: يقرأ في أول ركعة بـ{سبح اسم ربك الأعلى} وفي الثانية: {قل يا أيها الكافرون} وفي الثالثة: {قل هو الله أحد} والمعوذتين».
ففي هذه الأحاديث وما في معناها إثبات أنهما سورتان من القرآن، وأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بهما في الصلاة وخارجها، وأقرأ بهما، وأمر بقرائتهما في الصلاة وخارجها.
وابن مسعود وإن كان من كبار قرّاء الصحابة فهو غير معصوم من الخطأ، ولم يتابعه على ما صنع أحد من الصحابة ولا التابعين.
ومما ينبغي أن يُعلم أن هذه الروايات عن ابن مسعود في شأن المعوذتين كانت قبل الجمع العثماني، وقبل أن يقيم مصحفه على المصحف الإمام الذي أمر به عثمان بن عفان وأجمع الصحابة على اتخاذه مصحفاً إماماً وتركِ القراءة بما خالفه.
ووقوعُ بعض الخطأ من أفرادٍ من القرّاء قبل انعقاد الإجماع على مصحف إمامٍ مشتهرٍ بين الناس جائز الوقوع، ولا عصمة للأفراد ، وإنما العصمة لإجماعهم، وقد يخطئ المخطئ وهو معذور مأجور، إذا كان هذا هو مبلغ اجتهاده، فلا يعاب بمثل هذا الخطأ ابن مسعود ولا غيره من القرّاء.
قال ابن قتيبة: (ولكنّ عبد الله ذهب - فيما يرى أهل النظر - إلى أن المعوذتين كانتا كالعُوذة والرّقية وغيرها، وكان يرى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعوّذ بهما الحسن والحسين وغيرهما، كما كان يعوّذ بأعوذ بكلمات الله التّامة، وغير ذلك، فظنّ أنهما ليستا من القرآن، وأقام على ظنّه ومخالفة الصحابة جميعاً كما أقام على التّطبيق، وأقام غيره على الفتيا بالمتعة، والصّرف ورأى آخر أكل البرد وهو صائم، ورآى آخر أكل السّحور بعد طلوع الفجر الثاني. في أشباه لهذا كثيرة)ا.هـ.
وقوله: (أقام على ظنّه) مدفوع برجوع ابن مسعود إلى ما أجمع عليه الصحابة، وثبوت القراءة عنه بالأسانيد التي يروي بها القراء عنه ما يوافق قراءة العامة وفيها المعوذتان.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى إنكار صحة ما روي عن ابن مسعود كما فعل الكرجيّ القصاب في تفسيره وابن حزم في المحلّى والنووي في المجموع والرازي في تفسيره وغيرهم.
قال ابن حزم: (كل ما روي عن ابن مسعود من أن المعوذتين وأم القرآن لم تكن في مصحفه فكذب موضوع لا يصح؛ وإنما صحت عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عن ابن مسعود وفيها أم القرآن والمعوذتين)ا.هـ.
وقال النووي: (وما نقل عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل ليس بصحيح عنه).
وقد تعقبهم ابن حجر في الفتح بقوله: (وأما قول النووي في شرح المهذب: "أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن، وأن من جحد منهما شيئا كفر، وما نقل عن بن مسعود باطل ليس بصحيح"؛ ففيه نظر وقد سبقه لنحو ذلك أبو محمد بن حزم فقال في أوائل المحلى: "ما نقل عن بن مسعود من إنكار قرآنية المعوذتين فهو كذب باطل" وكذا قال الفخر الرازي في أوائل تفسيره: "الأغلب على الظن أن هذا النقل عن ابن مسعود كذب باطل والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل بل الرواية صحيحة والتأويل محتمل والإجماع الذي نقله إن أراد شموله لكل عصر فهو مخدوش، وإن أراد استقراره فهو مقبول)ا.هـ.
وقد ذهب الكرجي القصاب وأبو بكر الباقلاني إلى أنّ ابن مسعود لم ينكر أنهما من القرآن، وإنما أنكر كتباتهما في المصحف، والروايات الصحيحة تردّ هذا التأويل.
وحكى القرطبي عن بعضهم أنّ ابن مسعود لم يكتب المعوذتين لأنه أمن عليهما من النسيان، ثمّ ردّ عليهم بأنّ ما ذكروه متحقق في سورة الإخلاص والنصر والكافرون وغيرها وكان يكتبها.
والخلاصة أنّ ما روي عن ابن مسعود من أنه كان لا يكتب المعوذتين في المصحف صحيح عنه، لكنّه رجع عنه.
وقد روى ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي أنه قال: قال: قلت للأسود: من القرآن هما؟ قال: «نعم»، يعني: المعوذتين
والأسود بن يزيد من خاصّة أصحاب ابن مسعود.
ترتيب السور في مصحف ابن مسعود
- روى الأعمش عن أبي وائل شقيق بن سلمة أنه قال: قال عبد الله: «لقد تعلمت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤهن اثنين اثنين، في كل ركعة»
فقام عبد الله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه، فقال: عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود، آخرهن الحواميم: حم الدخان وعم يتساءلون). رواه البخاري ومسلم.
وهذه الرواية مختصرة، وقد استُشكل فيها عدّ حم الدخان من المفصّل، وهذا الإشكال تدفعه الروايات الأخرى.
- قال مهدي بن ميمون: حدثنا واصل الأحدب، عن أبي وائل، قال: غدونا على عبد الله، فقال رجل: قرأت المفصل البارحة!
فقال: «هذّا كهذّ الشِّعْر إنا قد سمعنا القراءة، وإني لأحفظ القرناء التي كان يقرأ بهن النبي صلى الله عليه وسلم، ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل حم» رواه البخاري ومسلم.
فأخرج آل حم من المفصّل، ولذلك فقول بعض أهل العلم في الرواية الأولى: (ظاهرُهُ أن الدخان من المفصل) مدفوع بهذه الرواية المبيّنة.
- وروى أبو داوود في سننه من طريق إسرائيل بن يونس عن جده أبي إسحاق السبيعي عن علقمة والأسود قالا: أتى ابنَ مسعود رجلٌ، فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة، فقال: أهذا كهذ الشعر، ونثرا كنثر الدقل، «لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ النظائر السورتين في ركعة، الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، وإذا وقعت ونون في ركعة، وسأل سائل والنازعات في ركعة، وويل للمطففين وعبس في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، وهل أتى ولا أقسم بيوم القيامة في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة، والدخان وإذا الشمس كورت في ركعة».
قال أبو داود: «هذا تأليف ابن مسعود رحمه الله»
قال ابن رجب: (وليس في هذه الرواية من آل حم سوى سورة الدخان، وهذا يخالف رواية مسلم المتقدمة: وسورتين من آل حم).
ورواية إسرائيل عن جدّه بعد الاختلاط، فلذلك ضعّف بعضُ أهل الحديث ما في هذه الرواية من سرد أسماء السور، لكن روى ابن خزيمة هذا الخبر من طريق أبي خالد عن الأعمش عن أبي وائل، وزاد فيه: قال الأعمش: (وهي عشرون سورة على تأليف عبد الله أوَّلهن: الرحمن وآخرتهن الدخان: الرحمن والنجم، والذاريات والطور، هذه النظائر، واقتربت والحاقة، والواقعة ون، والنازعات وسأل سائل، والمدثر والمزمل، وويل للمطففين وعبس، ولا أقسم وهل أتى، والمرسلات وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت والدخان). رواه ابن خزيمة في صحيحه.
- وقال حصين بن عبد الرحمن: حدثني إبراهيم عن نهيك بن سنان السلمي: أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال: هذّاً مثل هذِّ الشِّعْرِ، أو نثراً مثل نثر الدقل؟!، إنما فُصِّلَ لتفصّلوا، لقد علمت النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن عشرين سورة: الرحمن والنجم، على تأليف ابن مسعود، كل سورتين في ركعة، وذكر الدخان وعم يتساءلون في ركعة). رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار وزاد:
فقلت لإبراهيم: أرأيت ما دون ذلك! كيف أصنع؟
قال: ربما قرأتُ أربعاً في ركعة).
قال الطحاوي: (قول ابن مسعود رضي الله عنه بعد ذلك: "إنما سمي المفصل لتفصلوه"؛ فإنَّ ذلك لم يذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يحتمل أن يكون ذلك من رأيه؛ فإن كان ذلك من رأيه؛ فقد خالفه في ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه لأنه كان يختم القرآن في ركعة)ا.هـ.
وروى الإمام أحمد من طريق حماد بن سلمة قال: حدثنا عاصم عن زر: أن رجلا قال لابن مسعود: كيف تعرف هذا الحرف: "ماء غير" ياسن أم "آسن"؟ فقال: كل القرآن قد قرأت؟، قال: إني لأقرأ المفصل أجمع في ركعة واحدة!، فقال أهذ الشعر لا أبا لك؟!، قد علمت قرائن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي كان يقرن قرينتين قرينتين، من أول المفصل. وكان أول مفصل ابن مسعود. {الرحمن}).
قال بدر الدين العيني: (قوله: (على تأليف ابن مسعود) أراد به أن سورة النجم كان بحذاء سورة الرحمن في مصحف ابن مسعود، بخلاف مصحف عثمان).
- قال منصور بن صقير البغدادي: حدثنا حماد بن سلمة عن عاصم ابن بهدلة عن زر قال: (كان أول مفصل ابن مسعود: الرحمن) رواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار، ومنصور هذا قال فيه أبو حاتم الرازي: ليس بقوي، وفي حديثه اضطراب، وقال ابن حبان: لا يحتجّ به إذا انفرد.
وقد تقدّم قول زرّ بن حبيش في ذلك.
وذكر ابن حجر عن الداودي أنّ أوّل مفصّل ابن مسعود الجاثية،
وذكر ابن الملقّن أنّ أوّل مفصّل ابن مسعود القتال.
ولا أعلم لهذين القولين مستندا.
وقال السيوطي: (قال ابن أشتة أيضا: وأخبرنا أبو الحسن بن نافع أن أبا جعفر محمد بن عمرو بن موسى حدثهم قال: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سالم حدثنا علي بن مهران الطائي حدثنا جرير بن عبد الحميد قال: تأليف مصحف عبد الله بن مسعود:
طوال البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس.
والمئين: براءة والنحل وهود ويوسف والكهف وبني إسرائيل والأنبياء وطه والمؤمنون والشعراء والصافات.
والمثاني: الأحزاب والحج والقصص وطس النمل والنور والأنفال ومريم والعنكبوت والروم ويس والفرقان والحجر والرعد وسبأ والملائكة وإبراهيم وص والذين كفروا ولقمان والزمر والحواميم حم المؤمن والزخرف والسجدة وحمعسق والأحقاف والجاثية والدخان وإنا فتحنا لك والحشر وتنزيل السجدة والطلاق ون والقلم والحجرات وتبارك والتغابن وإذا جاءك المنافقون والجمعة والصف وقل أوحي وإنا أرسلنا والمجادلة والممتحنة ويا أيها النبي لم تحرم.
والمفصل: الرحمن والنجم والطور والذاريات واقتربت الساعة والواقعة والنازعات وسأل سائل والمدثر والمزمل والمطففين وعبس وهل أتى والمرسلات والقيامة وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت وإذا السماء انفطرت والغاشية وسبح والليل والفجر والبروج وإذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك والبلد والضحى والطارق والعاديات وأرأيت والقارعة ولم يكن والشمس وضحاها والتين وويل لكل همزة وألم تر كيف ولإيلاف قريش وألهاكم وإنا أنزلناه وإذا زلزلت والعصر وإذا جاء نصر الله والكوثر وقل يا أيها الكافرون وتبت وقل هو الله أحد وألم نشرح وليس فيه الحمد ولا المعوذتان).
وهذا التأليف كما تقدّم إنما هو في مصاحف منسوبة إلى ابن مسعود غير متحقق صحّة نسبتها). [جمع القرآن:234 - 251]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:08 PM
مصحف أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها
قال ابن جريج: أخبرني يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إذ جاءها عراقي فقال: (أي الكفن خير؟).
قالت: (ويحك وما يضرك؟!)
قال: (يا أم المؤمنين أريني مصحفك)
قالت: ( لِمَ؟)
قال: (لعلي أولّف القرآن عليه فإنه يقرأ غير مؤلف).
قالت: (وما يضرك أيَّه قرأتَ قبل؟!! إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء "لا تشربوا الخمر" لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل "لا تزنوا" لقالوا: لا ندع الزنا أبدا، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب { بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر } ، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده).
قال: (فأخرجت له المصحف فأملت عليه آي السور). رواه البخاري في صحيحه.
- وروى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن القاسم (أن عائشة كانت تقرأ في المصحف فتصلي في رمضان). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف.
- وروى شعبة بن الحجاج، عن أم سلمة الأزدية، قالت: (رأيت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف، فإذا مرت بسجدة قامت فسجدت). رواه ابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان.
- وروى محمد بن سليمان التيمي عن أبيه (أن عائشة كانت تقرأ في المصحف وهي تصلي). رواه عبد الرزاق.
- وروى وكيع، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن مجاهد، عن عائشةرضي الله عنها أنها «كانت تقرأ في رمضان في المصحف بعد الفجر، فإذا طلعت الشمس نامت» رواه الفريابي في فضائل القرآن، وإسناده صحيح إلى مجاهد، لكنه لم يثبت له سماع من عائشة.
- وروى شعبة عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها، «أنه كان يؤمها غلام لها في المصحف» رواه ابن أبي داود في كتاب المصاحف، ورواه عبد الرزاق من طريق معمر عن أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم مختصراً.
- وروى جرير بن حازم، عن أيوب السختياني، عن ابن أبي مليكة «أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤمها غلامها ذكوان في المصحف» رواه ابن وهب في جامعه، ومن طريقه ابن أبي داوود والبيهقي، ورواه أصله عبد الرزاق من طريق معمر عن أيوب عن ابن مليكة قال: ( كان يؤمّ من يدخل عليها إلا أن يدخل عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر فيصلي بها).
قال محمد بن نصر المروزي: (سئل ابن شهاب رحمه الله عن الرجل يؤم الناس في رمضان في المصحف؛ قال: «ما زالوا يفعلون ذلك منذ كان الإسلام، كان خيارنا يقرءون في المصاحف» ).
- وروى زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس، مولى عائشة، أنه قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً، وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى}؛ فلما بلغتها آذنتها فأملَتْ عليَّ: ( [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصروقوموا لله قانتين] ، قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم). رواه مالك والشافعي وأحمد ومسلم وغيرهم.
وهذا محمول على أنها أرادت أن تكتب ذلك لنفسها لتذكر به القراءة المنسوخة مع علمها بنسخها، ويدلّ لذلك ما رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف من طريق ابن جريج قال: أخبرني عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أمه أم حميدة ابنة عبد الرحمن، أنها سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن الصلاة الوسطى؛ فقالت: ( كنَّا نقرأ في الحرف الأول: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين]). رواه ابن أبي داوود.
- وقال ابن جريج: أخبرني ابن أبي حميد قال: أخبرتني حميدة قالت: (أوصت لنا عائشة رضي الله عنها بمتاعها، فكان في مصحفها: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر]). رواه ابن أبي داوود). [جمع القرآن:251 - 254]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:11 PM
مصحف أمّ المؤمنين حفصة رضي الله عنها
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف أمّ المؤمنين حفصة رضي الله عنها
- روى زيد بن أسلم، عن عمرو بن رافع أنه قال: كنت أكتب مصحفاً لحفصة أم المؤمنين. فقالت: «إذا بلغت هذه الآية فآذني» {حافظوا على الصلوات، والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتين}؛ فلما بلغتها آذنتها فأملت علي: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين] ). رواه مالك في الموطأ وأحمد في مسنده.
- وقال ابن جريج: أخبرني نافع أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم دفعت مصحفا إلى مولى لها يكتبه، وقالت: (إذا بلغت هذه الآية {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} فآذنّي)؛ فلما بلغها جاءها، فكتبت بيدها [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطىوصلاة العصروقوموا لله قانتين] ). رواه مالك في الموطأ وأبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن، وذكر اختلاف الرواة في إثبات الواو وحذفها في قوله: (وصلاة العصر) واستدلّ لإثباتها بما رواه عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبي بن كعب، أنه كان يقرؤها كذلك: [حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر]، ومثله عن ابن عباس، وذكر أنّ الواو في قراءة عبيد بن عمير، فحذف الواو يفيد تفسير الصلاة الوسطى بأنها العصر، وإثباتها يقتضي المغايرة بينهما، وهذا الحرف مما كان يُقرأ به ثمّ نُسخ، ولعلّ حفصة إنما كتبته لخاصّة نفسها). [جمع القرآن:254 - 255]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:17 PM
مصحف أمّ المؤمنين أمّ سلمة رضي الله عنها
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف أمّ المؤمنين أمّ سلمة رضي الله عنها
- قال داوود بن قيس الفرّاء: حدثني عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، قال: أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا انتهيت إلى آية الصلاة فأعلمني فأعلمتها، فأملت علي: «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر» رواه عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي داوود.
وقد اختلف الرواة على داوود بن قيس في إثبات الواو في قوله: [وصلاة العصر] وحَذْفِها:
أ: فروى عبد الرزاق عنه بإثبات الواو في قوله: [وصلاة العصر].
ب: وروى سفيان الثوري عنه بحذف الواو.
ج: ورواه وكيع عن داوود واختلف عليه الرواة كما اختلفوا على داوود.
قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: (لعل أصل ذلك ما في حديث البراء أنها نزلت أولا والعصر ثم نزلت ثانيا بدلها "والصلاة الوسطى" فجمع الراوي بينهما)ا.هـ). [جمع القرآن:255]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:20 PM
مصحف عبد الله بن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عبد الله بن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما
- قال حبيب بن الشهيد: قيل لنافع: ما كان يصنع ابن عمر في منزله؟
قال: (لا تطيقونه، الوضوء لكل صلاة، والمصحف فيما بينهما). رواه ابن سعد.
- وقال ابن وهب في جامعه: حدثني عبد الله بن عمر [العمري] عن نافع قال: كان عبد الله بن عمر يعطيني المصحف فأمسك عليه.
قال: فقلنا له: كيف كان يقرأ هذه الآية في سورة البقرة، قال: كان يقرأها: [فدية طعام مساكين]).
- وقال أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن: حدثنا أبو معاوية، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه كان لا يأخذ المصحف إلا وهو طاهر). [جمع القرآن:256]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:23 PM
مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما
- قال أبو معاوية الضرير: حدثنا الأعمش عن خيثمة بن عبد الرحمن الجعفيّ قال: انتهيتُ إلى عبد الله بن عمرو بن العاص وهو يقرأ في المصحف.
قال: فقلت: أي شيء تقرأ؟
قال: (جزئي الذي أقوم به الليلة). رواه ابن سعد في الطبقات، وابن عساكر في تاريخ دمشق.
- وقال أبو بكر بن عيّاشٍ: قدم علينا شعيب بن شعيب بن محمّد بن عبد اللّه بن عمرو بن العاص، فكان الّذي بيني وبينه، فقال يا أبا بكرٍ: (ألا أخرج لك مصحف عبد اللّه بن عمرو بن العاص؟)
فأخرج حروفًا تخالف حروفنا.
قال: وأخرج رايةً سوداء من ثوبٍ خشنٍ، فيه زرّان وعروةٌ، فقال: (هذه راية رسول اللّه صلّى الله عليه وسلّم الّتي كانت مع عمرٍو). رواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف، وفي رواية عنده: عن أبي بكر بن عياش قال: (مصحف جدّه الّذي كتبه هو، وما هو في قراءة عبد اللّه، ولا في قراءة أصحابنا).
ثم قال أبو بكر بن عيّاشٍ: (قرأ قومٌ من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم القرآن فذهبوا، ولم أسمع قراءتهم).
شعيب بن شعيب مجهول الحال، وذكره ابن حبان في الثقات.
وهذا الخبر ليس فيه ما يُستنكر إذ كان عبد الله بن عمرو بن العاص من أهل مصر لما جمع عثمان المصاحف، وقد يكون هذا المصحف مما كتبه عبد الله بن عمرو بن العاص قبل الجمع العثماني ولم يؤمر بتسليمه؛ وقد يكون مما كتبه أولاده يتوخون به ما يعرفون من قراءته). [جمع القرآن:256 - 257]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:25 PM
مصحف عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عبد الله بن عباس رضي الله عنهما
- قال ابن الضريس: أخبرنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا قيس، عن حبيب، قال: «رأيت على مصحف ابن عباس مسامير فضة»
حبيب هو ابن أبي ثابت.
- وقد تقدَّم ذِكْرُ ما رواه ابن جرير في تفسيره بإسناده عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال: أعطاني ابن عباس مصحفاً؛ فقال: (هذا على قراءة أبيّ بن كعب..). وهذا الأثر إن صحّ فلا يدلّ على أنّ ابن عباس أعطاه مصحفه، ولا أنّه راجع هذا المصحف واستوثق منه، ويبعد أن يخالف ابن عباس أمر عثمان بتسليم المصاحف.
- وقال عبد الله بن المبارك: أنبأنا الأجلح عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: ( في مصحف ابن عباس قراءة أبيّ وأبي موسى: [بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك الخير ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك]. وفيه: [اللهم اياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد نخشى عذابك ونرجو رحمتك إن عذابك بالكفار ملحق]). رواه ابن الضريس في فضائل القرآن.
الأجلح بن عبد الله الكندي ، ضعّفه الإمام أحمد، وقال فيه ابن سعد: ضعيف جداً). [جمع القرآن:257 - 257]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:27 PM
مصحف عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه
- قال ابن يونس المصري (ت:347هـ) في تاريخه: (كان عقبة قارئا، عالما بالفرائض والفقه. وكان فصيح اللسان، شاعرا كاتباً. وكانت له السابقة والهجرة، وهو أحد مَن جمع القرآن، ومصحفه بمصر إلى الآن بخطّه، رأيته عند على بن الحسن بن قديد، على غير التأليف الذي فى مصحف عثمان، وكان فى آخره: "وكتب عقبة بن عامر بيده" ورأيت له خطا جيداً، ولم أزل أسمع شيوخنا، يقولون: إنه مصحف عقبة، لا يشكّون فيه)ا.هـ.
وهذا الخبر إنما نقلته للفائدة، وإلا فهو خبر لا يعتمد على مثله، وبين ابن يونس وعقبة نحو ثلاثة قرون). [جمع القرآن:258]
جمهرة علوم القرآن
15 محرم 1439هـ/5-10-2017م, 10:29 PM
مصحف عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (مصحف عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه
- حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة قال: أتينا عثمان بن أبي العاص في يوم جمعة لنعرض عليه مصحفاً لنا على مصحفه؛ فلما حضرت الجمعة أمرنا فاغتسلنا؛ ثم أُتينا بطيب فتطيبنا، ثم جئنا المسجد، فجلسنا إلى رجلٍ؛ فحدثنا عن الدجال، ثم جاء عثمان بن أبي العاص فقمنا إليه فجلسنا؛ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( يكون للمسلمين ثلاثة أمصار: مصر بملتقى البحرين، ومصر بالحيرة، ومصر بالشام؛ فيفزع الناس ثلاثَ فزعات؛ فيخرج الدجال..). وذكر الحديثَ بطوله، وقد رواه ابن أبي شيبة وأحمد وابن أبي داوود في كتاب المصاحف، ومداره على عليّ بن زيد بن جدعان وهو ضعيف). [جمع القرآن:259]
جمهرة علوم القرآن
16 محرم 1439هـ/6-10-2017م, 06:15 PM
الباب الحادي عشر: جواب ما أشكل من الروايات والمسائل في شأن جمع القرآن
ما يثار من الأسئلة في جمع القرآن على نوعين:
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (ما يثار من الأسئلة في جمع القرآن على نوعين:
النوع الأول: إشكالات تعرض لبعض طلاب العلم والباحثين في مسائل جمع القرآن.
والنوع الآخر: شبهات يثيرها الطاعنون في جمع القرآن من الزنادقة والمستشرقين وطوائف من غلاة المبتدعة.
وقد تثار المسألة الواحدة من الفريقين؛ ويقصد بها الفريق الأول البحث عما يزيل الإشكال مع إيمانهم بالقرآن، ويقينهم بصحّة جمعه وحفظه، ويقصد بها الفريق الآخر الطمعَ في العثور على ما يُصدّق ظنّهم من الطعن في صحّة جمع القرآن وحفظه.
ومعرفة طالب العلم بأجوبة هذه المسائل، وما يزيل الإشكالات ويكشف الشبهات من مهمّات ما ينبغي أن يُعتنى به في هذا الباب، وفقه الدروس المتقدّمة مما يعين على جواب كثير من الإشكالات، وكشف الشبهات.
وليُعلم أنّ حصر الإشكالات غير ممكن لاختلاف الناس في الفهم والإدراك، حتى إنّ منهم من يستشكل الواضحات، ويفترض المحال من الافتراضات، ولذلك سيكون الحديثُ في هذا الباب مقصوراً على المشهور مما أثير من تلك الإشكالات ليعرف طالب العلم اللبيب طرق العلماء في كشف الشبهات وإزالة الإشكالات، ويتبيّن الأصول التي بنوا عليها أجوبتهم، حتى يستعين بذلك على معرفة الجواب عما فاتني ذكره وما يستجدّ من الإشكالات.
وقد تأمّلت الأسئلة التي أثيرت في باب جمع القرآن فوجدت أشهرها وأكثرها تداولاً في كتب علوم القرآن ثمانية أسئلة:
السؤال الأول: ما سبب عدم جمع القرآن الكريم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟
السؤال الثاني: كيف يوثق بأنّ ما جُمع من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال قد تمّ به جمع القرآن؛ وما ضمانة عدم الزيادة عليه؟
السؤال الثالث: كيف لم توجد آخر براءة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري؟
السؤال الرابع: ما الجواب عما روي عن عثمان رضي الله عنه مما يفهم منه الاجتهاد في ترتيب الآيات؟
السؤال الخامس: ما الجواب عن الخبر المروي عن زيد بن ثابت أنه قال في آخر آيتين من سورة التوبة: (لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة)؟
السؤال السادس: ما جواب ما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها»؟
السؤال السابع: ما جواب ما روي عن عائشة رضي الله عنها في تلحين كتَّاب المصاحف وتخطئتهم؟
السؤال الثامن: ما جواب ما روي عن ابن عبّاس في تخطئة بعض كتّاب المصاحف؟). [جمع القرآن:261 - 263]
جمهرة علوم القرآن
16 محرم 1439هـ/6-10-2017م, 06:17 PM
السؤال الأول: ما سبب عدم جمع القرآن الكريم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (السؤال الأول: ما سبب عدم جمع القرآن الكريم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؟
الجواب: لم يجمع القرآن في مصحف واحد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف بين أهل العلم.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (روينا في الجزء الأول من فوائد الديرعاقولي قال: حدثنا إبراهيم بن بشار، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد، عن زيد بن ثابت قال: « قُبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جمع في شيء »).
وقال ابن جرير الطبري: حدثني سعيد بن الربيع، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، قال: « قُبض النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن القرآن جُمع، وإنما كان في الكرانيف والعسب »
وحاصل أجوبة العلماء عن سبب عدم جمع المصحف في عهده صلى الله عليه وسلم:
1: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً من أن ينسى شيئاً من القرآن؛ فكانت حياته ضماناً لحفظ القرآن وإن لم يُكتَب.
2: أن القرآن في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان يزاد فيه بالوحي وينسخ منه؛ فكان جمعه في مصحف واحد في عهده مظنة لاختلاف نسخ المصاحف وتعددها، وفي ذلك مشقة بالغة.
قال النووي: (وإنما لم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم في مصحف واحد لما كان يتوقع من زيادته ونسخ بعض المتلو، ولم يزل ذلك التوقع إلى وفاته صلى الله عليه وسلم)ا.هـ). [جمع القرآن:263 - 264]
جمهرة علوم القرآن
16 محرم 1439هـ/6-10-2017م, 06:21 PM
السؤال الثاني: كيف يوثق بأنّ ما جُمع في عهد أبي بكر من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال قد تمّ به جمع القرآن؛ وما ضمانة عدم الزيادة عليه؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (السؤال الثاني: كيف يوثق بأنّ ما جُمع في عهد أبي بكر من الرقاع والأكتاف وصدور الرجال قد تمّ به جمع القرآن؛ وما ضمانة عدم الزيادة عليه؟
الجواب: كان القرآن الكريم محفوظاً مجموعاً في صدور الصحابة رضي الله عنهم حفظاً يُطمئنّ به ويوثق بصحته واكتماله وعدم ضياع شيء منه.
وكان ذلك الجمع في صدورهم على نوعين:
النوع الأول: الجمع الفردي، والمراد به أن يحفظه كلّه أفرادٌ من الصحابة رضي الله عنهم، وقد كان منهم من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كأبيّ بن كعب وابن مسعود وزيد بن ثابت وعثمان بن عفان ومعاذ بن جبل ومجمّع بن جارية وأبي الدرداء وأبي زيد الأنصاري وسالم مولى أبي حذيفة، ومنهم جمعه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل كعليّ بن أبي طالب وابن عباس.
والنوع الثاني: الجمع العام، والمراد به أن كلّ آية من القرآن محفوظة في صدور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لا تبقى منه آية غير محفوظة في صدورهم، وهذا النوع مظاهر للنوع الأول؛ والذين يحفظون القرآن بالمعنى الثاني عدد كثير يصعب حصرهم، وتحصل الطمأنينة بحفظهم وضبطهم.
ولم يكن الحامل للصحابة رضي الله عنهم على جمع القرآن في عهد أبي بكر خشية أن يضيع حفظهم وهم أحياء، وإنما الخوف أن يموت حفظة القرآن الذين أخذوه من النبي صلى الله عليه وسلم؛ فينسى من بعدهم شيئا من القرآن، وهذا التخوّف قد زال بجمع القرآن في مصحف واحد في عهد أبي بكر رضي الله عنهم.
وتظاهرَ حفظ الكتاب وحفظ الصدر في الأمّة إلى يومنا هذا.
ولم يكونوا يخشون أن يزاد فيه ما ليس منه ولو حرفاً واحداً؛ لأن عمدتهم الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم مشافهة، وكانوا شديدي التوثّق في ضبطه وكتابته، وقد تحقق إجماعهم على صحة كتابة المصحف، ولو كان فيه أدنى خطأ لاشتهر الخلاف فيه وراجعوه حتى يكتبوه على وجهه الصحيح؛ إذ كان القرآن هو كتابهم الذي ليس لهم كتاب غيره، وعنايتهم به أتمّ، وحرصهم على ضبط كتابته وإحسان قراءته وإقرائه أشدّ). [جمع القرآن:264 - 265]
جمهرة علوم القرآن
16 محرم 1439هـ/6-10-2017م, 06:23 PM
السؤال الثالث: كيف لم توجد آخر براءة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري وقد صحّ أنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم كان قد جمع القرآن؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (السؤال الثالث: كيف لم توجد آخر براءة إلا مع أبي خزيمة الأنصاري وقد صحّ أنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم كان قد جمع القرآن؟
- الجواب: أنّ المراد أنهم لم يجدوها مكتوبة إلا معه؛ وأما حفظها في الصدور فكان من الصحابة من يحفظها، ومما يدلّ على ذلك صراحة قول أبيّ بن كعب رضي الله عنه لما بلغوا الآية التي قبلهما: (أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها آيتين).
فهذا دليل على حفظه لهاتين الآيتين وعددهما وموضعهما، ولم يبق إلا التوثق من كتابتهما؛ فحصل بكتابة أبي خزيمة، واتّفق المحفوظ والمكتوب، وكان هذا هو المطلوب). [جمع القرآن:265]
جمهرة علوم القرآن
16 محرم 1439هـ/6-10-2017م, 06:26 PM
السؤال الرابع: ما الجواب عما روي عن عثمان رضي الله عنه مما يفهم منه الاجتهاد في ترتيب الآيات؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (السؤال الرابع: ما الجواب عما روي عن عثمان رضي الله عنه مما يفهم منه الاجتهاد في ترتيب الآيات؟
الجواب: أصل هذا الخبر ما رواه عمر بن شبّة في تاريخ المدينة من طريق ابن وهب قال: أخبرني عمر بن طلحة الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال: قام عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: «من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به»
وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شاهدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني قد رأيتكم تركتم آيتين من كتاب الله لم تكتبوهما !
قال: وما هما؟
قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخر السورة، قال عثمان: «وأنا أشهد إنهما من عند الله، فأين ترى أن نجعلهما؟»
قال: اختم بهما.
قال: فختم بهما).
وهذا الخبر منكر لا يصحّ، وقد رواه عمر بن شبّة مختصراً، ورواه ابن أبي داوود في كتاب المصاحف بسياق أتمّ فقال: حدثنا أبو الطاهر، حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عمر بن طلحة الليثي، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن، فقام في الناس فقال: " من كان تلقى من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان فقتل وهو يجمع ذلك إليه فقام عثمان بن عفان فقال: من كان عنده من كتاب الله شيء فليأتنا به وكان لا يقبل من ذلك شيئا حتى يشهد عليه شهيدان، فجاء خزيمة بن ثابت فقال: إني قد رأيتكم تركتم آيتين لم تكتبوهما. قالوا: وما هما؟
قال: تلقيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} إلى آخر السورة.
قال عثمان: فأنا أشهد أنهما من عند الله فأين ترى أن نجعلهما؟
قال: اختم بها آخر ما نزل من القرآن فختمت بها براءة).
وهذا الخبر تفرّد به عمر بن طلحة بن علقمة بن وقاص الليثي عن ابن عمّه محمّد بن عمرو بن علقمة وكلاهما متكلّم فيهما.
فأما عمر بن طلحة فقد قال فيه أبو زرعة الرازي: ليس بقوي، وقال فيه أبو حاتم: محلّه الصدق، وقال الذهبي: لا يكاد يُعرف.
ومحمد بن عمرو بن علقمة ليس ممن يُحتمل تفرّده لخفّة ضبطه، ووقوع الخطأ والمخالفة في عدد من مروياته.
قال أبو بكر بن أبي خيثمة: سُئل يحيى بن معين عن محمد بن عمرو، فقال: ما زال الناس يتقون حديثه.
قيل له: وما علة ذلك؟
قال: كان يحدث مرة عن أبي سلمة بالشيء من رأيه ثم يحدث به مرة أخرى عن أبي سلمة عن أبي هريرة).
وهو صدوق في نفسه لا يتعمّد الخطأ، ولذلك كان من أهل الحديث من يقبل روايته في المتابعات مما لا مخالفة فيه ولا نكارة.
ويحيى بن عبد الرحمن لم يدرك عمر بن الخطاب، قال ابن سعد وأبو حاتم: (ولد في خلافة عثمان).
وإذ كان مولده في خلافة عثمان فهو إما لم يكن قد ولد زمن الجمع، وإما رضيع؛ فروايته لهذا الخبر مرسلة، وقد قيل: إنه أدرك رؤية عثمان في آخر خلافته لكن أكثر روايته عن عثمان بواسطة أبيه.
- فالخبر من حيث الإسناد ضعيف لا يحتجّ به.
- ومن حيث المتن فيه نكارة ومخالفات توجب ردّه، ومن ذلك:
1. دعوى أنّ الجمع كان أوّله في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنّ جمع عثمان إنما كان إنفاذا لما شرع فيه عمر، وقد تقدّم من الآثار الصحيحة في أسباب الجمع العثماني ما يفيد خلاف ذلك.
2. دعوى أنّ قصة آخر آيتين من سورة التوبة كانت في جمع عثمان، وهذا مخالف لما صحّ من أنّها كانت في جمع أبي بكر رضي الله عنهما.
3. دعوى أنّ الذي اكتشف ذلك ونبّه عليه هو خزيمة بن ثابت، وهذا مخالف لما رواه البخاري في صحيحه من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: (نسخت الصحف في المصاحف، ففقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، فلم أجدها إلا مع خزيمة بن ثابت الأنصاري الذي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين» وهو قوله: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر} فألحقناها في سورتها في المصحف).
فهذا الذي كان في جمع عثمان، وهو بسياق خبر زيد مخالف للرواية المعلولة الواردة في السؤال.
وقصةُ آخر آيتين من سورة التوبة قصة أخرى غير هذه، وتلك كانت في جمع أبي بكر، وقد وقعت لأبي خزيمة الخزرجي وهو غير خزيمة بن ثابت الأوسي، وقد تقدّم التنبيه على ذلك.
4. قوله: (فأين ترى أن نجعلهما؟) مخالف لقول زيد بن ثابت الصحيح عنه: (فألحقناها في سورتها في المصحف).
فهم كانوا يعرفون موضعها، ويحفظونها، ويقرؤون بها في صلواتهم وقيامهم، ويقرؤونها، ولم يكن موضعها مجهولاً عندهم حتى يستشير فيه عثمان.
5. قوله: (اختم بها آخر ما نزل من القرآن؛ فختمت بها براءة) وهذه مخالفة لقول أبيّ بن كعب رضي الله عنه لما بلغوا الآية التي قبلهما: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} إلى {وهو رب العرش العظيم}). فهو دليل على أنه يعرف موضعهما، وأنّ ذلك كان بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وتعليم منه، وقد كان هذا الخبر في جمع أبي بكر كما تقدّم.
فهذه المخالفات والعبارات المنكرة الواردة في هذا الخبر دليل على أنّ رواته لم يضبطوه مع ما عرف عنهم من خفة الضبط وتعدد مخالفاتهم لروايات الثقات فاستحقّت روايتهم الردّ.
وفي صحيح البخاري من حديث ابن أبي مليكة عن ابن الزبير أنه قال: قلت لعثمان: هذه الآية التي في البقرة {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا} إلى قوله: {غير إخراج} قد نسختها الأخرى، فلم تكتبها؟
قال: (تدعها يا ابن أخي، لا أغير شيئا منه من مكانه).
وقد كان ابن الزبير من كَتَبة المصاحفِ، وهو أخبر بشأن المصحف وترتيب الآيات من رواة الخبر المنكَر). [جمع القرآن:266 - 270]
جمهرة علوم القرآن
16 محرم 1439هـ/6-10-2017م, 06:28 PM
السؤال الخامس: ما الجواب عن خبر (لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة)؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (السؤال الخامس: ما الجواب عن خبر (لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة)؟
الجواب: هذه العبارة رُويت عن عمر بن الخطاب وعن زيد بن ثابت ولا تصحّ عنهما، بل هي عبارة ضعيفة الإسناد منكرة المتن.
قال محمد بن سلمة الباهلي: أخبرنا محمد بن إسحق عن يحيى بن عباد عن أبيه عباد بن عبد الله بن الزبير قال: أتى الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر براءة: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى عمر بن الخطاب، فقال: (من معك على هذا؟)
قال: لا أدري والله إلا أني أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعيتها وحفظتها.
فقال عمر: (أشهد لسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
ثم قال: (لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة، فانظروا سورة من القرآن فضعوها فيها، فوضعتها في آخر براءة). رواه الإمام أحمد في مسنده وابن أبي داوود في كتاب المصاحف، وفي إسناده محمد بن إسحاق مدلّس، وقد عنعن.
وعباد بن عبد الله بن الزبير لم يدرك زمن الجمع، وسياق الخبر مخالف للروايات الصحيحة من وجوه، وزيادة (لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة) منكرة جداً.
وقد صحّ أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم قد جمعوا القرآن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يجهلون موضع هاتين الآيتين، وقد تقدّم نصّ أبيّ بن كعب رضي الله عنه على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه إياهما بعد قوله تعالى: {ثمّ انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون}
فهذه الجملة مروية في هذا الخبر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وتبيّن أنها لا تصحّ عنه.
- وروى عمر بن شبّة في تاريخ المدينة وابن جرير في تفسير من طريق عمارة بن غزية، عن ابن شهاب، عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه رضي الله عنه أنه قال: (عرضت المصحف فلم أجد فيه هذه الآية {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا})
قال: (فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها فلم أجدها مع أحد، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنها، فلم أجدها مع أحد منهم، حتى وجدتها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري فكتبتها، ثم عرضته مرة أخرى فلم أجد فيه هاتين الآيتين: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخر السورة).
قال: (فاستعرضت المهاجرين أسألهم عنها فلم أجدهما مع أحد منهم، ثم استعرضت الأنصار أسألهم عنهما فلم أجدهما مع أحد منهم حتى وجدتهما مع رجل آخر يدعى خزيمة أيضا من الأنصار فأثبتهما في آخر براءة).
قال زيد: (ولو تمت ثلاث آيات لجعلتها سورة واحدة، ثم عرضته عرضة أخرى فلم أجد فيه شيئا؛ فأرسل عثمان رضي الله عنه إلى حفصة رضي الله عنها يسألها أن تعطيه الصحيفة، وجعل لها عهد الله ليردها إليها، فأعطته إياها، فعرضت الصحف عليها فلم تخالفها في شيء فرددتها إليها، وطابت نفسه فأمر الناس أن يكتبوا المصاحف).
وهذا الخبر تفرّد به عمارة بن غزيّة عن الزهري، وأخطأ في إسناده ومتنه، ولم يضبط ألفاظه، وقد نبّه على ذلك الدارقطني في العلل فقال: (هو حديث في جمع القرآن، ورواه الزهري عن عبيد بن السباق عن زيد بن ثابت؛ حدَّث به عن الزهري كذلك جماعة منهم: إبراهيم بن سعد، ويونس بن يزيد، وشعيب بن أبي حمزة، وعبيد الله بن أبي زياد الرصافي، وإبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، وسفيان بن عيينة وهو غريب عن ابن عيينة، اتفقوا على قول واحد.
ورواه عمارة بن غزية عن الزهري فجعل مكان ابن السبَّاق خارجة بن زيد بن ثابت وجعل الحديث كله عنه.
وإنما روى الزهري، عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه من هذا الحديث ألفاظا يسيرة.
وهي قوله: (فقدت من سورة الأحزاب آية قد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها فوجدتها مع خزيمة بن ثابت).
ضبطه عن الزهري كذلك: إبراهيم بن سعد، وشعيب بن أبي حمزة، وعبيد الله بن أبي زياد).
ثم قال الدارقطني: (الصحيح من ذلك رواية إبراهيم بن سعد، وشعيب بن أبي حمزة، وعبيد الله بن أبي زياد، ويونس بن يزيد، ومن تابعهم عن الزهري؛ فإنهم ضبطوا الأحاديث عن الزهري وأسندوا كل لفظ منها إلى روايه وضبطوا ذلك)ا.هـ.
فتبيّن بذلك أنّ هذه الجملة المنسوبة إلى زيد بن ثابت لا تصحّ عنه، وقد دخلت على عمارة بن غزية من رواية بعض الضعفاء مع ما دخل عليه من ألفاظ هذا الحديث ورواياته مما لم يضبطه، وخالف الثقات فيه في مواضع منه، ومنها هذه الزيادة المنكرة، فهي معلولة مردودة.
مع مخالفتها لما تقدّم بيانه من اتّفاق الصحابة رضي الله عنهم وإجماع العلماء من بعدهم على أنّ ترتيب الآيات في السور توقيفي). [جمع القرآن:270 - 273]
جمهرة علوم القرآن
16 محرم 1439هـ/6-10-2017م, 06:31 PM
س6: ما جواب ما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها»؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (س6: ما جواب ما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «إن في القرآن لحنا ستقيمه العرب بألسنتها»؟
الجواب: أن هذا الخبر لا يصحّ عن عثمان فهو معلول الإسناد منكر المتن، وقد وجهه بعض أهل العلم توجيهات لا نكارة فيها.
وأصل هذا الخبر ما رواه عمران بن داوود القطان عن قتادة، عن نصر بن عاصم، عن عبد الله بن فطيمة، عن يحيى بن يعمر، قال: قال عثمان رضي الله عنه: «إن في القرآن لحناً ستقيمه العرب بألسنتها» أخرجه عمر بن شبّة وابن أبي داوود وأبو عمرو الداني.
قال ابن أبي داوود: (هذا عبد الله بن فطيمة أحد كتاب المصاحف).
قلت: يريد أنه ممن كان يكتب المصاحف، لا أنه من كتّاب المصاحف العثمانية لأنه لم يدرك زمن الجمع العثماني.
وقوله: (إن في القرآن لحناً) المراد بالقرآن هنا المصحف المكتوب لا القرآن المتلوّ، للاتفاق المتيقّن على أنّ القرآن في الذروة العليا من الفصاحة لا لحن فيه بوجه من الوجوه.
وإطلاق لفظ القرآن على المصحف وارد في النصوص، ومنه حديث النهي عن السفر بالقرآن إلى أرض العدوّ.
وقال عمر بن شبّة: حدثنا علي بن أبي هاشم، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر بن كريز القرشي، قال: (لما فرغ من المصحف أتي به عثمان رضي الله عنه فقال: «قد أحسنتم وأجملتم، أرى شيئا من لحن سنقيمه بألسنتنا».
ورواه ابن أبي داوود من طريق المؤمل بن هشام ويحيى بن آدم عن إسماعيل ابن علية به إلا أنه قال: «قد أحسنتم وأجملتم، أرى فيه شيئا من لحن ستقيمه العرب بألسنتها».
وروى ابن أبي داوود عن أبي حاتم السجستاني قال: حدثنا عبيد بن عقيل ، عن هارون ، عن الزبير بن الخريت ، عن عكرمة الطائي قال: لما أتي عثمان رضي الله عنه بالمصحف رأى فيه شيئا من لحن فقال : « لو كان المملي من هذيل ، والكاتب من ثقيف لم يوجد فيه هذا ».
هارون هو ابن موسى الأعور النحوي صاحب القراءات.
وهذا الخبر وإن تعددت طرقه في ظاهر الأمر إلا أنه ضعيف جداً لا يصحّ عن عثمان.
فأما الإسناد الأول فمعلّ بثلاث علل:
إحداها: عنعنة قتادة وقد عرف بالتدليس.
والثانية: رواية يحيى بن يعمر عن عثمان مرسلة، ولذلك حكم عليه البخاري بالانقطاع.
قال البخاري في التاريخ الكبير: (عبد الله بن فطيمة عن يحيى بن يعمر، روى قتادة عن نصر بن عاصم، منقطع).
والعلة الثالثة: جهالة حال عبد الله بن فطيمة.
والإسناد الثاني معلّ بثلاث علل أيضاً:
إحداها: أن عبد الأعلى لم يدرك عثمان بن عفان.
والثانية: أن الحارث بن عبد الرحمن متكلّم فيه، قال أبو حاتم: ليس بالقويّ.
والثالثة: اضطراب الرواة في ألفاظه بين (سنقيمه بألستنا) و(ستقيمه العرب بألسنتها).
والإسناد الثالث ضعيف جداً، عكرمة الطائي مجهول الحال، ولم يدرك عثمان.
فهذا الخبر من جهة الإسناد لا يصحّ عن عثمان بن عفان رضي الله عنه.
وللعلماء في ردّه وتوجيهه أقوال:
أ. فأنكره جماعة من العلماء إنكاراً شديداً، وطعنوا في إسناده.
وممن أنكره: ابن الأنباري، وأبو عمرو الداني، ومكيّ بن أبي طالب القيسي، وابن تيمية، وابن عاشور.
قال أبو عمرو الداني: (هذا الخبر عندنا لا يقوم بمثله حجة، ولا يصح به دليل من جهتين:
أحدهما: أنه مع تخليط في إسناده واضطراب في ألفاظه مرسل لأن ابن يعمر وعكرمة لم يسمعا من عثمان شيئاً ولا رأياه.
وأيضاً: فإنَّ ظاهر ألفاظه ينفي وروده عن عثمان رضي الله عنه لما فيه من الطعن عليه مع محلّه من الدين ومكانه من الإسلام وشدّة اجتهاده في بذل النصيحة واهتباله بما فيه الصلاح للأمة؛ فغير ممكن أن يتولى لهم جمع المصحف مع سائر الصحابة الأتقياء الأبرار نظراً لهم ليرتفع الاختلاف في القرآن بينهم، ثم يترك لهم فيه مع ذلك لحنا وخطأ يتولى تغييره من يأتي بعده ممن لا شكَّ أنّه لا يدرك مداه ولا يبلغ غايته ولا غاية من شاهده!! هذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله، ولا يحل لأحد أن يعتقده).ا.هـ
- وقال مكيّ بن أبي طالب في تفسيره: (روي أن عثمان وعائشة رضي الله عنهما قالا: إن في الكتاب غلطاً ستقيمه العرب بألسنتها.
وعنهما: إن في الكتاب لحناً ستقيمه العرب بألسنتها.
وهذا القول قد طُعن فيه، لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد أجمعوا على صحة ما بين اللوحين؛ فلا يمكن أن يجتمعوا على غلط)ا.هـ.
- وقال ابن تيمية: (المصاحف التي نسخت كانت مصاحف متعددة وهذا معروف مشهور، وهذا مما يبين غلط من قال في بعض الألفاظ: إنه غلط من الكاتب أو نقل ذلك عن عثمان؛ فإن هذا ممتنع لوجوه. منها: تعدد المصاحف واجتماع جماعة على كل مصحف ثم وصول كل مصحف إلى بلد كبير فيه كثير من الصحابة والتابعين يقرءون القرآن ويعتبرون ذلك بحفظهم والإنسان إذا نسخ مصحفا غلط في بعضه عرف غلطه بمخالفة حفظه القرآن وسائر المصاحف فلو قدر أنه كتب كاتب مصحفا ثم نسخ سائر الناس منه من غير اعتبار للأول والثاني أمكن وقوع الغلط في هذا، وهنا كل مصحف إنما كتبه جماعة ووقف عليه خلق عظيم ممن يحصل التواتر بأقلَّ منهم، ولو قُدِّرَ أنَّ الصحيفة كان فيها لحن؛ فقد كتب منها جماعةٌ لا يكتبون إلا بلسان قريش ولم يكن لحناً فامتنعوا أن يكتبوه إلا بلسان قريش؛ فكيف يتفقون كلهم على أن يكتبوا: {إن هذان} وهم يعلمون أن ذلك لحن لا يجوز في شيء من لغاتهم أو: {المقيمين الصلاة} وهم يعلمون أن ذلك لحن كما زعم بعضهم.
قال الزجاج في قوله: {المقيمين الصلاة} قول من قال: إنه خطأ - بعيد جدا؛ لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة والقدوة فكيف يتركون شيئا يصلحه غيرهم فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم.
وقال ابن الأنباري: حديث عثمان لا يصح لأنه غير متصل ومحال أن يؤخر عثمان شيئا ليصلحه من بعده)ا.هـ.
ب. ومن العلماء من وجّهه توجيهاً لا نكارة فيه، واختلفوا في توجيهاتهم على أقوال:
1. فذهب الإمام المقرئ أبو الحسين ابن المنادي(ت:336هـ) إلى أنّ المراد باللحن ظاهر رسم الكلمات التي تنطق على غير ما تكتب به ظاهراً، وأن هذا اللحن مأمون بإقامة القراء له بألسنتهم حتى تشتهر القراءة الصحيحة ويُعرف معنى الرسم.
فقال فيما نقله عنه أبو عمرو الداني في المحكم: (في المصاحف العتق {أوليئهم من الإنس} و{ليوحون إلى أوليئهم} و{إن أوليئه إلا المتقون})
ثم قال: (وهذا عندنا مما نظر إليه عثمان رحمه الله فقال: "أرى في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها" فأوجب ذلك من القول أنّ من الخط المكتوب ما لا تجوز به القراءة من وجه الاعراب، وأن حكمه أن يترك على ما خط ويطلق للقارئين أن يقرؤوا بغير الذي يرونه مرسوماً)ا.هـ.
قال أبو عمرو الداني: (وغير جائز عندنا أن يرى عثمان رضي الله عنه شيئا في المصحف يخالف رسم الكتابة مما لا وجه له فيها بحيلة؛ فيتركه على حاله، ويقرّه في مكانه، ويقول: إنّ في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها" إذ لو كان ذلك جائزا لم يكن للكتابة معنى، ولا كان فيها فائدة، بل كانت تكون وبالاً لاشتغال القلوب بها)ا.هـ.
وقال أبو عمرو الداني (ت:444هـ) في المقنع: (فإن قال: فما وجه ذلك عندك لو صحّ عن عثمان رضي الله عنه؟
قلت: وجهه أن يكون عثمان رضي الله عنه أراد باللحن المذكور فيه التلاوة دون الرسم، إذ كان كثير منه لو تُلي على رسمه لا نقلب بذلك معنى التلاوة وتغيرت ألفاظها، ألا ترى قوله: {أولاأذبحنّه} و{لأاوضعوا} و{من نبأي المرسلين} و{سأوريكم} و{الربوا} وشبهه مما زيدت الألف والياء والواو في رسمه، لو تلاه تالٍ لا معرفة له بحقيقة الرسم على صورته في الخطّ لصيّر الإيجاب للنفي، ولزاد في اللفظ ما ليس فيه ولا من أصله؛ فأتى من اللحن بما لا خفاء به على من سمعه، مع كون رسم ذلك كذلك جائزاً مستعملاً؛ فأعلَمَ عثمانُ رضي الله عنه إذ وقف على ذلك أنّ من فاته تمييز ذلك وعزبت معرفته عنه ممن يأتي بعده؛ سيأخذ ذلك عن العرب إذ هم الذين نزل القرآن بلغتهم فيعرّفونه بحقيقة تلاوته، ويدلونه على صواب رسمه؛ فهذا وجهه عندي، والله أعلم)ا.هـ.
قوله: (أراد باللحن المذكور فيه التلاوة دون الرسم) هكذا وردت العبارة في المطبوع، ولعلها انقلبت على الناسخ؛ إلا إذا كان المراد: التلاوة التي عمدتها مجرّد النظر في الرسم.
2. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومما يبين كذب ذلك: أن عثمان - لو قُدِّرَ ذلك فيه - فإنما رأى ذلك في نسخة واحدة؛ فأمّا أن تكون جميع المصاحف اتفقت على الغلط، وعثمان قد رآه في جميعها وسكت؛ فهذا ممتنع عادة وشرعاً من الذين كتبوا ومن عثمان، ثم من المسلمين الذين وصلت إليهم المصاحف ورأوا ما فيها وهم يحفظون القرآن ويعلمون أنّ فيه لحناً لا يجوز في اللغة فضلاً عن التلاوة، وكلهم يقرّ هذا المنكر لا يغيره أحد؛ فهذا مما يعلم بطلانه عادة، ويُعلم من دين القوم الذين لا يجتمعون على ضلالة؛ بل يأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر أن يدعوا في كتاب الله منكراً لا يغيرّه أحدٌ منهم مع أنهم لا غرض لأحدٍ منهم في ذلك، ولو قيل لعثمان: مُرِ الكاتبَ أن يغيره لكان تغييره من أسهل الأشياء عليه؛ فهذا ونحوه مما يوجب القطع بخطأ من زعم أنَّ في المصحف لحناً أو غلطاً وإن نُقل ذلك عن بعض الناس ممن ليس قوله حجة؛ فالخطأ جائزٌ عليه فيما قاله؛ بخلاف الذين نقلوا ما في المصحف وكتبوه وقرأوه؛ فإنَّ الغلط ممتنع عليهم في ذلك)ا.هـ.
2. وقال السيوطي في الاقتراح: (وأحسن ما يقال في أثر عثمان رضي الله عنه بعد تضعيفه بالاضطراب الواقع في إسناده والانقطاع: أنه وقع في روايته تحريف؛ فإن ابن أشته أخرجه في كتاب (المصاحف) من طريق عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، قال: "لما فرغ من المصحف أتي به عثمان؛ فنظر فيه فقال: أحسنتم وأجملتم , أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا".
فهذا الأثر لا إشكال فيه فكأنه لما عرض عليه عند الفراغ من كتابته رأى فيه شيئا غير لسان قريش كما وقع لهم في (التابوت) و (التابوه)؛ فوعد بأنه سيقيمه على لسان قريش، ثم وفى بذلك كما ورد من طريق آخر أوردتها في كتاب (الإتقان).
ولعل من روى ذلك الأثر حرفه، ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان فلزم ما لزم من الإشكال).
قلت: رواية ابن أشته موافقة لرواية عمر بن شبّة وقد تقدّم ذكرها، ولا إشكال فيها لإنّ إقامة قراء الصحابة للمرسوم بألسنتهم كافٍ في معرفة النطق الصحيح للرسم، والأصل في القراءة والإقراء التلقّي من أفواه القرّاء.
ومما تقدّم يتبيّن خطأ من حمل قول عثمان رضي الله عنه - فيما روي عنه - على ما يسمّى بمشكل الإعراب عند النحويين، إذ ما يذكرونه في مشكل الإعراب من القراءات المتواترة لا يصحّ أن يوصف باللحن، ولم يرده عثمان بحال.
قال ابن عاشور: (وعن بعض المتأولين أن نصب {والصابرين} وقع خطأ من كتاب المصاحف وأنه مما أراده عثمان رضي الله عنه فيما نقل عنه أنه قال بعد أن قرأ المصحف الذي كتبوه: «إني أجد به لحناً ستقيمه العرب بألسنتها».
وهذا متقوَّل على عثمان، ولو صح لكان يريد باللحن ما في رسم المصاحف من إشارات مثل كتابة الألف في صورة الياء إشارة إلى الإمالة ولم يكن اللحن يطلق على الخطأ)ا.هـ). [جمع القرآن:273 - 281]
جمهرة علوم القرآن
16 محرم 1439هـ/6-10-2017م, 06:33 PM
س7: ما جواب ما روي عن عائشة رضي الله عنها في تلحين كتَّاب المصاحف وتخطئتهم؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (س7: ما جواب ما روي عن عائشة رضي الله عنها في تلحين كتَّاب المصاحف وتخطئتهم؟
روى أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن جرير من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سألتُ عائشة عن لَحْنِ القرآن: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون}، {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة}، و{إن هذان لساحران}؛ فقالت: «يا ابن أختي، هذا عَمَلُ الكُتَّاب، أخطأوا في الكِتَاب».
ورواه عمر بن شبّة من طريق علي بن مسهر عن هشام بن عروة عن أبيه، قال: سألت عائشة رضي الله عنها عن لحن القرآن: إن هذان لساحران، وقوله: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى} ، {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة}، وأشباه ذلك فقالت: «أي بني إنَّ الكتاب يخطئون»
فهذا الأثر إسناده في ظاهره صحيح، فقد رواه عن هشام بن عروة رجلان هما: أبو معاوية محمد بن خازم الضرير، وعلي بن مسهر؛ فبرئت عهدة أبي معاوية من التفرّد به كما أعلّه به بعضهم، وإن كان أبو معاوية قد انتقد بسبب اضطراب بعض حديثه، لكنّه قد توبع في هذا الأثر، وتابَعَه ثقة ثبت وهو علي بن مسهر.
ومتنه منكر جداً، يبعد أن يصدر عن مثل عائشة رضي الله عنها، وهي تقرأ هذه الآيات كما يقرؤها المسلمون، وتعلم أنَّ الأصل في القراءة الرواية مشافهة، وتعلم أيضاً أنّ كتابة المصاحف كانت عن إجماع من الصحابة رضي الله عنهم، وأن الذين انتدبوا لكتابته ومراجعته جماعة يستحيل تواطؤهم على الخطأ واللحن.
فهذه الأصول البيّنة توجب النظر والتدقيق في الإسناد للتعرف على علّته الخفيّة، وتَبَيُّن منشأ الخطأ.
فنظرنا في الذين رووا هذا الحديث عن هشام فإذا هما عراقيّان، وحديث العراقيين عن هشام بن عروة متكلّم فيه.
فقد ذكر الذهبي عن عبد الرحمن بن خراش أنه قال: (بلغني أن مالكا نقم على هشام بن عروة حديثه لأهل العراق، وكان لا يرضاه).
ثم قال: (قدم الكوفةَ ثلاث مرات: قَدْمَةٌ كان يقول فيها: حدثني أبي، قال: سمعت عائشة، والثانية فكان يقول: أخبرني أبي، عن عائشة، وقَدِمَ الثالثة؛ فكان يقول: "أبي، عن عائشة"، يعني: يرسل عن أبيه).
وقال يعقوب بن شيبة: (هشام ثبت لم ينكر عليه إلا بعد ما صار إلى العراق، فإنه انبسط في الرواية، وأرسل عن أبيه بما كان سمعه من غير أبيه عن أبيه).
حتى رماه ابن القطّان بالاختلاط، لأنّ تحديثه بالعراق كان بعدما أسنّ في خلافة أبي جعفر المنصور بعد أن قارب الثمانين من عمره، فإنّه قد التقى بأبي جعفر المنصور وهو حينذاك خليفة المسلمين.
فلأجل ما أنكر على هشام في بعض ما حدّث به أهل العراق وكبر سنّه رماه ابن القطّان بالاختلاط.
وقد ردّ الذهبي هذه التهمة عنه ردّاً شديداً، وعدّ ما أخطأ فيه من الأوهام التي لا يكاد يسلم منها مَن كَثُر حديثُهم من الثقات؛ فقال في تاريخ الإسلام: (قول ابن القطان إنه اختلط قول مردود مرذول؛ فأرني إماماً من الكبار سلم من الخطأ والوهم!
فهذا شعبة، وهو في الذروة له أوهام، وكذلك معمر، والأوزاعي، ومالك رحمة الله عليهم).
وقال في ميزان الاعتدال في ترجمة هشام بن عروة: (حجة إمام، لكن في الكبر تناقص حفظه، ولم يختلط أبدا، ولا عبرة بما قاله أبو الحسن ابن القطان من أنه وسهيل بن أبي صالح اختلطا وتغيرا.
نَعَم الرجل تغير قليلا ولم يبق حفظه كهو في حال الشبيبة، فنسي بعض محفوظه أو وهم، فكان ماذا! أهو معصوم من النسيان!
لما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم، في غضون ذلك يسير أحاديث لم يجوّدها، ومثل هذا يقع لمالك ولشعبة ولوكيع ولكبار الثقات)ا.هـ
وقد عدّ وليّ الدين العراقي وابن حجر العسقلاني هشام بن عروة من المدلّسين، لكن ابن حجر جعله من أهل المرتبة الأولى، وهم الذين لم يوصفوا بالتدليس إلا نادراً كيحيى بن سعيد الأنصاري.
وحديث هؤلاء حجّة ما لم تكن له علّة توجب ردّه.
والمقصود أنّ هذا الحديث مما أخطأ فيه هشام بن عروة؛ فرواه عن أبيه من غير ذكر الواسطة.
وهذه العلّة مع نكارة المتن كافية في ردّه.
ومثل هذه الأخطاء قد تقع من بعض الثقات بسبب دخول بعض المرويات بعضها في بعض؛ فيدخل ما أجاب به بعضهم برأيه بما أسنده غيرهم.
وعلى فرض صحة المنسوب إلى عائشة رضي الله عنها فالجواب عنه أن تخطئتها للكتّاب اجتهاد منها إذْ تركوا القراءة التي كانت تقرأ بها وتعرفها واختاروا غيرها، وقولهم مقدّم على قولها في ذلك، لكثرتهم واجتماعهم وشدّة عنايتهم بالقراءة والإقراء، وقد ينكر المرء ما يخالف قراءته فإذا تبيّن له أنّه صحيح أقرّ به، كما تقدّم بيانه من إنكار ابن مسعود لكتابة المعوذتين في المصحف ثمّ إقراره بكتابتهما.
وقول المثبت مقدَّم على قول النافي لما معه من زيادة علم.
ونحن لا ننكر أن تكون تلك الأحرف قد قرئت على قراءات أخرى قرأت بها عائشة وقرأ بها ابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم، لكنّ المصير إلى القراءة التي على مقتضى الرسم العثماني واجب لتقرر الإجماع على ترك الإقراء بما خالف المصحف الإمام، والأقوال المهجورة لا تقدح في صحّة الإجماع.
قال ابن قتيبة رحمه الله في الجواب عن قراءة {إن هذان لساحران}: (على أنَّ القراءَ قد اختلفوا في قراءة هذا الحرف: فقرأه أبو عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر: [إنّ هذين لساحران] وذهبا إلى أنه غلط من الكاتب كما قالت عائشة.
وكان عاصم الجحدريّ يكتب هذه الأحرف الثلاثة في مصحفه على مثالها في الإمام، فإذا قرأها، قرأ: [إنَّ هذين لساحران]، وقرأ [المقيمون الصلاة])ا.هـ .
والعمدة في القراءة على الرواية، وما كان أؤلئك القراء ليقرؤوا إلا على ما ثبت لديهم صحة القراءة به رواية، وإن كان غيرها المختار.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكان أبو عمرو إماما في العربية فقرأ بما يعرف من العربية: [إن هذين لساحران] وقد ذُكر أن له سلفاً في هذه القراءة وهو الظن به: أنه لا يقرأ إلا بما يرويه لا بمجرد ما يراه، وقد روي عنه أنه قال: "إني لأستحيي من الله أن أقرأ: {إنَّ هذان}" وذلك لأنه لم ير لها وجها من جهة العربية ومن الناس من خطأ أبا عمرو في هذه القراءة ومنهم الزجاج قال: لا أجيز قراءة أبي عمرو خلاف المصحف)ا.هـ.
والمجزوم به أنّ القراءة الموافقة للرسم العثماني صحيحة لغةً لا لحنَ فيها، وهي مقدّمة على غيرها لاختيار قرّاء الصحابة لها على غيرها؛ فإنّ ما تركوه قد يتطرّق إليه احتمال النسخ، وما أثبتوه فغير منسوخ التلاوة، وقد أفاض النحاة في بيان صحتها ودفع الإشكال عمّن استشكلها، وبيّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في فتوى مفردة في هذه المسألة موافقتها للسماع والقياس.
وأمّا ما رواه عمر بن شبّة وابن أبي داوود من طريق حماد بن سلمة عن الزبير بن الخريت أنَّ خاله، قال: قلت لأبان بن عثمان وكان ممن حضر كتاب المصحف: " كيف كتبتم {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة}، فقال: كان الكاتب يكتب والمملي يملي، فقال: اكتب، قال: ما أكتب قال: اكتب {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة}).
فهذا الخبر باطل لا يصحّ، خال الزبير مجهول الحال، وأبان كان صغيراً زمن الجمع العثماني؛ فإنّ أمّه أمّ عمرو بنت جندب الدوسية، ولم يتزوجها عثمان إلا في خلافة عمر.
وكان الجمع في أوّل خلافة عثمان.
وهذا الخبر ينقض بعضه بعضاً؛ فما باله كتب {والمقيمين الصلاة} ثم كتب بعدها {والمؤتون الزكاة}؟!!
ثمّ إنّ من علم اجتهاد الصحابة في التوثّق من كتابة المصاحف وعرضها بعد كتابتها ثم كتابة مصاحف الأمصار كلّها بالاتفاق على كتابة تلك الأحرف كما هي عليه، واشتهار ذلك بين القرّاء وإقرائهم به من غير نكير علم يقيناً أنّ ما ذُكر في هذا الخبر باطل لا ينبغي أن يُلتفت إليه). [جمع القرآن:281 - 286]
جمهرة علوم القرآن
16 محرم 1439هـ/6-10-2017م, 06:35 PM
س8: ما جواب ما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في تخطئة بعض كتّاب المصاحف؟
قال عبد العزيز بن داخل المطيري: (س8: ما جواب ما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما في تخطئة بعض كتّاب المصاحف؟
الجواب: أن ابن عباس رضي الله عنهما قد رويت عنه آثار في تخطئة بعض كتّاب المصاحف لكن عامّتها معلولة، ومن أشهر ما روي عنه في ذلك:
1. ما رواه ابن جرير في تفسيره قال: (حدثنا أحمد بن يوسف، قال: حدثنا القاسم، قال: حدثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن الخِرِّيت أو يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأها: [أَفَلَمْ يَتَبيَّنِ الَّذِينَ آمنُوا] قال: كتب الكاتب الأخرى وهو ناعسٌ).
القاسم هو أبو عبيد ابن سلام صاحب كتاب فضائل القرآن، وأحمد بن يوسف هو التغلبي تلميذه أبي عبيد.
وهذا الخبر أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن من غير زيادة "كتب الكاتب الأخرى وهو ناعس" فقال: حدثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن يعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس، أنه كان يقرأ «أفلم يتبين الذين آمنوا».
فهذه الزيادة مع زيادة الشكّ في الإسناد إنما ظهرت في تفسير ابن جرير من طريق أحمد بن يوسف.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (وروى الطبري وعبد بن حميد بإسناد صحيح كلهم من رجال البخاري عن ابن عباس أنه كان يقرأها: [أفلم يتبين] ويقول : "كتبها الكاتب وهو ناعس").
ولم أقف على إسناد عبد بن حميد؛ فقد يكون له علّة كما في الزيادة التي ذكرها ابن جرير، وقد تكون روايته خالية من تلك الزيادة، ويكون ذكره إنما هو لأجل أنه أخرج أصل الأثر.
لكن مما يعني طالب العلم في هذه المسألة تلخيص مواقف العلماء من هذا الأثر، وهي على أربعة مواقف:
الموقف الأول: موقف من بادر إلى إنكار أن يصدر مثل هذا القول من ابن عباس مع علمه بجمع القرآن واجتهاد كتّاب المصاحف العثمانية في التوثّق والاحتياط لصحّة كتابة المصاحف.
وممن وقف هذا الموقف: ابن الأنباري، والزمخشري، وأبو حيان وجماعة من المفسّرين.
- قال الزمخشري: (هذا ونحوه مما لا يُصَدَّقُ في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتا بين دفتي الإمام؟!!
وكان متقلبا في أيدى أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصا عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، وهذه والله فرية ما فيها مرية)ا.هـ.
واحتجّ ابن الأنباري على بطلان هذا الأثر بما صحّ عن ابن عباس من القراءة الموافقة للجماعة؛ فكيف يقرأ بما يراه خطأ أم كيف ينكر ما يقرأ به !!
- قال ابن الأنباري فيما نقله عنه القرطبي: (رُوي عن عكرمة عن ابن أبي نجيح أنه قرأ: [أفلم يتبين الذين آمنوا] وبها احتج من زعم أنَّه الصواب في التلاوة، وهو باطل عن بن عباس، لأن مجاهدا وسعيد بن جبير حكيا الحرف عن ابن عباس على ما هو في المصحف بقراءة أبي عمرو وروايته عن مجاهد وسعيد بن جبير عن ابن عباس)ا.هـ.
- وقال أبو حيان الأندلسي: (وأما قول من قال: "إنما كتبه الكاتب وهو ناعس فسوَّى أسنان السين"؛ فقول زنديق ملحد).
وزيادة "فسوَّى أسنان السين" إنما أصلها تفسير من بعض المفسّرين لتوضيح ما نُسب إلى ابن عباس.
قال الواحدي في البسيط: (ما روي أن ابن عباس كان يقرأ: [أفلم يتبيّن الذين آمنوا]، فقيل له: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} فقال: أظن الكاتب كتبها وهو ناعس" يريد أنه كان في الخط بتاءين، فزاد الكاتب سِنة واحدة فصار {ييئس} فقرئ ييس)ا.هـ.
ثم كثر تداول هذا الشرح بالمعنى حتى أدرجه بعضهم في أصل الأثر.
والموقف الثاني: موقف من صحّح هذه الزيادة، وتوقّف في توجيهها، وأشهر من وقف هذا الموقف الحافظ ابن حجر رحمه الله؛ فقال في فتح الباري منكراً على من بادر إلى الإنكار: (وأما ما أسنده الطبري عن ابن عباس فقد اشتد إنكار جماعة ممن لا علم له بالرجال صحَّتَه، وبالغ الزمخشري في ذلك كعادته إلى أن قال: "وهي والله فِرْيَةٌ ما فيها مِرْيَة" وتبعه جماعة بعده، والله المستعان، وقد جاء عن بن عباس نحو ذلك في قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه} قال: "ووصى التزقت الواو في الصاد" أخرجه سعيد بن منصور بإسناد جيد عنه، وهذه الأشياء وإن كان غيرها المعتمد، لكن تكذيب المنقول بعد صحته ليس من دأب أهل التحصيل؛ فليُنظر في تأويله بما يليق به)ا.هـ
والموقف الثالث: موقف من التمس العذر لابن عباس وجوَّز عليه الخطأ في قوله هذا كما أخطأ غيره في مسائل، إذ العصمة لم تثبت لأحد من أفراد الصحابة وإنما هي لجماعتهم.
ومن أشهر من وقف هذا الموقف وأبان عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
- قال ابن تيمية: (المصاحف التي نسخت كانت مصاحف متعددة وهذا معروف مشهور وهذا مما يبين غلط من قال في بعض الألفاظ: إنه غلط من الكاتب أو نقل ذلك عن عثمان؛ فإن هذا ممتنع لوجوه. منها: تعدد المصاحف واجتماع جماعة على كل مصحف ثم وصول كل مصحف إلى بلد كبير فيه كثير من الصحابة والتابعين يقرءون القرآن ويعتبرون ذلك بحفظهم والإنسان إذا نسخ مصحفا غلط في بعضه عرف غلطه بمخالفة حفظه القرآن وسائر المصاحف فلو قدر أنه كتب كاتب مصحفا ثم نسخ سائر الناس منه من غير اعتبار للأول والثاني أمكن وقوع الغلط في هذا وهنا كل مصحف إنما كتبه جماعة ووقف عليه خلق عظيم ممن يحصل التواتر بأقلَّ منهم...)
إلى أن قال: ( فهذا ونحوه مما يوجب القطع بخطأ من زعم أن في المصحف لحنا أو غلطاً، وإن نقل ذلك عن بعض الناس ممن ليس قوله حجة؛ فالخطأ جائزٌ عليه فيما قاله؛ بخلاف الذين نقلوا ما في المصحف وكتبوه وقرأوه؛ فإن الغلط ممتنع عليهم في ذلك).
وهذا الموقف قد تقدّم نظيره فيما روي عن ابن مسعود في المعوذتين.
والموقف الرابع: موقف من وجَّهوا هذا الأثر إلى ما لا نكارة فيه مع التسليم بأنّ الرسم المعتمد في المصحف أصحّ وأولى، ومن أشهر من وقف هذا الموقف أبو بكر ابن أشته (ت:360هـ) فيما نقله عنه السيوطي في الإتقان بعد أن روى آثاراً منسوبة إلى ابن عباس في تخطئة بعض كُتّاب المصاح.
قال السيوطي: (وقد أجاب ابن أشته عن هذه الآثار كلها بأن المراد أخطئوا في الاختيار، وما هو الأولى لجمع الناس عليه من الأحرف السبعة، لا أنَّ الذي كتب خطأ خارج عن القرآن)ا.هـ.
فتكون تخطئته تخطئة اختيار لا تخطئة قراءة.
وتلخيص الجواب عن هذه المسألة في مقامين:
المقام الأول: كون ابن عباس يقرأ [أفلم يتبيّن] ، وهذا لا إشكال فيه، لأنّ اختلاف قراءات الصحابة قبل الجمع العثماني وبعده صحيح مأثور، وإن كان لا يُقرأ إلا بما وافق الرسم العثماني، وإنما ينقله بعض أهل العلم لما فيه من علم في التفسير والأحكام واللغة، ولهذا نظائر.
وقد صحّت القراءتين عن ابن عباس رضي الله عنهما، كما صحّ عن غيره أحرف أخرى.
والمقام الآخر: ما روي عن ابن عباس أنه قال: ( كتب الكاتب الأخرى وهو ناعسٌ).
وفي النفس من ثبوت هذه العبارة عن ابن عباس شيء، لأن الإسناد وإن كان رجاله ثقات إلا أنّه مظنّة للعلّة القادحة، وما كان ترك أبي عبيد ذكرَ هذه العبارة في كتابه مع روايته لأصل هذا الخبر إلا لأنها زيدت عليه، أو لعلّة أوجبت عليه الإضراب عنها.
ولو قدّر أنّ ابن عباس قالها فالأقرب أن يقال: إنّ ابن عباس كان على علمٍ بالقراءتين، وكان يرجّح اختيار قراءة [أفلم يتبيّن]، ويظنّ أنها هي المعتمدة في المصاحف؛ فإنّ ابن عبّاس كان قد جمع القرآن في صدره قبل الجمع العثماني بزمن، فلمّا بلغه أنها كتبت في مصحف {أفلم ييئس} أنكر على الكاتب في ذلك المصحف، وغاب عنه أنها كتبت كذلك في جميع المصاحف.
فتكون تخطئته متجّهة إلى مصحف واحد فلا يجوز أن يحمّل قوله ما لا يحتمل من القول بتخطئة جميع كتاب المصاحف، إذْ لو تبيّن ذلك أحد لم يتجاسر على إنكاره فكيف بمن في مثل علم ابن عباس وعقله.
2. وروى ابن جرير من طرق عن أبي بشر جعفر بن إياس اليشكري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: { لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} قال: (إنما هي خطأ من الكاتب حتى تستأذنوا وتسلموا)، وفي رواية: (إنما هي [حتى تستأذنوا]، ولكنها سقط من الكاتب).
ورجاله أئمة ثقات، وقد اختلف في ألفاظه وإسناده وأعلَّ بإدراج المقطوع في الموقوف.
فرواه البيهقي في شعب الإيمان من طريق هشيم: نا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: [لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها] وقال: "إنما هو وهمٌ من الكُتَّاب").
ورواه الطحاوي في شرح مشكل الآثار والحاكم في المستدرك من طريق محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان، عن شعبة، عن جعفر بن إياس، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا} قال: «أخطأ الكاتب، [حتى تستأذنوا]».
بذكر مجاهد بدل سعيد بن جبير، وقد رواه البيهقي من هذا الطريق بذكر سعيد بن جبير، وهو الصواب.
وهذا الأثر مما اختلف فيه أهل العلم.
- فصحح ابن حجر إسناده في فتح الباري.
- وقال ابن كثير: (هذا غريب جدا عن ابن عباس).
- وأعلّه القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي (ت:282هـ) بأن تخطئة الكاتب إنما هي من قول سعيد بن جبير؛ نقل ذلك عنه ابن بطّال في شرح صحيح البخاري، وقال بموجب ذلك مكيّ بن أبي طالب في الهداية.
- ومن أهل العلم من قصر القول على إنكار متنه؛ لأنَّ نكارة المتن دليل على علّة في الإسناد أو خطأ من نسب إليه ذلك القول في اجتهاده.
ولا خلاف في أنّ القول بتخطئة كتّاب المصاحف العثمانية قول منكر غير مقبول، وأنّ الإجماع على كتابة هذه الآية بهذه القراءة في جميع المصاحف واشتهارها بين المسلمين وقراءة القراء بها ينفي احتمال خطأ الكُتَّاب.
- قال مكي بن أبي طالب: (وعن ابن جبير أنه قال: أخطأ الكاتب إنما هو [حتى تستأذنوا] وهذا القول منكر عند أهل العلم، لأن الله قد حفظ كتابه من الخطأ).
- وقال البيهقي في شعب الإيمان: (وهذا الذي رواه شعبة واختلف عليه في إسناده، ورواه أبو بشر واختلف عليه في إسناده من أخبار الآحاد، ورواية إبراهيم، عن ابن مسعود منقطعة، والقراءة العامة ثبت نقلها بالتواتر فهي أولى، ويحتمل أن تكون تلك القراءة الأولى، ثم صارت القراءة إلى ما عليه العامة، ونحن لا نزعم أن شيئا مما وقع عليه الإجماع، أو نقل متواترا أنه خطأ، وكيف يجوز أن يقال ذلك وله وجه يصح، وإليه ذهبت العامة؟!!).
- وقال محمد الأمين الشنقيطي: (ما يروى عن ابن عباس وغيره من أن أصل الآية: [حتى تستأذنوا] وأن الكاتبين غلطوا في كتابتهم، فكتبوا تستأنسوا غلطا بدل تستأذنوا لا يعول عليه، ولا يمكن أن يصح عن ابن عباس، وإن صحح سنده عنه بعض أهل العلم.
ولو فرضنا صحَّته فهو من القراءات التي نسخت وتركت، ولعل القارئ بها لم يطلع على ذلك؛ لأن جميع الصحابة - رضي الله عنهم - أجمعوا على كتابة {تستأنسوا} في جميع نُسَخِ المصحف العثماني، وعلى تلاوتها بلفظ: {تستأنسوا} ومضى على ذلك إجماع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في مصاحفهم وتلاوتهم من غير نكير، والقرآن العظيم تولى الله تعالى حفظه من التبديل والتغيير، كما قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقال فيه: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}، وقال تعالى: {لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه} الآية)ا.هـ
والخلاصة أنّ قراءة {حتى تستأذنوا} ثابتة عن ابن عباس، ورويت عن غيره من الصحابة، لكن القول بتخطئة كتّاب المصاحف فيه ما سبق من العلّة.
وعلى فرض ثبوت هذه التخطئة عن ابن عباس فالقول فيها نظير ما سبق في آية الرعد، من أنّ التخطئة كانت عن اجتهاد، ومتجهة إلى المصحف المسؤول عنه.
وقد صحّت القراءة الأخرى عن ابن عباس من طريق ابن كثير المكي عن مجاهد عن ابن عباس، ومن طرق أخرى.
3. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا علي بن الحسين، ثنا نصر بن علي، أخبرني أبي، عن شبل بن عباد، عن قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس: ( {الله نور السماوات والأرض مثل نوره}
قال: هي خطأ من الكاتب، هو أعظم من أن يكون نوره مثل نور المشكاة قال: [مثل نور المؤمن كمشكاة]).
رجاله ثقات، لكنّه غريب في جميع طبقات الإسناد، وعطاء هو ابن أبي رباح.
وهذه القراءة صحيحة عن أبيّ بن كعب، وهي من الأحرف التي تركت القراءة بها؛ فهي إما منسوخة وإما متروكة بالجمع العثماني.
قال هشام بن عمار: (حدثنا سعيد، ثنا زكريا، عن عامر قال: (في قراءة لأبي بن كعب: [مثل نور المؤمن كمشكاة]).
عامر هو الشعبي.
وقد رَوى أبو عبيد القاسم بن سلام في فضائل القرآن عن حجاج بن أرطأة عن ابن جريج عن مجاهد أنه كان يقرؤها: [مثل نور المؤمن كمشكاة فيها مصباح].
ولعله إنما قرأها هكذا بالحرف الأول تفسيراً؛ لأن مجاهداً لم يكن ليخفى عليه إجماع الصحابة على ترك الإقراء بما خالف المصاحف العثمانية، وقد قرأ ابنُ كثير المكي على مجاهد ما يوافق قراءة العامة.
والمقصود أنّ هذا الأثر إن ثبت عن ابن عباس فهو محمول على ما تقدّم شرحه.
قال الحافظ ابن حجر: (أخرج سعيد بن منصور والطبري والبيهقي في الشعب بسند صحيح أن ابن عباس (كان يقرأ [حتى تستأذنوا] ويقول أخطأ الكاتب) وكان يقرأ على قراءة أبي بن كعب.
- ومن طريق مغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال: (في مصحف بن مسعود [حتى تستأذنوا]).
- وأخرج سعيد بن منصور من طريق مغيرة عن إبراهيم: (في مصحف عبد الله: [حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا])وأخرجه إسماعيل بن إسحاق في أحكام القرآن عن ابن عباس واستشكله، وكذا طعن في صحته جماعة ممن بعده.
وأُجيبَ بأنَّ ابن عباس بناها على قراءته التي تلقَّاها عن أبيَ بن كعب، وأما اتفاق الناس على قراءتها بالسين فلموافقة خط المصحف الذي وقع الاتفاق على عدم الخروج عما يوافقه، وكأنَّ قراءة أبي من الاحرف التي تركت القراءة بها كما تقدم تقريره في فضائل القرآن.
وقال البيهقي: (يُحتمَل أن يكون ذلك كان في القراءة الأولى ثم نسخت تلاوته) يعني ولم يطلع بن عباس على ذلك)ا.هـ.
وقال الشيخ المحقق عبد الرحمن المعلّمي: (العلماء يعرفون أنَّ في لغة العرب اتساعًا تضيق عنه قواعد النحو أو تكاد، حتى إن في القرآن مواضع يصعب تطبيقها على تلك القواعد، كقوله تعالى: {وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} وقوله: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} ، وقوله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} ، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ} ، وقوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} وغير هذا، حتى ألَّف بعض أهل العلم في مشكل إعراب القرآن خاصة، ولولا العلم اليقيني بأنه يستحيل أن يكون في القرآن لحن لَجَزم كثير من المتقيّدين بقواعد النّحاة بأن كثيرًا من تلك المواضع لحن.
بل قد روي عن بعض المتقدمين أنه زعم أن الكاتب أخطأ! وأُجيب عن ذلك بما هو معروف، ومما يُجاب به عن ذلك: أن القائل بأنه خطأ غَفَل عن تقدير معنويّ يصحّ به ذلك اللفظ، أو جَهِل لغة قبيلة من العرب غير قبيلته، ثم ظن أن القائل له: "هي في المصحف كذا" إنما عني مصحفًا خاصًّا لا المصحف الإمام، أو لم يكن قد بلغه العناية التي قِيمَ بها في المصحف الإمام. ولا مانع أن يخفى التواتر عن رجل، كما يقال: إنه خفي على ابن مسعود في شأن المعوّذتين).ا.هـ.
4. وروى فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (أنزل الله عز وجل هذا الحرف على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم [ووصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه] فلصقت إحدى الواوين بالأخرى فقرأ لنا: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه} ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد).
فكان ميمون يقول: (إن على تفسيره لنورا؛ قال الله عزَّ وجلَّ: {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا}). رواه ابن منيع كما في المطالب العالية، وذكر السيوطي أنّ أبا عبيد وابن المنذر وابن مردويه أخرجوه، ولعله فيما فُقِدَ من كتبهم.
وهذا الإسناد ضعيف جداً لا يصحّ عن ابن عباس؛ فالفرات بن السائب الجزري متروك الحديث، قال فيه يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال البخاري: منكر الحديث،
وقال ابن حبان: (كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، ويأتي بالمعضلات عن الثقات، لا يجوز الاحتجاج به، ولا الرواية عنه، ولا كتابة حديثه إلا على سبيل الاختبار)ا.هـ.
وأما قوله: (ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد) فهذا من الكذب البيّن على ابن عباس، وذلك أنّ القضاء على نوعين:
قضاء كوني قدري، وهذا واجب الوقوع لنفاذ مشيئة الله تعالى، ومنه قوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أنّ دابر هؤلاء مقطوع مصبحين}، وقوله: {وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا}
وقضاء شرعي ديني؛ كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)} وقوله: {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه..} الآية؛ فهذا من الأوامر الشرعية التي يجب على العباد امتثالها طاعة لله تعالى، لكن قد يقع من بعض العباد عصيان لما قضاه الله شرعاً.
ومن لم يفرّق بينهما وقع في ضلالات في باب القضاء والقدر، وما كان التفريق بينهما ليخفى على ابن عباس رضي الله عنهما؛ فنسبة ما تقدّم من القول إليه مما يُقطع بأنه كذب عليه، وهو مكذوب أيضا على ميمون بن مهران؛ فإنّه كان ممن ناظر المرجئة وحجَّهم.
وقد روى ابن جرير نحو هذا الخبر في تفسيره عن الضحاك بن مزاحم الهلالي من طريق هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي، عن الضحاك بن مزاحم أنه قرأها: [وَوَصَّى رَبُّكَ] وقال: (إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصارت قافا).
وهذا الخبر لا يصحّ عن الضحاك؛ فأبو إسحاق الكوفي متروك الحديث، قال فيه أبو زرعة: (واهي الحديث)، وقال أبو حاتم: (ليس بشيء)، وقال يحيى بن معين: (أبو إسحاق الكوفي الذي يروي عنه هشيم، هو عبد الله بن ميسرة، وهو ضعيف الحديث).
وقد صحت القراءة عن ابن عباس رضي الله عنهما بما يوافق قراءة العامّة، ولا ننكر أن يكون هذا الحرف (ووصّى ربّك) قد قرىء به قبل الجمع العثماني، لكنه على فرض ثبوته مما أجمعوا على ترك الإقراء به، والذي لا يقبل هو الطعن في القراءة المتواترة. قال ابن جرير: حدثنا أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن عيسى، قال: ثنا نصير بن أبي الأشعث، قال: ثني ابن حبيب بن أبي ثابت، عن أبيه، قال: أعطاني ابن عباس مصحفاً؛ فقال: هذا على قراءة أبيّ بن كعب، قال أبو كريب: قال يحيى: رأيت المصحف عند نُصير فيه: «ووصى ربّك» يعني: وقضى ربك). رجاله ثقات لكنّه مختصر، وقد قطّعه ابن جرير في تفسيره، ولم أقف على أصله.
والخلاصة أنّ القدح في قراءة (وقضى ربّك) لا يصحّ عن ابن عبّاس، وأما قراءة [ووصّى ربّك] فمروية من طرق معلولة عن أبيّ وابن عباس وابن مسعود؛ وقد تقدّم ما روي عن ابن عباس وأبيّ، وأما ابن مسعود فرويت عنه من طريقين فيهما انقطاع:
- رواها عبد الرزاق في تفسيره عن معمر عن قتادة قال: (في حرف ابن مسعود: [ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه]). وقتادة لم يدرك ابن مسعود.
- ورواها الطبراني من طريق يحي الحمّاني عن وكيع عن سفيان عن الأعمش، قال: ( كان عبد الله بن مسعود يقرأ: [ووصى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه]).
يحيى الحماني مختلف فيه، تركه أحمد بن حنبل واتّهمه، ووثقه يحيى بن معين، والأعمش لم يدرك ابن مسعود). [جمع القرآن:287 - 300]
vBulletin® v3.8.8, Copyright ©2000-2025, TranZ by Almuhajir